المفصل في شرح الشروط العمرية
بقلم
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هامة
الحمد رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن الله تعالى قد ختم الرسالات السماوية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمره بتبليغها للناس جميعا ، قال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (158) سورة الأعراف .
وكان مما آل إليه الجهاد في سبيل الله تعالى هو أن نخير الناس بين ثلاث إما الإسلام ولهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وإما الخضوع لنظام الإسلام مع دفع الجزية ، وإما الحرب ، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ في سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الذي يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ في الْغَنِيمَةِ والفيء شيء إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ » أخرجه مسلم (1)
__________
(1) -صحيح مسلم برقم(4619 ) -تخفر : تنقض العهد =تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم
شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 169)
وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَات مِنْ الْحَدِيث فَوَائِد مُجْمَع عَلَيْهَا ، وَهِيَ تَحْرِيم الْغَدْر ، وَتَحْرِيم الْغُلُول ، وَتَحْرِيم قَتْل الصِّبْيَان إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا ، وَكَرَاهَة الْمُثْلَة ، وَاسْتِحْبَاب وَصِيَّة الْإِمَام أُمَرَاءَهُ وَجُيُوشه بِتَقْوَى اللَّه تَعَالَى ، وَالرِّفْق بِأَتْبَاعِهِمْ ، وَتَعْرِيفهمْ مَا يَحْتَاجُونَ فِي غَزْوهمْ ، وَمَا يَجِب عَلَيْهِمْ ، وَمَا يَحِلّ لَهُمْ ، وَمَا يَحْرُم عَلَيْهِمْ . وَمَا يُكْرَه وَمَا يُسْتَحَبّ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا لَقِيت عَدُوّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاث خِصَال أَوْ خِلَال فَأَيَّتهنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَام ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارهمْ )
قَوْله : ( ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَام ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم ( ثُمَّ اُدْعُهُمْ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - : صَوَاب الرِّوَايَة ( اُدْعُهُمْ ) بِإِسْقَاطِ ( ثُمَّ ) وَقَدْ جَاءَ بِإِسْقَاطِهَا عَلَى الصَّوَاب فِي كِتَاب أَبِي عُبَيْد ، وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرهمَا ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِير لِلْخِصَالِ الثَّلَاث ، وَلَيْسَتْ غَيْرهَا ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : لَيْسَتْ ( ثُمَّ ) هُنَا زَائِدَة ، بَلْ دَخَلْت لِاسْتِفْتَاحِ الْكَلَام وَالْأَخْذ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارهمْ إِلَى دَار الْمُهَاجِرِينَ ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْم اللَّه الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَكُون لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء شَيْء إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ )
مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث : أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا كَالْمُهَاجِرِينَ قَبْلهمْ فِي اِسْتِحْقَاق الْفَيْء وَالْغَنِيمَة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهُمْ أَعْرَاب كَسَائِرِ أَعْرَاب الْمُسْلِمِينَ السَّاكِنِينَ فِي الْبَادِيَة مِنْ غَيْر هِجْرَة وَلَا غَزْو ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَام الْإِسْلَام ، وَلَا حَقّ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء ، وَإِنَّمَا يَكُون لَهُمْ نَصِيب مِنْ الزَّكَاة إِنْ كَانُوا بِصِفَةِ اِسْتِحْقَاقهَا ، قَالَ الشَّافِعِيّ : الصَّدَقَات لِلْمَسَاكِينِ وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيْء لِلْأَجْنَادِ ، قَالَ : وَلَا يُعْطَى أَهْل الْفَيْء مِنْ الصَّدَقَات ، وَلَا أَهْل الصَّدَقَات مِنْ الْفَيْء ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيث ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : الْمَالَانِ سَوَاء وَيَجُوز صَرْف كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ ، قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحُكْم فِي أَوَّل الْإِسْلَام لِمَنْ لَمْ يُهَاجِر ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وَهَذَا الَّذِي اِدَّعَاهُ أَبُو عُبَيْد لَا يُسَلَّم لَهُ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَة ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ )
هَذَا مِمَّا يَسْتَدِلّ بِهِ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُوَافِقُوهُمَا فِي جَوَاز أَخْذ الْجِزْيَة مِنْ كُلّ كَافِر عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا كِتَابِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرهمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة - رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ - : تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ جَمِيع الْكُفَّار إِلَّا مُشْرِكِي الْعَرَب وَمَجُوسهمْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُقْبَل إِلَّا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمَجُوس عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا ، وَيَحْتَجّ بِمَفْهُومِ آيَة الْجِزْيَة ، وَبِحَدِيثِ : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْل الْكِتَاب " وَيُتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَخْذِ الْجِزْيَة أَهْل الْكِتَاب ؛ لِأَنَّ اِسْم الْمُشْرِك يُطْلَق عَلَى أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ ، وَكَانَ تَخْصِيصهمْ مَعْلُومًا عِنْد الصَّحَابَة . وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْر الْجِزْيَة ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ : أَقَلّهَا دِينَار عَلَى الْغَنِيّ وَدِينَار عَلَى الْفَقِير أَيْضًا فِي كُلّ سَنَة ، وَأَكْثَرهَا مَا يَقَع بِهِ التَّرَاضِي ، وَقَالَ مَالِك : هِيَ أَرْبَعَة دَنَانِير عَلَى أَهْل الذَّهَب ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْل الْفِضَّة ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة - رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ - وَغَيْره مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد - رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ - : عَلَى الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَالْمُتَوَسِّط أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ، وَالْفَقِير اِثْنَا عَشَرَ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا حَاصَرْت أَهْل حِصْن فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة نَبِيّه ، فَلَا تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة نَبِيّه ، وَلَكِنْ اِجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتك وَذِمَّة أَصْحَابك ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمكُمْ وَذِمَم أَصْحَابكُمْ أَهْوَن مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
قَالَ الْعُلَمَاء : الذِّمَّة هُنَا : الْعَهْد ، ( تُخْفِرُوا ) : بِضَمِّ التَّاء ، يُقَال : أَخَفَرْت الرَّجُل إِذَا نَقَضْت عَهْده ، وَخَفَرْته أَمِنْته وَحَمَيْته ، قَالُوا : وَهَذَا نَهْي تَنْزِيه أَيْ : لَا تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقُضهَا مَنْ لَا يَعْرِف حَقّهَا ، وَيَنْتَهِك حُرْمَتهَا بَعْض الْأَعْرَاب وَسَوَاد الْجَيْش .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا حَاصَرْت أَهْل حِصْن فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلهُمْ عَلَى حُكْم اللَّه فَلَا تُنْزِلهُمْ عَلَى حُكْم اللَّه ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمك ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْم اللَّه فِيهِمْ أَمْ لَا )
هَذَا النَّهْي أَيْضًا عَلَى النَّزِيه وَالِاحْتِيَاط ، وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ يَقُول : لَيْسَ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيبًا ، بَلْ الْمُصِيب وَاحِد ، وَهُوَ الْمُوَافِق لِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي نَفْس الْأَمْر ، وَقَدْ يُجِيب عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب بِأَنَّ الْمُرَاد أَنَّك لَا تَأْمَن مِنْ أَنْ يَنْزِل عَلَيَّ وَحْي بِخِلَافِ مَا حَكَمْت ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/1)
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر , وحذيفة بن محصن , والمغيرة بن شعبة , جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية , وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية , قبل المعركة:ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب:الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه, فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه, وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر" .(1)
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم, وليقيم عالماً آخر, يقر فيه سلطان الله وحده, ويبطل سلطان الطواغيت. عالماً يعبد فيه الله وحده - بمعني "العبادة " الشامل - ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . عالماً يولد فيه "الإنسان" الحر الكريم النظيف . . المتحرر من شهوته وهواه , تحرره من العبودية لغير الله .
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة:"أشهد أن لا إله إلا الله" التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلولا لا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر, كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره , وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . .
وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ; ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده. ولا يتلقى الشرائع والقوانين , والقيم والموازين , والعقائد والتصورات إلا من الله , ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .(2)
وأول ما بدأ به أصحابه قتال المرتدين في عهد الصديق رضي الله عنه، ثم بعد ذلك أرسل الصديق رضي الله عنه جيوشا لفتح العراق وفارس وجيوشا لفتح الشام وغيرها - يعني قتال فارس والروم -
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حدثني صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ : لَمَّا بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ إِلَى الشَّامِ عَلَى رُبْعٍ مِنَ الأَرْبَاعِ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ مَعَهُ يُوصِيهِ وَيَزِيدُ رَاكِبٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِى فَقَالَ يَزِيدُ : يَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ : مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إني أَحْتَسِبُ خطاي هَذِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَا يَزِيدُ إِنَّكُمْ سَتَقْدَمُونَ بِلاَدًا تُؤْتَوْنَ فِيهَا بِأَصْنَافٍ مِنَ الطَّعَامِ فَسَمُّوا اللَّهَ عَلَى أَوَّلِهَا وَاحْمَدُوهُ عَلَى آخِرِهَا وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ في هَذِهِ الصَّوَامِعِ فَاتْرُكُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهَمْ وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدِ اتَّخَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى رُؤوسِهِمْ مَقَاعِدَ يَعْنِى الشَّمَامِسَةَ فَاضْرِبُوا تِلْكَ الأَعْنَاقَ وَلاَ تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرِمًا وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ وَلِيدًا وَلاَ تُخَرِّبُوا عُمْرَانًا وَلاَ تَقَطَّعُوا شَجَرَةً إِلاَّ لِنَفْعٍ وَلاَ تَعْقِرَنَّ بَهِيمَةً إِلاَّ لِنَفْعٍ وَلاَ تُحْرِقَنَّ نَحْلاً وَلاَ تُغْرِقَنَّهَ وَلاَ تَغْدِرْ وَلاَ تُمَثِّلْ وَلاَ تَجْبُنْ وَلاَ تْغَّلُلُ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَأُقْرِئُكَ السَّلاَمَ ثُمَّ انْصَرَفَ.( أخرجه البيهقي في السنن الكبرى )(3)
ولم يتمَّ فتح الشام والعراق إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكان يزودهم بالتعليمات المطلوبة ، فينفذونها بحذافيرها ، ومنها ما يسمى بالشروط العمرية ، والتي رواها أهل الشام خاصة لأنها قد حدثت بالشام، وقد عملت بها الأمة الإسلامية جيلا بعد جيل لأن فيها تفصيلاً كاملاً لأحكام أهل الذمة في الإسلام
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(4)
__________
(1) -تاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 268) و موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - (ج 11 / ص 318)
(2) -في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 178)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 90) برقم(18614) وهو صحيح رسل
(4) -مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 445)(1/2)
فَصْلٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وشارطهم بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ }(1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ »(2).
لِأَنَّ هَذَا صَارَ إجْمَاعًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَصَرَةٍ وَمَبْسُوطَةٍ .....
================
موقف المعاصرين من الشروط العمرية
أما موقف المعاصرين من هذه الشروط فعلى آراء مختلفة :
الرأي الأول- رفض هذه الشروط جملة وتفصيلا
وهو رأي العلمانيين ومن لفَّ لفَّهم ، الذين تأثروا بالفكر الغربي وحضارته العفنة
وهم الذين يرون وجوب فصل الدين عن الحياة
فهذه الشروط -حسب زعمهم- منافية لروح الإسلام ولحرية التدين التي أقرها الإسلام بقوله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة (3)
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(4609 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ » وهو حديث صحيح .- النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(2) - سنن الترمذى برقم(4023 ) وهو حديث صحيح
(3) - إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض ; فيزعمون أنه فرض بالسيف , في الوقت الذي قرر فيه:أن لا إكراه في الدين . . أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة ; وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ; ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره . ويوحي إلى المسلمين - بطريق ملتوية ناعمة ماكرة - أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة !وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام ! . .
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام , وتحريف منهجه , وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين , كي يأمنوا انبعاث هذا الروح , الذي لم يقفوا له مرة في ميدان ! والذي آمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل , وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان ! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدا تقتضي الجهاد ! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد . . ومن ثم فلا داعي للجهاد !
لقد انتضى الإسلام السيف , وناضل وجاهد في تاريخه الطويل . لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد .
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها ; وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم . وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة - في الجزء الثاني - (والفتنة أشد من القتل) . . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها , وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها . فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم . وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله , فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه . . وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون , ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون . يسامون الفتنة عن عقيدتهم , ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى . وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم , وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة , ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام ! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها ! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها ; والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها ; وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم . . وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى . . وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة - بعد تقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة , وبأرقى نظام لتطوير الحياة . جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ; ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها . فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ; كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا . فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ; وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . . وما يزال هذا الهدف قائما , وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ; حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ; ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها . فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس , وتستذلهم عن طريق التشريع . إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء , وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع , كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء . فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله , موكلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ . حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء , لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها , وهو مظهر الألوهية في حياة البشر , فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد !
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام . وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان , حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام , وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام , وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته . ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام , ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ .
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه . وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر , والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء . ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض . . ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة . لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية . أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار . وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار , يزاولونها وفق عقائدهم ; والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم , ويصون لهم حرماتهم , في حدود ذلك النظام .
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) . . فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض , ولا دينونة لغير الله . .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ; ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه ! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا , ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته .
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم , واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم . وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته . ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية , ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين ! . .
في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 40)وانظر كتابنا المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين(1/3)
الرأي الثاني - تضعيف خبر الشروط العمرية
وهؤلاء ليسوا صنفا واحدا، بل أصناف مختلفة
أولهم- الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله فقد ضعف هذا الحديث في إرواء الغليل
حيث قال عقب الحديث : قلت : وإسناده ضعيف جدا من أجل يحيى بن عقبة فقد قال ابن معين : ليس بشئ . وفي رواية : كذاب خبيث عدو الله . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يفتعل الحديث .(1)
وفاته أن للحديث طرقا أخرى ليس فيها هذا المتهم عند ابن عساكر وغيره (2)
وتابعه عدد من طلابه - تقليدا له - دون النظر في الموضوع، مع أن ضعف السند لا يقتضي بالضرورة ضعف المتن كما هو معلوم !!!
بالرغم أنهم يحتجُّون بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وبقول تلميذه البار الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله ،واللذان أثبتا هذه الرواية بقوة !!!!
وفات الشيخ ناصر رحمه الله -ومن قلده - أنَّ هذا الحديث لم يضعفه أحد من الأئمة السابقين ، كما أشار لذلك السبكي في فتاواه - كما سيمر -
وثانيهم- جميع فقهاء الهزيمة ، وذلك تحت وطأة هذا الواقع المر والأليم ، لعل أعداء الإسلام يرضوا عنهم وعن المسلمين ، وفاتهم أنهم لن يرضوا عنهم ما داموا مسلمين ، قال تعالى : { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (120) سورة البقرة
وثالثهم- قوم زعموا أن هذه الشروط لم يعمل بكثير منها سابقا فدلَّ ذلك على عدم صحتها !!!
ورابع- أنها لا تصح لأنها لم ترد في القرآن الكريم أو معارضة له !!!!
وخامس- أنها لا تصح لأنه غير متواترة
وسادس- أنها لا تصح لكونها لم تكن معروفة في القرن الهجري الأول، وإنما شاعت بعد ذلك، ومعنى هذا أنها من اختراع الفقهاء لأسباب معينة !!!!
الرأي الثالث-رأي من أثبتها من المحدثين وهم أصناف :
الأول- وهم أعداء الإسلام وخاصة النصارى ، وذلك لكي يظهروا الإسلام بأنه دين غير إنساني ، ولا يصلح للتطبيق اليوم ، ولو وضعنا جملة (( الشروط العمرية )) على النت وبحثنا عنها لوجدنا عشرات المواقع التي تنضح بالسم الزعاف -خاصة مواقع الأقباط في مصر- حول هذه الشروط ....
الثاني- أن بعض الفقهاء بعد أن أثبتها قال : هي تنقسم لقسمين قسم ملزم لأهل الذمة ، وقسم آخر غير ملزم لهم - وهي الأهم- في هذه الشروط ، لكي يقولوا لأعداء الإسلام : نحن لسنا بملزمين بكل هذه الشروط ، فيمكن التخفف من كثير منها ،وهذا التقسيم مبتدع لا أصل له
الثالث- قوم قالوا : هذه الشروط - مع تسليمنا بصحتها- هي من باب السياسة الشرعية ، وليست ملزمة فيمكن لولي الأمر الأخذ بها ويمكن له تركها ، ولكن لا سند لهم تاريخيا على صحة هذا الزعم
الرابع- قوم فتح الله على أبصارهم وبصائرهم - وهم القلة القليلة من هذه الأمة - فأكدوها وقالوا : هي محكمة غير قابلة للنسخ ، ويجب العمل بمقتضاها متى ما توفرت الظروف والأحوال ....
وهذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال
ويكفينا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - الآنف الذكر عنها - : وشارطهم- يعني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه - بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ......
لِأَنَّ هَذَا صَارَ إجْمَاعًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .....
لقد كان علماؤنا الأولون أتقى وأعلم وأحكم منا بكثير ، وما نحن سوى متطفلين على موائدهم
================
طريقتي في العمل :
بدأت هذا الكتاب بتمهيد هام حول هذا الموضوع ، ثم كان العمل على الشكل التالي :
الباب الأول-- تخريج الحديث من مصادره ، وبيان أنه حديث صحيح قد تلقته الأمة بالقبول في كافة العصور
الباب الثاني- شرح الشروط العمرية بشكل مفصل من كتب الفقه وأحكام القرآن القديمة
الباب الثالث- ذكر الخلاصة في أحكام أهل الذمة ، من الموسوعة الفقهية
الباب الرابع- ذكر شرح العلامة ابن القيم رحمه الله لهذه الشروط
الباب الخامس- بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أهل الذمة
الباب السادس- ذكر بعض أقوال أهل العلم المعاصرين
كل ذلك لنكون على بينة من أمرنا ولا ننخدع بأحد من هؤلاء المهزومين
علما أن كثيرا من المعاصرين قد كتبوا في هذا الموضوع الخطير
ولكنها في الأغلب كتابات تدل على مدى هزيمتهم النفسية أمام الحضارة الغربية العفنة، فلجئوا إلى فلسفة التبرير والتفلت من الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة ليرضى عنهم القوم ، والله المستعان
قال تعالى : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (18) ( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية:118و19)
__________
(1) - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - (ج 5 / ص 104)
(2) - انظرها بتخريج الحديث في الباب الأول(1/4)
وهكذا يتمحض الأمر . فإما شريعة الله . وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هنالك من فرض ثالث, ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة ; وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون !
والله - سبحانه - يحذر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون , فهم لا يغنون عنه من الله شيئاً . وهم يتولون بعضهم بعضاً . وهم لا يملكون أن يضروه شيئاً حين يتولى بعضهم بعضاً , لأن الله هو مولاه: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً , وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض . والله ولي المتقين) . .
وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده , وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل:(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها , ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً , وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض , والله ولي المتقين) . .
إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف , وما عداها أهواء منبعها الجهل . وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها , ويدع الأهواء كلها .
وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء . فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة .
وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض . وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحاً عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه . ولكنهم أضعف من أن يؤذوه . والله ولي المتقين .
وأين ولاية من ولاية ?
وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضاً ; من صاحب شريعة يتولاه الله . ولي المتقين ?(1)
============
قال تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
9 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 27 /6 /2004 م
وتم تعديله بتاريخ 30 شعبان لعام 1428 هـ الموافق ل12/9/2007 م
((((((((((((((((
تمهيد حول هذا الموضوع
سبب تأليف هذا الكتاب
لقد استمعت اليوم(2) لبرنامج أكثر من رأي في قناة الجزيرة وكان حول عدم اعتذار الكنيسة للمسلمين عن الحروب الصليبية واعتذارها لليهود دون المسلمين
وكان ممثل الكنيسة أبو زيد أحد الحاقدين ( النصارى ) من نصارى العرب والثاني فهمي هويدي .
وكان مما أثاره ذاك الصليبي الحاقد أن سبب الحروب الصليبية هم المسلمون الذي طبقوا الشروط العمرية على النصارى وهي على حد زعمه شروط ظالمة وجائرة
فقام ( الداعية الإسلامي الكبير !!!) فهمي هويدي فسارع وقال له : إن هذه الشروط مطعون فيها كما أنها لا تمثل الإسلام
وبرر مقدم البرنامج ( سامي حداد ) ذلك بقوله :
لعل ذلك من باب السياسة الشرعية أي أن رده كان خيرا من رد علامة العصر ( فهمي هويدي )
وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على مدى تفلت هؤلاء من أحكام الدين ، إما باختيار الفتاوى والآراء الشاذة التي تناسب هواهم أو الطعن بالنصوص أو الطعن بالتاريخ الإسلامي
كل ذلك ليرضى عنهم الغرب ( المنتصر اليوم على المسلمين )
ومن ثم نسمع لهؤلاء كل يوم فتوة عجيبة وقولا نشازا
وفات هؤلاء ( التغريبيون ) أن التنازل عن جزء من الإسلام هو تنازل عن الكل لأن الذي يقبل التنازل فلن ينتهي طلب العدو إلا عن مزيد من التنازل حتى لا يبقى شيء يتنازل عنه .
=============
الهزيمة النفسية التي يعاني منها العصرانيون(3)
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 432) وفي ظلال القرآن - (ج 6 / ص 403)
(2) - قلت : كان هذا في أوائل عام 204 م
(3) - الهزيمة النفسية .. وفقه المرحلة " مجلة البيان "
عبد العزيز عبد الله الحسيني
الهزيمة النفسية سقوط حضاري لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن تكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها.
وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل.
أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!
ولأثر هذا الغزو النفسي فقد فطنت بعض الدول إلى أهميته حتى غدا عنصراً مهماً في الحملات الفكرية والإعلامية الموجهة للدول المغزوّة أثناء الصراعات الحضارية، كي يدب فيها الوهن ويدوم اليأس.
? من أسبابها:
لعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحياناً بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية، ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.
وتجاوز الأمر قنطرته وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا ـ الانهزاميين ـ الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والتقنية فحسب.
ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهرياً؛ لكونها أعراضاً للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا؛ إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضاً مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولاً أعمى عن (السبب الأساس) في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمور لا يملكون أدواتها، ولتصدرهم لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين.
وللأسف فإن ذلك الطرح المادي المتكرر، قد أثر على قطاع عريض من شباب المسلمين، وكان سبباً في صرفهم عن عودتهم لهذا الدين، وإصابة غيرهم باليأس والقنوط، وأصبح بعضهم الآخر (يُسقط) تقصيره وأخطاءه على غيره، ويخرج نفسه من مغبّة مسؤولية ضعف أمته وهوانها، فعطلوا طاقاتهم وقدراتهم، بل وجميع أسلحتهم المعنوية الأخرى؛ فهم برأيهم ـ وكما فهموه من أولئك المحللين الانهزاميين ـ لا يملكون شيئاً لمواجهة تلك القوة القاهرة؛ حتى أصبح كثير منهم يعتقد أن هذا الواقع السيئ أمر لا مفر عنه وشر لا بد منه، فأصيبوا بهزيمة نفسية محبطة، وأصبحوا لا يؤمنون ولا يعتمدون ولا يطمئنون ولا يثقون، إلا بالقوة المادية فحسب، وغدوا ينظرون إلى الغرب بنفسية الغالب والمغلوب، وجنت الأمة آثار تلك الهزيمة النفسية المحبطة، وهو ما تعيشه اليوم بكل مآسي الواقع ومرارته.
? من آثار الهزيمة النفسية:
لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بل وسلوكياً.
وإنه ليصعب على المسلم أن يُشخّص الآثار المترتبة للهزيمة النفسية على أمته دون أن يصاب بحشرجة يصعب معها مواصلة حديثه، ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، يجد أن الأمة الإسلامية بلغت ـ بسبب عجزها ويأسها ـ حداً لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها، إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.
ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى (الانحطاط والتخلف)(1)، وأصبحنا نعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر (الغثائية) التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»(2).
نعم! مليار ومئتا مليون مسلم، ولكن لا وزن لأكثرهم ولا قيمة، معظم دُولهم ضعيفة تعاني الفساد وتشكو الفقر، وأكثر شعوبهم مسكينة تعاني الجهل وتشكو القهر.
وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت(3).
? فقه الضعف والقوة:
القوة المادية ـ في كل زمان ومكان ـ هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد ـ حسب سنن الله ـ عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته سبحانه؛ فالله ـ تعالى ـ جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته(4).
فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها؛ إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن ما هم فيه من الذل والهوان، إنما هو بسبب ضعف قوتهم المادية، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن ـ فقط ـ في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من السلبيات المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحرافاً كبيراً في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية ـ كما سيأتي ـ فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم من حيث بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وعدم إشعارهم بأثر ذلك في ضعف أمتهم وهوانها، كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم، كما أن التركيز على القوة المادية فحسب استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى؛ إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية؛ فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر ولو بعد عدة قرون أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم ـ إلا أن يشاء الله تعالى ـ.
ومع أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وكانت السبب الأول في نهضتها وعزها في ذلك الوقت، وهو ما نؤمِّل أن يكون سبباً في نهضتنا وعزتنا مرة أخرى.
ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و (ضرورة) ذاتية لوجودنا وتقدمنا، و (حاجة) ملحة للذبّ عن ديننا ومواجهة عدونا(1).
والله ـ تعالى ـ أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال ـ سبحانه ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي مهما أمكنكم»(2)، والإعداد حسب الاستطاعة ـ مع الإيمان ـ من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة. وحينما ذكر الله ـ سبحانه ـ القوة فقد أطلقها دون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.
ولذا يجب عدم الاستسلام للعدو وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع)، إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، بحجة عدم كفاية الإعداد، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يُدفع بحسب الإمكان»(3).
وإذا رأى علماءُ أهلِ بلدِ النازلةِِ عدمَ قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية، وإنما عبر وسائل كثيرة: علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم ـ والأهم جداً ـ في هذا العصر، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد؛ فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.
ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها آحاد العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمَن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماءُ أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا، بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا»(4).
ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية، أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:
- فبعضهم يهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها والعمل على امتلاكها، لدرجة أن بعضهم يرى قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ويتناسى ما بعدها: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.
- وبعضهم الآخر، ضخّم قضية القوة المادية وبالغ في أثرها، وعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع»(5).
والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب؛ فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها، وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب: ما نتائجه وعواقبه؟ لقد كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعُدّة من عدوهم، وكان اعتمادهم بالنصر على الله ـ تعالى ـ وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداًَ، فاعتمدوا ـ في البداية ـ على ذلك، حتى قال قائلهم: «لن نُهزَم اليوم من قلة»، فوكلهم الله ـ تعالى ـ إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاًَ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب؛ وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا ـ كما يزعم بعض الانهزاميين ـ أن نعد قوة كقوة العدو، وألا نقاتله حتى نماثله في القوة، فالمسألة توازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي (مهمّاً) وهو كذلك؛ فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني (أهمُّ) وأوْلى. فمن المسلّم به أن المقدمات إذا صحّت، أعقبها نتائج مثمرة بإذن الله.
والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب؛ وإلا فما كان لموسى أن يصارع فرعون، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين، ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه أن يقاتلوا قريشاً والقبائل العربية وفارس والروم. ولولا الخيانات لما سقط (العراق) حتى وإن تفوَّق الأعداء في العدد والعدة، وبالرغم من تلك القوة القاهرة؛ فإن المقاومة العراقية ما زالت صامدة ثابتة، ولو تمكنت من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي يمتلكها العدو لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم. قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ومن يستقرئ التاريخ يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل؛ فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم أو أقوى عدداً وعدة منهم.
بنو إسرائيل، كانوا يعيشون في مصر، وكانت بالنسبة لهم بيئة قاتمة خانقة، قد أطبقت عليهم كل الإطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب؛ فهم يعيشون في حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد وعدة، وفقر وذلة، وفي ظل هذه الظروف يولد موسى ـ عليه السلام ـ وولادته وحياته كلها تحدٍٍّ لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء: أراد فرعون ألا يولد فوُلد، وأراد ألا يعيش فعاش. يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ عند عدو قاهر، وسُخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي؛ فيجد الضيافة الكريمة، ويزوجونه إحدى بناتهم، ويرجع بأهله فيلفُّه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها، فيجد نوراً يسعد به بنو إسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها، ويكرم بالنبوة والرسالة، ويدخل على فرعون في أُبهته وسلطانه، وفي ملئه وأعوانه. وهكذا يهلك فرعون وقومه (الأغنياء الأقوياء) ويملك بنو إسرائيل (الضعفاء الفقراء): {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي (القوة) التي قهر بها موسى (أعظم قوة) في عصره ومصره؟! وما سر انتصار بني إسرائيل على أعدائهم؟! وما (سلاحهم) الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر(1)؟
وماذا لو كان موسى ـ عليه السلام ـ يفكر تفكير كثير من المسلمين اليوم، ويستعرض الإمكانات والقوة التي يملكها هو وقومه، ويوازنها بما يملكه فرعون وجنده، بنظرة مادية محضة، هل كان سيواجه فرعون ويدخل معه في حرب لا هوادة فيها؟!
ومثال آخر: أرجو أيضاً أن يكون في ذكره ما يبدد اليأس ويزرع الأمل والثقة:
فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات، السياسية والعقدية والاجتماعية والسلوكية والحربية.
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون حتى في المنام بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً على الانتصار عليها، حتى إن فارس والروم (الدول العظمى في ذلك الوقت) لم تفكرا مجرد تفكير في فتح الجزيرة والاستيلاء عليها، وذلك لقلة خيراتها ومواردها، وهوان أهلها عليهم.
ولكن الله ـ تعالى ـ امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً -صلى الله عليه وسلم - ، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون، بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية؛ فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم.
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله.
لماذا سموه لغزاً؟
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد، والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد.
أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً وعدة: بدر ـ أحد ـ الأحزاب ـ المريسيع ـ مؤتة... إلخ، عدا معركة واحدة، كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلن تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم ـ ومن بعدهم إلى قيام الساعة ـ أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم، ولا بقوتهم، وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.
أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن بعضهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمح ولا سيف ولا مركب {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92](1). ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.
فما هي القوة التي قهر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم (فارس والروم) تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟
والجواب: ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل؛ فنحن معشر المسلمين نعرف أن الإيمان هو السبب الذي عز به المسلمون وسادوا.
وتصوروا ماذا لو كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يملكونه بما يملكه أعداؤهم من القوة المادية فحسب؟ وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت: لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟
لو قالوا مثل ذلك، فهل كانوا سيُخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟
ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا، وذلها، وهوانها، وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً وتقنياً وحربياً وعسكرياً ـ وإن كان لذلك أثر ولا شك ـ إلا أن السبب ـ الرئيس ـ لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها في النواحي العلمية وغيره من المجالات إلا أعراض للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً»(2).
ولذا فإنه لا مخرج من الحالة المتردية والأوضاع المأساوية التي تعيشها أمتنا، إلا بالرجوع إلى هذا الدين القويم.
الهزيمة النفسية داء عضال لم يتسلط على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
وأمتنا اليوم لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطّمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان؛ حيث ألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق للعدو ما أراد من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة نفسياً ومن ثَم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
? حتى لا نيأس:
في عصور مضت دانت القوة والغلبة للأمة الإسلامية واستمرت قروناً طويلة، وحينما بدأ المسلمون بالتخلي عن دينهم بدأ الضعف يدب في أوصالهم حتى دانت القوة والغلبة لغيرهم.
وحينما استكملت أمريكا أسباب النصر من القوة وإقامة العدل وأداء الحقوق وعدم الظلم لرعاياها؛ دانت لهم القوة حسب سنن الله الجارية في التمكين والاستخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»(3).
واليوم بدأت تتعالى الأصوات وترتفع من عقلاء أمريكا قبل غيرهم، محذرين من السقوط والزوال، بعد أن فقدت أمريكا تلك الخاصية، وأصبح الظلم والإرهاب والاستبداد وانتهاك حقوق الآخرين والجور والغطرسة، سمة من أهم سماتها. وستسقط حتماً كل دولة تجعل من الظلم والاستبداد والقهر والإرهاب منهجاً لها ومبدأً من مبادئها، فالكون يسير حسب نواميس شرعية ووفق سنن جارية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
وليس المهم متى سيحدث ذلك؛ إنما المهم أنه سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، والذي أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، قادر على أن يهلك مَنْ دونهم، وأن يسلط عليهم جنداً من جنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، وأمتنا متى استكملت أسباب النصر والتمكين فإنها حتماً ستعود قوية عزيزة، في هذا الجيل أو الذي بعده، والنصر والتمكين ليس شرطاً أن يراه الداعية بعينه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم - وعد بفتح فارس والشام واليمن، ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين. فدعوة الله لا بد أن تعلو، ودين الله لا بد أن ينتصر ويسود، ولا نقول هذا جُزافاً؛ وإنما هو عقيدة نستقيها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم - .
? المد والجزر في تاريخ المسلمين:
أقول هذا بعد أن بلغ اليأس والقنوط والإحباط ـ من عودة هذه الأمة إلى مجدها ـ منتهاه عند قطاع عريض من المسلمين، ونسوا أن ما تمر به الأمة من ضعف، إنما هو مرحلة سبق أن مر بها ما هو أشد ضراوة وأعنف شراسة؛ فقد تعرضت من قبل وعلى امتداد تاريخها الطويل لمحاولات عديدة للقضاء عليها واستئصال شأفتها وإبعادها عن دينها ومصدر عزها، ولكنها في كل مرة كانت تقوم من جديد، بعزيمة أقوى وشكيمة أشد، ومن يستقرئ تاريخ أمتنا، يجد أنه كان بين مد وجزر؛ فمتى كانت الأمة قوية بدينها وحققت أسباب النصر عزّت وسادت، ومتى ضعف تمسكها به ذلّت واستكانت، وإليك مصداق ذلك:
- قبل وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم - ، كانت الأمة في عز وسؤدد، وقوة ومنعة، وحينما توفي -صلى الله عليه وسلم - ، مرت الأمة بأزمة عصيبة، ومرحلة خطيرة؛ حيث عَظُمَ الخطب، واشتد الكرب، وظهر مدّعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، وارتد من ارتد من العرب، حتى إنه لم يبق للجمعة مقام في بلد سوى في مكة والمدينة، وأصبح حال المسلمين كما يقول عروة ـ رضي الله عنه ـ: «كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم» حتى وُجد من المسلمين من بلغ به اليأس أن قال لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «إن هؤلاء جُل المسلمين والعرب على ما ترى قد انقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين»(1).
في ظل تلك الأوضاع، واليأس قد بلغ منتهاه، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة مرة أخرى؟!
ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يعتره اليأس، ولم يتملكه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث، وهذه البلبلة، وهذه النكبات، بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم، حتى ثبت وحارب مدعي النبوة والمرتدين، وأعاد للمسلمين قوتهم، وللخلافة هيبتها، ولليائسين تفاؤلهم.
وفي القرن الرابع الهجري من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة، حينما قام القرامطة في عام 417هـ باستباحة مكة يوم التروية! «حيث نهبوا أموال الحجاج، وقتلوا في رحابها وشعابها وفي المسجد الحرام بل وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة، والرجال تُصرع من حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام وفي الشهر الحرام وفي يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، وقال: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم (اثنتين وعشرين) سنة»(2).
وتأمل أي ذلة ومهانة كانت تعصف بالمسلمين في ذلك الوقت: الحجر الأسود يُقلع من مكانه الطاهر، ويُحمل إلى بلد القرامطة ويمضي عندهم اثنين وعشرين عاماً قبل أن يعيدوه بأنفسهم، والأمة الإسلامية كلها لا تستطيع أن تجتمع لاسترداد حجرها الأسود!
وبعد هذه الحادثة المأساوية، التي لم تتكرر في تاريخ الإسلام والمسلمين، قل لي بربك: هل من مجال للمقارنة بين ما مر على المسلمين في ذلك العصر من الضعف والذل والمهانة، وما نمر به في هذا الوقت من أزمات؟
ومع ذلك فقد عاد المسلمون مرة أخرى، ونهضوا من كبوتهم وصحوا من غفوتهم، وعادوا كأقوى ما يكونون.
- وفي أواخر القرن الخامس الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا بأسرها على الخلافة الإسلامية، في تسع حملات صليبية شرسة، فقتلوا وطمسوا معالم الحضارة، واستعملوا جميع مظاهر الاضطهاد والعنف، واستولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وأُغلق المسجد الأقصى ولم تُقم فيه جمعة ولا جماعة، ووضعت الصلبان فوقه ما يقارب (قرناً) من الزمان، حتى ظن كثير من المسلمين في ذلك الوقت، ألاَّ أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألاَّ رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد أكثر من (سبعين ألفاً).
في ظل هذه الظروف، من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل (صلاح الدين الأيوبي) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العزة والقوة والسيادة ما شرّف التاريخ الإنساني.
ومرة أخرى.. لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا من رحمة الله؛ فقد عادوا ونهضوا من كبوتهم، واستردوا المسجد الأقصى بعد أن رفع النصارى الصلبان فوقه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه أو مجرد دخوله قرابة (قرن) من الزمان. بينما يصاب اليوم كثير من المسلمين باليأس والقنوط وفقد الأمل بالكلية من مجرد التفكير في إمكانية استرداد المسجد الأقصى مرة أخرى رغم أنه لم يمض على احتلاله سوى سنوات معدودة.
وإذا كان المسلمون في ذلك الوقت ـ وحالهم كانت أشد مرارة من حالنا ـ قد نهضوا بعد تلك الكبوة؛ فالأمة اليوم قادرة بعون الله تعالى، ثم بالجهود المنتظرة من أهل الصلاح والإصلاح، أن تعود من جديد؛ وإرهاصاتُ ذلك تبدو في الأفق واضحة جلية بعون الله تعالى.
- وفي القرن السابع الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة، لما خرّب المغول العالم الإسلامي، ونهبوا الأموال، وداسوا القِيَم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً، حتى قيل إن جبالاً وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين؛ حيث كانوا في غاية الهمجية والوحشية، فكانوا يقتلون كل من يقابلهم دون تفرقة، فقتلوا العلماء والمشايخ والكهول والنساء والولدان، وأحرقوا المساجد ودور الكتب، وحطموا كثيراً من معالم الحضارة الإسلامية. وقد ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ عدد قتلى المسلمين إثر ذلك الغزو فقال: «وقد اختلف الناس في كمية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس»(1).
وبلغ من شدة الحدث، أن المؤرخ ابن الأثير ـ رحمه الله ـ قال: «لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أُقدّم إليه رجلاً وأُؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهَل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً»(2).
من كان يظن أن بلاد الإسلام ـ بعد هذا ـ ستقوم لها قائمة، أو أنها ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل المقدام (قطز) في معركة عين جالوت الحاسمة، ويعود المسلمون إلى سابق عهدهم(3).
ومرة أخرى.. هل من مجال للمقارنة بين ما حصل للمسلمين في ذلك الوقت من القتل والإيذاء والتنكيل، بتلك الصورة وتلك الوحشية وتلك الشراسة وذلك العدد الكبير من القتلى، وبين ما يحصل للمسلمين في هذا الوقت!
ومع ذلك كله فقد نهضوا من كبوتهم وصححوا خطأهم وعادوا إلى ربهم، فبنوا حضارتهم وواصلوا مسيرة فتوحاتهم بكل قوة وثبات.
ومن عجائب التاريخ وفرائده، أنه مع هزيمة الأمة في ذلك الوقت عسكرياً، إلا أنها لم تُهزم نفسياً؛ فقد ظل كثير من المسلمين معتزين بدينهم مستمسكين به، لدرجة أنهم أثَّروا بالغالب ولم يؤثر بهم، على خلاف العادة؛ إذ جرت أن المغلوب مجبول على التأثر بالغالب، إلا أن الذي حصل هو عكس ما جرت عليه تلك العادة، فدخل الغالب بدين المغلوب، وهذا من غرائب التاريخ الإنساني. وفي هذا دلالة على أن الأمة وإن هُزمت عسكرياً إلا أن كثيراً منهم لم ينهزموا نفسياً، ولم يفقدوا الأمل، ولم يصابوا باليأس والإحباط كما أصيب به كثير من المسلمين اليوم. فقد صحا أبناء ذلك الجيل من غفلتهم واستيقظوا من غفوتهم، وعادوا إلى دينهم فعاد لهم العز والتمكين مرة أخرى، بعد معركة عين جالوت المشهورة.
- وفي القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، من كان يظن أن الإسلام سيعود من جديد، وقد أُصيب المسلمون بعدة طعنات لو وُجهت لغيره من الأديان لذاب واندرس؛ ففي ذلك القرن: سقطت دولة الخلافة الإسلامية على يد الهالك أتاتورك، وأصبح يُنادَى بالعصبية والقومية، واستُعمرت الدول الإسلامية وقُسمت بين دول الغرب، وعمت البلوى والافتنان بالحضارة الغربية حتى أصبح المثقفون ينادون بضرورة اللحاق بركب تلك الحضارة والانضواء تحت لوائها بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحمد منها وما يُعاب. أما العقائد فقد أصبحت الطرق الصوفية هي السائدة حتى عم الظلام والجهل والبدع والخرافات لا أقول بعض أوطان المسلمين، بل معظمها، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وغابت معظم معالمه التشريعية حتى كاد يندرس في معظم البلدان الإسلامية، وبلغ اليأس منتهاه في إمكانية عودة الإسلام من جديد لدى البقية الباقية من المستمسكين به، بل ظن كثير منهم أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخرى.
ولكن الله ـ تعالى ـ بعث هذه الأمة من جديد، وبدأ الناس يعودون إلى دين الله أفواجاً، وبدأت الأمة تنهض بعد الغفلة، نرى ذلك ونلمس مظاهره في جوانب كثيرة ومجالات عديدة بحمد الله تعالى.
? من بشائر النصر:
إن مما يسر الخاطر ويفرح القلب ويُقوي الأمل في إمكانية عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، ما نراه من الآثار الملموسة للصحوة التي بدأت تؤتي أُكلها ونتنفس ثمرها ونستنشق عبيرها.
هذه الصحوة نتاج طبيعي لإخفاقات متكررة وهزائم متتابعة عاشتها الأمة، ولذا فقد ولدت وترعرعت وهي متعطشة لعز الإسلام وتمكينه، بعد أن جُربت جميع الشعارات الرنانة ولم تفرز إلا النكسات المتعددة، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب.
وقد كانت هزيمة أو نكسة يونيو 1967م، بداية تحول كبير في عقول كثير من شباب الأمة الإسلامية؛ حيث تركت تلك الهزيمة آثاراً موجعة في نفوس ما لبثت أن تجلت على شكل صحوة عارمة بين طلبة الجامعات، ثم امتدت وبسرعة لتعبر عن نفسها في مظاهر كثيرة ومجالات عديدة بين جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
وما تزال إيجابيات هذه الصحوة قائمة ملموسة، تنمو وتزداد مع تقادم الأيام والسنين؛ فقد فرضت نفسها على الأحداث العالمية برمتها، وأصبحت همّاً عالمياً، تُفرِح الأصدقاء وتؤرق الأعداء، وتُقام من أجلها المؤتمرات، وتُعقد بسببها اللقاءات، ما بين محب يسعى لإصلاحها وتقويمها، وكاره يخطط لوأدها وإجهاضها؛ فهي أكبر مشروع حضاري نهضوي في العالم المعاصر، وإن كانت ثمراتها ظاهرة ملموسة، إلا أنها حتماً ستؤتي أُكلها وسيتم جني ثمرها بصورة أكبر في القادم من الأجيال اللاحقة بإذن الله تعالى.
ولعل من أهم مظاهر ثمراتها ما نراه من العودة الجماعية لهذا الدين، حيث عمّت بفضل الله ـ تعالى ـ الصحوة ربوع العالم الإسلامي كله، بل تجاوزت إلى ربوع المعمورة، حتى أصبحت الكنائس تُشترى وتُحوّل إلى مساجد للعبادة.
وأصبحنا نرى ونسمع عن مكتسبات ومستجدات ما كان أحد يظنها قبل بضع سنوات، من انتشار الوسائل الدعوية التربوية المختلفة من فضائيات وصحف ومجلات إسلامية، أصبحت تتكاثر وتتوالد بكثرة العائدين إلى الله.
وهذه الأمة ما تزال حُبلى بالمبشرات، وهي قادرة بعون الله ـ تعالى ـ على النهوض والعودة من جديد إلى سابق عزها ومجدها، ولعل مما يُبشر بذلك:
- تتابع سقوط الشعارات والحركات والنقابات والأحزاب غير الإسلامية، وثقة الناس في المقابل بالأحزاب والمنظمات والحكومات الإسلامية.
- ظهور أطفال الحجارة في فلسطين والعراق والفلبين وكشمير، والشيشان، وأفغانستان وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة وهم يحملون المصحف في يد والبندقية في اليد الأخرى.
- صمود المقاومة العراقية واستمرار ثباتها، بل وتجدد قوتها شهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى، ولولا الخيانات وخذلان الأصحاب لما سقطت العراق ـ ابتداء ـ بهذه السهولة حتى وإن تفوقت أمريكا في العدد والعدة، ولو تمكنت المقاومة من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي تمتلكها أمريكا لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم.
- ولعل من أهم المبشرات التي تدل دلالة واضحة على صحوة هذه الأمة، تنامي العمل الإسلامي في معظم دول العالم وقيامه بدور بارز في نشر رسالته، وهو الأمر الذي جعل حكومات العالم تقف أمامه بقوة للحد منه ومحاولة تجفيف منابعه بدعوى محاربة الإرهاب. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف: 8 - 9].
والبشائر بحمد الله كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها أو حصر مظاهرها، وإنما هي أمثلة ونماذج تحيي الأمل وتدفع اليأس؛ فالأمة معطاء، والفأل مطلوب، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، والثقة بالله ـ تعالى ـ هي مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان. وما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة، ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها ومصدر عزها ومجدها. فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر.(1/5)
إنهم ما قالوا ذلك إلا بسبب الهزيمة النفسية التي يعاني منها أمثال هؤلاء فإنهم عندما رءوا هزيمة المسلمين وتسلط الكفار والفجار عليهم قالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا
قال تعالى عن أمثال هؤلاء : ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)
وقال تعالى : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)
فهي المساومة إذن , والالتقاء في منتصف الطريق . كما يفعلون في التجارة . وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير !
فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها ; لأن الصغير منها كالكبير . بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء . لا يطيع فيها صاحبها أحدا , ولا يتخلى عن شيء منها أبدا .
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق , ولا أن يلتقيا في أي طريق . وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان . جاهلية الأمس وجاهلية اليوم , وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر , ولا تقام عليها قنطرة , ولا تقبل قسمة ولا صلة . وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق !
وقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدهن لهم ويلين ; ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم , أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه , وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب !
على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول !
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه من دينه , لا يدهن فيه ولا يلين . وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير . فأما الدين فهو الدين ! وهو فيه عند توجيه ربه:(فلا تطع المكذبين) !
ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة . وهو محاصر بدعوته . وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون . ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين , تأليفا لقلوبهم , أو دفعا لأذاهم . ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد
روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال: " فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام . وصدع به كما أمره الله , لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه , وأجمعوا خلافه وعداوته - إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون - وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه , وقام دونه , ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره , لا يرده عنه شيء . "
" فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم , ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم , مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب . . عتبة وشيبة ابنا ربيعة , وأبو سفيان بن حرب بن أمية . وأبو البختري واسمه العاص بن هشام . والأسود بن عبد المطلب بن أسد . وأبو جهل "واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى أبا الحكم" والوليد بن المغيرة , ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر . . أو من مشى منهم . . فقالوا:يا أبا طالب . إن ابن أخيك قد سب آلهتنا , وعاب ديننا , وسفه أحلامنا , وضلل آباءنا , فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه , فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ; فنكفيكه ! فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا , وردهم ردا جميلا , فانصرفوا عنه .(1/6)
" " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه:يظهر دين الله , ويدعو إليه . ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا , وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذامروا فيه . وحض بعضهم بعضا عليه . ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى . فقالوا له:يا أبا طالب , إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا . وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ; وإنا والله لا نصبر على هذا:من شتم آبائنا , وتسفيه أحلامنا , وعيب آلهتنا , حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالواله . . ثم انصرفوا عنه . فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم , ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه . قال ابن إسحق:وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس , أنه حدث , أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:يا بن أخي . إن قومك قد جاءوني فقالوا لي:كذا وكذا "للذي كانوا قالوا له" فأبق علي وعلى نفسك , ولا تحملني من الأمر مالا أطيق . قال:فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء , وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . . قال:واستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى . ثم قام . فلما ولى ناداه أبو طالب فقال:أقبل يا بن أخي . قال:فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت , فوالله لا أسلمك لشيء أبدا " .
فهذه صورة من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه . حاميه وكافيه , وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه !
هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها , ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها . . .
جديدة جدة هذه العقيدة , رائعة روعة هذه العقيدة , قوية قوة هذه العقيدة . فيها مصداق قول الله العظيم:(وإنك لعلى خلق عظيم) .
وصورة أخرى رواها كذلك ابن إسحق , كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذ أعياهم أمره , ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه .
قال ابن إسحق:وحدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا , قال يوما وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش . ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? وذلك حين أسلم حمزة , ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون . فقالوا:يا أبا الوليد قم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا بن أخي . إنك منا حيث علمت:من السطة في العشيرة والمكان في النسب , وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم , فرقت به جماعتهم , وسفهت به أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قل يا أبا الوليد أسمع " . . قال:يا بن أخي . إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ! - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال:" أقد فرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . فقال: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا:قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , وفي آذاننا وقر , ومن بيننا وبينك حجاب , فاعمل إننا عاملون . قل:إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . .) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه . ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال . " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت . فأنت وذاك " . . فقام عتبة إلى أصحابه , فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أنني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط , والله ما هو بالشعر , ولا بالسحر , ولا بالكهانة , يا معشر قريش أطيعوني , واجعلوها بي , وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم . فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال:هذا رأيي فيه , فاصنعوا ما بدا لكم . .(1/7)
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:(فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) . . فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:أنشدك الله والرحم يا محمد ! وذلك مخافة أن يقع النذير . وقام إلى القوم فقال ما قال !
وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة . وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم . تبدو في أدبه صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تصوره لقيم هذا الكون , وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض . ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر , حتى يفرغ الرجل من مقالته , وهو مقبل عليه . ثم يقول في هدوء:" أقد فرغت يا أبا الوليد ? " زيادة في الإملاء والتوكيد . إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث . .
وهما معا بعض دلالة الخلق العظيم .
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال: " واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة , وأمية بن خلف , والعاص بن وائل السهمي . وكانوا ذوي أسنان في قومهم . فقالوا:يا محمد , هلم فلنعبد ما تعبد , وتعبد ما نعبد , فنشترك نحن وأنت في الأمر . فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه , وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم:(قل:يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون) :السورة كلها . .
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة . وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول . . . ( الظلال)
============
المفاصلة التامة بيننا وبين الكفار
وقال تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) سورة الكافرون }
إنها مفاصلة كاملة شاملة , وتميز واضح دقيق . .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل , الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق . الاختلاف في جوهر الاعتقاد , وأصل التصور , وحقيقة المنهج , وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج , والشرك منهج آخر . . ولا يلتقيان . .
التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا شريك له . ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان , عقيدته وشريعته , وقيمه وموازينه , وآدابه وأخلاقه , وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود . هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله , الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية . وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان , وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى ! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها , قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد . .
وهذا الإغراء في منتهى الخطورة !
إن الجاهلية جاهلية , والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية:تصورا ومنهجا وعملا . الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق . والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق . .
مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام , أو ادعت هذا العنوان !
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه , لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو , بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير !
وإلا فهي البراءة الكاملة , والمفاصلة التامة , والحسم الصريح . .(لكم دينكم ولي دين) . .
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم . . ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة , وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة , ثم طال عليهم الأمد (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) . .
وأنه ليس هناك أنصاف حلول , ولا التقاء في منتصف الطريق ,
ولا إصلاح عيوب , ولا ترقيع مناهج . . إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان , الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية . .
(لكم دينكم ولي دين) . . وهذا هو ديني:التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه , وعقيدته وشريعته . . كلها من الله . .
دون شريك . .(1/8)
كلها . .
في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع . . والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح . . .
وهذا هو طريق الدعوة الأول:(لكم دينكم ولي دين) . .(الظلال)
==============
وكذلك قد فات هؤلاء المنهزمين ( المبهورين بحضارة الغرب العفنة ) أنهم مهما قدموا من تنازلات فلن تعتذر الكنيسة للمسلمين عن الحروب الصليبية أبدا لأن الله تعالى يقول عنهم :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
فتلك هي العلة الأصيلة . ليس الذي ينقصهم هو البرهان ; وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق , وأن الذي جاءك من ربك الحق . ولو قدمت إليهم ما قدمت , ولو توددت إليهم ما توددت . .
لن يرضيهم من هذا كله شيء , إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق .
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان . . إنها هي العقيدة . هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة . .
إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما ; وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها , ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين !
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها . ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى , ويرفعان عليها أعلاما شتى , في خبث ومكر وتورية . إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة . ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا اعلام المعركة . . لم يعلنوها حربا باسم العقيدة - على حقيقتها - خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها . إنما أعلنوها باسم الأرض , والاقتصاد , والسياسة , والمراكز العسكرية . . وما إليها . وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها !
ولا يجوز رفع رايتها , وخوض المعركة باسمها . فهذه سمة المتخلفين المتعصبين !
ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها . . بينما هم في قرارة نفوسهم:الصهيونية العالمية والصليبية العالمية - بإضافة الشيوعية العالمية - جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا , فأدمتهم جميعا !!!
إنها معركة العقيدة . إنها ليست معركة الأرض . ولا الغلة . ولا المراكز العسكرية . ولا هذه الرايات المزيفة كلها . إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين . ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها , فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا . ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته , وهو - سبحانه - أصدق القائلين: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)
فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه . وما سواه فمرفوض ومردود !
ولكن الأمر الحازم , والتوجيه الصادق: (قل:إن هدى الله هو الهدى) . .
على سبيل القصر والحصر . هدى الله هو الهدى . وما عداه ليس بهدى . فلا براح منه , ولا فكاك عنه , ولا محاولة فيه , ولا ترضية على حسابه , ولا مساومة في شيء منه قليل أو كثير , ومن شاء فليؤمن , ومن شاء فليكفر . وحذار أن تميل بك الرغبة في هدايتهم وإيمانهم , أو صداقتهم ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق .
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير)
بهذا التهديد المفزع , وبهذا القطع الجازم , وبهذا الوعيد الرعيب . .
ولمن ? لنبي الله ورسوله وحبيبه الكريم !
إنها الأهواء . .
إن أنت ملت عن الهدى . .
هدى الله الذي لا هدى سواه . .
وهي الأهواء التي تقفهم منك هذا الموقف ; وليس نقص الحجة ولا ضعف الدليل .
والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته , ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك ; فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون , لا أنت ولا المؤمنون !
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) . .
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان , أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود ? (الظلال)
==============
وفاتهم أن الكفار لا عهد لهم ولا ذمة
قال تعالى :
( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100)
وفي الظلال :
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل , ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد , وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه إلى المدينة ; وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة , بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه ; وأول من عاب دينة , وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم , مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه . .
وبئس هي من خلة في اليهود ! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض , يعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " المسلمون تتكافأ دماؤهم , وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم " . .(1/9)
يسعى بذمتهم أدناهم , فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد , ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم , ولقد كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو قائد لجيش عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول:إن عبدا أمن أهل بلد بالعراق . وسأله رأيه . فكتب إليه عمر:إن الله عظم الوفاء , فلا تكونون أوفياء حتى تفوا . .
فوفوا لهم وانصرفوا عنهم . .
وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة . وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين .
(ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم , نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) . .
وكان هذا مظهرا من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه . فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم , أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه , وأن ينصروه ويحترموه . فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم , خاسوا بذلك العهد , ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم , يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم , والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه , والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد نبذوه أيضا !
وفي الآية ما فيها من سخرية خفية , يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوما !
ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب . هم الذين عرفوا الرسالات والرسل . هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور . .
وماذا صنعوا ? إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم !
والمقصود طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به , وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم . ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس ; ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة , تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا , ينضح بالكنود والجحود , ويتسم بالغلظة والحماقة , ويفيض بسوء الأدب والقحة ; ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة . حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور . . (الظلال)
***************
وفاتهم أنهم قد يرضون المسلمين ( إذا كان المسلمون أقوياء مرهوبي الجانب ) بأفواههم وتأبى قلوبهم ذلك
قال تعالى : ( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:8)
إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة , وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله . فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله ?
إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبدا مثلهم , ولا منهجا من مناهج العبيد من أمثالهم . إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم ; وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود إبتداء . .
فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله ?
هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكارى . .
وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته ; لا على حالة معينة من حالاته . .
وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلا ; وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها . وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة . عهود مع اليهود وعهود مع المشركين . وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة . وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود ; وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة . .
فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا , فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد ?!
وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها . . لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له ; أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . . كانت أحكاما مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله ; وأن تكون الدينونة لله وحده . .
ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحدا . فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه ; وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات . وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل . فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي الأخير ; كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوتة من جانبهم هم أنفسهم . وأنهم لابد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم ; وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه ; ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته . .
ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) . . وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة !
وقولة الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة !
ومع استنكار الأصل , فقد أذن الله - سبحانه - بإتمام عهود ذوي العهود . الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتها , مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد - في هذه المدة - من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام , فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم , إن الله يحب المتقين) .(1/10)
وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى:
(إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم , إن الله يحب المتقين) . .
كما فهم بعض المفسرين المحدثين . .
فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها , لاستثنائها من هذا العموم . وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول . .
وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد . كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول . ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي , وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص - كما أسلفنا - لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد , كما هو ظاهر ومتعين .
ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية ; بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية ; ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية:
(كيف ? وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة , يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون , اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله , إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة , وأولئك هم المعتدون) . .
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله , وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم . ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم , وفي غير ذمة يرعونها لكم ; أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم !
فهم لا يرعون عهدا , ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ; ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها . فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم , لو أنهم قدروا عليكم . مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة . فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود ; إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم ! . .
وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد . فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد ; وتأبى أن تقيم على العهد ; فما بهم من وفاء لكم ولا ود !
(وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله . إنهم ساء ما كانوا يعملون) .
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم , وإضمار عدم الوفاء بعهودكم , والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم . .
إنه الفسوق عن دين الله , والخروج عن هداه , فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته . وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئا من مصالحهم ; أو أن يكلفهم شيئا من أموالهم ! فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم [ فسيجيء أنهم أئمة الكفر ] . .
أما فعلهم هذا فهو الفعل السيء الذي يقرر الله سوءه الأصيل: (إنهم ساء ما كانوا يعملون !) . .
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ; ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم . .
إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ; ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم . .
إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها . .
للإيمان ذاته .
. كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين , على مدار التاريخ والقرون . . فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل: (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) . . وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب بتوجيه من ربه: (قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ?) وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين:(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) . فالإيمان هو سبب النقمة , ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن , ولا يراعون فيه عهدا ولا يتذممون من منكر: لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة , وأولئك هم المعتدون . .
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم . .
تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه ; وتنتهي بالوقوف في وجهه ; وتربصهم بالمؤمنين ; وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة ; إذا هم ظهروا عليهم ; وأمنوا بأسهم وقوتهم . وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم , ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم . . وهم آمنون . . !
ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين:
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين , ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) . .
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ; ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك . لا يقعدهم عهد معقود , ولا ذمة مرعية , ولا تحرج من مذمة , ولا إبقاء على صلة . .
ووراء هذا التقرير تاريخ طويل , يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل , ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم !(1/11)
هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي ; بالإضافة الى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده , وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد . .
يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه , بهذا الحسم الصريح:
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) . .
(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) . .
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون , وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء . وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين ; وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة , ويصبح المسلمون الجدد إخوانا للمسلمين القدامى ; ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب !
(ونفصل الآيات لقوم يعلمون) . .
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنين .
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه , وطعن في دين المسلمين . فهم إذن أئمة في الكفر , لا أيمان لهم ولا عهود . وعندئذ يكون القتال لهم ; لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى . .
كما سبق أن قلنا:إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوبا كثيرة إلى الصواب ; وتريهم الحق الغالب فيعرفونه ; ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق ; ولأن وراءه قوة الله ; وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله . فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى . لا كرها وقهرا , ولكن اقتناعا بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب . كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين .
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين - على مدى التاريخ - من المؤمنين . ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية ; ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة . ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة .
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى . ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة:
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة !
يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم , وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله , إنهم ساء ما كانوا يعملون . ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة , وأولئك هم المعتدون . .
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين . فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة ; وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ . .
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إنما ختم بهذه الرسالة . وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق ; فإن أبعاد المعركة تترامى ; ويتجلى الموقف على حقيقته ; كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة , على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء !
ماذا صنع المشركون مع نوح , وهود , وصالح , وإبراهيم , وشعيب , وموسى , وعيسى , عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم ? ثم ماذا صنع المشركون مع محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به كذلك ? . .
إنهم لم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم . .
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار ?
ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان ? . . .
إنهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة , كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد . .
عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ "البداية والنهاية " لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656ه:
"ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان . ودخل كثير من الناس في الآبار , وأماكن الحشوش , وقنى الوسخ , وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون . وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات , ويغلقون عليهم الأبواب , فتفتحها التتار , إما بالكسر وإما بالنار , ثم يدخلون عليهم , فيهربون منهم إلى أعالى الأمكنة , فيقتلونهم بالأسطحة , حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة - فإنا لله وإنا إليه راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط . ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم , وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي , وطائفة من التجار أخذوا أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم . وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب , ليس فيها إلا القليل من الناس , بوقوعه:وهم في خوف وجوع وذلة وقلة . .(1/12)
"وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة . فقيل ثمانمائة ألف . وقيل:ألف ألف . وقيل:بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله وإنا إليه راجعون , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم . وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما . .
وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر , وعفى قبره , وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر . ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام . وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد , وله خمس وعشرون سنة . ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبدالرحمان وله ثلاث وعشرون سنة , وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم . .
"وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي , وكان عدو الوزير ;وقتل أولاده الثلاثة:عبدالله وعبدالرحمن وعبدالكريم , وأكابر الدولة واحدا بعد واحد . منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك , وشهاب الدين سليمان شاه , وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد . . وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس , فيخرج بأولاده ونسائه , فيذهب إلى مقبرة الخلال , تجاه المنظرة , فيذبح كما تذبح الشاة , ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه . . وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار . وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن . وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد . .
"ولما انقضى الأمر المقدر , وانقضت الأربعون يوما , بقيت بغداد خاوية على عروشها , ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس , والقتلى في الطرقات كأنها التلول , وقد سقط عليهم المطر , فتغيرت صورهم , وأنتنت من جيفهم البلد , وتغير الهواء , فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام , فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح , فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون . فإنا لله وإنا إليه راجعون . .
"ولما نودي ببغداد بالأمان , خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ; وقد أنكر بعضهم بعضا , فلا يعرف الوالد ولده , ولا الأخ أخاه , وأخذهم الوباء الشديد . فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى . . " الخ الخ .
هذه صورة من الواقع التاريخي , حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة . فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات , اختص بها التتار في ذلك الزمان ?
كلا !
إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة ّ ! . .
إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد . .
إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط !
أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق . . طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية , فذبحتهم كالخراف على طول الطريق , وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش , بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة , لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد ! . . .
أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان , حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف . . ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى [ ممر خيبر ] . . وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار ! . . لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة , القطار في النفق . ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء ! . .
وصدق قول الله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . . وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى .
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك ? . . . لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا . . بمعدل مليون في السنة . .
وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق . . ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان . وفي هذا العام وقع في القطاع الصينيمن التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار . . لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين , فحفرت له حفرة في الطريق العام . وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب , أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية [ التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتسخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام !!! ] فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته . . وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات !(1/13)
كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها . حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم . وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالا ونساء في "مفارم" اللحوم التي تصنع لحوم [ البولوبيف ] ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن !!!
وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية . . الآن . . في هذا الزمان . .
ويصدق قول الله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ?) .(لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة , وأولئك هم المعتدون) . .
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية . ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد . . إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية ; حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده ; ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله . في كل زمان وفي كل مكان .
ومن ثم فإن تلك النصوص - وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة , وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة - إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان . لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائما في كل زمان وفي كل مكان . والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية , ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان . . (الظلال)
==============
سقوط تلك الدعوات الجبانة الخائرة
أقول :
وما يجري الآن في العالم الإسلامي من قتل وتدمير ونهب وسلب لخيرات المسلمين ( من قبل ( اليهود والنصارى ) أمام شاشات التلفزة العالمية دون حسيب ولا رقيب لهو أكبر شاهد على سقوط تلك الدعوات الجبانة الخائرة البعيدة عن الإسلام بعد المشرقين
كما أن الكفر كله ملة واحدة، فالكل متفق على القضاء علينا من أمريكا حتى استراليا ولكن أعين المبهورين بالغرب وعفنه لا يبصرون
قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)
بعضهم أولياء بعض . .
إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن . .
لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء . .
إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ . .
وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة . .
لقد ولي بعضهم بعضا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة في المدينة وولي بعضهم بعضا في كل فجاج الأرض , على مدار التاريخ . .
ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة ; ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم , في صيغة الوصف الدائم , لا الحادث المفرد . .
واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو . .
بعضهم أولياء بعض . .
ليست مجرد تعبير !
إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل !
ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها . . فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم , يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف "الإسلام" وينضم إلى الصف الآخر . لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية:
(ومن يتولهم منكم فإنه منهم) . .
وكان ظالما لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة . . وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه . ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) . .
لقد كان هذا تحذيرا عنيفا للجماعة المسلمة في المدينة . ولكنه تحذير ليس مبالعا فيه . فهو عنيف . نعم ; ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة . فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى - وبعضهم أولياء بعض - ثم يبقى له إسلامه وإيمانه , وتبقى له عضويته في الصف المسلم , الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا . . فهذا مفرق الطريق . .
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينة وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام ; وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام ; ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملا ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف - أول ما تستهدف - إقامة نظام واقعي في الأرض فريد ; يختلف عن كل الأنظمة الأخرى ; ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى . .
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم , الذي لا أرجحة فيه ولا تردد , بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس - بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه , منهج متفرد ; لا نظير له بين سائر المناهج ; ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ; ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ; ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ; ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه:
الاعتقادية والاجتماعية ; لم يأل في ذلك جهدا , ولم يقبل من منهجه بديلا - ولا في جزء منه صغير - ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي , ولا في نظام اجتماعي , ولا في أحكام تشريعية , إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب . .(1/14)
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو - وحده - الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ; في وجه العقبات الشاقة , والتكاليف المضنية , والمقاومة العنيدة , والكيد الناصب , والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان . .
وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره - مما هو قائم في الأرض من جاهلية . . سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك , أو في انحراف أهل الكتاب , أو في الإلحاد السافر . .
بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي , إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ; يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة ?
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة , باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية , يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح . فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله . والتسامح يكون في المعاملات الشخصية , لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي . .
إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام , وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ; ولا يقبل فيه تعديلا - ولو طفيفا - هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر: (إن الدين عند الله الإسلام) . .
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) . .
(واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) . .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . .
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) . .
وفي القرآن كلمة الفصل . . ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين !
ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ; والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم , يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) . .
روى ابن جرير , قال:حدثنا أبو كريب , حدثنا إدريس , قال:سمعت أبي , عن عطية بن سعد . قال:جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله . إن لي موالي من يهود كثير عددهم ; وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود , وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي [ رأس النفاق ]:إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي:" يا أبا الحباب . ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه " ! قال:قد قبلت ! فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) . . .
وقال ابن جرير . "حدثنا هناد , حدثنا يونس بن بكير , حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري , قال:لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود:أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن الصيف:أغركم أن أصبتم رهطا من قريش , لا علم لهم بالقتال ? أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة بن الصامت:يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم , كثيرا سلاحهم , شديدة شوكتهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود , ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي:لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لا بد لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت ? فهو لك دونه ! " فقال:إذن أقبل . .
قال محمد بن إسحق:فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع . فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة . قال:فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول - حين أمكنة الله منهم - فقال:يا محمد أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال:فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال:يا محمد أحسن في موالي . قال:فأعرض عنه . قال:فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرسلني " وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا . ثم قال:" ويحك ! أرسلني " . قال:لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربعمائة حاسر , وثلاثمائه دارع , قد منعوني من الأحمر والأسود , تحصدهم في غداة واحدة ? إني امرؤ أخشى الدوائر . قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هم لك " . .
قال محمد بن إسحق:فحدثني أبي إسحق بن يسار , عن عبادة , عن الوليد بن عبادة بن الصامت , قال:لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم ; ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج . له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم , وقال:يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم , وأتولى الله ورسوله والمؤمنين , وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم . ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء , بعضهم أولياء بعض) إلى قوله:(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) .(1/15)
وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زيادة , عن محمد بن إسحاق , عن الزهري , عن عودة , عن أسامة بن زيد , قال:"دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبى نعوده , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " قد كنت أنهاك عن حب يهود " فقال عبدالله:فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات . . [ وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحق ]
فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ; والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ; وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم . . غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود , ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى . . ولكن النص يجمل اليهود والنصارى . . ذلك أنه بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى , سواء من أهل الكتاب أو من المشركين [ كما سيجيء في سياق هذا الدرس ] . .
ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي , ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا , ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . . . الخ. .
مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك , فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى - كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار . . فيما يختص بقضية المحالفة والولاء . ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة . هي:أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ; وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة . . ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر . . مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف . .
على أن الله - سبحانه - وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة , كان علمه يتناول الزمان كله , لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وملابساتها الموقوتة . .
وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود . . وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام , فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب , قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن , وشنت عليه من الحرب والكيد , ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان ! حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام , عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ; لا يجاريها في هذا إلا اليهود . .
وكان الله - سبحانه - يعلم الأمر كله . فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة . بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة ! وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان .
وما يزال الإسلام والذين يتصفون به - ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء - يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض , ما يصدق قول الله تعالى:(بعضهم أولياء بعض) . .
وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم . بل بأمره الجازم , ونهيه القاطع ; وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله , وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله . .
إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة . فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة . . ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء - وهو التناصر - بين المسلم وغير المسلم ; إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة . .
ولا حتى أمام الإلحاد مثلا - كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن ! - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه ?
إن بعض من لا يقرأون القرآن , ولا يعرفون حقيقة الإسلام ; وبعض المخدوعين أيضا . .
يتصورون أن الدين كله دين ! كما أن الإلحاد كله إلحاد !
وأنه يمكن إذن أن يقف "التدين" بجملته في وجه الإلحاد . لأن الإلحاد ينكر الدين كله , ويحارب التدين على الإطلاق . .
ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ; ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام . ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة , وحركة بهذه العقيدة , لإقامة النظام الإسلامي .
إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد . . الدين هو الإسلام . .
وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام . .
لأن الله - سبحانه - يقول هذا . يقول: (إن الدين عند الله الإسلام) . .
ويقول: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) . . وبعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا "الإسلام" . .
في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل . كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام , لم يعد يقبل منهم بعد بعثته . .(1/16)
ووجود يهود ونصارى - من أهل الكتاب - بعد بعثه محمد صلى الله عليه وسلم - ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ; أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي . . لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير . .
أما بعد بعثته فلا دين - في التصور الإسلامي وفي حس المسلم - إلا الإسلام . .
وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل . .
إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام . .
لأنه (لا إكراه في الدين) ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه "ديناً ويراهم على دين" . .
ومن ثم فليس هناك جبهه تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد !
هناك "دين" هو الإسلام . .
وهناك "لا دين" هو غير الإسلام . .
ثم يكون هذا اللادين . .
عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفه , أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها . أو إلحاداً ينكر الأديان . .
تختلف فيما بينها كلها . .
ولكنها تختلف كلها مع الإسلام . ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء . .
والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ; وهو مطالب بإحسان معاملتهم - كما سبق - ما لم يؤذوه في الدين ; ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن - على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته , وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابيه تحل أم مشركة تحرم - وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامه . . فإن حسن المعاملة وجواز النكاح , ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ; وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو دين يقبله الله ; ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهة واحدة لمقاومة الإلحاد !
إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ; كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء .
ودعاهم إلى الإسلام جميعاً , لأن هذا هو "الدين" الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً . ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام , وكبر عليهم أن يدعوا إليه , جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام , فإن تولوا عنه فهم كافرون !
والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام , كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء . وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام . لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه . فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه , هو كذلك لا ثمره له .
ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو دين يقبله الله . .
ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام ! . .
إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ; هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين . وأنه يدعوهم إلى الدين .
وإذا تقررت هذه البديهيه , فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض , مع من لا يدين بالإسلام . إن هذه القضيه في الإسلام قضيه اعتقاديه إيمانيه . كما أنها قضيه تنظيميه حركيه !
من ناحيه أنها قضيه إيمانيه اعتقاديه نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه , وبالرجوع إلى النصوص القرآنية القاطعة بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب .
ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك . . فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة - وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج , وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة . .
فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ; ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام - إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا - (والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) . .
والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام . . ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام . . لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي . . ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام , أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه , كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه ! . .
إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء . .
ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول , وهو من الذين في قلوبهم مرض , عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود , والاستمساك بحلفه معها , هي قوله:إنني رجل أخشى الدوائر !
إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة , وأن تنزل بنا الضائقة . . وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان . .
فالولي هو الله ; والناصر هو الله ; والاستنصار بغيره ضلالة , كما أنه عبث لا ثمرة له . .
ولكن حجة ابن سلول , هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان ; وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب , لا يدرك حقيقة الإيمان . .(1/17)
وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا . لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به , حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول ! إنهما نهجان مختلفان , ناشئان عن تصورين مختلفين , وعن شعورين متباينين , ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان !
ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم , المتألبين عليهم , المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم . .
يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ; أو يكشف المستور من النفاق .
(فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده , فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) .
وعندئذ - عند الفتح - سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله - يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض , على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره , وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين , ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران !
(ويقول الذين آمنوا:أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ? حبطت أعمالهم , فأصبحوا خاسرين !) . .
ولقد جاء الله بالفتح يوما , وتكشفت نوايا , وحبطت أعمال , وخسرت فئات . ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح , كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده . وكلما وعينا منهج الله , وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا . وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه . فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا . ( الظلال)
================
الكفار بعضهم أولياء بعض
وقال تعالى :
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (لأنفال:73)
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . .
إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . .
إنها تستهدف(الإسلام) . .
إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . .
وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . .
جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . .
ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته . .
هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق !(1/18)
إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد . ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . .
إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . .
أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . .
وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . .
وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . .
أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد !
وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . .
لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .(1/19)
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . .
هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . .
ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . .
وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . .
ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ; ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ; ويحقق فيها وجوده الكامل ; بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا , بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي , مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة , أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة , ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ; ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ; ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع , لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر , إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) . .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ; ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . .
ولكن هناك رابطة العقيدة ; وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ; اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ; فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا , كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم ! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً , حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا , ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
والتعقيب على هذا الحكم: (والله بما تعملون بصير) . .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه , ومقدماته ونتائجه , وبواعثه وآثاره
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد , فكذلك المجتمع الجاهلي: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) . .
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ; إنما يتحرك ككائن عضوي , تندفع أعضاؤه , بطبيعة وجوده وتكوينه , للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . .
ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص , ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض , فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ; وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ; ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير . .
والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة , يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض , وتبعة هذا الفساد الكبير .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة:(1/20)
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) . .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . .
إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ; ولا بمجرد اعتناقها ; ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . .
إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي , إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي , لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
وهؤلاء المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . .
والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين , كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) . .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ; حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته , وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ; لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام , وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . .
فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ; وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض , وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها , ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية , حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ; ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ; كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة , وتكاليفها الخاصة . .
قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم , في كل صوره وأشكاله , وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . .
فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية , اللازمة لعملية البناء الأولى , المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . .
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام , من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية , ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . .
إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ; ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ; فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة , التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام , التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . .
وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ; وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
إن الله بكل شيء عليم . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر , وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
ويقول عليه شآبيب الرحمة :
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ; ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ; ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان" وتقويتها وتمكينها , وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ; ومرة بأنه مادة كسائر المواد !
ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده ; وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا , فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق ; فيبرزها وينميها ويعليها . .
وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي , التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة , إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص" . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب , ولا اللغة , ولا الأرض , ولا الجنس , ولا اللون , ولا المصالح , ولا المصير الأرضي المشترك . .(1/21)
فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع , وإلى اهتمامات القطيع , وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع !
أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده , ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ; كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله , ومصيره ومصير الكون من حوله ; وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى , فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق , والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ; والذي يقرر "إنسانيته" في أعلى مراتبها ; حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ; يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً , لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ; ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ; ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد , لم يكن له فيها اختيار , ولا يملك فيها حيلة . .
كذلك مولده في أرض بعينها , ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد , وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ; ومجال "الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . .
فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج , فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني , ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ; وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ; فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه , أو الأرض التي ولد فيها , أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة !
ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . .
كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة !
وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ; وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ; وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ; وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:
العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما "عربية " إنما كانت دائماً "إسلامية " . ولم تكن يوماً ما "قومية " إنما كانت دائماً "عقيدية " .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب , وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ; وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ; وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ; وتبرز فيها "إنسانيتهم" وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ; ولغات متعددة , وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة "إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية , وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . .
ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . .
ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه !
تجمعاً قومياً استغلالياً ; يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . .
وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . .(1/22)
هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" ; وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . .
وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق . . وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ; ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ; ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه "البهائم" من الحظيرة والكلأ ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه "الناس" !
وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية , وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة ; وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها ; لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة . . خصيصة الإنسان العليا . .
ولكن الله غالب على أمره . .
وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء . . وسيكون ما يريده الله حتماً . .
وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها . والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق . وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق , تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام . . ( الظلال)
==================
وكذلك في دعوة هؤلاء التنازلية لن يبقوا من الإسلام شيء
والشروط العمرية مما جرى بها العمل في جميع أمصار الإسلام
وهي في الأصل مستقاة من القرآن والسنة أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن أمير المؤمنين عمر ما هذا نصه ؟؟؟
ففي سنن أبي داود (2964 )عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ ».(صحيح لغيره)
وفي سنن الترمذي (4046 )عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ ». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عُمَرُ أَوْ قَالَ ابْنُ الْخَطَّابِ فِيهِ شَكَّ خَارِجَةُ إِلاَّ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ عُمَرُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَأَبِى ذَرٍّ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ( وهو كما قال )
وفي مسند أحمد (846) عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِىِّ قَالَ خَطَبَنَا عَلِىٌّ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا فَقُلْتُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ لاَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. وهو حديث صحيح مشهور
فإذا كان عمر رضي الله عنه ظالما للنصارى فمعنى ذلك أن جميع المسلمين ظالمين لهم بلا خلاف .
ومن ثمَّ كان مما قاله ذلك الحاقد على الإسلام (( ممثل الكنيسة )) نحن لا نقول : بأن القرآن ومحمد قد ظلمونا ولكن الذي ظلمنا المسلمون !!!!!
إنها كلمة حق يراد بها باطل فإذا كان المسلمون الذين قال الله تعالى فيهم :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)
وقال عنهم :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)
وقال عنهم :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)(1/23)
وقال عنهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
فإذا كان المسلمون الذين نزل عليهم القرآن وأكرمهم الله تعالى بهذه الكرامات ظالمين لأهل الكتاب فعلى الدنيا السلام .
فهم إذن يطعنون بالمسلمين ليصلوا إلى الطعن بديننا وأنه دين مثالي وأن المسلمين لم يلتزموا به .
وهذا أكبر طعن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنهما قد أساءا الاختيار إذن !!!!!
ولذا يجب الانتباه لأمثال هذه الدعوات الفاجرة الكاذبة
يقول العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله :(1)
عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله , وتحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية ":"الأئمة المسلمون وخصائصهم":
"ظهر المسلمون , وتزعموا العالم , وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ,وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا , وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم , وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم . " أولا:أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء , وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس , وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?) وقد قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط , ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) .
ثانيا:- أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس , بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق , يزكيهم ويؤدبهم , ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله , وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله , أو أحدا حرص عليه " .
ولا يزال يقرع سمعهم:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) . .
فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب , فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة , ويزكوا أنفسهم , وينشروا دعاية لها , وينفقوا الأموال سعيا وراءها . فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد ; بل عدوه أمانة في عنقهم , وامتحانا من الله ; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم , ومسؤولون عن الدقيق والجليل , وتذكروا دائما قول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) . . وقوله . . (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض , ورفع بعضكم فوق بعض درجات , ليبلوكم فيما آتاكم) . .
"ثالثا:أنهم لم يكونوا خدمة جنس , ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان , لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما , ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:
الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فالأمم عندهم سواء , والناس عندهم سواء . الناس كلهم من آدم , وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا:خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر -:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم ? فلم يبخل هؤلاءبما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد , ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا , بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد , وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر , وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة , وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد , بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل , وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
__________
(1) - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - (ج 1 / ص 112)(1/24)
"رابعا:إن الإنسان جسم وروح , وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح , لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها , ويتغذى غذاء صالحا , ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة , ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية , وأصحاب عقول سليمة راجحة , وعلوم صحيحة نافعة " . . .
إلى أن يقول تحت عنوان:"دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة ":
"وكذلك كان , فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . .
كانت حكومة من أكبر حكومات العالم , وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها , تسود فيها المثل الخلقية العليا , وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم , وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة , ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة , فتقل الجنايات , وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها , وتحسن علاقة الفرد بالفرد , و الفرد بالجماعة , وعلاقة الجماعة بالفرد . وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه , ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . "
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده , وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين منها هذا الضياع التي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان , والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر , والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور , وإذا هى كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح ! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل , وفي الحياة الباقية , وفي عالم الحقيقة , هناك الربح والخسر:ربح الجنة والرضوان , أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له , أو يرتكس فتهدر آدميته , وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا) . .
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . .(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة , التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة "العصر" ثم يسلم أحدهما على الآخر . .
لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي , يتعاهدان على الإيمان والصلاح , ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور .
ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . ."
ويقول السيد عليه الرحمة :(1)
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام , فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج , ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية , وأفادتها من قرون السبي في بابل , والعبودية في مصر , والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ , فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ; وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة: (ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) .
ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين , وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 413)(1/25)
حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض ; وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة , وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين , ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) . .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ; وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ; وبين قريش في مكة , وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام , وجمع الشراذم , وأطلق الشائعات , في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . .
يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الروايات والسير . .
يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ; ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال "الدستور" بها في عهد السلطان عبد الحميد , ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي "البطل" أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . .
يهودي . .
ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . .
ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا , وأعرض مجالا , من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ; ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . .
[ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية , التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول:
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) . .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . .
ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي , فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة , التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام , فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . .
ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . .
ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
===============
ويجب أن نعلم أن الصراع بين الحق والباطل باق إلى قيام الساعة
قال تعالى : ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
إن المسلمين لم يبدؤوا القتال , ولم يبدؤوا العدوان . إنما هم المشركون . هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله , والكفر به وبالمسجد الحرام . لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله . ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون . ولقد كفروا بالمسجد الحرام . انتهكوا حرمته ; فآذوا المسلمين فيه , وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة . وأخرجوا أهله منه , وهو الحرم الذي جعله الله آمنا , فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته . .
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام . .
وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل . وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام . ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ; الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون , وينتهكون قداستها حين يريدون !
وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم , لأنهم عادون باغون أشرار , لا يرقبون حرمة , ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة !
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل . وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه , لتشويه موقف الجماعة المسلمة , وإظهارها بمظهر المعتدي . . وهم المعتدون ابتداء . وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
إن الإسلام منهج واقعي للحياة , لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها , ولا ترفرف في خيال حالم , ورؤى مجنحة:لا تجدي على واقع الحياة شيئا(1/26)
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزنا , ولا يتحرجون أمام الحرمات , ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه , ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء , ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ! . .
ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام , ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات , ويرفعون أصواتهم:انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !
فكيف يواجههم الإسلام ? يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة ? إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح , بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح , ولا يتورعون عن سلاح . . !
كلا إن الإسلام لا يصنع هذا , لأنه يريد مواجهة الواقع , لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر , وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة , ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة , وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة !
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات , ويشدد في هذا المبدأ ويصونه . ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات , ويؤذون الطيبين , ويقتلون الصالحين , ويفتنون المؤمنين , ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان !
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . .
إنه يحرم الغيبة . .
ولكن لا غيبة لفاسق . .
فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني (إلا من ظلم) . .
فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول , لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه !
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . .
إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم , وإلى قتالهم وقتلهم , وإلى تطهير جو الحياة منهم . .
هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة , وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . . حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . .
صريحا واضحا قويا دامغا , لا يلف ولا يدور ; ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة , لا تتأرجح فيها أقدامهم , وهم يمضون في سبيل الله , لتطهير الأرض من الشر والفساد , ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . .
هذا شر وفساد وبغي وباطل . .
فلا حرمة له إذن , ولا يجوز أن يتترس بالحرمات , ليضرب من ورائها الحرمات !
وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ; في سلام مع ضمائرهم , وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة , وتمكين هذه القاعدة , وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . .
يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم , وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) . .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ; بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل , ويرهبه كل باغ , ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج , ومن منهج قويم , ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون .ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه , ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم , وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين , وتتبع هذا المنهج , وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته , ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره , وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . .
والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام , وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد , والصبر على الحرب , وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل , فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره , وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !(1/27)
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . .
حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . .
والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . .
وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا:إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة .
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله ; لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان:
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله , والله غفور رحيم) . .
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا . .
ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا , حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة . وفازوا بمغفرة الله ورحمته:
(والله غفور رحيم) . .
وهو هو طريق المؤمنين . . (1)
===============
لا يجوز التنازل عن شيء من الدين
وإذا كان المسلمون لا يملكون شيئا وضعفاء ومشردين في الأرض فلا يعني ذلك أن يتنازل المسلمون عن دينهم ولا عن جزء منه أبدا مهما أصابهم من محن وشدائد
والكفار يقولون لنا دائما و كل العصور كما قال تعالى :
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (العنكبوت:12)
يقول السعدي رحمه الله :(2)
يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم، وفي ضمن ذلك، تحذير المؤمنين من الاغترار بهم والوقوع في مكرهم، فقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا } فاتركوا دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا، فإننا نضمن لكم الأمر { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } وهذا الأمر ليس بأيديهم، فلهذا قال: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير. فهذا التحمل، ولو رضي به صاحبه، فإنه لا يفيد شيئا، فإن الحق للّه، واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في حقه إلا بأمره وحكمه، وحكمه { أن لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
ولما كان قوله: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ } قد يتوهم منه أيضا، أن الكفار الداعين إلى كفرهم -ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه، دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: [مخبرا عن هذا الوهم]
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها { وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع]، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره، والمتبوع [لأنه] تسبب في فعله ودعا إليه، كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها بالمباشرة، وللداعي أجره بالتسبب. { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } من الشر وتزيينه، [وقولهم] { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ }
ويقول تعالى عنهم : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } {النساء 26 - 28 }
إن الله - سبحانه - يتلطف مع عباده ; فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم , ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر . إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق . الأفق الذي يحدثهم فيه , ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم ; وليقول لهم:إنه يريد:أن يبين لهم . .
(يريد الله ليبين لكم) . .
يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ; ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة , وأن تتدبروها , وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب ; فهي ليست معميات ولا ألغازا ; وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية ; وأنتم أهل لإدراك حكمتها ; وأهل لبيان هذه الحكمة لكم . .
وهو تكريم للإنسان , يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , فيدركون مدى هذا التلطف الكريم .
(ويهديكم سنن الذين من قبلكم) . .
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا . وهو منهج ثابت في أصوله , موحد في مبادئه , مطرد في غاياته وأهدافه . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 31) وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 206)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 627)(1/28)
هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد . ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون .
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ; ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ; ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول , في الطريق اللاحب الطويل . وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه . .
إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله , تجمعها آصرة المنهج الإلهي , على اختلاف الزمان والمكان , واختلاف الأوطان ; والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل , ومن كل قبيل .
(ويتوب عليكم) . .
فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم , ليرحمكم . . .
ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل , والتوبة من المعصية . ليمهد لكم الطريق , ويعينكم على السير فيه . .
(والله عليم حكيم) . .
فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . .
(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) . .
وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته , وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات , ويحيدون عن منهج الله - وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام , وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع , وشهوة تطاع , وانحراف وفسوق وضلال .
فماذا يريد الله بالناس , حين يبين لهم منهجه , ويشرع لهم سنته ?
إنه يريد أن يتوب عليهم . يريد أن يهديهم . يريد أن يجنبهم المزالق . يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة .
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات , ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله , ولم يشرعها لعباده ? إنهم يريدن لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد , والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم .
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة:ميدان تنظيم الأسرة ; وتطهير المجتمع ; وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة , التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء ; وتحريم ما عداها من الصور , وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون . . في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات ?
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة . وفيها إرادة التنظيم , وإرادة التطهير , وإرادة التيسير , وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال .
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال:ديني , أو أخلاقي , أو اجتماعي . .
يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح , من أي لون كان . السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب , ولا يسكن معه عصب , ولا يطمئن معه بيت , ولا يسلم معه عرض , ولا تقوم معه أسرة . يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم , ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة !
كل هذا الدمار , وكل هذا الفساد , وكل هذا الشر باسم الحرية , وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة !
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه , وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات . وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي , الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف . وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي , الذي لا عاصم منه , إلا منهج الله , حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله .
واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان , فيما يشرعه له من منهج وأحكام . والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه , ومراعاة اليسر فيما يشرع له , ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار .
(يريد الله أن يخفف عنكم , وخلق الإنسان ضعيفا) . .
فأما في هذا المجال الذي تستهدفه الآيات السابقة , وما فيها من تشريعات وأحكام وتوجيهات , فإرادة التخفيف واضحة ; تتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة , وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المأمون المثمر , وفي الجو الطاهر النظيف الرفيع ; دون أن يكلف الله عباده عنتا في كبتها حتى المشقة والفتنة ; ودون أن يطلقهم كذلك ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد ولا قيد .
وأما في المجال العام الذي يمثله المنهج الإلهي لحياة البشر كلها فإرادة التخفيف تبدو كذلك واضحة ; بمراعاة فطرة الإنسان , وطاقته , وحاجاته الحقيقية ; وإطلاق كل طاقاته البانية . ووضع السياج الذي يقيها التبدد وسوء الاستعمال !
وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله - وبخاصة في علاقات الجنسين - شاق مجهد . والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح !
وهذا وهم كبير . . .
فإطلاق الشهوات من كل قيد ; وتحري اللذة - واللذة وحدها - في كل تصرف ; واقصاء "الواجب" الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والاخير ; وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم ; والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي , ومن كل التزام اجتماعي . .(1/29)
إن هذه كلها تبدو يسرا وراحة وانطلاقا . ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة . وعقابيلها في حياة المجتمع - بل في حياة كل فرد - عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة .
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي "تحررت ! " من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة , يكفي لإلقاء الرعب في القلوب . لو كانت هنالك قلوب !
لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة . حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية . وهذه الفوضى ذاتها هي التي اخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة ; وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى ;وبدأت هذه الآثار تظهر في أمريكا والسويد وانجلترا , وغيرها من دول الحضارة الحديثة .
وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة , مما جعلها تركع على أقدامها في كل حرب خاضتها منذ سنة 1870 إلى اليوم , وهي في طريقها إلى الانهيار التام , كما تدل جميع الشواهد . وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو وأضحة من بعد الحرب العالمية الأولى:
"إن أول ما قد جر على الفرنسيين تمكن الشهوات منهم:اضمحلال قواهم الجسدية , وتدرجها إلى الضعف يوما فيوما . فإن الهياج الدائم قد أوهن أعصابهم ; وتعبد الشهوات يكاد يأتي على قوة صبرهم وجلدهم ; وطغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم . فمن أوائل القرن العشرين لا يزال حكام الجيش الفرنسي يخفضون من مستوى القوة والصحة البدنية المطلوب في المتطوعة للجند الفرنسي , على فترة كل بضع سنين . لأن عدد الشبان الوافين بالمستوى السابق من القوة والصحة لا يزال يقل ويندر في الأمة على مسير الأيام . . وهذا مقياس أمين , يدلنا كدلالة مقياس الحرارة - في الصحة والتدقيق - على كيفية اضمحلال القوى الجسدية في الأمة الفرنسية . ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال:الأمراض السرية الفتاكة . يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل , وتبعث بهم إلى المستشفيات , في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى , لكونهم مصابين بمرض الزهري , خمسة وسبعين الفا . وابتلي بهذا المرض وحده 242 جنديا في آن واحد في ثكنة متوسطة . وتصور - بالله - حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه - بجانب - في المضيق الحرج بين الحياة والموت , فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها . وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر ; وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع . وكان - بجانب آخر - أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع , من جراء انغماسهم في اللذات ; وما كفى أمتهم ذلك خسرانا , بل ضيعوا جانبا من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم , في تلك الأوضاع الحرجة .
"يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه:إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري , وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة . وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى [ الدق ] . وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها عدا هذا أمراض كثيرة أخرى " .
والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير:ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي , وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد , لا تدع مجالا لتكوين الأسرة , ولا لاستقرارها ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر . ومن ثم يقل الزواج , ويقل التناسل , وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية .
"سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم . ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها . ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج , قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض . حتى إنه كثيرا ما يكون من مقاصد زواجهم أن يحللوا به الولد النغل الذي قد ولدته أمه قبل النكاح ! ويتخذوه ولدا شرعيا !
فقد كتب "بول بيورو":من العادة الجارية في طبقة العاملين في فرنسا أن المرأة منهم تأخذ من خدنها ميثاقا قبل أن يعقد بينهما النكاح , أن الرجل سيتخذ ولدها الذي ولدته قبل النكاح ولدا شرعيا له . وجاءت امرأة في محكمة الحقوق بمدينة سين فصرحت:إنني كنت قد آذنت بعلي عن النكاح بأني لا أقصد بالزواج إلا استحلال الأولاد الذين ولدتهم نتيجة اتصالي به قبل النكاح . وأما أن أعاشره وأعيش معه كزوجة , فما كان في نيتي عند ذاك , ولا هو في نيتي الآن . ولذلك اعتزلت زوجي في أصيل اليوم الذي تم فيه زواجنا , ولم ألتق به إلى هذا اليوم , لأني كنت لا أنوي قط أن أعاشره معاشرة زوجية .
"قال عميد كلية شهيرة في باريس لبول بيورد:
إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح استخدام بغي في بيتهم أيضا . ذلك أنهم يظلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أحرارا طلقاء . ثم يأتي عليهم حين من دهرهم يملون تلك الحياة الشريدة المتقلقلة , فيتزوجون بامرأة بعينها , حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته , ولذة المخادنة الحرة خارج البيت" .
وهكذا تدهورت فرنسا . وهكذا هزمت في كل حرب خاضتها , وهكذا تتوارى عن مسرح الحضارة ثم عن مسرح الوجود يوما بعد يوم . حتى تحق سنة الله التي لا تتخلف ; وإن بدت بطيئة الدوران في بعض الأحيان !
بالقياس إلى تعجل الإنسان !(1/30)
أما في الدول التي لا تزال تبدو فتية , أو لم تظهر فيها آثار الدمار واضحة بعد , فهذه نماذج مما يجري فيها:
يقول صحفي ممن زاروا السويد حديثا . .
بعد أن يتحدث عن "حرية الحب" في السويد , وعن الرخاء المادي , والضمانات الاجتماعية في مجتمعها الاشتراكي النموذجي:
"إذا كانت أقصى أحلامنا أن نحقق للشعب هذا المستوى الاقتصادي الممتاز ; وأن نزيل الفوارق بين الطبقات بهذا الاتجاه الاشتراكي الناجح ; وأن نؤمن المواطن ضد كل ما يستطيع أي عقل أن يتصوره من أنواع العقبات في الحياة . .
إذا وصلنا إلى هذا الحلم البهيج الذي نسعى بكل قوانا وإمكانياتنا إلى تحقيقه في مصر . . . فهل نرضى نتائجه الأخرى ? هل نقبل الجانب الأسود من هذا المجتمع المثالي ? هل نقبل "حرية الحب" وآثارها الخطيرة على كيان الأسرة ?
"دعونا نتحدث بالأرقام . . "
"مع وجود كل هذه المشجعات على الاستقرار في الحياة , وتكوين أسرة , فإن الخط البياني لعدد سكان السويد يميل إلى الانقراض ! . .
مع وجود الدولة التي تكفل للفتاة إعانة زواج ; ثم تكفل لطفلها الحياة المجانية حتى يتخرج في الجامعة , فإن الأسرة السويدية في الطريق إلى عدم إنجاب أطفال على الإطلاق !
"يقابل هذا انخفاض مستمر في نسبة المتزوجين . وارتفاع مستمر في نسبة عدد المواليد غير الشرعبين . مع ملاحظة أن عشرين في المائة من البالغين الأولاد والبنات لا يتزوجون أبدًا .
"لقد بدأ عهد التصنيع . وبدأ معه المجتمع الاشتراكي في السويد عام 1870 . كانت نسبة الأمهات - غير المتزوجات - في ذلك العام 7 في المائة , وارتفعت هذه النسبة في عام 1920 إلى 16 في المائة . والإحصاءات بعد ذلك لم أعثر عليها . ولكنها ولا شك مستمرة في الزيادة .
"وقد أجرت المعاهد العلمية عدة استفسارات عن "الحب الحر" في السويد , فتبين منها أن الرجل تبدأ علاقاته الجنسية بدون زواج في سن الثامنة عشرة . والفتاة في سن الخامسة عشرة . وأن 95 في المائة من الشبان في سن 21 سنة لهم علاقات جنسية !
"وإذا أردنا تفصيلات تقنع المطالبين بحرية الحب , فإننا نقول:إن 7 في المائة من هذه العلاقات الجنسية مع خطيبات , و35 في المائة منها مع حبيبات ! و58 في المائة منها مع صديقات عابرات !
"وإذا سجلنا النسب عن علاقة المرأة الجنسية بالرجل قبل سن العشرين . وجدنا أن 3 في المائة من هذه العلاقات مع أزواج . و 27 في المائة منها مع خطيب ! و 64 في المائة منها مع صديق عابر !
"وتقول الأبحاث العلمية:إن 80 في المائة من نساء السويد مارسن علاقات جنسية كاملة قبل الزواج و20 في المائة بقين بلا زواج !
" وأدت حرية الحب بطبيعة الحال إلى الزواج المتأخر , وإلى الخطبة الطويلة الأجل . مع زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين كما قلت .
"والنتيجة الطبيعية بعد ذلك أن يزيد تفكك الأسرة . .
إن أهل السويد يدافعون عن "حرية الحب" بقولهم:إن المجتمع السويدي ينظر نظرة احتقار إلى الخيانة بعد الزواج , كأي مجتمع متمدن آخر !
وهذا صحيح لا ننكره ! ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن الاتجاه إلى انقراض النسل . ثم الزيادة المروعة في نسبة الطلاق .
"إن نسبة الطلاق في السويد هي أكبر نسبة في العالم . إن طلاقًا واحدًا يحدث بين كل ست أو سبع زيجات , طبقًا للإحصاءات التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالسويد . والنسبة بدأت صغيرة , وهي مستمرة في الزيادة . . في عام 1925 كان يحدث 26 طلاقًا بين كل 100 ألف من السكان - ارتفع هذا الرقم إلى 104 في عام 1952 , ثم ارتفع إلى 114 في عام 1954 .
"وسبب ذلك أن 30 في المائة من الزيجات تتم اضطرارًا تحت ضغط الظروف , بعد أن تحمل الفتاة . والزواج بحكم "الضرورة " لا يدوم بطبيعة الحال كالزواج العادي . ويشجع على الطلاق أن القانون السويدي لا يضع أية عقبة أمام الطلاق إذا قرر الزوجان أنهما يريدان الطلاق . فالأمر سهل جدًا , وإذا طلب أحدهما الطلاق . فإن أي سبب بسيط يقدمه , يمكن أن يتم به الطلاق !
"وإذا كانت حرية الحب مكفولة في السويد . . فهناك حرية أخرى يتمتع بها غالبية أهل السويد . .
إنها حرية عدم الإيمان بالله !
لقد انتشرت في السويد الحركات التحررية من سلطان الكنيسة على الإطلاق . وهذه الظاهرة تسود النرويج والدنمرك أيضًا . المدرسون في المدارس والمعاهد يدافعون عن هذه الحرية ويبثونها في عقول النشء والشباب .
"والجيل الجديد ينحرف . . وهذه ظاهرة جديدة تهدد الجيل الجديد في السويد وباقي دول اسكندنافيا . إن افتقادهم للإيمان يجرفهم إلى الانحراف , وإلى الإدمان على المخدرات والخمور . وقد قدر عدد أطفال العائلات التي لها أب مدمن بحوالي 175 ألفًا . أي ما يوازي 10 في المائة من مجموع أطفال العائلات كلها . وإقبال المراهقين على إدمان الخمر يتضاعف . .
إن من يقبض عليهم البوليس السويدي في حالة سكر شديد من المراهقين بين سن 15 و17 يوازي ثلاثة أمثال عدد المقبوض عليهم بنفس السبب منذ 15 عامًا . وعادة الشرب بين المراهقين والمراهقات تسير من سيء إلى أسوأ . . ويتبع ذلك حقيقة رهيبة .
"إن عشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية ! ويقول أطباء السويد:إن 50 في المائة من مرضاهم يعانون من اضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية . ولا شك أن التمادي في التمتع بحرية عدم الإيمان سيضاعف هذه الانحرافات النفسية , ويزيد من دواعي تفكك الأسرة . ويقربهم إلى هوة انقراض النسل . . . "(1/31)
والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال . ونذر السوء تتوالى . والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تتلفت للنذر . ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها , على الرغم من هذا الرواء الظاهري ; وتعمل بسرعة , مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية !!!
لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم , لا لأنهم في حاجة إلى المال . ولكن لأن بهم شذوذًا جنسيًا , ناشئًا من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع .
وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى . مؤلفة من المحامين والأطباء - أي من قمة الطبقة المثقفة - مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا , وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق ! ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبسًا , وهي التي أوقعته في حبائلها !
كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين !
وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق ! ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية ! مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصبًا يستريح !!!
وأخيرًا يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه .
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول:
"عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم . وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض , أولها:الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية [ الأولى ] بسرعة عجيبة . والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب , بل تلقنهم دروسًا عملية في بابه . والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء , الذي يظهر في ملابسهن , بل في عريهن , وفي إكثارهن من التدخين , واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام . . هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام . ولا بد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر . فإن نحن لم نحد من طغيانها , فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهًا لتاريخ الرومان , ومن تبعهم من سائر الأمم , الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء , مع ما كانوا فيه من خمر ونساء , أو مشاغل رقص ولهو وغناء" .
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة , بل استسلمت لها تمامًا وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان !
ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا , ليهون من انحلال شبابنا ! يقول:انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا . وأعلن حاكم ولاية نيويورك , أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية:
وعمد الحاكم إلى انشاء المزارع و "الإصلاحيات" التهذيبية والأندية الرياضية . . الخ"
"ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات - التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين ! - لا يدخل في برنامجه , وأنه يترك أمره للسلطات الصحية !
"وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف . وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلامًا مراهقًا . وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة , وتركها جثة هامدة , حتى لا تفشي سره , أو تتعرف عليه , إذا عرضه عليها رجال البوليس .
"ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية , عندما أبصر على جانب الطريق - وتحت شجرة - غلامًا يضاجع فتاة . .
"واقترب الشيخ منهما , ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه , وقال له:إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام !
"ونهض الفتى , وركل الشيخ بكل قوته في بطنه . . .
ووقع الشيخ .
"وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه . . .
واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس !
"وكان الغلام في الخامسة عشرة , والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها ! "
وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن 90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة [ وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين ! ]
وكتب القاضي لندسي بمدينة "دنفر" أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق !
وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه:"الإنسان ذلك المجهول":
"بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية . الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال . فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية . . .
ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى . وكالجنون , فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد . وهي أكثر العناصر نشاطًا في جلب التعاسة للأفراد , وتحطيم الأسر . .(1/32)
إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية , التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن ! . .
هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة , في جاهليتها الحديثة , من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة . المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف , وصيانته من نزواته , وحمايته من شهواته , وهدايته إلى الطريق الآمن , والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة:
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) .(1)
=============
كما أنه على المؤمنين أن يعلموا أنه لا قيمة لهم بغير دينهم وسيبقون في آخر الركب إذا لم يتبعوه
قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)
يقول السيد رحمه الله :(2)
اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق , وجدت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله , تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ , وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام !
(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . .
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما , وأن يكون في كل لحظة مسلما . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع:الاستسلام . الاستسلام لله , طاعة له , واتباعا لمنهجه , واحتكاما إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها , على نحو ما أسلفنا .
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة , إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية , إنما تكون القيادة للجاهلية .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله , على منهج الله , لتحقيق منهج الله:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا , واذكروا نعمة الله عليكم , إذ كنتم أعداء , فألف بين قلوبكم , فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) . .
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . .
من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر , ولا على أي هدف آخر , ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) . .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية "أعداء" . .
وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه , ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا .
وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله , تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية , والثارات القبلية , والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال .
(واذكروا نعمة الله عليكم , إذ كنتم أعداء , فألف بين قلوبكم , فأصبحتم بنعمته إخوانا) . .
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها , إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم , فأصبحوا بنعمة الله إخوانا - الركيزة الثانية -:
(وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط:"القلب" . .
فلا يقول:فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق: (فألف بين قلوبكم) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب: (وكنتم على شفا حفرة من النار) . .
وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة , إذا بالقلوب ترى يد الله , وهي تدرك وتنقذ !
وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب ! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة , وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 89)وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 95)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 61) وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 410)(1/33)
وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج , فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة , فبعث رجلا معه , وأمره أن يجلس بينهم , ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم "بعاث" ! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم , وغضب بعضهم على بعض , وتثاوروا , ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى "الحرة " . .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم , فجعل يسكنهم , ويقول:" أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية , فندموا على ما كان منهم , واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا , وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية:
(كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) .
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه , القائمين على منهجه , لقيادة البشرية في طريقه . .
هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة , كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين , الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة , وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب , ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم , ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة , ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . .
وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم , في كل مكان !
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض , ولتغليب الحق على الباطل , والمعروف على المنكر , والخير على الشر . .
هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه , ووفق منهجه . .
فهي التي تقررها الآية التالية: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , وأولئك هم المفلحون) . .
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير , وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك "دعوة " إلى الخير . ولكن هناك كذلك "أمر" بالمعروف . وهناك "نهي" عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان , فإن "الأمر والنهي" لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .
هذا هو تصور الإسلام للمسألة . .
إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . .
سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . .
سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . .
سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . .
وتحقيق هذا المنهج يقتضي "دعوة " إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة "تأمر" بالمعروف "وتنهى " عن المنكر . . فتطاع . .
والله يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) . .
فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي , على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية , وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة , وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره , زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب !
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير , إذا نظرنا إلى طبيعته , وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم , ومصالح بعضهم ومنافعهم , وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . .
وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف , ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة , ولا تفلح البشرية , إلا أن يسود الخير , وإلا أن يكون المعروف معروفا , والمنكر منكرا . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . .
وتطاع . .
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين:الإيمان بالله والأخوة في الله . لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة , وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة , وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به: (وأولئك هم المفلحون) . .
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير . المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . .(1/34)
عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . .
فاعل الخير فيه يجد على الخير أعوانا . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . .
إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد , لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة , لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . .
يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي , ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ; فيحيا فيه هذا التصور , ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية , وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص , وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة , وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله , وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . .
والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة , وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر , المندفع في حرارة , المطمئن الواثق المرتاح .
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله:ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتمثل صفاه في الضمائر ; وتقواه ومراقبته , واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق , والود . الود العذب الجميل , والتكافل . التكافل الجاد العميق . .
وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا , لولا أنه وقع , لعد من أحلام الحالمين !
وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة , ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة !
وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان !
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان .
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ; وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا , فنزع الله الراية منهم , وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . .
فوق ما ينتظرهم من العذاب , يوم تبيض وجوه وتسود وجوه:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم:أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . .
وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية . .
فنحن في مشهد هول . هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف . ولكن يتمثل في آدميين أحياء . في وجوه وسمات . .
هذه وجوه قد أشرقت بالنور , وفاضت بالبشر , فابيضت من البشر والبشاشة , وهذه وجوه كمدت من الحزن , وغبرت من الغم , واسودت من الكآبة . .
وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه . ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب:
(أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون !) . .
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) .
وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار . .
على طريقة القرآن .
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . .
بالإيمان والائتلاف .
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب , الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه , وتسود وجوه . .
ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة , يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق , وما الله يريد ظلما للعالمين . ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور) . .
تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . .(1/35)
تلك آيات الله وبيناته لعباده:نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم ; وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها ; وممن له الحق في تقرير القيم , وتقرير المصائر , وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض . ولكل ما في السماوات وما في الأرض . وإليه مصير الأمور . إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق , وأن يجري العدل , وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله . .
لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات !
============
وأنه لا عزة إلا لله ولرسوله ولمن اتبعهما
قال تعالى : ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8)
يقول السيد رحمه الله :(1)
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه , ويضفي عليهم من عزته , وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول:ها نحن أولاء !
هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن , ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
(ولكن المنافقين لا يعلمون) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?
===============
العزة لله جميعا
قال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء:139)
قال السيد رحمه الله :(2)
وإذا لم تتجرد النفس لله , لم تتحرر أبدا من ضغط القيم والأوضاع , والضرورات والمصالح , والحرص والشح . ولم ترتفع أبدا على المصالح والمغانم , والمطامع والمطامح . ولم تستشعر أبدا تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء التي يحسها القلب المملوء بالله , أمام القيم والأوضاع , وأمام الأشخاص والأحداث , وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان . .
ومن هنا تبذر بذرة النفاق . .
وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في مواجهة الباطل . وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع , وتعليقهما بغير الله ; وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس , في عزلة عن منهج الله للحياة
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود ; الذين كان المنافقون يأوون إليهم ; ويتخنسون عندهم , ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد .
والله - جل جلاله - يسأل في استنكار:لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان ? لم يضعون أنفسهم هذا الموضع , ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف ? أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين ?
لقد استأثر الله - عز وجل - بالعزة ; فلا يجدها إلا من يتولاه ; ويطلبها عنده ; ويرتكن إلى حماه .
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين , وصفتهم الأولى , وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين , كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى ; وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون . وتقرر أن العزة لله وحده ; فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين !
ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة , فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه . وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها . . العبودية لله . . فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى ; وأشخاص شتى ; واعتبارات شتى , ومخاوف شتى . ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار . .
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق . وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال . .
ولمن شاء أن يختار . .
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن . وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله . وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ; ويتسمون بأسماء المسلمين , وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض , أن يتدبروا هذا القرآن . . إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين . .
وإلا فإن الله غني عن العالمين !
ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين:
الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر ; واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة ! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا , وحمية جاهلية . .
روى الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد , حدثنا أبو بكر بن عباس . عن حميد الكندي عن عبادة ابن نسي , عن أبى ريحانة:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار , يريد بهم عزا وفخرا , فهو عاشرهم في النار . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 478) وفي ظلال القرآن - (ج 7 / ص 219)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 111) وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 262)(1/36)
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة . وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ . في كل أرض , وفي كل جيل . وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم , ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال .
=============
وكذلك فإن الكفار مهما ملكوا من قوة فإنهم مهزومون بإذن الله تعالى
قال تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:12)
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل , وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . .
فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . .
وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا , ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا , وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم:إن سنة الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة , ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا , وأولئك هم وقود النار) . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ; ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه , لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه: (وقود النار) . .
بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص "الإنسان" ومميزاته , ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار) . .
لا بل إن الأموال والأولاد , ومعهما الجاه والسلطان , لا تغني شيا في الدنيا:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا , فأخذهم الله بذنوبهم , والله شديد العقاب) . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا , وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلا:وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته , يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق , معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء . .
ومن ثم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين , وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب , فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد: (قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا:فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
وقوله تعالى: (يرونهم مثليهم رأي العين) يحتمل تفسيرين:فإما أن يكون ضمير(يرون) راجعا إلى الكفار , وضمير(هم) راجعا إلى المسلمين , ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين(مثليهم) . .
وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة , فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس , ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين(مثليهم) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . .
وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . .
وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . .
إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله , قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ , وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن الله ; ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله , المدبر بحكمته , المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
(إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر , لتبرز العبرة , وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !(1)
============
وقال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:196و197)
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .
ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة !
ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 51) وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 340)(1/37)
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . .
أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . .
وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار) . .
(خالدين فيها) . .
(نزلا من عند الله) . .
(وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . .
مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:
التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . .
فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . .
ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . .
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . .
والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . .
والجنة فقط !
لم يقل . .
النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . .
ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . .
لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة . (1)
============
وأخيرا فليعلم المؤمنون الصادقون أن الكفار مهزومون وأننا سوف ننتصر عليهم بإن الله تعالى عندما نرجع إلى ديننا ونحكمه في جميع شئون حياتنا
قال تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)
وقال تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . .
ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 78) وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 33)(1/38)
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . .
يتوجه بهذا كله إلى الله . .
يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . .
إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . .
فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . .
ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ?
أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . .
الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . .
لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . .
كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة , وبألا يحسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:(1/39)
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير) . .
فهذه هي العدة . .
الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون) في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . .
إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء .
ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ? (1)
*************
وقال تعالى سورة الصافات :
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( 172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ( 177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( 181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 181)}
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ; وقام بناء الإيمان , على الرغم من جميع العوائق , وعلى الرغم من تكذيب المكذبين , وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم ; وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم , وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل , وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها . وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله . يخلص فيها الجند , ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق , وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار , وقوى الدعاية والافتراء , وقوى الحرب والمقاومة , وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ; وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ; وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله , يحققها حين يشاء . ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة , ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين !
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . .
ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ; وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك , وتدور عليهم الدائرة , ويقسو عليهم الابتلاء ; لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع , وفي خط أطول , وفي أثر أدوم
لقد سبقت كلمة الله , ومضت إرادته بوعده , وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد:
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 342) وفي ظلال القرآن - (ج 5 / ص 292)(1/40)
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) .
وعند إعلان هذا الوعد القاطع , وهذه الكلمة السابقة , يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم , ويدعهم لوعد الله وكلمته , ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة , ويدعهم ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون:
(فتول عنهم حتى حين . وأبصرهم فسوف يبصرون . أفبعذابنا يستعجلون ? فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . وتول عنهم حتى حين . وأبصر فسوف يبصرون) . .
فتول عنهم , وأعرض ولا تحفلهم ; ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد الله فيك وفيهم . وإذا كانوا يستعجلون بعذابنا , فياويلهم يوم ينزل بهم . فإنه إذا نزل بساحة قوم صبحهم بما يسوء , وقد قدم له النذير .
ويكرر الأمر بالإعراض عنهم والإهمال لشأنهم والتهديد الملفوف في ذلك الأمر المخيف:(وتول عنهم حتى حين) . .
كما يكرر الإشارة إلى هول ما سيكون:(وأبصر فسوف يبصرون) . .
ويدعه مجملاً يوحي بالهول المرهوب . .(1)
==============
وأننا سوف نفتح عاصمة النصرانية شاءوا أم أبوا بإذن الله
روى أحمد في مسنده (2)حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِى أَبُو قَبِيلٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى وَسُئِلَ أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ. قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً . قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةَُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:
« مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً ». يَعْنِى قُسْطَنْطِينِيَّةَ.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 403) وفي ظلال القرآن - (ج 6 / ص 194)
(2) - برقم(6804 ) وهو صحيح(1/41)
الباب الأول
تخريج الحديث من مصادره
ففي السنن الكبرى للبيهقي(1)
19186- أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ : عَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَخْتُوَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِىُّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ نُوحٍ وَالسَّرِىِّ بْنِ مُصَرِّفٍ يَذْكُرُونَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالِحَ أَهْلَ الشَّامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الأَمَانَ لأَنْفُسِنَا وَذَرَارَيِّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لاَ نُحْدِثَ فِى مَدِينَتِنَا وَلاَ فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ قَلاَّيَةً وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلاَ نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلاَ نُحْيِىَ مَا كَانَ مِنْهَا فِى خِطَطِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لاَ نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِى لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ وَنُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَنْ نُنْزِلَ مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ نُطْعِمَهُمْ وَأَنْ لاَ نُؤْمِنَ فِى كَنَائِسِنَا وَلاَ مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلاَ نَكْتُمُ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلاَ نُعَلِّمَ أَوْلاَدَنَا الْقُرْآنَ وَلاَ نُظْهِرَ شِرْكًا وَلاَ نَدْعُو إِلَيْهِ أَحَدًا وَلاَ نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِى الإِسْلاَمِ إِنْ أَرَادَهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِنْ أَرَادُوا جُلُوسًا وَلاَ نَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِى شَىْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلاَ عِمَامَةٍ وَلاَ نَعْلَيْنِ وَلاَ فَرْقِ شَعَرٍ وَلاَ نَتَكَلَّمَ بِكَلاَمِهِمْ وَلاَ نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ وَلاَ نَرْكَبَ السُّرُوجَ وَلاَ نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ وَلاَ نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلاَحِ وَلاَ نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَلاَ نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلاَ نَبِيعَ الْخُمُورَ وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا وَأَنْ لاَ نُظْهِرَ صُلُبَنَا وَكُتُبَنَا فِى شَىْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ أَسْوَاقِهِمْ وَأَنْ لاَ نُظْهِرَ الصُّلُبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَأَنْ لاَ نَضْرِبَ بِنَاقُوسٍ فِى كَنَائِسِنَا بَيْنَ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لاَ نُخْرِجَ سَعَانِينًا وَلاَ بَاعُوثًا وَلاَ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا وَلاَ نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِى شَىْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُجَاوِرَهُمْ مَوْتَانَا وَلاَ نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نُرْشِدَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِى مَنَازِلِهِمْ فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ : وَأَنْ لاَ نَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَنْهُمُ الأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا شَيْئًا مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ فَضَمِنَّاهُ عَلَى أَنْفُسِنَا فَلاَ ذِمَّةَ لَنَا وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ.
وقال ابن كثير رحمه الله :(2)
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام:
__________
(1) - (ج 9 / ص 202)
(1) - تفسير ابن كثير 2/248 و تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 134)(1/42)
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق..
وفي معجم ابن الأعرابي - (ج 1 / ص 358)(1/43)
357 نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَبُو الْعَبَّاسِ الصَّفَّارُ ، نا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ أَبُو الْفَضْلِ ، نا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ نُوحٍ ، وَالسَّرِيِّ بْنِ مُصَرِّفٍ ، يَذْكُرُونَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا ، إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَمْوَالِنَا ، وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا : أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا ، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِبْلَةً ، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا ، وَلَا نُحْيِيَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نَمْنَعَ كَنَايِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ نُطْعِمُهُمْ وَلَا نُئْوِي فِي مَنَازِلِنَا وَلَا كَنَائِسِنَا جَاسُوسًا ، وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا ، وَلَا نَدْعُو إِلَيْهِ أَحَدًا ، وَلَا نَمْنَعَ مِنْ ذَوِي قَرَابَاتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إِنْ أَرَادُوهُ ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ ، وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ ، وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ ، وَلَا عِمَامَةٍ ، وَلَا نَعْلَيْنِ ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ ، وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُجَ ، وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ ، وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا ، وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِيمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا ، وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُ مَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَنَا عَلَى أَوْسَاطِنَا ، وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَلَا كُتُبِنَا وَلَا نَجْلِسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ ، وَلَا نَضْرِبَ بِنَوَاقِيسِنَا فِي كَنَائِسِنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نُخْرِجَ سَعَانِينَا وَلَا بَاعُوثَنَا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا ، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا ، وَلَا نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ : وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا ذَلِكَ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ ، فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا ، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ " *
(1) النوال : العطاء والأجر والثواب
وقال ابن عساكر رحمه الله :(1)
__________
(1) - تاريخ دمشق - (ج 2 / ص 174)فما بعدها(1/44)
" باب ذكر ما اشترط صدر هذه الأمة عند افتتاح الشام على أهل الذمة " أخبرنا أبو محمد سهل بن بشر الإسفرايني أنبأ أبو الحسن عبد الدائم بن الحسن بن عبد الله القطان أنبأ عبد الوهاب بن الحسن الكلابي أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر نا محمد بن إسحاق بن راهوية الحنظلي نا أبي نا بشر بن الوليد عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن عمر بن الخطاب كتب على النصارى حين صولحوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه من نصارى أهل الشام إنا سألناك الأمان لأنفسنا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا على أن نؤدي الجزية عن يد ونحن صاغرون وعلى أن لا نمنع أحدا من المسلمين أن ينزلوا كنائسنا في الليل والنهار ونضيفهم فيها ثلاثا ونطعمهم فيها الطعام ونوسع لهم أبوابها ولا نضرب فيها بالنواقيس إلا ضربا خفيا ولا ترفع فيها أصواتنا بالقراءة ولا نؤوي فيها ولا في شئ من منازلنا جاسوسا كعدوكم ولا نحدث كنيسة ولا ديرا ولا صومعة ولا قلاية ( 1 ) ولا نجدد ما خرب منها ولا يقصد الاجتماع فيما كان منها من خطط المسلمين وبين ظهرانيهم ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه ولا نظهر صليبا على كنائسنا ولا في شئ من طرق المسلمين وأسواقهم ولا نتعلم القرآن ولا نعلمه أولادنا ولا نمنع أحدا من ذي قراباتنا الدخول في الإسلام إن اراد ذلك وأن تجز مقادم رؤوسنا ونشد الزنانير في أوساطنا ونلزم ديننا ولا نتشبه بالمسلمين في لباسهم ولا في هيئتهم ولا في
_________
( 1 ) في مختصر ابن منظور 1 / 227 قلية
سروجهم ولا نقش خواتيمهم فننقشها عربيا ولا نكتني بكناهم وأن نعظمهم ونوقرهم ونقوم لهم من مجالسنا ونرشدهم في سبلهم وطرقاتهم ولا نطلع في منازلهم ولا نتخذ سلاحا ولا سيفا ولا نحمله في حضر ولا سفر في أرض ( 1 ) المسلمين ولا نبيع خمراولا نظهرها ولا نظهر نارا مع موتانا في طرق المسلمين ولا نرفع أصواتنا مع جنائزهم ولا نجاور المسلمين بهم ولا نضرب أحدا من المسلمين ولا نتخذ من الرقيق ( 2 ) بيتا جرت عليه سهامهم شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا فإن خالفناه فلا ذمة لنا ولا عهد وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة
أخبرنا أبو القاسم الشحامي أنبأ أبو بكر البيهقي أنبأ أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني وأخبرنا أبو طالب علي بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عقيل ( 3 ) أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين الخلعي الشافعي نا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن النحاس قالا أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي نا محمد بن إسحاق بن ابي إسحاق أبو العباس الصفار نا الربيع بن ثعلب أبو الفضل نا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار ( 4 ) عن سفيان الثوري والوليد بن نوح والسري بن مطرف يذكرون عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم ( 5 ) قال كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا
_________
( 1 ) بالاصل : " أرفع " وعلى هامشه : " لعله أرض " وفي خع : " أرض " وهو ما أثبت
( 2 ) بالاصل : " حرب " والمثبت عن خع وفي مختصر ابن منظور : " ولا نتخذ من الطريق ما جرى عليه سهام المسلمين "
( 3 ) بالاصل : " أبو طالب بن عبد الرحمن بن عقيل بن عقيل " والصواب ما أثبت عن خع والمطبوعة 1 / 564
( 4 ) عن خع وبالاصل : العيذار
( 5 ) عن خع وبالاصل عثمان
وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلبة ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نجني ما كان منها من خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شئ من المسلمين من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنا بكناهم ولا نركب السرج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم زينا ( 1 ) حيث ما كنا وأن نشد زنانيرنا على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر كتبنا في شئ من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانينا ولا باعوثنا ( 2 ) ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شئ من طرق المسلمين وأسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل قبلتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شئ مما شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل لأهل المعاندة في الشقاق(1/45)
أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل أنبأ عبد الدائم بن الحسن أنبأ عبد الوهاب الكلابي أنبأ أبو محمد بن زبر نا محمد بن هشام بن البختري ( 3 ) أبو جعفر المستملي ثنا الربيع بن ثعلب الغنوي ( 4 )
_________
( 1 ) عن مختصر ابن منظور 1 / 227 وبالاصل وخع : ديننا
( 2 ) بالاصل : " ما عوننا " والمثبت عن خع ومختصر ابن منظور
انظر ما تقدم عنهما ( 3 ) بالاصل وخع " البحتري " تحريف انظر تاريخ بغداد 3 / 361
( 4 ) بالاصل وخع " العنوي " تحريف وهذه النسبة إلى غني بن أعصر ( انظر الانساب )
وأخبرنا أبو القاسم الشحامي أنا أبو بكر الجعفي ( 1 ) أنا أبو طاهر الفقيه أنا أبو الحسن علي بن محمد بن سحنوية نا أبو بكر يعقوب بن يوسف المطوعي ( 2 ) نا الربيع بن ثعلب نا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري والوليد بن نوح والسري بن مصرف ( 3 ) يذكرون عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح أهل الشام وقال للمسلمين أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها ( 4 ) أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوسا ولا نعلم أولادنا القرآن وأن لا نظهر شركاء ولا ندعو إليه أحدا وأن لا نمنع أحدا من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شئ من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكنا بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيث ما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شئ من طرق المسلمين ولا أسواقهم وأن لا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين وأن لا
_________
( 1 ) الاصل وخع وفي المطبوعة : البيهقي
( 2 ) هذه النسبة إلى المطوعة وهم جماعة فرغوا أنفسهم للجهاد والغزو ورابطوا في الثغور ( الانساب )
( 3 ) مر قريبا " مطرف " ولعله تصحيف " مصرف "
( 4 ) بالاصل : " أن لا ينزلها " والمثبت عن خع
نخرج شعانين ولا باعوثا وأن لا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شئ من طرق المسلمين وأسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع زاد المطوعي في منازلهم فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه ( 1 ) الأمان فإن نحن خالفنا عن شئ مما شرطناه لكم وضمناه فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاق
رواه محمد بن حمير ( 2 ) عن عبد الملك ( 3 ) بن حميد أخبرنا أبو الحسين الخطيب أنا جدي أبو عبد الله أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الربعي أنا أبو الفرج العباس بن محمد بن حسان بن موسى ( 4 ) نا أبو العباس بن الزفتي ( 5 ) وهو عبد الله بن عتاب نا محمد بن محمد بن مصعب المعروف بوحشي نا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي نا محمد بن حمير عن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية ( 6 ) عن السري بن مصرف وسفيان الثوري والوليد بن روح عن طلحة بن مصرف عن مسروق بن الأجدع عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال كتبت لعمر بن الخطاب حين صالحوا نصارى الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى بلد كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وموالينا وأهل ملتنا وشرطنا على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نجئ ما كان من خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا
_________
( 1 ) بالاصل : " وقبلتنا غلبة الامان " والمثتب عن خع
( 2 ) بالاصل وخع : " حميد " والصواب ما أثبت وسيأتي
( 3 ) عن خع وبالاصل " عبد الرحمن "
( 4 ) كذا بالاصل وفي خع العباس بن محمد بن حسان بن موسى بن حسان ( 5 ) بالاصل وخع " الرقي " وقد مر تكرار
( 6 ) بالاصل وخع " عتبة " تحريف والصواب المثبت والضبط عن التبصير 3 / 927(1/46)
من أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل أو نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا ثلاثة أيام من المسلمين نطعمهم وأن نرشدهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نعلم أولادنا القرآن وأن لا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا وأن لا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام ولا نتشبه بهم في شئ من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيث ما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شئ من طرق المسلمين ولا أسواقهم وأن لا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين وأن لا نخرج شعانين ولا باعوثا وأن لا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شئ من طرق المسلمين وأسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم قال عبد الرحمن فلما أتيت عمر بن الخطاب بهذا الكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك لكم على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا الأمان فإن نحن خالفنا عن شئ مما شرطنا لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما حل لأهل المعاندة والشقاق
أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل أنبأ عبد الدائم القطان أنا عبد الوهاب الكلابي قال قال أبو محمد بن زبر ورأيت هذا الحديث في كتاب رجل من أصحابنا بدمشق وذكر أنه سمعه من محمد بن ميمون بن معاوية الصوفي بطبرية بإسناد ليس بمشهور ينتهي إلى إسماعيل بن مجالد بن سعيد حدثني سفيان الثوري عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن ( 1 ) بن غنم فذكره بطوله وقال فيه عند ذكر الكنائس ولا نأتي منها ما كان في خطط المسلمين وزاد فيه ولا نتشبه بهم في شئ في لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا سراويل ذات خدمة ( 2 ) ولا نعلين ذات عذبة ( 3 ) ولا
_________
( 1 ) بالاصل : " عبد الرحيم " تحريف
( 2 ) عن خع وبالاصل " حذمة " والخدمة بالتحريك سير غليظ محكم مثل الحلقة
( 3 ) بالاصل عرنة والصواب ما أثبت والعذبة : هي طرف شراك النعل المرسلة ( اللسان )
نمشي إلا بزنار من جلد ولا يوجد في بيت أحدنا سلاح إلا انتهب
وما رأيت هذه الزيادة فيما وقع إلينا من عهود عمر بن الخطاب ووجدتها مروية عن عمر بن عبد العزيز أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن البصري أنبأ أبو الحسن محمد بن علي السيرافي أنا أبو عبد الله أحمد بن إسحاق النهاوندي نا أحمد بن عمران نا موسى بن زكريا نا أبو عمرو خليفة بن خياط المعروف بشباب قال حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبيه قال صالحهم أبو عبيدة على أنصاف كنائسهم ومنازلهم وعلى رؤوسهم وأن لا يمنعوا من أعيادهم ولا يهدمون شيئا من كنائسهم صالح على ذلك أهل المدينة وأخذ سائر الأرض عنوة ( 1 )
أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن أشليها وابنه ( 2 ) أبو الحسن علي قالا أنا أبو الفضل بن الفرات أنبأ أبو محمد بن ابي نصر أنبأ أبو القاسم بن أبي العقب أنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم نا ابن عايذ نا الوليد بن مسلم عن أبي عمرو عن عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي أنه كان في كتاب صلحهم هذا كتاب من خالد بن الوليد إني أمنتكم على دمائكم وذراريكم وأموالكم وكنائسكم أن تهدم أو تسكن شهد على ذلك أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة قرأت على أبي محمد عبد الكريم بن حمزة السلمي عن أبي محمد عبد العزيز الكتاني أنبأ أبو نصر بن الجندي وعبد الرحمن بن الحسن بن أبي العقب قالا أنا أبو القاسم علي بن يعقوب بن أبي العقب أنا أبو عبد الملك نا ابن عايذ قال قال الوليد وأخبرني ابن جابر وغيرهم أنهم صالحوهم على من فيها من جماعة أهلها على جزية دنانير مسماة لا نزيد عليهم إن كثروا ولا ينقص منهم إن قلوا وأن للمسلمين فضول الدور والمساكن عنهم وأسواقها هذا ونحوه
أخبرنا أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني وعبد الكريم بن حمزة السلمي قالا نا عبد العزيز بن أحمد أنبأ أبو القاسم تمام الرازي وعبد الوهاب الميداني
_________
( 1 ) تاريخ خليفة ص 130 حوادث سنة خمس عشرة باختلاف
( 2 ) بالاصل : " أستلها وأبيه " تحريف والصواب عن خع والمطبوعة 1 / 569(1/47)
قالا أنا أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة الليثي نا أحمد بن المعلى بن يزيد الأسدي قال تمام وأخبرني أبو إسحاق بن سنان نا أحمد بن المعلى ( 1 ) قال تمام وأخبرني أبو بكر يحيى بن عبد الله بن الحارث نا عبد الرحمن بن عمر المازني نا أحمد بن المعلى ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم نا الوليد عن الأوزاعي عن ابن سراقة أنه كان في كتاب صلح دمشق هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل دمشق إني أمنتكم على دمائكم وأموالكم ومساكنكم وكنائسكم أن تهدم أو تسكن ما لم تحدثوا حدثا أو تؤووا محدثا غيلة قال أنا أحمد ببن المعلى أخبرنا محمد بن مصعب الصوري نا محمد بن المبارك نا الوليد قال وأخبرني ابن جابر أو غيره أنهم صالحوهم على من فيها من جماعة أهلها على عدة دنانير مسماة لا يزيد عليهم إن كثروا ولا ينقص منهم إن قلوا وأن للمسلمين فضول الدور والمساكن عنهم وأسواقها هذا ونحوه قال ونا أحمد بن المعلى نا أبو أمية محمد بن إبراهيم نا الوليد بن عبد الملك بن مسوح الحراني وإسماعيل بن رجاء قالا نا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه قال لما قدم عمر بن الخطاب الشام كان في شرطه على النصارى أن يشاطرهم منازلهم فيسكن فيها المسلمون وأن يأخذ الحيز القبلي ( 2 ) من كنائسهم لمساجد المسلمين أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري المعروف بابن الطبر أنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر المعروف بابن زوح الحرة في ذي القعدة سنة أربعين وأربعمائة أنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان قراءة عليه في شوال سنة أربع وستين وثلاثمائة نا أبو علي الحسين بن خير بن جويرة بن يعيش بن ( 3 ) الموفق بن أبي النعمان الطائي بحمص نا أبو القاسم عبد الرحمن بن يحيى بن أبي النعاس نا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري نا الحكم بن عبد الله بن خطاف نا الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر بن الخطاب أمر
_________
( 1 ) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك عن خع
( 2 ) عن خع ومختصر ابن منظور 1 / 228 وبالاصل : " الحر العلي "
( 3 ) ما بين المعكوفتين زيادة عن خع وفي المطبوعة : حوثرة بدل " جويرة "
أن تهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام ومنع أن يحدث كنيسة وأمر أن لا يظهر صليب خارجا من كنيسة إلا كسر على رأس صاحبه أخبرنا أبو القاسم الشحامي أنا أبو بكر البيهقي أنبأ أبو نصر بن قتادة أنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن خميرويه نا أحمد بن نجدة نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي ثنا عبيد الله نا نافع عن أسلم مولى عمر أنه أخبره أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء أهل الجزية أن لا يضعوا الجزية إلا على من جرت أو مرت عليه المواسي ( 1 ) وجزيتهم أربعون درهما على أهل الورق منهم وأربعة دنانير على أهل الذهب وعليهم أرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط زيت لكل إنسان كل شهر من كان من أهل الإسلام وأهل الجزيرة ومن كان من أهل مصر إردب لكل إنسان وكل شهر ( 2 ) ومن الودك ( 3 ) والعسل شئ لم يحفظه وعليهم من البز التي كان يكسوها أمير المؤمنين الناس شئ لم نحفظه ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا لكل إنسان وكان عمر رضي الله عنه لا يضرب الجزية على النساء وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية نافع هو الذي لم يحفظ الودك والعسل والبز بين ( 4 ) ذلك عبد الرحيم بن سليمان عن عبيد الله بن عمر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النشابي المقرئ أنا أبو الفرج سهل بن بشر ( 5 ) أنا علي بن منير بن أحمد بن الحسن بن علي بن منير الخلال ( 6 ) أنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير الذهلي نا عبد الله بن محمد بن شبيب نا علي بن عبد الله المديني نا معتمر بن سليمان سمعت ابي يحدث عن حنش عن عكرمة أن ابن عباس سئل هل للعجم أن يحدثوا في أمصار العرب بنيانا
_________
( 1 ) أراد من بلغ الحكم من الكفار وبالاصل " المواشي "
( 2 ) ما بين معكوفتين زيادة عن خع ومختصر ابن منظور 1 / 229 والاردب مكيال ضخم بمصر أربعة وعشرون صاعا ( قاموس )
( 3 ) الودك : اسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه ( اللسان : ودلك )
( 4 ) عن خع وبالاصل وبالاصل : تين
( 5 ) عن خع وبالاصل " بشير "
( 6 ) عن المطبوعة وبالاصل وخع " الحلال "(1/48)
أو شيئا فقال أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة أو قال بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يدخلوه خنزيرا وأيما مصر مصر العجم ففتحه الله على العرب فللعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن أشليها ( 1 ) وابنه أبو علي الحسن قالا أنا أبو الفضل بن الفرات أنا أبو محمد بن أبي نصر أنا أبو القاسم بن أبي العقب أنا أحمد بن إبراهيم القرشي نا محمد بن عايذ نا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني مولى لآل الزبير قال ( 2 ) حدثني عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قضى على أهل الذمة ضيافة ثلاثة أيام ما يصلحهم من طعام وعلف دوابهم قال ابن عايذ وثنا عمر بن عبد الواحد قال سمعت الأوزاعي يحدث قال كتب عمر بن الخطاب في أهل الذمة أن من لم يطق منهم فخففوا عنه ومن عجز فأعينوه فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين أنا أبو الفرج سعيد بن أبي الرجاء بن أبي منصور الاصبهاني شفاها أنا منصور بن الحسين بن علي بن القاسم بن داود ( 3 ) الكاتب وأبو طاهر أحمد بن محمود الثقفي قالا أنا أبو بكر بن المقرئ نا أبو محمد عبد الله بن عبد السلام نا بحر بن نصر نا بشر بن بكير حدثني أبو بكر بن أبي مريم حدثني حبيب بن عبيد عن ضمرة بن حبيب ( 4 ) قال قال عمر بن الخطاب في أهل الذمة سموهم ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم وإذا جمعتكم وإياهم طريق فألجئوهم إلى أضيقها أخبرنا أبو الحسن علي بن المسلم السلمي الفقيه ثنا أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي لفظا وأبو القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء قراءة
_________
( 1 ) بالاصل وخع : " أستلها " وقد مر
( 2 ) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك عن خع
( 3 ) في المطبوعة : رواد
( 4 ) في مختصر ابن منظور 1 / 230 جندب
عليه قالا أنا أبو الحسن بن عوف ( 1 ) ثنا محمد بن موسى بن الحسين أنبأ أبو بكر محمد بن خريم نا حميد بن زنجوية حدثني سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن أسلم قال كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يضعوا الجزية ولا تضعوا على النساء ولا على الصبيان ولا تضعوا إلا على من جرت عليهم المواسي ( 2 ) على أهل الورق أربعين درهما وعلى أهل الذهب أربعة دنانير وأمر أن يقيم في رقابهم وعلى أهل الشام وعلى أهل الجزيرة ( 3 ) مدين أو مديين ( 4 ) من بر وأربعة أقساط ( 5 ) من زيت وشئ من الودك لا أحفظه وعلى أهل مصر إردب من بر قال وشئ من العسل لا أحفظه وعليهم كسوة أمير المؤمنين ضريبة مضروبة وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا عليهم ضيافة المسلمين ثلاثة يطعمونهم مما يأكلون مما يحل للمسلمين من طعامهم فلما قدم عمر الشام شكوا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين إنهم يكلفونا ما لا نطيق يكلفونا الدجاج والشاء فقال لا تطعموهم إلا مما تأكلون مما يحل ( 6 ) لهم من طعامكم كتب إلي ( 7 ) أبو علي محمد بن سعيد بن إبراهيم بن نبهان ثم أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي أنا أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد قالا أنا أبو علي بن شاذان أنبأ عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي ( 8 ) وأخبرنا أبو البركات الأنماطي أنبأ طراد بن محمد الزينبي أنا أحمد بن علي بن الحسين بن البادا نا حامد بن محمد بن عبد الله الهروي قالا أنا علي بن عبد العزيز نا أبو عبد نا هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم حدثني يزيد بن
_________
( 1 ) عن خع وبالاصل " عون "
( 2 ) بالاصل : " المواشي " وقد تقدمت
( 3 ) بالاصل وخع " الجزية
( 4 ) المدي : مكيال لاهل الشام ومصر يسع خمسة عشر مكوكا
والمكوك : ساع ونصف ( النهاية )
( 5 ) القسط : نصف صاع
( 6 ) بالاصل : " مما لا يحل " والمثبت عن خع بحذف " لا "
( 7 ) زيادة عن خع
( 8 ) زيادة عن خع(1/49)
سعيد بن ذي عضوان عن عبد الملك بن عمير أن عمر بن الخطاب اشترط على أنباط الشام للمسلمين أن يصيبوا من ثمارهم وتبنهم ( 1 ) ولا يحملوا أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد بن زريق أنا أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن المهتدي نا أبو بكر محمد بن يوسف بن محمد بن دوست العلاف إملاء نا عبد الله بن محمد بن إسحاق نا محمد بن عمرو بن أبي مدعور نا إسماعيل بن علية أنا هشام الدستوائي عن قتادة عن ( 2 ) الحسن عن الأحنف بن قيس أن عمر بن الخطاب اشترط على أهل الذمة إصلاح القناطر والضيافة يوم وليلة وإذا قتل رجل من المسلمين في أرضكم فعليكم ديته كتب إلي أبو علي بن نبهان ثم أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب الأنماطي قال أنا أبو طاهر أحمد بن الحسن قالا أنا أبو علي بن شاذان أنا عبد الله بن إسحاق البغوي وأخبرنا أبو البركات أنبأ طراد بن محمد نا أحمد بن علي بن الحسين بن البادا أنبأ حامد بن محمد الهروي قالا أنبأ علي بن عبد العزيز نا أبو عبد قال وبلغني عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال سألت مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن قال لليسار أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل أنبأ عبد الدائم بن الحسن بن عبيد الله القطان أنبأ عبد الوهاب الكلابي أنبأ عبد الله بن أحمد بن زبر أنبأ محمد بن عبد الرحمن بن يونس نا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي نا يسرة ( 3 ) بن صفوان عن الحكم بن عمر الرعيني قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمصار الشام لا يمشين نصراني إلى مفروق الناصية ولا يلبس قباء ولا يمشين إلا بزنار من جلد ولا يلبس طيلسانا ولا يلبس سراويلا ذات خدمة ولا يلبسن نعلا ذات عذبة ولا يركبن على سرج ولا يوجد في بيته سلاحا إلا انتهب والله تعالى أعلم
_________
( 1 ) في مختصر ابن منظور : " وتينهم " وفي المطبوعة : ونبتهم
( 2 ) بالاصل " بن " تحريف
( 3 ) بالاصل وخع : " بسرة " والمثبت والضبط عن تقريب التهذيب
--------------------
وقال السبكي :(1)
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 219)(1/50)
( بَابٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ) أَنْبَأَنَا جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ الْمُقِيرِ عَنْ ابْنِ نَاصِرٍ ثنا أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عُثْمَانَ قَالَا أَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَنَا أَبُو الشَّيْخِ أَنْبَأَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثنا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ نُوحٍ وَالسَّرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مَصْرِفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّامِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا إنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِيهَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَنْ نُنْزِلَ مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نُطْعِمَهُمْ وَلَا نُؤْوِيَ فِي كَنَائِسِنَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا وَلَا نَدْعُو إلَيْهِ وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إذْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَبَ السَّرْجَ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِيمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيعَ الْخَمْرَ وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا وَأَنْ نَلْزَمَ دِينَنَا حَيْثُ مَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَنَا عَلَى أَوْسَاطِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْوَاقِهِمْ وَلَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا فِي كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجَ سَاعُونَا وَلَا بَاعُونَا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ .
فَلَمَّا أَتَيْت عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرْطُنَا لَكُمْ ذَلِكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقِبْلَتِنَا عَلَيْهِ الْأَمَانُ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَا لَكُمْ وَضَمِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا ، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .
رُوَاةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ كِبَارٌ إلَّا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ أَشَدُّهُ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ كَانَ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِثِقَةٍ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ : لَيْسَ بِثِقَةٍ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ضَعِيفٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ لَهُ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : عَنْ مَنْصُورٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .(1/51)
وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ حَدِيثَهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ قَيْسٍ مِنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ كَانَ إنْكَارُ الْبُخَارِيِّ لِأَجْلِ هَذَا فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ هَذِهِ الشُّرُوطَ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ تَوْثِيقٌ لَهُ وَرَوَاهَا عَنْ الْقَطَّانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى وَرَوَاهَا عَنْ ابْنِ مُصَفَّى حَرْبٌ مِنْ مَسَائِلِهِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمَتْنُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَفِيهِ لَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ .
وَكَذَلِكَ رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَفِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ شَيْءٍ فِيهِ مَعَ سِعَةِ حِفْظِ ابْنِ حَزْمٍ وَذَكَرَهَا خَلَائِقُ كَذَلِكَ ، وَفِي جَمِيعِهَا مَا خَرِبَ وَذَكَرَهَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَاقْتَصَرَ عَلَى سُفْيَانَ فَمَنْ فَوْقَهُ هَكَذَا فِي الْوُسْطَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْكُبْرَى لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ هَذِهِ الشُّرُوطَ هَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَتَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَاحْتَجُّوا بِهَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ حَتَّى رَأَيْت فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى شُرُوطِ عُمَرَ كَأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً شَرْعًا .
وَفِي كَلَامِ أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ أَنَّ مَا فِيهَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذِهِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً وَاشْتَرَطَ عُمَرُ لَهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ وَكُنْت قَدَّمْت فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى " كَشْفَ الْغُمَّةِ فِي مِيرَاثِ أَهْلِ الذِّمَّةِ " قَبْلَ أَنْ أَرَى الْكَلَامَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ صِفَةَ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْجِزْيَةِ لِنَصْرَانِيٍّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَنَائِسِ لَكِنْ ذَكَرَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَنَا فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ نَبَذْنَا إلَيْهِ .
وَقُلْت إنِّي قَصَدْت بِنَقْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الشُّرُوطَ الَّتِي عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكْتُبُوهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى إذَا جَهِلَ الْحَالَ كَمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّهَا الْمُتَعَارَفَةُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَافَقَ كَلَامِي كَلَامَ مَنْ ذَكَرْت مِنْ الْحَنَابِلَةِ .
وَرَوَاهَا جَمَاعَةٌ بِأَسَانِيدَ لَيْسَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ لَكِنَّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ أَيْضًا وَبِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ تَقْوَى وَجَمَعَ فِيهَا الْحَافِظُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَبْرٍ جُزْءًا وَذَكَرَ مِنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غُنْيَة عَنْ السَّرِيِّ بْنِ مُصَرِّفٍ الثَّوْرِيِّ وَالْوَلِيدِ وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ رَأَيْتُهَا فِي كِتَابِ ابْنِ زَبْرٍ قَالَ وَجَدْت هَذَا الْحَدِيثَ بِالشَّامِ .
رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ فَذَكَرَهُ وَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدٍ لِيَحْيَى بْنِ عُقْبَةَ فِي شُيُوخِهِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ .
وَهَذَا عُذْرٌ لِعَبْدِ الْحَقِّ فِي اقْتِصَارِهِ فِي الْوُسْطَى عَلَى سُفْيَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عُقْبَةَ لَكِنْ فِيهِ عِلَّتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) جَهَالَةٌ بَيْنَ ابْنِ زَبْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ ( وَالثَّانِيَةُ ) ابْنُ يَزِيدَ فِيهِ كَلَامٌ وَكَانَ قَاضِي دِمَشْقَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ أَيْضًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ضَعَّفُوهُ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا .
فَلَوْلَا هَاتَانِ الْعِلَّتَانِ كَانَ صَحِيحًا ، وَرَوَاهَا ابْنُ زَبْرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ لِذِمَّةِ حِمْصَ .
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ كَتَبُوا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ إلَى آخِرِهِ .(1/52)
قَالَ ابْنُ زَبْرٍ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ وَصَالَحَ أَهْلَهَا هُوَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَذِكْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَلَطٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ الَّذِي فَتَحَ حِمْصَ بِلَا شَكٍّ وَأَوَّلُ مَنْ وَلِيَهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ وَلَّاهُ عُمَرُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشَرَةَ وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى النَّصَارَى أَنْ يُشَاطِرَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَسْكُنَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَنْ يَأْخُذَ الْحَيِّزَ الْقِبْلِيَّ مِنْ كَنَائِسِهِمْ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي تَارِيخِ دِمَشْقَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ وَفِيهِ مِثْلُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ وَفِيهِ وَلَا نُشَارِكُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ وَأَنْ لَا نَشْتُمَ مُسْلِمًا وَمَنْ ضَرَبَ مِنَّا مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .
وَفِيهِ عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ لِأَهْلِ دِمَشْقَ إنِّي أَمَّنْتُهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَنْ لَا تُسْكَنَ وَلَا تُهْدَمَ فَانْظُرْ إنَّمَا قَالَ : لَا تُسْكَنُ وَلَا تُهْدَمُ .
لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُمْ شَيْئًا آخَرَ .
وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيِّ عِيسَى بْنِ خَالِدٍ ثنا عَمِّي أَبُو الْيَمَانِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ جَمِيعًا أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثنا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِي مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا .
وَذَكَرَ مِثْلَ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَفِيهَا : وَلَا يُشَارِكُ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَلِيَ الْمُسْلِمُ أَمْرَ التِّجَارَةِ .
وَفِيهِ فِي رِسَالَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ وَحَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَأَبِي الْيَمَانِ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا فَذَكَرَ مِثْلَهُ .
وَفِيهِ فَكَتَبَ بِذَلِكَ ابْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ وَأَلْحَقَ فِيهِ حَرْفَيْنِ اشْتَرَطَهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .
وَأَنْفَذَ ابْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ زَبْرٍ .
====================
هق9/202 ( 19186 ) و تفسير ابن كثير 2/248 و تاريخ دمشق - (ج 2 / ص 177)
هذا حديث صحيح لغيره
قلت :
وقد روي هذا الحديث من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا ويحكم بصحة الحديث بلا ريب وذلك إذا نظرنا فيها جميعا، الطرق التي ذكرها ابن عساكر والتي ذكرها السبكي
وأما تضعيف الشيخ ناصر له فإنه لم يطلع إلا على سند البيهقي الذي فيه يحيى فقط فحكم عليه بناء على ذلك
وجاء قوم وتابعوه دون أن يحاولوا البحث عن طرقه وأسانيده ، واهتبلها فرصة فقهاء الهزيمة فحكموا عليه بالضعف ليرضوا أعداء الإسلام
ولا أعلم أن أحدا من أهل العلم السابقين قد ضعف هذا الحديث ، ووجود راو واه في بعض أسانيده لا يسقط الاحتجاج به ، لأن النظر يكون لطرقه وأسانيده الأخرى ، ولذا فقد احتج به كافة الفقهاء في كل العصور دون نكير
وقال العلامة ابن القيم تعليقا على هذا الحديث : (1)
وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.
إذا فهو حديث قد تلقته الأمة بالقبول
- - - - - - - - - - - - -
(1) - موسوعة كتب ابن القيم - (ج 20 / ص 5)(1/53)
الباب الثاني
شرح الشروط العمرية عند الفقهاء القدامى
وفي المحلى : (1)
958 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ - الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ - حَاشَا أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً , وَهُمْ الْيَهُودُ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوسُ فَقَطْ , فَإِنَّهُمْ إنْ أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الصَّغَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيًّا مِنْ الْعَرَبِ خَاصَّةً فَالْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَأَمَّا الْأَعَاجِمُ فَالْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ , وَيُقَرُّ جَمِيعَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } , وَقَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى عَرَبِيًّا مِنْ عَجَمِيٍّ فِي كِلَا الْحُكْمَيْنِ . وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجْرٍ ; فَصَحَّ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا خَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ رَبِّهِ تَعَالَى . فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ثُمَّ تُؤَدِّي إلَيْهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا ; لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , وَأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ لَا يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ . فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ , وَأَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا عَنَى بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْضَ الْعَجَمِ لَا كُلَّهُمْ , وَبَيَّنَ تَعَالَى مَنْ هُمْ , وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَطْ . وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ عليه السلام : { تُؤَدِّي إلَيْكُمْ الْجِزْيَةَ } وَلَوْ قَلَبُوا لَأَصَابُوا وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ . وَقَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ؟ فَقُلْنَا : أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَرَبَ الْوَثَنِيِّينَ يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكْرَهَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَصَحَّ أَنَّ [ هَذِهِ ] الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُكْرِهَهُ , وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً - وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . 959 - مَسْأَلَةٌ : وَالصَّغَارُ هُوَ أَنْ يَجْرِيَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , وَأَنْ لَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ , وَلَا مِمَّا يُحَرَّمُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ
----------------
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 5 / ص 263) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 2702)(1/54)
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَبَنُو تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ , وَيَجْمَعُ الصَّغَارَ شُرُوطُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَيْهِمْ . نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ أَبِي إسْحَاقَ الصَّفَّارُ نَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبِيعُ بْنُ تَغْلِبَ نَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ : أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي مَدِينَتِهِمْ وَلَا مَا حَوْلَهَا دَيْرًا , وَلَا كَنِيسَةً , وَلَا قَلِيَّةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا , وَلَا يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ , وَلَا يُؤْوُوا جَاسُوسًا , وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ , وَلَا يُظْهِرُوا شِرْكًا , وَلَا يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَاتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ أَرَادُوهُ , وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ , وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ , وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ : فِي قَلَنْسُوَةٍ , وَلَا عِمَامَةٍ , وَلَا نَعْلَيْنِ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَلَا يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ , لَا يَرْكَبُوا سُرُجًا , وَلَا يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا , وَلَا يَتَّخِذُوا شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا يَبِيعُوا الْخُمُورَ , وَأَنْ يَجُزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ , وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُمَا كَانُوا , وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ , وَلَا يُظْهِرُوا صَلِيبًا وَلَا شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ , وَلَا يَضْرِبُوا نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا , وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخْرِجُوا سَعَانِينَ وَلَا يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ , وَلَا يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ , وَلَا يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوهُ فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ , وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا : أَنْ لَا يُجَاوِرُونَا بِخِنْزِيرٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَمِنْ الصَّغَارِ أَنْ لَا يُؤْذُوا مُسْلِمًا , وَلَا يَسْتَخْدِمُوهُ , وَلَا يَتَوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ يَجْرِي لَهُمْ فِيهِ أَمْرٌ عَلَى مُسْلِمٍ
وفي المغني :
( 106 ) فَصْلٌ وَاِتِّخَاذُ الشَّعْرِ أَفْضَلُ مِنْ إزَالَتِهِ .(1)
فَصْلٌ : فَأَمَّا حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ فَمَكْرُوهٌ . وَيُسَمَّى الْقَزَعَ , لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ , وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَلَفْظُهُ , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَقَالَ : احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ } . وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ يَحْلِقُوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ .
( 5675 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُ مَنْزِلٍ فِيهِ صُورَةٌ , فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ(2)
__________
(1) - المغني - (ج 1 / ص 147)
(2) -المغني - (ج 16 / ص 3)(1/55)
, وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجَلِهِ عُقُوبَةً لِلدَّاعِي , بِإِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ ; لِإِيجَادِهِ الْمُنْكَرَ فِي دَارِهِ . وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ رَآهُ فِي مَنْزِلِ الدَّاعِي الْخُرُوجُ , فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ; فَإِنَّهُ قَالَ , فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ , إذَا رَأَى صُوَرًا عَلَى السِّتْرِ , لَمْ يَكُنْ رَآهَا حِينَ دَخَلَ ؟ قَالَ : هُوَ أَسْهَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِدَارِ . قِيلَ : فَإِنْ لَمْ يَرَهُ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ , أَيَخْرُجُ ؟ فَقَالَ : لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا , وَلَكِنْ إذَا رَأَى هَذَا وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ . يَعْنِي لَا يَخْرُجُ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا تَنَزُّهًا , وَلَا يَرَاهَا مُحَرَّمَةً . وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إذَا كَانَتْ الصُّوَرُ عَلَى السُّتُورِ , أَوْ مَا لَيْسَ بِمَوْطُوءٍ , لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ , وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا , لَمَا جَازَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ أَجْلِهِ . وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ , فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ , فَقَالَ : قَاتَلَهُمْ اللَّهُ , لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ , وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ , لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْمَبِيتِ بِهَا , وَالْمَارَّةُ بِدَوَابِّهِمْ , وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ فِي " فُتُوحِ الشَّامِ " , أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لَعُمَرَ رضي الله عنه , حِينَ قَدِمَ الشَّامَ , طَعَامًا , فَدَعَوْهُ , فَقَالَ : أَيْنَ هُوَ ؟ قَالُوا : فِي الْكَنِيسَةِ , فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ , وَقَالَ لَعَلِيٍّ : امْضِ بِالنَّاسِ , فَلِيَتَغَدَّوْا . فَذَهَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالنَّاسِ , فَدَخَلَ الْكَنِيسَةَ , وَتَغَدَّى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ , وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ , وَقَالَ : مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَلَ فَأَكَلَ , وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ دُخُولِهَا وَفِيهَا الصُّورُ , وَلِأَنَّ دُخُولَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ , فَكَذَلِكَ الْمَنَازِلُ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ , وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِهِ عَلَيْنَا , كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ , وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا صُحْبَةُ رُفْقَةٍ فِيهَا جَرَسٌ , مَعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُهُمْ , وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجْلِهِ عُقُوبَةً لِفَاعِلِهِ , وَزَجْرًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 6613 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا , فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ , وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ يَعْنِي الْكَافِرَ الْحُرَّ ,(1)
لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ , لِفِقْدَانِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمَا , وَلِأَنَّهُ لَا يَحُدُّ بِقَذْفِهِ , فَلَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ , كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ , وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ , وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ ; فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ , بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ ذِمِّيًّا كَانَ يَسُوقُ حِمَارًا بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ , فَنَخَسَهُ بِهَا فَرَمَاهَا , ثُمَّ أَرَادَ إكْرَاهَهَا عَلَى الزِّنَى , فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاهُمْ . فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ . وَرُوِيَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ , أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ : أَنْ أَلْحِقْ بِالشُّرُوطِ : مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا , فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُنَافِي الْأَمَانَ , وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَكَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ , كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ; أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا , عَلَيْهِ قِيمَتُهُ , وَيُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ .
( 7686 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ , بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ , حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ ) (2)
__________
(1) - المغني - (ج 18 / ص 331)
(2) -المغني - (ج 21 / ص 253)(1/56)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ , أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا , نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ , رضي الله عنه . وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه , فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ , بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ : إنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا , طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً , وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا , وَلَا قلاية , وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلَا نُؤْوِيَ فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَأَنْ لَا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ , وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَخْرُجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا , وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ , وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ , وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا , وَلَا نَرْغَبَ فِي دِينِنَا , وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَنْ لَا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَلَا فِي مَوَاكِبِهِمْ , وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ , وَإِنْ لَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَلَا نَفْرِقَ نَوَاصِيَنَا , وَنَشُدُّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ , وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ , وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسَ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا يُشَارِكْ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ , إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ , وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ , ضَمِنَّا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا , وَذَرَارِيِّنَا , وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا , وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا , أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا , وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ , وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ , اشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا , وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا , فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . فَأَنْفَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ وَأَقَرَّ مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . فَهَذِهِ جُمْلَةُ شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِذَا صُولِحُوا عَلَيْهَا , ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْهَا , فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَهْدَهُ يَنْتَقِضُ بِهِ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ ; لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ : إنْ نَحْنُ خَالَفْنَا , فَقَدْ حَلَّ لَك مَنَّا مَا يَحِلُّ لَك مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَقَالَ عُمَرُ : وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ بِشَرْطٍ فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ , زَالَ حُكْمُ الْعَقْدِ , كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ . وَذَكَرَ الْقَاضِي , وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ , أَنَّ الشُّرُوطَ قِسْمَانِ ; أَحَدُهُمَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ , وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ شَيْئًا ; الِامْتِنَاعُ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ , وَجَرْيِ(1/57)
أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ إذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ , وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَإِصَابَتُهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ , وَفَتْنُ مُسْلِمٍ عَنْ دِينِهِ , وَقَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ , وَقَتْلُهُ , وَإِيوَاءُ جَاسُوسِ الْمُشْرِكِينَ , وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ مُكَاتَبَتِهِمْ , وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ رَسُولِهِ بِسُوءِ , فَالْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَفِي مَعْنَاهُمَا قِتَالُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي ذَلِكَ , فَإِذَا فَعَلُوهُ نَقَضُوا الْأَمَانَ ; لِأَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُونَا , لَزِمَنَا قِتَالُهُمْ , وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانِ , وَسَائِرُ الْخِصَالِ فِيهَا رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , أَنَّ الْعَهْدَ يُنْتَقَضُ بِهَا , سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا . إلَّا أَنَّ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ , لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهِ , مَا خَلَا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ الْأُولَى , فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ شَرْطُهَا , وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهَا بِكُلِّ حَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ . وَلَنَا , مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ , مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ اسْتِكْرَاهَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا , فَقَالَ : مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاكُمْ . وَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَأَشْبَهَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ . وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا فِيهِ حَدٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ أَوْ قِصَاصُهُ , وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا , عُزِّرَ وَيُفْعَلُ بِهِ مَا يَنْكَفُ بِهِ أَمْثَالُهُ عَنْ فِعْلِهِ . فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ كُفَّ عَنْهُ , فَإِنْ مَانَعَ بِالْقِتَالِ نُقِضَ عَهْدُهُ . وَمَنْ حَكَمْنَا بِنَقْضِ عَهْدِهِ مِنْهُمْ , خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; الْقَتْلُ , وَالِاسْتِرْقَاقُ , وَالْفِدَاءُ , وَالْمَنُّ , كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ , وَلَا شُبْهَةِ ذَلِكَ , فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ . وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهِ دُونَ ذُرِّيَّتِهِ ; لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ دُونَهُمْ , فَاخْتَصَّ بِهِ , كَمَا لَوْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا . قَالَ أَبُو إسْحَاقَ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَتَّخِذُ الشَّعْرَ ؟ فَقَالَ : سُنَّةٌ حَسَنَةٌ , لَوْ أَمْكَنَنَا اتَّخَذْنَاهُ . وَقَالَ : { كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُمَّةٌ . } وَقَالَ : تِسْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ شَعْرٌ . وَقَالَ : عَشَرَةٌ لَهُمْ جُمَمٌ . وَقَالَ : فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ { إنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ . وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : إلَى مَنْكِبَيْهِ . } وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ , قَالَ : { مَا رَأَيْت مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ . } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { رَأَيْت ابْنَ مَرْيَمَ لَهُ لِمَّةٌ } . قَالَ الْخَلَّالُ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى - يَعْنِي ثَعْلَبًا - عَنْ اللِّمَّةِ ؟ فَقَالَ : مَا أَلَمَّتْ بِالْأُذُنِ . وَالْجُمَّةُ : مَا طَالَتْ . وَقَدْ ذَكَرِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي حَدِيثِهِ : { أَنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ } , وَقَدْ سَمَّاهُ لِمَّةً . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شَعْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى صِفَةِ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا طَالَ فَإِلَى مَنْكِبَيْهِ , وَإِنْ قَصُرَ فَإِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ . وَإِنْ طَوَّلَهُ فَلَا بَأْسَ , نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ : أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ وَعُثْمَانُ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ . وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِي شَعْرٌ طَوِيلٌ , فَلَمَّا رَآنِي قَالَ : ذُبَابٌ ذُبَابٌ . فَرَجَعْتُ فَجَزَزْته , ثُمَّ أَتَيْته مِنْ الْغَدِ , فَقَالَ : لَمْ أَعْنِك } , وَهَذَا حَسَنٌ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ وَإِكْرَامُهُ , لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ { مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/58)
وَيُسْتَحَبُّ فَرْقُ الشَّعْرِ ; { لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَقَ شَعْرَهُ , وَذَكَرَهُ مِنْ الْفِطْرَةِ } فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ لَا يَفْرُقُوا شُعُورَهُمْ , لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ .
================
وفي فتاوى السبكي :(1)
( مَسْأَلَةٌ ) فِي مَنْعِ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله مُصَنَّفَاتٌ فِيهَا هَذَا :
__________
(1) -فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 174)(1/59)
أَحَدُهَا فَنَذْكُرُهُ بِنَصِّهِ قَالَ رضي الله عنه : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَيْقَظَنَا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَجَعَلَنَا مِنْ أَشْرَفِ مِلَّةٍ وَهَدَى إلَى أَشْرَفِ قِبْلَةٍ وَأَعْظَمِ نِحْلَةٍ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ كُلَّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهُ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُونَ فَضْلَهُ . أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ أَوْ إعَادَةِ الْكَنِيسَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ فَأَرَدْت أَنْ أَنْظُرَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَأُزِيلَ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الْعِلَّةِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَيُرْشِدنِي سُبُلَهُ وَتَوَسَّلْت بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا أَعْدَمَنِي اللَّهُ فَضْلَهُ وَظِلَّهُ وَقَفَوْتُ أَثَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَدْلِهِ وَشُرُوطِهِ الَّتِي أَخَذَهَا لَمَّا فَتَحَ الْبِلَادَ وَشَيَّدَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ , وَهَذَا التَّرْمِيمُ يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْهُ كَثِيرًا وَلَا سِيَّمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَيُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ وَتَخْرُجُ بِهِ مَرَاسِيمُ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ بِلَا إذْنٍ فِيهِ وَذَلِكَ خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ : لَوْ وَصَّى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَصِّي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا , وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا مُسْلِمًا كَانَ الْوَاقِفُ أَوْ كَافِرًا فَبِنَاؤُهَا وَإِعَادَتُهَا وَتَرْمِيمُهَا مَعْصِيَةٌ مُسْلِمًا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَوْ كَافِرًا هَذَا شَرْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ , وَأَمَّا أُصُولُهُ فَبِالْإِجْمَاعِ , وَأَمَّا فُرُوعُهُ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ وَكُلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ , وَمَنْ قَالَ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وَإِنَّمَا مُكَلَّفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ يَقُولُ إنَّ تَحْرِيمَ هَذَا كَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ كَسَائِرِ الْفُرُوعِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ فِي حَقِّهِمْ لَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ , أَمَّا إنَّهُ جَائِزٌ أَوْ حَلَالٌ أَوْ مَأْذُونٌ فِيهِ لَهُمْ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَأْتِي عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ . وَجَمِيعُ الشَّرَائِعِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُشْرَعُ الْيَوْمَ إلَّا شَرْعُهُ , بَلْ : أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ شَرْعٌ يُسَوَّغُ فِيهِ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ مَكَانًا يَكْفُرُ فِيهِ بِاَللَّهِ فَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ تَحْرِيمُ إنْشَاءِ الْمَكَانِ الْمُتَّخَذِ لَهُ وَالْكَنِيسَةُ الْيَوْمَ لَا تُتَّخَذُ إلَّا لِذَلِكَ وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً مَعْدُودَةً مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ , وَإِعَادَةُ الْكَنِيسَةِ الْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهَا إنْشَاءُ بِنَاءٍ لَهَا وَتَرْمِيمُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْحَرَامِ وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْحَرَامِ فَمَنْ أَذِنَ فِي حَرَامٍ وَمَنْ أَحَلَّهُ فَقَدْ أَحَلَّ حَرَامًا , مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إنِّي لَا أُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ } وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ أَوْ لَا يُمْنَعُونَ فَاَلَّذِي يَقُولُ لَا يُمْنَعُونَ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ جَائِزٌ , وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ وَالْإِحَالَةِ عَلَى فَهْمِ الْفَقِيهِ لِمَا عَرَفَ قَوَاعِدَ الْفِقْهِ فَلَا يَغْتَرُّ جَاهِلٌ بِذَلِكَ , وَالْفَقِيهُ الْمُصَنِّفُ قَدْ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِيهِ مَجَازٌ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْرِفُونَ مُرَادُهُ وَمُخَاطَبَتُهُ لِلْفُقَهَاءِ . وَأَمَّا الْمُفْتِي فَغَالِبُ مُخَاطَبَتِهِ لِلْعَوَامِّ فَلَا يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ وَلَا بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُ ظَاهِرِهِ , ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ إذَا اُشْتُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ(1/60)
الْفُقَهَاءُ إنَّهُمْ يُقِرُّونَ عَلَيْهَا وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَرْمِيمِهَا وَإِعَادَتِهَا وَأَمَّا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى إبْقَاءٍ , وَلَا يُمَكِّنُونَ مِنْ تَرْمِيمٍ أَوْ إعَادَةٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنْ الْإِذْنِ , وَالْإِذْنُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ . وَالثَّانِي أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ إنَّمَا هُوَ إذَا شُرِطَ أَمَّا إذَا لَمْ يُشْرَطْ فَيُمْنَعُ وَلَا يَبْقَى وَهَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوَاعِدَ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ فَكُلُّ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَشَرْطِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ إسْنَادِهَا وَهْنٌ فَلَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي قَصَدْنَاهُ ثَابِتٌ بِدُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلَالٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّا نَأْذَنُ لَهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْكَنِيسَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } فَالصَّوَامِعُ لِلرُّهْبَانِ وَالصَّلَوَاتُ قِيلَ إنَّهَا لِلْيَهُودِ وَاسْمُهَا بِلِسَانِهِمْ صِلْوَتَا , وَالْبِيَعُ جَمْعُ بِيعَةٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ قِيلَ لِلْيَهُودِ وَالْكَنَائِسُ لِلنَّصَارَى وَقِيلَ الْبِيَعُ لِلنَّصَارَى . وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْكَنَائِسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَاسِ الظَّبْيِ الَّذِي تَأْوِي إلَيْهِ فَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ يَأْوُونَ إلَى كَنَائِسِهِمْ فِي خِفْيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِعِبَادَتِهِمْ الْبَاطِلَةِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي اللُّغَاتِ : الْكَنِيسَةُ الْمَعْبَدُ لِلْكُفَّارِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ لِلنَّصَارَى . وَكُلُّ مَا أُحْدِثَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَهُوَ مُنْهَدِمٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْأَمْصَارِ , وَكَذَا فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ إذَا شُرِطَ يَجُوزُ الشَّرْطُ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ أَرَ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ كَلَامًا , وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ يُوَحِّدُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوَحَّدُ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ بُنِيَ لِذَلِكَ حَيْثُ كَانُوا عَلَى إسْلَامٍ , فَشَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام الْإِسْلَامُ كَشَرِيعَتِنَا فَلَا يُمَكَّنُ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودُ مِنْهُ . وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْبِلَادَ إلَى مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَصُلْحًا وَمَا أَنْشَأَهُ الْمُسْلِمُونَ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ كُلُّهُ لَا شَيْءَ مِنْهُ تَبْقَى فِيهِ كَنِيسَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ , سَوَاءٌ فُتِحَ عَنْوَةً أَمْ صُلْحًا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا لَمْ يَضُرَّ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّبْقِيَةِ الشَّرْطُ فِيهِمَا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ فَهَذَا مَوْضِعُ عُمْرِهِ فِي الْفِقْهِ هَلْ يُقَالُ : الْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ فَنَهْدِمُهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ شَرْطُ إبْقَائِهَا أَوْ يُقَالُ : إنَّهَا الْآنَ مَوْجُودَةٌ فَلَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ , وَهَذَا إذَا تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ الْفَتْحِ وَشَكَكْنَا فِي شَرْطِ الْإِبْقَاءِ فَقَطْ فَإِنْ شَكَّكْنَا فِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْفَتْحِ انْضَافَ شَكٌّ إلَى شَكٍّ فَكَانَ جَانِبُ التَّبْقِيَةِ أَضْعَفَ وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهُمْ هَلْ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا أَوْ نَقُولُ إنَّ بِلَادَنَا عَلَيْهَا وَعَلَى كَنَائِسِهَا وَهَلْ إذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ وَلَوْ قُلْنَا بِتَبْقِيَتِهَا لَا يَضْمَنُ صُورَةَ التَّأْلِيفِ كَمَا لَا يَضْمَنُ إذَا فُصِلَ الصَّلِيبُ وَالْمِزْمَارُ وَهَلْ يَضْمَنُ الْحِجَارَةَ وَنَحْوَهَا رَابِلُهُ التَّأْلِيفُ هَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ أَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ مَوَاتٍ كَنَقْرٍ فِي حَجَرٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ اتَّخَذَهَا لِذَلِكَ لِهَذَا الْقَصْدِ كَالْمَسْجِدِ الَّذِي يُبْنَى فِي الْمَوَاتِ بِغَيْرِ تَشْبِيهٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ وَوُقِفَتْ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ وَاقِفُهَا هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْمَوْجُودَةَ فَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ الْهَادِمُ ارْتَكَبَ حَرَامًا . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآثَارِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مَا يَقْتَضِي هَدْمَ الْكَنَائِسِ وَمَا يَقْتَضِي إبْقَاءَهَا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا وَصِفَتِهَا كَمَا(1/61)
سَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا تَغْتَرُّ سَادَةُ الْفُقَهَاءِ بِمَا تَجِدُهُ مِنْ بَعْضِ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتُحِيطُ عِلْمًا بِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ . وَلْنَشْرَعْ فِيمَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى طَالِبًا مِنْ اللَّهِ الْعَوْنَ وَالْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ :(1/62)
( بَابُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ) أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُقِيرُ أَنْبَأَ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ أَنَا الشَّيْخَانِ أَبُو رَجَاءٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُلَّةَ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَا أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْكَاتِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ شُرُوطِ الذِّمَّةِ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَبُو أَيُّوبَ ثنا سَعِيدُ بْنُ الْحُبَابِ ثنا عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تُجَدِّدُوا مَا ذَهَبَ مِنْهَا } هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا يَمِينَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } . قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي أَهْلِ الشَّامِ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ ابْنِ مَاجَهْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْمَهْدِيِّ . وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ . وَقَوْلُهُ لَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا عَامٌّ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ إذَا كَانَ صِلَةً لِمَوْصُولٍ احْتَمَلَ الْمُضِيَّ وَالِاسْتِقْبَالَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا لِلْعُمُومِ وَيَعُمُّ أَيْضًا التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ " مَا " يَعُمُّ خَرَابَ كُلِّهَا وَخَرَابَ بَعْضِهَا , وَقَوْلُهُ " لَا تُبْنَى " يَعُمُّ الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى , وَقَوْلُهُ " مَا خَرِبَ يَعُمُّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ وَالْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْبِنَاءِ فَكُلُّ مَا بَنَوْهُ أَوْ رَمَّمُوهُ أَوْ أَعَادُوهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي بِلَادٍ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ إذَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَنَا وَهَذَا بِلَا شَكٍّ . وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَيُمْنَعُ مِنْهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَهُمْ فِي إحْدَاثِ كَنَائِسَ فِيهَا فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَنَعَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَقَالَ الرَّافِعِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي مِلْكِهِمْ وَالدَّارُ لَهُمْ وَأَمَّا مَا بَنَوْهُ فِي مُدَّةِ الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهُمْ مُحَارَبُونَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَوْ صَالَحُونَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَنَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ الصُّلْحِ حُكْمًا جَدِيدًا . وَبِالْإِسْنَادِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِي ثنا مِقْدَامُ بْنُ دَاوُد بْنِ عِيسَى بِمِصْرَ ثنا النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ } . إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَبُنْيَانُ كَنِيسَةٍ يَشْمَلُ الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ الْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ . وَبِالْإِسْنَادِ إلَى ابْنِ حِبَّانَ ثنا ابْنُ رَسْتَةَ وَثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ قَالَا ثنا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ ثنا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { اهْدِمُوا الصَّوَامِعَ وَاهْدِمُوا الْبِيَعَ } إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِهِ فِيمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيمَا قَدِمَ . وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ ثنا(1/63)
حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ نَمِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ شَامِلٌ لِلْأَحْدَاثِ وَالْإِبْقَاءِ لَمْ يَبْعُدْ , يَخُصُّ مِنْهُ مَا كَانَ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلٍ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ , وَتَقْدِيرُهُ لَا كَنِيسَةَ مَوْجُودَةً شَرْعًا . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقَةٌ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهَا بِلَادُ صُلْحٍ وَلَا عَنْوَةٍ وَلَا غَيْرَهَا فَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ النَّفْيِ .
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ(1/64)
مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ ثنا جَرِيرٌ , ح وَقَرَأْتُ عَلَى الصَّنْهَاجِيِّ أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَنَا ابْنُ الْبَنَّاءِ أَنَا الْكَرُوخِيُّ أَنْبَأَ الْأَزْدِيُّ وَالْعَوْرَجِيُّ قَالَا أَنْبَأَ الْجَرَّاحِيُّ أَنَا الْمَحْيَوِيُّ ثنا التِّرْمِذِيُّ ثنا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تَكُونُ قِبْلَتَانِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ } هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جِزْيَةٌ } أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ . قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ فَرَوَاهُ الْعَتَكِيُّ وَأَبُو كُرَيْبٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ كَمَا رَأَيْت وَرَوَيْنَاهُ مُقْتَصَرًا عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } . فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي سَمِعْنَاهُ عَلَى شَيْخِنَا الدِّمْيَاطِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَجَرِيرٌ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَكِنَّ سُفْيَانَ أَجَلُّ مِنْهُ فَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُرْسَلُ أَصَحُّ , وَعَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُسْنَدِ زِيَادَةٌ , وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْخِلَافَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ وَقَابُوسُ فِيهِ لِينٌ مَعَ تَوْثِيقِ بَعْضِهِمْ لَهُ , وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ وَيَحْيَى لَا يُحَدِّثُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ , وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ وَحْدَهُ , وَعُدْت الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ الْبَكْرِيَّ فِي مَرَضِهِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ , وَقَالَ مَا بَقِيَ إلَّا تَصْحِيحُهُ وَأَفْتَى بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ وَبِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ حُكْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ رَأَيْت أَنَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَذْكُرُهُ فِي فَصْلٍ مُفْرَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ . وَفِي الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي نُعَيْمٌ عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ رَحْمَةٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَيْتِ عَذَابٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَرَاهُ يَعْنِي الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَبُيُوتَ النِّيرَانِ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعَ الْمَسَاجِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد بْنِ سُفْيَانَ ثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَبُو دَاوُد ثنا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ } لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا أَبُو دَاوُد وَبَوَّبَ لَهُ بَابَ الْإِقَامَةِ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِ , وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَبِإِسْنَادِنَا الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا فَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثنا مُضَرُ بْنُ عَطَاءٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ } . هَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَسْمِيَةِ الْكِتَابِيِّ مُشْرِكًا , فَالْحَدِيثُ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَاكَنَتِهِ , وَالْمُسَاكَنَةُ إنْ أُخِذَتْ مُطْلَقَةً فِي الْبَلَدِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ كَنِيسَةٌ لِأَنَّ الْكَنِيسَةَ إنَّمَا تَبْقَى لَهُمْ بِالشَّرْطِ إذَا كَانُوا فِيهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَقَبْلَهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ إلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَبَعْضُ طُرُقِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْنَدَهُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ(1/65)
الْبَجَلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ . وَلَفْظُ الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ قَالَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا } فَسَّرَ أَهْلُ الْغَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَاعِدَ مَنْزِلَهُ عَنْ مَنْزِلِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَنْزِلَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا أُوقِدَتْ فِيهِ نَارُهُ تَلُوحُ وَتُظْهِرُ لَنَا الْمُشْرِكَ إذَا أَوْقَدَهَا فِي مَنْزِلِهِ . وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ وَإِنَّمَا كَرِهَ مُجَاوَرَةَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ وَحَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ . وَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ يُقَالُ تَرَاءَى الْقَوْمُ إذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَرَاءَى لِي الشَّيْءُ إذَا ظَهَرَ حَتَّى رَأَيْتُهُ , وَإِسْنَادُ التَّرَائِي إلَى النَّارَيْنِ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَنْظُرُ إلَى دَارِ فُلَانٍ أَيْ تُقَابِلُهَا . يَقُولُ نَارَاهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ هَذِهِ تَدْعُو إلَى اللَّهِ وَهَذِهِ تَدْعُو إلَى الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ يَتَّفِقَانِ . وَالْأَصْلُ فِي تَرَاءَى تَتَرَاءَى حُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ظَاهِرٌ مُشْرِكًا أَوْ كِتَابِيًّا , وَالْكِتَابِيُّ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ إمَّا بِالنَّصِّ إنْ جَعَلْنَا مُشْرِكًا , وَإِمَّا بِالْمَعْنَى أَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ ذِمَّةَ فَالْمَعْنَى لَا يَقْتَضِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ . وَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُسَاكَنَتِهِ فِي بَلَدٍ يُفْرَدُ لَهُ مَكَانٌ لَا يُجَاوِرُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ تَبْعُدُ نَارُهُ . وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ انْطَلِقُوا فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ وَقَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا } . وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَلَمْ يَحِلَّ مَنْ فِيهَا مِنْ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْوِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ . { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ لِلَّهِ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ , وَأَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرَةِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرْيِحَاءَ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ إلَّا مَا فِي الْأَخِيرِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو الْيَامِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ النِّصْفِ فِي صَفَرٍ وَالنِّصْفِ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ(1/66)
وَعَارِيَّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ وَلَا يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا } . قَالَ إسْمَاعِيلُ : فَقَدْ أَكَلُوا الرِّبَا . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَنَقَضُوا بَعْضَ مَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ حَسَنٌ جِدًّا عُمْدَةٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الصُّلْحِ وَتَسْوِيغِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ فِي مِثْلِهِ عَدَمَ هَدْمِ بِيَعِهِمْ وَانْظُرْ كَوْنَهُ لَمْ يَشْتَرِطْ إلَّا عَدَمَ الْهَدْمِ مَا قَالَ التَّبْقِيَةُ فَإِنَّ التَّبْقِيَةَ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ كَمَا فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي يَجِبُ إبْقَاؤُهُمَا فَلَمْ يُرِدْ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَمِدُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى , وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ نَصَارَى مِنْهُمْ الْعَاقِبُ أَمِيرُهُمْ وَأَبُو الْحَارِثِ أُسْقُفُهُمْ وَالسَّيِّدُ صَاحِبُ رَحْلِهِمْ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحَبِرَةِ وَأَرْدِيَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعُوهُمْ ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ زِيِّكُمْ هَذَا فَانْصَرَفُوا ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ بِزِيِّ الرُّهْبَانِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا وَأَكْثَرُوا الْكَلَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنْ أَنْكَرْتُمْ مَا أَقُولُ فَهَلُمَّ أُبَاهِلْكُمْ فَامْتَنَعُوا مِنْ الْمُبَاهَلَةِ وَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى هَذَا . وَقَالَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌ مِنْ سَقِيفَاهُ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيِّتِهِ فَرَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ فَلَمْ يَلْبَثْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى رَجَعَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَا فَأَنْزَلَهُمَا دَارَ أَبِي أَيُّوبَ وَأَقَامَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى مَا كَتَبَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ ثُمَّ وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ ثُمَّ أَصَابُوا رِبًا فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْ أَرْضِهِمْ وَكَتَبَ لَهُمْ مَنْ سَارَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَاءً لَهُمْ بِمَا كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ . فَمَنْ وَقَعُوا بِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ الْعِرَاقِ فَلْيُوَسِّقْهُمْ مِنْ جَرِيبِ الْأَرْضِ فَمَا اعْتَمَلُوا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُمْ صَدَقَةٌ بِمَكَانِ أَرْضِهِمْ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَا مَغْرَمَ فَمَنْ حَضَرَهُمْ فَلْيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَقْوَامُ أَهْلُ ذِمَّةٍ وَجِزْيَتُهُمْ عَنْهُمْ مَتْرُوكَةٌ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بَعْدَ أَنْ يَقْدَمُوا فَوَقَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ فَنَزَلُوا النَّجْرَانِيَّةَ الَّتِي بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ } . فَانْظُرْ كَمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ وَتَرْكُهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ إحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَأْنِيسٌ لَهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَعَدَمُ كَلَامِهِمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزِّيِّ وَالْحَرِيرِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنَّا , وَعَقْدُهُ الصُّلْحَ مَعَ كِبَارِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ رَاضُونَ بِهِ , وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى الْحُلَلِ وَغَيْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْجِزْيَةِ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ , وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ أَوْ قِيمَتُهَا أَوَاقِي . فَأَمَّا الْحُلَلُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا مَعْلُومَةٌ وَأَمَّا التَّرَدُّدُ بَيْنَهَا بَيْنَ قِيمَتِهَا فَإِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى اغْتِفَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الدُّرُوعِ وَالسِّلَاحِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ مَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيَافَةِ , وَالْأَصْحَابُ(1/67)
اجْتَهَدُوا فِي بَيَانِ إعْلَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُشْتَرَطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ نَجْرَانَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِمْ فَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِيهَا الْفَتْحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْبَلَدِ لَهُمْ وَيُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَإِلَّا مُنِعَ مِنْ بَقَاءِ الْكَنَائِسِ فِيهَا . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ وَمُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْقَاءِ عَدَمُ الْهَدْمِ ثُمَّ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ أَعْنِي شَرْطَ كَوْنِ الْبَلَدِ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِأَمِيرٍ فَقَطْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِمْ , وَمَعْنَى بَقَاءِ الْأَرْضِ لَهُمْ أَنَّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَنْ لَهُ مِنْهَا فِيهَا مِلْكٌ مُخْتَصٌّ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي نَجْرَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ(1/68)
وَذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى , وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ . وَيَدُورُ فِي خَلَدِي أَنَّ نَجْرَانَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ دَوْمَةَ وَنَحْوِهَا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا طَرَقُوهُ وَإِنَّمَا جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَصَفْنَا وَجَاءَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَكَذَا إلَى جِهَاتٍ أُخْرَى وَكُلُّهُمْ أَطَاعُوا لِلْجِزْيَةِ وَاسْتَقَرُّوا فِي بِلَادِهِمْ , وَقَدْ يَكُونُ بَلَدًا وَجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَلَمْ يُتَّفَقْ أَخْذُهَا عَنْوَةً وَلَا صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَنَا بَلْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَهُمْ بِخَرَاجٍ فَهَلْ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ خَاصٌّ بِالثَّانِي أَوْ عَامٌّ فِي الْقِسْمَيْنِ ؟ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي ; لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْفَتْحِ وَيُعَدُّ مِمَّا هُوَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ . وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الَّذِي دَارَ فِي خَلَدِي إذَا انْجَلَوْا عَنْهُ كَمَا اتَّفَقَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ هَلْ نَقُولُ أَرَاضِيهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ وَلِذَلِكَ عَوَّضَهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاعِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا فِي رُجُوعِ الْأَرَاضِيِ إلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَعْرِضُوا عَنْهَا فَيَكُونَ فَيْئًا أَوْ يُوجَفَ عَلَيْهَا فَيَكُونَ غَنِيمَةً وَاَلَّتِي أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنُوا مِنْهَا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى جِزْيَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرَاضِيهَا بَاقِيَةً لِأَهْلِهَا تَكُونُ الْأَرْضُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ فَإِذَا نَقَضُوهُ رَجَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ . هَذَا شَيْءٌ دَارَ فِي خَلَدِي وَلَمْ أُمْعِنْ الْفِكْرَ فِيهِ وَلَا وَقَفْتُ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ لِأَحَدٍ . وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْقِسْمَيْنِ تَكُونُ فَيْئًا كَمَا فِي قُرَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَيَكُونُ تَعْوِيضُ عُمَرَ رضي الله عنه تَكَرُّمًا عَلَيْهِمْ وَجَبْرًا لَهُمْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ وَرِعَايَةً لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْعَقْدِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , وَأَمَّا خَيْبَرُ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَقَّ لِلْيَهُودِ فِي أَرْضِهَا . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ وَإِنْ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ فَهِيَ مِمَّا يَجِبُ هَدْمُهُ وَكَذَا إنْ كَانَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبِإِجْلَائِهِمْ يَزُولُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ لَهُمْ بَيْتُ مَدَارِسَ كَمَا تَقَدَّمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْكَنِيسَةُ فَهِيَ مُنْهَدِمَةٌ . وَبَلَغَنِي أَنَّ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ آثَارَ كَنَائِسَ مُنْهَدِمَةٍ كَأَنَّهَا كَانَتْ لِلْيَهُودِ لَمَّا كَانُوا بِهَا وَحُكْمُهَا وَحُكْمُ أَمَاكِنِهَا أَنَّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَخَيْبَرُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ أَهْلَهَا عُمَّالًا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ لِعِمَارَتِهَا فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَعَادَتْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ حَمَّادٌ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَدَعُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا } قَالَ فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ فَارِسَ فِي أَرْضِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُمْ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظُنَّ . وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي أَرْضٍ قَدْ قَهَرَ مَنْ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ مُبَدِّلُهُ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَقْدُ صُلْحٍ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا إلَّا عَلَى النَّظَرِ فِيهِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا وَذَلِكَ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى نَبْطٍ سَوَادِ الْعِرَاقِ فِي السَّوَادِ بَعْدَ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ فِيهَا بَعْدَ غَلَبِهِمْ عَلَى أَرْضِهَا دُونَ حُصُونِهَا فَإِنَّهُ أَقَرَّهُمْ فِيهَا لِضَرُورَةٍ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ لِلْفِلَاحَةِ وَالْإِكَارَةِ وَعِمَارَةِ الْبِلَادِ إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا بِالْحَرْبِ مَشَاغِيلَ وَلَوْ كَانُوا أَجْلَوْا عَنْهَا خَرِبَتْ الْأَرَضُونَ وَبَقِيَتْ غَيْرَ عَامِرَةٍ لَا تُوَاكَرُ فَكَانَ فِعْلُهُ(1/69)
ذَلِكَ نَظِيرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِ وَزِيرِهِ الصِّدِّيقِ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ يَهُودَ خَيْبَرَ بَعْدَ قَهْرِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ وَغَلَبَةِ أَهْلِهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ فِيهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ وَعُمَّارًا لِأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إذْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ إلَيْهِمْ لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَشَغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ وَمُنَاوَأَةِ الْأَعْدَاءِ ثُمَّ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُمْ وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ عِنْدَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ إقْرَارَهُمْ فِي الْأَرْضِ عُمَّارًا لِأَهْلِهَا فَأَجَابَهُمْ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ , وَأَمَّا إقْرَارُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهِمْ وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ غَلَبَةِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِهِ فِيهِ عَقْدُ صُلْحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَا نَعْلَمُهُ صَحَّ بِهِ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى خَبَرٌ وَلَا قَامَتْ بِجَوَازِ ذَلِكَ حُجَّةٌ بَلْ الْحُجَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأَخْبَارُ عَنْ الْأَئِمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَا خَالَفَهُ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كَانَ مُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لَا يَبِيتَنَّ بِالْكُوفَةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا مَجُوسِيٌّ الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ أَوْ بِزُرَارَةَ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ فَمَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا إلَّا عُنُقَهُ . قَالَ أَبُو هِشَامٍ وَسَمِعْت يَحْيَى بْنَ آدَمَ يَقُولُ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ كِتَابٍ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ مِصْرًا سَاكِنُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ دُونَ مِصْرٍ بَلْ عَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ أَمْصَارِهِمْ وَأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . يُوَضِّحُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْإِسْلَامَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ وَكَانَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّتِي صَالَحُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا إلْحَاقًا لِحُكْمِهِ حُكْمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَرَ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَطُّوهَا وَلَا كَانَتْ نَجْرَانُ مِنْ الْمَدَائِنِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَزَلُوهَا بَلْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قُرًى وَمَدَائِنُ وَهُمْ كَانُوا عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا , فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إذْ غَلَبَهَا وَأَهْلَهَا الْإِسْلَامُ وَسُكَّانَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ الَّذِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ بَعْضُ النَّظَرِ وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الْخَطَّابِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيُّ ثنا يَعْقُوبُ بْنُ جَعْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يَنْزِلُ بِأَرْضٍ دِينٌ مَعَ الْإِسْلَامِ } حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالُوا ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ } حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا جَعْفَرٌ الْأَحْمَرُ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ . حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ(1/70)
الزُّبَيْدِيِّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ قَالَ فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي بِهِ اسْتَشْهَدْنَا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَقَرَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَةٍ بِأَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ إلَيْهِمْ إمَّا لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَفِلَاحَتِهَا وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا غِنَى بِهِمْ عَنْهُمْ أَلَّا يَدَعَهُمْ فِي مِصْرِهِمْ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْ يُسْكِنَهُمْ خَارِجًا مِنْ مِصْرِهِمْ مَا دَامَتْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ كَاَلَّذِي فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَعَلِيٌّ وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ فِي أَمْصَارِهِمْ فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ مَنْ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ دَارًا أَوْ ابْتَنَى بِهِ مَسْكَنًا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُهُ يَبِيعُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا مُسْلِمًا مِنْ مَمَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَهُ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ إقْرَارُ مُسْلِمٍ فِي مِلْكِ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِلْكِهِ . هَذَا كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله . فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي خَيْبَرَ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي نَجْرَانَ فَعَجَبٌ وَنَجْرَانُ قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ حَالُهَا يُشْبِهُ حَالَ خَيْبَرَ وَلَا أَهْلُهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَعْلُومٌ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إجْلَاؤُهُمْ فِي أَنَّ غَيْرَ الْحِجَازِ مِنْ الْجَزِيرَةِ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ وَهِيَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ فِيهِ رُوحٌ وَلَا مَدْفَعَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ وَالنَّصِّ وَالْقِيَاسُ وَالْعَمَلُ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَافِعٌ لِكَلَامِهِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ : كُلُّ مَوْضِعٍ وَجَدْنَا فِيهِ نَصَارَى غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِمْ وَتَحَقَّقْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إقْرَارَهُمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ صُلْحٌ وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي بَلَدٍ نَفْتَحُهَا الْيَوْمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ دَافِعٌ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ نَصْرَانِيٌّ غَرِيبٌ إلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ لَهُ أَوْ لِأَسْلَافِهِ صُلْحٌ فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَلْدَةٌ قَرِيبَةُ الْفَتْحِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَالِهَا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَقْدِ الصُّلْحِ فِيهَا وَأَرَادَ سُكْنَاهَا مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَقْدُ صُلْحٍ وَلَا دُخُولَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُثْبِتَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي الْبِلَادِ الْقَدِيمَةِ كَدِمَشْقَ وَبَعْلَبَكّ وَحِمْصَ وَمِصْرَ وَمَا أَشْبَهَهَا فِيهَا نَصَارَى لَا حَاجَةَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ . وَلَا نَعْلَمُ هَلْ تَقَدَّمَ لَهُمْ عَقْدُ صُلْحٍ يَقْتَضِي إقَامَتَهُمْ فِيهَا أَوْ لَا فَهَلْ نَقُولُ الْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ حَتَّى يَثْبُتَ , وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ , أَوْ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهُمْ بِحَقٍّ فَلَا يُزْعَجُونَ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ , هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَيَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ شَوَاهِدُ فِي الْفِقْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ وَجْهَانِ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ غَيْرِ الْأَصْلِ بَعِيدٌ مَعَ تَطَابُقِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُودِهِمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَوْ بَقَائِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَمَادِي الْأَوْقَاتِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَاطِ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ بِمَنْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ أَوَّلُ مَا يُسْمَعُ يُسْتَنْكَرُ وَإِذَا نُظِرَ فِيهِ لَمْ نَجِدْ عَنْهُ مَدْفَعٌ شَرْعِيٌّ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فِيمَا يَحْدُثُ وَمَنْعُهُ مِنْ تَمَلُّكِ دَارٍ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ غَرِيبٌ مَعَ اقْتِصَارِ(1/71)
الْبَحْثِ لَهُ . وَهَذَا طَرِيقٌ إلَى نَقْصِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي صِحَّةِ شِرَائِهِ خِلَافٌ كَنَظِيرِهِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ . وَمِمَّا يُوقَفُ عَنْ قَبُولِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُوَادِعِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَوَّلِ مُدَّةً طَوِيلَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ شُرِعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ أَوْ أَنَّ وُجُوبَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ إجْلَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ كَانَ جَيِّدًا وَكُنَّا نَحْمِلُ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ إبْقَائِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَا رَأَى الْمَاضُونَ الْمَصْلَحَةَ فِي إجْلَائِهِمْ . وَاَلَّذِي يَشْهَدُ الْخَاطِرُ أَنَّ سَبَبَهُ إهْمَالُ الْمُلُوكِ ذَلِكَ وَعَدَمُ نَظَرِهِمْ وَلَيْسُوا أَهْلَ قُدْوَةٍ وَأَعْمَالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهِمَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِيلَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ مَشْغُولُونَ بِعِلْمِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ عَنْ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَتَضْيِيعِ زَمَانِهِمْ فِيهِ مَعَ صُعُوبَتِهِ كَمَا نَحْنُ نُشَاهِدُ , وَلَقَدْ كَانَ الْبَكْرِيُّ شَاهَدَ مِنْ عُلُوِّهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ مَا أَوْجَبَ تَأَثُّرَ قَلْبِهِ وَانْفِعَالِهِ لِقَبُولِ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي الْأَمْصَارِ إذَا كَانَ إلَيْهِمْ حَاجَةٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَهُ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ أَشَقُّ كَانَ يَقُولُ لَهُ أَسْلِمْ حَتَّى أَسْتَعْمِلَك فَإِنِّي لَا أَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مُسْلِمًا فَيَأْبَى فَأَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَبُو لُؤْلُؤَةَ كَانَ مَجُوسِيًّا لَكِنْ مَا جَاءَ مِنْهُ خَيْرٌ . وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ مَهْمَا تَنْصَحْ فَلَنْ نَعْزِلَك عَنْ عَمَلِك وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ مَجُوسِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . وَكَانَ الْمُنْذِرُ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْلَامِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَإِنِّي قَرَأْت كِتَابَك عَلَى أَهْلِ هَجَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ الْإِسْلَامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ فَأَحْدِثْ إلَيَّ فِي ذَلِكَ أَمْرَك فَانْظُرْ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَخْرِجْهُمْ مِنْ بِلَادِك وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ تَأَلُّفُهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ الذِّلَّةِ , وَكَانَتْ كِتَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى بَعْدَ إجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى النَّجَاشِيِّ فَأَسْلَمَ عِنْدَهُ الْحَبَشَةُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهِمْ وَكَتَبَ إلَى عَبَدَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا الصَّدَقَةَ وَالْجِزْيَةَ فَيَدْفَعُوهَا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ . وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ فِي الْجِزْيَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ , وَقَدْ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهَا أَحْكَامٌ وَلَمْ يُخْرِجُوا أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَهُ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إخْرَاجَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إنَّمَا هُوَ مِنْ الْحِجَازِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي إجْلَاءِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ إلَى مَكَان آخَرَ يَرَاهُ فَلَهُ ذَلِكَ إلَى حَسَبِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلَّا فَيَخْشَى أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيُبْقِيَ مَنْ شَاءَ بِحَسَبِ هَوَى نَفْسِهِ وَغَرَضِهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } وَهُوَ وَصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَوَازُهُ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى قوله تعالى { وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ } وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ فَلَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الدِّينَ كَمُلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ مَا تَقَرَّرَ جَوَازُهُ وَتَحَتُّمُهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ صلى الله عليه وسلم(1/72)
وَعَمِلَ بِهِ عُمَرُ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ مِنْ الْحِجَازِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِلْإِمَامِ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَيَضِيقُ الْأَمْرُ وَلَا يَمْتَنِعُ بَلْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَوْ صُلْحٌ وَمَتَى شَكَّ فِي صُلْحٍ مُتَقَدِّمٍ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ اُدُّعِيَ صُلْحٌ قَرِيبٌ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ إمَامٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ بَعُدَ الْعَهْدُ وَاحْتَمَلَ الصُّلْحَ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَجَبَ إبْقَاءُ مَنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَلَا يُكَلَّفُ بِبَيِّنَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ كَالْيَدِ , وَلِهَذَا نَظِيرٌ وَهُوَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَقُولُ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ شَخْصٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ . وَلَوْ قَالَ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ زَيْدٍ وَأَنْكَرَ زَيْدٌ أَوْ وَارِثُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ أَوْ وَارِثِهِ كَمَا لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : كُنْت زَوْجَةً لِزَيْدٍ فَطَلَّقَنِي يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِ زَيْدٍ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَتْ كُنْت زَوْجَةً لِرَجُلٍ وَطَلَّقَنِي قُبِلَ قَوْلُهَا . وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا أَجَابَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالنَّفَائِسِ فِي أَدِلَّةِ هَدْمِ الْكَنَائِسِ وَحَاوَلَ أَنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ يُكَلَّفُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى قِدَمِ الْكَنَائِسِ وَأَنَّهُمْ مُدَّعُونَ وَلَا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا إلَى زَمَانٍ تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا فِيهِ . وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَعَ الْيَدِ ضَعِيفٌ . وَأَنَا أَقُولُ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا الْيَدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ لِمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ فِي الْمَاضِي . وَادَّعَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَيْضًا لِمَا وُجِدَ الْآنَ وَشَكَكْنَا فِيهِ فِي الْمَاضِي , وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافُهُ لَكِنَّ التَّمَسُّكَ فِيهِ بِصُورَةِ الْيَدِ قَوِيٌّ فَإِذَا اُحْتُمِلَ وَلَمْ يَكُنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيَّرَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّا لَوْ كَلَّفْنَا أَرْبَابَ الْأَيْدِي إلَى بَيِّنَةٍ مَعَ جَهَالَةِ مَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَسْلِيطٌ لِلظَّلَمَةِ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ , وَلَوْ جَوَّزْنَا الْحُكْمَ بِرَفْعِ الْمَوْجُودِ الْمُحَقَّقِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ لَزِمَ أَيْضًا ذَلِكَ , وَالْحُكْمُ بِالشَّكِّ فِي قِدَمِهِ مِنْ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ الْمُحْتَمِلَةِ الْقِدَمِ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ مِنِّي بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِإِبْقَائِهَا لَكِنَّ تَوَقُّفِي فِيهَا لَا فِي الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ الْأَصْلِ بَلْ بِبَيِّنَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ وَالْبِلَادُ بِحَسَبِ غَرَضِنَا هَذَا ثَلَاثَةٌ : ( أَحَدُهَا ) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِأَهْلِهَا شَيْئًا فَلِلْإِمَامِ إخْرَاجُ الْكُفَّارِ مِنْهَا وَمَنْعُهُمْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا جَوَازًا قَطْعًا , وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِهِ إذَا رَأَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . ( الْبَلَدُ الثَّانِي ) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ كَسَوَاحِلِ الشَّامِ فَهَلْ نَقُولُ الِاعْتِبَارُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا حُكْمُ فُتُوحِ عُمَرَ ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي لِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ لَا أَثَرَ لَهُ . ( الْبَلَدُ الثَّالِثُ ) مَا فُتِحَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُغَيَّرَ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ عَمَلًا بِالْيَدِ أَوْ شِبْهِ الْيَدِ لِتَعَذُّرِ ثُبُوتِ خِلَافِهِ .
وَإِذَا أَبْقَيْنَا كَنِيسَةً فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنْ لَا نَهْدِمَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ(1/73)
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِيهَا وَلَا الْتِزَامٌ بِذَلِكَ وَلَا التَّمْكِينُ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا شُعِّثَتْ وَلَا إعَادَتُهَا إذَا خَرِبَتْ , كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهَا مِثْلَنَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ أَعْنِي التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ فَكَانَ مَمْنُوعًا فَصَارَ الْإِذْنُ بِالتَّرْمِيمِ أَوْ بِالْإِعَادَةِ مُمْتَنِعًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ شَكٍّ فَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَكَمَا أَنَّا لَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ فَلَا نُرَمِّمُهَا أَوْ نُعِيدُهَا بِالشَّكِّ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ بِالتَّقْرِيرِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لِتَحَقُّقِ تَحْرِيمِهِ فِي الشَّرْعِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ , وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ فَكَذَلِكَ أَقُولُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ مَعَ عَدَمِ الْهَدْمِ فِي الْأَصْلِ وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا احْتِيَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ , وَلَا إلَى شَرْطٍ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى صِحَّةِ شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ أَصْلُهَا عَلَى الْإِذْنِ . وَقَدْ عَرَّفْتُكَ أَنَّ أَصْلَ الْكَنَائِسِ عَلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَنْ ادَّعَى جَوَازَ التَّقْرِيرِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ , وَنَحْنُ إنَّمَا نَذْكُرُ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالشُّرُوطِ تَأْكِيدًا , وَالْأَصْحَابُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَنْعِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَيِّدٌ هُوَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَوْ لَمْ يَقُولَاهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا ذَلِكَ كُنَّا قَائِلِينَ بِهِ . وَرَأَيْت فِي كِتَابِ الْجَوَاهِرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا اتَّجَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالْخَمْرِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : إذَا جَلَبُوهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا إلَى أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا ذِمَّةَ فِيهَا فَاسْتَشْعَرْت مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا كَانُوا فِي الْقُرَى وَلَعَلَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَثَ سُكْنَاهُمْ الْأَمْصَارَ بَعْدَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ , وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ بِإِحْدَاثِهَا فِي الْقُرَى الَّتِي يَتَفَرَّدُونَ بِالسُّكْنَى فِيهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ , وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِمَنْعِهَا لِأَنَّهَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَبْضَتِهِمْ وَإِنْ انْفَرَدُوا فِيهَا فَهُمْ تَحْتَ يَدِهِمْ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ لِأَنَّهَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُرِيدُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ قَرْيَةً فِيهَا مُسْلِمُونَ فَيُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ بِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِيهَا . فَإِنَّ هَذِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْصَارِ فَتَكُونُ مَحَلَّ إجْمَاعٍ وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقُرَى الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهَا بِسَكَنِهِمْ فِيهَا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا . أَوْ لِمَا يُرْجَى مِنْ إسْلَامِهِمْ صَاغِرِينَ بَاذِلِينَ لِلْجِزْيَةِ , فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُبْقِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَسْمَعُوا مَحَاسِنَهُ فَلَمْ يَسْلَمُوا وَلَوْ بَقِينَاهُمْ بِلَا جِزْيَةٍ وَلَا صَغَارٍ غَرُّوا وَأَنِفُوا فَبَقِينَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ لَا قَصْدًا فِيهَا بَلْ فِي إسْلَامِهِمْ . وَلِهَذَا إذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام لَا يَقْبَلُهَا لِأَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا الَّتِي يُرْجَى إسْلَامُهُمْ فِيهَا فَرَغَتْ . وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ فَزَالَ حُكْمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ وَهُوَ اقْتِصَارُ إسْلَامِهِمْ وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ حُكْمًا جَدِيدًا فَإِنَّ عِيسَى عليه السلام إنَّمَا يَنْزِلُ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَبَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ هَذَا وَقَفْتُ عَلَى شَرْحِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ : وَهَذَا الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَمْصَارَ مَحَلُّ إقَامَةِ الشَّعَائِرِ . وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ : وَالْمَرْوِيُّ فِي دِيَارِنَا يَمْنَعُونَ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا لِأَنَّ لَهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ . وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ رحمه الله فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ(1/74)
أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَقُرَاهُمْ . وَفِي الْكَافِي مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ لِحَافِظِ الدِّينِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ .
( بَابُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ )
أَمَّا عُمَرُ رضي الله عنه فَسَنُفْرِدُ لِشُرُوطِهِ بَابًا . وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَظْهَرَ صَلِيبٌ إلَّا كُسِرَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ . وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ لِابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَّافٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ . وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي سِرَاجِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الْكَنَائِسَ الْحَادِثَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَبْقَى فِي الْأَمْصَارِ إجْمَاعًا وَلَا فِي الْقُرَى عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِإِبْقَائِهَا فِي الْقُرَى بَعِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَنَحْكِيهِ فِي الْمِصْرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّمَا نَعْنِي بِالْمِصْرِ أَيَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَدِينَةً أَوْ قَرْيَةً . وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِعْلُهُ لِأَبِي يَعْلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءِ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ رِسَالَةً إلَى الْوَزِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَذَكَرَهَا وَأَطَالَ ثُمَّ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ يَعْنِي هَذِهِ الْمُحَدِّثَةَ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَثَرَ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَ : وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَهْدِمُهَا بِصَنْعَاءَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ . وَاَلَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يَعْنِي فِي الْمُحَدِّثَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ : وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْرَكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِيعَةٌ وَلَا كَنِيسَةٌ بِحَالٍ قَدِيمَةً وَلَا حَدِيثَةً وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُتْرَكَ الْبِيعَةُ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَفِيهِ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ بَقَاءِ الْأَوْثَانِ بَعِيدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا يَجُوزُ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَيْهِ , فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَا تَدَعْ قَبْرًا نَاتِئًا عَنْ الْأَرْضِ إلَّا سَوَّيْتَهُ وَلَا صَنَمًا إلَّا كَسَّرْتَهُ وَلَا صُورَةً إلَّا مَحَوْتَهَا } . رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إلَيْهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَأَصَحُّ مِنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ { عَنْ أَبِي الْهَيَاجِ حَيَّانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ طَلَبَنِي عَلِيٌّ فَقَالَ : أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ } . وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا عُمُومِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ كَانَ فِي الْكُوفَةِ وَتِلْكَ الْبِلَادُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُشْرِكُونَ فَقَطْ بَلْ فِيهَا جَمَاعَةٌ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ , أَمَّا النِّيرَانُ فَقَرِيبٌ وَهِيَ إنَّمَا هِيَ لِلْمَجُوسِ فَتَقْرِيرُهُمْ عَلَيْهَا كَتَقْرِيرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِذَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْ مِنْهُ . وَهُنَا لَطِيفَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ مِنْ قِسْمِ الْأُصُولِ وَالنِّيرَانِ مِنْ قِسْمِ الْفُرُوعِ وَنَجِدُ أَكْثَرَ مَا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِ الْفُرُوعِ وَاحْتِمَالُهَا رَجَاءَ الْإِسْلَامِ سَهْلٌ , وَأَمَّا الْأَوْثَانُ فَشِرْكٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُحْتَمَلُ . وَقَوْلِي " ظَاهِرٌ " احْتِرَازٌ مِمَّا نَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّهُ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ كَنَائِسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ فَلَوْ(1/75)
أَظْهَرُوهُ لَمْ نَحْتَمِلْهُ وَلِذَلِكَ تُقْسَمُ الشُّرُوطُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِمْ إلَى مَا مُخَالَفَتُهُ نَاقِضَةٌ لِلذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَفْصِيلٍ وَتَحْرِيرٍ مَذْكُورٍ فِي بَابِهِ فَهَذَا لَا يُحْتَمَلُ وَمَا سِوَاهُ قَدْ يُحْتَمَلُ . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ ثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثنا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ أَنْ يَمْحُوَ التَّمَاثِيلَ الْمُصَوَّرَةَ . وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْحَسَنِ لِتَرْكِ الْبِيَعِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْحَادِثَةَ وَالْقَدِيمَةَ كَمَا نَقَلَهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْهُ وَأَنَّهُ قَالَ أَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُوَافِقٌ لَهُ وَزَائِدٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمِصْرَ فِي كَلَامِ الْحَسَنِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ مَوْضِعٍ وَمُحْتَمِلٌ لِلْمُدُنِ , وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله عَامٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُهْدَمَ مِنْ جَمِيعِهَا الْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْفَتْحِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ الصُّلْحِ وَهُوَ إمَامُ هُدًى مُطَاعٌ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَأَمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِهِ كَنِيسَةٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَأَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ بِهَا الْيَوْمَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَدَثَ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَطَّلِعْ هُوَ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا يَحْتَجُّ فِي إبْقَاءِ مَا نَجِدُهُ مِنْهَا . وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ هَدْمِهَا لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَهْدِمْهَا فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ , هَذَا إنْ صَحَّ السَّنَدُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَةً فِي الْإِبْقَاءِ . وَهَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيِّ قَالَ : جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمْ بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ صُولِحُوا عَلَيْهِ . فَقَوْلُهُ " صُولِحُوا عَلَيْهِ " قَيْدٌ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ , وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَامٌّ . وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ خَاصٌّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَيَكُونُ هَذَا فِي بِلَادِ الْمَجُوسِ , وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِيهِ بَيْتَ النَّارِ أَوْ فِي بِلَادِهِمْ وَبِلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي صَالَحُوا عَلَيْهَا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِيهَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نُقِلَتَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَا صُلْحَ لَهُمْ عَلَى إبْقَائِهَا فِي فَتْحِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ حُكْمِهِ وَأَقْرَبُهَا الشَّامُ لِأَنَّهَا سَكَنُهُ وَمِصْرُ وَالْعِرَاقُ يَكْتَنِفَانِهَا . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابٌ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا فِي غَيْرِهِمْ , وَالْغُرُّ يَسْمَعُ لَا تَهْدِمُوا فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ , وَإِنَّمَا هُوَ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فِي بِلَادٍ مَخْصُوصَةٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى لَفْظٌ عَامٌّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَاشْتُهِرَ اشْتِهَارًا كَثِيرًا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَلِلْعَجَمِ أَنْ يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً وَبِيعَةً . فَقَالَ أَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِنَاءً أَوْ قَالَ بِيعَةً وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا أَوْ يَدْخُلُوا فِيهِ . وَأَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ فَنَزَلُوا يَعْنِي عَلَيْهِمْ فَلِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ وَلِلْعَجَمِ عَلَى الْعَرَبِ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِهِمْ وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ . وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ(1/76)
بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَجَعَلُوهُ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ وَسُكُوتُ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ إجْمَاعًا . وَقَدْ رَوَيْنَا أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدًا إلَيْهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّحَبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّمْصِيرُ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا الْبِلَادُ يُسْلِمُ عَلَيْهَا أَهْلُهَا كَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ أَوْ بَعْضُهَا وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ فَاخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالثُّغُورِ وَكُلُّ قَرْيَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ , وَلَكِنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا كَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ . فَهَذِهِ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَأَشْبَاهُهَا لَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِيهَا إلَى إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ . وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْهُمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ , فَمِنْ بِلَادِ الصُّلْحِ أَرْضُ هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَأَيْلَةَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَذْرُحَ أَدَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ وَمِنْ الصُّلْحِ بَعْدَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَدِمَشْقُ وَمُدُنُ الشَّامِ دُونَ أَرَاضِيهَا وَكَذَلِكَ بِلَادُ الْجَزِيرَةِ وَقِبْطُ مِصْرَ وَبِلَادُ خُرَاسَانَ وَكَذَلِكَ كُلُّ بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بِالسَّوَادِ وَكَذَلِكَ بِلَادُ الشَّامِ كُلُّهَا عَنْوَةً خَلَا مُدُنَهَا وَكَذَلِكَ الْجَبَلُ وَالْأَهْوَازُ وَفَارِسُ وَالْمَغْرِبُ وَالثُّغُورُ , فَهَذِهِ بِلَادُ الْعَنْوَةِ . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ فَكَتَبَ أَنْ اكْسَرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدِيمٍ عَلَيْهِ وَوُجِدَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ رُوَيْشِدٌ فَقَالَ أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِبَ وَنَظَرَ إلَى غُرَارَةَ فَقَالَ مَا هَذِهِ قَالُوا قَرْيَةً تُدْعَى غُرَارَةُ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ فَأَحْرَقَهَا . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ لَمْ تَكُنْ فَمَا شَرَطَ لَهُمْ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلِهَذَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا يُحْمَلُ الْخَمْرُ مِنْ رُسْتَاقٍ إلَى رُسْتَاقٍ . وَقَالَ لِعَامِلِهِ عَلَى الْكُوفَةِ : مَا وَجَدْت مِنْهَا فِي السُّفُنِ فَصَيِّرْهُ خَلًّا فَكَتَبَ عَامِلُهُ وَهُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى عَامِلِهِ بِوَاسِطَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ بِذَلِكَ فَأَتَى السُّفُنَ فَصَبَّ فِي كُلِّ رَاقُودٍ مَاءً وَمِلْحًا فَصَيَّرَهُ خَلًّا . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحِلْ عُمَرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ صُولِحُوا وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَمْلِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا نَرَاهُ أَمَرَ بِتَصْيِيرِهَا خَلًّا وَتَرْكِهَا أَنْ يَصُبَّهَا فِي الْأَرْض لِأَنَّهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَوْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ مَا جَازَ إلَّا إهْرَاقُهَا . وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ بِمَالِ رُوَيْشِدٍ حِينَ أَحْرَقَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا وَكَانَ رُوَيْشِدٍ مُسْلِمًا وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَخْلِيلِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ إلَّا الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ . وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ خَلُّ الْعِنَبِ وَلَا يَقُولُ خَلُّ الْخَمْرِ . وَكَانَ أَبُو إسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ يَأْمُرُهُمْ بِالثَّغْرِ إذَا أَرَادُوا اتِّخَاذَ الْخَلِّ مِنْ الْعَصِيرِ أَنْ يُلْقُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ خَلٍّ سَاعَةَ يُعْصَرُ فَتَدْخُلُ حُمُوضَةُ الْخَلِّ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فَلَا يَعُودُ خَمْرًا أَبَدًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إنَّمَا فَعَلَ الصَّالِحُونَ هَذَا تَنَزُّهًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَلِّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ مَرَّةً خَمْرًا وَإِنْ آلَتْ إلَى الْخَلِّ وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرَى تَحْتَهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ وَالْحِيتَانُ فَالْمُرَى شَيْءٌ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَيَبْتَاعُهُ الْمُسْلِمُونَ مُرًّا لَا يَدْرُونَ كَيْفَ كَانَ , وَهَذَا كَقَوْلِ عُمَرَ وَلَا بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إفْسَادَهَا أَلَا تَرَاهُ إنَّمَا رَخَّصَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ . كَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ أَلْقَى فِي خَمْرِ أَهْلِ السَّوَادِ مَاءً أَمَّا(1/77)
فِعْلُهُ بِخَمْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ . انْتَهَى مَا أَرَدْت نَقْلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ . وَلَمْ يَزَلْ الْإِشْكَالُ فِي تَخْلِيلِنَا خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُرَخِّصُ لَهُ فِي تَخْلِيلِهَا وَكَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يَبْقَى مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا بِعَهْدٍ حَيْثُ يَجُوزُ الْعَهْدُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ فِي السَّوَادِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا هُوَ يَقُولُ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْجُمْهُورِ , وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ : هُوَ الْآنَ مِلْكٌ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِالشِّرَاءِ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ وَقْفٌ حَقِيقِيٌّ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَعَلَى هَذَا هَلْ كَانَ بِإِنْشَاءِ وَقْفٍ مِنْ عُمَرَ بَعْدَ اسْتِرْضَائِهِ الْغَانِمِينَ أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْغَانِمِينَ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه عَوَّضَهُ مِنْ حَقِّهِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا وَعَوَّضَ امْرَأَةً مَعَهُ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُرْزٍ حَتَّى تَرَكَتْ حَقَّهَا . وَقَالَ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمَرُ كَانَ نَقَلَ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ هَلْ لَك فِي الْكُوفَةِ وَأَنْفِلُكَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ قَالَ : نَعَمْ , فَبَعَثَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَنَرَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا خَصَّ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ بِالنَّفْلِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ وَمَلَكُوهُ بِالنَّفْلِ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي أَرْضِهَا إنْ شَاءَ قَسَمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بَعْدَ الْخُمُسِ كَمَا بُيِّنَ فِي بَابِهِ فِي قوله تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لقوله تعالى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } وَرَأَى عُمَرُ هَذَا وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ وَمُعَاذٌ وَرَأَى بِلَالٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْأَوَّلَ فَهِيَ بَاقِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْكَنَائِسِ تُهْدَمُ قَالَ لَا إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الْحَرَمِ . وَهَذَا مِنْ عَطَاءٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا حَصَلَ صُلْحٌ عَلَيْهَا أَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا : ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ سُرَاقَةَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ لِأَهْلِ دَيْرِ طَابَا أَنِّي أَمَّنْتُكُمْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَكَنَائِسِكُمْ أَنْ تُهْدَمَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ أَمِيرًا فَإِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ جَازَ إنْ كَانَ مَوْضِعُهَا لَمْ يُؤْخَذْ عَنْوَةً وَكَذَا إذَا أُخِذَ عَنْوَةً عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ رَأَى وَالشَّامُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّ قُرَاهُ وَأَرَاضِيَهُ عَنْوَةً وَمُدُنَهُ صُلْحٌ .
وَفِي دِمَشْقَ خِلَافٌ كَثِيرٌ هَلْ هِيَ صُلْحٌ أَوْ عَنْوَةٌ بَيْنَ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْفُقَهَاءِ(1/78)
فَالْجُورِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إنَّهَا صُلْحٌ , وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ إنَّهَا عَنْوَةٌ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافُ الْمُؤَرِّخِينَ حَتَّى قِيلَ إنَّ أَمْرَهَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَعَلَهَا وَكَذَلِكَ أُشْكِلَ أَمْرُهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ لِفَتْحِهِمَا فَجَعَلُوهَا صُلْحًا تَوَرُّعًا لَيْسَ أَنَّهُمْ جَازِمُونَ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ وَخَالِدًا عَلَى بَابٍ شَرْقِيٍّ وَهُوَ كَانَ الْأَمِيرُ مِنْ جِهَةِ أَبِي بَكْرٍ وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ فَأَخْفَى أَبُو عُبَيْدٍ الْكِتَابَ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ فَانْتَهَزَ يَزِيدُ فُرْصَةً فَدَخَلَ عَنْوَةً مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ ذَهَبَ رَاهِبُ دِمَشْقَ إلَى خَالِدٍ خَدَعَهُ وَصَالَحَهُ وَدَخَلَ فَوَجَدَ يَزِيدَ قَدْ دَخَلَ وَخَالِدٌ لَا يَشْعُرُ حَتَّى الْتَقَيَا عِنْدَ سُوقِ الزَّيْتِ . وَأَنَا عِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ نَظَرٌ وَقِيلَ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ دَخَلَ عَنْوَةً وَخَالِدٌ صُلْحًا وَقِيلَ عَكْسُهُ وَمِصْرُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّهَا عَنْوَةٌ وَقِيلَ صُلْحًا .
وَمِمَّا أُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الصُّلْحَ تَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَتَقْرِيرِهَا بِالْجِزْيَةِ فَقَطْ دُونَ التَّعَرُّضِ لِلْعَقَارِ وَالْأَرَاضِي وَتَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ
وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَقَارٍ وَأَرْضٍ خَاصَّةٍ بِقَوْمٍ أَمَّا الْأَرَاضِي الْعَامَّةُ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِمْ بِالْمَمْلَكَةِ الْعَامَّةِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ فِي فَتْحِ الْعَنْوَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ فَيْءٌ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْكُفَّارِ فِيهَا . وَأَمَّا فِي فَتْحِ الصُّلْحِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرَاضِيَ ثَلَاثٌ :
( إحْدَاهَا ) مَا هُوَ مِلْكُ كَافِرٍ خَاصٌّ فَهُوَ غَنِيمَةٌ أَوْ فَيْءٌ .
( الثَّانِيَةُ ) مَوَاتٌ فَقَدْ قَالُوا إنَّهَا لَا تَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا فَيْئًا بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ .(1/79)
( الثَّالِثَةُ ) مَا لَيْسَ بِمَوَاتٍ وَلَا مِلْكٍ خَاصٍّ مِثْلَ أَرَاضِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ مِثْلُهَا فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ هَلْ نَقُولُ هِيَ مِلْكٌ لَهُمْ أَوْ لَا لِأَنَّ جِهَةَ الْإِسْلَامِ تَمْلِكُ كَمَا تَمْلِكُ بِالْإِرْثِ بِخِلَافِ جِهَةِ الْكُفْرِ وَالْأَرْضُ لِلَّهِ فَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ , وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ إنْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهَا لَنَا فَلَا إشْكَالَ وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِلْكٌ وَإِنْ جَرَى صُلْحٌ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي أَيْدِينَا وَلَا يَحْصُلُ لَنَا فِيهَا مِلْكٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مِلْكُهُمْ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ أُرَاضِي نَجْرَانَ لَمَّا انْجَلَى أَهْلُهَا فَإِنَّهَا بِجَلَائِهَا دَخَلَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَمَلَكُوهَا بِدُخُولِهَا فِي يَدِهِمْ كَمَا يَمْلِكُونَ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ بِذَلِكَ . وَالْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ أَنَّهَا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَهُمْ إمَّا وَقْفًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ , وَإِمَّا مِلْكًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لَمْ نَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْهُ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ وَلَا يُكَلَّفُ بَيِّنَةً . وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ تَعَيُّنِ الْأَرَاضِي هَلْ هِيَ لَنَا أَوْ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِالْبَلَدِ لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ فِيهِ دُخُولَ اسْتِيلَاءٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَنَجْرَانَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ وَسَكَنُوهَا وَصَارُوا غَالِبِينَ عَلَيْهَا فَهَذَا قَهْرٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَنْوَةِ فَيَمْلِكُونَ الْأَرَاضِيَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مِصْرَ لَمَّا صَالَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْقِبْطَ عَلَى الْجِزْيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارَيْنِ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافِ رَأْسٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الصُّلْحَ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِأَمَانٍ وَعَقْدِ ذِمَّةٍ وَجِزْيَةٍ لَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَى الْأَرَاضِي . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَنْقُولَةَ تَابِعَةٌ لِلرُّءُوسِ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ لَا لِلْأَرَاضِيِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا , وَمَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ مِلْكٍ خَاصٍّ فِي يَدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَنْقُولِ يَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ . وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَهَلْ نَقُولُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرَاضِي لَا تَبْقَى إلَّا إذَا شُرِطَ إبْقَاؤُهَا وَيَجُوزُ تَبْقِيَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كَالصُّورَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا فِي الْعَنْوَةِ إنَّهَا تَبْقَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْأُولَى حَتَّى إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَا تَبْقَى قَطْعًا . وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهَا الثَّانِي فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ وَصَحَّ إلْحَاقُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِهَا كَانَتْ كَنِيسَةً مُبْقَاةً بِغَيْرِ شَرْطٍ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ادَّعَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فَلْيَعْلَمْ ذَلِكَ وَلْيَلْحَقْ بِهِ . وَكُنَّا نُخَالِفُ مَا قُلْنَا إنْ أُخِذَ بِظَاهِرِ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الصُّورَةُ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إنْكَارِ الْخِلَافِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَالِفَهُ بَعْضُهُمْ فِي صُورَةِ الْغَنِيمَةِ فَقَطْ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ نُخَالِفَهُ فِي صُورَتَيْ الْغَنِيمَةِ وَالصُّلْحِ .
وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا أَنَّ الْبَلَدَ فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَالْبِلَادُ فِي أَيْدِينَا كَمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ فِي اسْتِمْرَارِ يَدِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهَا(1/80)
وَالْأَصْلُ عَدَمُ الصُّلْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ نَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْعَنْوَةِ ثُمَّ نَقُولَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْوَقْفِ أَخْذًا بِالْمُحَقِّقِ وَهُوَ وَضْعُ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ الِانْتِقَالِ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَيْهِمْ وَعَدَمِ الْقِسْمَةِ . فَهَذِهِ طَرِيقٌ فِقْهِيٌّ مَعَ الْمَنْقُولِ أَنَّهَا كَسَوَادِ الْعِرَاقِ فَقَدْ تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْفِقْهُ مَا يَبْقَى إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ عَدَمُ وَقَفِيَّةِ عُمَرَ رضي الله عنه لَهَا فَتَبْقَى مَمْلُوكَةً لِبَيْتِ الْمَالِ وَنُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِلْكَ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } قَدْ جَعَلَهَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَهُمْ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّا يُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ إذَا أَبْقَاهَا الْإِمَامُ , وَلَمْ يَقْسِمْهَا وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ . وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وَصِيَّةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي مِصْرَ أَرْضٌ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَرْضُ كَانَتْ مَوَاتًا وَلَا يَشْمَلُهَا حُكْمُ الْوَقْفِ وَمَنْ وَجَدْنَا فِي يَدِهِ أَوْ مِلْكِهِ مَكَانًا مِنْهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَحْيَا وَوَصَلَ إلَيْهِ وُصُولًا صَحِيحًا . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ شَهِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُ لِأَهْلِ فَارِسَ صَنَمًا إلَّا كُسِرَ وَلَا نَارًا إلَّا أُطْفِئَتْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ قَالَ شَهِدْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَتَى بِمَجُوسِيٍّ بَنَى بَيْتَ نَارٍ بِالْبَصْرَةِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ . وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْبَصْرَةَ كَانَتْ مَوَاتًا فَأَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ وَبَنَوْهَا وَسَكَنُوهَا فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا وَلَا بَيْتِ نَارٍ فَلَمَّا أَحْدَثَ هَذَا الْمَجُوسِيُّ بَيْتَ النَّارِ فِيهَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ لِذَلِكَ , وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَقْسِمْ اخْتِلَافَهُ مَعَ بِلَالٍ وَبِلَالٌ يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ وَقَوْلُهُ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ فَمَا جَاءَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَظْرُفُ وَانْظُرْ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ عُمَرَ مَعَ عَظَمَةِ بِلَالٍ وَمَحَلِّهِ عِنْدَ اللَّهِ لِصِحَّةِ قَصْدِ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْ الْجَمِيعِ وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ يَتَبَايَعُونَ ضَيَاعًا كَثُرَ ذَلِكَ فِي الشَّامِ .
( بَابٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )(1/81)
أَنْبَأَنَا جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ الْمُقِيرِ عَنْ ابْنِ نَاصِرٍ ثنا أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عُثْمَانَ قَالَا أَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَنَا أَبُو الشَّيْخِ أَنْبَأَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثنا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ نُوحٍ وَالسَّرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مَصْرِفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَرَ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّامِ : بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ رضي الله عنه أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا إنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِيهَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَنْ نُنْزِلَ مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نُطْعِمَهُمْ وَلَا نُؤْوِيَ فِي كَنَائِسِنَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا وَلَا نَدْعُو إلَيْهِ وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إذْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَبَ السَّرْجَ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِيمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيعَ الْخَمْرَ وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا وَأَنْ نَلْزَمَ دِينَنَا حَيْثُ مَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَنَا عَلَى أَوْسَاطِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْوَاقِهِمْ وَلَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا فِي كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجَ سَاعُونَا وَلَا بَاعُونَا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ . فَلَمَّا أَتَيْت عُمَرَ رضي الله عنه بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرْطُنَا لَكُمْ ذَلِكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقِبْلَتِنَا عَلَيْهِ الْأَمَانُ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَا لَكُمْ وَضَمِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . رُوَاةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ كِبَارٌ إلَّا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ أَشَدُّهُ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ كَانَ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِثِقَةٍ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : لَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ النَّسَائِيُّ : لَيْسَ بِثِقَةٍ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ضَعِيفٌ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ . وَذَكَرَ لَهُ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : عَنْ مَنْصُورٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ حَدِيثَهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ قَيْسٍ مِنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ كَانَ إنْكَارُ الْبُخَارِيِّ لِأَجْلِ هَذَا فَهُوَ قَرِيبٌ , وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ هَذِهِ الشُّرُوطَ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ تَوْثِيقٌ لَهُ وَرَوَاهَا عَنْ الْقَطَّانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى وَرَوَاهَا عَنْ ابْنِ مُصَفَّى حَرْبٌ مِنْ مَسَائِلِهِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمَتْنُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ(1/82)
وَفِيهِ لَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ . وَكَذَلِكَ رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَفِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ شَيْءٍ فِيهِ مَعَ سِعَةِ حِفْظِ ابْنِ حَزْمٍ وَذَكَرَهَا خَلَائِقُ كَذَلِكَ , وَفِي جَمِيعِهَا مَا خَرِبَ وَذَكَرَهَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَاقْتَصَرَ عَلَى سُفْيَانَ فَمَنْ فَوْقَهُ هَكَذَا فِي الْوُسْطَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْكُبْرَى لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ هَذِهِ الشُّرُوطَ هَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَتَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَاحْتَجُّوا بِهَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ حَتَّى رَأَيْت فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى شُرُوطِ عُمَرَ كَأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً شَرْعًا . وَفِي كَلَامِ أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ أَنَّ مَا فِيهَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذِهِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً وَاشْتَرَطَ عُمَرُ لَهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ وَكُنْت قَدَّمْت فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى " كَشْفَ الْغُمَّةِ فِي مِيرَاثِ أَهْلِ الذِّمَّةِ " قَبْلَ أَنْ أَرَى الْكَلَامَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ صِفَةَ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْجِزْيَةِ لِنَصْرَانِيٍّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَنَائِسِ لَكِنْ ذَكَرَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا , وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَنَا فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ نَبَذْنَا إلَيْهِ . وَقُلْت إنِّي قَصَدْت بِنَقْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الشُّرُوطَ الَّتِي عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكْتُبُوهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى إذَا جَهِلَ الْحَالَ كَمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّهَا الْمُتَعَارَفَةُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَافَقَ كَلَامِي كَلَامَ مَنْ ذَكَرْت مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَرَوَاهَا جَمَاعَةٌ بِأَسَانِيدَ لَيْسَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ لَكِنَّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ أَيْضًا وَبِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ تَقْوَى وَجَمَعَ فِيهَا الْحَافِظُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَبْرٍ جُزْءًا وَذَكَرَ مِنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غُنْيَة عَنْ السَّرِيِّ بْنِ مُصَرِّفٍ الثَّوْرِيِّ وَالْوَلِيدِ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ رَأَيْتُهَا فِي كِتَابِ ابْنِ زَبْرٍ قَالَ وَجَدْت هَذَا الْحَدِيثَ بِالشَّامِ . رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ فَذَكَرَهُ وَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدٍ لِيَحْيَى بْنِ عُقْبَةَ فِي شُيُوخِهِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ . وَهَذَا عُذْرٌ لِعَبْدِ الْحَقِّ فِي اقْتِصَارِهِ فِي الْوُسْطَى عَلَى سُفْيَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عُقْبَةَ لَكِنْ فِيهِ عِلَّتَانِ :
( إحْدَاهُمَا ) جَهَالَةٌ بَيْنَ ابْنِ زَبْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ(1/83)
( وَالثَّانِيَةُ ) ابْنُ يَزِيدَ فِيهِ كَلَامٌ وَكَانَ قَاضِي دِمَشْقَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ أَيْضًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ضَعَّفُوهُ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا . فَلَوْلَا هَاتَانِ الْعِلَّتَانِ كَانَ صَحِيحًا , وَرَوَاهَا ابْنُ زَبْرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ لِذِمَّةِ حِمْصَ . وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ كَتَبُوا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ إلَى آخِرِهِ . قَالَ ابْنُ زَبْرٍ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ وَصَالَحَ أَهْلَهَا هُوَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَذِكْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَلَطٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ الَّذِي فَتَحَ حِمْصَ بِلَا شَكٍّ وَأَوَّلُ مَنْ وَلِيَهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ وَلَّاهُ عُمَرُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشَرَةَ وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى النَّصَارَى أَنْ يُشَاطِرَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَسْكُنَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَنْ يَأْخُذَ الْحَيِّزَ الْقِبْلِيَّ مِنْ كَنَائِسِهِمْ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ . وَفِي تَارِيخِ دِمَشْقَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ وَفِيهِ مِثْلُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ وَفِيهِ وَلَا نُشَارِكُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ وَأَنْ لَا نَشْتُمَ مُسْلِمًا وَمَنْ ضَرَبَ مِنَّا مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . وَفِيهِ عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ لِأَهْلِ دِمَشْقَ إنِّي أَمَّنْتُهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَنْ لَا تُسْكَنَ وَلَا تُهْدَمَ فَانْظُرْ إنَّمَا قَالَ : لَا تُسْكَنُ وَلَا تُهْدَمُ . لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُمْ شَيْئًا آخَرَ . وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيِّ عِيسَى بْنِ خَالِدٍ ثنا عَمِّي أَبُو الْيَمَانِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ جَمِيعًا أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثنا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِي مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا . وَذَكَرَ مِثْلَ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَفِيهَا : وَلَا يُشَارِكُ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَلِيَ الْمُسْلِمُ أَمْرَ التِّجَارَةِ . وَفِيهِ فِي رِسَالَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ وَحَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَأَبِي الْيَمَانِ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا فَذَكَرَ مِثْلَهُ . وَفِيهِ فَكَتَبَ بِذَلِكَ ابْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ وَأَلْحَقَ فِيهِ حَرْفَيْنِ اشْتَرَطَهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . وَأَنْفَذَ ابْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ زَبْرٍ . قَوْلُهُ لَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فَلَا يَظُنُّ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا خَرِبَ قَبْلَ الْفَتْحِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ خَرِبَ فِعْلٌ مَاضٍ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَقَوْلُ النُّحَاةِ إنَّهُ إذَا كَانَ صِلَةً يَصْلُحُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَيَعُمُّهُمَا وَالْمَوْصُولُ هُوَ مَا يَعُمُّ الْبَعْضَ وَالْكُلَّ فَامْتَنَعَ التَّرْمِيمُ وَالْإِعَادَةُ . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خَرِبَ وَفِي بَعْضِهَا ذَهَبَ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْهَا وَالضَّمِيرُ يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَهُوَ الْكَنِيسَةُ فَلَا يَكُونُ نَصًّا فِي مَنْعِ التَّرْمِيمِ وَعَلَى الْجَمْعِ وَهُوَ الْكَنَائِسُ فَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَخَرَابَ الْكَنِيسَةِ بِجُمْلَتِهَا لِأَنَّهَا وَاحِدَةُ الْكَنَائِسِ فَيَكُونُ مَنْعًا لِلْإِعَادَةِ , وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ(1/84)
التَّنْبِيهِ : وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ إعَادَةِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا فَحَمَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى الْكَنَائِسِ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّرْمِيمَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الرَّافِعِيَّ لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ حَكَى الْخِلَافَ فِي خَرَابِ بَعْضِهَا وَخَرَابِ كُلِّهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَ كَلَامِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِمَا وَكَذَا كَلَامُ الْحَدِيثِ وَمَنْ لَمْ يَرْوِ مِنْهَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الْكَنِيسَةِ وَالْبَاعُوثُ وَالشَّعَانِينُ أَعْيَادُهُمْ فَلَا يُظْهِرُونَهَا وَاشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ وَلَا تُزَال عَلَيْهِمْ لِئَلَّا تَنْقَطِعَ الْمَبَرَّةُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ يُمْنَعُونَ مِنْ مُبَايَعَتِهِمْ لِعَدَاوَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمْ الْقُرْآنَ لِأَنَّ الْكَافِرَ فِي حُكْمِ الْجُنُبِ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يَسْتَخِفُّونَ بِحُرْمَتِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَلِهَذَا مُنِعُوا مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَمَنَعَهُمْ مِنْ مُشَارَكَةِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنْ يَلِيَ أَمْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَمُنِعُوا مِنْ الِانْفِرَادِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَلِيهَا فَلَا بَأْسَ , وَإِيوَاءُ الْجَاسُوسِ وَكِتْمَانُ الْعَيْنِ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاء وَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ وَإِظْهَارُ الشِّرْكِ وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ وَمَنْعُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَتَوْقِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَالْخَوَلِ لَهُمْ
وَمَنَعَ التَّشَبُّهَ بِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ(1/85)
لِيَنْزِلُوا مَنْزِلَةَ الْإِهَانَةِ وَلَا يَخْرُجُوا مِنْهَا إلَى مَرْتَبَةِ التَّعْظِيمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } وَلِأَنَّ عُمَرَ صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَا نُخَالِفُ لَهُ وُجُوبَ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِ وَمُعَادَاةِ الْكَافِرِ وَمُبَايَنَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزٍ وَلَيْسَ إلَّا الزِّيُّ وَلِأَنَّهُ إذْلَالٌ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ لِيَكُونَ ذَرِيعَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَفْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ مَعْرُوفِينَ فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَخَشُوا مِنْ الْتِبَاسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إلَى تَمْيِيزٍ وَالنَّاظِرُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَمْنُوعٌ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْأَصْفَرُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَعَادَةُ النَّصَارَى الْأَدْكَنُ , وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ وَالْآنَ صَارَتْ عَادَةُ النَّصَارَى الْأَزْرَقُ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لقوله تعالى { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا } وَعَادَةُ الْيَهُودِ الْأَصْفَرُ عُمِلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ حِينَ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَاضِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَلَوْ جُعِلَ غَيْرُ الْأَصْفَرِ كَانَ أَوْلَى فَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ أَبِي يَعْلَى أَنَّ الْأَصْفَرَ مِنْ الْأَلْوَانِ يُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُهُ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ زِيُّ الْأَنْصَارِ وَبِهِ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَجَالِسَ وَالْمَحَافِلَ . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى نَصَارَى الشَّامِ أَنْ لَا يَلْبَسُوا عَصَبًا وَلَا خَزًّا فَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فَسَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ . وَالْعَصَبُ هُوَ الْبُرْدُ الْيَمَانِيُّ يُسَاوِي ثَوْبٌ مِنْهُ دِينَارَيْنِ وَأَكْثَرَ , وَكَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُرْدٌ يَمَانِيٌّ خَلَعَهُ عَلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فَبَاعَهُ لِمُعَاوِيَةَ وَتَدَاوَلَتْهُ الْخُلَفَاءُ يَتَوَارَثُونَهُ . وَالْخَزُّ هُوَ الْفَاخِرُ مِنْ الثِّيَابِ فَلَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ لِأَنَّ فِيهِ عِزًّا بَلْ تَكُونُ عِيَارُهُ مَصْبُوغًا بِالشَّبِّ وَالزَّاجِّ , وَالْقَلَنْسُوَةِ ذَكَرَهَا أَهْلُ اللُّغَةِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى لَفْظِهَا بِمَا لَا حَاجَةَ لَنَا إلَيْهِ وَهِيَ تُلْبَسُ عِنْدَ عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ بِالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالْقَضَاءِ مِنْ زِيِّ الْقُضَاةِ وَالْخُطَبَاءِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فَرْقٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ } وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْأَرْدِيَةِ لِأَنَّهَا لِبَاسُ الْعَرَبِ قَدِيمًا عَلَى مَا حَكَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الطَّيْلَسَانِ . وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّ الْأَرْدِيَةَ مُرَبَّعَةٌ وَأَمَّا الطَّيْلَسَانُ قَالَ فَهُوَ الْمُقَرَّرُ الطَّرَفَيْنِ الْمَكْفُوفُ الْجَانِبَيْنِ الْمُلَفَّقُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَهُوَ لِبَاسُ الْيَهُودِ قَدِيمًا وَالْعَجَمِ أَيْضًا وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ تَاجًا وَيُقَالُ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَهُ مِنْ الْعَرَبِ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَكَانَ ابْنُ سِرِّيٍّ يَكْرَهُهُ , وَالنِّعَالُ مِنْ زِيِّ الْعَرَبِ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ بِأَرْضِ الْعَجَمِ إنَّمَا كَانَ لَهُمْ الْخِفَافُ وَأَمَّا مَنْعُهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ شَيْءٍ مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ يُرْجَى إسْلَامُهُ وَإِذَا بِيعَ مِنْهُمْ مَنَعُوهُ وَلِهَذَا مَنَعْنَا الْكَافِرَ مِنْ حَضَانَةِ اللَّقِيطِ وَأَسْقَطَ حَضَانَةَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ كَافِرًا عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَنَا لَمْ يَتَّضِحْ لِي هَذَانِ التَّعْلِيلَانِ فَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ بِاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَيْهِ صَارَ لَهُمْ حَقٌّ فِي حَضَانَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَإِذَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا يُمَكَّنُ كَافِرٌ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفُوتَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ إلَى كَافِرٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الشُّرُوطِ طُولٌ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ , وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَالَفَ شَيْئًا مِنْ الشُّرُوطِ هَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ وَأَصْحَابُنَا ذَكَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ بَيْنَ مَا يُنْقَضُ اتِّفَاقًا وَبَيْنَ مَا فِيهِ خِلَافٌ وَلَيْسَ فِيهَا مَا لَا(1/86)
يُنْقَضُ اتِّفَاقًا وَتَجْدِيدُ مَا خَرِبَ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِي انْتِقَاضِ الذِّمَّةِ بِهِ .
( فَصْلٌ ) . قَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ ثُمَّ آثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثُمَّ الشُّرُوطَ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَنَا مِنْ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ وَالشُّرُوطُ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَ مِمَّا الْأَصْلُ فِيهِ الْجَوَازَ وَلِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالشَّرْطِ فَقَطْ حَتَّى إذَا لَمْ يَثْبُتْ الشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ .
( فَصْلٌ ) عُلِمَ مِمَّا حَصَلَ مِنْ شُرُوطِ عُمَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهَا جَوَازُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِرَغْبَةٍ مِنَّا فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى نَحْكِيَ مَنْ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِمْ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ , فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { لَأَنْ يُهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ } وَعَدَمُ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ يُبْعِدُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى زَمَنِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا قَلِيلٌ , وَمِنْ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى الْفَتْحِ دَخَلَ فِيهِ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ لِاخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ لِلْهُدْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ أَبُو يَعْلَى : قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ نُقِرَّ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ . وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى حِكْمَةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَرَجَاءِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَتَفَاوُتِ الرَّبَّا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِإِبَاحَتِهِ وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيهِ .
( فَصْلٌ ) الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْكَنَائِسَ مِنْ أَخَسِّ الْمَوَاضِعِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَرَأَيْت فِي كِتَابِ أَبِي يَعْلَى الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ لِبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ حُرْمَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُصَانُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتُنَزَّهُ عَنْ الْقَاذُورَاتِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَصِيرُ لَهَا حُرْمَةٌ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ } الْآيَةَ , وَلَيْسَ حُرْمَتُهَا كَحُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ عَنْ مَنْعِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْعِ الْخُصُومَاتِ وَالتَّشَاجُرِ فِيهَا وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا كَمَا يُوقَفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَمَّا الصَّلَاةُ فَتُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ بِحُضُورِ وَقْتِهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ " . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا , وَعَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا صَلَّيَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَهَا حُرْمَةً بَعِيدٌ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمَا هُدِمَتْ وَقَدْ { كَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا لِخَثْعَمٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَدْمِهِ } . وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَاهَا لَهُدِمَتْ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ حِينَ كَانَتْ حَقًّا وَأَمَّا الْآنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قَدْ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فِي مِثْلِهِ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } .
( بَابُ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ )(1/87)
وَلْنَتْبَعْ تَرْتِيبَ الرَّافِعِيِّ وَنَذْكُرْ مَتْنَ كَلَامِهِ وَنَرُدَّ فِيهِ بِمَا تَيَسَّرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : الْبِلَادُ الَّتِي فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قِسْمَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْبِلَادُ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَصَوْمَعَةِ رَاهِبٍ . قُلْت ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ قَالَ الرُّويَانِيُّ وَلَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . قُلْت هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَشُرِطَ هَذَا فِيهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ كَمَا قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بُطْلَانِ الشَّرْطِ , وَأَمَّا نَتِيجَةُ هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ قَالَ فِي بَحْرِ الْمَذْهَبِ وَإِنْ أَشْكَلَ حَالُهَا أَقَرَّتْ اسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحَالِ قُلْت لَوْ قَالَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِصْحَابُ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَصْلِ وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ الْأَكْثَرُونَ سِوَاهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ فِي الْمَاضِي فَيُسْتَصْحَبَ إلَى الْحَالِ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . ( وَالثَّانِي ) أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنْ نَتَحَقَّقَ شَيْئًا فِي الْحَالِ فَنَسْتَصْحِبَهُ إلَى الْمَاضِي عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِصْحَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , ثُمَّ قَوْلُهُ أَشْكَلَ حَالُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ظُهُورِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فَاسْتِصْحَابُ ظَاهِرِ الْحَالِ الَّذِي أَرَادَهُ قِسْمٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَلَوْ صَحَّ لَمْ يُتَّجَهْ الْأَخْذُ بِهِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بَلْ فِي أَحَدِهَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , قَالَ وَاَلَّذِي يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ لَا تُنْقَضُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ فَاتَّصَلَتْ بِهَا عِمَارَةُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُرِفَ إحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَتِهِمْ نُقِضَ . قُلْت مَتَى عُرِفَ إحْدَاثُ شَيْءٍ نُقِضَ بِلَا إشْكَالٍ . وَاَلَّذِي قَالَ فِي الدَّيْرِ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ عَدَمِ النَّقْضِ لِلِاحْتِمَالِ يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ , وَغَالِبُ مَنْ يُطَالِعُ كَلَامَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْبِلَادِ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا فَتَدْخُلُ فِي ذَلِكَ , وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ الْبِلَادُ الَّتِي سَمَّاهَا كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَدَارِ السَّلَامِ ؟ قِيلَ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَلَوْ عَلِمْنَا لَفَعَلْنَاهَا وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ عُمَرَ الْعِرَاقَ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ فَفَتَحَهَا عُمَرُ وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ اتَّصَلَ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ كَوْنِهَا كَانَتْ مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ اخْتَطَّ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ فِيهَا غَالِبَةٌ فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَاهِرَةِ . فَإِنَّ الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ أَنَّهَا كَانَتْ بَرِّيَّةً فَلَمَّا تَمَلَّكَ الْمُعِزُّ الْمُعِزِّيُّ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَنَاهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَاحْتِمَالُ وُجُودِ كَنَائِسَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعِيدٌ جِدًّا , فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الظَّاهِرِ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ . وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْأَصْلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِهَا وَقْتَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْمُحَقَّقِ فِي الْمَاضِي وَالدَّالِّ عَلَى وُجُودِهَا إذْ ذَاكَ اسْتِصْحَابُ وُجُودِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَعْكُوسِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الْأَوَّلَ لَكِنَّ الْمُحَقَّقَ مِنْهُ أَعْنِي الْأَوَّلَ مَا عُرِفَ وُجُودُهُ(1/88)
فَيُسْتَصْحَبُ وُجُودُهُ مِنْ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ , أَمَّا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ فِي الْحَالِ وَالشَّكِّ فِي الْمَاضِي فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ فَإِنْ صَحَّ فَيَتَعَارَضُ الِاسْتِصْحَابَانِ وَيَبْقَى الشَّكُّ فَيُطْلَبُ دَلِيلٌ آخَرُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الِاسْتِصْحَابَيْنِ حَتَّى يَجِدَ مَا يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا . وَشَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ قَامَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْقَاهِرَةِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقَاهِرَةِ وَصَنَّفَ كُرَّاسَةً فِي ذَلِكَ وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَدِلَّةٍ ذَكَرَهَا وَسَمِعْتهَا عَلَيْهِ وَجَنَحَ فِيهَا إلَى التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ , وَعِنْدِي فِي هَذَا التَّمَسُّكِ نَظَرٌ لِمَا عَرَّفْتُكَ بِهِ وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَأَدَّى إلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي يَدِهِ يَدَّعِي انْتِقَالَهُ إلَيْهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ بَعِيدٌ نَعَمْ إنْ كَانَ لَهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ مِلْكُهُ فَذَلِكَ الْمِلْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُسْتَصْحَبٌ وَإِلَّا فَلَا , هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بِإِبْقَاءِ كَنَائِسِ الْعِرَاقِ قَرِيبٌ وَكَنَائِسِ الْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهِ لَا يَظْهَرُ الْحُكْمُ بِهِ وَإِلَّا لَحُكِمَ بِهَدْمِهِ بَلْ الَّذِي يَظْهَرُ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ , وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ هَكَذَا لَا يُقْضَى فِيهَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِدَلِيلِ الْعَدَمِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُودُ مَنْ يَطْلُبُ بَقَاءَ الْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ مَا قُلْنَاهُ فِي فُرُوعٍ أُخْرَى وَرُبَّمَا نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَدْ اسْتَقْرَيْت الِاسْتِصْحَابَ الَّذِي نَحْكُمُ بِهِ فَوَجَدْت صُوَرًا كَثِيرَةً إنَّمَا يُسْتَصْحَبُ فِيهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَعَكْسِهِ , وَغَالِبُ الصُّوَرِ الَّتِي حَضَرَتْنِي الْآنَ وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ عَدَمِ تَحَكُّمٍ بِهِ فَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ وَلَا أَجْزِمُ بِنَفْيِهِ فَلْيَنْظُرْ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَا نَحْكُمُ بِهَا وَإِنَّمَا نَمْتَنِعُ مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهَا حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ . فَمِنْ هُنَا تَوَقَّفْت عَنْ مُوَافَقَةِ ابْنِ الرِّفْعَةِ رحمه الله وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَيْضًا اخْتِلَافُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِي حَدِّ الْمُدَّعِي هَلْ هُوَ مَنْ يُحْكَى سُكُوتُهُ أَوْ مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا أَوْ مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ الْأَصْلِ , وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَنَائِسِ فِي الْقَاهِرَةِ قَبْلَ بِنَائِهَا عَلَى مَا قَالَ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَالَ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَانَتْ بَرِّيَّةً وَظَاهِرُ حَالِ تِلْكَ أَنَّهُ لَا يَرْتَادُ لِنَفْسِهِ بِنَاءَ مَدِينَةٍ حَوْلَ كَنَائِسَ وَكَانَ الْقَوْلُ بِقِدَمِهَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ وَكَانَ الْقَائِلُ بِهِ مُدَّعِيًا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةِ لَا مُدَّعًى عَلَيْهِ , وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ وَأَجَابَ بِالْمَنْعِ وَعِنْدِي اسْتِصْحَابٌ وُجُودِيٌّ وَإِلَّا فَنَحْكُمُ بِهَا أَوْ نَتَوَقَّفُ غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إنَّ الْيَدَ هَاهُنَا عَلَى الْكَنَائِسِ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلنَّصَارَى بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهَا تَبْقَى بَقِيَتْ وَمَا شَكَّ فِيهَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا بَاقِيَةٌ عَلَى الشَّكِّ لَا نَقْدَمُ عَلَى الْحُكْمِ فِيهَا بِأَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَا بِهَدْمٍ وَلَا بِإِبْقَاءٍ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى حُكْمٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ كَلَامٍ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صِفَةَ التَّأْلِيفِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْكَنِيسَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ كَصِفَةِ الصَّلِيبِ وَالْمِزْمَارِ وَكَذَا يَظْهَرُ لِي فِي ذَوَاتِ الْآلَاتِ فِي الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ كَمَا لَا يَضْمَنُ الْخَمْرَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ التَّعْذِيرُ , وَهُنَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فَإِنْ كَانَتْ الْكَنِيسَةُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَهْدِمَهَا فَيَكُونُ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَا عَلِمَ تَحْرِيمَهُ فَيُعَزَّرُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي فَرَضْنَا حَيْثُ لَا نَحْكُمُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى فَلَا يُعَزَّرُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّعْزِيرِ يَسْتَدْعِي تَحَقُّقَ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ,(1/89)
وَإِعَادَةُ الَّتِي هَدَمَهَا هَادِمٌ كَإِعَادَةِ الْمُنْهَدِمَةِ بِنَفْسِهَا وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِ . وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ قَوْلُ مَالِكٍ لَا نَسْمَعُ دَعْوَى الْخَسِيسِ عَلَى الشَّرِيفِ , وَقَوْلُهُ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَوْ سَلَّمَ الظُّهُورَ وَلَمْ نُسَلِّمْ الْحُكْمَ , وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ الظُّهُورَ , وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَعَدِّ الْمَلْفُوفِ وَطِينِ الشَّوَارِعِ وَغَايَةُ هَذَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ يَأْتِيَ خِلَافٌ , وَنَحْنُ نُرِيدُ أَمْرًا تَقَدَّمَ بِهِ عَلَى هَدْمِ مَا اسْتَمَرَّتْ الْأَعْصَارُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْتَفِي فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَخَرَجَتْ وَادَّعَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِصْحَابِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ , وَفِي قَوْلِهِ " لَا يَدْخُلُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ , وَفِي قَوْلِهِ لَأَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ خَشَبَةٍ فَضَرَبَهُ بِهَا دَفْعَةً وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا وَلَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إذَا وُجِدَتْ جُذُوعٌ فِي حَائِطٍ وَجَهِلَ الْحَالَ فِي وَضْعِهَا قَالَ الْأَصْحَابُ لَا تُزَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وُضِعَتْ بِحَقٍّ , وَقَالَ هُوَ : إنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَدَّعِ صَاحِبُهَا أَنَّ صَاحِبَ الْجِدَارِ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِهَا بَلْ ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ الْوَضْعِ وَجَهْلَ الْحَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْجِدَارِ أَنْتَ أَذِنْت لِي أَوْ صَالَحْتَنِي عَلَيْهَا , وَقَالَ بَلْ غَصَبْتَنِي , وَقَالَ الرَّاكِبُ بَلْ أَعَرْتَنِي , قَالَ وَالْمُعَانِدُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ الْمَذْكُورَةِ . قُلْت مَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجُذُوعِ صَحِيحٌ وَمَسْأَلَةُ الدَّابَّةِ الصَّحِيحُ فِيهَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ وَمَسْأَلَةُ الْكَنَائِسِ هُمْ لَا يَدَّعُونَ مُصَالَحَتَنَا نَحْنُ حَتَّى يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَنَا بَلْ إنْ سُلِّمَ لَهُمْ يَدٌ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى دَعْوَى بَلْ يَكْفِي مَعَهَا الِاحْتِمَالُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ يَدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا , وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا خَلَاصُ ذِمَّتِنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَنَّ إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ(1/90)
فَيَحْتَمِلُ هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْمَوْجُودَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِبْقَائِهَا فَيَمْتَنِعُ نَقْضُهُ وَإِذَا شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحُكْمِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ الصُّلْحِ وَالشَّرْطِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : الصُّلْحِ وَالشَّرْطِ وَالْحُكْمِ مُحْتَمَلَةٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا , وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقَعَ حُكْمٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ حُكْمٌ أَوْ لَا وَتَبْقِيَةُ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ لِهَذِهِ الْكَنَائِسِ وَهُمْ حُكَّامٌ قَدْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلُ حُكَّامٍ فَهِيَ حُكْمٌ مِنْهُمْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ فِعْلُ الْحَاكِمِ حُكْمٌ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهُ . وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ وُجُودَ الْكَنَائِسِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إبْقَائِهَا لَا عَلَى وُجُوبِهِ فَيَكْفِي فِي الْأَدِلَّةِ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ أَنَّ بَقَاءَهَا لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فَإِذَا رَأَى إمَامٌ ذَلِكَ وَأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ إزَالَتُهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ فَهَلْ نَقُولُ بِذَلِكَ أَوْ نَقُولُ بَقَاؤُهَا الْمَوْجُودُ يُثْبِتُ لَهُمْ حَقَّ الْإِبْقَاءِ كَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ نَجْهَلُ يَجِبُ تَبْقِيَتُهُ وَعَدَمُ رَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ . هَذِهِ مَبَاحِثُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَنَحْنُ وَإِنْ تَوَقَّفْنَا لِذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ بِهَدْمِهَا لَا نُنْكِرُ عَلَى مَنْ هَدَمَهَا لِمَا قُلْنَا وَلَا عَلَى مَنْ يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهَدْمِهَا . وَلَيْسَ عِنْدَنَا إلَّا مُجَرَّدُ الْوَقْفِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَهُ كَانَ سَبَبَ تَوَقُّفِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ مُوَافَقَةِ ابْنِ الرِّفْعَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ وَلَا إذْنٌ , وَكَانَ رحمه الله شَدِيدَ الْوَرَعِ وَيَحْمِلُهُ وَرَعُهُ عَلَى تَوَقُّفٍ كَثِيرٍ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْعِلْمِ , وَمِمَّا نَقُولُهُ أَيْضًا : إنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ إذَا صَحَّتْ عَنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا كَانَا تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَفَرُّدِ أَمْرِهِ وَيَشْمَلُهَا قَوْلُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ حَالِهَا إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ فَتُهْدَمُ قَطْعًا , وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ . وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ حَدَثَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِأَمْرِهِ وَبَغْدَادُ بَنَاهَا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَثَلَاثَتُهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَهِيَ عَنْوَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِذَا حُمِلَ وُجُودُ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِيهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ بِنَائِهَا فَذَاكَ لَا يَكْفِي فِي وُجُوبِ إبْقَائِهَا وَلَا فِي جَوَازِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ إلَى احْتِمَالِ اشْتِرَاطِهَا لَهُمْ بِصُلْحٍ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَحْصُلُ لَنَا الْقَطْعُ بِجَوَازِ إبْقَائِهَا فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ وَلَا نَخْلُصُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يَتَحَقَّقْ دُخُولُ مَوَاضِعِ الْكَنَائِسِ فِيمَا اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى مَا حَوَالَيْهَا دُونَهَا وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا . هَذَا مَا اتَّفَقَ كَلَامُنَا فِيهِ مِنْ قِسْمِ الْبِلَادِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْمُسْلِمُونَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالثَّانِي الْبِلَادُ الَّتِي لَمْ يُحْدِثُوهَا وَدَخَلَتْ تَحْتَ يَدِهِمْ(1/91)
فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؟ قُلْت وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ تَصْوِيرَ إسْلَامِ جَمِيعِ أَهْلِهَا عَزِيزٌ وَالْمَدِينَةُ الشَّرِيفَةُ بَقِيَ بَعْضُ أَهْلِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْيَمَنُ كَانَ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا فَالْعَجَبُ أَنَّ أُولَئِكَ الْبَاقِينَ بِالْيَمَنِ وَالْمُوَادَعِينَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ إجْلَائِهِمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ لَوْ كَانَ لَهُمْ كَنَائِسُ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَنْوَةِ لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا أَمْ مَاذَا يَكُونُ حُكْمُهَا . وَأَمَّا عَدَمُ التَّمَسُّكِ بِمَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهَا فَتْحٌ فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي سَيَأْتِي قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : وَإِلَّا أَيْ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُهَا فَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ عَنْوَةً وَقَهْرًا أَوْ مُسَالَمَةً وَصُلْحًا فَهُمَا ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كَنِيسَةٌ أَوْ كَانَتْ وَانْهَدَمَتْ أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بِنَاؤُهَا . قُلْت لَا نَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا . وَقَوْلُهُ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ عَائِدٌ إلَى الْأَمْرَيْنِ الِانْهِدَامِ وَالْهَدْمِ قَبْلَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُمْ بِهَا حَقٌّ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ التَّقْرِيرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ عَنْوَةً مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَا يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْإِبْقَاءِ إجْمَاعًا وَإِنَّ هَدْمَ الْمُسْلِمِينَ لَهَا جَائِزٌ قَبْلَ التَّقْرِيرِ وَجَوَازُهُ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ فَإِذَا صَدَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ , وَإِنْ صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَهَلْ نَقُولُ إنَّهُ كَذَلِكَ أَوْ لَا لِأَنَّ حَقَّ غَيْرِهِ تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ وَبَقِيَّةِ الْغَانِمِينَ فِيهِ نَظَرٌ يَلْتَفِتُ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ لِأَنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ وَالْكَنِيسَةُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ كَالْمَسَاجِدِ عِنْدَنَا فَتَكُونُ كَالْمُبَاحَاتِ , وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْكَنِيسَةَ إنْ كَانَتْ وُقِفَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ فَهِيَ مَسْجِدٌ كَمَا قَدَّمْنَا وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ فَتَكُونُ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا فَتَكُونُ غَنِيمَةً . وَيُجَابُ بِأَنْ يُقَالَ إذَا كَانَتْ بَعْدَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا لِأَنَّا نَنْظُرُ إلَى اعْتِقَادِهِ كَمَا نَنْظُرُ إلَيْهِ فِي أَنْكِحَتِهِمْ وَهُمْ هَذَا الْفِعْلُ عِنْدَهُمْ مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ الْمِلْكِ فَأَخْرَجَنَا عَنْ مِلْكِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ وَتَصِيرُ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إذَا انْهَدَمَتْ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْإِعَادَةِ فَإِذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ , وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَهَا هَادِمٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ أَيْضًا أَمَّا إذَا قُرِّرَتْ وَانْهَدَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ هَدَمَهَا هَادِمٌ فَلَا تَدْخُلُ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا لِأَنَّهُ سَيَأْتِي حُكْمُهَا فِي كَلَامِهِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : وَهَلْ يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْقَائِمَةِ ؟(1/92)
فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ . قُلْت قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : إنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَوَافَقَهُ صَاحِبَاهُ سُلَيْمٌ وَالْبَنْدَنِيجِيّ . وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهُ رَآهُ فِي الْأُمِّ إذْ قَالَ : وَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ أَمْ بِنَاءٌ طِيلَ بِهِ بِنَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ هَدْمُهَا وَلَا هَدْمُ بِنَائِهِمْ وَتَرَكَ كُلًّا عَلَى مَا وَجَدَهُ , وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي يُطَايِلُ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاجِبٌ أَنْ يَجْعَلُوا بِنَاءَهُمْ دُونَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ . وَهَذَا إذَا كَانَ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَحْيَوْهُ أَوْ فَتَحُوهُ عَنْوَةً وَشَرَطُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ هَذَا . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَعَلَى هَذَا حَمَلْنَا أَمْر الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . قُلْت وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ فِي حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّا كَمَا قَرَّرْنَا جَعَلْنَاهَا كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَجَعْلُهَا الْآنَ كَنِيسَةً إحْدَاثٌ لَهَا . وَكُنْت أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ غَلَطٌ لِدُخُولِهَا فِي الْغَنَائِمِ ثُمَّ رَجَعْت عَنْ التَّغْلِيطِ لِمَا قَدَّمْته أَنَّهَا لَيْسَتْ بِغَنِيمَةٍ وَاقْتَصَرْت عَلَى التَّضْعِيفِ لِمَا ذَكَرْت وَكَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ أَوْ لَا وَيَكُونُ التَّقْرِيرُ إنْشَاءَ فِعْلٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ تَرْكًا مُجَرَّدًا فَلَا يَمْنَعُ إقْدَامَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَدْمِهَا , وَبِهَذَا يَصِحُّ إنْ حَمَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ , وَتَارَةً يَكُونُ الْتِزَامًا لَهُمْ بِشَرْطٍ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ ذِمَّةٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ , وَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِبْقَاءِ لَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي أَوَّلِ الْفَتْحِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ صُلْحًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَكُونُ الْعَنْوَةُ فِيمَا سِوَاهُ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الرَّافِعِيُّ وَيَصِحُّ حَمْلُ الْمَوْجُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) إذَا جُهِلَ الْحَالُ فَتَجِبُ التَّبْقِيَةُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ . ( وَالثَّانِيَةِ ) إذَا لَمْ يُجْهَلْ وَفُتِحَ عَنْوَةً وَأَرَدْنَا تَقْرِيرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ وَهَلْ يَجُوزُ ؟ وَجْهَانِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ وَالرَّافِعِيُّ وَهَلْ التَّقْرِيرُ تَرْكٌ مُجَرَّدٌ فَيَجُوزُ هَدْمُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ شَرْطٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ؟ فِيهِ مَا قَدَّمْته مِنْ الْبَحْثِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا إنْ وَقَعَ فِي عَقْدٍ كَمَا إذَا عَقَدَ لَهُمْ ذِمَّةً أَوْ هُدْنَةً . قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَيُمْنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً وَحَكَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ . قُلْت قَدْ عَرَّفْتُك أَنِّي كُنْت أَقْطَعُ بِهَذَا وَأَعْتَقِدُ غَلَطَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ هُنَا مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْمِلْكِ بِالِاسْتِيلَاءِ حَتَّى ظَهَرَ لِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ . وَكُنْت قَبْلَ ذَلِكَ أَقُولُ قَدْ يَكُونُ مَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ هَلْ تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِيَارِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِهِ , وَافْرِضْ الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ حَتَّى اسْتَغْنَيْت عَنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْته , وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصَحُّ عِنْدِي مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَالْمَوَاتِ وَنَحْنُ لَا نُمَكَّنُ مِنْ جَعْلِهِ كَنِيسَةً فِي الْإِسْلَامِ . وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَآخِرًا يَظْهَرُ أَنَّ طَرِيقَةَ الْخِلَافِ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ الْمَنْعَ وَإِنَّ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ ضَعِيفَةٌ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ عَلَى خِلَافِهَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالثَّانِي مَا فُتِحَ صُلْحًا(1/93)
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ مَا فُتِحَ عَلَى أَنْ تَكُونَ رِقَابُ الْأَرَاضِيِ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ فَإِنْ شَرَطُوا إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ جَازَ وَكَأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ لَهُمْ وَمَا سِوَاهَا لَنَا . قُلْت : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَدَعُوا إلَيْهِ وَلَا يَتَأَتَّى الْفَتْحُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ فَنَحْتَاجُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَيْهِ وَلَا أَعْرِفُ لِهَذَا النَّوْعِ مِثَالًا وَلَا دَلِيلًا مِنْ السُّنَّةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْبِلَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَيْدِينَا مِمَّا هِيَ صُلْحٌ مِنْ أَمْثِلَتِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى إحْدَاثِهَا أَيْضًا جَازَ . ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ . قُلْت هَذَا عِنْدِي فِيهِ تَوَقُّفٌ لِأَنَّهُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَاطِلًا . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْفَتْحُ بِدُونِهِ فَيَجُوزُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي الْمَنْعُ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَإِنْ أَطْلَقُوا فَوَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ يُنْقَضُ مَا فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعٍ لَنَا . ( وَالثَّانِي ) أَنَّهَا تَكُونُ مُسْتَثْنَاةً بِقَرِينَةِ الْحَالِ فَإِنَّمَا شَرَطْنَا تَقْرِيرَهُمْ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا بِأَنْ يَبْقَى لَهُمْ مُجْتَمَعٌ لِعِبَادَتِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . قُلْت نَعَمْ هُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَصَحُّ . وَالثَّانِي ضَعِيفٌ جِدًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا شَكَكْنَا فِي الِاشْتِرَاطِ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَتَأْتِي تِلْكَ الْمَبَاحِثُ الْمُتَقَدِّمَةُ , وَلَمْ يَنْقُلْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي هَذَا الْفَرْعِ شَيْئًا إلَّا عَنْ أَبِي إسْحَاقَ أَنْ نَنْظُرَ إلَى مَا شَرَطَ لَهُمْ فَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْ غَيْرِهِ شَيْئًا وَلَا تَعَرَّضَ لِحَالَةِ الْإِطْلَاقِ . قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالثَّانِي مَا فُتِحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَهُمْ وَهُمْ يُؤَدُّونَ خَرَاجًا فَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فَإِنَّهَا مِلْكُهُمْ . قُلْت هَذَا صَحِيحٌ , وَمِثَالُهُ نَجْرَانُ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ . قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَأَمَّا إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مِنْهُ لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُحْدِثُ فِيهِ كَنِيسَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِي مِلْكِهِمْ وَالدَّارُ لَهُمْ وَلِذَلِكَ يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ فِيهَا وَإِظْهَارِ مَا لَهُمْ مِنْ الْأَعْيَادِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ وَالْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إيوَاءِ الْجَوَاسِيسِ وَإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ وَمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِيَارِهِمْ . قُلْت لَكِنَّ الْأَصْحَابَ عَدُّوهَا فِي بَابِ اللَّقِيطِ دَارَ الْإِسْلَامِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَجُزْ إلَّا مُجَرَّدُ تَأْمِينٍ أَوْ أَدَاءِ جِزْيَةٍ كَمَا فِي نَجْرَانَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فَبَقَاءُ هَذَا النَّوْعِ فِي حُكْمِ دُورِ الْكُفَّارِ مُحْتَمَلٌ . وَأَمَّا إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ انْفَرَدَ فِيهِ الْكُفَّارُ فَلَا وَجْهَ لِإِحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِيهِ أَصْلًا .
( فَصْلٌ ) قَدْ بَقِيَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ شَيْءٌ نُفْرِدُ لَهُ بَابًا لِأَنَّهُ فِي التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ وَهُمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ : ( بَابُ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ )(1/94)
قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَجَوَّزْنَا إبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ فَلَا مَنْعَ مِنْ عِمَارَتِهَا . قُلْت جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْخِلَافَ فِيهِ , وَنَصُّ كَلَامِهِ : " وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ انْهَدَمَتْ أَوْ انْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْهَا فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُجَدِّدُوا أَوْ يُصْلِحُوا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى التَّبْقِيَةِ وَلَوْ مَنَعْنَا الْعِمَارَةَ لَمَنَعْنَا التَّبْقِيَةَ وَنَقَلْت ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيقَتِهِ الَّتِي بِخَطِّ سُلَيْمٍ صَاحِبِهِ , وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى ذَلِكَ وَظَنَّ أَنَّ التَّرْمِيمَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ كَمَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي قَوْلِ التَّنْبِيهِ : وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَةِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا وَقِيلَ يُمْنَعُونَ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا لِلْكَنَائِسِ وَأَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْتُهْدِمَتْ كُلَّهَا . وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالتَّنْبِيهِ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقَةِ أَبِي الطَّيِّبِ يُوَافِقُهُ غَالِبًا , وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكِتَابَيْنِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّنِي اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمَا . وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ وَجَوَّزْنَا إبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ فِيهِ تَسَمُّحٌ وَهُوَ مِنْ النَّمَطِ الَّذِي قَدَّمْت فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّصَانِيفِ قَدْ يَتَسَمَّحُونَ فِيهِ فَإِنَّ الْجَوَازَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِإِبْقَاءِ الْكَنِيسَةِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ عَدَمُ الْمَنْعِ , وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ مَا جَازَ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ هَلْ يَجُوزُ إعَادَتُهُ ؟ وَجْهَانِ وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَحَسْبُهُ مُقَابَلَتُهُ لِلتَّرْكِ بِالْإِعَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ هَلْ يَجُوزُ لَنَا تَرْكُهُ يَعْبُدُونَهُ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا إعَادَتُهَا , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ أَوْ مُبَاحٌ وَلَيْسَتْ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُمْ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَرْكُنَا لَهُمْ , وَسُكُوتُنَا عَنْهُمْ , وَكَذَا قَوْلُ الْمِنْهَاجِ فِيمَا فُتِحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ وَمُرَادُهُ عَدَمُ الْمَنْعِ , وَكَذَا عِبَارَةُ ابْنِ الصَّبَّاغِ , وَأَمَّا عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ فَسَالِمَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ . وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ . قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : وَيُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ إذَا رُمَّتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَهْدِهِمْ فَيُوَفَّى لَهُمْ . وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِمَا قَدَّمْت مِنْ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُمَكِّنَهُمْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ; وَلِأَنَّ شَرْطَ عُمَرَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِأَعْيَانٍ جَدِيدَةٍ فِي مَعْنَى إنْشَاءِ كَنِيسَةٍ جَدِيدَةٍ وَنَحْنُ لَمْ نَلْتَزِمْ لَهُمْ إلَّا عَدَمَ الْهَدْمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ التَّرْمِيمِ وَتِلْكَ الْآلَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي يُرَمُّ بِهَا كَيْفَ تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا , وَجَعْلُهُ إيَّاهَا كَنِيسَةً أَوْ جُزْءَ كَنِيسَةٍ لَا يَصِحُّ , وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ أَطْلَقَ التَّرْمِيمَ أَنْ يَرُمَّ بِتِلْكَ الْآلَاتِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي الْتَزَمَ لَهُمْ عَدَمَ هَدْمِهَا فَيُعِيدُونَ تَأْلِيفَهَا عَلَى مَا كَانَ فَهَذَا قَرِيبٌ يُمْكِنُ الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْجَوَازِ فِيهِ , أَمَّا التَّرْمِيمُ الَّذِي فِيهِ إنْشَاءُ آلَاتٍ أُخْرَى فَبَعِيدٌ مِنْ الْجَوَازِ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ , وَلَوْ شُرِطَ فَقَدْ اقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازَ وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ لِعَدَمِ الْهَدْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْنَعَ كَمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله وَهَلْ يَجِبُ إخْفَاءُ الْعِمَارَةِ ؟(1/95)
فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) نَعَمْ لِأَنَّ إظْهَارَهَا مَرْتَبَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِظْهَارِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِبْقَاءِ الْكَنِيسَةِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَيَجُوزُ إعَادَةُ الْجِدَارِ السَّاقِطِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّطْيِينِ مِنْ خَارِجٍ . وَإِذَا أَشْرَفَ الْجِدَارُ فَلَا وَجْهَ إلَّا أَنْ سَوَّى جِدَارًا دَاخِلِ الْكَنِيسَةِ , وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى جِدَارٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ الْكَنِيسَةِ شَيْءٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْإِخْفَاءِ بِإِسْبَالِ سِتْرٍ تَقَعُ الْعِمَارَةُ مِنْ وَرَائِهِ أَوْ بِإِيقَاعِهَا فِي اللَّيْلِ . قُلْت هَذَا تَفْرِيعٌ مُسْتَقِيمٌ . وَرَأَيْت فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ بَعْدَ أَنْ حُكِيَ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ الْمَنْعُ مِنْ التَّجْدِيدِ وَالْإِصْلَاحِ , قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إنْ تَشَعَّبَ السُّورُ فَبَنَوْا دَاخِلَ السُّورِ حَائِطًا حَتَّى إذَا أُسْقِطَ الْأَوَّلُ بَقِيَ الثَّانِي لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ وَهَذَا مِنْ الْإِصْطَخْرِيِّ مَعَ مَنْعِهِ الْإِعَادَةَ وَالتَّرْمِيمَ عَجِيبٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَإِذَا انْهَدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ فَهَلْ لَهُمْ إعَادَتُهَا ؟(1/96)
فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) لَا وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُبَيْرَةَ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ ابْتِدَاءُ كَنِيسَةٍ . قُلْت وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي لِأَنَّا لَمْ نَلْتَزِمْ لَهُمْ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا شُرُوطِهِمْ مَا يَقْتَضِيهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ الْمُنْهَدِمَةِ بِعَيْنِهَا فَيُعَادُ تَأْلِيفُهَا فَنَتْرُكُهُمْ وَذَاكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَأَصَحُّهُمَا نَعَمْ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ رحمهما الله لِأَنَّ الْكَنِيسَةَ مُبْقَاةٌ لَهُمْ فَلَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَكَانِهَا . قُلْت مِنْ أَيْنَ إذَا كَانَتْ مُبْقَاةً لَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا انْتِفَاعًا خَاصًّا مُدَّةَ بَقَائِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَكَانِهَا وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ لَهُمْ التَّصَرُّفَ فِي مَكَانِهَا مِنْ أَيْنَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ ؟ , وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إحْدَاثِهِمْ كَنِيسَةً , وَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ يَجْعَلُ الْكَنِيسَةَ هِيَ الْأَرْضُ فَقَطْ , وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ الْكُلُّ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَلَيْتَ لَوْ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْإِعَادَةِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ تُعَادَ بِآلَتِهَا الْقَدِيمَةِ وَحِينَئِذٍ كَانَ يَسْهُلُ التَّجْوِيزُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ التَّرْمِيمِ بَلْ هُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ لَفْظُ الْإِعَادَةِ فَالْمُعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُهُ , أَمَّا إعَادَةُ الْكَنِيسَةِ بِأَعْيَانٍ أُخْرَى فَبَعِيدٌ جِدًّا . فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِمْ فِي الْإِعَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ احْتَمَلْنَاهُ , وَإِلَّا فَلَا وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْهَدْمِ فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَلَا نَزِيدُ وَنَقُولُ هُوَ الْإِبْقَاءُ ثُمَّ الْإِبْقَاءُ مُسْتَلْزِمُ بَقَاءَ نَوْعِهِ ثُمَّ إعَادَةُ مِثْلِهِ . هَذَا كُلُّهُ لَا دَلِيلَ مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ بُطْلَانُهُ , قَالَ الرَّافِعِيُّ وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ إعَادَتَهَا فَهَلْ لَهُمْ تَوْسِيعُ حِيطَانِهَا ؟ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَمَا لَوْ أَعَادُوهَا عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى . قُلْت هَذَا يُسْتَغَاثُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ وَعِنْدِي أَنَّهُ غَلَطٌ مَحْضٌ قَالَ : وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَنِيسَةٌ جَدِيدَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْأُولَى . قُلْت هَذَا حَقٌّ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ , وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الصَّبَّاغِ مَسْأَلَةَ التَّرْمِيمِ , وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِعَادَةِ وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَصْحِيحٍ . وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْأُولَى مِنْ إطْلَاقِ الْوَجْهَيْنِ فِي إصْلَاحِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ الْكَنَائِسِ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ صَارَتْ دِرَاسَةً مُسْتَطْرَقَةً كَالْمَوَاتِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إنْشَاءٍ وَإِنْ كَانَتْ شُعْبَةً بَاقِيَةَ الْآثَارِ وَالْجِدَارِ جَازَ لَهُمْ بِنَاؤُهَا , وَمَنْعُهُ فِي الْمُنْدَرِسَةِ نَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ وَالتَّمْكِينُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ الْإِعَادَةِ قَبِيحٌ جِدًّا , وَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الشُّعْبَةِ لَا نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ بِالْمَنْعِ أَيْضًا . وَقَوْلُهُ جَازَ يَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ لَمْ يَصْنَعْ كَمَا صَنَعَ فِي الْكِفَايَةِ وَمَالَ إلَى مَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ خِلَافٍ فِي التَّرْمِيمِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى النَّقْلِ فِيهِ , وَبِالْجُمْلَةِ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا التَّمْكِينُ مِنْ التَّرْمِيمِ , وَالْحَقُّ عِنْدِي خِلَافُهُ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ . وَقَالَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمُدْرَكُ أَنَّهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَالْعَيْنُ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ قَدْ انْهَدَمَتْ وَالْعَوْدُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَهُوَ مُنْكَرٌ تَجِبُ إزَالَتُهُ . وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ : إذَا انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ تَشَعَّبَ فَأَرَادُوا إعَادَتَهُ وَتَجْدِيدَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ , وَالثَّانِيَةُ لَهُمْ أَمَّا الْبِنَاءُ عَنْ خَرَابٍ فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ . وَالثَّالِثَةُ لَهُمْ مُطْلَقًا , وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَ أَنْ يُحْدِثُوا إلَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّرْمِيمَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ , فَامْتِنَاعُ الْإِعَادَةِ أَوْلَى , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَنَائِسَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إحْدَاثُهَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَأَنَّ(1/97)
الْمُبْقَاةَ إذَا انْهَدَمَتْ تُعَادُ . وَإِذَا جَوَّزُوا الْإِعَادَةَ فَالتَّرْمِيمُ أَوْلَى . وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِلْكَرْخِيِّ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ بِخُرَاسَانَ وَالشَّامِ قَالَ مَا أَحَاطَ عِلْمِي بِهِ أَنَّهُ مُحْدَثٌ هَدَمْتُهُ وَإِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مُحْدَثٌ تَرَكْته حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ هَدْمُهُ وَالْمُحْدَثُ يَجُوزُ هَدْمُهُ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِسَبَبِ الْهَدْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بُنِيَ بِحَقٍّ فَلَا نَعْرِضُ لَهُ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : فَإِنْ بَنَوْا فِي بَعْضِ الرَّسَاتِيقِ وَالْقُرَى ثُمَّ اتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ مِصْرًا مُنِعُوا أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَ مَا صَارَ مِصْرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْإِحْدَاثِ وَالْإِبْقَاءِ فَالتَّرْمِيمُ أَسْهَلُ وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْمَنْعُ مِنْ التَّرْمِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
================
حكم من دخل دار الإسلام بتجارة من الكفار(1)
قال السبكي رحمه الله في فتاواه :
( مَسْأَلَةٌ ) وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِ صَفَدَ عَلَى نَائِبِ الشَّامِ مَضْمُونُهُ أَنَّ مَدِينَةَ عَكَّاءَ مِنْ السَّاحِلِ بِعَمَلِ صَفَدٍ بِهَا مِينَاءٌ يَرِدُ إلَيْهَا التُّجَّارُ الْفِرِنْجُ مِنْ الْبَحْرِ يَبِيعُونَ مَا يَصِلُ مَعَهُمْ وَيَبْتَضِعُونَ غَيْرَهُ وَيَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَادَةٌ بِإِظْهَارِ أَعْيَادِهِمْ بِعَكَّاءَ وَلَا مَا يَفْعَلُونَهُ بِبِلَادِهِمْ وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَيَّامٍ اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ وَجَهَّزُوا مَنْ قَطَعَ لَهُمْ عُرُوقَ زَيْتُونٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى أَكْتَافِ عَتَّالِينَ نَفَرَيْنِ صِبْيَانَ فِرِنْجَ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ وَأَنَّ الصِّبْيَانَ الْمَذْكُورِينَ أَعْلَنُوا بِالدُّعَاءِ لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ بِالْمِينَاءِ ثُمَّ إنَّهُمْ دَخَلُوا إلَى خَرَابِ عَكَّاءَ جَمِيعُهُمْ وَقُدَّامُهُمْ مُقَدَّمُ الْوِلَايَةِ وَالْمِينَاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسُيُوفٍ مَشْهُورَةٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْكَنِيسَةِ اسْتَغَاثَ الصِّبْيَانُ الرَّاكِبِينَ بِالْمَسِيحِ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَبِيَدِ أَحَدِ الصِّبْيَانِ رُمْحٌ بِهِ رَايَةٌ وَحَالَ الْوَقْتِ جَهَّزَ الْمَمْلُوكُ مَنْ أَحْضَرَ الْفِرِنْجَ الْمَذْكُورِينَ وَمُتَوَلِّيَ عَكَّاءَ وَالْقَاضِيَ بِهَا وَمُقَدَّمَ الْمِينَاءِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَتَّالِينَ فَلَمَّا حَضَرُوا سَأَلَ الْمَمْلُوكُ الْعَتَّالِينَ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ جَرَى وَأَنَّ مُقَدَّمَ الْوِلَايَةِ أَمَرَهُمْ بِشَيْلِ الزَّيْتُونَةِ مَعَ الْفِرِنْجِ الْمَذْكُورِينَ وَأَنَّ الْفِرِنْجَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ شَاوَرُوا الْوَالِيَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ جَهَّزَهُمْ إلَى عِنْدِ الْقَاضِي وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَهُمْ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي أَمَرَهُمْ بِعَمَلِ ذَلِكَ يَعْمَلُونَهُ وَعُمِلَ مُحْضَرٌ بِصُورَةِ الْحَالِ وَمَا اعْتَمَدَهُ الْمَذْكُورُونَ جَمِيعُهُمْ وَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَذْكُورِينَ الْوَاجِبَ فَخَشِيَ مِنْ شَكْوَاهُمْ وَيَطْلُبهُمْ الْوَالِي وَأَنْ يَقُولُوا إنَّ الْمَمْلُوكَ عَمِلَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَأَنَّ الْمَمْلُوكَ طَلَبَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ فِي عَمَلِهِ وَلَمْ يَجِدْ فِي صَفَدٍ مُفْتٍ يُفْتِيهِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ بِصَفَدٍ ذَكَرَ أَنَّ مَذْهَبَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِصَفَدٍ وَقَدْ اخْتَارَ الْمَمْلُوكُ أَنْ يُحَرِّرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ جَمِيعِهِمْ لِيَعْتَمِدَ فِي أَمْرِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ كَلَامٌ وَلَا تَظَلُّمٌ , وَقَدْ كَتَبْت فُتْيَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَجَهَّزَهَا الْمَمْلُوكُ عَطَفَ مَطَالِعَهُ إلَى بَيْنِ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ لِيَقَعَ نَظَرُهُ عَلَيْهَا .
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 253)(1/98)
( أَجَابَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله بِمَا نَصُّهُ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ بِأَمَانٍ لَيْسَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلْ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَقْدُ الْأَمَانِ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ بِمَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ , وَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنِدَائِهِمْ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْهَيْئَةُ يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُمْ وَيَصِيرُونَ كَمَنْ لَا أَمَانَ لَهُمْ . وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ إنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمُفَادَاةِ , وَلَا يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ عَنْ الصَّحِيحِ , وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْمَنِ يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى مَا فُصِّلَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُهُمْ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ أَيْضًا كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ , وَلَيْسَ تَخَيُّرُهُ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي بَلْ عَلَى سَبِيلِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ نَفْسِهِ لَا لِنَائِبِهِ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلنَّائِبِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ حَتَّى يُشَاوِرَ مَوْلَانَا السُّلْطَانَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَسْتَقِلُّ بِهِ نَائِبُ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِهِمْ بِحَسَبِ رَأْيِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ . وَأَمَّا بَعْدَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ وَصْمَةٌ فِيهِمْ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى إنْكَارِهِ , وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا تَقْدِيرٍ . وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ , وَأَذِنَ لَهُمْ فِيهِ إنْ كَانَ وَالِيًا يُعْزَلُ وَيُؤَدَّبُ بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى الْحُدُودِ , وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا يُعْزَلُ , وَالْحَمَّالُونَ يُؤَدَّبُونَ تَأْدِيبًا لَطِيفًا وَكَذَا مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ , وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ . كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ , وَالرَّأْيُ عِنْدِي فِي الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَعَ التَّعْزِيرِ أَوْ دُونَهُ نُمْسِكُ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجَ هُنَا عِنْدَنَا حَتَّى يُطْلِقُوا لَنَا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي بِلَادِهِمْ . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ فِي بِلَادِهِمْ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَنْ يُمْسِكَهُمْ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِي ذَلِكَ وَيَأْتُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ الْمُفَادَاةُ وَيَسْتَقِلُّ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِذَلِكَ أَعْنِي بِحَبْسِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ خَيْرٌ مِنْ قَتْلِهِمْ وَمِنْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَمِنْ الِاسْتِرْقَاقِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ فِي الْفُتْيَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِإِفَادَةِ فَقِيهٍ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ فَأَقُولُ : وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُجَرَّدَ دُخُولِهِمْ لِلتِّجَارَةِ لَا يَقْتَضِي الْأَمَانَ حَتَّى يَعْقِدَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ أَمَانًا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ إشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَحُكْمُ الْإِشَارَةِ حُكْمُ الْكِنَايَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ أَمْ عَاجِزٍ مِنْ جِهَتِنَا وَبِلَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْ بِأَنْ يَكُونُوا رُسُلًا أَوْ بِأَنَّ الْقَصْدَ سَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فَلَا أَمَانَ لَهُمْ . وَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَمَانِ مُجَرَّدُ قَصْدِهِمْ التِّجَارَةَ لِمَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ بِلَا إذْنٍ فَلَيْسَ يَأْمَنُ . وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ دَخَلْت لِتِجَارَةٍ وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ كَقَصْدِ السِّفَارَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّهُ لَا يُبَالَى(1/99)
بِظَنِّهِ وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُ لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا مُسْتَنَدٌ فَهَؤُلَاءِ التُّجَّارِ إنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَذِنَ لَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي مَأْمَنَهُمْ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ بَلْ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ جَارٍ عَلَيْهِمْ نَغْتَالُ أَنْفُسَهُمْ وَنَغْنَمُ أَمْوَالَهُمْ فَشَرْطُ أَمَانِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَالِي : كُلُّ مَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ آمِنٌ أَوْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِشَخْصٍ خَاصٍّ فَيَحْصُلُ الْأَمَانُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ . وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَعَلَى الْخُصُوصِ يَثْبُتُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا وُجِدَتْ كِتَابَةٌ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ الْأَمَانُ لَكِنْ لَا يُغْتَالُ بَلْ يَلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ , وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ مَأْمَنَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ الْكَافِرُ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ , وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ حَتَّى لِلَّذِي آمَنَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ الْأَمَانُ لِعَدَمِ فَهْمِ الْكَافِرِ ذَلِكَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْمِينِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْأَمَانِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلَا إشَارَةٍ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا , وَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ وَلَا مُعَاهَدِينَ لَا قَبْلَ فِعْلِهِمْ هَذَا وَلَا بَعْدَهُ فَكَيْفَ نَعْتَمِدُ فِعْلَهُمْ هَذَا الشَّيْءِ . وَهَذَا إنَّمَا قُلْنَاهُ اسْتِيرَادًا لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُبَالَغَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِخَاصَّةٍ , وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ لِزِيَارَةِ قُمَامَةٍ وَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْمِينِ حُكْمِهِمْ هَكَذَا أَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ , وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ لَا أَمَانَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يُضْمَنْ وَأَنْ لَا يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ بَلْ يَبْلُغُ الْمَأْمَنَ وَإِنَّمَا نُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ لِدُخُولِهِ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ السَّيِّئَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَضَ أَمَانَهُ بِفِعْلِهِ يَجِبُ عَلَيْنَا تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ , وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ التَّأْمِينُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَهَذَا إذَا شَكَّ فِيهِ إذَا صَدَرَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَوْ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّعِيَّةِ خَاصًّا إمَّا لِشَخْصٍ خَاصٍّ وَإِمَّا لِعَدَدٍ مُبَيِّنِينَ مِنْ التُّجَّارِ وَفِيمَا إذَا قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْ الرَّعِيَّةِ , وَقَالَ الْكَافِرُ ظَنَنْت صِحَّتَهُ فِي جَوَازِ اغْتِيَالِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُغْتَالُ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ فِي الْأَمَانِ كَانَ الْأَمَانُ بَاطِلًا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ التَّبْلِيغِ إلَى الْمَأْمَنِ بَلْ يَجُوزُ الِاغْتِيَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ قَصَدَ التَّأْمِينَ لِأَنَّهُ تَأْمِينٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّأْمِينِ الْفَاسِدِ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ التَّأْمِينِ الصَّحِيحِ كَأَمَانِ الصَّبِيِّ وَالتَّأْمِينُ الْبَاطِلُ مِثْلُ تَأْمِينِ الْجَاسُوسِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِلْمَالِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ , وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ إذَا أَمَّنَهُ لِلدُّخُولِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ لِذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ . وَإِذَا اُنْتُقِضَ الْأَمَانُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ اُنْتُقِضَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَصَارَ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا اُلْتُحِقَ بِبِلَادِهِ وَتَرَكَ مَالَهُ عِنْدَنَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ عَلَى الْأَصَحِّ بَلْ يَجِبُ إيصَالُهُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْأَمَانَ انْتَهَى نِهَايَتَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْنَا فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ . وَهُنَا الْجِنَايَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُ فَسَرَى أَثَرُهَا إلَى الْمَالِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ فِي لَيْلَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ .
===================
وفي الفروع :(1)مَنْ أَبَى بَذْلَ الْجِزْيَةِ أَوْ الصِّغَارَ
__________
(1) - الفروع لابن مفلح - (ج 11 / ص 487)(1/100)
قَالَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ أَوْ الْتِزَامَ حُكْمِنَا , أَوْ قَاتَلَنَا , وَالْأَشْهَرُ : أَوْ لَحِقَ بِدَارِ حَرْبٍ مُقِيمًا بِهَا . انْتَقَضَ عَهْدُهُ , وَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ كِتَابَهُ أَوْ دِينَهُ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ , أَوْ تَجَسَّسَ لِلْكُفَّارِ أَوْ آوَى جَاسُوسًا , أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ فَتَنْهَ عَنْ دِينِهِ , أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ قَالَ شَيْخُنَا : وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ بَلْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ , فَنَصُّهُ : يَنْتَقِضُ , وَنَصُّهُ : إنْ سَحَرَهُ فَآذَاهُ فِي تَصَرُّفِهِ أَوْ قَذَفَهُ فَلَا , وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ . وَفِي الْوَسِيلَةِ : إنْ لَمْ تَنْقُضْهُ فِي غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ وَشَرَطَ وَجْهَانِ , وَإِنْ أَبَى مَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَلْزَمُ تَرْكُهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ( م 10 ) , فَإِنْ لَزِمَ أَوْ شَرَطَ تَرْكَهُ فَفِي نَقْضِهِ وَجْهَانِ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَتَيْنِ ( م 11 ) وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مُنَاظَرَاتِهِ فِي رَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا : يَحْتَمِلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ , وَيُنْتَقَضُ بِإِظْهَارِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ سَتْرُهُ مِمَّا هُوَ دَيْنٌ لَهُمْ فَكَيْفَ بِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ بِدَيْنٍ , وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ مَعَ الشَّرْطِ فَقَطْ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ : يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَا ذُكِرَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ , وَكَذَا ابْنُ رَزِينٍ , لَكِنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ لَزِمَتْهُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ , شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا ؟ قَالَ : وَمَا عَدَا الشَّامَ فَقَالَ الْخِرَقِيُّ : إنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ انْتَقَضَ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ وَإِلَّا فَلَا , لِأَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ حَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ , وَقَالَ شَيْخُنَا فِي نَصْرَانِيٍّ لَعَنَ مُسْلِمًا : تَجِبُ عُقُوبَتُهُ بِمَا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ قَوْلٌ : يُقْتَلُ , لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ , وَمَنْ نَقَضَهُ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ حَرْبٍ فَكَأَسِيرٍ حَرْبِيٍّ , وَمَنْ نَقَضَهُ يُغَيِّرُهُ فَنَصُّهُ يُقْتَلُ , قِيلَ : يَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ , وَالْأَشْهَرُ يُخَيَّرُ فِيهِ كَحَرْبِيٍّ ( م 12 ) وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْنَا أَوْ مَا فِي شُرُوطِ عُمَرَ يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ وَيُنْتَقَضُ بِفِعْلِهِ .(1/101)
مَسْأَلَةٌ 10 ) قَوْلُهُ " وَإِنْ أَبَى مَا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَلْزَمُ تَرْكُهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ " انْتَهَى . يَعْنِي إذَا أَبَى تَرَكَ مَا مُنِعَ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِكِتَابَةٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَضَرْبَ النَّاقُوسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَنَحْوِ ذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي فِي نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ , فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ تَرْكُهُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ , أَوْ لَا بُدَّ مِنْ شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ ؟ أُطْلِقَ الْخِلَافُ , هَذَا مَا ظَهَرَ لِي , وَلَكِنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ . ( أَحَدُهُمَا ) : يَلْزَمُهُمْ تَرْكُهُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِهَا عَلَيْهِمْ . ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) : لَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا بِشَرْطِهِ عَلَيْهِمْ , وَهُوَ الصَّوَابُ . ( مَسْأَلَةٌ 11 ) قَوْلُهُ : " فَإِنْ لَزِمَ أَوْ شَرَطَ تَرْكَهُ فَفِي نَقْضِهِ وَجْهَانِ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَتَيْنِ " انْتَهَى . أَيْ فَفِي نَقْضِ الْعَهْدِ بِفِعْلِ ذَلِكَ وَجْهَانِ , وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُذْهَبِ وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَالْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمْ . ( أَحَدُهُمَا ) لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِفِعْلِ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ , قَالَ الشَّارِحُ : هُوَ قَوْلُ غَيْرِ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا , قَالَ الزَّرْكَشِيّ : هَذَا اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِ وَصَحَّحَهُ فِي النَّظْمِ وَغَيْرِهِ , وَقَدَّمَهُ فِي الْمُقْنِعِ وَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِمَا , وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ . ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) يُنْتَقَضُ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ , وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ , قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِيَيْنِ وَغَيْرِهِمَا , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ , قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهِ : وَإِنْ أَظْهَرَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِكِتَابَةٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عِنْدَ مَوْتَاهُمْ أَوْ ضَرَبَ نَاقُوسًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَّى بِنَاءَ جَارٍ مُسْلِمٍ أَوْ رَكِبَ الْخَيْلَ أَوْ حَدَّثَ فِي الْإِسْلَامِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً , أَوْ أَقَامَ بِالْحِجَازِ , أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عُزِّرَ , وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ ذَلِكَ انْتَقَضَ عَهْدُ فَاعِلِهِ , وَقِيلَ : بَلْ يُعَزَّرُ , انْتَهَى . ( مَسْأَلَةٌ 12 ) قَوْلُهُ : " وَإِنْ نَقَضَهُ بِغَيْرِهِ فَنَصُّهُ : يُقْتَلُ , قِيلَ : يَتَعَيَّنُ [ قَتْلُهُ ] وَالْأَشْهَرُ : يُخَيَّرُ فِيهِ كَحَرْبِيٍّ " , انْتَهَى . يَعْنِي إذَا انْتَقَضَ الْعَهْدُ بِغَيْرِ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ . ( أَحَدُهُمَا ) : يَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ , قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَالنَّظْمِ وَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِمْ : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ , وَقَدَّمَهُ فِي الْمُذْهَبِ وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْخُلَاصَةِ وَالنَّظْمِ وَالرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِيَيْنِ وَغَيْرِهِمْ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) : يُخَيَّرُ فِيهِ كَحَرْبِيٍّ , قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَهُوَ الْأَشْهَرُ , وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ , وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالْمُقْنِعِ وَشَرْحِ ابْنِ مُنَجَّى وَغَيْرِهِمْ , وَقَدَّمَهُ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ ( قُلْت ) : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمُحَرَّرِ . ( تَنْبِيهٌ ) قَوْلُهُ " قِيلَ يَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ وَالْأَشْهَرُ يُخَيَّرُ فِيهِ " هَذَانِ الْقَوْلَانِ تَفْسِيرٌ لِلنَّصِّ , هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي , أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ : " وَالْأَشْهَرُ يُخَيَّرُ فِيهِ " مُقَابِلٌ لِلنُّصُوصِ , وَهُوَ مُصْطَلَحُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ وَالنَّظْمِ وَالرِّعَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَصْحَابِ , وَكَلَامُهُمْ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ , لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُ الْمُصَنِّفِ " قِيلَ يَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ " مُفَسِّرٌ لِلنَّصِّ فَقَطْ , وَإِتْيَانُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ , وَتَقَدَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ .
====================
وفي الإنصاف :قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَظْهَرَ مُنْكَرًا , أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِكِتَابِهِ وَنَحْوِهِ : لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ ) (1)
__________
(1) -الإنصاف - (ج 7 / ص 220)(1/102)
. هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ , وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ . قَالَ الشَّارِحُ : قَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : هَذَا اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِ . وَصَحَّحَهُ فِي النَّظْمِ وَغَيْرِهِ . وَقَدَّمَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ . وَاخْتَارَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ . وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ , وَالْحَاوِيَيْنِ , وَأَطْلَقَهَا فِي الْهِدَايَةِ , وَالْمُذْهَبِ , وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ , وَالْمُسْتَوْعِبِ , وَالْخُلَاصَةِ , وَالْفُرُوعِ . فَائِدَةٌ : وَكَذَا حُكْمُ كُلِّ مَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فَخَالَفُوهُ . تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْخِرَقِيِّ وَالْجَمَاعَةِ : إذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ . قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ لَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ . وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ فَقَوْلَانِ : اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ , وَاخْتِيَارُ الْأَكْثَرِ . وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَإِنْ أَتَى بِمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ : فَهَلْ يَلْزَمُ تَرْكُهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . وَإِنْ لَزِمَ , أَوْ شُرِطَ تَرْكُهُ : فَفِي نَقْضِهِ وَجْهَانِ . وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَتَيْنِ . وَذَكَرَ فِي مُنَاظَرَاتِهِ فِي رَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا , يَحْتَمِلُ نَقْضُ الْعَهْدِ . وَيُنْتَقَضُ بِإِظْهَارِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ سَتْرُهُ مِمَّا هُوَ دِينٌ لَهُمْ . فَكَيْفَ بِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ بِدَيْنٍ ؟ انْتَهَى . وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ مَعَ الشَّرْطِ فَقَطْ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ : يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَا ذُكِرَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ . وَذَكَرَهُ ابْنُ رَزِينٍ . لَكِنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ : لَزِمَتْهُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ . شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ لَا . قَالَ : وَمَا عَدَا الشَّامَ . فَقَالَ الْخِرَقِيُّ : إنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ : اُنْتُقِضَ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ , وَإِلَّا فَلَا . لِأَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ : حَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي نَصْرَانِيٍّ لَعَنَ مُسْلِمًا : تَجِبُ عُقُوبَتُهُ بِمَا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالُهُ عَنْ ذَلِكَ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ [ قَوْلٌ ] يُقْتَلُ . لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ . انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ .
==================
وفي الموسوعة الفقهية :دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ :(1)
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ - الْحِجَازَ وَمَا سِوَاهُ - لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا , وَلَا بِيعَةٍ , وَلَا صَوْمَعَةٍ , وَلَا بَيْتِ نَارٍ , وَلَا صَنَمٍ , تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا , وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ كَمَا عَبَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدُنُهَا وَقُرَاهَا وَسَائِرُ مِيَاهِهَا . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحْدَثٍ أَوْ قَدِيمٍ , أَيْ سَابِقٍ عَلَى الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ . وَيُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً . أَمَّا سَائِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَهِيَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : 1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَتْحِ , فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثٌ وَلَا إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعَابِدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . 2 - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْإِحْدَاثُ , وَفِي وُجُوبِ هَدْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . 3 - مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَمْصَارِ , كَالْبَصْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَلَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ . 4 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا , فَلَا يُحْدِثُونَ فِيهَا مَعْبَدًا , إلَّا أَنْ يَكُونَ شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : مَا وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ شَرْطٍ فَعَلَى شُرُوطِ عُمَرَ . 5 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا شَاءُوا لِأَنَّ الْأَرْضَ مِلْكُهُمْ .
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ : (2)
__________
(1) - موجود في كلمة أرض العرب وهي ساقطة من نسخة الشاملة 2
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4284)(1/103)
60 - يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِلُ إلَيْهِ أَنَّ فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ , وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ , وَلَوْ دَخَلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ . هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ عَنْهُ , لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلًا : إنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ . أَيَخْرُجُ ؟ قَالَ : لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا . إذَا رَأَى الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ . يَعْنِي : وَلَا يَخْرُجُ . قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي , قَالَ : لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ , فَقَالَ : قَاتَلَهُمْ اللَّهُ , لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ } قَالُوا : وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ , لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا , وَلِلْمَارَّةِ بِدَوَابِّهِمْ . وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . قَالُوا : وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ { أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ دُخُولِهِ , كَمَا لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ .
61 - وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ , أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ . أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا يَأْتِي . وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ الدُّخُولِ إلَى مَكَان هِيَ فِيهِ .
62 - وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ , وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : إنْ رَأَى صُوَرًا فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُلْ الْمَنْزِلَ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرُ إنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لَا تُوطَأُ , فَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ : عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُولِ , بَلْ يُكْرَهُ . وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلَانِيّ , وَالْإِمَامِ , وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ , وَالْإِسْنَوِيِّ . قَالُوا : وَهَذَا إنْ كَانَتْ الصُّوَرُ فِي مَحَلِّ الْجُلُوسِ , فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنْ الْمَنْزِلِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ .
=================
وفي معالم القربى :
( الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي الْحِسْبَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )(1)
__________
(1) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 43)(1/104)
اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاهُلَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَطَرٌ عَظِيمٌ , وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ رَبِّكُمْ إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ , وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ بِهَا إلَّا مُسْلِمًا , وَقَالَ لَا تُسَاكِنُوا الْيَهُودَ , وَالنَّصَارَى فِي أَمْصَارِكُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا , وَمَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } . وَلَمَّا { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بَدْرٍ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ مَعَك فَقَالَ : أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ , ثُمَّ لَحِقَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ , وَكَانَ شُجَاعًا فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى , فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ , ثُمَّ لَحِقَهُ الثَّالِثَةَ فَأَسْلَمَ هَذَا , وَقَدْ خَرَجَ لِيُقَاتِلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُرَاقَ دَمُهُ } . وَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْبَصْرَةَ , وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ , وَاسْتَأْذَنَ لِكَاتِبِهِ , وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ , وَرَآهُ فَقَالَ قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا أَبَا مُوسَى , وَلَّيْت نَصْرَانِيًّا عَلَى الْمَالِ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } , فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ , وَلَهُ دِينُهُ فَقَالَ عُمَرُ لَا أُكْرِمُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ , وَلَا أُعِزُّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ , وَلَا أُدْنِيهِمْ بَعْدَ أَنْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ , وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ كَاتِبًا يُقَالُ لَهُ : حَسَّانُ بَلَغَنِي أَنَّك اسْتَعْمَلَتْ حَسَّانَ , وَهُوَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي , وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } . وَقَالَ تَعَالَى { : لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا , وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ , وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ , وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } , وَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا , وَنَحْنُ مِنْهُ , وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ , فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ قَرَأَهُ عَلَى حَسَّانَ فَأَسْلَمَ , وَعَلَّمَهُ الطَّهَارَةَ , وَالصَّلَاةَ , وَهَذَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَكَيْفَ اسْتِعْمَالُهُمْ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ . فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ , وَبِمَا الْتَزَمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ , وَلَا يُرَخِّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ قَوْلًا , وَلَا فِعْلًا , وَيُلْزِمَهُمْ بِمَا كَتَبُوهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ : هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا , وَمَدِينَةِ كَذَا لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا , وَقَدْ سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا , وَذَرَارِيّنَا , وَأَمْوَالِنَا عَلَى أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا , وَلَا حَوْلَهَا كَنِيسَةً , وَلَا دَيْرًا , وَلَا قِلَّايَةً , وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا نُحْدِثَ مِنْهَا مَا خَرِبَ , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ , وَأَنْ نُوَسِّعَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الضِّيَافَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ , وَلَا نُنْزِلَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَلَا نَكْتُمَ عَيْنًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا نُظْهِرَ شَرْعَنَا , وَلَا نَدْعُوَ(1/105)
إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ إنْ رَأَوْا ذَلِكَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ , وَنَقُومَ لَهُمْ فِي مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ , وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ , وَلَا عِمَامَةٍ , وَلَا نَعْلٍ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ , وَلَا نَتَسَمَّى بِأَسْمَائِهِمْ , وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنْيَتِهِمْ , وَلَا نَرْكَبَ بِالسُّرُوجِ , وَلَا نَتَقَلَّدَ بِالسُّيُوفِ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا نَعْمَلَهُ , وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا , وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ , وَلَا نَسْقِيَهَا أَحَدًا , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا , وَنَجْعَلَ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نُظْهِرَ صُلْبَانَنَا , وَكُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نَضْرِبَ النَّوَاقِيسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا . وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي شَيْءٍ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا , وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نُظْهِرَ بَاعُوثًا , وَلَا شَعَانِينَ , وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا , وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ , فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه زَادَ فِيهِ , وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا , وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ , وَالشِّقَاقِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ أَمْضِ ذَلِكَ , وَأَلْحِقْ فِيهِ هَذَا , وَلَا يَشْتَرُوا شَيْئًا مِنْ سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ , وَأَنَّ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا أَوْ شَتَمَهُ فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ , وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ رُكَبَهُمْ , وَإِنْ تَرَكْنَا يَرْكَبُوا عَلَى الْأَكُفِّ , وَأَنْ يَرْكَبُوا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ , وَأَنْ يَلْبَسُوا خِلَافَ لِبَاسِ الْمُسْلِمِينَ لِيُعْرَفُوا بِهِ , وَاللَّوْنُ الْأَصْفَرُ أَوْلَى بِالْيَهُودِ عَلَى رُءُوسِهِمْ , وَيَشُدُّونَ النَّصَارَى الزَّنَانِيرَ أَيْ خُيُوطًا غِلَاظًا فِي أَوْسَاطِهِمْ فَوْقَ الثِّيَابِ , وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ , تَعُمُّ لَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ الْغِيَارُ , وَالزُّنَّارُ جَمِيعًا أَخَذُوا بِهِمَا , وَيَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ خَاتَمٌ مِنْ الرَّصَاصِ أَوْ نُحَاسٍ يَدْخُلُ مَعَهُمْ الْحَمَّامَ لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ , وَلَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ , وَالطَّيْلَسَانَ ; لِأَنَّ التَّمَيُّزَ يَحْصُلْ بِغَيْرِ ذَلِكَ , وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الدِّيبَاجِ وَجْهَانِ وَتَشُدُّ الْمَرْأَةُ الزُّنَّارَ تَحْتَ الْإِزَارِ , وَفَوْقَ الثِّيَابِ حَتَّى لَا تَصِفَ أَبْدَانَهُنَّ , وَتَكْشِفَ رُءُوسَهُنَّ , وَقِيلَ بَلْ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالرَّجُلِ , وَيَكُونُ فِي عُنُقِهَا خَاتَمٌ يَدْخُلُ مَعَهَا الْحَمَّامَ , وَيَكُونُ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ , وَالْآخَرُ أَبْيَضَ لِيَتَمَيَّزْنَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِنَّ , وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ لِشَرَفِهَا , وَقِيلَ لَا يُمْنَعُونَ , وَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ , وَالْحَمِيرَ بِالْأَكُفِّ عَرْضًا أَيْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : يَرْكَبُونَ مُسْتَوِيًا , وَلَكِنْ يَكُونُ الرِّكَابُ مِنْ خَشَبٍ , وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي الْمَجَالِسِ , وَلَا يُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ , وَيُلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ , وَيُمْنَعُونَ أَنْ يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِنَاءِ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ , وَقِيلَ يُمْنَعُونَ , وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْعُلُوِّ فِي مَحَلَّة وَاحِدَةٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا مِنْ الْبَلْدَةِ فِيهِ وَجْهَانِ , وَإِنْ زَادُوا أَبْنِيَتَهُمْ بِإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِينَ إلَى السَّابِلَةِ وَجْهَانِ , وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ , وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ تَشْرِيفٌ , وَإِنْ تَمَلَّكُوا دَارًا عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ نَعَمْ لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ شَاهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْيَهُودَ , وَالنَّصَارَى فِي زَمَانِنَا هَذَا , وَآدُرُهُمْ تَعْلُو عَلَى يُثَيْعٍ الْمُسْلِمِينَ , وَمَسَاجِدِهِمْ , وَهُمْ يُدْعَوْنَ بِالنُّعُوتِ الَّتِي كَانَتْ لِلْخُلَفَاءِ , وَيُكَنَّوْنَ بِكُنَاهُمْ فَمِنْ نُعُوتِهِمْ الرَّشِيدُ , وَهُوَ أَبُو(1/106)
الْخُلَفَاءِ , وَيُكَنُّونَ بِأَبِي الْحَسَنِ , وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَبِأَبِي الْفَضْلِ , وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ , وَقَدْ جَاوَزُوا حَدَّ أَقْدَارِهِمْ , وَتَظَاهَرُوا بِأَقْوَالِهِمْ , وَأَفْعَالِهِمْ وَأَظْهَرَتْ مِنْهُمْ الْأَيَّامُ طَبَائِعَ شَيْطَانِيَّةً مَكَّنَتْهَا , وَعَضَّدَتْهَا يَدٌ سُلْطَانِيَّةٌ فَرَكِبُوا مَرْكُوبَ الْمُسْلِمِينَ , وَلَبِسُوا أَحْسَنَ لِبَاسِهِمْ , وَاسْتَخْدَمُوهُمْ فَرَأَيْت الْيَهُودِيَّ , وَالنَّصْرَانِيَّ رَاكِبًا يَسُوقُ بِمَرْكَبِهِ , وَالْمُسْلِمَ يَجْرِي فِي رِكَابِهِ , وَرُبَّمَا تَضَرَّعُوا , وَتَذَلَّلُوا لَهُ ; لِيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا أَحْدَثَهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ إذَا خَرَجْنَ مِنْ دُورِهِنَّ , وَمَشَيْنَ فِي الطُّرُقَاتِ فَلَا يَكَدْنَ يُعْرَفْنَ , وَكَذَلِكَ فِي الْحَمَّامَاتِ , وَرُبَّمَا جَلَسَتْ النَّصْرَانِيَّةُ فِي أَعْلَى مَكَان مِنْ الْحَمَّامِ , وَالْمُسْلِمَاتُ يَجْلِسْنَ دُونَهَا , وَيَخْرُجْنَ الْأَسْوَاقَ , وَيَجْلِسْنَ عِنْدَ التُّجَّارِ فَيُكْرِمُونَهُنَّ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْ حُسْنِ زِيِّهِنَّ فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُنَّ أَهْلُ ذِمَّةٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْأَمْرِ , وَإِنْكَارُ ذَلِكَ , وَيُعَزِّرُ مَنْ يَظْهَرُ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ بِيَعٍ , وَكَنَائِسَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ اسْتَجَدَّتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ , وَلَمْ يُبْقِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ , وَأَرْسَلَ عُرْوَةُ مِنْ نَجْدٍ فَهَدَمَ الْكَنَائِسَ بِصَنْعَاءَ , وَصَانَعَ الْقِبْطَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ بِمِصْرَ , وَهَدَمَ بَعْضَهَا , وَلَمْ يُبْقِ مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم . أَمَّا إذَا اسْتَهْدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهِ , وَقِيلَ يُمْنَعُونَ ; لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لِلِاسْتِحْدَاثِ قَالَ فِي الْحَاوِي : وَعِنْدِي أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي خَرَابِهَا فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَقَةً مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا , وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَارِسَةٍ لَهُمْ بِنَاؤُهَا , وَعَلَى الْإِمَامِ حِفْظُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَدَفْعُ مَنْ قَصَدَهُمْ بِالْأَذِيَّةِ أَيْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَاكِمُ الْكُفَّارِ فَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا , بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ رحمه الله وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ شَرِيعَتَنَا بِحَسَبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ , وَهُمْ كَالْمُعَاهِدِينَ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فَعَلَى هَذَا إنْ تَرَاضَوْا حَكَمَ بَيْنَهُمْ , وَيُشْتَرَطُ الْتِزَامُهُمْ بَعْدَ الْحُكْمِ , هَذَا إذَا اتَّحَدَ الدِّينَانِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا , وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا فَفِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهُمَا كَافِرَانِ فَصَارَا كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَرْضَى بِحُكْمِ مِلَّةِ الْآخَرِ , وَقِيلَ يَطَّرِدُ الْقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ , وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَمَّا مَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا , وَإِنْ تَبَايَعُوا بُيُوعًا فَاسِدَةً , وَتَقَابَضُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوا ; لِأَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَيْهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضُوا نُقِضَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } , وَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ كَالْمَجْنُونِ فَعَلَى هَذَا يُحَالُ بَيْنَهُ , وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ بَلَغَ , وَوَصَفَ الْكُفْرَ هُدِّدَ , وَضُرِبَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ رُدَّ إلَى أَهْلِهِ , وَقِيلَ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حِينِ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَإِنْ , وَصَفَ الْكُفْرَ , وَلَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ لَمْ يُحْكَمْ(1/107)
بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ مِنْهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ إلَّا بِمَا يَنْضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ .
===================
وفي أسنى المطالب :(1)
( الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُنَا )
بَعْدَ عَقْدِهَا لَهُمْ ( الْكَفُّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِعِصْمَتِهِمَا وَرَوَى أَبُو دَاوُد خَبَرَ { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ( وَلَوْ غُصِبَتْ لَهُمْ خَمْرٌ ) وَخِنْزِيرٌ وَنَحْوُهُمَا ( رُدَّتْ ) إلَيْهِمْ لِعُمُومِ خَبَرِ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } ( وَيَعْصِي مُتْلِفُهَا إلَّا إنْ أَظْهَرُوهَا ) فَلَا يَعْصِي ( وَلَا يَضْمَنُ ) , وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوهَا ( وَتُرَاقُ ) الْخَمْرُ ( عَلَى مُسْلِمٍ اشْتَرَاهَا ) مِنْهُمْ وَقَبَضَهَا ( وَلَا ثَمَنَ ) عَلَيْهِ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ تَعُدُّوا بِإِخْرَاجِهَا إلَيْهِ ( وَلَوْ قَضَى ) الذِّمِّيُّ ( دَيْنَ مُسْلِمٍ ) كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ( بِثَمَنِ خَمْرٍ ) أَوْ نَحْوِهِ ( حَرُمَ ) عَلَى الْمُسْلِمِ ( قَبُولُهُ إنْ عَلِمَ ) أَنَّهُ ثَمَنُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي عَقِيدَتِهِ ( وَإِلَّا لَزِمَهُ الْقَبُولُ ) وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ كَأَصْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ قَبُولُهُ مَعَ الْعِلْمِ مَمْنُوعٌ ( وَيَلْزَمُنَا الذَّبُّ عَنْهُمْ ) لِعِصْمَتِهِمْ ( لَا ) إنْ كَانُوا مُقِيمِينَ ( فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ إذْ لَا يَلْزَمُنَا الذَّبُّ عَنْهَا بِخِلَافِ دَارِنَا ( إلَّا أَنَّ شَرَطَ ) الذَّبَّ عَنْهُمْ ثَمَّ ( أَوْ انْفَرَدُوا عَنَّا ) بِبَلَدٍ ( مُجَاوِرِينَ لَنَا ) فَيَلْزَمُنَا ذَلِكَ لِالْتِزَامِنَا إيَّاهُ فِي الْأُولَى , وَإِنْ كُرِهَ لَنَا طَلَبُهُ وَإِلْحَاقًا لَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ بِبَاقِي الْعِصْمَةِ ( وَإِنْ عُقِدَتْ ) أَيْ الذِّمَّةُ ( بِشَرْطِ أَنْ لَا نَذُبَّ عَنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ بِنَا ) مِمَّنْ يَقْصِدُهُمْ بِسُوءٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ( وَهُمْ مُجَاوِرُونَ لَنَا ) أَوْ أَنْ لَا نَذُبَّ عَنْهُمْ وَهُمْ مَعَنَا كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْلُ ( فَسَدَ الْعَقْدُ ) لِتَضَمُّنِهِ تَمْكِينَ الْكُفَّارِ مِنَّا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا نَذُبَّ عَنْهُمْ مَنْ لَا يَمُرُّ بِنَا أَوْ مَنْ يَمُرُّ بِنَا وَهُمْ غَيْرُ مُجَاوِرِينَ لَنَا ( وَيَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ هَادَنَّاهُ غُرْمُ ) بَدَلِ ( مَا أَتْلَفْنَاهُ ) أَيْ نَحْنُ وَمَنْ هَادَنَّاهُ ( عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْعِصْمَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ نَعَمْ إنْ كَانَ إتْلَافُ مَنْ هَادَنَّاهُ بَعْدَ نَقْضِهِ الْعَهْدَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ , وَهَذَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ( فَإِنْ لَمْ نَذُبَّ عَنْهُمْ فَلَا جِزْيَةَ ) لِمُدَّةِ عَدَمِ الذَّبِّ كَمَا لَا يَجِبُ أُجْرَةُ الدَّارِ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ( فَإِنْ ظَفِرَ الْإِمَامُ بِمَنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ ) وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ( رُدَّ ) عَلَيْهِمْ ( مَا وَجَدُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَضْمَنُونَ ) أَيْ الْمُغِيرُونَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ( مَا أَتْلَفُوهُ إنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ ) كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا مَالَنَا
__________
(1) - أسنى المطالب - (ج 21 / ص 201)(1/108)
( الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ ) ( قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِعِصْمَتِهَا ) ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ فَكَذَا الْجِزْيَةُ وَإِذَا أَتْلَفْنَا عَلَيْهِمْ نَفْسًا أَوْ مَالًا وَجَبَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ مَالِ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فَائِدَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ ( قَوْلُهُ حَرُمَ قَبُولُهُ إنْ عَلِمَ ) الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ قَوْلُهُ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ كَأَصْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ إلَخْ ) الَّذِي فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ مَا إذَا بَاعَ كَافِرٌ كَافِرًا أَوْ أَقْرَضَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إلَيْنَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ بِإِخْبَارِ قَاضِيهِمْ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ ا هـ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَيَلْزَمُنَا الذَّبُّ عَنْهُمْ ) فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ الْحَرْبِيِّينَ وَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُلْحَقُ بِالْكَفِّ وَالدَّفْعِ أَمْرٌ ثَالِثٌ , وَهُوَ اسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ( فَائِدَةٌ ) فِي ذِكْرِ شُرُوطِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى نَصَارَى الشَّامِ إنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قَلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مَا مَاتَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَنْ يَنْزِلَ مَنْ مَرَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نُطْعِمُهُمْ وَلَا نُؤَدِّي فِي كَنَائِسِنَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمُ عَيْنًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمُ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ وَلَا نُظْهِرُ شِرْكًا وَلَا دَعْوًا إلَيْهِ وَلَا نَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا نَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا نَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكْتَنِي بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَبُ السُّرُوجَ وَلَا نَتَقَلَّدُ وَلَا نَتَّخِذُ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلُهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُشُ عَلَى خَوَاتِمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيعُ الْخَمْرَ , وَإِنْ نَجُزُّ مَقَامَ رُؤْسِنَا وَأَنْ نَلْتَزِمَ دِينًا حَيْثُمَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ صُلْبَانَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْوَاقِهِمْ وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا فِي كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نُجَاوِزُهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذُ مِنْ الرَّقِيقِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعُ فِي مَنَازِلِهِمْ وَلَا نَضْرِبُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا شَيْئًا مِمَّا شَرَطْنَا لَكُمْ فَقَدْ ضَمِنَا عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا ذِمَّةَ لَنَا وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ ( قَوْلُهُ وَهُمْ غَيْرُ مُجَاوِرِينَ لَنَا ) قَالَ شَيْخُنَا هَذَا يُقَيَّدُ بِهِ إطْلَاقُ شَرْحِ الْبَهْجَةِ هُنَا
==================
وفي شرح النيل :(1)
( وَأَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمْ إنْ اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ )
__________
(1) - شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 35 / ص 197)(1/109)
فِي الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ وَمُؤْنَةِ الْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَإِنْ بِتَرْكِهَا كُلِّهَا إنْ أَعَانُوهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَإِنْ بِسِلَاحٍ ) ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُسْتَطْرَفِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْنَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ : بسم الله الرحمن الرحيم , هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا وَلَا فِيمَا حَوَالَيْهَا كَنِيسَةً وَلَا دَيْرًا وَلَا قِبْلَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا مَا كَانَ مُخَطَّطًا مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا فِي نَهَارٍ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارِّ , وَابْنِ السَّبِيلِ , وَأَنْ نُنْزِلَ مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ نُطْعِمُهُمْ , وَلَا نُؤْوِي فِي كَنَائِسِنَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمُ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا نُظْهِرُ شَرْعَنَا , وَلَا نَدْعُو إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إنْ أَرَادَهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ , وَأَنْ لَا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ , وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَلَا نَرْكَبَ فِي السُّرُوجِ , وَلَا نَتَقَلَّدَ بِالسُّيُوفِ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا , وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِمِنَا شَيْئًا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَبِيعَ الْخَمْرَ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَنَلْزَمُ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَنْ نَشُدَّ الزُّنَّارَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نُظْهِرَ صُلْبَانَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَطُرُقِهِمْ , وَلَا نَضْرِبَ بِالنَّوَاقِيسِ فِي كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا عَلَى مَوْتَانَا , وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا , وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَطْلُعَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَقَدْ شَرَطْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَعَلَى أَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ , فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ , وَضِمْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ بِنَا مَا يَحِلُّ بِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ أَمْضِ مَا سَأَلُوهُ وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ وَاشْتَرِطْهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ : أَنْ لَا يَشْتَرُوا شَيْئًا مِنْ سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي تَغْلِبَ دَخَلُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّا قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ افْرِضْ لَنَا , قَالَ : نَصَارَى ؟ قَالُوا : نَصَارَى , قَالَ : اُدْعُوا لِي حَجَّامًا , فَفَعَلُوا , فَجَزَّ نَوَاصِيَهُمْ وَشَقَّ مِنْ أَرْدِيَتِهِمْ حُزُمًا يَحْتَزِمُونَ بِهَا , وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْكَبُوا بِالسُّرُوجِ , وَأَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأُكُفِ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ . وَرُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ الْمُتَوَكِّلَ أَقْصَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَخَالَفَ بَيْنَ زِيِّهِمْ وَزِيِّ الْمُسْلِمِينَ , وَقَرَّبَ مِنْهُ أَهْلَ الْحَقِّ وَأَبْعَدَ عَنْهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ , فَأَحْيَا اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَأَمَاتَ بِهِ الْبَاطِلَ , فَهُوَ يُذْكَرُ بِذَلِكَ , وَيُمْدَحُ بِهِ , وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ : لَا تَسْتَعْمِلُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ أَهْلُ رِشًى فِي دِينِهِمْ , وَلَا يَحِلُّ فِي دِينِ اللَّهِ الرِّشَا . وَلَمَّا اسْتَقْدَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ مِنْ الْبَصْرَةِ , وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِلْحِسَابِ , دَخَلَ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ , فَاسْتَأْذَنَ لِكَاتِبِهِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : قَاتَلَكَ اللَّهُ , - وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ - , وَلَّيْتَ ذِمِّيًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى(1/110)
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } الْآيَةَ , هَلَّا اتَّخَذْتَ حَنِيفِيًّا ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ , فَقَالَ : لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ , وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ , وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ , وَكَتَبَ بَعْضُ الْعُمَّالِ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه : إنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَثُرَ , وَإِنَّ الْجِزْيَةَ قَدْ كَثُرَتْ , أَفَنَسْتَعِينُ بِالْأَعَاجِمِ ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ : إنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَإِنَّهُمْ لَنَا غَشَشَةٌ فَأَنْزِلُوهُمْ حَيْثُ أَنْزَلَهُمْ اللَّهُ , وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بَدْرٍ لَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْحَرَّةِ , فَقَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ : { أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : ارْجِعْ فَلَنْ نَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ ثُمَّ لَحِقَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ : جِئْتُكَ لِأَتْبَعكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ , فَقَالَ : أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : فَارْجِعْ فَلَنْ نَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ , ثُمَّ لَحِقَهُ عِنْدَ ظَهْرِ الْبَيْدَاءِ , فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ , فَأَجَابَهُ بِمِثْلِ الْأَوَّلِ , فَقَالَ : نَعَمْ , فَخَرَجَ بِهِ وَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ , وَكَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَجَلَدٌ } , فَهَذَا فِي الْقِتَالِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يُسْتَعْمَلُونَ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَنْ لَا تُوَلُّوا عَلَى أَعْمَالِنَا إلَّا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَكَتَبُوا إلَيْهِ إنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِيهِمْ خِيَانَةً فَكَتَبَ إلَيْهِمْ : إنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ خَيْرٌ فَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي غَيْرِهِمْ , قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَمَيَّزُوا فِي اللِّبَاسِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ يَلْبَسُوا قَلَانِسَ يُمَيِّزُونَهَا عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُمْرَةِ , وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ , عَلَى أَوْسَاطِهِمْ , وَيَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ خَاتَمٌ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ جَرَسٍ يَدْخُلُونَ بِهِ الْحَمَّامَ , وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ وَلَا الطَّيْلَسَانَاتِ , وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَشُدُّ الزُّنَّارَ تَحْتَ الْإِزَارِ , وَقِيلَ : فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُوَ أَوْلَى , وَيَكُونُ فِي عُنُقِهَا خَاتَمٌ تَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ , وَيَكُونُ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ , وَالْآخَرُ أَبْيَضَ , وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا الْبِغَالَ وَلَا الْحَمِيرَ إلَّا بِالْأُكُفِ عَرْضًا , وَلَا يَرْكَبُونَ بِالسُّرُوجِ , وَلَا يَتَصَدَّرُونَ فِي الْمَجَالِسِ , وَلَا يَبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ , وَيُلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ , وَيُمْنَعُونَ أَنْ يَتَطَاوَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِنَاءِ , وَتَجُوزُ الْمُسَاوَاةُ , وَقِيلَ : لَا تَجُوزُ , وَإِنْ تَمَلَّكُوا دَارًا عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ الْمُنْكَرِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالنَّاقُوسِ وَالْجَهْرِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمَقَامِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ بَلْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَفِي السُّؤَالَاتِ " عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قُلْتُ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَتَرَاءَى نَارُهُمَا إلَّا عَنْ حَرْبٍ , هَذِهِ تَدْعُو إلَى اللَّهِ , وَهَذِهِ تَدْعُو إلَى الشَّيْطَانِ } وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , قَالَ بَعْضُهُمْ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى وَأَقْصَى الْيَمَنِ فِي الطُّولِ , وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ إلَى أَطْوَارِ الشَّامِ , وَقِيلَ : مَدِينَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْحِجَازُ وَمَكَّةُ وَالطَّائِفُ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَقِيلَ : كُلُّ مَا مَلَكَهُ الْعَرَبُ , وَقِيلَ : كُلُّ مَا بَلَغَهُ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَبِيٌّ . وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم : مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَرَهُمْ حِينَ اُحْتُضِرَ بِثَلَاثٍ : قَالَ : { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ , وَالثَّالِثَةُ إمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا , وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا } وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْمِلَّةِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ , وَإِنْ زَنَى أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ آوَى عَيْنًا لِلْكُفَّارِ أَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَتَلَهُ أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ تُنْتَقَضُ ذِمَّتُهُ , وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ(1/111)
وَالْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالشُّيُوخِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ تُهَدَّمَ كُلُّ كَنِيسَةٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ , وَمَنَعَ أَنْ تُجَدَّدَ كُلُّ كَنِيسَةٍ , وَأَمَرَ أَنْ لَا تَظْهَرَ عَلِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ كَنِيسَةٍ , وَلَا يَظْهَرَ صَلِيبٌ خَارِجٌ مِنْ كَنِيسَةٍ إلَّا كُسِرَ عَلَى رَأْسِ صَاحِبِهِ , وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَهْدِمُهَا بِصَنْعَاءَ , وَهَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ , وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْرَكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةٌ وَلَا كَنِيسَةٌ بِحَالٍ قَدِيمَةٌ وَلَا حَدِيثَةٌ وَلَمَّا اقْتَحَمَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَخَافَ الْمُقَوْقَسُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ سَأَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الصُّلْحَ وَدَعَاهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَفْرِضَ لِلْعَرَبِ عَلَى الْقِبْطِ دِينَارَيْنِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ , فَأَجَابَهُ عَمْرٌو إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَمِيرُ الْعَسَاكِرِ عَلَى فَتْحِهَا مِنْ قِبَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَيُعْطِيَ سُلْطَانُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ كَغَيْرِهِمْ .
==================
وفي المغني :
( 7686 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ , بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ , حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ )(1)
__________
(1) -المغني - (ج 21 / ص 253)(1/112)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ , أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا , نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ , رضي الله عنه . وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه , فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ , بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ : إنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا , طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً , وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا , وَلَا قلاية , وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلَا نُؤْوِيَ فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَأَنْ لَا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ , وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَخْرُجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا , وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ , وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ , وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا , وَلَا نَرْغَبَ فِي دِينِنَا , وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ لَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَنْ لَا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَلَا فِي مَوَاكِبِهِمْ , وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ , وَإِنْ لَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَلَا نَفْرِقَ نَوَاصِيَنَا , وَنَشُدُّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ , وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ , وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسَ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا يُشَارِكْ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ , إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ , وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ , ضَمِنَّا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا , وَذَرَارِيِّنَا , وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا , وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا , أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا , وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ , وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ , اشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا , وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا , فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . فَأَنْفَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ وَأَقَرَّ مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . فَهَذِهِ جُمْلَةُ شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِذَا صُولِحُوا عَلَيْهَا , ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْهَا , فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَهْدَهُ يَنْتَقِضُ بِهِ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ ; لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ : إنْ نَحْنُ خَالَفْنَا , فَقَدْ حَلَّ لَك مَنَّا مَا يَحِلُّ لَك مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَقَالَ عُمَرُ : وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ بِشَرْطٍ فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ , زَالَ حُكْمُ الْعَقْدِ , كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ . وَذَكَرَ الْقَاضِي , وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ , أَنَّ الشُّرُوطَ قِسْمَانِ ; أَحَدُهُمَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ , وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ شَيْئًا ; الِامْتِنَاعُ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ , وَجَرْيِ(1/113)
أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ إذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ , وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَإِصَابَتُهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ , وَفَتْنُ مُسْلِمٍ عَنْ دِينِهِ , وَقَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ , وَقَتْلُهُ , وَإِيوَاءُ جَاسُوسِ الْمُشْرِكِينَ , وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ مُكَاتَبَتِهِمْ , وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ رَسُولِهِ بِسُوءِ , فَالْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَفِي مَعْنَاهُمَا قِتَالُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي ذَلِكَ , فَإِذَا فَعَلُوهُ نَقَضُوا الْأَمَانَ ; لِأَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُونَا , لَزِمَنَا قِتَالُهُمْ , وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانِ , وَسَائِرُ الْخِصَالِ فِيهَا رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , أَنَّ الْعَهْدَ يُنْتَقَضُ بِهَا , سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا . إلَّا أَنَّ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ , لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهِ , مَا خَلَا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ الْأُولَى , فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ شَرْطُهَا , وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهَا بِكُلِّ حَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ . وَلَنَا , مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ , مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ اسْتِكْرَاهَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا , فَقَالَ : مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاكُمْ . وَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَأَشْبَهَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ . وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا فِيهِ حَدٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ أَوْ قِصَاصُهُ , وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا , عُزِّرَ وَيُفْعَلُ بِهِ مَا يَنْكَفُ بِهِ أَمْثَالُهُ عَنْ فِعْلِهِ . فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ كُفَّ عَنْهُ , فَإِنْ مَانَعَ بِالْقِتَالِ نُقِضَ عَهْدُهُ . وَمَنْ حَكَمْنَا بِنَقْضِ عَهْدِهِ مِنْهُمْ , خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; الْقَتْلُ , وَالِاسْتِرْقَاقُ , وَالْفِدَاءُ , وَالْمَنُّ , كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ , وَلَا شُبْهَةِ ذَلِكَ , فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ . وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهِ دُونَ ذُرِّيَّتِهِ ; لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ دُونَهُمْ , فَاخْتَصَّ بِهِ , كَمَا لَوْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا .
=====================
وفي الموسوعة الفقهية :
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :(1)
9 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ , وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا , فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا . وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْعَقْدِ قَبُولُ وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ , مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلِفَاتِ , وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مِنْهُمْ قَبُولُ بَذْلِ الْجِزْيَةِ كُلَّ عَامٍ .
10 - وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ سِتَّةُ أَشْيَاءَ :
( 1 ) أَلَّا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ .
( 2 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ .
( 3 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ .
( 4 ) وَأَلَّا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًى وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ .
( 5 ) وَأَلَّا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2489)(1/114)
( 6 ) وَأَلَّا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يُؤْوُوا لِلْحَرْبِيَّيْنِ عَيْنًا ( جَاسُوسًا ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذِهِ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ , فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ , وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ لِدُخُولِهَا فِي شَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ .
11 - هَذَا , وَزَادَ بَعْضُهُمْ شُرُوطًا أُخْرَى كَاسْتِضَافَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَدَمِ إظْهَارِ مُنْكَرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا , وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوْ اسْتِحْبَابِ اشْتِرَاطِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّرُوطِ , وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ رضي الله عنه , وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : أَنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قَلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلَا نُؤْوِي فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَأَلَّا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُخْرِجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ وَلَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا , وَلَا نُظْهِرُ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلَا بِبَيْعِ الْخُمُورِ , وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا , وَلَا نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقَ شَعْرٍ وَلَا فِي مَرَاكِبِهِمْ , وَلَا نَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِمْ , وَأَلَّا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَلَا نُفَرِّقَ نَوَاصِيَنَا , وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا نَحْمِلَهُ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ , وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ , وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسِ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا يُشَارِكَ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ , وَأَنْ نُضَيِّفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرَ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ , ضَمَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا , وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاجِبٌ , وَيُنْقَضُ بِمُخَالَفَتِهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي .
==================
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4247)(1/115)
14 - يَجُوزُ إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى إبْقَاءِ صُلْبَانِهِمْ , وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوهَا , بَلْ تَكُونُ فِي كَنَائِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ الْخَاصَّةِ . وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : إنَّ الْمُرَادَ بِكَنَائِسِهِمْ كَنَائِسُهُمْ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا . وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ " بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا كِتَابٌ لِعُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ : لِمَا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ . إلَى أَنْ قَالُوا : وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا ( أَيْ مِنْ كُتُبِ دِينِهِمْ ) فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نُظْهِرُ الصَّلِيبَ فِي كَنَائِسِنَا إلَخْ " وَقَوْلُهُمْ : " فِي كَنَائِسِنَا " الْمُرَادُ بِهِ خَارِجَهَا مِمَّا يَرَاهُ الْمُسْلِمُ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ التَّصْلِيبِ عَلَى أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَظَوَاهِرِ حِيطَانِهَا , وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ إذَا نَقَشُوا دَاخِلَهَا . وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ : أَنْ يُمْنَعَ نَصَارَى الشَّامِ أَنْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا , وَلَا يَرْفَعُوا صَلِيبَهُمْ فَوْقَ كَنَائِسِهِمْ , فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ . وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ الْخَاصَّةِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ . وَيُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الصَّلِيبِ وَتَعْلِيقِهِ فِي رِقَابِهِمْ أَوْ أَيْدِيهِمْ , وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ الْإِظْهَارِ , وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ مِنْ فِعْلِهِ مِنْهُمْ . وَيُلَاحَظُونَ فِي مَوَاسِمِ أَعْيَادِهِمْ بِالذَّاتِ , إذْ قَدْ يُحَاوِلُونَ إظْهَارَ الصَّلِيبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ , لِمَا فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إظْهَارِهِ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ , وَيُكْسَرُ الصَّلِيبُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ , وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ .
================
وفي البحر الزخار :
" مَسْأَلَةٌ " : ( هـ ) وَيَلْزَمُونَ زِيًّا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ (1)
كَالصُّفْرَةِ لِلْيَهُودِ , وَالدُّكْنَةِ لِلنَّصَارَى وَالسَّوَادِ لِلْمَجُوسِ , وَيُشَدُّ عَلَيْهِمْ الزُّنَّارُ وَهُوَ خَيْطٌ غَلِيظٌ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ , وَيُجْعَلُ فِي عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاتَمٌ مِنْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ يُعْرَفُ بِهِ عِنْدَ تَعَرِّيهِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ , فَإِنْ طَوَّلُوا الشَّعْرَ جُزَّتْ نَوَاصِيهِمْ , إذْ أَمَرَ 2 بِذَلِكَ وَلَا يَرْكَبُونَ عَلَى الْأُكُفِ إلَّا عَرْضًا , وَيُمْنَعُونَ السِّلَاحَ وَلُبْسَ الدِّيبَاجِ وَرَفِيعَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَرُكُوبَ الْخَيَلِ وَالْبِغَالِ , لَا الْحَمِيرُ وَالْخَسِيسُ مِنْهُمَا , لَكِنْ يُجْعَلُ سَرْجُهَا مِنْ خَشَبٍ وَسُيُورُهَا مِنْ لِيفٍ , إذْ عَامَلَهُمْ 2 بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكَرْ , وَتُزَنَّرُ النِّسَاءُ كَالرِّجَالِ , وَيُلْجَئُونَ إلَى مَضَايِقِ الطَّرِيقِ وَيُمْنَعُونَ صُدُورَ الْمَجَالِسِ وَتَطْوِيلَ الْأَبْنِيَةِ حَتَّى تُسَاوِي أَبْنِيَةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَخْرَفَتَهَا وَتَحْسِينَ أَبْوَابِهَا , إذْ الْإِسْلَامُ يَعْلُو , وَعَنْ إظْهَارِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْعِهَا وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ وَإِظْهَارِ قِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ وَعِبَادَةِ الصُّلْبَانِ وَالزِّينَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ وَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى مَوْتَاهُمْ وَعَنْ تَكْوِيرِ الْعَمَائِمِ فَوْقَ ثَلَاثِ طَاقَاتٍ , وَإِرْسَالِ الذَّوَائِبِ وَتَرْجِيلِ الشَّعْرِ وَالْخَوَاتِمِ الْفِضِّيَّةِ وَالذَّهَبِيَّةِ وَالْفُصُوصِ إلَّا مَا لَا زِينَةَ فِيهِ كَالزُّجَاجِ , وَتُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ وَيَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا , وَإِذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بِشَرِيعَتِنَا إلَّا ضَمَانَ مَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَالْخَمْرِ .
__________
(1) -البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 16 / ص 319)(1/116)
( قَوْلُهُ ) " إذْ أَمَرَ عُمَرُ بِذَلِكَ " حُكِيَ فِي الشِّفَاءِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ لِيَرْفَأَ : اُكْتُبْ إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَجُزُّوا نَوَاصِيَهُمْ , وَأَنْ يَرْبِطُوا الطَّيْلَسَانَ فِي أَوْسَاطِهِمْ لِيُعْرَفَ زِيُّهُمْ مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ " انْتَهَى . ( قَوْلُهُ ) " إذْ عَامَلَهُمْ عُمَرُ بِذَلِكَ " قَالَ فِي الشِّفَاءِ : وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ عُمَرُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ , فَشَرَطَ : أَلَّا نَتَشَبَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ , وَلَا عِمَامَةٍ , وَلَا نَعْلَيْنِ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَأَنْ نَشُدَّ الزَّنَانِيرَ فِي أَوْسَاطِنَا . وَشَرَطْنَا أَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا وَشَرَطْنَا أَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي مَرَاكِبِهِمْ وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ السِّلَاحِ شَيْئًا , وَلَا نَحْمِلُهُ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ , وَشَرَطْنَا أَلَّا نَبِيعَ الْخُمُورَ , وَلَا نُظْهِرَ صَلَاتَنَا وَكُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نُخْرِجَ شَعَابِينَنَا وَلَا بَاعُوثَنَا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا عَلَى مَوْتَانَا وَلَا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا وَلَا مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَابَة , وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا " وَحُكِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ رَافِعِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ " أَمَرَ أَنْ تُجَزَّ نَوَاصِيهِمْ وَأَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأُكُفِ عَرْضًا , وَلَا يَرْكَبُونَ كَمَا يَرْكَبُ الْمُسْلِمُونَ , وَأَنْ يُوَثِّقُوا الْمَنَاطِقَ , يَعْنِي : الزَّنَانِيرَ " وَفِيهِ أَيْضًا " أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْآفَاقِ : أَنْ مُرُوا نِسَاءَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَنْ يَعْقِدْنَ زَنَانِيرَهُنَّ تَحْتَ الْإِزَارِ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
=================
وفي تحفة المحتاج :(1)
( وَنَمْنَعُهُمْ ) وُجُوبًا ( إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ ) , وَبِيعَةٍ , وَصَوْمَعَةٍ لِلتَّعَبُّدِ , وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ
0كَنُزُولِ الْمَارَّةِ ( فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ ) كَالْبَصْرَةِ , وَالْقَاهِرَةِ ( أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ ) حَالَ كَوْنِهِمْ مُسْتَقِلِّينَ , وَمُتَغَلِّبِينَ ( عَلَيْهِ ) بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ , وَلَا صُلْحٍ كَالْيَمَنِ , وَقَوْلُ شَارِحٍ , وَالْمَدِينَةِ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ الْحِجَازِ , وَهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهُ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ , وَذَلِكَ لِخَبَرِ ابْنِ عَدِيٍّ { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } , وَجَاءَ مَعْنَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم , وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا وَيُهْدَمُ وُجُوبًا مَا أَحْدَثُوهُ , وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ هَدْمُهُ , وَالصُّلْحُ عَلَى تَمْكِينِهِمْ مِنْهُ بَاطِلٌ , وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ , وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْدَاثِ , أَوْ الْإِسْلَامِ , أَوْ الْفَتْحِ يَبْقَى لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ بِبَرِيَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ , وَاتَّصَلَ بِهِ الْعُمْرَانُ , وَكَذَا يُقَالُ : فِيمَا يَأْتِي فِي الصُّلْحِ , وَمَرَّ فِي الْقَاهِرَةِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ , أَمَّا مَا بُنِيَ مِنْ ذَلِكَ لِنُزُولِ الْمَارَّةِ فَقَطْ , وَلَوْ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِلِ , وَغَيْرُهُ ( وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً ) كَمِصْرِ عَلَى مَا مَرَّ , وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ ( لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ ) أَيْ : لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ , وَيَجِبُ هَدْمُ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ ( وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ) حَالَ الْفَتْحِ يَقِينًا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِذَلِكَ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ , وَالْعِرَاقِ ; لِأَنَّهُمَا فُتِحَا عَنْوَةً انْتَهَى , وَمَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي مِصْرَ , وَالْمُنْهَدِمَةُ , وَلَوْ بِفِعْلِنَا أَيْ : قَبْلَ الْفَتْحِ فِيمَا يَظْهَرُ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَطْعًا .
__________
(1) -تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 40 / ص 272)(1/117)
( قَوْلُهُ : وُجُوبًا ) إلَى قَوْلِ الْمَتْنِ , أَوْ أَسْلَمَ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ : وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ ( قَوْلُ الْمَتْنِ : كَنِيسَةٍ ) وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَبِيعَةٍ ) بِالْكَسْرِ لِلنَّصَارَى مُخْتَارٌ ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَصَوْمَعَةٍ ) كَجَوْهَرَةٍ بَيْتٌ لِلنَّصَارَى ا هـ . قَامُوسٌ ( قَوْلُهُ : حَالَ كَوْنِهِمْ مُسْتَقِلِّينَ إلَخْ ) عَلَيْهِ , وَيَجُوزُ جَعْلُ عَلَى لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ : أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ مَعَهُ أَيْ : مُصَاحِبِينَ لَهُ , وَكَائِنِينَ فِيهِ , أَوْ بِمَعْنَى فِي أَيْ : كَائِنِينَ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ . سم ( قَوْلُهُ : كَالْيَمَنِ ) إلَى قَوْلِهِ : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي النِّهَايَةِ إلَّا قَوْلَهُ : وَذَلِكَ إلَى , وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ , وَقَوْلَهُ : وَمَرَّ إلَى أَمَّا مَا بُنِيَ , وَقَوْلَهُ : فَقَطْ ( قَوْلُهُ : وَقَوْلُ شَارِحٍ إلَخْ ) تَبِعَ الْمُغْنِي هَذَا الشَّارِحَ , ثُمَّ رَأَيْت فِي الرَّوْضَةِ كَالْمَدِينَةِ , وَالْيَمَنِ انْتَهَى , وَيُجَابُ عَنْ نَظَرِ الشَّارِحِ بِأَنَّ دُخُولَهَا فِي هَذَا الْقِسْمِ الْمُقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ لَا يُنَافِي اخْتِصَاصَهَا بِحُكْمٍ آخَرَ , وَهُوَ مَنْعُ سُكْنَاهَا لَا سِيَّمَا , وَهَذَا الْمَنْعُ إنَّمَا كَانَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ , وَتَحَقَّقَ الْعَمَلُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَنْعِ السُّكْنَى ا هـ . سَيِّدُ عُمَرَ عِبَارَةُ ع ش وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مُرَادَهُ التَّمْثِيلُ بِهِ لِمَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحِجَازِ , وَهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِيهِ ا هـ . وَعِبَارَةُ الرَّشِيدِيِّ , وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الْمُرَادَ التَّمْثِيلُ لِأَصْلِ مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْإِحْدَاثِ , وَعَدَمِهِ ا هـ . ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ أَحْدَثُوا كَنِيسَةً , وَنَحْوَهَا أَمْ لَا ( قَوْلُهُ : لِخَبَرِ ابْنِ عَدِيٍّ لَا تُبْنَى إلَخْ . ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لَا تُبْنَى إلَخْ . ( قَوْلُهُ : وَجَاءَ مَعْنَاهُ عَنْ عُمَرَ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي , وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ , وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا , وَلَا كَنِيسَةً , وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ ا هـ . ( قَوْلُهُ : لَهُمَا ) أَيْ : عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهم ( قَوْلُهُ : وَالصُّلْحُ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَمَا وُجِدَ ) إلَى قَوْلِ الْمَتْنِ , وَإِنْ أَطْلَقَ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ : بَعْدَ الْإِحْدَاثِ إلَى قَوْلِهِ : يَبْقَى , وَقَوْلَهُ : وَكَذَا إلَى قَوْلِهِ : أَمَّا مَا بُنِيَ , وَقَوْلِهِ : فَقَطْ , وَقَوْلِهِ : وَمَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي مِصْرَ ( قَوْلُهُ : بَعْدَ الْإِحْدَاثِ , أَوْ الْإِسْلَامِ ) نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ , وَقَوْلُهُ : أَوْ الْفَتْحِ أَيْ : عَنْوَةً الْآتِي , وَقَدَّمَهُ إلَى هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاخْتِصَارِ ( قَوْلُهُ : فِي الصُّلْحِ ) أَيْ : فِي صُورَتَيْ الْفَتْحِ صُلْحًا . ( قَوْلُهُ : كَمِصْرِ ) أَيْ : الْقَدِيمَةِ , وَمِثْلُهَا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مِصْرُنَا الْآنَ ; لِأَنَّهَا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حَالَةَ الْفَتْحِ فَأَرْضُهَا الْمَنْسُوبَةُ إلَيْهَا لِلْغَانِمِينَ , فَيَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْفَتْحِ , وَبِهِ يُعْلَمُ وُجُوبُ هَدْمِ مَا فِي مِصْرِنَا , وَمِصْرَ الْقَدِيمَةِ مِنْ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ ا هـ . ع ش , وَيَأْتِي عَنْ سم مَا يُوَافِقُهُ , وَمَرَّ فِي الشَّارِحِ مَا يُخَالِفُهُ , وَيُشِيرُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : الْآتِي , وَمَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي مِصْرَ ( قَوْلُهُ : عَلَى مَا مَرَّ ) أَيْ : قُبَيْلَ فَصْلِ الْأَمَانِ مِنْ أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً , وَقِيلَ : صُلْحًا ا هـ . ( قَوْلُ الْمَتْنِ : لَا يُحْدِثُونَهَا إلَخْ ) وَكَمَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا لَا يَجُوزُ إعَادَتُهَا إذَا انْهَدَمَتْ ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : حَالَ الْفَتْحِ إلَخْ ) تَقْيِيدٌ لِمَحَلِّ الْخِلَافِ , وَسَيَذْكُرُ مُحْتَرَزَهُ بِقَوْلِهِ : وَالْمُنْهَدِمَةُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي , وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ا هـ . ( قَوْلُهُ : فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ ) أَقُولُ : قِيَاسُ ذَلِكَ امْتِنَاعُ تَقْرِيرِ كَنَائِسِ الْقَاهِرَةِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَرَضُ فَتْحَ(1/118)
مِصْرَ عَنْوَةً فَالْمِلْكُ بِالِاسْتِيلَاءِ شَامِلٌ لِمَا حَوَالَيْهَا , وَمِنْهُ مَحَلُّ الْقَاهِرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَتَحَقَّقْ شُمُولُ الْفَتْحِ لِمَحَلِّ الْقَاهِرَةِ كَأَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَغَلِّبٌ تَغْلِيبًا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَحَلِّهِ , وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ا هـ . سم . ( قَوْلُهُ : وَمَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ ) أَيْ : قُبَيْلَ فَصْلِ الْأَمَانِ ا هـ . سم ( قَوْلُهُ : وَالْمُنْهَدِمَةُ إلَخْ ) أَيْ : وَمَا لَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ حَالَ الْفَتْحِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ : الْمَارِّ يَقِينًا ( قَوْلُهُ : وَالْمُنْهَدِمَةُ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي , وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقَائِمَةِ عِنْدَ الْفَتْحِ أَمَّا الْمُنْهَدِمَةُ , أَوْ الَّتِي هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَطْعًا . ( تَنْبِيهٌ ) لَوْ اسْتَوْلَى أَهْلُ حَرْبٍ عَلَى بَلْدَةِ أَهْلِ ذِمَّةٍ , وَفِيهَا كَنَائِسُهُمْ ثُمَّ اسْتَعَدْنَاهَا مِنْهُمْ عَنْوَةً أُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ أَهْلِ حَرْبٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْوَافِي , وَاسْتَظْهَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ ا هـ .
====================
وفي مغني المحتاج :(1)
( وَنَمْنَعُهُمْ ) وُجُوبًا ( إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ ) وَبَيْعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ , وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ ( فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ )
__________
(1) -مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 17 / ص 459)(1/119)
كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْقَاهِرَةِ , لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرَبَ مِنْهَا } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا " أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ . وَلِأَنَّ إحْدَاثَ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ , فَلَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ بَنَوْا ذَلِكَ هُدِمَ , سَوَاءٌ أَشُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا , وَلَوْ عَاقِدِهِمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ( أَوْ ) بَلَدٍ ( أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ) كَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْيَمَنِ , فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِمَّا ذُكِرَ لِمَا مَرَّ . تَنْبِيهٌ : لَوْ وُجِدَتْ كَنَائِسُ أَوْ نَحْوُهَا فِيمَا ذُكِرَ وَجُهِلَ أَصْلُهَا بَقِيَتْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ فَاتَّصَلَ بِهَا عُمْرَانٌ مَا أَحْدَثُ مِنَّا , بِخِلَافِ مَا لَوْ عُلِمَ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ . هَذَا إذَا بُنِيَ ذَلِكَ لِلتَّعَبُّدِ . فَإِنْ بُنِيَ لِنُزُولِ الْمَارَّةِ نُظِرَ , إنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ , وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ فَوَجْهَانِ : جَزَمَ صَاحِبُ الشَّامِلِ مِنْهُمَا بِالْجَوَازِ ( وَمَا ) أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي ( فُتِحَ عَنْوَةَ ) كَمِصْرِ وَأَصْبَهَانَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ ( لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ ) ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَيُمْتَنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً , وَكَمَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا لَا يَجُوزُ إعَادَتُهَا إذَا انْهَدَمَتْ ( وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا مَرَّ , وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ . كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ; لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَا بِالْعِرَاقِ , وَالثَّانِي يُقَرُّونَ ; لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ , وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقَائِمَةِ عِنْدَ الْفَتْحِ . أَمَّا الْمُنْهَدِمَةُ أَوْ الَّتِي هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَطْعًا . تَنْبِيهٌ : لَوْ اسْتَوْلَى أَهْلُ حَرْبٍ عَلَى بَلْدَةِ أَهْلِ ذِمَّةٍ وَفِيهَا كَنَائِسُهُمْ . ثُمَّ اسْتَعَدْنَاهَا مِنْهُمْ عَنْوَةً أُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ , قَالَهُ صَاحِبُ الْوَافِي : وَاسْتَظْهَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( أَوْ ) فُتِحَ الْبَلَدُ ( صُلْحًا ) كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ( بِشَرْطِ ) كَوْنِ ( الْأَرْضِ لَنَا وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ ) فِيهَا بِخَرَاجٍ ( وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ ) مَثَلًا لَهُمْ ( جَازَ ) ; لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْبَلَدِ لَهُمْ فَعَلَى بَعْضِهِ أَوْلَى . تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : " وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ " يَقْتَضِي مَنْعَهُمْ مِنْ إحْدَاثِهَا , وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ إذَا صُولِحُوا عَلَى إحْدَاثِهَا جَازَ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرَا خِلَافَهُ . قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ مَحْمُولٌ مَا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ ا هـ . وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الظَّاهِرُ , وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَوَازِ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْمَنْعِ , إذْ الْجَوَازُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَوَازِ ذَلِكَ , نَبَّهَ عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ ( وَإِنْ ) فُتِحَ الْبَلَدُ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا وَ ( أُطْلِقَ ) الصُّلْحُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ وَلَا عَدَمَهُ ( فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ) مِنْ إبْقَائِهَا فَيُهْدَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا , وَالثَّانِي لَا , وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ بِقَرِينَةِ الْحَالِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ . فَائِدَةٌ : قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ كَنَائِسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ دُخُولَهُمْ إلَيْهَا , وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَازُ بِالْإِذْنِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا صُورَةٌ . فَإِنْ كَانَ وَهِيَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ حَرُمَ هَذَا إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ; لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِزَالَةِ , وَغَالِبُ كَنَائِسِهِمْ الْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ( أَوْ ) فُتِحَ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ ( لَهُمْ ) وَيُؤَدُّونَ(1/120)
خَرَاجَهَا ( قُرِّرَتْ ) كَنَائِسُهُمْ ; لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ ( وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ ) ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا , وَالثَّانِي الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ , وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِهِمْ كَخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ , وَأَعْيَادِهِمْ كَضَرْبِ نَاقُوسِهِمْ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إيوَاءِ الْجَاسُوسِ وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَسَائِرِ مَا نَتَضَرَّرُ بِهِ فِي دِيَارِهِمْ . تَنْبِيهٌ : حَيْثُ جَوَّزْنَا أَيْضًا الْكَنَائِسَ , فَلَا مَنَعَ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا اسْتُهْدِمَتْ ; لِأَنَّهَا مُبْقَاةٌ , وَهَلْ يَجِبُ إخْفَاءُ الْعِمَارَةِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا لَا , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَطْيِينِهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ , وَتَجُوزُ إعَادَةُ الْجُدْرَانِ السَّاقِطَةِ , وَإِذَا انْهَدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ , فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْدَاثٍ , وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ : وَلَا أَرَى الْفَتْوَى بِذَلِكَ . فَإِنَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ نَحْوِهَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلًا مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ زَرْقَاءُ , فَعِنْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ طَلَبَنِي ذَلِكَ الْعَالِمُ فَوَجَدْتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهِ , وَبِيَدِهِ كُرَّاسَةٌ فِي تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ , يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِجَوَازِ التَّرْمِيمِ وَيَسْتَعِينَ بِي فَذَكَرْتُ وَاعْتَبَرْتُ . قَالَ : وَمَعْنَى قَوْلِنَا لَا نَمْنَعُهُمْ التَّرْمِيمَ , لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَائِزٌ , بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي الَّتِي يُقَرُّونَ عَلَيْهَا كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ فِيهِ كَمَا يَأْذَنُ فِي الْأَشْيَاءِ الْجَائِزَةِ فِي الشَّرْعِ , وَإِنَّمَا مَعْنَى تَمْكِينِهِمْ التَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ , وَلَوْ اشْتَرَوْهُمَا أَوْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَكْتُبُهُمَا لَهُمْ لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّتِهِ , وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْعَلُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهِ , وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَأَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِيهِ , وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا لَهُ وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ . قَالَ : وَالْمُرَادُ بِالتَّرْمِيمِ الْإِعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لَا بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ . قَالَ : وَهَذَا مَدْلُولُ لَفْظِ الْإِعَادَةِ وَالتَّرْمِيمِ , وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِنَقْلٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ . قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا التَّمْكِينُ وَالْحَقُّ عِنْدِي خِلَافُهُ ا هـ . وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ , وَاقْتَضَى كَلَامُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُرَمَّمُ بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ , وَلَيْسَ لَهُمْ تَوْسِيعُهَا ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأُولَى .
=====================
وفي المغني :
( 7687 ) فَصْلٌ : أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ (1)
__________
(1) -المغني - (ج 21 / ص 257)(1/121)
; أَحَدُهَا , مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ , كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ , وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ , بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ , قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ , فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً , وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا , وَلَا يُشْرِبُوا فِيهِ خَمْرًا , وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَاحْتَجَّ بِهِ . وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ . وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ , مِثْلُ كَنِيسَةِ الرُّومِ فِي بَغْدَادَ , فَهَذِهِ كَانَتْ فِي قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَأُقِرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ . الْقِسْمُ الثَّانِي , مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا , يَجِبُ هَدْمُهُ , وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَالثَّانِي يَجُوزُ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ , فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ , فَنَزَلُوهُ , فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ , رضي الله عنهم , فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً , فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا , وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً , وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ , فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فَأُبْقِيَتْ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , رضي الله عنه إلَى عُمَّالِهِ , أَنْ لَا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْت نَارٍ . وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ , فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا فُتِحَ صُلْحًا , وَهُوَ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا , أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ , وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا ; لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ وَالثَّانِي , أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ إلَيْنَا , فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعَهُمْ , مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ , وَعِمَارَتِهِ ; لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لَهُمْ , جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَلَدِ لَهُمْ , وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مُعَيَّنًا وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ , أَنْ لَا يُحْدِثُوا بِيعَةً , وَلَا كَنِيسَةً , وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا قلاية . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ , حُمِلَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ , وَأُخِذُوا بِشُرُوطِهِ . فَأَمَّا الَّذِينَ صَالَحَهُمْ عُمَرُ , وَعَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ , فَهُمْ عَلَى مَا فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ , مَأْخُوذُونَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا وَمَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ , فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ فَاتِحِيهَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يَجُوزُ إقْرَارُهَا . لَمْ يَجُزْ هَدْمُهَا , وَلَهُمْ رَمُّ مَا تَشَعَّثَ مِنْهَا , وَإِصْلَاحُهَا ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا , فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا . وَإِنْ وَقَعَتْ كُلُّهَا , لَمْ يَجُزْ بِنَاؤُهَا . وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ بِنَاءٌ لِمَا اسْتَهْدَمَ فَأَشْبَهَ بِنَاءَ بَعْضِهَا إذَا انْهَدَمَ وَرَمِّ شَعْثِهَا , وَلِأَنَّ اسْتِدَامَتَهَا جَائِزَةٌ وَبِنَاؤُهَا كَاسْتِدَامَتِهَا . وَحَمَلَ الْخَلَّالُ قَوْلَ أَحْمَدَ : لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا . أَيْ إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهَا , وَمَنْعَهُ مِنْ بِنَاءِ مَا انْهَدَمَ , عَلَى مَا إذَا انْهَدَمَتْ كُلُّهَا , فَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ . وَلَنَا , أَنَّ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لِعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ : وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا . وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ , قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ : رَسُولُ(1/122)
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } . وَلِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَمْ يَجُزْ , كَمَا لَوْ اُبْتُدِئَ بِنَاؤُهَا . وَفَارَقَ رَمَّ شَعْثِهَا ; فَإِنَّهُ إبْقَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ , وَهَذَا إحْدَاثٌ .
==================
وفي أنوار البروق :(1)
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ نَقْضَهَا )
__________
(1) -تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 3 / ص 19) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 4 / ص 387)(1/123)
اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ مُوجِبٌ لِعِصْمَةِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَحَقِيقَةُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لَهُمْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَا وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَطَةُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْطُوا أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبًا فِي انْقِضَاءِ كُلِّ عَامٍ قَمَرِيٍّ صَرْفُ كُلِّ دِينَارٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا دِيرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّزُولِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيُوَسِّعُوا أَبْوَابَهَا لِلنَّازِلِينَ وَيُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةً وَأَنْ لَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَيُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ وَلَا فَرْقِ شَعْرِهِمْ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا عَلَى السُّرُوجِ وَلَا يَتَقَلَّدُوا شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا يَحْمِلُوهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوهُ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخَمْرَ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَجُزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ وَلَا يُظْهِرُوا الصَّلِيبَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَطْرَحُوا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ نَجَاسَةً وَيُخْفُوا النَّوَاقِيسَ وَأَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَيُرْشِدُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُطْلِعُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا وَلَا يَضْرِبُوا مُسْلِمًا وَلَا يَسُبُّوهُ وَلَا يَسْتَخْدِمُوهُ وَلَا يُسْمِعُوا مُسْلِمًا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَلَا يَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا خَمْرًا وَلَا نِكَاحَ ذَاتِ مَحْرَمٍ وَأَنْ يُسْكِنُوا الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ فَمَتَى أَخَلُّوا بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ اُخْتُلِفَ فِي نَقْضِ عَهْدِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَادَّةَ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم لَا يَرَوْا النَّقْضَ بِالْإِخْلَالِ بِأَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَيْفَ كَانَ بَلْ بَعْضُهَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَبَعْضُهَا لَا يُوجِبُ وَقَدْ سَبَقَ إلَى خَاطِرِ الْفَقِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ شَأْنُهُ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ الشُّرُوطِ وَلَوْ كَانَ أَلْفَ شَرْطٍ إذَا عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يُفِيدُ حُضُورُ مَا عَدَاهُ كَمَا يَجِدُهُ فِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا إنْ عُدِمَ شَرْطٌ وَاحِدٌ عُدِمَ جَمِيعُ الشُّرُوطِ فَلِذَلِكَ يَخْطِرُ لِضَعْفِهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ شُرُوطَ الْجِزْيَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ قَاعِدَةَ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ مُخَالِفَةٌ لِقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ فَإِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ كَالْإِسْلَامِ . وَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمَ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ فِي عَقْدِ إسْلَامِهِ كَمَا أَلْزَمَ الذِّمِّيَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ أَمَانَةٍ فَكَمَا انْقَسَمَ رَفْضُ التَّكَالِيفِ فِي الْإِسْلَامِ إلَى مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ وَيُبِيحُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ النُّبُوَّاتِ وَإِلَى مَا لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ ضَرْبَانِ كَبَائِرُ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ وَرَدِّ الشَّهَادَاتِ وَسَلْبِ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَصَغَائِرُ تُوجِبُ التَّأْدِيبَ دُونَ التَّغْلِيظِ . فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْجِزْيَةِ تَنْقَسِمُ شُرُوطُهُ إلَى مَا يُنَافِيه كَالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُمَا مَقْصُودُ الْعَقْدِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُوَ عَظِيمُ الْمَفْسَدَةِ فَهُوَ كَالْكَبِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَالْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ وَإِلَى مَا هُوَ كَالصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَسَبِّ الْمُسْلِمِ وَإِظْهَارِ التَّرَفُّعِ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا يُنَافِيَانِ(1/124)
الْإِسْلَامَ وَلَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ لَا يُبْطِلَانِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِمَا لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ فِي أَبْوَابِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ عَقْدًا مِنْ الْعُقُودِ إلَّا بِمَا يُنَافِي مَقْصُودَ ذَلِكَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ مُقَارَنَتِهِ مَعَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ عَقْدُ الْجِزْيَةِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ وَنَحْوِهِ وَانْقَسَمَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمُنَافَاةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ كَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمُفْرَدِهِمْ أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِيه كَتَرْكِ الزِّنَادِ وَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَتَرْكِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقْشِ خَوَاتِمِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَخِفُّ مَفْسَدَتُهُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيُنْتَقَضُ عَقْدُ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يُنْتَقَضُ وَهَا أَنَا أَسْرُدُ لَك مَسَائِلَ تُوَضِّحُ لَك هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ الْأَصْحَابُ إذَا أَظْهَرُوا مُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ عليه السلام أَوْ غَيْرِهِ أَدَّبْنَاهُمْ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْقِتَالِ وَمَنْعِ الْجِزْيَةِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّ قَتْلَهُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَكَذَلِكَ التَّطَلُّعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ فَحُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَرُّضُهُمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله عليهم مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَرُوِيَ يَوْجَعُ أَدَبًا وَيُشَدَّدُ بِهِ . فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ قَالَ اللَّخْمِيُّ إنْ زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ طَوْعًا لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رضي الله عنه وَانْتُقِضَ عِنْدَ رَبِيعَةَ وَابْنِ وَهْبٍ . وَإِنْ غَرَّهَا بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ نَقْضٌ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ وَإِنْ عَلِمَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ اغْتَصَبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَقْضٍ وَقِيلَ نَقْضٌ . قَالَ فَإِنْ عُوهِدَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْضٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قُلْت وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ لِلْقَاعِدَةِ فِي النَّقْضِ فَإِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَجَعْلُهُ نَاقِضًا دُونَ الْحِرَابَةِ مُشْكِلٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْحِرَابَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ أَوْ تُلْحَقُ الْحِرَابَةُ بِهِ فَيُنْتَقَضُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعُمُومِ مَفْسَدَةِ الْحِرَابَةِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ خَرَجُوا نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَهُمْ فَيْءٌ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمَّا عَصَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ التُّونُسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ رحمه الله الْقَتْلَ فِي الْحِرَابَةِ نَقْضًا وَهُوَ يَقُولُ غَصْبُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْوَطْءِ نَقْضٌ قَالَ وَهُوَ مُشْكِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ اقْتَضَاهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ لِظُلْمٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ رُدُّوا إلَى ذِمَّتِهِمْ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِرَابَةُ الذِّمِّيِّ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ وَلَا يُؤْخَذُ وَلَدُهُ لِبَقَاءِ الْعَهْدِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحِرَابَةِ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ ظُلْمٍ فَهُوَ نَقْضٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ ظَلَمَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أُخْبِرَ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ بَغْلًا عَلَيْهِ مُسْلِمَةٌ فَوَقَعَتْ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَالَ إنَّمَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه نَقْضُ الْعَهْدِ بِغَصْبِ الْمُسْلِمَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَظُفِرَ بِهِمْ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ قُتِلُوا وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا تَعَرُّضَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ مَعَهُمْ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ(1/125)
وَالضَّعِيفِ وَلَوْ ذَهَبُوا لِبَلَدِ الْحَرْبِ وَتَرَكُوا أَوْلَادَهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَمْ يُسْبَوْا بِخِلَافِ إذَا ذَهَبُوا بِهِمْ وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِظُلْمٍ أَصَابَهُمْ إلَّا أَنْ يُعِينُوا عَلَيْنَا الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ وَقَالَ أَيْضًا إذَا حَارَبُوا وَالْإِمَامُ عَدْلٌ اسْتَحَلَّ سَبْيَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إلَّا مَنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ كَالضُّعَفَاءِ . وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَصْبَغُ رحمه الله أَحَدًا وَأَلْحَقَ الضُّعَفَاءَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي النَّقْضِ كَمَا أَنْدَرَجُوا مَعَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم { سَبَى ذَرَارِيَّ قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ } قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى مَدِينَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا ذِمَّةٌ فَغَزَوْا مَعَهُمْ ثُمَّ اعْتَذَرُوا لَنَا بِالْقَهْرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قُتِلَ وَإِلَّا أُطِيلَ سَجْنُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ رحمه الله وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ إذَا صَارُوا عَيْنًا لِلْحَرْبِيِّينَ عَلَيْنَا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تُوَضِّحُ لَك الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ نَاقِضًا وَمَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ وَمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ النَّقْضِ وَمَا هُوَ بَعِيدٌ وَتَحَرَّرَ لَك بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ النَّقْضَ فَتَعْتَبِرُ مَا يَقَعُ لَك مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ نَقْضَهَا )(1/126)
عَقْدُ الْجِزْيَةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لِلْكُفَّارِ صِيَانَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ بِهَا سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَاسْتُفِيدَتْ مِنْ قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ وَهِيَ أَنْ يُعْطُوا أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبًا فِي انْقِضَاءِ كُلِّ عَامٍ قَمَرِيٍّ صَرْفُ كُلِّ دِينَارٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا دِيرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّزُولِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيُوَسِّعُوا أَبْوَابَهَا لِلنَّازِلِينَ وَيُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثًا وَأَنْ لَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَيُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ وَلَا فَرْقِ شَعْرِهِمْ وَلَا يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا عَلَى السُّرُوجِ وَلَا يَتَقَلَّدُوا شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا يَحْمِلُوهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوهُ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخَمْرَ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَجِزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ وَلَا يُظْهِرُوا الصَّلِيبَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَطْرَحُوا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ نَجَاسَةً وَيُخْفُوا النَّوَاقِيسَ وَأَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَيُرْشِدُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُطْلِعُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا وَلَا يَضْرِبُوا مُسْلِمًا وَلَا يَسُبُّوهُ وَلَا يَسْتَخْدِمُوهُ وَلَا يُسْمِعُوا مُسْلِمًا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَلَا يَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا خَمْرًا وَلَا نِكَاحَ ذَاتِ مَحْرَمٍ وَأَنْ يُسْكِنُوا الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ . ا هـ وَقَدْ ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي إخْلَالِ الذِّمِّيِّ بِشَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إلَى طَرِيقَتَيْنِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى لِبَعْضِهِمْ نَقْضُ الْعَهْدِ بِإِخْلَالِهِ بِأَيِّ شَرْطٍ مِنْهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِجُمْهُورِهِمْ نَقْضُ الْعَهْدِ بِإِخْلَالِهِ بِمَا يُنَافِي الْأَمَانَ وَالتَّأْمِينَ فَقَطْ وَهَذِهِ هِيَ الصَّوَابُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ كَعَقْدِ الْإِسْلَامِ فَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الْإِسْلَامِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ وَنَحْوِهَا كَذَلِكَ عَقْدُ الذِّمَّةِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ الْمُسْلِمَ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ فِي عَقْدِ إسْلَامِهِ كَذَلِكَ أَلْزَمَ الذِّمِّيَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ أَمَانِهِ وَكَمَا أَنَّ رَفْضَ التَّكَالِيفِ فِي الْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ وَيُبِيحُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ النُّبُوَّاتِ وَإِلَى مَا لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ ضَرْبَانِ كَبَائِرُ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ وَرَدَّ الشَّهَادَاتِ وَسَلْبَ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَصَغَائِرُ تُوجِبُ التَّأْدِيبَ دُونَ التَّغْلِيظِ فَكَذَلِكَ رَفْضُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُنَافِي مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ كَالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُوَ ضَرْبَانِ مَا هُوَ عَظِيمُ الْمَفْسَدَةِ كَالْكَبِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَالْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا هُوَ خَفِيفُ الْمَفْسَدَةِ كَالصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَسَبِّ الْمُسْلِمِ وَإِظْهَارِ التَّرَفُّعِ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ ضَرْبَيْ مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِعَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ دَمِ وَمَالِ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَكِبِ لِأَحَدِهِمَا كَذَلِكَ ضَرْبَا مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمْنِ وَالْأَمَانِ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ عَقْدِ الْجِزْيَةِ مِمَّا يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ دَمِ وَمَالِ الذِّمِّيِّ النَّاقِضِ لِأَحَدِهِمَا ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) أَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ فِي أَبْوَابِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّنَا لَا(1/127)
نُبْطِلُ عَقْدًا مِنْ الْعُقُودِ إلَّا بِمَا يُنَافِي مَقْصُودَ ذَلِكَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ مُقَارَنَتِهِ مَعَهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمُنَافَاةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ كَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمُفْرَدِهِمْ أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَإِنْ خَرَجُوا نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَهُمْ فَيْءٌ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمَّا عَصَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ الظُّلْمَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ رُدُّوا إلَى ذِمَّتِهِمْ . وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ ظُلْمٍ فَهُوَ نَقْضٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ ظَلَمَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ بَغْلًا عَلَيْهِ مُسْلِمَةٌ فَوَقَعَتْ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَالَ إنَّمَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا حَارَبَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَظُفِرَ بِهِمْ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ قُتِلُوا وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ مَعَهُمْ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَلَوْ ذَهَبُوا لِبَلَدِ الْحَرْبِ وَتَرَكُوا أَوْلَادَهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَمْ يُسْبَوْا بِخِلَافِ مَا إذَا ذَهَبُوا بِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِظُلْمٍ أَصَابَهُمْ إلَّا أَنْ يُعِينُوا عَلَيْنَا الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ وَقَالَ أَيْضًا إذَا حَارَبُوا وَالْإِمَامُ عَدْلٌ اسْتَحَلَّ سَبْيَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إلَّا مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ كَالضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَصْبَغُ رحمه الله أَحَدًا وَأَلْحَقَ الضُّعَفَاءَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي النَّقْضِ كَمَا انْدَرَجُوا مَعَهُمْ فِي النَّقْدِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم { سَبَى ذَرَارِيَّ قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ } قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى مَدِينَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا ذِمَّةٌ فَغَزَوْا مَعَهُمْ ثُمَّ اعْتَذَرُوا لَنَا بِالْقَهْرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قُتِلَ وَإِلَّا أُطِيلَ سَجْنُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ رحمه الله وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ إذَا صَارُوا عَوْنًا لِلْحَرْبِيِّينَ عَلَيْنَا ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِي عَقْدَ الذِّمَّةِ كَتَرْكِ الزِّنَا وَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَتَرْكِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقْشِ خَوَاتِيمِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَخِفُّ مَفْسَدَتُهُ فَفِي الْأَصْلِ عَنْ الْأَصْحَابِ إذَا أَظْهَرُوا مُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ عليه السلام أَوْ غَيْرِهِ أَدَّبْنَاهُمْ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ وَإِنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ هَلْ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الْجِزْيَةِ كَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَتَعَرُّضِهِمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله عليهم وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ فَفِي الْأَصْلِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْقِتَالِ وَمَنْعِ الْجِزْيَةِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا . وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ فَحُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ , وَتَعَرُّضُهُمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله عليهم مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَرُوِيَ يُوجَعُ أَدَبًا وَيُشَدُّ ذَنَبُهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ إنْ زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ طَوْعًا لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رضي الله عنه وَانْتَقَضَ عِنْدَ رَبِيعَةَ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِنْ غَرَّهَا بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ نَقْضٌ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ وَإِنْ عَلِمَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ اغْتَصَبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَقْضٍ وَقِيلَ نَقْضٌ قَالَ فَإِنْ عُوهِدَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْضٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قَالَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ لِلْقَاعِدَةِ فِي(1/128)
النَّقْضِ فَإِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَجَعْلُهُ نَاقِضًا دُونَ الْحِرَابَةِ مُشْكِلٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْحِرَابَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ أَوْ تُلْحَقُ الْحِرَابَةُ فِيهِ فَيُنْتَقَضُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعُمُومِ مُفْسِدَةِ الْحِرَابَةِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَعَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ . ا هـ فَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَتَوَضَّحَتْ عِنْدَك مَسَائِلُهَا ظَهَرَ لَك تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ فَتَعْتَبِرُ مَا يَقَعُ لَك مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
=================
وفي نصب الراية :(1)
فَصْلٌ ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ )
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا , وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ , وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى , وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ , فَلَا تَعَارُضَ بِإِظْهَارِ مَا تُخَالِفُهَا , وَقِيلَ : فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ , وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ , لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ . وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
__________
(1) - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 8 / ص 350)(1/129)
فَصْلٌ : الْحَدِيثُ السَّادِسُ : قَالَ عليه السلام : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا كَنِيسَةَ } ; قُلْتُ : أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ } , وَضَعَّفَهُ ; وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا كَنِيسَةَ } انْتَهَى . وَحَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا خِصَاءَ انْتَهَى . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ " حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ أَبِي الْمَهْدِيِّ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُبْنَى مَا خَرِبَ مِنْهَا } , انْتَهَى . وَمِنْ جِهَةِ ابْنِ عَدِيٍّ , ذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي " أَحْكَامِهِ " , وَأَعَلَّهُ تَبَعًا لِابْنِ عَدِيٍّ بِسَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ , قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ , وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ أَحْمَدَ , وَابْنِ مَعِينٍ , قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " : وَفِيهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ غَيْرُ سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَطَّارُ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَيْسَ بِصَدُوقٍ , وَامْتَنَعَ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ , وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَيْضًا ضَعِيفٌ , بَلْ مَتْرُوكٌ ; حَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ كَانَ يُكَذِّبُهُ , فَلَعَلَّ الْعِلَّةَ فِيهِ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : وَأَبُو الْمَهْدِيِّ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا , لَكِنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ انْتَهَى . الْحَدِيثُ السَّابِعُ : قَالَ عليه السلام : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } ; قُلْتُ : رَوَاهُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي " مُسْنَدِهِ " أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ : لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } , وَفِيهِ قِصَّةٌ ; وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ " أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَجْتَمِعُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ قَالَ : بِأَرْضِ الْحِجَازِ دِينَانِ ; وَرَوَاهُ فِي الزَّكَاةِ , وَزَادَ فِيهِ : فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَهُودِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَأْتِ بِهِ , وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ , قَالَ : فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ } انْتَهَى . وَرَوَاهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي " السِّيرَةِ " عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ , قَالَتْ : { كَانَ آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } انْتَهَى . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " عِلَلِهِ " : وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْتَهَى . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ مَالِكٌ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ , وَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ , وَفَدَكَ } انْتَهَى . أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : { كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ , لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } انْتَهَى . ذَكَرَهُ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ , وَأَسْنَدَ أَبُو(1/130)
دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , قَالَ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ , إلَى تُخُومِ الْعِرَاقِ , إلَى الْبَحْرِ , انْتَهَى , وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : قَالَ مَالِكٌ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ نَفْسُهَا , وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا الْحِجَازُ , وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ , وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُ فَارِسَ , وَالرُّومِ , وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ , قَالَ : هِيَ مَكَّةُ , وَالْمَدِينَةُ : وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : هِيَ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ , وَأَمَّا الْعَرْضُ , فَمِنْ جُدَّةَ , وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ , وَسُمِّيَتْ الْجَزِيرَةُ جَزِيرَةً لِانْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْ مَوْضِعِهَا , وَالْجَزْرُ هُوَ الْقَطْعُ , لِأَنَّهَا جَزَرَتْ عَنْهَا الْمِيَاهُ الَّتِي حَوَالَيْهَا , كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ , وَعُمَانَ , وَعَدَنَ , وَالْفُرَاتِ , وَقِيلَ : لِأَنَّ حَوَالَيْهَا بَحْرُ الْحَبَشِ , وَبَحْرُ فَارِسَ , وَدِجْلَةُ , وَالْفُرَاتُ ; وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : سُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسَ , وَبَحْرَ السَّوَادِ أَحَاطَ بِجَانِبَيْهَا يَعْنِي الْجَنُوبِيَّ وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ دِجْلَةُ , وَالْفُرَاتُ , انْتَهَى . وَحَدِيثُ : { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } , أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " الْجِزْيَةِ " , وَمُسْلِمٌ فِي " آخِرِ الْوَصَايَا " كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : { لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ , قَالَ : ائْتُونِي أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي , فَتَنَازَعُوا , وَقَالُوا : مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ ؟ اسْتَفْهِمُوهُ , فَقَالَ : دَعُونِي أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ , قَالَ : وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ } انْتَهَى .
====================
وفي البحر الزخار :(1)
" مَسْأَلَةٌ " : وَلَيْسَ لَهُمْ إحْدَاثُ بِيعَةٍ , أَوْ كَنِيسَةٍ فِيمَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ(2)
كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم " أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعُجْمِ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهِ كَنِيسَةً " فَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي بِلَادِنَا الْآنَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَنُوهَا وَاتَّصَلَ بِهَا عِمَارَةُ الْمُسْلِمِينَ , وَحُكْمُ مَا مَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَهْرِ حُكْمُ مَا اخْتَطُّوهُ , وَلِلْإِمَامِ هَدْمُ مَا وَجَدَ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَصَوَامِعِ الرُّهْبَانِ , وَإِنْ أَقَرَّهُ لِمَصْلَحَةٍ فَلَا حَرَجَ وَلَهُمْ إحْدَاثُهَا فِي خُطَطِهِمْ الَّتِي اُخْتُصُّوا بِهَا وَأَظْهَرُوا شِعَارَهُمْ فِيهَا إنْ وَقَعَ الصُّلْحُ , عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُمْ لَا عَلَى أَنَّهَا لَنَا , فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ } وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا . قُلْت بَلْ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُمْ تَجْدِيدَ مَا خَرِبَ مِمَّا قُرِّرُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا , ( فَرْعٌ ) وَخُطَطُهُمْ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيْهَا , أَيْلَةُ , وَعَمُورِيَّة وَفِلَسْطِينُ وَنَجْرَانُ وَقُسْطَنْطِينِيَّة .
. ( قَوْلُهُ ) " أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ " إلَخْ . لَفْظُهُ فِي الشِّفَاءِ : وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَهُ الْإِسْلَامُ , فَلَيْسَ لِلْعُجْمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ كَنِيسَةً " انْتَهَى . هَكَذَا مَوْقُوفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( قَوْلُهُ ) " لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ " إلَخْ . لَفْظُهُ فِي الشِّفَاءِ : وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ } انْتَهَى .
===================
وفي التلخيص الحبير :(3)
2328 - ( 29 ) - حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ : " لَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا كَنِيسَةٍ , وَلَا صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ " .
__________
(1) -البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 16 / ص 323)
(2) -قلت : بل قد بنوا كنائس ودورا للعبادة في جميع بلاد الإسلام بما فيها الجزيرة العربية ، ولا حسيب ولا رقيب !!!!
(3) -التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - (ج 5 / ص 323)(1/131)
أَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَرَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ أَنْ أَدِّبُوا الْخَيْلَ , وَلَا تُرْفَعُنَّ بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ الصَّلِيبَ , وَلَا يُجَاوِرَنَّكُمْ الْخَنَازِيرُ " . - الْحَدِيثَ - وَرَوَاهُ مُطَوَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ , عَنْ عُمَرَ , وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ , وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ الْحَرَّانِيُّ فِي تَارِيخِ الرَّقَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا : { لَا يُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } . وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " كُلُّ مِصْرٍ مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ , لَا يُبْنَى فِيهِ بِيعَةٌ , وَلَا كَنِيسَةٌ , وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ نَاقُوسٌ وَلَا يُبَاعُ فِيهِ لَحْمُ خِنْزِيرٍ " . وَفِيهِ حَنَشٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
====================
وفي فتح القدير :(1)
( فَصْلٌ ) ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ )
; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا , وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا ; لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ , وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ , بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ ; لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى , وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ; لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ فَلَا تُعَارَضُ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا . وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا ; لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ , وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ . وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
__________
(1) -الهداية للمرغياني - (ج 3 / ص 130) والعناية شرح الهداية - (ج 8 / ص 109) وفتح القدير - (ج 13 / ص 193)(1/132)
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمِّيِّ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَمَا مَضَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ قَدَّمَ تِلْكَ . ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ ) بِكَسْرِ الْبَاءِ ( وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَهُمَا مُتَعَبَّدَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , ثُمَّ غَلَبَتْ الْكَنِيسَةُ لِمُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةُ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى , وَفِي دِيَارِ مِصْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْبِيعَةِ بَلْ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْفَرِيقَيْنِ , وَلَفْظُ الدَّيْرِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً . وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ عُمُومَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ; لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ , فَإِحْدَاثُهَا فِيهَا مُعَارَضَةٌ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا فَلَا يَجُوزُ , بِخِلَافِ الْقُرَى . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي قُرَى دِيَارِنَا أَيْضًا لَا تَحْدُثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ . ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ : ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا , وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ ضِمْنًا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ ; لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ , وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ بَعْدَهُمْ . قِيلَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ , فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ . وَثَانِيهَا مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ شَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ , وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ : يَجِبُ . وَعِنْدَنَا جَعْلُهُمْ ذِمَّةً أَمْرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَنَائِسَهُمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِيهَا وَلَكِنْ لَا تُهْدَمُ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً , وَلَمْ يَهْدِمُوا كَنِيسَةً , وَلَا دَيْرًا , وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ قَطُّ . وَثَالِثُهَا مَا فُتِحَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ إحْدَاثُهُمْ , وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يُوَقَّعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى شَرْطِ تَمْكِينِ الْإِحْدَاثِ لَا يَمْنَعُهُمْ , إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا , وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى . وَقَوْلُهُ : يُمْنَعُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ : أَيْ التَّجَاهُرِ بِهِ وَإِظْهَارِهِ . وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ لَا يُمْنَعُونَ انْتَهَى . وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِصْرٍ أَوْ حَدِيقَةٍ لَهُمْ أَظْهَرُوا فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ مِثْلَ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشَ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ , وَكَذَا عَنْ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْغِنَاءِ , وَمِنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ لَا تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا , وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ , فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ , وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا , فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهَدْمِهَا إمَامٌ فَكَانَ مُتَوَارِثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِيَّةً فِيهَا دَيْرٌ أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ فِي دَاخِلِ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَمَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمَانِ قَبْلَ وَضْعِ السُّوَرِ , فَيُحْمَلُ مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنْ(1/133)
الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ ثُمَّ فِيهَا الْآنَ كَنَائِسُ , وَيَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ تَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنْ إحْدَاثِهَا جِهَارًا فِي جَوْفِ الْمُدُنِ الْإِسْلَامِيَّةِ , فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي فَأُدِيرَ السُّوَرُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا , وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُهْدَمَ ; لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَبَقُوهَا , وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ بَقُوهَا مَسَاكِنَ لَا مَعَابِدَ فَلَا تُهْدَمُ وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ , وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ مِنْ الْإِظْهَارِ . وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ : إنَّهُمْ إذَا حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ يُخْرِجُونَ فِيهِ صُلْبَانَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوا فِي كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبُّوا , فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجُوا ذَلِكَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ , وَلَكِنْ لِيَخْرُجُوا خُفْيَةً مِنْ كَنَائِسِهِمْ , وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ الْإِحْدَاثِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله : الْمُرَادُ إحْدَاثُهَا , وَهَذَا ; لِأَنَّ الْبِيعَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الصُّلْحِ . وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ } وَضَعَّفَهُ . وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } قَالَ : وَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا خِصَاءَ . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِسَنَدِهِ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُبْنَى مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَأُعِلَّ بِسَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ , وَإِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُ الضَّعِيفِ يَصِيرُ حَسَنًا . ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخِصَاءِ نَزْعُ الْخُصْيَتَيْنِ , وَقِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّخَلِّي عَنْ إتْيَانِ النِّسَاءِ ( وَالصَّوْمَعَةُ ) وَهُوَ مَا يُبْنَى ( لِلتَّخَلِّي ) عَنْ النَّاسِ وَالِانْقِطَاعِ ( فِيهَا ) لَهُمْ مِثْلُهَا فَيُمْنَعُ أَيْضًا وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْتُ نَارٍ . ( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ ) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه كَانَ ( فِي قُرَى الْكُوفَةِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ ) بِخِلَافِ قُرَى الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ , وَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ , وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ : إنْ كَانَتْ قَرْيَةٌ غَالِبُ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُمْنَعُونَ , وَأَمَّا الْقَرْيَةُ الَّتِي سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا , فَصَارَ إطْلَاقُ مَنْعِ الْإِحْدَاثِ هُوَ الْمُخْتَارُ فَصَدَقَ تَعْمِيمُ الْقُدُورِيِّ مَنْعَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . ( قَوْلُهُ : وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا ) فَلَا يُحْدَثُ فِيهَا كَنِيسَةٌ وَلَا تُقَرُّ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ السُّكْنَى بِهَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إقْرَارِهَا , إلَّا أَنْ تُتَّخَذَ دَارَ سُكْنَى وَلَا يُبَاعُ بِهَا خَمْرٌ وَلَا فِي قَرْيَةٍ مِنْهَا وَلَا فِي مَاءٍ مِنْ مِيَاه الْعَرَبِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا , بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ . وَذَلِكَ ( لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } ) أَخْرَجَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ , حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَحْوَصِ , حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ(1/134)
الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَجْتَمِعُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ , أَوْ قَالَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ دِينَانِ } وَرَوَاهُ فِي الزَّكَاةِ وَزَادَ فِيهِ : " فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَهُودِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَأْتِ بِهِ , وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ , قَالَ : فَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ " . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي عِلَلِهِ : هَذَا صَحِيحٌ , وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ . قَالَ مَالِكٌ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ وَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ , وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ , وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِانْجِزَارِ الْمِيَاهِ الَّتِي حَوَالَيْهَا عَنْهَا كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ وَعُمَانَ وَعَدَنَ وَالْفُرَاتِ . وَقِيلَ ; لِأَنَّ حَوَالَيْهَا بَحْرُ الْحَبَشِ وَبَحْرُ فَارِسٍ وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسٍ وَبَحْرَ السُّودَانِ أَحَاطَا بِجَانِبِهَا الْجَنُوبِيِّ , وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : قَالَ مَالِكٌ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ نَفْسُهَا , وَرُوِيَ أَنَّهَا الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ , وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ : هِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .
===================
وفي دقائق أولي النهى :(1)
( وَ ) يُمْنَعُونَ ( مِنْ إحْدَاثِ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ )
جَمْعُ بِيعَةٍ ( وَمُجْتَمَعٍ ) أَيْ مَحَلٍّ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ ( لِصَلَاةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِرَاهِبٍ ) فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً كَمِصْرٍ وَالشَّامِ . وَلَا يَصِحُّ صُلْحُهُمْ عَلَى إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ . لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً , وَلَا أَنْ يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَاحْتَجَّ بِهِ . وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ الْمُسْلِمِينَ مِلْكٌ لَهُمْ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بِنَاءُ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ . وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ حَالَ فَتْحِهَا لَمْ يَجِبْ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَا حُكْمُ إحْدَاثِ صَوْمَعَةٍ لِرَاهِبٍ . لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ { وَأَنْ لَا نُحْدِثَ قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةً لِرَاهِبٍ } ( إلَّا إنْ شُرِطَ ) إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ( فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ الْبَلَدَ الْمَفْتُوحَ صُلْحًا ( لَنَا ) وَنُقِرُّهُ مَعَهُمْ بِالْخَرَاجِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ . ( وَ ) يُمْنَعُونَ ( مِنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ ) مِنْ نَحْوِ كَنِيسَةٍ وَبِيعَةٍ ( أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا مِنْهَا وَلَوْ ) كَانَ مَا اسْتُهْدِمَ أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا مِنْهَا ( كُلُّهَا ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهَدْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ( كَ ) مَا يُمْنَعُونَ مِنْ ( زِيَادَتِهَا ) أَيْ الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِيهَا لِمَا لَمْ يَكُنْ , فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَ ( لَا ) يُمْنَعُونَ ( رَمَّ شُعْثِهَا ) أَيْ الْكَنَائِسَ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا اسْتِدَامَتَهَا فَمَلَكُوا رَمَّ شَعْثِهَا
==================
وفي مطالب أولي النهى :(2)
( وَ ) يُمْنَعُونَ ( مِنْ إحْدَاثِ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ )
__________
(1) -شرح منتهى الإرادات - (ج 4 / ص 310) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 7 / ص 244)
(2) -مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 7 / ص 244)(1/135)
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَ ) مِنْ ( مُجْتَمَعٍ لِصَلَاةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِرَاهِبٍ ) , قَالَهُ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " لِقَوْلِ ابْن عُمَرَ : " أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً وَلَا أَنْ يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا , وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا , وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَاحْتَجَّ بِهِ . وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ , أَوْ مَا فُتِحَ عَنْوَةً كَمِصْرِ وَالشَّامِ , وَلَا يَصِحُّ صُلْحُهُمْ عَلَى إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ , فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بِنَاءُ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ ( فَإِنْ فَعَلُوا ) , أَيْ : أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , ( وَجَبَ هَدْمُهُ ) إزَالَةً لِعُدْوَانِهِمْ . ( لَا ) يَجِبُ ( هَدْمُ مَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْهَا ) , أَيْ : مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا ( وَقْتَ فَتْحِ ) الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ بِهَا , ( فَإِنْ شَرَطُوا ) , أَيْ : الْكُفَّارُ ( الْإِحْدَاثَ ) لِبِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ وَنَحْوِهَا ( فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّهُ ) , أَيْ : الْبَلَدَ الْمَفْتُوحَ صُلْحًا ( لَنَا ) , وَنُقِرُّهُ مَعَهُمْ بِالْخَرَاجِ , ( جَازَ ) , لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ , فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ . ( وَيُمْنَعُونَ مِنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا ) , أَيْ : الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَنَحْوِهَا ( أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا ) مِنْهَا , ( وَلَوْ ) كَانَ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا ( كُلُّهَا ) , لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهَدْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ( كَ ) مَا يُمْنَعُونَ مِنْ ( زِيَارَتِهَا ) , أَيْ : الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا , لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِيهَا لِمَا لَمْ يَكُنْ , فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا , { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَ ( لَا ) يُمْنَعُونَ ( رَمَّ شُعْثَهَا ) , أَيْ : الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا , لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا اسْتِدَامَتَهَا , فَمَلَكُوا رَمَّ شُعْثَهَا . ( وَقَالَ الشَّيْخُ ) تَقِيُّ الدِّينِ : ( الْكَنَائِسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا , لِأَنَّا صَالَحْنَاهُمْ عَلَيْهِ , وَالْعَابِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَافِلِينَ ) عَنْ الْعِبَادَةِ ( أَعْظَمُ أَجْرًا ) , وَفِي مَعْنَاهُ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْمَعَاصِي لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهَا وَلِهَذَا قِيلَ : إنِّي اطَّلَعْت عَلَى الْبِقَاعِ وَجَدْتُهَا تَشْقَى كَمَا تَشْقَى الرِّجَالُ وَتَسْعَدُ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ : رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا غَمَّضَ عَيْنَيْهِ , وَيَقُولُ : لَا تَأْخُذُوا عَنِّي هَذَا , فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ , وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ( وَحَرُمَ بَيْعُهُمْ ) وَإِجَارَتُهُمْ ( مَا يَعْمَلُونَهُ كَنِيسَةً أَوْ تِمْثَالًا ) , أَيْ : صَنَمًا ( وَنَحْوَهُ ) , كَاَلَّذِي يَعْمَلُونَهُ صَلِيبًا , لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
===================
وفي نيل الأوطار :(1)
لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ , وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ
3485 - ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ , وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ,
وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ ) . 3486 - ( وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ , إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ) .
3487 - ( وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا , فَجِيءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَتْ : أَرَدْت أَنْ أَقْتُلَكَ , فَقَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطكِ عَلَى ذَلِكَ , قَالَ : فَقَالُوا : أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ : لَا } , فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَنْتَقِضُ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ ) .
__________
(1) - نيل الأوطار - (ج 12 / ص 344)(1/136)
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَرِجَالُ إسْنَادِهِ مُوَثَّقُونَ , وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي قَابُوسِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ جُنْدُبٍ , وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ , وَيَشْهَدُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا } وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ . قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ , لَا يَبْقَى دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } . وَوَصَلَهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ إسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا , وَزَادَ " فَقَالَ عُمَرُ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلِيَأْتِ بِهِ وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ " . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَوْصُولًا عَنْ عَائِشَةَ , وَلَفْظُهُ قَالَتْ : { آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إسْحَاقَ , حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ عَنْهَا . وَحَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَسَاقَ الِاضْطِرَابَ فِيهِ وَقَالَ : لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَقَدْ فَرَضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعُشُورَ فِيمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فِي خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ حَرْبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ } وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَبُو دَاوُد وَلَا الْمُنْذِرِيُّ عَلَى إسْنَادِهِ , وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَرْبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ : " الْخَرَاجُ " مَكَانُ الْعُشُورِ . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ خَالِهِ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْشُرُ قَوْمِي ؟ قَالَ : إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى } وَقَدْ سَكَتَ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ عَنْهُ , وَفِي إسْنَادِهِ الرَّجُلُ الْبَكْرِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ , وَخَالُهُ أَيْضًا مَجْهُولٌ وَلَكِنَّهُ صَحَابِيُّ قَوْلُهُ : ( لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ ) لِأَنَّهَا إنَّمَا ضُرِبَتْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِيَكُونَ بِهَا حَقْنُ الدِّمَاءِ وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ , وَالْمُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ قَدْ صَارَ مُحْتَرَمَ الدَّمِ وَالْمَالِ قَوْلُهُ : ( عُشُورٌ ) هِيَ جَمْعُ عُشْرٍ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ : أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الزَّكَاةِ مِنْ الضَّرَائِبِ . وَالْمَكْسِ وَنَحْوهِمَا . قَالَ فِي الْقَامُوسِ : عَشَرَهُمْ يَعْشِرُهُمْ عَشْرًا وَعُشُورًا : أَخَذَ عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ انْتَهَى . وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ : يُرِيدُ عُشُورَ التِّجَارَاتِ دُونَ عُشُورِ الصَّدَقَاتِ . قَالَ : وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعُشُورِ هُوَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يُصَالِحُوا عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْجِزْيَةِ انْتَهَى . وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عُشْرِ مَا يَتَّجِرُونَ بِهِ إذَا كَانَ نِصَابًا , وَكَانَ ذَلِكَ الِاتِّجَارُ بِأَمَانِنَا . وَيُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا . فَإِنْ الْتَبَسَ الْمِقْدَارُ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْعُشْرِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لَهُ :(1/137)
أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ : لَا أَعْمَلُ لَك عَمَلًا حَتَّى تَكْتُبَ لِي عَهْدَ عُمَرَ الَّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكَ , فَكَتَبَ لِي أَنْ تَأْخُذَ لِي مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ رُبْعَ الْعُشْرِ , وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اخْتَلَفُوا لِلتِّجَارَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ , وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ : اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْعُشُورِ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ , وَمِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ , وَمِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ رُبْعَ الْعُشْرِ وَأَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ " كَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ مِنْ الْقِبْطِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ , يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ الْحِمْلَ إلَى الْمَدِينَةِ , وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا فِي السَّنَةِ مَرَّةً لَظَاهِرِ اقْتِرَانِهِ بِرُبْعِ الْعُشْرِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ النِّصَابِ وَالِانْتِقَالِ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ فَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ أَفْعَالِ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ , وَفِعْلُ عُمَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَكِنَّهُ قَدْ عَمَلَ النَّاسُ بِهِ قَاطِبَةً فَهُوَ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَسْلَمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ , وَالْأَصْلُ تَحْرِيمُ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ , وَالْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ . وَقَدْ اسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الْمَنْعَ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حِزَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ " أَدِّبُوا الْخَيْلَ , وَلَا يُرْفَعُ بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ الصَّلِيبُ , وَلَا تُجَاوِرُكُمْ الْخَنَازِيرُ " وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَافِظُ الْحَرَّانِيِّ وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " كُلُّ مِصْرٍ مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ لَا تُبْنَى فِيهِ بِيَعَةٌ وَلَا كَنِيسَةٌ وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ نَاقُوسٌ وَلَا يُبَاعُ فِيهِ لَحْمُ خِنْزِيرٍ " وَفِي إسْنَادِهِ حَنَشٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ " أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ تُجَزَّ نَوَاصِيهِمْ , وَأَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأَكُفِّ عَرَضًا وَلَا يَرْكَبُوا كَمَا يَرْكَبُ الْمُسْلِمُونَ , وَأَنْ يُوَثِّقُوا الْمَنَاطِقَ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي الزَّنَانِيرَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَخْتِمُوا رِقَابَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخَاتَمِ الرَّصَاصِ , وَأَنْ تُجَزَّ نَوَاصِيهِمْ , وَأَنْ تُشَدَّ الْمَنَاطِقُ "
=================
وفي التاج المذهب :(1)
( وَ ) لَهُمْ أَحْكَامٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمُوهَا صَغَارًا لَهُمْ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أُمُورٍ وَيَجُوزُ لِآحَادِ النَّاسِ إلْزَامُهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ يَجِبُ النَّهْيُ إذَا تَكَامَلَتْ الشُّرُوطُ .
__________
(1) - جامع الفقه الإسلامي(1/138)
( الْأَوَّلُ ) مِنْ الثَّمَانِيَةِ الْأُمُورِ أَنَّهُمْ ( لَا يَرْكَبُونَ عَلَى الْأَكُفِّ إلَّا عَرْضًا ) الْإِكَافُ وَالْوِكَافُ هُوَ " الْوِطَافُ " فِي عُرْفِنَا لِلْحِمَارِ بِمَنْزِلَةِ السَّرْجِ لِلْفَرَسِ جَمْعُ الْإِكَافِ أُكُفٌ وَاكِفَّة وَجَمْعُ الْوِكَافِ وُكُفٌ . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْبَغْلِ وَالْبَعِيرِ يُقَالُ وَكَفَتْ الدَّابَّةُ وَأَوْكَفْتُهَا وَضَعْت عَلَيْهَا الْإِكَافَ . وَفِي حُكْمِهَا سَرْجُ الْخَيْلِ وَرَحْلُ الْبَعِيرِ فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ الذِّمِّيُّونَ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَى الْأُكُفِ وَنَحْوِهَا إلَّا عَرْضًا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ رِجْلَاهُ مَعًا مُجْتَمَعَتَيْنِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ الدَّابَّةِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ إكَافٌ وَنَحْوُهُ جَازَ أَنْ يَرْكَبُوا كَيْفَ شَاءُوا . ( وَ ) ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) أَنَّهُمْ ( لَا يُظْهِرُونَ شِعَارَهُمْ ) وَهُوَ صُلْبَانُهُمْ وَكُتُبُهُمْ ( إلَّا فِي الْكَنَائِسِ ) وَالْبِيَعِ لَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا يَضْرِبُونَ نَاقُوسَهُمْ وَبُوقَهُمْ إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا وَلَا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي مَعَابِدِهِمْ وَلَا يَبِيعُونَ الْخَمْرَ وَيُحَدُّونَ لِشَرَابِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ لَا دُونَهُ إلَّا فِي بَيْتِ الْمُسْلِمِ فَيُعَزَّرُ شَارِبُهُ مِنْهُمْ . ( وَ ) ( الْأَمْرُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُمْ ( لَا يُحْدِثُونَ بِيعَةً ) وَلَا كَنِيسَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً يَوْمَ ضَرْبِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ ( وَ ) يُؤْذَنُ ( لَهُمْ فِي تَجْدِيدِ مَا خَرِبَ ) مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِس سَوَاءٌ كَانَ فِي خِطَطِهِمْ أَوْ خِطَطِنَا حَيْثُ هُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَثَمَّةَ مَصْلَحَةٌ . ( وَ ) ( الْأَمْرُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُمْ ( لَا يَسْكُنُونَ فِي غَيْرِ خِطَطِهِمْ ) الَّتِي كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لَهُمْ وَهُمْ سَاكِنُونَ بِهَا وَلَا يَقْبَلُونَ مُهَاجِرًا إلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ ذِمَّتِنَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مِلَّتِهِمْ أَمْ لَا ( إلَّا بِإِذْنِ ) أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ ( الْمُسْلِمِينَ ) وَلَهُمْ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِذْنِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ بِذَلِكَ إلَّا ( لِمَصْلَحَةٍ ) مُرَجِّحَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَصْلَحَةِ التَّرْكِ وَأَمَّا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ وَمَتَى بَطَلَتْ الْمَصْلَحَةُ أُزْعِجُوا مِنْهَا فَوْرًا وَهُدِمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ ; لِأَنَّهَا إنَّمَا فُعِلَتْ تَبَعًا لِلْمَصْلَحَةِ فَإِذَا زَالَ الْمَتْبُوعُ زَالَ التَّابِعُ . ( وَ ) ( الْأَمْرُ الْخَامِسُ ) مِمَّا يَجِبُ إلْزَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُمْ ( لَا يُظْهِرُونَ الصُّلْبَانَ فِي أَعْيَادِهِمْ إلَّا فِي الْبِيَعِ ) الصُّلْبَانُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ صَلِيبٍ وَهُوَ عُودٌ عَلَى شَكْلِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام صُلِبَ عَلَيْهِ فَلِذَا إنَّهُمْ يُقَدِّسُونَ الصَّلِيبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . ( وَ ) ( الْأَمْرُ السَّادِسُ ) أَنَّهُمْ ( لَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ) سَوَاءٌ كَانَتْ عَرَبِيَّةً أَمْ لَا وَلَا الْبِغَالَ ; لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ السِّلَاحِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ . ( وَ ) ( الْأَمْرُ السَّابِعُ ) أَنَّهُمْ ( لَا يَرْفَعُونَ دُورَهُمْ ) الَّتِي أَحْدَثُوا الْبِنَاءَ عَلَيْهَا حَتَّى تَكُونَ أ ( أَعْلَى ) مِنْ ( دُورِ الْمُسْلِمِينَ ) الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ . فَأَمَّا لَوْ كَانُوا نَازِحِينَ عَنْ مُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُمْ التَّطْوِيلُ كَيْفَ شَاءُوا إذْ الْمَمْنُوعُ إحْدَاثُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ بِجَنْبِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ دُونَ بِنَاءِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا رَفَعُوا عَلَيْهِ هُدِمَ وَلَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهُ وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ فَجَائِزَةٌ عَلَى مَفْهُومِ الْأَزْهَارِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ . وَأَمَّا مَا شَرَاهُ الذِّمِّيُّ مُجَاوِرًا لِمُسْلِمٍ وَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ دَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُهْدَمُ . قَالَ فِي رَوْضَةِ النَّوَوِيِّ . مِنْ الْمُهِمَّاتِ أَنْ يُمْنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ إلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ جَازَ لَهُمْ اسْتِطْرَاقُهَا ; لِأَنَّهَا كَإِعْلَائِهِمْ الْبِنَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَبْلَغُ . " قُلْت " وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْمَذْهَبِ . ( وَالْأَمْرُ الثَّامِنُ " وَهُوَ خَاتِمَةُ مَا يَجِبُ إلْزَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي قَوْلِهِ : ( وَيَبِيعُونَ رِقًّا ) ذَكَرًا ( مُسْلِمًا شَرَوْهُ ) أَوْ تَمَلَّكُوهُ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى فِي مِلْكِهِمْ . وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْ مَمَالِيكِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى بَيْعِهِ إلَّا أُمَّ الْوَلَدِ فَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا تُعْتَقُ وَتَسْعَى , وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِالْإِيفَاءِ فَإِنْ عَجَزَ بِيعَ . هَذَا فِي(1/139)
الذُّكُورِ مِنْ مَمَالِيكِهِمْ وَأَمَّا الْأُنْثَى فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُمْ تَمَلُّكُهَا مَعَ إسْلَامِهَا بِالْإِجْمَاعِ . ( وَ ) لَا ( يُعْتَقُ ) الْعَبْدُ ( بِإِدْخَالِهِمْ إيَّاهُ دَارَ الْحَرْبِ قَهْرًا ) مِنْهُمْ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِقَهْرِهِمْ وَأَمَّا إذَا دَخَلَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا يَدَ عَلَيْهِ ثَابِتَةً فَإِنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيُعْتَقُ إذَا نَقَلَ نَفْسَهُ بِنِيَّةِ تَمَلُّكِهَا .
==================
وفي الموسوعة الفقهية :(1)
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2497)(1/140)
23 - إنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ , فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ , وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالُ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لَا عَنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ : { وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ . . . } وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي : أ - مَعَابِدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ : 24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَجِبُ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَّا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجِبُ هَدْمُهُ , فَلَا يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ , وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ , فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا . وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , وَالْأَوْلَى أَلَّا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا , لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) , وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إبْقَائِهَا كَنَائِسَ .
ب - إجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ : 25 - الْأَصْلُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , فَيَقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ , كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِلِ مَعَابِدِهِمْ , وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ(1/141)
بِجَوَازِهَا , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا , أَوْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , أَوْ إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ . وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلَّا يُظْهِرُوهَا وَلَا يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلَّا مُنِعُوا وَعُزِّرُوا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ , فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : " أَلَّا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إلَخْ هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى , فَقَالُوا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ , أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ , وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يَمْنَعُونَ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ إظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ .
================
وقال ابن العربي : (1)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } : قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } يَعْنِي فِي الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا بِالتَّوْحِيدِ , بِدَلِيلِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ : أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ } . وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ , وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ , وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ , كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا [ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ ] فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَمْ لَا ؟
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 295)(1/142)
فَقَالَ مَالِكٌ , وَابْنُ الْقَاسِمِ , وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ , وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ . فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ هَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ , وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ; وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ , وَيَبْقَى قَتْلُ غَيْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا , فَهَمَّ عُمَرُ بِهِ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرُدَّ عليه السلام إلَّا بِالْعِلَّةِ الَّتِي خَصَّصَهَا بِحَاطِبٍ . قُلْنَا : إنَّمَا قَالَ عُمَرُ : إنَّهُ يُقْتَلُ لِعِلَّةِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ , فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ فَإِنَّمَا يُوجِبُ عُمَرُ قَتْلَ مَنْ نَافَقَ , وَنَحْنُ لَا نَتَحَقَّقُ نِفَاقَ فَاعِلِ مِثْلِ هَذَا , لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَافَقَ , وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : يَا حَاطِبُ ; أَنْتَ كَتَبْت الْكِتَابَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَأَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ , وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فَلَمْ يَكْذِبْ } , وَصَارَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً , وَقَالَ : أَرَدْت بِهِ كَذَا وَكَذَا لِلنِّيَّةِ الْبَعِيدَةِ الصِّدْقِ , وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى فِيهِ النِّيَّةَ الْبَعِيدَةَ لَمْ يُقْبَلْ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْجَارُودِ سَيِّدَ رَبِيعَةَ أَخَذَ دِرْبَاسًا وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ , فَصَلَبَهُ فَصَاحَ يَا عُمَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَيْهِ , فَلَمَّا جَاءَ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَعَلَا بِهَا لِحْيَتَهُ , وَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا دِرْبَاسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ ; إنَّهُ كَاتَبَ الْعَدُوَّ , وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ , فَقَالَ : قَتَلْته عَلَى الْهَمِّ , وَأَيُّنَا لَا يَهُمُّ . فَلَمْ يَرَهُ عُمَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ , وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَ اجْتِهَادَ ابْنِ الْجَارُودِ فِيهِ , لِمَا رَأَى مِنْ خُرُوجِ حَاطِبٍ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كُلِّهِ . وَلَعَلَّ ابْنَ الْجَارُودِ إنَّمَا أَخَذَ بِالتَّكْرَارِ فِي هَذَا ; لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ . وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ , وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا أَنْ يَتَعَاهَدَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { أَتَى بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ , فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ , فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ; أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ , وَمِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ } .
=================
وفي المغني :(1)
( 7685 ) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
__________
(1) -المغني - (ج 21 / ص 252)(1/143)
; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ جَاسُوسًا , أَوْ مُتَلَصِّصًا , فَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ , سُئِلَ , فَإِنْ قَالَ : جِئْت رَسُولًا . فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ , وَلَمْ تَزَلْ الرُّسُلُ تَأْتِي مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمَانٍ . وَإِنْ قَالَ : جِئْت تَاجِرًا . نَظَرْنَا ; فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ , قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا , وَحُقِنَ دَمُهُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِدُخُولِ تُجَّارِهِمْ إلَيْنَا وَتُجَّارِنَا إلَيْهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ , لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ; لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تُحَصَّلُ بِغَيْرِ مَالٍ . وَكَذَلِكَ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ , إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رِسَالَةٌ يُؤَدِّيهَا , أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ رَسُولًا . وَإِنْ قَالَ : أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ . فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا , يُقْبَلُ , تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ , كَمَا يُقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ وَالتَّاجِرِ . وَالثَّانِي , لَا يُقْبَلُ ; لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُمْكِنَةٌ . فَإِنْ قَالَ : مُسْلِمٌ : أَنَا أَمَّنْته . قُبِلَ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ , فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ , كَالْحَاكِمِ إذَا قَالَ : حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ . وَإِنْ كَانَ جَاسُوسًا , خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; كَالْأَسِيرِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ , أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إلَيْنَا فِي مَرْكَبٍ , فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ .
=================
وفي إحكام الأحكام :(1)
قتل الجاسوس الكافر
413 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ { أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَهُوَ فِي سَفَرِهِ , فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ , ثُمَّ انْفَتَلَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ , فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ } , وَفِي رِوَايَةٍ { فَقَالَ : مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ؟ فَقَالُوا : ابْنُ الْأَكْوَعِ فَقَالَ : لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ } .
فِيهِ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ , وَجَوَازِ قَتْلِهِ , وَمَنْ يُشْبِهُهُ مِمَّنْ لَا أَمَانَ لَهُ , وَأَمَّا كَلَامُهُمَا هَهُنَا عَلَى الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ , وَالْمُسْلِمِ : فَلَا تَعَلُّقَ لِلْحَدِيثِ بِهِ , وَفِيهِ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ السَّلَبِ , وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ , لِقَوْلِهِ " فَنَفَّلَنِيهِ " , وَفِي هَذَا ضَعْفٌ مَا , وَفِيهِ دَلِيلٍ - إذَا قُلْنَا بِأَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ , نَعَمْ , إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسَمَّى سَلَبًا , وَالْفُقَهَاءُ ذَكَرُوا صُوَرًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ , وَتَرَدَّدُوا فِي بَعْضِهَا . فَإِنْ كَانَ اسْمُ " السَّلَبِ " مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ مَا مَعَهُ , فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ .
==================
وفي نيل الأوطار :(2)
بَابُ قَتْلِ الْجَاسُوسِ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا
__________
(1) - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - (ج 3 / ص 225)
(2) - نيل الأوطار - (ج 12 / ص 225)(1/144)
3429 - ( عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ { : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ وَهُوَ فِي سَفَرٍ , فَجَلَسَ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ , ثُمَّ انْسَلَّ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اُطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ فَسَبَقْتُهُمْ إلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ , فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد ) . 3430 - ( وَعَنْ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِ , وَكَانَ ذِمِّيًّا , وَكَانَ عَيْنًا لِأَبِي سُفْيَانَ وَحَلِيفًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ , فَمَرَّ بِحَلْقَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ , فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ مِنْكُمْ رِجَالًا نَكِلُهُمْ إلَى إيمَانِهِمْ , مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد , وَتَرْجَمَهُ بِحُكْمِ الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ ) . 3431 - ( وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَالَ : انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا , فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا , حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى الرَّوْضَةِ , فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ , فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ , فَقَالَتْ : مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ , فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ , أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ , فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا , فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ , إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ , وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا , وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ , فَأَحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي , وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ صَدَقَكُمْ , فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ , فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ , فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .(1/145)
حَدِيثُ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ فِي إسْنَادِهِ أَبُو هَمَّامٍ الدَّلَّالُ مُحَمَّدُ بْنُ مُجِيبٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ , وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَلَكِنَّهُ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ سُفْيَانَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ الْبَصْرِيُّ , وَهُوَ مِمَّنْ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ . وَرَوَاهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى الْأَزْرَقُ الْعَبْدَانِيُّ وَكَانَ ثِقَةً قَوْلُهُ : ( أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ , وَسُمِّيَ الْجَاسُوسُ عَيْنًا لِأَنَّ عَمَلَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالرُّؤْيَةِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا كَأَنَّ جَمِيعَ بَدَنِهِ صَارَ عَيْنًا . قَوْلُهُ : ( فَنَفَّلَنِي ) فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَنَفَّلَهُ بِالِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى الْغَيْبَةِ . وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بِلَفْظِ : " فَقَيَّدَ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعَفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الْمَظْهَرِ إذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ " أَدْرِكُوهُ فَإِنَّهُ عَيْنٌ " وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَاسُوسِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهِ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ وَهُوَ بِاتِّفَاقٍ وَأَمَّا الْمُعَاهَدُ وَالذِّمِّيُّ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ . أَمَّا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ فَيَنْتَقِضُ اتِّفَاقًا . وَحَدِيثُ فُرَاتٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ . وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ جَاسُوسُ الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ إذَا كَانَ قَدْ قَتَلَ أَوْ حَصَلَ الْقَتْلُ بِسَبَبِهِ وَكَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً , وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُبِسَ فَقَطْ قَوْلُهُ : ( وَعَنْ فُرَاتٍ ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ : وَهُوَ عِجْلِيٌّ سَكَنَ الْكُوفَةَ وَهَاجَرَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَزَلْ يَغْزُو مَعَهُ إلَى أَنْ قُبِضَ فَنَزَلَ الْكُوفَةَ قَوْلُهُ : ( رَوْضَةَ خَاخٍ ) بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مَنْقُوطَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ قَوْلُهُ : ( ظَعِينَةً ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ : وَهِيَ الْمَرْأَةُ قَوْلُهُ : ( مِنْ عِقَاصِهَا ) جَمْعُ عَقِيصَةٍ : وَهِيَ الضَّفِيرَةُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ , وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى عِقَصٍ قَوْلُهُ : ( مِنْ حَاطِبِ ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ , وَبَلْتَعَةُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ . قَوْلُهُ : ( إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ كَوْنُهُ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ فَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ : لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسِيرَ إلَى مَكَّةَ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ , ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةُ , وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنَّ اسْمَهَا سَارَةُ , وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ اسْمَهَا كَنُودُ , وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى سَارَةُ , وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا أُمُّ سَارَةُ . وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ حَاطِبًا جَعَلَ لَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى ذَلِكَ , وَقِيلَ دِينَارًا وَاحِدًا . وَقِيلَ إنَّهَا كَانَتْ مَوْلَاةَ الْعَبَّاسِ . قَالَ السُّهَيْلِيُّ : كَانَ حَاطِبٌ حَلِيفًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى , وَاسْمُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَمْرُو , وَقِيلَ كَانَ أَيْضًا حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ . وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ " أَمَّا بَعْدُ , يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ يَسِيرُ كَالسَّيْلِ , فَوَاَللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّهُ وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ , فَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَالسَّلَامُ " كَذَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ . وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ مُرْسَلٍ أَنَّ حَاطِبًا كَتَبَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ " إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْغَزْوِ ,(1/146)
وَلَا أُرَاهُ يُرِيدُ غَيْرَكُمْ , وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَكُمْ يَدٌ " قَوْلُهُ : ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ . . . إلَخْ ) هَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ رضوان الله عليهم لَمْ تَقَعْ لِغَيْرِهِمْ , وَالتَّرَجِّي الْمَذْكُورُ قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ لِلْوُقُوعِ . وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْجَزْمِ , وَلَفْظُهُ { إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ } وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا } وَقَدْ اسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ : " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ " فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ وَهُوَ خِلَافُ عَقْدِ الشَّرْعِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْمَاضِي : أَيْ كُلُّ عَمَلٍ كَانَ لَكُمْ فَهُوَ مَغْفُورٌ , وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَقَعْ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَقَالَ : فَسَأَغْفِرُهُ لَكُمْ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَاضِي لَمَا حَسُنَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ بِهِ عُمَرَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي أَمْرِ حَاطِبٍ , وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتِّ سِنِينَ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَيَأْتِي , وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِهِ . وَقِيلَ إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : " اعْمَلُوا " لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ , فَالْمُرَادُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْحَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ مَحْوَ ذُنُوبِهِمْ السَّالِفَةِ , وَتَأَهَّلُوا لَأَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ الذُّنُوبَ اللَّاحِقَةَ إنْ وَقَعَتْ : أَيْ كُلَّ مَا عَمِلْتُمُوهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ كَانَ فَهُوَ مَغْفُورٌ . وَقِيلَ إنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ تَقَعُ إذَا وَقَعَتْ مَغْفُورَةً , وَقِيلَ هِيَ بِشَارَةٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ , وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِمَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ وَأَنَّ عُمَرَ حَدَّهُ , وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ إذَا وَقَعَتْ تَكُونُ مَغْفُورَةً مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ أَنَّهُ قَالَ لِحِبَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ : قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ , يَعْنِي عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ا هـ .
====================
وفي منح الجليل :(1)
وَكُرِهَ التَّطْرِيبُ , وَقَتْلُ عَيْنٍ , وَإِنْ أُمِّنَ وَالْمُسْلِمُ كَالزِّنْدِيقِ , وَقَبُولُ الْإِمَامِ هَدِيَّتَهُمْ , وَهِيَ لَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ بَعْضٍ كقَرَابَةٍ , وَفَيْءٌ إنْ كَانَتْ مِنْ الطَّاغِيَةِ , إنْ لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ
__________
(1) - مختصر خليل - (ج 1 / ص 90)ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 6 / ص 34)(1/147)
( وَكُرِهَ ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ ( التَّطْرِيبُ ) أَيْ التَّغَنِّي بِالتَّكْبِيرِ ( وَقُتِلَ ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ شَخْصٍ ( عَيْنٌ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ جَاسُوسٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُطْلِعُ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَنْقُلُ أَخْبَارَهُمْ إلَيْهِمْ وَهُوَ رَسُولُ الشَّرِّ وَالنَّامُوسُ رَسُولُ الْخَيْرِ إنْ لَمْ يُؤْمَنْ بَلْ ( وَإِنْ ) كَانَ الْجَاسُوسُ ذِمِّيًّا عِنْدَنَا أَوْ حَرْبِيًّا ( أُمِّنَ ) بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ عَيْنًا , وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ , وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهُ عَلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ : وَنُقِلَ عَنْ سَحْنُونٍ إنْ رَأَى الْإِمَامُ اسْتِرْقَاقَهُ فَهُوَ لَهُ , وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ شَرَّهُ ( وَالْمُسْلِمُ ) الْعَيْنُ ( كَالزِّنْدِيقِ ) أَيْ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَخْفَى الْكُفْرَ فِي تَعَيُّنِ قَتْلِهِ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ بَعْدَ الْإِطْلَاعِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ إنْ أَظْهَرَهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الرِّدَّةِ وَقُتِلَ الْمُسْتَسِرُّ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إلَّا أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا . ( وَ ) جَازَ ( قَبُولُ الْإِمَامِ ) حَقِيقَةً أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ إنْ لَمْ يَكُنْ إمَامٌ ( هَدِيَّتَهُمْ ) إنْ كَانَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ لَا إنْ ضَعُفُوا وَأَشْرَفَ الْإِمَامُ عَلَى أَخْذِهِمْ فَقَصَدُوا التَّوْهِينَ بِهَا قَالَهُ فِي الشَّامِلِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْهَدِيَّةُ ( لَهُ ) أَيْ الْإِمَامِ خَاصَّةً ( إنْ كَانَتْ ) الْهَدِيَّةُ ( مِنْ بَعْضٍ ) مِنْ الْحَرْبِيِّينَ لِلْإِمَامِ ( لِكَقَرَابَةٍ ) بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَوْ مُكَافَأَةٍ لَهُ أَوْ لِرَجَاءِ بَدَلِهَا أَوْ نَحْوِهَا , وَسَوَاءٌ دَخَلَ بَلَدَ الْعَدُوِّ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَعْضٍ لِلْإِمَامِ لَا لِكَقَرَابَةٍ فَفَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِلَا تَخْمِيسٍ إنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِ بَلَدِهِمْ وَإِلَّا فَغَنِيمَةٌ . وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ لَهُ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَعْضٍ لِغَيْرِهِ لِكَقَرَابَةٍ فَيَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ بِالْأَوْلَى مِنْ الْإِمَامِ دَخَلَ بَلَدَهُمْ أَمْ لَا , وَيَبْعُدُ كَوْنُهَا مِنْ بَعْضٍ لِمُسْلِمٍ غَيْرِ الْإِمَامِ لَا لِكَقَرَابَةٍ وَانْظُرْ مَا حُكْمُهَا إنْ اتَّفَقَتْ . ( وَ ) هِيَ ( فَيْءٌ ) أَيْ لِمَصَالِحِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ( إنْ كَانَتْ ) الْهَدِيَّةُ ( مِنْ الطَّاغِيَةِ ) أَيْ مَلِكِهِمْ لِلْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ قَبْلُ وَلِقَوْلِهِ ( إنْ لَمْ يَدْخُلْ ) الْإِمَامُ ( بَلَدَهُ ) أَيْ الْعَدُوِّ كَانَتْ لِقَرَابَةٍ أَمْ لَا , فَإِنْ دَخَلَ بَلَدَهُ فَغَنِيمَةٌ كَانَتْ لِكَقَرَابَةٍ أَمْ لَا , وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ مُرَاعَاةِ كَوْنِ هَدِيَّةِ الطَّاغِيَةِ لِكَقَرَابَةٍ كَوْنُ الْغَالِبِ فِيهَا الْخَوْفَ مِنْ الْمَلِكِ وَجَيْشِهِ , فَلِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ قَالَهُ أَحْمَدُ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ عج دُونَ مَا لِجَدِّهِ , وَأَرَادَ بِالطَّاغِيَةِ هُنَا مَلِكُ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا . وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَلِكَ الرُّومِ خَاصَّةً , وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَدِيَّةِ الطَّاغِيَةِ لِبَعْضِ الْجَيْشِ وَهِيَ لَهُ إنْ كَانَتْ لِكَقَرَابَةٍ دَخَلَ الْإِمَامُ بَلَدَ الْعَدُوِّ أَمْ لَا . فَإِنْ كَانَتْ لِوَجَاهَةٍ وَنَفَاذِ كَلِمَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ فَيُفَصَّلُ فِيهَا تَفْصِيلُ الْهَدِيَّةِ لِلْإِمَامِ مِنْ الطَّاغِيَةِ أَفَادَهُ عب . وَاَلَّذِي فِي حَاشِيَةِ جَدَّ عج وَارْتَضَاهُ أَبُو زَيْدٍ الْفَاسِيُّ إنَّمَا فَرَّقَ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ كَوْنِهَا لِقَرَابَةٍ , أَوْ غَيْرِهَا إذَا دَخَلَ بَلَدَهُمْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَهِيَ فَيْءٌ كَانَتْ مِنْ الطَّاغِيَةِ أَوْ غَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ وَهِيَ فَيْءٌ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ بَعْضٍ لِكَقَرَابَةٍ وَغَنِيمَةٌ إنْ كَانَتْ مِنْ الطَّاغِيَةِ لَوَفَى بِهَذَا . ا هـ . وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ الْحَطّ .
================
وفي كشاف القناع :(1)
( وَلَا يَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ وَلَا يَحْمِلُوا السِّلَاحَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَلَّمُوا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم )
قَالَ مُهَنًّا : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ غُلَامًا مَجُوسِيًّا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ : إنْ أَسْلَمَ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَأَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قُلْتُ فَيُعَلِّمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَعَمْ .
( وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْعَرَبِيَّةَ ) لِاشْتِرَاطِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي كِتَابِهِمْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ وَأَمْرُ عُمَرَ أَنْ يُكْتَبَ لَهُمْ قَالُوا فِيهِ : " وَلَا نَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِمْ " .
__________
(1) - كشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 8 / ص 320)(1/148)
( وَ ) يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مُنْكَرٍ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ ( وَ ) مِنْ ( إظْهَارِ ضَرْبِ نَاقُوسٍ وَرَفْعِ صَوْتِهِمْ بِكِتَابِهِمْ , أَوْ ) صَوْتِهِمْ ( عَلَى مَيِّتٍ وَإِظْهَارِ عِيدٍ وَصَلِيبٍ ) ; لِأَنَّ فِي شُرُوطِهِمْ لِابْنِ غَنْمٍ " وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا فِي جَوْفِ كَنَائِسنَا وَلَا نَظْهَرُ عَلَيْهَا وَلَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ , وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا , فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبًا , وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نُخْرِجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ وَلَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْجَنَائِزِ وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا "
================
وفي الموسوعة الفقهية : (1)
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ :
4 - مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُمْ يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَإِذَا لَبِسُوا الْقَلَانِسَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْقَلَانِسِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ بِتَمْيِيزِهَا بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ لُبْسِ الْقَلَانِسِ الصِّغَارِ , وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوِيلَةً مِنْ كِرْبَاسَ مَصْبُوغَةً بِالسَّوَادِ مَضْرَبَةً مُبَطَّنَةً وَهَذَا فِي الْعَلَامَةِ أَوْلَى . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِلْزَامِهِمْ لُبْسَ الْقَلَانِسِ الطَّوِيلَةِ الْمَضْرَبَةِ وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ , أَيْ تَكُونُ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا . وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ : إنْ لَبِسُوا الْقَلَانِسَ جَعَلُوا . فِيهَا خِرَقًا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعُمَرَ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ فَشَرَطَ أَنْ لَا تَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ . وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ .
============
وفي المغني :(2)
( 7693 ) فَصْلٌ : وَالْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12322)
(2) - المغني - (ج 21 / ص 268)(1/149)
; أَحَدُهَا , مَا لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ إلَّا بِذِكْرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ ; الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ , وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ . فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ . وَفِي مَعْنَاهُمَا تَرْكُ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهُ , فَذِكْرُ الْمُعَاهَدَةِ يَقْتَضِيه . الْقِسْمُ الثَّانِي , مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ , وَهُوَ ثَمَانِي خِصَالٍ , ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ , مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ ذِكْرُ رَبِّهِمْ أَوْ كِتَابِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ بِسُوءٍ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ , مَا فِيهِ إظْهَارُ مُنْكَرٍ , وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ ; إحْدَاثُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا , وَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِكُتُبِهِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِظْهَارُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالضَّرْبُ بِالنَّوَاقِيسِ , وَتَعْلِيَةُ الْبُنْيَانِ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِقَامَةُ بِالْحِجَازِ , وَدُخُولُ الْحَرَمِ , فَيَلْزَمُهُمْ الْكَفُّ عَنْهُ , سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ , فِي جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . الْقِسْمُ الْخَامِسُ , التَّمَيُّزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; لِبَاسِهِمْ , وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ , وَكُنَاهُمْ . أَمَّا لِبَاسُهُمْ , فَهُوَ أَنْ يَلْبَسُوا ثَوْبًا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ الثِّيَابِ , فَعَادَةُ الْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ , وَعَادَةُ النَّصَارَى الْأَدْكَنُ , وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ , وَيَكُونُ هَذَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ , لَا فِي جَمِيعِهَا , لِيَقَعَ الْفَرْقُ , وَيُضِيفُ إلَى هَذَا شَدَّ الزُّنَّارِ فَوْقَ ثَوْبِهِ , إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا , أَوْ عَلَامَةً أُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيًّا , كَخِرْقَةٍ يَجْعَلُهَا فِي عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ , يُخَالِفُ لَوْنُهَا لَوْنَهَا , وَيُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهِ خَاتَمَ رَصَاصٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ جُلْجُلٍ ; لِيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَمَّامِ , وَيَلْبَسُ نِسَاؤُهُمْ ثَوْبًا مُلَوَّنًا , وَيُشَدُّ الزُّنَّارُ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ , وَتُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهَا . وَلَا يُمْنَعُونَ لُبْسَ فَاخِرِ الثِّيَابِ , وَلَا الْعَمَائِمِ , وَلَا الطَّيْلَسَانِ ; لِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَصَلَ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ . وَأَمَّا الشُّعُورُ , فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مَقَادِيمَ رُءُوسِهِمْ , وَيَجُزُّونَ شُعُورَهُمْ , وَلَا يَفْرَقُونَ شُعُورَهُمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَقَ شَعَرَهُ . وَأَمَّا الرُّكُوبُ , فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ; لِأَنَّ رُكُوبَهَا عِزٌّ , وَلَهُمْ رُكُوبُ مَا سِوَاهَا , وَلَا يَرْكَبُونَ السُّرُوجَ وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا ; رِجْلَاهُ إلَى جَانِبٍ وَظَهْرُهُ إلَى آخَرَ ; لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ , بِإِسْنَادِهِ , أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِجَزِّ نَوَاصِي أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَأَنْ يَشُدُّوا الْمَنَاطِقَ , وَأَنْ يَرْكَبُوا الْأُكُفَ بِالْعَرْضِ . وَيُمْنَعُونَ تَقَلُّدَ السُّيُوفِ , وَحَمْلَ السِّلَاحِ وَاِتِّخَاذَهُ . وَأَمَّا الْكُنَى , فَلَا يَكْتَنُوا بِكُنَى الْمُسْلِمِينَ , كَأَبِي الْقَاسِمِ , وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَأَبِي مُحَمَّدٍ , وَأَبِي بَكْرٍ , وَأَبِي الْحَسَنِ , وَشِبْهِهَا , وَلَا يُمْنَعُونَ الْكُنَى بِالْكُلِّيَّةِ , فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِطَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ : يَا أَبَا إسْحَاقَ . وَقَالَ : أَلَيْسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ : " أَمَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُو الْخَبَّابِ ؟ { . وَقَالَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ : أَسْلِمْ أَبَا الْحَارِثِ } . وَقَالَ عُمَرُ لِنَصْرَانِيٍّ : يَا أَبَا حَسَّانَ , أَسْلِمْ تَسْلَمْ .
=================
وفي التاج والإكليل :(1)
( وَمُنِعَ رُكُوبُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالسُّرُوجِ وَجَادَّةِ الطَّرِيقِ )
ابْنُ عَرَفَةَ : السِّيرَةُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْوَفَاءُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ . ابْنُ شَاسٍ : يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ رُكُوبَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ النَّفِيسَةِ لَا الْحَمِيرُ وَلَا يَرْكَبُونَ السُّرُوجَ بَلْ عَلَى الْأَكُفِّ عَرْضًا . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا لَقِيتُمُوهُمْ بِطَرِيقٍ فَالْجِئُوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا . قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ ( وَأُلْزِمَ بِلُبْسٍ يُمَيَّزُ بِهِ وَعُزِّرَ لِتَرْكِ الزُّنَّارِ ) سَحْنُونَ : تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَيُؤَدَّبُونَ عَلَى تَرْكِ الزَّنَانِيرِ .
===============
وفي المدخل :(2)
وَمِنْهَا السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ
__________
(1) -مختصر خليل - (ج 1 / ص 94) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 5 / ص 261) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 10 / ص 149) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 6 / ص 149)
(2) - المدخل - (ج 1 / ص 455)(1/150)
فَمِنْهَا الْبَيْعُ , وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رحمه الله جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَهِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَك مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَكُمَا , وَقَدْ مُنِعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظُ الْبَيْعِ , وَالشِّرَاءِ , وَلَوْ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَطْ , وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ مَنْ سَبَّلَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ , وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ , ثُمَّ دَخَلَ لِيَسْقِيَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ لَجَازَ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ , وَمَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ , أَوْجَبُ . الثَّانِي : أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ : الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ . الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ . الرَّابِعُ : أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ بِقَدَمِهِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ حُفَاةً وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَأَقْدَامُهُمْ مُتَنَجِّسَةٌ . الْخَامِسُ : إنْ كَانَ لَهُ نَعْلٌ فَلَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ , أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ دُونَ شَيْءٍ يُكِنُّهُ ; لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ , فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى وَقَعَ فِي الْمَسْجِدِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ لَهُ لِمَا ذُكِرَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَيْنَ يَضَعُ نَعْلَهُ حِينَ صَلَاتِهِ , وَلَوْ تَحَفَّظَ النَّاسُ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَفَّظُونَ لَمَا احْتَاجُوا إلَى بِدْعَةِ السَّجَّادَةِ , وَالْحُصُرِ . وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا , فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي السَّقَّاءِ فَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بَلْ الْمَنْعُ عَامٌّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَحَيْثُ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ , وَمِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ حَلَقَاتٍ كُلُّ حَلْقَةٍ لَهَا كَبِيرٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الذِّكْرِ , وَالْقِرَاءَةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِكْرًا , أَوْ قِرَاءَةً لَكِنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَالذَّاكِرُ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , بَلْ يَقُولُ : لَا يِلَاهَ يِلَّلَّهُ فَيَجْعَلُونَ عِوَضَ الْهَمْزَةِ يَاءً وَهِيَ أَلِفُ قَطْعٍ جَعَلُوهَا وَصَلًا , وَإِذَا قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُطُّونَهَا وَيُرْجِعُونَهَا حَتَّى لَا تَكَادُ تُفْهَمُ , وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَزِيدُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِحَسَبِ تِلْكَ النَّغَمَاتِ , وَالتَّرْجِيعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ , وَالْهُنُوكَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ , ثُمَّ فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقَارِئَ يَبْتَدِئُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , وَالْآخَرُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ , أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَهُ فَيُسْكِتُونَ الْقَارِئَ , أَوْ يَهُمُّونَ بِذَلِكَ , أَوْ يَتْرُكُونَ هَذَا فِي شِعْرِهِ , وَهَذَا فِي قِرَاءَتِهِ لِأَجْلِ تَشَوُّقِ بَعْضِهِمْ لِسَمَاعِ الشَّعْرِ وَتِلْكَ النَّغَمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ أَكْثَرَ , فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ اللَّعِبِ فِي الدِّينِ أَنْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُنِعَتْ فَكَيْفَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ , ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ , بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اجْتِمَاعَ النِّسَاءِ , وَالرِّجَالِ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ مُخْتَلَطِينَ بِاللَّيْلِ , وَخُرُوجَ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الزِّينَةِ , وَالْكِسْوَةِ , وَالتَّحَلِّي , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ , وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مُؤَخَّرِ الْجَامِعِ وَبَعْضُ النِّسَاءِ يَسْتَحْيِنِ أَنْ يَخْرُجْنَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ فَيَدُورُ عَلَيْهِنَّ إنْسَانٌ بِوِعَاءِ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَيُعْطِينَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا , أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ , ثُمَّ يَعُودُ كَذَلِكَ مِرَارًا , وَالْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وِعَاءٍ حَرَامٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ , وَالشَّنَاعَةِ وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجَ إلَى سِكَكِ الطُّرُقِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا , ثُمَّ يَأْتِي النَّاسُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيَمْشُونَ إلَى الْجَامِعِ فَتُصِيبُ أَقْدَامَهُمْ النَّجَاسَةُ , أَوْ نِعَالَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيُلَوِّثُونَهُ . وَدُخُولُ(1/151)
النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ فِيهَا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْإِثْمِ , وَقَدْ وَرَدَ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهَا خَطِيئَةٌ هَذَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ بِاتِّفَاقٍ فَكَيْفَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا , وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا يَوْمًا مَعَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيِّ رحمه الله تعالى وَكَانَ مِنْ جُلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ , وَالْأَكَابِرِ فِي الْعِلْمِ , وَالدِّينِ وَهُوَ شَيْخُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْقَرَوِيَّيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ شَيْخُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ , وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ شُبَّاكٌ فِيهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَتَنَخَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيُّ رحمه الله وَتَرَكَ النُّخَامَةَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُلْقِهَا حَتَّى قَامَ وَمَشَى خُطْوَتَيْنِ وَأَخْرَجَ فَمَهْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَحِينَئِذٍ أَلْقَاهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ . قَالَ : فَقُلْت لَهُ : لِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَنْتَ جَالِسٌ بِمَوْضِعِك ; لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا خَارِجَ الْمَسْجِدِ . فَقَالَ لِي : إنَّ النُّخَامَةَ إذَا خَرَجَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ الْبُصَاقِ , وَلَوْ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ , أَوْ دُونَهُ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ , وَذَلِكَ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ , وَذَلِكَ خَطِيئَةٌ فَقُمْت ; لَأَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ , فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى احْتِرَازِ هَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ فِيمَا فَعَلَ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ إلَى ضِدِّهَا فَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا وَبَصِيرَةً رَأَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثالث
ذكر الخلاصة في أحكام أهل الذمة ، من الموسوعة الفقهية
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ وَحَقُّ آلِ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 41)(1/152)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ : " أَنْفَالٌ " " وَغَنِيمَةٌ " " وَفَيْءٌ " . حَقُّ آلِ الْبَيْتِ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ : 14 - لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ : أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْغَانِمِينَ , وَالْخَامِسُ لِمَنْ ذُكِرُوا فِي قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ . لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَصْرِفِ الْخُمُسِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام , فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , إنَّ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ الْخَامِسَ يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ . الْأَوَّلُ : سَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْآيَةِ , وَلَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ , بَلْ يُصْرَفُ بَعْدَهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَارَةِ الثُّغُورِ وَالْمَسَاجِدِ . وَالثَّانِي : سَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى , وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ , دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ , لِاقْتِصَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْأَوَّلِينَ مَعَ سُؤَالِ بَنِي الْآخَرِينَ , وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ لَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ . وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ , وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . وَيُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى , كَالْإِرْثِ . وَحَكَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ . وَالْأَسْهُمُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَقَّهُ بِحُصُولِ النُّصْرَةِ , فَيَكُونُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي النُّصْرَةِ . وَعَنْهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ . وَالْفَيْءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , يُخَمَّسُ , وَمَصْرِفُ الْخُمُسِ مِنْهُ كَمَصْرِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ . وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ , وَيَكُونُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ الْخُمُسَ الَّذِي لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إلَخْ يُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى , وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ , وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ . وَيَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ , يُعْطَوْنَ كِفَايَتَهُمْ , وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ . وَذَوُو الْقُرْبَى الَّذِينَ يُدْفَعُ إلَى فُقَرَائِهِمْ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَالْفَيْءُ لَا يُخَمَّسُ عِنْدَهُمْ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا وَالرِّكَازِ وَالْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَعُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَحَلُّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَارِفِهِ , بِاجْتِهَادِهِ , فَيَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِآلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام اسْتِحْبَابًا , ثُمَّ يَصْرِفُ لِلْمَصَالِحِ الْعَائِدِ نَفْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ . وَالْفَيْءُ لَا يُخَمَّسُ عِنْدَهُمْ . وَالْآلُ الَّذِينَ يَبْدَأُ بِهِمْ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ . .
اخْتِلَافُ الدَّارِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 684)(1/153)
1 - الدَّارُ لُغَةً : الْمَحَلُّ . وَتَجْمَعُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ , وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْبَلْدَةِ . وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّوْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمَا الشَّخْصَانِ . فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ شَيْئًا ; لِأَنَّ دِيَارَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ السَّرَخْسِيُّ : " أَهْلُ الْعَدْلِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَحْكَامٍ , فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمَلِكِ لَا تَتَبَايَنُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ يَجْمَعُهُمْ " . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ , إلَّا مَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ : إنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَرِثُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِنَا , أَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا بِدَارِ الْحَرْبِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَقَوْلُ الْعَتَّابِيِّ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً . فَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْوِلَايَةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } , فَلَمَّا كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُمَا مُنْتَفِيَةً كَانَ الْمِيرَاثُ مُنْتَفِيًا ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَلَى الْوِلَايَةِ . فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ حُكْمَ الْهِجْرَةِ قَدْ نُسِخَ . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } . قَالَ السَّرَخْسِيُّ : " فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ فَلَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ , وَلَكِنْ دَارُ قَهْرٍ . فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمَلِكِ تَخْتَلِفُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَبِتَبَايُنِ الدَّارِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ , لِأَنَّهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِينَا , فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي مَنَعَةِ مَلَكِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِأَمَانٍ " . أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلِذَا فَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي الدَّارِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ . أَمَّا الْحَرْبِيُّونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ دُورَهُمْ قَدْ تَتَّفِقُ وَقَدْ تَخْتَلِفُ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ شَارِحًا مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ : " اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ أَيْ الْعَسْكَرِ , وَاخْتِلَافُ الْمَلِكِ , كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَلِكَيْنِ فِي الْهِنْدِ , وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ , وَالْآخَرُ فِي التُّرْكِ , وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ أُخْرَى , وَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَسْتَحِلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِتَالَ الْآخَرِ . فَهَاتَانِ الدَّارَانِ مُخْتَلِفَتَانِ , فَتَنْقَطِعُ بِاخْتِلَافِهِمَا الْوِرَاثَةُ ; لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الْعِصْمَةِ وَالْوِلَايَةِ . أَمَّا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاصُرٌ وَتَعَاوُنٌ عَلَى أَعْدَائِهِمَا كَانَتْ الدَّارُ وَالْوِرَاثَةُ ثَابِتَةً " : ( وَانْظُرْ : دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ ) . وَدَارُ الْإِسْلَامِ مُخَالِفٌ لِدَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاصُرٌ وَتَعَاوُنٌ .
أَنْوَاعُ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 685)(1/154)
2 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : قَدْ تَخْتَلِفُ الدَّارَانِ حَقِيقَةً فَقَطْ , أَوْ حُكْمًا فَقَطْ , أَوْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا : فَاخْتِلَافُهُمَا حَقِيقَةً فَقَطْ , كَمُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِهِمْ , فَإِنَّ الدَّارَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ حَقِيقَةً لَكِنْ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا . فَهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا . وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا حُكْمًا فَكَمُسْتَأْمَنٍ وَذِمِّيٍّ فِي دَارِنَا , فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا فِي دَارَيْنِ حُكْمًا ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا , لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ . وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَكَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِمْ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِنَا . وَكَالْحَرْبِيِّينَ فِي دَارَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ . هَذَا وَإِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ بَيْنَ كَافِرٍ وَكَافِرٍ يَسْتَتْبِعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً نَعْرِضُ جُمْلَةً مِنْهَا فِيمَا يَلِي : التَّوَارُثُ : 3 - اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا فَقَطْ , أَوْ حُكْمًا وَحَقِيقَةً , أَحَدُ مَوَانِعِ التَّوَارُثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يَرِثُ الذِّمِّيُّ حَرْبِيًّا وَلَا مُسْتَأْمَنًا , وَلَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا وَلَوْ اتَّفَقَ دِينُهُمَا , وَلَا يَرِثُ الْحَرْبِيُّ حَرْبِيًّا إنْ اخْتَلَفَتْ دَارَاهُمَا . وَيَثْبُتُ التَّوَارُثُ بَيْنَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فِي دَارِنَا إنْ كَانَا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ , كَمَا يَثْبُتُ بَيْنَ مُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِهِمْ لِاتِّحَادِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا تَوَارُثَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَحَرْبِيٍّ , أَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهِدُ فَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , لِلْقُرْبِ بَيْنَهُمْ وَلِعِصْمَتِهِمْ بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانِ , كَالذِّمِّيِّ , فَيَرِثَانِ الذِّمِّيَّ وَيَرِثُهُمَا , وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَحَدِهِمَا وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّينَ . وَفِي قَوْلٍ آخَرَ : الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهِدُ كَالْحَرْبِيِّ . أَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ , وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ وَلَمْ نَجِدْهُمْ صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا اطَّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِمْ - فَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ التَّوَارُثَ مَا دَامَتْ الْمِلَلُ مُتَّفِقَةً . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : إنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَرِثُ ذِمِّيًّا , وَلَا الذِّمِّيُّ حَرْبِيًّا , فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَيَرِثُهُ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَيَرِثُ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ دِيَارُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ .
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ (1):
51 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً يَرِثُ جَمِيعَ مَالِ مَنْ أَعْتَقَهُ أَوْ الْبَاقِيَ مِنْهُ إذَا اتَّفَقَا فِي الدِّينِ , وَلَمْ يَخْلُفْ الْعَتِيقُ مَنْ يَرِثُهُ , أَوْ خَلَفَ مَنْ يَرِثُ الْبَعْضَ . أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا , وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ إلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْكَافِرَ بِالْوَلَاءِ وَعَكْسِهِ .
( وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) :
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/155)
52 - عَقْدُ الْمُوَالَاةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ . فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ ( عَاقَدَتْ ) فَالْآيَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ { تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ } فَقَوْلُهُ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَاهُمْ بِمِيرَاثِهِ , إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَهُمَا وِلَايَةٌ إلَّا فِي الْمِيرَاثِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ : مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : إذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِمَنْ وَالَاهُ . وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً . وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا , وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ , وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ مَعَ ذِي رَحِمٍ شَيْئًا , وقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَنْسُوخٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ : نَسَخَتْهَا { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَالَ مُجَاهِدٌ : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أَيْ مِنْ الْعَقْلِ - الدِّيَةِ - وَالنُّصْرَةِ وَالرِّفَادَةِ . وَلَيْسَ هَذَا بِوَصِيَّةٍ , لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُشَارِكُ فِي دِيَةٍ , فَلَهُ الرُّجُوعُ
الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/156)
2 - لَمَّا كَانَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ مَنْبَتَ الْإِسْلَامِ وَعَرِينَهُ , وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ , فَقَدْ اُخْتُصَّتْ عَنْ سَائِرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهَا لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّالِثِ : أَنَّهَا لَا يَبْقَى فِيهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّابِعِ : أَنَّهَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا خَرَاجٌ . وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي . مَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ : 3 - وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى الْأَرْضِ الَّتِي يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : { بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ , إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ , فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ , فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ , أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا . فَقَالُوا : بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ . فَقَالَ : ذَلِكَ أُرِيدُ . ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ . فَقَالُوا : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ . ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ . فَقَالَ : اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ , فَمَنْ وَجَدَ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ , وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , عَلَى أَقْوَالٍ : 4 - الْأَوَّلِ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , أَنَّ الْكُفَّارَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا , أَخْذًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا : حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إلَّا مُسْلِمًا } . وَحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ : { آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : { لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } , وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : " لَا يُمَكَّنُونَ - يَعْنِي أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْعَرَبِ وَقُرَاهَا , بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا . " وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ " فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ : يُمْنَعُونَ مِنْ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : قَوْلَهُ : لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ , أَفَادَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا , بَلْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا كَذَلِكَ , كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ " . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ : أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا , فَقَالَ مَالِكٌ : يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ . 5 - الرَّأْيُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , أَنَّ الْمُرَادَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَيْسَ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ ( جَزِيرَةُ الْعَرَبِ ) فِي اللُّغَةِ , بَلْ أَرْضُ الْحِجَازِ خَاصَّةً . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ , قَالَ : { آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِي الْمُوَطَّأِ : قَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ وَلَا مِنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ . وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الْأَرْضِ , فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الْأَرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ , ثُمَّ(1/157)
أَعْطَاهُمْ الْقِيمَةَ وَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا . وَقَدْ خَصَّصُوا عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى السَّابِقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ , وَبِفِعْلِ عُمَرَ فِي مَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : فَأَمَّا إخْرَاجُ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْهُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا , فَنَقَضُوا عَهْدَهُ . فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ . وَلَا يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ كَتَيْمَاءَ وَفَيْدٍ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إنْ سَأَلَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ , عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا , لِأَنَّ تَرْكَهُمْ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ مَنْسُوخٌ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَى عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ عَامَلَهُمْ فَقَالَ : { نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ } . وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ ذِمِّيٍّ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ " . وَقَالَ : " لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ , وَقَدْ كَانَتْ بِهَا ذِمَّةٌ , وَلَيْسَتْ بِحِجَازٍ , فَلَا يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْيَمَنِ , وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مُقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ " . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ : " يُقَرُّونَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ إلَّا بِالْحِجَازِ , وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَنَجْدُ وَمَخَالِيفُهَا وَالْوَجُّ وَالطَّائِفُ وَخَيْبَرُ مِنْ مَخَالِيفِ الْمَدِينَةِ , وَهَلْ يَدْخُلُ الْيَمَنُ فِي ذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ , إذْ قِيلَ تَنْتَهِي جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ " . وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ الْأَحَادِيثَ فِي إخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , ثُمَّ قَالَ : " لَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَلْ الْحِجَازُ مِنْهَا , لِأَنَّ عُمَرَ أَجْلَاهُمْ مِنْهُ , وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْهَا . وَهُوَ - أَيْ الْحِجَازُ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا , كَالطَّائِفِ وَجَدَّةَ وَخَيْبَرَ , وَيَنْبُعَ " .
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْجُزُرِ (1):
6 - قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ - أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُبُورِ - وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ . وَكَذَا إنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ " . وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْجُزُرَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَاهَا , مَسْكُونَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ . وَقَالَ : قَالَ الْقَاضِي : لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي مَرْكَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , أَيْ إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
دُخُولُ الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ لِغَيْرِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ :
8 - يَرَى الْجُمْهُورُ , وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِحَالٍ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِصُلْحٍ أَوْ إذْنٍ . وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ ( ر : حَرَمٌ ) . وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَمْلِ مَتَاعٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ ) .
9 - وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ - مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَافِرُ إلَّا بِإِذْنٍ أَوْ صُلْحٍ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ . فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ دَخَلَ - أَيْ الذِّمِّيُّ - أَرْضَ الْعَرَبِ لِتِجَارَةٍ جَازَ , وَلَا يُطِيلُ , فَيُمْنَعُ أَنْ يُطِيلَ فِيهَا الْمُكْثَ , حَتَّى يَتَّخِذَ فِيهَا مَسْكَنًا ; لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْمُقَامِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ , كَحَالِهِمْ فِي غَيْرِهَا بِلَا جِزْيَةٍ , وَهُنَاكَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ التِّجَارَةِ , بَلْ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ , فَكَذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ . وَقَدْ قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِسَنَةٍ . قَالَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ : لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ , فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ .
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/158)
10 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الِاجْتِيَازُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي سَفَرِهِمْ لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا , وَإِقَامَةِ الْأَيَّامِ , كَالثَّلَاثَةِ لِمَصَالِحِهِمْ إنْ دَخَلُوهَا لِمَصْلَحَةٍ , كَبَيْعِ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ . قَالَ الصَّاوِيُّ : وَلَيْسَتْ الثَّلَاثَةُ قَيْدًا , بَلْ الْمَدَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْمَصَالِحِ , وَالْمَمْنُوعُ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ . وَعِبَارَةُ الْعَدَوِيِّ عَلَى قَوْلِ الْخَرَشِيِّ : ( وَضَرَبَ لَهُمْ عُمَرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) قَالَ : " الظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الثَّلَاثَةِ إذْ ذَاكَ مَظِنَّةٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ , وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ الْحَاجَةُ تَقْتَضِي أَكْثَرَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ " . قَالَ الصَّاوِيُّ : وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهُمْ الْمُرُورَ عَابِرِينَ وَلَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ . وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ : قَالَ مَالِكٌ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ : يُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ ثَلَاثُ لَيَالٍ , يَسْتَقُونَ وَيَنْظُرُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ , وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
11 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ أَوْسَعُ , قَالُوا : إنْ اسْتَأْذَنَ الْكَافِرُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ أُذِنَ لَهُ إنْ كَانَ دُخُولُهُ لِمَصْلَحَةٍ , كَرِسَالَةٍ وَحَمْلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ , وَكَإِرَادَةِ عَقْدِ جِزْيَةٍ أَوْ هُدْنَةٍ لِمَصْلَحَةٍ . وَهُنَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِهِ . أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ , فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ , لَمْ يَجُزْ الْإِذْنُ لَهُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا , وَبِشَرْطِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْبِضَاعَةِ أَوْ ثَمَنِهَا . وَلَا يُقِيمُ بِالْحِجَازِ حَيْثُ دَخَلَهُ , إلَّا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَأَقَلُّ , غَيْرَ يَوْمَيْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ , اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رضي الله عنه . فَإِنْ أَقَامَ بِمَحَلٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , ثُمَّ بِآخَرَ مِثْلَهَا , وَهَكَذَا , لَمْ يُمْنَعْ , إنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ مَحَلَّيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحِجَازَ مُشْرِكٌ بِحَالٍ , وَلَوْلَا مَا رَأَى عُمَرُ مِنْ أَنَّ أَجَلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَاجِرًا ثَلَاثٌ , لَا يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ , لَرَأَيْت أَنْ لَا يُصَالَحُوا بِدُخُولِهَا بِكُلِّ حَالٍ .
12 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ الْقَاضِي : أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَدُّ مَا يَتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ , وَقَالُوا كَالشَّافِعِيَّةِ : إنْ أَقَامُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى جَازَ .
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُولِ الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ :
17 - لَيْسَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ لِلْإِقَامَةِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ , عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْسِيرِهَا . وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ الْإِقَامَةِ بِهَا . وَحِينَئِذٍ إنْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ , يَبْطُلُ الشَّرْطُ , فَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَيَصِحُّ الْعَقْدُ . لَكِنْ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا الذِّمِّيُّ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا , فِي حُدُودِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ , فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دُخُولُ سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ . كَمَا أَنَّ الْحَرْبِيِّينَ لَا يَدْخُلُونَ سَائِرَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ . وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دُونَ إذْنٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُخْرَجُ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّمَا يُعَزَّرُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ . فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُخْرَجُ وَلَا يُعَزَّرُ , وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الْجَهْلَ . وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْإِذْنَ فِي دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْحِجَازَ .
اسْتِئْمَانٌ (1):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/159)
التَّعْرِيفُ : 1 - الِاسْتِئْمَانُ فِي اللُّغَةِ : طَلَبُ الْأَمَانِ . يُقَالُ : اسْتَأْمَنَهُ : طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ , وَاسْتَأْمَنَ إلَيْهِ : دَخَلَ فِي أَمَانِهِ , وَقَدْ أَمَّنَهُ وَآمَنَهُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : دُخُولُ دَارِ الْغَيْرِ ( أَيْ إقْلِيمِهِ ) بِأَمَانٍ , مُسْلِمًا كَانَ الدَّاخِلُ أَوْ حَرْبِيًّا . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْعَهْدُ : 2 - الْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ : حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمُوثَقِ الَّذِي يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالِاسْتِئْمَانِ : أَنَّ الْعَهْدَ أَعَمُّ مِنْ الِاسْتِئْمَانِ . ب - الذِّمَّةُ : 3 - مِنْ مَعَانِي الذِّمَّةِ فِي اللُّغَةِ : الْعَهْدُ , وَالْأَمَانُ , وَالضَّمَانُ . وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الِاصْطِلَاحِ : إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ , بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ , وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ , أَنَّ عَقْدَ الِاسْتِئْمَانِ مُؤَقَّتٌ , وَعَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ فِي الْأَصْلِ . ج - الِاسْتِجَارَةُ : 4 - الِاسْتِجَارَةُ مِنْ مَعَانِيهَا لُغَةً : طَلَبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَحْمِيَهُ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ . فَالِاسْتِجَارَةُ أَعَمُّ ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ كُلَّ أَحْوَالِ طَلَبِ الْحِمَايَةِ , بِخِلَافِ الِاسْتِئْمَانِ , فَإِنَّهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ وَعَكْسِهِ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 5 - اسْتِئْمَانُ رَايَةٍ أَوْ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ - جَائِزٌ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلَاتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُسْتَأْمَنٌ ) فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ حُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ . كَمَا يَجُوزُ اسْتِئْمَانُ الْمُسْلِمِ لِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ , أَوْ تَبْلِيغِ رِسَالَةٍ , إذَا كَانُوا مِمَّنْ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ . .
تَمَلُّكُ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (1):
18 - تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الرَّمْلِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , فَقَالَ : الصَّوَابُ مَعَ شِرَاءِ الْكَافِرِ أَرْضًا فِي الْحِجَازِ لَمْ يَقُمْ بِهَا ; لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ , كَالْأَوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ , وَآلَاتِ اللَّهْوِ . وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا .
إقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (2):
19 - لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُقَرَّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ , وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَالدَّهْرِيِّينَ , وَنَحْوِهِمْ بِذِمَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا . وَلَكِنْ يَجُوزُ , عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خَاصَّةً , أَنْ يُقِيمَ بِهَا - خَارِجَ الْحِجَازِ - أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ (3):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(2) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(3) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/160)
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ - الْحِجَازَ وَمَا سِوَاهُ - لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا , وَلَا بِيعَةٍ , وَلَا صَوْمَعَةٍ , وَلَا بَيْتِ نَارٍ , وَلَا صَنَمٍ , تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا , وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ كَمَا عَبَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدُنُهَا وَقُرَاهَا وَسَائِرُ مِيَاهِهَا . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحْدَثٍ أَوْ قَدِيمٍ , أَيْ سَابِقٍ عَلَى الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ . وَيُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً . أَمَّا سَائِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَهِيَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : 1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَتْحِ , فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثٌ وَلَا إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعَابِدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . 2 - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْإِحْدَاثُ , وَفِي وُجُوبِ هَدْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . 3 - مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَمْصَارِ , كَالْبَصْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَلَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ . 4 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا , فَلَا يُحْدِثُونَ فِيهَا مَعْبَدًا , إلَّا أَنْ يَكُونَ شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : مَا وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ شَرْطٍ فَعَلَى شُرُوطِ عُمَرَ . 5 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا شَاءُوا لِأَنَّ الْأَرْضَ مِلْكُهُمْ .
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (1):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/161)
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ - أَيْ زَكَوِيَّةٌ - لَا يُؤْخَذُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ - أَيْ الْخَرَاجَ - بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ , فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ , كَمَا لَا تَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ , كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ , وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا مِمَّا كَانَ مَعْمُورًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ كَانَ مَوَاتًا وَأُحْيِيَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ : أَرْضُ الْعَرَبِ مُخَالِفَةٌ لِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . فَإِنْ عَفَا لَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ بِلَادِهِمْ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ . وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ , أَوْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ , أَخَذُوا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ جِزْيَةً , إنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ . وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ تَحْوِيلُ أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ الْعُشْرِ إلَى الْخَرَاجِ . يَقُولُ : أَرْضُ الْحِجَازِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَأَرْضُ الْيَمَنِ , وَأَرْضُ الْعَرَبِ الَّتِي افْتَتَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ بَلَغَنَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ حُصُونًا مِنْ الْأَرْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعُشْرَ , وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجًا } . وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي تِلْكَ الْأَرْضِينَ , أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ وَالْحَرَمَ كَذَلِكَ ؟ أَوَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حُكْمُهُمْ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ , وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ؟ وَهَذَا خِلَافُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ أَرْضُ الْعَرَبِ . وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُرَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , الْخَرَاجَ عَلَى رِقَابِهِمْ - وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا . فَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهَا خَرَاجًا , وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعُشْرَ فِي السَّيْحِ , وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الدَّالِيَةِ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , فَإِنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ : الْأَوَّلُ مَا سِوَى الْحِجَازِ , وَالثَّانِي الْحِجَازُ . فَمَا سِوَى الْحِجَازِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبِلَادِ . وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ , أَنَّ أَرْضَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ :
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ .
2 - مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ .
3 - مَا فُتِحَ عَنْوَةً , وَلَمْ يَقِفْهُ الْإِمَامُ , بَلْ قَسَمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ .
4 - مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , فَيُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجٌ , وَهُوَ قِسْمَانِ . الْأَوَّلُ : مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْهُ , فَيَكُونُ خَرَاجُهُ أُجْرَةً , لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ . فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ خَرَاجُهُ جِزْيَةً , تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ , فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .(1/162)
23 - أَمَّا أَرْضُ الْحِجَازِ فَقَدْ لَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَلَامَهُمْ فِيهَا فَقَالَ : أَرْضُ الْحِجَازِ تَنْقَسِمُ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِهَا قِسْمَيْنِ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : صَدَقَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي أَخَذَهَا بِحَقَّيْهِ , فَإِنَّ أَحَدَ حَقَّيْهِ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ , وَالْحَقُّ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ , مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ , فَمَا صَارَ إلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , وَتَرَكَ بَاقِيَهُ لِنَفَقَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى مَاتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفَ فِي حُكْمِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ , فَجَعَلَهُ قَوْمٌ مَوْرُوثًا عَنْهُ , وَمَقْسُومًا عَلَى الْمَوَارِيثِ مِلْكًا , وَجَعَلَهُ آخَرُونَ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ , فِي حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ , مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ , مَصْرُوفَةُ الِارْتِفَاعِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ . ثُمَّ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانٍ . الْقِسْمُ الثَّانِي : سَائِرُ أَرْضِ الْحِجَازِ مَا عَدَا مَا ذُكِرَ , وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا مَا بَيْنَ مَغْنُومٍ مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ , أَوْ مَتْرُوكٍ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ . وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عُشْرِيٌّ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ . وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ , وَافَقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - وَقَدَّمَهَا - فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ , أَنَّهَا لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ .
حِمَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (1)
24 - يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْحِجَازِ , مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ ; لِيَكُونَ فِيهِ عُشْرٌ أَوْ خَرَاجٌ . فَقَدْ حَمَى الْبَقِيعَ ( وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ : النَّقِيعَ , بِالنُّونِ ) لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ , صَعِدَ جَبَلًا وَقَالَ : هَذَا حِمَايَ : وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْقَاعِ , وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ إلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ . فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : حِمَاهُ صلى الله عليه وسلم ثَابِتٌ , وَإِحْيَاءُ مَا حَمَاهُ بَاطِلٌ . وَالْمُتَعَرِّضُ لِإِحْيَائِهِ مَرْدُودٌ مَزْجُورٌ , وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , أَنَّهُ إنْ زَالَتْ حَاجَةٌ إلَى حِمَى مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفِي جَوَازِ إحْيَائِهِ قَوْلَانِ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى اسْتِمْرَارِ مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ انْقِضَائِهِ . وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ نَقْضِهِ إنْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ .
اسْتِسْقَاءٌ (2)
1 - الِاسْتِسْقَاءُ لُغَةً : طَلَبُ السُّقْيَا , أَيْ طَلَبُ إنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ . وَالِاسْمُ : السُّقْيَا بِالضَّمِّ , وَاسْتَسْقَيْت فُلَانًا : إذَا طَلَبْت مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَك . وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلِاسْتِسْقَاءِ هُوَ : طَلَبُ إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْ اللَّهِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
صِفَتُهُ ( حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ )
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1002)(1/163)
2 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الِاسْتِسْقَاءُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ , سَوَاءٌ أَكَانَ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ أَمْ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ , فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتُهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ بِسُنِّيَّةِ الدُّعَاءِ فَقَطْ , وَبِجَوَازِ غَيْرِهِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ التَّالِيَةُ : الْأَوَّلُ : سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ , إذَا كَانَ لِلْمَحَلِّ وَالْجَدْبِ , أَوْ لِلْحَاجَةِ إلَى الشُّرْبِ لِشِفَاهِهِمْ , أَوْ لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ , سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي حَضَرٍ , أَمْ سَفَرٍ فِي صَحْرَاءَ , أَوْ سَفِينَةٍ فِي بَحْرٍ مَالِحٍ . الثَّانِي : مَنْدُوبٌ , وَهُوَ الِاسْتِسْقَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِي خِصْبٍ لِمَنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَجَدْبٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَلِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ { تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ , إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } . وَصَحَّ : { دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ , عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ . } وَلَكِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ وَالشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَلَّا يَكُونَ الْغَيْرُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ وَبَغْيٍ . وَإِلَّا لَمْ يُسْتَحَبَّ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا ; وَلِأَنَّ الْعَامَّةَ تَظُنُّ بِالِاسْتِسْقَاءِ لَهُمْ حُسْنَ طَرِيقِهِمْ وَالرِّضَى بِهَا , وَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا فِيهَا . مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ احْتَاجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْقَاءَ لَهُمْ فَهَلْ يَنْبَغِي إجَابَتُهُمْ أَمْ لَا ؟ الْأَقْرَبُ : الِاسْتِسْقَاءُ لَهُمْ وَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ . ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : وَلَا يُتَوَهَّمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحُسْنِ حَالِهِمْ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ . وَلَكِنْ تُحْمَلُ إحَابَتُنَا لَهُمْ عَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ , مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ , بِخِلَافِ الْفَسَقَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ . الثَّالِثُ : مُبَاحٌ , وَهُوَ اسْتِسْقَاءُ مَنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَحَلٍّ , وَلَا حَاجَةَ إلَى الشُّرْبِ , وَقَدْ أَتَاهُمْ الْغَيْثُ , وَلَكِنْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ لَكَانَ دُونَ السِّعَةِ , فَلَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ(1/164)
3 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } . كَمَا اسْتَدَلَّ لَهُ بِعَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ , فَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَائِهِ صلى الله عليه وسلم . رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه : { أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي , وَخَشِينَا الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِنَا , فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ . قَالَ الرَّاوِي : مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ , فَارْتَفَعَتْ السَّحَابُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا , ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ . ثُمَّ دَخَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ , وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ , وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ , فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ , فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَلَالَةِ بَنِي آدَمَ . قَالَ الرَّاوِي : وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضْرَاءَ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا , اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ , وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ , وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ . فَانْجَابَتْ السَّمَاءُ عَنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا كَالْإِكْلِيلِ } . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا , وَقَالَ : إنَّ السُّنَّةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ هِيَ الدُّعَاءُ فَقَطْ , مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا خُرُوجٍ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : { شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ , فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى , وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ , قَالَتْ عَائِشَةُ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ , فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ , فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ : إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ , وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ , وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوَهُ , وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ . ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ , اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ , أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ , وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ , ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ , وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ , وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ , فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى , فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ , فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكُنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِزُهُ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ , وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَقَدْ اسْتَسْقَى عُمَرُ رضي الله عنه بِالْعَبَّاسِ , وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّك فَتَسْقِينَا , وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ بِعَمِّ نَبِيِّك فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ . فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا , اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ , يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْك إلَى اللَّهِ تَعَالَى " فَرَفَعَ يَدَيْهِ , وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ . فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنْ الْغَرْبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ , وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ , فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَلَّا يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُمْ .
حِكْمَةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ(1/165)
4 - إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا نَزَلَتْ بِهِ الْكَوَارِثُ , وَأَحْدَقَتْ بِهِ الْمَصَائِبُ فَبَعْضُهَا قَدْ يَسْتَطِيعُ إزَالَتَهَا , وَبَعْضُهَا لَا يَسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ الْوَسَائِلِ , وَمِنْ أَكْبَرِ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ الْجَدْبُ الْمُسَبَّبُ عَنْ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ , الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُلِّ ذِي رَوْحٍ وَغِذَاؤُهُ , وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ إنْزَالَهُ أَوْ الِاسْتِعَاضَةَ عَنْهُ , وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَطِيعُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَشَرَعَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِسْقَاءَ , طَلَبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْإِغَاثَةِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ , وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ .
خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ (1)
27 - فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ : الْأَوَّلُ : وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ : لَا يُسْتَحَبُّ خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , بَلْ يُكْرَهُ , وَلَكِنْ إذَا خَرَجُوا مَعَ النَّاسِ فِي يَوْمِهِمْ , وَانْفَرَدُوا فِي مَكَان وَحْدَهُمْ لَمْ يُمْنَعُوا . وَجُمْلَةُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا , فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْ الْإِجَابَةِ . وَإِنْ أُغِيثَ الْمُسْلِمُونَ فَرُبَّمَا قَالُوا : هَذَا حَصَلَ بِدُعَائِنَا وَإِجَابَتِنَا , وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا , كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَكِنْ يُؤْمَرُونَ بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِعَذَابٍ فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ . وَلَا يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ , فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُولُ الْغَيْثِ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ وَحْدَهُمْ , فَيَكُونُ أَعْظَمَ فِتْنَةً لَهُمْ , وَرُبَّمَا اُفْتُتِنَ غَيْرُهُمْ . الرَّأْيُ الثَّانِي : وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ , وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ , قَالَ بِهِ أَشْهَبُ وَابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَحْضُرُ الذِّمِّيُّ وَالْكَافِرُ الِاسْتِسْقَاءَ , وَلَا يَخْرُجُ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُعَائِهِ . وَالِاسْتِسْقَاءُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ , وَهِيَ لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْخُرُوجِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْقَوْا فَتَفْتَتِنَ بِهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَوَامُّ .
ثَالِثًا : الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ (2):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1019)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1271)(1/166)
12 - الْإِسْرَافُ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ , حَتَّى فِي الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ , فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا , اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْعَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ , حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَيُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ , عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ , وَتُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ , وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , إلَّا إذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ , أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ , أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ الْغَدْرُ وَالْغُلُولُ , وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إنْ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِمْ بِدُونِهَا , وَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ , فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ , وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ } وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ , لقوله تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } . وَلَوْ حَاصَرْنَاهُمْ دَعَوْنَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَسْلَمُوا فِيهَا , وَإِلَّا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ إنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ , فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مِنَّا الْمُعَامَلَةُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ عَلَى حَسْبِ شُرُوطِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَغْلِبَهُمْ عَنْوَةً . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ر : ( جِهَادٌ ) ( وَجِزْيَةٌ ) .
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى (1)
17 - يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إلَى الْإِمَامِ , أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ . وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ , وَقَبْلَ إجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , فِي أَحَدِ أُمُورٍ : فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ , بَيْنَ قَتْلِهِمْ , أَوْ اسْتِرْقَاقِهِمْ , أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ , أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطْ : الْقَتْلِ , وَالِاسْتِرْقَاقِ , وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ , وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ , أَوْ إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ . وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ , وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ , وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ , وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ , وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ , وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ .
18 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ . فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ : وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إلَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْفِدَاءُ . وَتَفْصِيلُهُ فِي ( سَبْيٌ ) . كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ , لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1289)(1/167)
19 - وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ : إنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحُظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ , لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاجْتِهَادِ , وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , إذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ
الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ (1)
44 - إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَوَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْأَسْرِ , أَخَذَ حُكْمَ الْبَاغِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يُقْتَلُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ , وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ إذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ , وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا اسْتَعَانَ الْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ بِذِمِّيٍّ فَلَا يَغْرَمُ الذِّمِّيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ , وَلَا يُعَدُّ خُرُوجُهُ مَعَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ . أَمَّا إنْ كَانَ الْبَاغِي مُعَانِدًا - أَيْ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ - فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي مَعَهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ , وَيَكُونُ هُوَ وَمَالُهُ فَيْئًا . وَهَذَا إنْ كَانَ مُخْتَارًا , أَمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ , وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا يُؤْخَذُ بِهَا , حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا . وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ . قَالُوا : لَوْ أَعَانَ الذِّمِّيُّونَ الْبُغَاةَ فِي الْقِتَالِ , وَهُمْ عَالِمُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارُونَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ , كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ . أَمَّا إنْ قَالَ الذِّمِّيُّونَ : كُنَّا مُكْرَهِينَ , أَوْ ظَنَنَّا جَوَازَ الْقِتَالِ إعَانَةً , أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيمَا فَعَلُوهُ , وَأَنَّ لَنَا إعَانَةَ الْمُحِقِّ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ , فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مُسْلِمَةً مَعَ عُذْرِهِمْ , وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ . وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ , عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ . وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ , أَحَدُهُمَا : يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقَتْلِهِمْ . وَيَصِيرُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا يُنْتَقَضُ , لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ . وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ , وَالْكَفِّ عَنْ أَسِرْهُمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ , أَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُمْ , لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ إنْ قَالُوا : ظَنَنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَعَانَ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ , لِأَنَّ مَا ادَّعُوهُ مُحْتَمَلٌ , فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ مَعَ الشُّبْهَةِ . وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ نُقِضَ عَهْدُهُمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا , لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ , وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ , وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ , وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَإِذَا أُسِرَ مَنْ يُرَادُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ , وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْأَسْرِ , مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ .
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1301)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1294)(1/168)
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا , وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ إذَا سَأَلُوهُ , كَمَا يَجِبُ إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ وَقَالُوا : إنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ , لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ , وَكَيْلَا يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ اخْتِيَارٍ . وَهَذَا إنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَالَ : وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَقَالَ قَوْمٌ : تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ , وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ , وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ : كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنْ الرِّجَالِ , يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ , كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ , وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ , كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ .
مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ (1)
12 - مِنْ ذَلِكَ إظْهَارُ الْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا , وَإِظْهَارُ الْعَوْرَةِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَنَوَاقِيسِهِمْ وَخَمْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ . وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُ مَا يَجِبُ إخْفَاؤُهُ مِمَّا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْمُعَاشَرَةِ . وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ .
لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (2)
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ , فَلَا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ عَنْهُمْ , كَيْ تَكُونَ مُعَامَلَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ . وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارُهُمْ لَا إعْزَازُهُمْ , وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
حُكْمُ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (3)
39 - الْأَصْلُ فِي الِالْتِزَامِ أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ امْتِثَالًا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْمُرَادُ بِالْعُقُودِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ , وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالذِّمَمُ الَّتِي نَعْقِدُهَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَوَارِجِ , وَمَا عَقَدَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } عَامٌّ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِ مَا يَشْرِطُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ , مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ تُخَصِّصُهُ لَكِنْ هَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ عَامًّا فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ , وَذَلِكَ لِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ بِحَسَبِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي :
( 1 ) الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1655)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2059)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2086)(1/169)
40 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ بِسَبَبِ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ , كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَعُقُودِ الذِّمَّةِ , فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ مَتَى تَمَّتْ صَحِيحَةً لَازِمَةً وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مَا لَمْ يَحْدُثْ مَا يَقْتَضِي الْفَسْخَ , كَالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ , وَهَذَا شَامِلٌ لِلْأَعْيَانِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهَا , وَلِلدُّيُونِ الَّتِي تَكُونُ فِي الذِّمَمِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ أَوْ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ إنْفَاذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ . ب - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ الْإِتْلَافِ أَوْ التَّفْرِيطِ . ج - الْأَمَانَاتُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِمُوجِبِ عَقْدٍ كَالْوَدِيعَةِ , أَمْ لَمْ تَكُنْ كَاللُّقَطَةِ وَكَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا إلَى دَارِهِ . د - نَذْرُ الْقُرُبَاتِ , وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قُرُبَاتٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ طَاعَةً وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . هـ - الِالْتِزَامَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ , وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ . فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا , مُنْجَزَةً إنْ كَانَتْ كَذَلِكَ , وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَشْرُوعِ إنْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً , وَعِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ إنْ كَانَتْ مُضَافَةً , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ أَمْ يَجِبُ بِدُونِهِ . وَيَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ بِالْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْ الْقِيَامِ بِالْعَمَلِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْمُقَاصَّةِ وَهَكَذَا . وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } وقوله تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وقوله تعالى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } . وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ , إذْ الْعُقُوبَةُ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ , وَعِرْضُهُ أَنْ يَحِلَّ الْقَوْلُ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . وَلِذَلِكَ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ الْوَفَاءِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْحَجْرِ وَمَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ , أَوْ بَيْعِ مَالِ الْمُلْتَزَمِ وَالْوَفَاءِ مِنْهُ . إلَّا إذَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ مُعْسِرًا فَيَجِبُ إنْظَارُهُ لقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ }
41 - وَمَا سَبَقَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ , إذْ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ , وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلًا : اخْتِلَافُهُمْ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ , فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْضَى بِالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ إذَا كَانَ لِمُعَيَّنٍ , وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ وَلَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ , وَقِيلَ يُقْضَى بِهِ , وَفِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْحَجْرَ فِي الدَّيْنِ , لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ آدَمِيَّةِ الْمَدِينِ , بَلْ لَا يُجِيزُ لِلْحَاكِمِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ , وَإِنَّمَا يُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ . وَهَكَذَا , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
2 - الْتِزَامَاتٌ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجِبُ :(1/170)
42 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ . ب - الِالْتِزَامُ النَّاشِئُ بِالْوَعْدِ , فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا , لِأَنَّهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةٍ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَيَقُولُ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } . لَكِنْ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا , فَفِي الْوَصِيَّةِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا . وَفِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعَارِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ فِي الْحَالِ بَعْدَ الْقَبْضِ , وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ , بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ : إنَّ الْمُقْرِضَ إذَا أَجَّلَ الْقَرْضَ لَا يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ , لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ وَالْقَرْضَ إذَا كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ فَذَلِكَ لَازِمٌ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ , وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ لَزِمَ الْبَقَاءُ فَتْرَةً يُنْتَفَعُ بِمِثْلِهِ فِيهَا , وَاسْتَنَدُوا إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { ذَكَرَ رَجُلًا سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ : إذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ . وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , فَإِذَا تَمَّ الْقَبْضُ فَلَا رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا رُجُوعَ عِنْدَهُمْ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي الْجُمْلَةِ , إلَّا فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
43 - وَالْوَعْدُ كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقٍ . يَقُولُ الْقَرَافِيُّ : مِنْ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ إذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لَا يُخْلِفُهُ إيَّاهُ , لَا سِيَّمَا إذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ , فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ بِالْقَبُولِ . لَكِنْ الْوَفَاءُ بِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْجُمْلَةِ , فَفِي الْبَدَائِعِ : الْوَعْدُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ , وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ نَصًّا , وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : لَوْ قَالَ : أُؤَدِّي الْمَالَ أَوْ أُحْضِرُ الشَّخْصَ , فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ , لِأَنَّ الصِّيغَةَ غَيْرُ مُشْعِرَةٍ بِالِالْتِزَامِ . إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ . فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ : لَوْ ذَكَرَ الْبَيْعَ بِلَا شَرْطٍ , ثُمَّ ذَكَرَ الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَةِ , جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ , إذْ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً فَيُجْعَلُ لَازِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ يَلْزَمُ وَيُقْضَى بِهِ إذَا دَخَلَ الْمَوْعُودُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ , قَالَ سَحْنُونٍ : الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْوَعْدِ إذَا قَالَ : اهْدِمْ دَارَك وَأَنَا أُسْلِفُك مَا تَبْنِي بِهِ , أَوْ اُخْرُجْ إلَى الْحَجِّ أَوْ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ وَأَنَا أُسْلِفُك , لِأَنَّك أَدْخَلْته بِوَعْدِك فِي ذَلِكَ , أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ , بَلْ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ . وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : قَوْلُهُمْ الْوَعْدُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مُشْكِلٌ , لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ , وَلِأَنَّ خُلْفَهُ كَذِبٌ , وَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ .
( 3 ) الْتِزَامَاتٌ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجِبُ :
44 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ , كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ , فَهَذِهِ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَعَدَمُ الِالْتِزَامِ بِمُقْتَضَاهَا , هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَشْتَرِطُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حِينَ الْفَسْخِ مِنْ نَضُوضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ , وَكَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ .
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ مِنْ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1368)(1/171)
7 - قَالَ الْقَرَافِيُّ : إنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إذَا أَسْلَمَ , فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ , وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ , وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ , وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إنْ كَانَ حَرْبِيًّا . وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا , لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ , فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ , فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ , وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ , وَلَا الزَّكَوَاتِ , وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } وَضَابِطُ الْفَرْقِ : أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ : مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ , وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ , هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , لِأَنَّ إلْزَامَهُ إيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ . وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ , كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا , فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ , لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ , وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ . وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ , وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ , بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى , فَنَاسَبَ أَلَّا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ . ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ , تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ , وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ , فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ , فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا , وَإِنْ رَضِيَ بِهَا , كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ , أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ . وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ , فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .
الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ (1)
9 - الْمُلْحِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ عَلَى الشِّرْكِ , فَحُكْمُهُ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( إشْرَاكٌ ) , أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا فَيُلْحِدُ أَيْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ جِهَارًا , فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُ , وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) أَوْ يَكُونُ مُسْلِمًا فَيُلْحِدُ , فَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( ارْتِدَادٌ - زَنْدَقَةٌ ) .
آثَارُ الِالْتِزَامِ (2)
آثَارُ الِالْتِزَامِ هِيَ : مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , وَهِيَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلِالْتِزَامِ . وَتَخْتَلِفُ آثَارُ الِالْتِزَامِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُلْزَمَةِ وَاخْتِلَافِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ , وَمِنْ ذَلِكَ :
( 1 ) ثُبُوتُ الْمِلْكِ :
29 - يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ الِانْتِفَاعِ أَوْ الْعِوَضِ وَانْتِقَالُهُ لِلْمُلْتَزِمِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا , مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ , وَمَعَ مُلَاحَظَةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ .
( 2 ) حَقُّ الْحَبْسِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2109) ,الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2111) ,الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12650)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2080)(1/172)
30 - يُعْتَبَرُ الْحَبْسُ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ . فَالْبَائِعُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ , حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الَّذِي الْتَزَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي , إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا . وَالْمُؤَجِّرُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَلِمَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ . وَلِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ إذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ , كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالنَّجَّارِ وَالْحَدَّادِ . وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ . يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ : حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ , وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ , أَعْنِي أَنَّهُ إذَا رَهَنَهُ فِي عَدَدٍ مَا , فَأَدَّى مِنْهُ بَعْضَهُ , فَإِنَّ الرَّهْنَ بِأَسْرِهِ يَبْقَى بَعْدُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ يَبْقَى مِنْ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنْ الْحَقِّ , وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ , أَصْلُهُ ( أَيْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ) حَبْسُ التَّرِكَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ . وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ , أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ . وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ , إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ وَمَاطَلَ فِي الْأَدَاءِ , وَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ حَبْسَهُ مِنْ الْقَاضِي , وَلِلْغَرِيمِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ , لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ .
( 3 ) التَّسْلِيمُ وَالرَّدُّ
31 - يُعْتَبَرُ التَّسْلِيمُ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ فِيمَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ بِتَسْلِيمِهِ . فَالْبَائِعُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي , وَالْمُؤَجِّرُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَمَا يَتْبَعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا , وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ مُلْتَزِمَانِ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ , وَأَجِيرُ الْوَحْدِ ( الْأَجِيرُ الْخَاصُّ ) مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ , وَالْكَفِيلُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَ بِهِ , وَالزَّوْجُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ , وَالزَّوْجَةُ مُلْتَزِمَةٌ بِتَسْلِيمِ الْبُضْعِ , وَالْوَاهِبُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْهِبَةِ , وَرَبُّ الْمَالِ فِي السَّلَمِ وَالْمُضَارَبَةِ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ الْتَزَمَ بِتَسْلِيمِ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِالتَّسْلِيمِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ رَدُّ الْأَمَانَاتِ وَالْمَضْمُونَاتِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا ابْتِدَاءً أَمْ بَعْدَ الطَّلَبِ , وَذَلِكَ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْقَرْضِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَاللُّقَطَةِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا , وَمَا عِنْدَ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ إذَا فَسَخَ الْمَالِكُ وَهَكَذَا . مَعَ اعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ , قَدْ يَكُونُ بِالْإِقْبَاضِ , وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْمُلْتَزَمِ بِهِ .
( 4 ) ثُبُوتُ حَقِّ التَّصَرُّفِ :
يَثْبُتُ لِلْمُلْتَزَمِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ بِامْتِلَاكِهِ , لَكِنْ يَخْتَلِفُ نَوْعُ التَّصَرُّفِ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ , وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي :(1/173)
32 - أ - إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلدَّيْنِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَعِتْقٍ وَأَكْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ أَصْبَحَ مِلْكَهُ , فَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ . وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ , أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا لَا يَجُوزُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ قَبْلَ قَبْضِهَا . إلَّا الْعَقَارَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ . وَدَلِيلُ مَنْعِ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { لَا تَبِعْ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ } وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الطَّعَامِ , فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } وَأَمَّا الدُّيُونُ : فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ : أَمَّا الصَّرْفُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ . فَمِنْ حَيْثُ هُوَ ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَبِيعٌ لَا يَجُوزُ , فَغَلَبَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا . وَأَمَّا السَّلَمُ فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ , وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُقْرِضِ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمْ , وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الدُّيُونِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ , فَإِنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا مَنَعَ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا , وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ الْقَبْضُ هُوَ الطَّعَامُ , عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ النَّصُّ فِي الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي : إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا فَأَخَذَ عِوَضَهُ الْمُسْلِمُ ( صَاحِبُ الثَّمَنِ ) مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِيهِ رَأْسَ مَالِهِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَرَضًا وَالثَّمَنُ عَرَضًا مُخَالِفًا لَهُ , فَيَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ إذَا حَانَ الْأَجَلُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ , وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُهُ إمَّا سَلَفٌ وَزِيَادَةٌ , إنْ كَانَ الْعَرَضُ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ , وَإِمَّا ضَمَانٌ وَسَلَفٌ إنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إنْ كَانَ الْمِلْكُ عَلَى الدُّيُونِ مُسْتَقِرًّا , كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ جَازَ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ , لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَإِنْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ لَمْ يَجُزْ , وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : كُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , كَالْأُجْرَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَا مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ أَوْ الْمَعْدُودِ , وَمَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ . أَمَّا مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ , كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .(1/174)
33 - ب - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْحُدُودِ الْمَأْذُونِ فِيهَا , وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْإِعَارَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الْإِجَارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ , وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُهُمْ , وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُمْلَكُ بِبَدَلٍ يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِبَدَلٍ كَالْإِجَارَةِ , وَاَلَّتِي تُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِعِوَضٍ . فَالْمُسْتَعِيرُ يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ .
34 - ج - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ حَقَّ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ , فَإِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ يَقْتَصِرُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ , كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَكَالْإِبَاحَةِ لِلطَّعَامِ فِي الضِّيَافَاتِ .
35 - د - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ إذْنًا فِي التَّصَرُّفِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ مُطْلَقًا , وَإِلَّا اقْتَصَرَ التَّصَرُّفُ عَلَى مَا أَذِنَ بِهِ , وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ . وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ .
( 5 ) مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ :
36 - قَدْ يَنْشَأُ مِنْ بَعْضِ الِالْتِزَامَاتِ مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ : الرَّهْنُ , فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ , لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَخَذَ الْعَيْنَ بِحَقِّهِ فِي الرَّهْنِ , وَهُوَ التَّوَثُّقُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ وَقَبَضَ الْمَرْهُونَ . فَالْمُرْتَهِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّهْنِ كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
( 6 ) صِيَانَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ :
37 - الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِحُكْمِ إسْلَامِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا , فِي شَهْرِكُمْ هَذَا , فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ مِمَّا يَصُونُ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الْتِزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتِمُّ مَعَهُمْ , كَعَقْدِ الْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ أَوْ الدَّائِمِ . إذْ ثَمَرَةُ الْأَمَانِ حُرْمَةُ قَتْلِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ , مَا دَامُوا مُلْتَزِمِينَ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْأَمَانِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَمِنْ صِيَانَةِ الْأَمْوَالِ : الِالْتِزَامُ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ بِجَعْلِهَا فِي مَكَان أَمِينٍ . وَقَدْ يَجِبُ الِالْتِزَامُ بِذَلِكَ حِرْصًا عَلَى الْأَمْوَالِ , وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِأَخْذِ الْوَدِيعَةِ غَيْرُهُ وَخَافَ إنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تَهْلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا , لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ , لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { حُرْمَةُ مَالِ الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } . وَلَوْ خَافَ عَلَى دَمِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ , فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ , إذْ يَجِبُ الْأَخْذُ إذَا خِيفَ الضَّيَاعُ , لِأَنَّ حِفْظَ مَالِ الْغَيْرِ وَاجِبٌ , قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : يَلْزَمُ أَنْ يُؤْخَذَ اللَّقِيطُ وَلَا يُتْرَكَ , لِأَنَّهُ إنْ تُرِكَ ضَاعَ وَهَلَكَ , لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُقَطَةِ الْمَالِ , وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ . أَمَّا إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ فَأَخْذُهَا وَاجِبٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَمِنْ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِحِفْظِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالسَّفِيهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
( 7 ) الضَّمَانُ :(1/175)
38 - الضَّمَانُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ , وَهُوَ يَكُونُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ بِالتَّعَدِّي فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ أَوْ بِالتَّفْرِيطِ وَتَرْكِ الْحِفْظِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ . يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا : تَرْكُ الْحِفْظِ , لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ , وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ , كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ . وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ , إذْ الِاسْتِعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ . وَيَقُولُ السُّيُوطِيّ : أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : الْعَقْدُ , وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ , وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَالْمُسْلَمُ فِيهِ , وَالْمَأْجُورُ . وَالثَّانِي : الْيَدُ , مُؤْتَمَنَةً كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُقَارَضَةِ إذَا حَصَلَ التَّعَدِّي , أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالسَّوْمِ وَالْعَارِيَّةِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا . وَالثَّالِثُ : الْإِتْلَافُ لِلنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ . وَالرَّابِعُ : الْحَيْلُولَةُ . وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ : الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ إمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِأَخْذِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَوْ لِإِتْلَافِهِ , وَإِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْمُتْلِفِ , وَإِمَّا إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ . وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ : أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ : عَقْدٌ , وَيَدٌ , وَإِتْلَافٌ . وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا .
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ (1)
18 - مِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ عِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا , وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ الْأَمْنُ لِلْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ . أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ لَهُ الْأَمْنُ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَإِعْطَائِهِ الْأَمَانَ , لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَامِ , فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ . وَالْأَصْلُ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ لِلْكُفَّارِ قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ , ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } .
19 - وَالْأَمَانُ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ : أَمَانٌ يَعْقِدُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ , وَهُوَ نَوْعَانِ : مُؤَقَّتٌ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْهُدْنَةِ وَبِالْمُعَاهَدَةِ وَبِالْمُوَادَعَةِ - وَهُوَ عَقْدُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مَعْلُومَةً - مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ } . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ , وَهُوَ إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , هَلْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى حَالِهِمْ أَمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْأَمَانِ : هُوَ الْأَمَانُ الَّذِي يُصْدَرُ مِنْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنْ الْكُفَّارِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ : { الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ , وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ , وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } . وَأَخْبَارٌ أُخْرَى , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَمَانٌ , وَذِمَّةٌ , وَمُعَاهَدَةٌ ) .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2242)(1/176)
أَهْلُ الْحَرْبِ (1)
1 - أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ الْحَرْبِيُّونَ : هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَلَا يَتَمَتَّعُونَ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَهْدِهِمْ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - أَهْلُ الذِّمَّةِ : 2 - أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أُقِرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْتِزَامِ الْجِزْيَةِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ .
ب - أَهْلُ الْبَغْيِ : 3 - أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ الْبُغَاةُ : هُمْ فِرْقَةٌ خَرَجَتْ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْعِ حَقٍّ , أَوْ لِخَلْعِهِ , وَهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ . وَالْبَغْيُ : هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ طَاعَةِ مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ بِمُغَالَبَةٍ , وَلَوْ تَأَوُّلًا .
ج - أَهْلُ الْعَهْدِ : 4 - هُمْ الَّذِينَ صَالَحَهُمْ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إنْهَاءِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا , وَالْمُعَاهَدُ : مِنْ الْعَهْدِ : وَهُوَ الصُّلْحُ الْمُؤَقَّتُ , وَيُسَمَّى الْهُدْنَةَ وَالْمُهَادَنَةَ وَالْمُعَاهَدَةَ وَالْمُسَالَمَةَ وَالْمُوَادَعَةَ .
د - الْمُسْتَأْمَنُونَ :
5 - الْمُسْتَأْمَنُ فِي الْأَصْلِ : الطَّالِبُ لِلْأَمَانِ , وَهُوَ الْكَافِرُ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ , أَوْ الْمُسْلِمُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْكُفَّارِ بِأَمَانٍ . انْقِلَابُ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُعَاهَدِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ حَرْبِيًّا :
6 - يُصْبِحُ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي حُكْمِ الْحَرْبِيِّ بِاللَّحَاقِ بِاخْتِيَارِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُقِيمًا فِيهَا , أَوْ إذَا نَقَضَ عَهْدَ ذِمَّتِهِ فَيَحِلُّ دَمُهُ وَمَالُهُ , وَيُحَارِبُهُ الْإِمَامُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَأْمَنَهُ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَجَوَازًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَلَا خِلَافَ فِي مُحَارَبَتِهِ إذَا حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ , وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُبْدِئَهُ بِالْحَرْبِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } , وَحِينَمَا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ , سَارَ إلَيْهِمْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ , حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ . وَعِنْدَمَا نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ سَنَةَ خَمْسٍ , قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِجَالَهُمْ , وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ , وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ , وَكَذَلِكَ بَنُو النَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ , حَاصَرَهُمْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ أَرْبَعٍ , وَأَجَلَاهُمْ . وَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي أَسْبَابِ نَقْضِ الذِّمَّةِ : الْأَوَّلُ , مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّينَ , إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ يُحَارِبُونَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ يَلْحَقُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَغْلِبُونَ عَلَى مَوْضِعٍ , فَيُحَارِبُونَنَا . الثَّانِي , مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : تُنْتَقَضُ الذِّمَّةُ بِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَهْدِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
انْقِلَابُ الْحَرْبِيِّ ذِمِّيًّا (2)
7 - يُصْبِحُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا إمَّا بِالتَّرَاضِي , أَوْ بِالْإِقَامَةِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ بِالزَّوَاجِ , أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
انْقِلَابُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى حَرْبِيٍّ (3)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2465)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2466)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2466)(1/177)
8 - الْمُسْتَأْمَنُ : هُوَ الْحَرْبِيُّ الْمُقِيمُ إقَامَةً مُؤَقَّتَةً فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ , فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لِأَصْلِهِ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ إقَامَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ فِي بِلَادِنَا , لَكِنْ يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ لقوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ } , أَوْ بِنَبْذِ الْعَهْدِ , أَيْ نَقْضِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِوُجُودِ دَلَالَةٍ عَلَى الْخِيَانَةِ , لقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } , وَهِيَ فِي أَهْلِ الْهُدْنَةِ أَوْ الْأَمَانِ , لَا فِي أَهْلِ جِزْيَةٍ , فَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ , وَعَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ آكَدُ مِنْ عَقْدِ الْهُدْنَةِ . وَقَدْ يُصْبِحُ الْمُسْتَأْمَنُ حَرْبِيًّا بِنَقْضِ الْأَمَانِ مِنْ جَانِبِهِ هُوَ , أَوْ بِعَوْدَتِهِ لِدَارِ الْحَرْبِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ , لَا التِّجَارَةِ أَوْ التَّنَزُّهِ أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا , ثُمَّ يَعُودُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِمْ وَلَوْ لِغَيْرِ دَارِهِ , انْتَهَى أَمَانُهُ . هَذَا , وَكُلُّ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمِّيِّ , يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُ الْمُسْتَأْمَنِ , عَلَى حَسَبِ الِاتِّجَاهَيْنِ السَّابِقَيْنِ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَمَانٌ مُؤَبَّدٌ , وَآكَدُ مِنْ الْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ , وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَالذِّمِّيِّ يَلْتَزِمُ بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ نَقَضَ أَمَانَهُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ يُنْبَذُ إلَيْهِ وَيَبْلُغُ الْمَأْمَنَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي شَأْنِهِ كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ , مِنْ قَتْلٍ وَمَنٍّ وَفِدَاءٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
دِمَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ (1)
11 - الْحَرْبُ - كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ - حَالَةُ عَدَاءٍ وَكِفَاحٍ مُسَلَّحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ , تَقْتَضِي إبَاحَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ , وَهَذَا يَقْتَضِي بَحْثَ حَالَةِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ , وَفِي حَالَةِ الْعَهْدِ : أ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ : الْحَرْبِيُّ غَيْرُ الْمُعَاهَدِ مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَالِ , فَيَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتَلِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ , وَتُصْبِحُ الْأَمْوَالُ مِنْ عَقَارَاتٍ وَمَنْقُولَاتٍ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ , وَتَصِيرُ بِلَادُ الْعَدُوِّ بِالْغَلَبَةِ أَوْ الْفَتْحِ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَيَكُونُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مُخَيَّرًا فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أُمُورٍ : هِيَ الْقَتْلُ , وَالِاسْتِرْقَاقُ , وَالْمَنُّ ( إطْلَاقُ سَرَاحِ الْأَسِيرِ بِلَا مُقَابِلٍ ) , وَالْفِدَاءُ ( تَبَادُلُ الْأَسْرَى أَوْ أَخْذُ الْمَالِ فِدْيَةً عَنْهُمْ ) , وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرِّجَالِ الْقَادِرِينَ . فَإِنْ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ وَعَقَدَ الْإِمَامُ لَهُمْ الذِّمَّةَ , أَصْبَحُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ , وَيَكُونُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِنْصَافِ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الِانْتِصَافِ , قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا , وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا . ( ر : أَهْلُ الذِّمَّةِ ) . وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إلَّا بِمَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ , كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ , فَفِيهَا : يُشْتَرَطُ لِإِبَاحَةِ الْجِهَادِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : امْتِنَاعُ الْعَدُوِّ عَنْ قَبُولِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الدِّينِ الْحَقِّ , وَعَدَمِ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْجُوَ الْإِمَامُ الشَّوْكَةَ وَالْقُوَّةَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ , بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُعْتَدُّ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ , فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ . ب - فِي حَالَةِ الْعَهْدِ : الْعَهْدُ مِنْ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ أَوْ أَمَانٍ يَعْصِمُ الدَّمَ وَالْمَالَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ , فَإِنْ وُجِدَ عَهْدٌ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ , وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَالِ . وَتُبْحَثُ هُنَا أُمُورٌ :
أَوَّلًا : قَتْلُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ حَرْبِيًّا (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2468)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2469)(1/178)
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ , وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا , كَمَا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمَا بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ ; بِسَبَبِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي إبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ , وَلِكَوْنِهِ مُبَاحَ الدَّمِ فِي الْأَصْلِ . وَشَرْطُ الْقِصَاصِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ : كَوْنُ الْمَقْتُولِ مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ , أَيْ يَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَيَاتِهِ , بَلْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِهَا فِي حَالَةِ قَتْلِ مُبَاحِ الدَّمِ - كَالْحَرْبِيِّ - قَتْلًا عَمْدًا .
ثَانِيًا : حُصُولُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِمُعَامَلَةٍ يُحَرِّمُهَا الْإِسْلَامُ (1):
13 - إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدًا مِثْلَ الرِّبَا , أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ , أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الْإِسْلَامُ , لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ , أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ , وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ ; فَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْمُحَرَّمَاتِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } , وَآيَاتُ تَحْرِيمِ الرِّبَا , مِثْلُ قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } , وَسَائِرُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا , وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ , مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ وَلَا غَدْرٍ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ مَالِهِ , فَإِتْلَافُهُ مُبَاحٌ , وَفِي عَقْدِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ رَاضِيَانِ , فَلَا غَدْرَ فِيهِ , وَالرِّبَا وَنَحْوُهُ كَإِتْلَافِ الْمَالِ , وَهُوَ جَائِزٌ . قَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ , فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الْمُبَاحَ عَلَى وَجْهٍ عَرَا عَنْ الْغَدْرِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ طَيِّبًا مِنْهُ . وَأَمَّا خِيَانَةُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَهُمْ فَمُحَرَّمَةٌ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْا الْأَمَانَ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ , فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , وَلِذَلِكَ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ فَخَانَنَا , كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ خِيَانَةُ الْحَرْبِيِّينَ إذَا دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ ; لِأَنَّهُ غَدْرٌ , وَلَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } فَإِنْ خَانَهُمْ , أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ , أَوْ اقْتَرَضَ شَيْئًا , وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ , فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ , أَوْ إيمَانٍ , رَدَّهُ عَلَيْهِمْ , وَإِلَّا بَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ , فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ , كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَمِمَّا يُوَافِقُ التَّنْزِيلَ وَالسُّنَّةَ وَيَعْقِلُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ , أَنَّ الْحَلَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَلَالٌ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ , وَالْحَرَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرَامٌ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ , فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا , فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهُ , وَلَا تَضَعُ عَنْهُ بِلَادُ الْكُفْرِ شَيْئًا .
أَهْلُ الذِّمَّةِ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2469)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2487)(1/179)
1 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ : الْأَمَانُ وَالْعَهْدُ , فَأَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلُ الْعَهْدِ , وَالذِّمِّيُّ : هُوَ الْمُعَاهَدُ . وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الذِّمِّيُّونَ , وَالذِّمِّيُّ نِسْبَةٌ إلَى الذِّمَّةِ , أَيْ الْعَهْدِ مِنْ الْإِمَامِ - أَوْ مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُ - بِالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَظِيرَ الْتِزَامِهِ الْجِزْيَةَ وَنُفُوذَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَتَحْصُلُ الذِّمَّةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ بِالْعَقْدِ أَوْ الْقَرَائِنِ أَوْ التَّبَعِيَّةِ , فَيَقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي مُقَابِلِ الْجِزْيَةِ , كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - أَهْلُ الْكِتَابِ : 2 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : أَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ , فَيَدْخُلُ فِي الْيَهُودِ السَّامِرَةُ ; لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام , وَيَدْخُلُ فِي النَّصَارَى كُلُّ مَنْ دَانَ بِالْإِنْجِيلِ وَانْتَسَبَ إلَى عِيسَى عليه السلام بِالِادِّعَاءِ وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : أَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . وَأَهْلُ الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْمَجُوسِ , فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ , وَأَخَصُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , فَيَجْتَمِعَانِ فِي الْكِتَابِيِّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
ب - أَهْلُ الْأَمَانِ ( الْمُسْتَأْمَنُونَ ) : 3 - الْمُرَادُ بِالْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ , عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنَّ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ , وَلِلْمُسْتَأْمَنِينَ مُؤَقَّتٌ .
ج - ( أَهْلُ الْحَرْبِ ) : 4 - الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ : الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُعْقَدْ لَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلَا أَمَانٍ , وَيَقْطُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا تُطَبَّقُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . فَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْلَنُ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كُلَّ عَامٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ . مَا يَكُونُ بِهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا :
5 - يَصِيرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا بِالْعَقْدِ , أَوْ بِقَرَائِنَ مُعَيَّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالذِّمَّةِ , أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهِ , أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ . وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْحَالَاتِ :
أَوَّلًا - عَقْدُ الذِّمَّةِ :
6 - عَقْدُ الذِّمَّةِ : إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ , وَالْغَرَضُ مِنْهُ : أَنْ يَتْرُكَ الذِّمِّيُّ الْقِتَالَ , مَعَ احْتِمَالِ دُخُولِهِ الْإِسْلَامَ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ . فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ , لَا لِلرَّغْبَةِ أَوْ الطَّمَعِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ . وَيَنْعَقِدُ هَذَا الْعَقْدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ , أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ , وَلَا تُشْتَرَطُ كِتَابَتُهُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ , وَمَعَ هَذَا فَكِتَابَةُ الْعَقْدِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ لِأَجْلِ الْإِثْبَاتِ , وَدَفْعًا لِمَضَرَّةِ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ .
مَنْ يَتَوَلَّى إبْرَامَ الْعَقْدِ :
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ يَتَوَلَّى إبْرَامَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ , فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ; وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ . وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ ; وَلِأَنَّهُ مُقَابِلُ الْجِزْيَةِ , فَتَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ ; وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ طَلَبِهِمْ لَهُ , وَفِي انْعِقَادِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنْ الْإِمَامِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .
مَنْ يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ :(1/180)
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ لِلْمُرْتَدِّ . أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا : فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ : لَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ , وَخُصَّ مِنْهُمْ الْمَجُوسُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . . . } فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى بَقِيَّةِ الْعُمُومِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ , إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ الْمُخَالَطَةِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ , وَحَمَلُوا الرِّسَالَةَ , فَلَيْسَ لَهُمْ أَدْنَى شُبْهَةٍ فِي رَفْضِهِمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ . وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ , لَا فَرْقَ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِهِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَثَنِيٍّ عَرَبِيٍّ , وَوَثَنِيٍّ غَيْرِ عَرَبِيٍّ .
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :
9 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ , وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا , فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا . وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْعَقْدِ قَبُولُ وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ , مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلِفَاتِ , وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مِنْهُمْ قَبُولُ بَذْلِ الْجِزْيَةِ كُلَّ عَامٍ .
10 - وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ سِتَّةُ أَشْيَاءَ :
( 1 ) أَلَّا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ .
( 2 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ .
( 3 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ .
( 4 ) وَأَلَّا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًى وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ .
( 5 ) وَأَلَّا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ .
( 6 ) وَأَلَّا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يُؤْوُوا لِلْحَرْبِيَّيْنِ عَيْنًا ( جَاسُوسًا ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذِهِ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ , فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ , وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ لِدُخُولِهَا فِي شَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ .(1/181)
11 - هَذَا , وَزَادَ بَعْضُهُمْ شُرُوطًا أُخْرَى كَاسْتِضَافَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَدَمِ إظْهَارِ مُنْكَرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا , وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوْ اسْتِحْبَابِ اشْتِرَاطِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّرُوطِ , وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ رضي الله عنه , وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : أَنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قَلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلَا نُؤْوِي فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَأَلَّا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُخْرِجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ وَلَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا , وَلَا نُظْهِرُ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلَا بِبَيْعِ الْخُمُورِ , وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا , وَلَا نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقَ شَعْرٍ وَلَا فِي مَرَاكِبِهِمْ , وَلَا نَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِمْ , وَأَلَّا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَلَا نُفَرِّقَ نَوَاصِيَنَا , وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا نَحْمِلَهُ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ , وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ , وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسِ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا يُشَارِكَ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ , وَأَنْ نُضَيِّفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرَ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ , ضَمَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا , وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاجِبٌ , وَيُنْقَضُ بِمُخَالَفَتِهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي .
ثَانِيًا : حُصُولُ الذِّمَّةِ بِالْقَرَائِنِ (1)
وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
أ - الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2492)(1/182)
12 - الْأَصْلُ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الذِّمَّةِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ بِالْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ , وَيُسَمَّى صَاحِبُ الْأَمَانِ ( الْمُسْتَأْمَنُ ) , وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْتَأْمَنِ لَا تَبْلُغُ سَنَةً , فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً كَامِلَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا . فَطُولُ إقَامَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ قَرِينَةٌ عَلَى رِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ وَقَبُولِهِمْ شُرُوطَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا : الْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ , فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ , وَيَقُولَ لَهُ : إنْ جَاوَزْت الْمُدَّةَ جَعَلْتُك مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا , فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ مَا قَالَ لَهُ الْإِمَامُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ . وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ لَهُ مُدَّةً قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ : يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِإِقَامَتِهِ سَنَةً , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ أَقَامَ الْمُسْتَأْمَنُ , فَأَطَالَ الْمُقَامَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ , فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَعَلَى هَذَا فَاعْتِبَارُ السَّنَةِ مِنْ تَارِيخِ إنْذَارِ الْإِمَامِ لَهُ بِالْخُرُوجِ , فَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ , فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , وَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْأَمَانِ لِلْمُسْتَأْمَنِ وَصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا .
ب - زَوَاجُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ :
13 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ الْمُسْتَأْمَنَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمَسْكَنِ تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ , أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْخُرُوجَ إلَّا بِإِذْنِهِ , فَجَعْلُهَا نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ فِي دَارِنَا رِضًى بِالتَّوَطُّنِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ , وَرِضَاهَا بِذَلِكَ دَلَالَةٌ كَالرِّضَى بِطَرِيقِ الْإِفْصَاحِ , فَلِهَذَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً . بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَكُونُ تَابِعًا لِامْرَأَتِهِ فِي الْمُقَامِ , فَزَوَاجُهُ مِنْ الذِّمِّيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ , فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الْحُكْمِ , قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي : إذَا دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ , فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا , ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ لَمْ تُمْنَعْ إذَا رَضِيَ زَوْجُهَا أَوْ فَارَقَهَا , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُمْنَعُ . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ .
ج - شِرَاءُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ :
14 - قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَزَرَعَهَا , يُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ تَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا لَا فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ , فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِشَرْطِ تَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالَةِ عَدَمِ بَيْعِهِ الْأَرْضَ وَرُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ سَيَكُونُ ذِمِّيًّا , إذْ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ ذِمِّيًّا بِلَا رِضًى مِنْهُ أَوْ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ تَكْشِفُ عَنْ رِضَاهُ . هَذَا , وَلَمْ نَجِدْ لِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ رَأْيًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
ثَالِثًا - صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا بِالتَّبَعِيَّةِ (1):
15 - هُنَاكَ حَالَاتٌ يَصِيرُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ; لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا تَسْتَوْجِبُ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا :
أ - الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالزَّوْجَةُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2494)(1/183)
16 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) أَنَّ الْأَوْلَادَ الصِّغَارَ يَدْخُلُونَ فِي الذِّمَّةِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ أَوْ أُمَّهَاتِهِمْ إذَا دَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ , لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِيهِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ , وَالصَّغِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا يَتْبَعُ خَيْرَ الْوَالِدَيْنِ , كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ , وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , حَيْثُ قَالُوا . لَا تُعْقَدُ الذِّمَّةُ إلَّا لِكَافِرٍ حُرٍّ بَالِغٍ ذَكَرٍ , فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ فَهُمْ أَتْبَاعٌ . وَاذَا بَلَغَ صِبْيَانُ أَهْلِ الذِّمَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ دُونَ حَاجَةٍ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلَاءِ وَلِأَنَّهُمْ تَبِعُوا الْأَبَ فِي الْأَمَانِ , فَتَبِعُوهُ فِي الذِّمَّةِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لَهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ كَانَ لِلْأَبِ دُونَهُ , فَعَلَى هَذَا جِزْيَتُهُ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي . وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ يَجْرِي عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ أَنَّ زَوْجَيْنِ مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْإِسْلَامِ بِالْأَمَانِ , أَوْ تَزَوَّجَ مُسْتَأْمَنٌ مُسْتَأْمَنَةً فِي دَارِنَا ثُمَّ صَارَ الرَّجُلُ ذِمِّيًّا , أَوْ دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا , صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِلزَّوْجِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمُقَامِ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا .
ب - اللَّقِيطُ :
17 - إذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي مَكَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , كَقَرْيَتِهِمْ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ يُعْتَبَرُ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُمْ , وَلَوْ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - وَفِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ - أَوْ بِدَارٍ فَتْحهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ صُلْحًا , أَوْ أَقَرُّوهَا بِيَدِهِمْ بَعْدَ مِلْكِهَا بِجِزْيَةٍ وَفِيهَا مُسْلِمٌ - وَلَوْ وَاحِدًا - حُكِمَ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا فَتَحُوهَا مُسْلِمٌ فَاللَّقِيطُ كَافِرٌ .
رَابِعًا - الذِّمَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ (1):
18 - هَذَا النَّوْعُ مِنْ الذِّمَّةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادًا غَيْرَ إسْلَامِيَّةٍ , وَرَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ , وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ , كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فَتْحِ سَوَادِ الْعِرَاقِ
حُقُوقُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (2)
19 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنَّ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا , وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ جَرَتْ عَلَى لِسَانِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , وَتَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ . وَيُؤَيِّدُهَا بَعْضُ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا , وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا . لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَبَّقَةٍ عَلَى إطْلَاقِهَا , فَالذِّمِّيُّونَ لَيْسُوا كَالْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ , وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ . وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْحُقُوقِ :
أَوَّلًا - حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2495)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2495)(1/184)
20 - يُعْتَبَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَعْطَوْهُمْ الذِّمَّةَ فَقَدْ الْتَزَمُوا دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِمْ , وَصَارُوا أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ , كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ . وَعَلَى ذَلِكَ فَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ حَقُّ الْإِقَامَةِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ , وَعَلَى الْإِمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ , فَيَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُمْ , وَمَنْعَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالْأَذَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْكُفَّارِ , وَاسْتِنْقَاذَ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ , وَاسْتِرْجَاعَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ , سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مُنْفَرِدِينَ عَنْهُمْ فِي بَلَدٍ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ . وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُظْلَمُونَ وَلَا يُؤْذُونَ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ , أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ , أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ , فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . حَتَّى إنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا اسْتَوْلُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ , ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ , وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى ذِمَّتِهِمْ , وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ , وَهَذَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي : لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ بَاقِيَةٌ , وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يَنْقُضُهَا , وَحُكْمُ أَمْوَالِهِمْ حُكْمُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَتِهَا .
ثَانِيًا - حَقُّ الْإِقَامَةِ وَالتَّنَقُّلِ :
21 - لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا , وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ . لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقَامَةِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيطَانِهِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا , يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَرْضِ الْعَرَبِ ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ } وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { لَئِنْ عِشْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُدُنِ وَالْقُرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ , لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ رَفْعُ بِنَائِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَصْدِ التَّعَلِّي , وَإِذَا لَزِمَ مِنْ سُكْنَاهُمْ فِي الْمِصْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ أُمِرُوا بِالسُّكْنَى فِي نَاحِيَةٍ - خَارِجَ الْمِصْرِ - لَيْسَ فِيهَا جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ .
22 - وَأَمَّا حَقُّ التَّنَقُّلِ فَيَتَمَتَّعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْنَمَا يَشَاءُونَ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا , إلَّا أَنَّ فِي دُخُولِهِمْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَرْضُ الْعَرَبِ ) .
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
23 - إنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ , فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ , وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالُ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لَا عَنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ : { وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ . . . } وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ,
لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي :(1/185)
أ - مَعَابِدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَجِبُ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَّا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجِبُ هَدْمُهُ , فَلَا يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ , وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ , فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا . وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , وَالْأَوْلَى أَلَّا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا , لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) , وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إبْقَائِهَا كَنَائِسَ .
ب - إجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2497)(1/186)
25 - الْأَصْلُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , فَيَقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ , كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِلِ مَعَابِدِهِمْ , وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا , أَوْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , أَوْ إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ . وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلَّا يُظْهِرُوهَا وَلَا يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلَّا مُنِعُوا وَعُزِّرُوا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ , فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : " أَلَّا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إلَخْ هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى , فَقَالُوا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ , أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ , وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يَمْنَعُونَ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ إظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ .
رَابِعًا - اخْتِيَارُ الْعَمَلِ :
26 - يَتَمَتَّعُ الذِّمِّيُّ بِاخْتِيَارِ الْعَمَلِ الَّذِي يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِلتَّكَسُّبِ , فَيَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ كَمَا يَشَاءُ , فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْمُسْلِمِ , هَذَا هُوَ الْأَصْلُ , وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ فِي هَذَا الْمَجَالِ سَتَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ الذِّمِّيُّونَ . أَمَّا الْأَشْغَالُ وَالْوَظَائِفُ الْعَامَّةُ , فَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَالْخِلَافَةِ , وَالْإِمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ , وَالْوِزَارَةِ وَأَمْثَالِهَا , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْهَدَ بِذَلِكَ إلَى ذِمِّيٍّ , وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَتَعْلِيمِ الصِّغَارِ الْكِتَابَةَ , وَتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ , يَجُوزُ أَنْ يُمَارِسَهُ الذِّمِّيُّونَ . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْوَظَائِفِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا . وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ : ( اسْتِعَانَةٍ )
الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2500)(1/187)
27 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْمُسْلِمِينَ ( إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي ) . وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ , فَيَصِحُّ مِنْهُمْ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ عُقُودُ الرِّبَا وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ وَالْمَحْظُورَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ . قَالَ الْجَصَّاصُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إنَّ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتِّجَارَاتِ كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ , وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ , وَصَرَّحَ بِهِ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : كُلُّ مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَمَا يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ وَيَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِهِمْ , إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ . بَلْ إنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِبُطْلَانِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَهُمْ أَيْضًا قَبْلَ الْقَبْضِ . وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَمُلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : تَبْطُلُ بَيْنَهُمْ الْبُيُوعُ الَّتِي تَبْطُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا , فَإِذَا مَضَتْ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ نُبْطِلْهَا وَقَالَ : فَإِنْ جَاءَ رَجُلَانِ مِنْهُمْ قَدْ تَبَايَعَا خَمْرًا وَلَمْ يَتَقَابَضَاهَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ , وَإِنْ تَقَابَضَاهَا لَمْ نَرُدَّهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى .
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نُجْمِلُهُ فِيمَا يَلِي :
أ - الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (1):
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُمَا لَا يُعْتَبَرَانِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ } , لَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا الْمُعَامَلَةَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , بِنَحْوِ شُرْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِثْلِهَا , بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ : أَنْ يُقَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْكُفْرِ مُقَابِلَ الْجِزْيَةِ , وَيُتْرَكَ هُوَ وَشَأْنُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ , وَالْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِمَّا يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا . وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ . وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : إنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ , كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَجُوزُ بَيْعُهُ , وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ : أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا , وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ .
ب - ( ضَمَانُ الْإِتْلَافِ ) :
29 - إذَا أَتْلَفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ فَلَا ضَمَانَ اتِّفَاقًا ; لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ إتْلَافُهُمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ . لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِضَمَانِ مُتْلِفِهِمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ , وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ , إذَا لَمْ يُظْهِرْ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( ضَمَانٌ ) .
ج - اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2500) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2501) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2502)(1/188)
30 - تَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْإِيجَارِ وَالِاسْتِئْجَارِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ , لَكِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا لِإِجْرَاءِ عَمَلٍ , فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يُؤَاجِرُ الْمُسْلِمَ لِلْقِيَامِ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ لِنَفْسِهِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ فَلَا بَأْسَ بِهِ , أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ كَعَصْرِ الْخُمُورِ وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الذِّمِّيِّ الشَّخْصِيَّةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الْكَافِرِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إجَارَةٍ )
د - وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ :
31 - لَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَهُ مِنْ مُسْلِمَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ هَذَا النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ وَكَالَتُهُ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ : أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وُكِّلَ بِهِ , وَأَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَاقِلًا , مُسْلِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ .
هـ - عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ :
32 - لَا يَجُوزُ تَمْكِينُ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ أَوْ دَفْتَرٍ فِيهِ أَحَادِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إلَى ابْتِذَالِهِ . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ , إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ يَمْنَعَانِ الذِّمِّيَّ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ , وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إذَا اغْتَسَلَ لِذَلِكَ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُصْحَفِ ) .
و - شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
33 - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّفَاقًا , إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَيُعَلِّلُ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ , وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ . كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } , وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِذِي عَدْلٍ . وَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ , مَا دَامُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ ; لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ } وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ , فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . هَذَا , وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ أُخْرَى فِي مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ وَالتَّمَلُّكِ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَنَحْوِهَا , تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
أَنْكِحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا (1):
34 - لَا يَخْتَلِفُ أَحْكَامُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ , إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً . وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ , وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ كِتَابِيًّا . وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ مُسْلِمٍ مِنْ ذِمِّيَّةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ , لقوله تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً , إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ , لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } إلَى قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ .
وَاجِبَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ (2)
35 - عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبَاتٌ وَتَكَالِيفُ مَالِيَّةٌ يَلْتَزِمُونَ بِهَا قِبَلَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُقَابِلَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ الْحِمَايَةِ وَالْحُقُوقِ , وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ ,
وَفِيمَا يَلِي نُجْمِلُ أَحْكَامَهَا :
أ - الْجِزْيَةُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2504)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2504)(1/189)
وَهِيَ الْمَالُ الَّذِي تُعْقَدُ عَلَيْهِ الذِّمَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ لِأَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ , تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ . وَتُؤْخَذُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الذَّكَرِ , وَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ اتِّفَاقًا , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا : السَّلَامَةُ مِنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي مِقْدَارِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْجِزْيَةُ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِزْيَةٌ ) .
ب - الْخَرَاجُ :
وَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا . وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِسَاحَتِهَا وَنَوْعِ زِرَاعَتِهَا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْخُمُسِ أَوْ السُّدُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( خَرَاجٌ )
ج - الْعُشُورُ :
وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ , إذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ , وَتُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ حِينَ الِانْتِقَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْتَقِلُونَ بِهَا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عُشْرٍ ) .
مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ (1)
36 - يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَانْتِقَاصُ دِينِ الْإِسْلَامِ , مِثْلُ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ دِينِهِ بِسُوءٍ لِأَنَّ إظْهَارَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَازْدِرَاءٌ بِعَقِيدَتِهِمْ . وَعَدَمُ الْتِزَامِ الذِّمِّيِّ بِمَا ذُكِرَ يُؤَدِّي إلَى انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ , كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ . كَذَلِكَ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ إدْخَالِهَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ . وَيُمْنَعُونَ كَذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا . وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ , وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجَالِسَ , وَذَلِكَ إظْهَارًا لِلصِّغَارِ عَلَيْهِمْ , وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ أَوْ مُوَالَاتِهِمْ . وَتَفْصِيلُ مَا يُمَيِّزُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الزِّيِّ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ , عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ .
جَرَائِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ (2)
أَوَّلًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ :
37 - إذَا ارْتَكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَرِيمَةً مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ , كَالزِّنَى أَوْ الْقَذْفِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ , يُعَاقَبُ بِالْعِقَابِ الْمُحَدَّدِ لِهَذِهِ الْجَرَائِمِ شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ , إلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ حِلِّهَا , وَمُرَاعَاةً لِعَهْدِ الذِّمَّةِ , إلَّا إنْ أَظْهَرُوا شُرْبَهَا , فَيُعَزَّرُونَ , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ ,
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2505)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2505)(1/190)
أ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى الْمُسَاوَاةِ فِي تَطْبِيقِ عُقُوبَةِ الرَّجْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ , وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا مِنْ ذِمِّيَّةٍ , لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ , وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ . وَصَرَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا كَانَ مُتَزَوِّجًا لَا يُرْجَمُ ; لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي تَطْبِيقِ الرَّجْمِ عِنْدَهُمَا , وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْمُتَزَوِّجُ بِالْكِتَابِيَّةِ لَا يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ : الْإِسْلَامُ وَالزَّوَاجُ مِنْ مُسْلِمَةٍ مُسْتَدِلًّا بِمَا { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحُذَيْفَةَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك } ,
ب - لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , بَلْ يُعَزَّرُ , سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .
ج - يُطَبَّقُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى السَّارِقِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا , إلَّا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا , لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( سَرِقَةٌ ) .
د - إذَا بَغَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَنْ ظُلْمٍ رَكِبَهُمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَإِذَا بَغَوْا مَعَ الْبُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( بَغْيٍ ) . هَذَا , وَيُعَاقَبُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُقُوبَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ( الْحِرَابَةِ ) إذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا كَالْمُسْلِمِينَ بِلَا خِلَافٍ .
ثَانِيًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ :
38 - أ - إذَا ارْتَكَبَ الذِّمِّيُّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ , إذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْتَأْمَنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : إنَّ عِصْمَةَ الْمُسْتَأْمَنِ مُؤَقَّتَةٌ , فَكَانَ فِي حَقْنِ دَمِهِ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ . أَمَّا إذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ ذِمِّيَّةً عَمْدًا , فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُسْلِمِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ , وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إذَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ غِيلَةً ( خَدِيعَةً ) أَوْ لِأَجْلِ الْمَالِ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( قِصَاصٌ ) .
ب - لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَفِي مِقْدَارِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ , وَمَنْ يَشْتَرِكُ فِي تَحَمُّلِهَا مِنْ عَاقِلَةِ الذِّمِّيِّ الْقَاتِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( دِيَةٌ ) ( وَعَاقِلَةٌ ) . وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الذِّمِّيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ , وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا , وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ , لَا إنْ كَانَتْ صِيَامًا . ( ر : كَفَّارَةٌ ) .
ج - لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ فِي جَرَائِمِ الِاعْتِدَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ , مِنْ الْجُرْحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ , إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَيُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ , وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا إذَا تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ , وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُطْلَقًا , بِحُجَّةِ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ . وَلَا خِلَافَ فِي تَطْبِيقِ الْقِصَاصِ إذَا كَانَتْ الْجُرُوحُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ . ( ر : قِصَاصٌ ) .
ثَالِثًا - التَّعْزِيرَاتُ :(1/191)
39 - الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ يُقَدِّرُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ حَسَبَ ظُرُوفِ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ , فَتُطَبَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ مُنَاسِبًا مَعَ الْجَرِيمَةِ شِدَّةً وَضَعْفًا وَمَعَ حَالَةِ الْمُجْرِمِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَعْزِيرٍ ) .
خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ (1)
40 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الذِّمِّيِّ الْقَضَاءَ عَلَى الذِّمِّيِّينَ , وَإِنَّمَا يَخْضَعُونَ إلَى جِهَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَخْضَعُ لَهَا الْمُسْلِمُونَ . وَقَالُوا : وَأَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّمَا هِيَ رِئَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ , لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ , فَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ , بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنْ حَكَمَ الذِّمِّيُّ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ , فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ التَّحْكِيمُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَجَازَ تَحْكِيمُهُ بَيْنَهُمْ . إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى , وَأَمَّا تَحْكِيمُهُمْ فِي الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ .
41 - وَإِذَا رَفَعَتْ الدَّعْوَى إلَى الْقَضَاءِ الْعَامِّ يَحْكُمُ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ فِي خُصُومَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وُجُوبًا , إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . أَمَّا إذَا كَانَ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ : الْقَاضِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ : الْحُكْمِ أَوْ الْإِعْرَاضِ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ اشْتَرَطُوا التَّرَافُعَ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمَيْنِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى , وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخَيَّرُ الْقَاضِي فِي النَّظَرِ فِي الدَّعْوَى أَوْ عَدَمِ النَّظَرِ فِيهَا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( قَضَاءٍ ) ( وَوِلَايَةٍ ) . وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , لقوله تعالى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } .
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ (2)
42 - يَنْتَهِي عَهْدُ الذِّمَّةِ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عُقِدَ وَسِيلَةً لِلْإِسْلَامِ , وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ . وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ , أَوْ بِغَلَبَتِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ يُحَارِبُونَنَا مِنْهُ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا , فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ , وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحَرْبِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِزْيَةِ ; لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ عَنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ; لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا , وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعُذْرِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ , فَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2508)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2509)(1/192)
43 - وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ مُطْلَقًا , وَبَعْضُهُمْ بِشُرُوطٍ : فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُنْقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , بِإِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا , وَبِإِكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى بِهَا إذَا زَنَى بِهَا بِالْفِعْلِ , وَبِغُرُورِهَا وَتَزَوُّجِهَا وَوَطْئِهَا , وَبِتَطَلُّعِهِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَبِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا بِمَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ . فَإِنْ سَبَّ بِمَا أُقِرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ , كَمَا إذَا قَالَ : عِيسَى إلَهٌ مَثَلًا , فَإِنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ , أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ , أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ , أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ , أَوَذَكَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ , فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ شَرَطَ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ , وَإِلَّا فَلَا يُنْتَقَضُ ; لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنْ فَعَلُوا مَا ذُكِرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ نُقِضَ الْعَهْدُ مُطْلَقًا , وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ إذَا لَمْ يُعْلِنْ السَّبَّ ; لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ , وَالْعَقْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ , فَكَذَا مَعَ الزِّيَادَةِ , وَإِذَا أَعْلَنَ قُتِلَ , وَلَوْ امْرَأَةً , وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ , بَلْ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ وَالزِّنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا , وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ , وَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ , فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى .
حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ (1)
44 - إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ , وَيُحْكَمُ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ , وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ , وَإِذَا تَابَ وَرَجَعَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ , إلَّا أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأُسِرَ يُسْتَرَقُّ , بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ , وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي حُكْمِ نَاقِضِ الْعَهْدِ , حَسَبَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ النَّقْضِ , فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : قُتِلَ بِسَبِّ نَبِيٍّ بِمَا لَمْ يَكْفُرْ بِهِ وُجُوبًا , وَبِغَصْبِ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى , أَوْ غُرُورِهَا بِإِسْلَامِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ , وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ , وَأَبَى الْإِسْلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ , أَمَّا الْمُطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى الْإِمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ بِقَتْلٍ أَوْ اسْتِرْقَاقٍ . وَمَنْ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ , وَإِنْ خَرَجَ لِظُلْمٍ لَحِقَهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُرَدُّ لِجِزْيَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ يُقْتَلُ , وَإِنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ فِي الْأَظْهَرِ , بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا أَوْ رِقًّا أَوْ مَنًّا أَوْ فِدَاءً . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ , فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَسْبَابِ النَّقْضِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَقَالُوا : خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ , كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ , فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ , وَيَحْرُمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ نَقْضِ الْعَهْدِ إذَا أَسْلَمَ . هَذَا , وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ , فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ . وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ تُسْتَرَقُّ ذُرِّيَّتُهُمْ .
أَهْلُ الْكِتَابِ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2510)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2513)(1/193)
1 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ( أَهْلَ الْكِتَابِ ) هُمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِفِرَقِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ . وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ : كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ , وَيَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد , وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دَيْنًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } قَالُوا : وَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّحُفَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا , فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ . وَالسَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ , وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّابِئَةِ , فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى . وَفِي قَوْلٍ لِأَحْمَدَ , وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُمْ إنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ , مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ كَانُوا مِنْهُمْ , وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ , وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . أَمَّا الْمَجُوسُ , فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَإِنْ كَانُوا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ . وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَبُو ثَوْرٍ , فَاعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . . . } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ , وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا تَوَقَّفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الْكُفَّارُ 2 - الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ , وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمْ , وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ , وَهُمْ الْمَجُوسُ , وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ , وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ . وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ . فَالْكُفَّارُ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ .
ب - أَهْلُ الذِّمَّةِ : 3 - أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ : الْمُعَاهَدُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَيَقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ . فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ , فَقَدْ يَكُونُ ذِمِّيًّا غَيْرَ كِتَابِيٍّ , وَقَدْ يَكُونُ كِتَابِيًّا غَيْرَ ذِمِّيٍّ , وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .(1/194)
التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ :
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ( الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ) إذَا قُوبِلُوا بِالْمَجُوسِ . فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ , وَأَمَّا الْيَهُودِيَّةُ إذَا قُوبِلَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ : الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ . وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ , الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّنْ رَتَّبُوا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً كَثِيرَةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَيْ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمَا , وَعَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ , مِثْلُ : جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَجَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَجَوَازِ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِمْ , وَحِلِّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ ; وَلِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْإِنْكَارِ لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . الِاتِّجَاهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ . وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , مِنْهُمْ ابْنُ نُجَيْمٍ وَصَاحِبُ الدُّرَرِ وَابْنُ عَابِدِينَ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ , وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِقَوْلِهِمْ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَنَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسِهِ تَبَعًا لِلْيَهُودِيِّ لَا النَّصْرَانِيِّ . وَفَائِدَتُهُ خِفَّةُ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ , حَيْثُ إنَّ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ النَّصْرَانِيُّ أَشَدَّ عَذَابًا ; لِأَنَّ نِزَاعَ النَّصَارَى فِي الْإِلَهِيَّاتِ , وَنِزَاعَ الْيَهُودِ فِي النُّبُوَّاتِ . وَكَذَا فِي الدُّنْيَا ; لِمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ : يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ; لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَطْبُخُ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ , وَالنَّصْرَانِيَّ لَا ذَبِيحَةَ لَهُ , وَإِنَّمَا يَأْكُلُ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ يَخْنُقُهَا , وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ أَوْ الْمُسْلِمِ , فَعُلِمَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا . وَالِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ , مَنْقُولًا عَنْ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا , وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا عليه السلام وَنُبُوَّةَ عِيسَى عليه السلام , وَكُفْرُ النَّصَارَى أَخَفُّ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ ; وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَشَدُّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ , وَأَصْلُبُهُمْ فِي ذَلِكَ , وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ أَلْيَنُ عَرِيكَةً مِنْ الْيَهُودِ , وَأَقْرَبُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ
عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2515)(1/195)
5 - يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُبْرِمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ , عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ , وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ , وَدَلِيلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِمَامِ , وَالْمُرَادُ بِالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ : قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ , وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ , وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ : الْتِزَامُهُ وَالْإِجَابَةُ إلَى بَذْلِهِ , لَا حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ وَلَا جَرَيَانَ الْأَحْكَامِ فِعْلًا , وَبِالْعَقْدِ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَالْخَلَفِ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَقْدَ الذِّمَّةِ , وَكَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ . وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ , وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ , وَعَلَى مَنْ تُفْرَضُ , وَبِمَ تَسْقُطُ , وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُرْجَعُ إلَى مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) ( وَجِزْيَةٌ ) .
مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ (1)
10 - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ , وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ لِتَعَاظُمِ مَسْئُولِيَّتِهِمْ ; لِمَا أُوتُوا مِنْ كُتُبٍ سَمَاوِيَّةٍ , وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ , وَخُصُوصًا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ , فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ , وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ , فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّهِمْ , ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَةً , وَهِيَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْقَتْلِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا طَلَبُوا الْكَفَّ عَنْ الْقِتَالِ , لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي ( أَهْلِ الْحَرْبِ , وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَجِزْيَةٍ ) . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ , وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ : هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ خَلَّادٍ : إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ , قَالَتْ : وَلَمْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ } .
تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ :
12 - إنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلَ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَاتِ الْمُتْلِفَاتِ , وَيُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ بِشُرُوطٍ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ , أَوْ مِيثَاقُهُ , أَوْ ذِمَّتُهُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2517)(1/196)
40 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا قِيلَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا مَثَلًا , فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنْ الْأَيْمَانِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فَجَعَلَ الْعَهْدَ يَمِينًا , وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ , وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ : بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , أَيْ أَهْلِ الْعَهْدِ , وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ , وَإِذَنْ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ , وَالتَّقْدِيرُ : عَلَيَّ مُوجِبُ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ . فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي " عَلَيَّ يَمِينٌ " . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ , أَوْ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلًا فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إذَا نَوَى الْيَمِينَ , أَوْ أَطْلَقَ , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَلْ أُرِيدَ بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا . وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أُعَاهِدُ اللَّهَ , لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ , وَكَذَا قَوْلُهُ : لَك عَلَيَّ عَهْدٌ , أَوْ أُعْطِيك عَهْدًا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ كَفَالَتُهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا , فَلَا تَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ احْتِمَالًا ظَاهِرًا .
اتِّخَاذُ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ :(1/197)
5 - لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَوْلِيَاءِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ , وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ , وَيَسْتَشِيرُونَهُمْ فِي الْأُمُورِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَضُرَّ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ , وَيُعَرِّضَ أَمْنَهُمْ لِلْخَطَرِ , وَقَدْ وَرَدَ التَّنْزِيلُ بِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ , وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ رَبِّكُمْ إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي , تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } . وَنَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ , وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ . بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي شَأْنِ بِطَانَةِ السُّوءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : رضي الله عنه : إنَّ هُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ حَافِظًا كَاتِبًا , فَلَوْ اتَّخَذْته كَاتِبًا ؟ قَالَ : اتَّخَذْت إذَنْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فِي الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْكِتَابَةِ , الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَخَائِلِ أُمُورِهِمْ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَقَالَ السُّيُوطِيّ نَقْلًا عَنْ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ : فِي قوله تعالى : { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزَّجْرَ عَنْ الرُّكُونِ إلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } , وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ وَوُلَجَاءَ , يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ , وَيُسْنِدُونَ إلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ . ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَهَى عَنْ الْمُوَاصَلَةِ فَقَالَ : { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } يَعْنِي لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي إفْسَادِكُمْ , أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَكْتَبَ ذِمِّيًّا , فَعَنَّفَهُ عُمَرُ رضي الله عنهما وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا : لَا تَسْتَعْمِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَا , وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ وَعَلَى رَعِيَّتِكُمْ بِاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى .
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ (1)
6 - يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2946)(1/198)
أ - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ , وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ . فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا بُغَاةً . وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا طَلَبِ إمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ , وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ , وَلَا يُخْشَى قِتَالُهُمْ , وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ . وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِحَقٍّ - كَدَفْعِ ظُلْمٍ - فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ , وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ , وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ , وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ ; لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ , وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ , وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ . وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِمَنَعَةٍ , بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ , مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ , مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ , كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ , فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ ; لِأَنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ , وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْأَظْهَرُ , وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ , وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ , إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ .
ب - أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى إمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ , وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا , أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ , إنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ , وَإِلَّا فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
ج - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ , أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ . وَقِيلَ : بِالْمُقَاتَلَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْصِي الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَا يَكُونُ مِنْ الْبُغَاةِ , فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ الْقَهْرِ لَا يَكُونُ بَاغِيًا .
د - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ , يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا مَنْصُوبًا ; إذْ لَا شَوْكَةَ لِمَنْ لَا مُطَاعَ لَهُمْ . وَقِيلَ : بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ , هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ .
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ :(1/199)
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْحَرْبِيِّينَ وَأَمَّنُوهُمْ , أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً , لَمْ يُعْتَبَرُ الْأَمَانُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا إنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ , فَلَا يَصِحُّ الْأَمَانُ لَهُمْ . وَلِأَهْلِ الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ , وَحُكْمُ أَسِرْهُمْ فِي يَدِ أَهْلِ الْعَدْلِ حُكْمُ الْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ . أَمَّا مَا إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْمُسْتَأْمَنِينَ , فَمَتَى أَعَانُوهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ , وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ , وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَعَهْدُهُمْ مُؤَقَّتٌ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّينَ , فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ , وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ , لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ . وَإِنْ اسْتَعَانُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَعَانُوهُمْ , وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ , فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ ; وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ , فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ , وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ , وَيُسْتَرَقُّونَ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ فِي الْكَفِّ عَنْ قَتْلِ أَسِرْهُمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّفِقُونَ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَعُونَةَ الذِّمِّيِّينَ لِلْبُغَاةِ اسْتِجَابَةٌ لِطَلَبِهِمْ لَا تَنْقُضُ عَهْدَ الذِّمَّةِ , كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْأَمَانِ . فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ , وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ . وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ لَمْ يُنْقَضْ عَهْدُهُمْ - قَوْلًا وَاحِدًا - وَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حُكْمَ الْبُغَاةِ , وَأَطْلَقُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَالْبُغَاةِ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ , وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ ; إذْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الْخَارِجِ مَعَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِهِمْ : لَا يَضْمَنُ نَفْسًا وَلَا مَالًا . لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ ; إذْ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ .
بَيْتُ الْمَالِ (1)
1 - بَيْتُ الْمَالِ لُغَةً : هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَالِ , خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ : فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ " بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ " بَيْتِ مَالِ اللَّهِ " فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَبْنَى وَالْمَكَانِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْوَالُ الْعَامَّةُ لِلدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ , كَالْفَيْءِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا , إلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي وُجُوهِهَا . ثُمَّ اُكْتُفِيَ بِكَلِمَةِ " بَيْتِ الْمَالِ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ , حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ . وَتُطَوَّرُ لَفْظُ " بَيْتِ الْمَالِ " فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ اللَّاحِقَةِ إلَى أَنْ أَصْبَحَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَمْلِكُ الْمَالَ الْعَامَّ لِلْمُسْلِمِينَ , مِنْ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَرَاضِي الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَالْمَالُ الْعَامُّ هُنَا : هُوَ كُلُّ مَالٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ , بَلْ هُوَ لَهُمْ جَمِيعًا . قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ , فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ . ثُمَّ قَالَ : وَبَيْتُ الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِهَةِ لَا عَنْ الْمَكَانِ . أَمَّا خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ لِلْخَلِيفَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَتْ تُسَمَّى " بَيْتُ مَالِ الْخَاصَّةِ " .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3068)(1/200)
2 - وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْخَلْطِ بَيْنَ ( دِيوَانِ بَيْتِ الْمَالِ ) ( وَبَيْتِ الْمَالِ ) فَإِنَّ دِيوَانَ بَيْتِ الْمَالِ هُوَ الْإِدَارَةُ الْخَاصَّةُ بِتَسْجِيلِ الدَّخْلِ وَالْخُرْجِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ . وَهُوَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي يَعْلَى : أَحَدُ دَوَاوِينِ الدَّوْلَةِ , فَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِهِمَا أَرْبَعَةُ دَوَاوِينَ : دِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ . وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ , وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ , وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ . وَلَيْسَ لِلدِّيوَانِ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ , وَإِنَّمَا عَمَلُهُ قَاصِرٌ عَلَى التَّسْجِيلِ فَقَطْ . وَالدِّيوَانُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى ( السِّجِلِّ ) أَوْ ( الدَّفْتَرِ ) وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِبَارَةً عَنْ الدَّفْتَرِ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُرْتَزِقَةِ ( مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) ثُمَّ تَنَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ , كَمَا سَبَقَ . وَمِنْ وَاجِبَاتِ كَاتِبِ الدِّيوَانِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ , مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ , أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ . وَعَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَهُ وَرُسُومَهُ , وَقَدْ حَصَرَ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَعْمَالَهُ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ , نَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ :
أ - تَحْدِيدِ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ , وَتَفْصِيلِ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا .
ب - أَنْ يَذْكُرَ حَالَ الْبَلَدِ , هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا , وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِالتَّفْصِيلِ .
ج - أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ خَرَاجِ الْبَلَدِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَرَاضِيهِ , هَلْ هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ , أَمْ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ ( دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ مُوَظَّفَةٌ عَلَى الْأَرْضِ ) .
د - أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ . هـ - إنْ كَانَ الْبَلَدُ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ , يَذْكُرُ أَجْنَاسَ مَعَادِنِهِ , وَعَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ ; لِيُعْلَمَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا يُنَالُ مِنْهُ .
و - إنْ كَانَ الْبَلَدُ يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ , وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ تُعَشَّرُ عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ , أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ عَقْدَ صُلْحِهِمْ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ . نَشْأَةُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ :(1/201)
3 - تُشِيرُ بَعْضُ الْمَصَادِرِ إلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَالِ . نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ . غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَصَادِرِ تَذْكُرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ قَدْ اتَّخَذَ بَيْتَ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ . فَفِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَةِ مُعَيْقِيبٍ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ : اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ . بَلْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ ( مِنْ ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ ) وَكَانَ يَسْكُنُهُ إلَى أَنْ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَقِيلَ لَهُ : أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ ؟ قَالَ : لَا . فَكَانَ يُنْفِقُ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ , فَلَمَّا انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ فِي دَارِهِ . وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءَ , وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ , فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ , فَتَرْحَمُوا عَلَيْهِ . وَقَالَ : وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه - كَتَبَ لَهُمْ : وَجَعَلْت لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ , طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ . . . وَشَرَطْت عَلَيْهِمْ جِبَايَةَ مَا صَالَحْتُهُمْ عَلَيْهِ , حَتَّى يُؤَدُّوهُ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا لَهُمْ مِنْهُمْ . 4 - أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَذْكُرْ السُّنَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَرَاجِعِ - فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ - اسْتِعْمَالَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ " بَيْتِ الْمَالِ " فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم . وَلَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ أَنَّ بَعْضَ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ قَائِمَةً , فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ مِنْ الْفَيْءِ , وَأَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ , وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ , وَمَا يُهَيَّأُ لِلْجَيْشِ مِنْ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَضْبِطُهُ الْكُتَّابُ وَكَانَ يُخَزَّنُ إلَى أَنْ يَحِينَ مَوْعِدُ إخْرَاجِهِ . أَمَّا فِيمَا بَعْدَ عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَدْ اسْتَمَرَّ بَيْتُ الْمَالِ يُؤَدِّي دَوْرَهُ طِيلَةَ الْعُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَتْ النُّظُمُ الْمُعَاصِرَةُ , فَاقْتَصَرَ دَوْرُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ - فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ - عَلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ وَمَالِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ , وَقَامَ بِدَوْرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَزَارَاتُ الْمَالِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ .
مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ (1)
6 - مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ الْأَصْنَافُ التَّالِيَةُ , وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ , كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ .
أ - الزَّكَاةُ بِأَنْوَاعِهَا , الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ بَاطِنَةٍ , مِنْ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَالنُّقُودِ وَالْعُرُوضِ , وَمِنْهَا عُشُورُ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا بِتِجَارَتِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ .
ب - خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ . وَالْغَنِيمَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ , مَا عَدَا الْأَرَاضِيَ وَالْعَقَارَاتِ , فَيُوَرَّدُ خُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ , لِيُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ . . . } الْآيَةَ .
ج - خُمُسُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا , وَقِيلَ : مِثْلُهَا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وَسِوَاهُمَا .
د - خُمُسُ الرِّكَازِ ( الْكُنُوزِ ) وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ , وَالْمُرَادُ هُنَا كُنُوزُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ , فَخُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَبَاقِيهِ بَعْدَ الْخُمُسِ لِوَاجِدِهِ .
هـ - الْفَيْءُ : وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَنْقُولٍ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ , وَبِلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ . وَالْفَيْءُ أَنْوَاعٌ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3071)(1/202)
( 1 ) مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتِ , وَهِيَ تُوقَفُ كَالْأَرَاضِيِ الْمَغْنُومَةِ بِالْقِتَالِ , وَتُقَسَّمُ غَلَّاتُهَا كُلَّ سَنَةٍ , نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ ( اُنْظُرْ : فَيْءٌ )
( 2 ) مَا تَرَكُوهُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ . وَهُوَ يُقَسَّمُ فِي الْحَالِ وَلَا يُوقَفُ .
( 3 ) مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنْ الْأَرَاضِي الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ , وَدُفِعَتْ بِالْإِجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ عَنْ الْأَرَاضِي الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ .
( 4 ) الْجِزْيَةُ وَهِيَ : مَا يُضْرَبُ عَلَى رِقَابِ الْكُفَّارِ لِإِقَامَتِهِمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ . فَيُفْرَضُ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ مَبْلَغٌ مِنْ الْمَالِ , أَوْ يُضْرَبُ عَلَى الْبَلَدِ كُلِّهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مَبْلَغًا مَعْلُومًا . وَلَوْ أَدَّاهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَانَتْ هِبَةً لَا جِزْيَةً .
( 5 ) عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَهِيَ : ضَرِيبَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَام إلَى بَلَدٍ آخَرَ , تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً , مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَعُودُوا إلَيْهَا . وَمِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ التُّجَّارِ كَذَلِكَ , إذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ .
( 6 ) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ .
( 7 ) مَالُ الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , وَمَالُ الزِّنْدِيقِ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , فَلَا يُورَثُ مَالُهُمَا بَلْ هُوَ فَيْءٌ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ تَفْصِيلٌ .
( 8 ) مَالُ الذِّمِّيِّ إنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ , وَمَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ كَذَلِكَ .
( 9 ) الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَالِ , وَهِيَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . و - غَلَّاتُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْلَاكِهِ وَنِتَاجُ الْمُتَاجَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ .
ز - الْهِبَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْوَصَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِلْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ .
ح - الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى الْقُضَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدَى لَهُمْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ , أَوْ كَانَ يُهْدَى لَهُمْ لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي خُصُومَةٌ , فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُرَدَّ إلَى مُهْدِيهَا تُرَدُّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ . لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ مَا أُهْدِيَ إلَيْهِ } . وَكَذَلِكَ الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى عُمَّالِ الدَّوْلَةِ , وَهَذَا إنْ لَمْ يُعْطِ الْآخِذُ مُقَابِلَهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ .
ط - الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلْجِهَادِ أَمْ لِغَيْرِهِ , وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ , وَكَانَ لِضَرُورَةٍ , وَإِلَّا كَانَتْ مَوْرِدًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ . ي - الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ , وَهِيَ مَالٌ وُجِدَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهِ , مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ , وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مَعَ اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لَا طَالِبَ لَهُ , فَيُوَرَّدُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ .
ك - مَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ , أَوْ لَهُ وَارِثٌ لَا يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ - عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ - وَمَنْ قُتِلَ وَكَانَ بِلَا وَارِثٍ فَإِنَّ دِيَتَهُ تُوَرَّدُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَيُصْرَفُ هَذَا فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَحَقُّ بَيْتِ الْمَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ : يُرَدُّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا إرْثًا ( ر : إرْثٌ ) .(1/203)
ل - الْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ : وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ بِأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ , وَبِهَذَا يَقُولُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ , وَوَرَدَ تَغْرِيمُ مَنْ أَخَذَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَخَرَجَ بِهِ ضَعْفُ قِيمَتِهِ , وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَرَامَاتِ إذَا أُخِذَتْ تُنْفَقُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ , فَتَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ . وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَادَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ بَعْضِ الْوُلَاةِ , لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِثْرَاءُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ , فَيَرْجِعُ مِثْلُ ذَلِكَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ (1)
12 - مَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ , وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ . وَالْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ , يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ , بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ , فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ , يُصْرَفُ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا . وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ , لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالِاسْتِقْصَاءِ , فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لَا تَنْحَصِرُ , وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إلَى عَصْرٍ , وَمِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
13 - وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3077)(1/204)
أ - الْعَطَاءُ , وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُلِّ مُسْلِمٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَمْ لَمْ يَكُنْ . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي , وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . . } الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ . . . } ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ . . . } فَاسْتَوْعَبَ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ : هَذِهِ - يَعْنِي الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ - اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً , وَلَإِنْ عِشْت لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا , لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ , وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ - أَيْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الْآتِي بَيَانُهَا . وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ , مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلًا . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . } إلَى أَنْ قَالَ : { ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ , وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ . فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا , فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ , إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . } وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَامِهِ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ ( أَيْ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ : إعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ , وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِلْمَصَالِحِ .
ب - الْأَسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ .(1/205)
ج - رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمْ الْعَامَّةِ , مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ , وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ , وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ , وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ . وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْعَارِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , بَلْ هِيَ كَالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا . ثُمَّ إنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ , وَإِلَّا اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لِأَمْثَالِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِمُرَتَّبٍ . وَأَرْزَاقُ هَؤُلَاءِ , وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ , تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ , وَوَجَبَ إنْظَارُهُ , كَالدُّيُونِ مَعَ الْإِعْسَارِ . بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ , وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا . وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ , كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعَامِ , يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ , أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعْطَاءُ إلَى وَارِثِهِ .
د - الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ , الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ , وَلَا أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ , فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ , وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ , فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَتَحَمَّلُ بَاقِي الدِّيَةِ , وَلَا تُعْقَلُ عَنْ كَافِرٍ . وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ إقْرَارَ الْجَانِي لَا يُقْبَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ , كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
هـ - الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إنْ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ : أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنْ الْآفَاتِ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ , وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ . وَنَقَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ .
و - وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ أَيْضًا : فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ , وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ ( ر : أَسْرَى ) . وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ - غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ - لَوْ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا , وَلَمْ يُمْكِنْ إجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَجَّانًا , وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا .
ز - الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ , مِنْ إنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِصْلَاحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا .(1/206)
ح - ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الْإِدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ : مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ , إذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمْ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ , فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ , كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ , فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَالِ . فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ , أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ , فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لَأَجْحَفَ بِهِمْ . هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ . أَمَّا الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ . أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا .
ط - تَحَمُّلُ الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لِأَصْحَابِهَا , وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ : وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ , وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه : لَا يَبْطُل فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ , وَقَدْ { تَحَمَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ , لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , وَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ , وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ , فَوْدَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ } . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ , فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا .
أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3219)(1/207)
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ - بَعْدَ بَيَانِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ - أَمْثِلَةً عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ , وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا , وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ : بَيْعُ مَا سُكِتَ فِيهِ عَنْ الثَّمَنِ , كَبَيْعِهِ بِقِيمَتِهِ , وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ , وَبَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ } وَبَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ , وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ , وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ , وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ , وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ . أَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ فَلِلْجَهَالَةِ وَاخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ , وَكَذَا الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ , وَلِاحْتِمَالِ وُقُوعِ التَّنَازُعِ , وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ , وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ } . وَأَمَّا اللَّحْمُ فِي الشَّاةِ وَالْجِذْعُ فِي السَّقْفِ فَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ ذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٌ فِي سَيْفٍ , وَإِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ . وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ , لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ , إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ , لِأَنَّ التَّأْجِيلَ شُرِعَ فِي الْأَثْمَانِ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُشْتَرِي , لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الثَّمَنِ , وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْأَعْيَانِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا . وَمِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ : بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ , لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا , وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا فِيهِمَا . وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ الْمُشْتَرِيَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ , { لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } , وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ , وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ . وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا جَهِلَ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ , وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ إلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ , وَهِيَ تَقْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ , وَإِنْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ حُلُولِهِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , خِلَافًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَالَ : الْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا .
19 - هَذَا , وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ : الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ , أَوْ بَيْعُهُمَا مُقَايَضَةً بِالْعَيْنِ , فَإِذَا قُوبِلَا بِالْعَيْنِ كَمَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ , أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ , أَمَّا إنْ قُوبِلَا بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ . وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ : أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ , لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ , وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ إعْزَازٌ لَهُ , وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ , لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ , فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ , بِخِلَافِ مُشْتَرِي الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ فِيهِ إعْزَازًا لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ . وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا , لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ شِرَاءَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ , لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً .
20 - وَهُنَاكَ صُوَرًا أُخْرَى اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ بَيْعِهَا بَاطِلًا , كَبَيْعِ الْحَمْلِ , وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ , وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ قَبْلَ اصْطِيَادِهِمَا لَوْ قُوبِلَا بِالْعَرْضِ , وَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَالْغَائِصِ . وَبَيْعِ لُؤْلُؤٍ فِي صَدَفٍ , وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْآبِقِ , وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .
تَبْيِيتٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3544)(1/208)
1 - التَّبْيِيتُ لُغَةً : مَصْدَرُ بَيَّتَ الْأَمْرَ إذَا دَبَّرَهُ لَيْلًا , وَبَيَّتَ النِّيَّةَ عَلَى الْأَمْرِ : إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ لَيْلًا فَهِيَ مُبَيَّتَةٌ بِالْفَتْحِ . وَبَيَّتَ الْعَدُوَّ : أَيْ دَاهَمَهُ لَيْلًا . وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } وَفِي السِّيرَةِ : " هَذَا أَمْرٌ بُيِّتَ بِلَيْلٍ " . وَالتَّبْيِيتُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ , وَالْبَيَاتُ اسْمُ الْمَصْدَرِ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الْإِغَارَةُ : 2 - يُطْلِقُ الْعَرَبُ الْبَيَاتَ أَوْ التَّبْيِيتَ عَلَى الْإِغَارَةِ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا . وَفِي التَّنْزِيلِ : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فَالْفَرْقُ بَيْنَ تَبْيِيتِ الْعَدُوِّ وَبَيْنَ الْإِغَارَةِ عَلَيْهِ : أَنَّ الْإِغَارَةَ مُطْلَقَةٌ , إذْ تَكُونُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا , أَمَّا التَّبْيِيتُ فَهُوَ فِي اللَّيْلِ
. ب - الْبَيْتُوتَةُ : 3 - الْبَيْتُوتَةُ : مَصْدَرُ بَاتَ , وَمَعْنَاهَا الْفِعْلُ بِاللَّيْلِ , فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْبَيَاتِ , وَيَنْدُرُ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى النَّوْمِ لَيْلًا . وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا فِي آثَارِ الْقَسَمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ , وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ الْبَيَاتَ .
حُكْمُ التَّبْيِيتِ : أَوَّلًا : تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ :
4 - تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ جَائِزٌ لِمَنْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ , وَهُمْ الْكُفَّارُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَرَفَضُوهَا , وَلَمْ يَقْبَلُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلَا هُدْنَةٍ . قَالَ أَحْمَدُ رحمه الله : لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ , وَهَلْ غَزْوُ الرُّومِ إلَّا الْبَيَاتُ ؟ قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ تَبْيِيتَ الْعَدُوِّ . وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ } فَإِنْ قِيلَ : قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ . قُلْنَا : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ . وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّعَمُّدِ , وَالْإِبَاحَةُ عَلَى مَا عَدَاهُ . وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْرِيعَاتٌ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَ الْكُفَّارِ مُسْلِمٌ وَقُتِلَ , تُنْظَرُ فِي : ( الْجِهَادِ وَالدِّيَاتِ ) . فَإِنْ بَيَّتَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ , لقوله تعالى : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ بِالتَّبْيِيتِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ , لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ لَهُ , وَلَا أَمَانَ , فَلَمْ يُضْمَنْ . وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ , وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ , لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ , وَلِأَنَّ كُتُبَهُمْ قَدْ بَشَّرَتْ بِالرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ . وَيُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا .
5 - أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ , فَتُسْتَحَبُّ الدَّعْوَةُ قَبْلَ التَّبْيِيتِ مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ , وَلِيَعْلَمُوا أَنَّنَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ , وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : أَمَرَ عَلِيًّا حِينَ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَبَعَثَهُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ } , وَهُمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ . وَيَجُوزُ بَيَاتُهُمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ , لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَيْلًا وَهُمْ غَافِلُونَ } . { وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أَبْنَى صَبَاحًا } . { وَسُئِلَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ , فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ . } وَكَانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَإِلَّا لَمْ يُبَيِّتُوا لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ . .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : التَّقَوُّمُ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3268)(1/209)
8 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَالًا - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا . وَالتَّقَوُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرْبَانِ : عُرْفِيٌّ : وَيَكُونُ بِالْإِحْرَازِ , فَغَيْرُ الْمُحْرَزِ , كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ , لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ . وَشَرْعِيٌّ : وَيَكُونُ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ , وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا . فَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مِنْ الْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ , يَبْطُلُ بَيْعُهُ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ , بِشَرْطَيْ الطَّهَارَةِ وَالنَّفْعِ , كَمَا فَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ شَرْطِ التَّقَوُّمِ هَذَا بِشَرْطِ الْمَالِيَّةِ , بِتَعْرِيفِ الْمَالِ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ : مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ , وَيُبَاحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْحَنَابِلَةُ . فَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَنْفَعَةِ , مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا : كَالْحَشَرَاتِ , وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ . وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ . وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلضَّرُورَةِ , كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ .
9 - فَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ : بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ , فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ , وَيُلْحَقُ بِهِمَا بَاقِي نَجِسِ الْعَيْنِ , وَكَذَا كُلُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ ذَاتِيَّةٌ وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ . وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ : { إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } . وَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بِثَمَنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ , فَهُوَ بَاطِلٌ . وَبَيْنَ بَيْعِهَا بِأَعْيَانٍ أَوْ عُرُوضٍ , فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْخَمْرِ , وَيَفْسُدُ فِيمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْعُرُوضِ وَالْأَعْيَانِ . وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ , وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ وَنَحْوُهَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ , فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا , فَكَذَا يَبْطُلُ فِي ثَمَنِهَا . أَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ , مَقْصُودٍ بِالتَّمَلُّكِ , وَلَكِنْ فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ , فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْخَمْرِ الْمُسَمَّى . وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ . وَفِي هَذَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ .
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَبَايُعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَا يَلِي :
أ - أَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا , فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ , كَالْخَلِّ وَكَالشَّاةِ لَنَا , فَكَانَ مَالًا فِي حَقِّهِمْ , فَيَجُوزُ بَيْعُهُ . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ : أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا . وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ .
ب - وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا : حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ , لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ , وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا , فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ , لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا , لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا , ويَتَمَوَّلُونَهَا , وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ . فَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الْكَاسَانِيِّ : وَظَاهِرُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَوْ بِيعَتْ بِالثَّمَنِ .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , الْمَيْتَةُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهَا , بَلْ مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهَا مَالٌ عِنْدَ الذِّمِّيِّ كَالْخَمْرِ . وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شَرْطِ الْمَالِيَّةِ .
مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ الْبَيْعِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3352)(1/210)
147 - وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ حُكْمِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ , أَشْيَاءَ : - الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ , الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ لِلْحَاجَةِ . - شِرَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدُّورَ , وَقَدْ كُتِبَ فِي جُدْرَانِهَا أَوْ سُقُوفِهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى , فَيَكُونُ مُغْتَفَرًا لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ غَالِبًا , إذْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ الْقُرْآنِيَّةُ . - وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ - التَّمِيمَةَ لِمَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ , وَكَذَا الرِّسَالَةُ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم . - وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الثَّوْبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ , لِعَدَمِ قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ بِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ , إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْغَالِبُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ التَّبَرُّكُ بِلَا لُبْسٍ , فَأَشْبَهَ التَّمَائِمَ , عَلَى أَنَّ فِي مُلَابَسَتِهِ لِبَدَنِ الْكَافِرِ امْتِهَانًا لَهُ , بِخِلَافِ مَا يُكْتَبُ عَلَى السُّقُوفِ . وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ , هُوَ الْحَاكِمُ لَا آحَادُ النَّاسِ , وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3585)(1/211)
6 - الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ فَقَالَ : وَسَأَلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ , وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً , وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً . وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا - مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ , وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً , وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ , لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ , وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ , وَبِهِ أُمِرْنَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ { حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ , فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى قُرَيْشٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ , فَأَرَادَ عُمَرُ رضي الله عنه قَتْلَهُ , فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرَ : مَهْلًا يَا عُمَرُ , فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ , وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا , وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ , فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُمْ , وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ , وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ , لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ , وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ , إلَّا أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبِ الْأَمَانِ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ : آمَنَّاك إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَوْ آمَنَّاك عَلَى أَنَّك إنْ أَخْبَرْت أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَان لَك - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ , لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ , فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ عَيْنًا , فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ . وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ , إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ . فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا , لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , كَمَا إذَا قَاتَلَتْ , إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى . وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ , بِهَذِهِ الصِّفَةِ , فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا(1/212)
يُقْتَلُ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ , فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ . وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا . وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا . وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ , وَقَالَ : الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ , فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ , لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ . فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ , وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ , وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إلَّا بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ , أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ , وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا , وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ . وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ , إلَى مَلَكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ , وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ , لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ , وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ , فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ , وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ : فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ , وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا , لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى .
7 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ , وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ : يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ . وَقِيلَ : يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ , وَقِيلَ : يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ , وَقِيلَ : إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ . وَقِيلَ : يُقْتَلُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } مَا يَأْتِي : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ عَدَدُهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ , إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ , كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ . وَإِذَا قُلْنَا : لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ , فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ , وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ . فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ , وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ , وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا إنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ , فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَلَّى سَبِيلَهُ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ , مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ . }(1/213)
8 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ ( أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ , وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ , وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ .
9 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا : تَجَسُّسٌ أَوْ آوَى جَاسُوسًا , لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ , أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : إنَّهُ يُقْتَلُ . وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ .
تَحْقِيرٌ (1)
1 - مِنْ مَعَانِي التَّحْقِيرِ فِي اللُّغَةِ : الْإِذْلَالُ وَالِامْتِهَانُ وَالتَّصْغِيرُ . وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّرَ , وَالْمُحَقَّرَاتُ : الصَّغَائِرُ . وَيُقَالُ : هَذَا الْأَمْرُ مَحْقَرَةٌ بِك : أَيْ حَقَارَةٌ . وَالْحَقِيرُ : الصَّغِيرُ الذَّلِيلُ . تَقُولُ : حَقَّرَ حَقَارَةً , وَحَقَّرَهُ وَاحْتَقَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ : إذَا اسْتَصْغَرَهُ وَرَآهُ حَقِيرًا . وَحَقَّرَهُ : صَيَّرَهُ حَقِيرًا , أَوْ نَسَبَهُ إلَى الْحَقَارَةِ . وَحَقَّرَ الشَّيْءَ حَقَارَةً : هَانَ قَدْرُهُ فَلَا يَعْبَأُ بِهِ , فَهُوَ حَقِيرٌ . وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :
لِلتَّحْقِيرِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3666)(1/214)
2 - فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ : كَمَا فِي تَحْقِيرِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَسُخْرِيَةً مِنْهُ وَامْتِهَانًا لِكَرَامَتِهِ . وَفِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ , وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ , وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيَاتِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا , وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ , وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ , لَا يَظْلِمْهُ وَلَا يَخْذُلْهُ وَلَا يُحَقِّرْهُ التَّقْوَى هَاهُنَا . وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ . كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } . وَفِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ . فَقَالَ رَجُلٌ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً . قَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ . الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَغَمْصُ النَّاسِ } , وَبَطَرُ الْحَقِّ : هُوَ دَفْعُهُ وَإِبْطَالُهُ , وَالْغَمْطُ وَالْغَمْصُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ , وَهُوَ : الِاحْتِقَارُ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } قِيلَ مَعْنَاهُ : مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ أَوْ سَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ : السُّخْرِيَةُ : الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يُضْحَكُ مِنْهُ , وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ , أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلِطَ , أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ , أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ . فَمَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ التَّحْقِيرِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ كَانَ قَدْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ شَرْعًا تَأْدِيبًا لَهُ . وَهَذَا التَّعْزِيرُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ , وَفْقَ مَا يَرَاهُ فِي حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ وَطِبْقًا لِلشَّرْعِ , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ ( تَعْزِيرٌ ) , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ , وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ , فَلِكُلٍّ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْهُ . وَهَذَا إنْ قُصِدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ التَّحْقِيرُ . أَمَّا إنْ قُصِدَ التَّعْلِيمُ أَوْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَطَأِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْقِيرًا - فَلَا بَأْسَ بِهِ , فَيُعْرَفُ قَصْدُهُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ .
3 - هَذَا وَقَدْ يَصِلُ التَّحْقِيرُ الْمُحَرَّمُ إلَى أَنْ يَكُونَ رِدَّةً , وَذَاكَ إذَا حَقَّرَ شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , كَتَحْقِيرِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْمَسْجِدِ وَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } , وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ أَيْضًا : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } . وَنُقِلَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ لِمَالِكٍ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَزْدَرِي الصَّلَاةَ , وَرُبَّمَا ازْدَرَى الْمُصَلِّينَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَلَأٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , مِنْهُمْ مَنْ زَكَّى وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُزَكِّ . فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِازْدِرَاءِ بِالْمُصَلِّينَ لِقِلَّةِ اعْتِقَادِهِ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْمُسْلِمِ , فَيَلْزَمُهُ الْأَدَبُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ . وَمَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى ازْدِرَاءِ الْعِبَادَةِ فَالْأَصْوَبُ أَنَّهُ رِدَّةٌ , لِإِظْهَارِهِ إيَّاهُ وَشُهْرَتِهِ بِهِ , لَا زَنْدَقَةٌ , وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ .(1/215)
4 - وَقَدْ يَكُونُ التَّحْقِيرُ وَاجِبًا : كَمَا هُوَ الْحَالُ فِيمَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّغَارُ عِنْدَ إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ , وَجِزْيَةٌ ) .
تَحَوُّلُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى ذِمِّيٍّ (1)
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) إلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا . وَظَاهِرُ الْمُتُونِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ : إنْ أَقَمْت سَنَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَضَعْنَا عَلَيْك الْجِزْيَةَ , شَرْطٌ لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا , فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ سَنَةً , أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَكَذَلِكَ يَتَحَوَّلُ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى ذِمِّيٍّ بِالتَّبَعِيَّةِ : كَمَا لَوْ دَخَلَ مَعَ امْرَأَتِهِ , وَمَعَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ , فَصَارَ ذِمِّيًّا , فَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ بِخِلَافِ الْكِبَارِ . وَتَتَرَتَّبُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُسْتَأْمَنِ ذِمِّيًّا أَحْكَامُ عِدَّةٍ , يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إلَى مُصْطَلَحَيْ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ , وَمُسْتَأْمَنٌ ) .
تَحَوُّلُ الذِّمِّيِّ إلَى حَرْبِيٍّ (2)
31 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ يَتَحَوَّلُ إلَى حَرْبِيٍّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُخْتَارًا طَائِعًا وَالْإِقَامَةِ فِيهَا , أَوْ بِنَقْضِ عَهْدِ ذِمَّتِهِ , فَيَحِلُّ دَمُهُ وَمَالُهُ . وَفِي مُحَارَبَتِهِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِ - خِلَافٌ بَيْنَهُمْ , وَكَذَلِكَ فِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( أَهْلُ الْحَرْبِ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
تَشَبُّهٌ (3)
1 - التَّشَبُّهُ لُغَةً : مَصْدَرُ تَشَبَّهَ , يُقَالُ : تَشَبَّهَ فُلَانٌ : بِفُلَانٍ إذَا تَكَلَّفَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ : الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي , وَمِنْهُ : أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَبَاهُ : إذَا شَارَكَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
2 - مِنْهَا : الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّقْلِيدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا تَحْتَ عِنْوَانٍ : ( اتِّبَاعٌ ) .
3 - وَمِنْهَا : الْمُوَافَقَةُ , وَهِيَ : مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَمْ لَا لِأَجْلِهِ . فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنْ التَّشَبُّهِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ :
أَوَّلًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3732) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13737)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3732)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4154)(1/216)
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ , وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى : أَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ - الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ بِهِ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ - يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا , أَيْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , فَمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ يَكْفُرُ , إلَّا إذَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ . وَكَذَا إذَا لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى إلَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ . أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } لِأَنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ , وَلَا يَلْبَسُهُ إلَّا مَنْ الْتَزَمَ الْكُفْرَ , وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَلَامَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ شَدَّ الزُّنَّارَ لَا لِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ , بَلْ لِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسَارَى مَثَلًا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكَافِرِ فِي الْمَلْبُوسِ الْخَاصِّ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا , إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٌ بِجِنَانِهِ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ , وَالدُّخُولُ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ , وَهُمَا قَائِمَانِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ : إنْ تَزَيَّا مُسْلِمٌ بِمَا صَارَ شِعَارًا لِأَهْلِ ذِمَّةٍ , أَوْ عَلَّقَ صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حَرُمَ , وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي . وَيَرَى النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ الزُّنَّارَ وَنَحْوَهُ لَا يَكْفُرُ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ .
أَحْوَالُ تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ :
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ كُفْرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الْخَاصِّ بِهِمْ بِقُيُودٍ مِنْهَا : 5 - أَنْ يَفْعَلَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , قَالَ أَحْمَدُ الرَّمْلِيُّ : كَوْنُ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ رِدَّةً مَحَلُّهُ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . أَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ رِدَّةً ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ , أَوْ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ دَارِ كُفْرٍ غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ ( لِلْكُفَّارِ ) فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ ; لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَوْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ أَحْيَانًا فِي هَدْيِهِمْ الظَّاهِرِ , إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ , مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى الدِّينِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ أُمُورِهِمْ لِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ , أَوْ دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ . فَأَمَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا دِينَهُ , وَجَعَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِيهَا الصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ فَفِيهَا شُرِعَتْ الْمُخَالَفَةُ .
6 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ لَا يَكْفُرُ , فَمَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسْرَى , أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَكْفُرُ . وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لَا يَكْفُرُ .
7 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ , كَبُرْنِيطَةِ النَّصْرَانِيِّ وَطُرْطُورِ الْيَهُودِيِّ . وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِتَحَقُّقِ الرِّدَّةِ بِجَانِبِ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَبِّهُ قَدْ سَعَى بِذَلِكَ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا .
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اللِّبَاسُ الْمُعَيَّنُ شِعَارًا لِلْكُفَّارِ , وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ , فَقَالَ : كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال بِقِصَّةِ الْيَهُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ , وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ , فَصَارَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ .(1/217)
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ مَيْلًا لِلْكُفْرِ , فَمَنْ تَشَبَّهَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالسُّخْرِيَةِ لَمْ يَرْتَدَّ , بَلْ يَكُونُ فَاسِقًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ , وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
10 - هَذَا , وَالتَّشَبُّهُ فِي غَيْرِ الْمَذْمُومِ وَفِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَبُّهُ لَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ : إنَّ التَّشَبُّهَ ( بِأَهْلِ الْكِتَابِ ) لَا يُكْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ , بَلْ فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّشَبُّهُ . قَالَ هِشَامٌ : رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ لَابِسًا نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ بِمَسَامِيرَ فَقُلْت أَتَرَى بِهَذَا الْحَدِيدِ بَأْسًا ؟ قَالَ : لَا , قُلْت : سُفْيَانُ وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَرِهَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالرُّهْبَانِ , فَقَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَهَا شَعْرٌ وَإِنَّهَا مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ } . فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ صُورَةَ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ لَا يَضُرُّ , فَإِنَّ الْأَرْضَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِيهَا إلَّا بِهَذَا النَّوْعِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ر : ( رِدَّةٌ , كُفْرٌ ) .
سَادِسًا : تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ :
18 - يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا , وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ , فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : أَصْلَحَك اللَّهُ تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ : نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ . فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ الْإِكَافَ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ , فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ . وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ , وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ . هَذَا , وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَغَارٌ لَا إعْزَازٌ ; لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ وَاجِبٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ , بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ . وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ , وَتُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَةٌ كَيْ لَا يُعَامَلُوا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمَقَامِ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُمْنَعُ تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ تُنْظَرُ أَبْوَابُ الْجِزْيَةِ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
إتْلَافُ الصَّلِيبِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4246)(1/218)
13 - مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا لِمُسْلِمٍ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ اتِّفَاقًا . وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَإِنْ أَظْهَرُوهُ كَانَتْ إزَالَتُهُ وَاجِبَةً , وَلَا ضَمَانَ أَيْضًا . وَإِنْ كَانَ اقْتِنَاؤُهُمْ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ , كَاَلَّذِي يَجْعَلُونَهُ فِي دَاخِلِ كَنَائِسِهِمْ أَوْ بُيُوتِهِمْ , يُسِرُّونَهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُظْهِرُونَهُ , فَإِنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَجَبَ رَدُّهُ اتِّفَاقًا . أَمَّا إنْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِذَلِكَ : فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : فِيهِ الضَّمَانُ , بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَتَقَوُّمِ الْخَلِّ فِي حَقِّنَا . وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : لَا يَضْمَنُ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ وَلَا لِذِمِّيٍّ , وَهَكَذَا إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ ; لِأَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ , فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ , وَهُوَ الضَّمَانُ , فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الصَّلِيبِ ; وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ , فَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ , لَكِنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ نَظَرًا إلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ . وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ : إنَّ الْأَصْنَامَ وَالصُّلْبَانَ لَا يَجِبُ فِي إبْطَالِهَا شَيْءٌ , لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِاسْتِعْمَالِ , وَلَا حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا ( أَيْ لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً ) وَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا لَا تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ , بَلْ تُفْصَلُ لِتَعُودَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّأْلِيفِ , لِزَوَالِ الِاسْمِ بِذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُكْسَرُ وَتُرَضَّضُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ . وَنَقَلَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الصَّلِيبَ إنْ كَانَ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَلَا يُضْمَنُ إذَا كُسِرَ , أَمَّا إذَا أُتْلِفَ فَيُضْمَنُ مَكْسُورًا . وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ مِنْ الْخَشَبِ بِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعَةٌ ; لِأَنَّهَا أَقَلُّ قِيمَةً , وَفِي الْخَشَبِ أَوْ الْحَجَرِ هِيَ الْأَصْلُ فَلَا يُضْمَنُ . فَعَلَيْهِ يُضْمَنُ الصَّلِيبُ الْمَسْتُورُ لِلذِّمِّيِّ إنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إذَا أَتْلَفَ بِمِثْلِهِ ذَهَبًا بِالْوَزْنِ , وَتُلْغَى صَنْعَتُهُ . قَالَ الْحَارِثِيُّ : وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4247)(1/219)
14 - يَجُوزُ إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى إبْقَاءِ صُلْبَانِهِمْ , وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوهَا , بَلْ تَكُونُ فِي كَنَائِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ الْخَاصَّةِ . وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : إنَّ الْمُرَادَ بِكَنَائِسِهِمْ كَنَائِسُهُمْ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا . وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ " بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا كِتَابٌ لِعُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ : لِمَا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ . إلَى أَنْ قَالُوا : وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا ( أَيْ مِنْ كُتُبِ دِينِهِمْ ) فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نُظْهِرُ الصَّلِيبَ فِي كَنَائِسِنَا إلَخْ " وَقَوْلُهُمْ : " فِي كَنَائِسِنَا " الْمُرَادُ بِهِ خَارِجَهَا مِمَّا يَرَاهُ الْمُسْلِمُ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ التَّصْلِيبِ عَلَى أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَظَوَاهِرِ حِيطَانِهَا , وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ إذَا نَقَشُوا دَاخِلَهَا . وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ : أَنْ يُمْنَعَ نَصَارَى الشَّامِ أَنْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا , وَلَا يَرْفَعُوا صَلِيبَهُمْ فَوْقَ كَنَائِسِهِمْ , فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ . وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ الْخَاصَّةِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ . وَيُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الصَّلِيبِ وَتَعْلِيقِهِ فِي رِقَابِهِمْ أَوْ أَيْدِيهِمْ , وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ الْإِظْهَارِ , وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ مِنْ فِعْلِهِ مِنْهُمْ . وَيُلَاحَظُونَ فِي مَوَاسِمِ أَعْيَادِهِمْ بِالذَّاتِ , إذْ قَدْ يُحَاوِلُونَ إظْهَارَ الصَّلِيبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ , لِمَا فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إظْهَارِهِ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ , وَيُكْسَرُ الصَّلِيبُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ , وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ .
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ (1)
60 - يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِلُ إلَيْهِ أَنَّ فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ , وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ , وَلَوْ دَخَلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ . هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ عَنْهُ , لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلًا : إنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ . أَيَخْرُجُ ؟ قَالَ : لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا . إذَا رَأَى الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ . يَعْنِي : وَلَا يَخْرُجُ . قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي , قَالَ : لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ , فَقَالَ : قَاتَلَهُمْ اللَّهُ , لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ } قَالُوا : وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ , لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا , وَلِلْمَارَّةِ بِدَوَابِّهِمْ . وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . قَالُوا : وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ { أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ دُخُولِهِ , كَمَا لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ .
61 - وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ , أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ . أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا يَأْتِي . وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ الدُّخُولِ إلَى مَكَان هِيَ فِيهِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4284)(1/220)
62 - وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ , وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : إنْ رَأَى صُوَرًا فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُلْ الْمَنْزِلَ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرُ إنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لَا تُوطَأُ , فَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ : عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُولِ , بَلْ يُكْرَهُ . وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلَانِيّ , وَالْإِمَامِ , وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ , وَالْإِسْنَوِيِّ . قَالُوا : وَهَذَا إنْ كَانَتْ الصُّوَرُ فِي مَحَلِّ الْجُلُوسِ , فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنْ الْمَنْزِلِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ .
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ (1)
69 - الْكَنَائِسُ وَالْمَعَابِدُ الَّتِي أُقِرَّتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالصُّلْحِ لَا يُتَعَرَّضُ لِمَا فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ مَا دَامَتْ فِي الدَّاخِلِ . وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَتَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه دَخَلَ الْكَنِيسَةَ بِالْمُسْلِمِينَ , وَأَخَذَ يَتَفَرَّجُ عَلَى الصُّوَرِ . وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ , لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمَارَّةُ . وَلِذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ : لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيَعَةِ , وَالصَّلَاةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ . وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ : يُكْرَهُ دُخُولُهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ مُعَلَّقَةٌ .
تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ (2)
9 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ : فِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ أَنْ تَعْلُوَ أَبْنِيَتُهُمْ عَلَى أَبْنِيَةِ جِيرَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ قَالَ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ . عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ ذَهَبَ : إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّعَلِّي لِلْحِفْظِ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّعَلِّي فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ - بَلْ لِلتَّحَفُّظِ - فَلَا يُمْنَعُونَ .
صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ (3)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4288)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4477)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4572)(1/221)
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ , عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ . كَأَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ مَثَلًا : بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه , { أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ } , وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ , وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى : أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ , وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ , وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ صلى الله عليه وسلم إنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ , وَلَا يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ , فَيَجْرِي بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ , وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ . وَهَلْ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إلَّا بِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ , أَظْهَرُهُمَا : الْأَوَّلُ , وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : وَاجِبٌ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى : أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ , لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ , وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ , وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً , وَتُغَلَّظُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
7 - وَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ , أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْخَصْمُ ؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي , وَلَا دَخْلَ لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ , فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا , فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنْ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلًا . وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنْ التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ ( أَيْمَانٌ ) .
تَقْبِيلٌ (1)
1 - التَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ قَبَّلَ , وَالِاسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ وَهِيَ اللَّثْمَةُ , وَالْجَمْعُ الْقُبَلُ . يُقَالُ قَبَّلَهَا تَقْبِيلًا أَيْ لَثَمَهَا وَتَقَبَّلْتُ الْعَمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا الْتَزَمْته بِعَقْدٍ . وَالْقَبَالَةُ : اسْمُ الْمَكْتُوبُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : كُلُّ مَنْ تَقَبَّلَ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا , فَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ هُوَ الْقَبَالَةُ " بِالْفَتْحِ " وَالْعَمَلُ قِبَالَةٌ " بِالْكَسْرِ " . وَتَقْبِيلُ الْخَرَاجِ : هُوَ أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ , صُقْعًا , أَوْ بَلْدَةً , أَوْ قَرْيَةً , إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ , مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ , يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَارِجِ أَرْضِهَا , أَوْ جِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ . وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي التَّقْبِيلِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " خَرَاجٌ , وَقَبَالَةٌ " . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي .
أَقْسَامُ التَّقْبِيلِ : 2 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّقْبِيلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : قُبْلَةُ الْمَوَدَّةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْخَدِّ , وَقُبْلَةُ الرَّحْمَةِ لِوَالِدَيْهِ عَلَى الرَّأْسِ , وَقُبْلَةُ الشَّفَقَةِ لِأَخِيهِ عَلَى الْجَبْهَةِ , وَقُبْلَةُ الشَّهْوَةِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى الْفَمِ , وَقُبْلَةُ التَّحِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْيَدِ . وَزَادَ بَعْضُهُمْ قُبْلَةَ الدِّيَانَةِ لِلْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ التَّقْبِيلِ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ آثَارٍ :
أَحْكَامُ التَّقْبِيلِ أَوَّلًا : التَّقْبِيلُ الْمَشْرُوعُ :
أ - تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4645)(1/222)
3 - يُسَنُّ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فِي حَالَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ يَقْدِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَرٌ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك } . فَإِنْ عَجَزَ عَنْ التَّقْبِيلِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَهَا , وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ وَكَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ } , وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ } . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُقَبِّلَهُ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : طَوَافٌ , وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ " .
تَقَوُّمُ الْمُتْلَفَاتِ (1)
4 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُتْلَفُ مُتَقَوِّمًا , فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا , لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ . ( ر : إتْلَافٌ ف 34 - 1 صلوات الله وسلامه عليه ) . أَمَّا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضَّمَانِ , وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّنَا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَا يَدِينُونَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ عُمَّالَهُ : مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ ؟ فَقَالُوا : نُعَشِّرُهَا , فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا , وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا . فَلَوْلَا أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ لَهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ , فَإِذَا كَانَتْ مَالًا لَهُمْ وَجَبَ ضَمَانُهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ . وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانَا لِمُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ , لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَتِهِ لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ كَالْمَيْتَةِ , وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُمَا , وَدَلِيلُ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ - فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ - { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّينَ لَا أَنَّ حَقَّهُمْ يَزِيدُ عَلَى حَقِّ الْمُسْلِمِينَ , وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ , إذَا الْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ , فَيَسْقُطُ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّهِمْ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( إتْلَافٌ , وَضَمَانٌ ) .
مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4687)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5071)(1/223)
27 - التَّيْسِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ . أَمَّا الْكَافِرُ فَلَهُ التَّشْدِيدُ وَالتَّضْيِيقُ وَالتَّغْلِيظُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ بِاَللَّهِ وَجَحْدِهِ لِنِعْمَتِهِ وَحَقِّهِ ; وَلِرَفْضِهِ الدُّخُولَ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَلِذَلِكَ شُرِعَ قِتَالُ الْكُفَّارِ وَإِدْخَالُهُمْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ . فَإِنْ دَخَلَ الْكَافِرُ فِي الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الْمُحَارَبَةَ , أَوْ دَخَلَ مُسْتَأْمَنًا , حَصَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّيْسِيرِ , كَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ , وَمَنْعِ ظُلْمِهِ فِي النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ , وَإِقْرَارِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي دِينِهِ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) ( وَجِهَادٌ ) . وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُعْتَدِي وَالظَّالِمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَعُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ الَّذِي جَنَاهُ , وَلَهُ مِنْ التَّيْسِيرِ بِحَسَبِ إسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ . فَمِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاسِقِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِرَجْمِهِ حَتَّى الْمَوْتِ إنْ كَانَ مُحْصَنًا , وَهِيَ مِنْ أَعْسَرِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَأَشَدِّهَا , وَبِجِلْدِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا . وَمِنْهَا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ , وَقَتْلُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ , أَوْ صَلْبُهُ , أَوْ تَقْطِيعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ , أَوْ نَفْيُهُ مِنْ الْأَرْضِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْحُدُودِ .
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ :
17 - الْجِزْيَةُ لُغَةً : اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاصْطِلَاحًا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَافِرِ فِي كُلِّ عَامٍ مُقَابِلَ إقَامَتِهِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ . أَمَّا الْإِنَابَةُ فِي أَدَائِهَا وَمِقْدَارُهَا وَمَتَى تَجِبُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ : ( جِزْيَةٌ ) .
18 - وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ جِبَايَتِهَا فَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ صُوَرًا لِكَيْفِيَّةِ الصَّغَارِ مِنْهَا : الْوَارِدُ فِي الْآيَةِ , وَمِنْهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَهُوَ قَائِمٌ , وَيَكُونُ الْقَابِضُ قَاعِدًا , وَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ أَعْلَى مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ , وَيَقُولُ لَهُ الْقَابِضُ أَعْطِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ : إنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرُ الصَّغَارِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ , وَنَقَلَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ نَحْوَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فَقَدْ قَالَ : إنْ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ أَخَذَهَا بِأَحْمَالٍ وَلَمْ يُضَرَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنَلْهُ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ . قَالُوا : وَأَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيُضْطَرَّ إلَى احْتِمَالِهِ . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُعَذَّبُونَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ . فَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ , فَقَالَ هِشَامٌ : أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا } . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْسَبُهُ الْجِزْيَةَ فَقَالَ : إنِّي لَأَظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمْ النَّاسَ ؟ قَالُوا وَاَللَّهِ مَا أَخَذْنَا إلَّا عَفْوًا صَفْوًا قَالَ بِلَا سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى يَدِي وَلَا فِي سُلْطَانِي .
«ب - جباية الخراج»
19 - الخراج في اللّغة : اسم للكراء والغلّة ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الخراج بالضّمان » وهو عند الفقهاء ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدّى عنها لبيت المال.
، والأرض المختصّة بوضع الخراج عليها هي الّتي صولح عليها المشركون من أرضهم على أنّها لهم ولنا عليها الخراج.
وكذلك الأرض الّتي فتحت عنوة عند من يقول بوضع الخراج عليها.
فأمّا مقدار الخراج المأخوذ فينظر في مصطلح : « خراج » .
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :(1/224)
20 - الْعُشْرُ ضَرِيبَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ , تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَعُودُوا إلَيْهَا مِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ التُّجَّارِ كَذَلِكَ إذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إلَيْنَا مُسْتَأْمِنِينَ .
جِزْيَةٌ (1)
1 - قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَالْجَمْعُ الْجِزَى ( بِالْكَسْرِ ) مِثْلُ لِحْيَةٍ وَلِحًى . وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَالِ الَّذِي يُعْقَدُ الذِّمَّةُ عَلَيْهِ لِلْكِتَابِيِّ . وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ قَتْلِهِ . وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ : الْجِزْيَةُ أَيْضًا خَرَاجُ الْأَرْضِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْجِزْيَةُ ( بِكَسْرِ الْجِيمِ ) جَمْعُهَا جِزًى ( بِالْكَسْرِ ) أَيْضًا كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِ , وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَاءُ إسْكَانِنَا إيَّاهُ فِي دَارِنَا , وَعِصْمَتِنَا دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ . وَقِيلَ : هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي إذَا قَضَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أَيْ لَا تَقْضِي . وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ : جَزَاءُ رُءُوسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَمْعُ جِزْيَةٍ وَهُوَ مُعَرَّبٌ : كَزَيْتٍ , وَهُوَ الْخَرَاجُ بِالْفَارِسِيَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ وُجْهَاتُ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْجِزْيَةِ اصْطِلَاحًا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَبِيعَتِهَا , وَفِي حُكْمِ فَرْضِهَا عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَرْضُهُمْ عَنْوَةً ( أَيْ قَهْرًا لَا صُلْحًا ) . فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا : " اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ جِزْيَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مُوجِبُهَا الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ وَفَتْحَ الْأَرْضِ عَنْوَةً , أَوْ عَقْدَ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْشَأُ بِالتَّرَاضِي " . وَعَرَّفَهَا الْحِصْنِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا : " الْمَالُ الْمَأْخُوذُ بِالتَّرَاضِي لِإِسْكَانِنَا إيَّاهُمْ فِي دِيَارِنَا , أَوْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , أَوْ لِكَفِّنَا عَنْ قِتَالِهِمْ " وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا : " مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ كُلَّ عَامٍ بَدَلًا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا " . قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : " تُطْلَقُ - أَيْ الْجِزْيَةُ - عَلَى الْمَالِ وَعَلَى الْعَقْدِ وَعَلَيْهِمَا مَعًا " .
هَذَا وَيُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْجِزْيَةِ عِدَّةَ مُصْطَلَحَاتٍ وَأَلْفَاظٍ مِنْهَا :
أ - ( خَرَاجُ الرَّأْسِ ) : 2 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ : " إذَا جَعَلَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْكُفَّارِ أَهْلَ ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ , وَعَلَى الْأَرَضِينَ بِقَدْرِ الِاحْتِمَالِ , أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسٍ هَجَرَ } . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إذْلَالًا وَصِغَارًا " .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5295)(1/225)
ب - ( الْجَالِيَةُ ) : 3 - الْجَالِيَةُ فِي اللُّغَةِ : مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْجَلَاءِ , فَيُقَالُ : جَلَوْت عَنْ الْبَلَدِ جَلَاءً إذَا خَرَجْت . وَتُطْلَقُ الْجَالِيَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ , وَمِنْهُ قِيلَ : لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجَالِيَةُ , وَقَدْ لَزِمَهُمْ هَذَا الِاسْمُ أَيْنَمَا حَلُّوا , ثُمَّ لَزِمَ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُلِّ بَلَدٍ , وَإِنْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ أَوْطَانِهِمْ . ثُمَّ أُطْلِقَتْ " الْجَالِيَةُ " عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقِيلَ : اُسْتُعْمِلَ فُلَانٌ عَلَى الْجَالِيَةِ . أَيْ عَلَى جِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَجَمْعُ الْجَالِيَةِ الْجَوَالِي . وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْقَشَنْدِيُّ بِأَنَّهَا : " مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْجِزْيَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ " . وَقَدْ اُسْتُخْدِمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ , وَفِي الْإِيصَالَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُعْطَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ مُنْذُ عَصْرِ الْمَمَالِيكِ . قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ : فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَتُعَرَّفُ فِي زَمَنِنَا بِالْجَوَالِي , فَإِنَّهَا تُسْتَخْرَجُ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا فِي غُرَّةِ السَّنَةِ , وَكَانَ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا مَالٌ كَثِيرٌ فِيمَا مَضَى . قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي مُتَجَدِّدَاتِ الْحَوَادِثِ : الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ ارْتِفَاعُ الْجَوَالِي لِسَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ , وَأَمَّا فِي وَقْتِنَا هَذَا , فَإِنَّ الْجَوَالِيَ قَلَّتْ جِدًّا , لِكَثْرَةِ إظْهَارِ النَّصَارَى لِلْإِسْلَامِ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي مَرَّتْ بِهِمْ . وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : تُسَمَّى - أَيْ الْجِزْيَةُ - جَالِيَةً .
ج - ( مَالُ الْجَمَاجِمِ ) : 4 - الْجَمَاجِمُ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ : وَهِيَ عَظْمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الدِّمَاغِ , وَرُبَّمَا عُبِّرَ بِهَا عَنْ الْإِنْسَانِ , فَيُقَالُ : خُذْ مِنْ كُلِّ جُمْجُمَةٍ دِرْهَمًا , كَمَا يُقَالُ : خُذْ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمًا . وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْجِزْيَةِ مَالُ الْجَمَاجِمِ ; لِأَنَّهَا تُفْرَضُ عَلَى الرُّءُوسِ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : " هُوَ أَوَّلُ مَنْ مَسَحَ السَّوَادَ وَأَرْضَ الْجَبَلِ , وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرَضِينَ , وَالْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ . وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ : وَيُسَمَّى - أَيُّ خَرَاجُ الرَّأْسِ - فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ مَالَ الْجَمَاجِمِ , وَهِيَ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ , وَهِيَ الرَّأْسُ . وَجَاءَ فِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ خَرَاجِ مِصْرَ : " أَوَّلُ مَنْ جَبَى خَرَاجَ مِصْرَ فِي الْإِسْلَامِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه , فَكَانَتْ جِبَايَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ بِفَرِيضَةِ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ مِنْ كُلِّ رَجُلٍ , ثُمَّ جَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ . . . أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ . . وَهَذَا الَّذِي جَبَاهُ عَمْرٌو ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ مِنْ الْجَمَاجِمِ خَاصَّةً دُونَ الْخَرَاجِ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْجِزْيَةِ ) : أ - الْغَنِيمَةُ : 5 - الْغَنِيمَةُ : اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ . وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا اُسْتُرِقُّوا فَالْغَنِيمَةُ مُبَايِنَةٌ لِلْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ , وَالْغَنِيمَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقِتَالِ .
ب - الْفَيْءُ : 6 - الْفَيْءُ : كُلُّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْلِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ رِجْلٍ ( مُشَاةٍ ) - أَيْ بِغَيْرِ قِتَالٍ - " وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا انْجَلَوْا عَنْهُ : أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ . وَالثَّانِي : مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ : كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ وَالْعُشُورِ . فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ , فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنْ الْجِزْيَةِ .(1/226)
ج - الْخَرَاجُ : 7 - الْخَرَاجُ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيُصْرَفَانِ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَمِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ , أَمَّا الْخَرَاجُ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ , وَالْجِزْيَةُ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , أَمَّا الْخَرَاجُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , وَيَبْقَى مَعَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ . د - ( الْعُشُورُ ) : 8 - الْعُشُورُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُشُورُ الزَّكَاةِ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ , وَالثَّانِي : مَا يُفْرَضُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي أَمْوَالِهِمْ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ عُشْرًا , أَوْ مُضَافًا إلَى الْعُشْرِ : كَنِصْفِ الْعُشْرِ . وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ , وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَهِيَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الشَّخْصِ , وَالْعُشْرُ عَلَى الْمَالِ .
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الْإِسْلَامِ :(1/227)
9 - بَعْدَ أَنْ تَمَّ فَتْحُ مَكَّةَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ , وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَرَّتْ الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ الْكَرِيمَ بِمُجَاهَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَلِهَذَا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا الْمُسْلِمِينَ إلَى ذَلِكَ , وَنَدَبَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ إلَى قِتَالِهِمْ , فَأَوْعَبُوا مَعَهُ وَاجْتَمَعَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا , وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ يُرِيدُ الشَّامَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ , فَبَلَغَ تَبُوكَ وَنَزَلَ بِهَا , وَأَقَامَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا , يُبَايِعُ الْقَبَائِلَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَيَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ إلَى أَنْ تَمَّ خُضُوعُ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ . قَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ : " نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ الرُّومِ , فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِهَا غَزْوَةَ تَبُوكَ " . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ . بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَّ تَشْرِيعُ الْجِزْيَةِ , وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ تَشْرِيعِهَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ . فَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَذَهَبَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إلَى أَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ , حَيْثُ قَالَ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ : هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلُ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَمَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَامَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ , أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ . هَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِزْيَةً مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ , فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ , وَمَجُوسِ هَجَرَ , ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ , وَأَذْرُحَ , وَأَهْلِ أَذْرَعَاتٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْقَبَائِلِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي أَطْرَافِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ . رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إلَى ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى " . وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ : لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا - أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَجُوسِ وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَخَذَهَا مِنْ النَّصَارَى . وَيَقْصِدُ مَجُوسَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ مَجُوسَ هَجَرَ . رَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : إنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ , وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ , وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ } . وَبَعْدَ أَنَّ أَخَذَهَا صلى الله عليه وسلم مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَجُوسِ هَجَرَ أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْيَهُودِيَّةِ , وَالنَّصْرَانِيَّة فِي تَبُوكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ فَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ حَيْثُ { قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ , وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بَالِغٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارٌ , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِأَنْ يُحْفَظُوا وَيُمْنَعُوا . وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَذْرُحَ وَأَهْلِ الْجَرْبَاءِ وَأَهْلِ تَبَالَةَ وَجَرَشَ , وَأَهْلِ أَذْرَعَاتٍ وَأَهْلِ مَقْنَا , وَكَانَ أَهْلُهَا يَهُودًا , فَصَالَحَهُمْ(1/228)
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُبُعِ غُزُولِهِمْ وَثِمَارِهِمْ وَمَا يَصْطَادُونَ عَلَى الْعَرُوكِ } . وَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ , حَيْثُ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَيْهِمْ . فَقَالَ مُعَاذٌ : " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا " . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ { كِتَابَ الرَّسُولِ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ : مِنْ مُحَمَّدٍ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ . . وَأَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ , وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَنُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ } .
الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :(1/229)
10 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْجِزْيَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا . وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ مُجَاهَدَةَ الْكَافِرِينَ , وَمُقَاتَلَتَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ , وَيَدْخُلُوا الدِّينَ الْحَقَّ , أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَعْضُهَا . وَمِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ بُرَيْدَةَ . { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا . ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ . فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . اُغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا . وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ . فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ . وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ , إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ , فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } . فَقَوْلُهُ : { فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ } يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِهَا . 11 - أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ : كَحَدِيثِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٍ , وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا تُوَجَّهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ , وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ بَرَاءَةٍ , وَيُؤْمَرَ فِيهَا بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ فِي قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } , وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ , وَفِيهِ أَحَادِيثُ , مِنْهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنهما قَالَ : " كَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ : سَمِعْت هُشَيْمًا يَقُولُ : كَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا فِي الْجُمْلَةِ , وَقَدْ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما وَسَائِرُ الْخُلَفَاءِ دُونَ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ إجْمَاعًا .
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
1 - الْجِزْيَةُ عَلَامَةُ خُضُوعٍ وَانْقِيَادٍ لِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ :(1/230)
12 - قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } قِيلَ : مَعْنَاهُ عَنْ ذُلٍّ وَعَنْ اعْتِرَافٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ , وَقِيلَ عَنْ يَدٍ : أَيْ عَنْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَتَرْكَ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَدٌ مِنْ الْمَعْرُوفِ جَزِيلَةٌ . وَقِيلَ : عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ قَهْرٍ وَذُلٍّ وَاسْتِسْلَامٍ كَمَا تَقُولُ : الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَيْ الْأَمْرُ النَّافِذُ لِفُلَانٍ . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَزِّيِّ : عَنْ يَدٍ قَالَ : نَقْدًا عَنْ ظَهْرِ يَدٍ لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : كُلُّ مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُ عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ , فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ . . " . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى : { عَنْ يَدٍ } , فَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ : { عَنْ يَدٍ } إنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْمُعْطِي فَالْمُرَادُ : عَنْ يَدٍ مُؤَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ , يُقَالُ أَعْطَى بِيَدِهِ إذَا انْقَادَ وَأَصْحَبَ , أَوْ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ إلَى يَدٍ نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ وَلَا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ أَحَدٍ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْآخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا , أَوْ الْمُرَادُ عَنْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنْ أَرْوَاحِهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ الصَّغَارَ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ : سَمِعْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا , لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ . فَإِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَقَدْ أَصَغَرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْهُ , فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ دَفْعُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْخُضُوعُ لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مُوجِبًا لِلصَّغَارِ .
2 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
13 - قَالَ الْقَرَافِيُّ : " إنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ , وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ , بَيَانُهُ : أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قُتِلَ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْإِيمَانِ , وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ الْإِيمَانِ , وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ , وَغَضَبُ الدَّيَّانِ , فَشَرَعَ اللَّهُ الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ , لَا سِيَّمَا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ " . وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَانِبَيْنِ : الْأَوَّلُ : الصَّغَارُ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ . وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : " فَكَمَا يَقْتَرِنُ بِالزَّكَاةِ الْمَدْحُ وَالْإِعْظَامُ وَالدُّعَاءُ لَهُ , فَيَقْتَرِنُ بِالْجِزْيَةِ الذُّلُّ وَالذَّمُّ , وَمَتَى أُخِذَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى أَنْ لَا يَثْبُتُوا عَلَى الْكُفْرِ لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْعَارِ , وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ الْكُفْرِ فَهُوَ أَصْلَحُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَوْلَى بِوَضْعِ الشَّرْعِ . وَالثَّانِي : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دَفْعِ الْجِزْيَةِ مِنْ إقَامَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَحَاسِنِهِ . وَقَالَ الْحَطَّابُ - فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ - : الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّلَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ .
3 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاضْطِهَادِ :(1/231)
14 - الْجِزْيَةُ نِعْمَةٌ عُظْمَى تُسْدَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَهِيَ تَعْصِمُ أَرْوَاحَهُمْ وَتَمْنَعُ عَنْهُمْ الِاضْطِهَادَ , وَقَدْ أَدْرَكَ هَذِهِ النِّعْمَةَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْأَوَائِلُ , فَلَمَّا رَدَّ أَبُو عُبَيْدَةُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ تَوْفِيرَ الْحِمَايَةِ لَهُمْ قَالُوا لِوُلَاتِهِ : " وَاَللَّهِ لَوِلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ , أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ فَقَدْ أَقَرَّ أَهْلُ حِمْصَ بِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ خِلَافِهِمْ لَهُمْ فِي الدِّينِ , أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ أَبْنَاءِ دِينِهِمْ , وَذَلِكَ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ وَاضْطِهَادٍ وَعَدَمِ احْتِرَامٍ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ . فَإِذَا قَارَنَّا بَيْنَ الْجِزْيَةِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَغَارٍ , وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُهَا أَهْلُ الْعَقَائِدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ , تَكُونُ الْجِزْيَةُ نِعْمَةً مُسْدَاةً إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَرَحْمَةً مُهْدَاةً إلَيْهِمْ , وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى , وَالِاعْتِرَافَ بِالْجَمِيلِ لِلْمُسْلِمِينَ .
14 - الْجِزْيَةُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ .
15 - تُعْتَبَرُ الْجِزْيَةُ مَوْرِدًا مَالِيًّا مِنْ مَوَارِدِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ : كَالدِّفَاعِ عَنْ الْبِلَادِ , وَتَوْفِيرِ الْأَمْنِ فِي الْمُجْتَمَعِ , وَتَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ , وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ : كَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجُسُورِ وَالطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ : " فِي أَخْذِهَا مَعُونَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ " . وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : " بَلْ هِيَ نَوْعُ إذْلَالٍ لَهُمْ وَمَعُونَةٌ لَنَا " . وَجِبَايَةُ الْمَالِ لَيْسَتْ هِيَ الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ , وَإِنَّمَا الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ هُوَ تَحْقِيقُ خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْعَيْشُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ لِيَطَّلِعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَعَدْلِ الْمُسْلِمِينَ , فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَاسِنُ بِمَثَابَةِ الْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ لَهُمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ الْكُفْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى فَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ إلَّا بَعْدَ تَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ , وَهِيَ تُفَضِّلُ دُخُولَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِعْفَاءَهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْكُفْرِ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهَا دَوْلَةُ هِدَايَةٍ لَا جِبَايَةٍ . جَاءَ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ : " كَتَبَ عُمَرُ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . . فَاعْرِضْ عَلَى صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَنْ يُعْطِيَك الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ تُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ سَبْيِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ دِينِ قَوْمِهِ , فَمَنْ اخْتَارَ مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ , وَمَنْ اخْتَارَ دِينَ قَوْمِهِ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ مَا يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ " ثُمَّ قَالَ : " فَجَمَعْنَا مَا فِي أَيْدِينَا مِنْ السَّبَايَا وَاجْتَمَعَتْ النَّصَارَى , فَجَعَلْنَا نَأْتِي بِالرَّجُلِ مِمَّنْ فِي أَيْدِينَا , ثُمَّ نُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ , فَإِذَا اخْتَارَ الْإِسْلَامَ كَبَّرْنَا تَكْبِيرَةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ تَكْبِيرِنَا حِينَ نَفْتَحُ الْقَرْيَةَ , ثُمَّ نَحُوزُهُ إلَيْنَا . وَإِذَا اخْتَارَ النَّصْرَانِيَّةَ نَخَرَتْ النَّصَارَى - أَيْ أَخْرَجُوا أَصْوَاتًا مِنْ أُنُوفِهِمْ - ثُمَّ حَازُوهُ إلَيْهِمْ وَوَضَعْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ , وَجَزِعْنَا مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنَّا إلَيْهِمْ . . فَكَانَ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهُمْ " .
أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5305)(1/232)
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ - إلَى أَقْسَامٍ , فَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ رِضَا الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَعَدَمِ رِضَاهُ - إلَى صُلْحِيَّةٍ وَعَنْوِيَّةٍ . وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا : هَلْ تَكُونُ عَلَى الرُّءُوسِ أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الذِّمِّيُّ ؟ إلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عُشْرِيَّةٍ . وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَوْصَافِهِمْ وَعَدَمِ النَّظَرِ إلَيْهَا - إلَى جِزْيَةِ أَشْخَاصٍ , وَجِزْيَةِ طَبَقَاتٍ أَوْ أَوْصَافٍ . أَوَّلًا - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ وَالْعَنْوِيَّةُ :
16 - صَرَّحَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَلَا يَرِدُ هَذَا التَّقْسِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ . فَالْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ : هِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ . وَعَرَّفَهَا الْعَدَوِيُّ بِأَنَّهَا : مَا الْتَزَمَ كَافِرٌ قَبْلَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ أَدَاءَهُ مُقَابِلَ إبْقَائِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رضي الله عنه لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَأَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ : فَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بِدُونِ رِضَاهُمْ , فَيَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَرْضِهِمْ . وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا : " مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ , وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ :
17 - تَفْتَرِقُ الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ عَنْ الْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَهِيَ :
1 - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ مِنْ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ طَلَبُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَرِضَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَالَحَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ . 2 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ مُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ .
3 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ كَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالذُّكُورَةِ أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ , فَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ , وَعَنْ النِّسَاءِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ .
4 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَمْوَالِ , أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ كَمَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ , فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى الْمَاشِيَةِ وَأَرْبَاحِ الْمِهَنِ الْحُرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
5 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ تَفْصِيلًا وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إجْمَالًا , أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا , فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ , كَالصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ نَجْرَانَ , فَقَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي السَّنَةِ .
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ , وَالْجِزْيَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ :(1/233)
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ - إلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عَلَى الْأَمْوَالِ . 18 - فَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ تُوضَعُ عَلَى الْأَشْخَاصِ : كَدِينَارٍ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ , وَمِنْ ذَلِكَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ , حَيْثُ وَضَعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا . وَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ : مَا يُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ : كَالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ " مَقْنَا " عَلَى رُبُعِ عَرُوكِهِمْ وَغُزُولِهِمْ وَرُبُعِ ثِمَارِهِمْ . وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رضي الله عنه لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ , أَوْ ضِعْفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ . فَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ - بِهَذَا الْوَصْفِ - تَدْخُلُ تَحْتَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ . وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مُصْطَلَحِ : ( عُشْرٌ ) .
( طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ ) :(1/234)
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ , هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ , أَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مُعَوَّضٍ , أَمْ أَنَّهَا صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ , وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَعَثَ بِهَا مَعَ شَخْصٍ آخَرَ , بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ , فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { عَنْ يَدٍ } - يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا . فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ بِحَالَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَزَاءِ , وَهُوَ إمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ , وَإِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ . وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ , لِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ وَشَرٌّ , وَلَيْسَ طَاعَةً فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْجَزَاءِ : وَهُوَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ بِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ جِنَايَةٌ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً , وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَهُمْ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ . وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً هُوَ الْقَتْلُ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ , فَلَمَّا دُفِعَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْجِزْيَةَ , صَارَتْ الْجِزْيَةُ عُقُوبَةً بَدَلَ عُقُوبَةِ الْقَتْلِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ , ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ . فَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ : الْجِزْيَةُ تَجِبُ عِوَضًا عَنْ النُّصْرَةِ : وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِمَايَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النُّصْرَةَ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ رَعَايَا الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ . فَالْمُسْلِمُونَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الْمُقَاتِلَةِ : إمَّا بِأَنْفُسِهِمْ , وَإِمَّا بِأَمْوَالِهِمْ , فَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . وَلَمَّا فَاتَتْ النُّصْرَةُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ إصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ , تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ النُّصْرَةُ بِالْمَالِ : وَهِيَ الْجِزْيَةُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : الْجِزْيَةُ تَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ , كَمَا تَجِبُ عِوَضًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا . فَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَحَقْنِ الدَّمِ تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ . وَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا مَا عَنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا , تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الْإِجَارَةِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ , فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَ الْكُفَّارِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ , فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِنَا , وَلَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ إلَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . فَتَكُونُ الْجِزْيَةُ بِذَلِكَ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ مَالِيَّةٌ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ , فَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ ; لِأَنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ(1/235)
اللَّهِ تَعَالَى , فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ أَصْلًا كَالْحُدُودِ , وَلِذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ . وَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ .
عَقْدُ الذِّمَّةِ :
20 - يَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ لُزُومُ الْجِزْيَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . فَعَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ : الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دَارِنَا وَحِمَايَتِنَا لَهُمْ , وَالذَّبِّ عَنْهُمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ .
إجَابَةُ الْكَافِرِ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ :
21 - قَالَ النَّوَوِيُّ : إذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَكَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ وَجَبَتْ إجَابَتُهُمْ مَا لَمْ تُخَفْ غَائِلَتُهُمْ , أَيْ غَدْرُهُمْ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْنَا , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } . { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ فَمَتَى بَذَلُوهَا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ . وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } . وَفِي كِتَابِ ( الْبَيَانِ ) وَغَيْرِهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً كَمَا فِي الْهُدْنَةِ .
رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ :
22 - وَرُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ : إيجَابٌ وَقَبُولٌ : إيجَابٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَصِيغَتُهُ إمَّا لَفْظٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ لَفْظِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى أُسُسٍ مُعَيَّنَةٍ , وَإِمَّا فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ , كَأَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَيَمْكُثَ فِيهَا سَنَةً , فَيُطْلَبُ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يُصْبِحَ ذِمِّيًّا . وَأَمَّا الْقَبُولُ فَيَكُونُ مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ , وَلِذَا لَوْ قَبِلَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ عَقْدِ الْأَمَانِ لَا عَقْدِ الذِّمَّةِ , فَيُمْنَعُ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ . 23 - وَيُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ التَّأْبِيدُ : فَإِنَّ وُقِّتَ الصُّلْحُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِعِصْمَةِ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ بَدِيلٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَالْإِسْلَامُ مُؤَبَّدٌ , فَكَذَا بَدِيلُهُ , وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَقْدُ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُلْتَزِمًا بِهِ , وَيَنْتَقِضُ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا , وَلَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْتِزَامَ الْجِزْيَةِ بَاقٍ , وَيَسْتَطِيعُ الْحَاكِمُ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى أَدَائِهَا , وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمُخَالَفَاتِ فَهِيَ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا , وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ , وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ , فَمَا دُونَهُ أَوْلَى . فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , أَوْ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ الزِّنَا بِمُسْلِمَةٍ , أَوْ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَإِطْلَاعِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِقِتَالِهِمْ لَنَا أَوْ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ , أَوْ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ . أَمَّا لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ , أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ , أَوْ ذَكَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ وَإِلَّا فَلَا يَنْتَقِضُ . وَيَنْتَقِضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَحَدِ أُمُورِ ثَلَاثَةٍ : وَهِيَ أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ , أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَغْلِبَ الذِّمِّيُّونَ عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا .
مَحَلُّ الْجِزْيَةِ :(1/236)
24 - الْجِزْيَةُ تُفْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ لِقَضَاءِ غَرَضٍ ثُمَّ يَرْجِعُ , قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا أَطَالَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ , فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . فَمَحَلُّ الْجِزْيَةِ إذَا هَمَّ الذِّمِّيُّونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إقَامَةً دَائِمَةً أَوْ طَوِيلَةً , وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَتُضْرَبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ , وَيُشْتَرَطُ فِي الذِّمِّيِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّتِي يُسْمَحُ لَهَا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَاَلَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ .
الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَوْصَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . أَهْلُ الْكِتَابِ : 26 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ : كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد عليه السلام وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام , وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِجَمِيعِ فِرَقِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ إلَّا بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } فَالطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا الْكِتَابُ مِنْ قَبْلِنَا هُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَمُجَاهِدٌ , وَقَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . وَأَمَّا صُحُفُ إبْرَاهِيمَ وَدَاوُد فَقَدْ كَانَتْ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا , فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ . قَالَ الشِّهْرِسْتَانِيّ : أَهْلُ الْكِتَابِ : الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ , وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , مِمَّنْ يَقُولُ بِشَرِيعَةٍ وَأَحْكَامٍ وَحُدُودٍ وَأَعْلَامٍ . . . وَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مَا كَانَ يُسَمَّى كِتَابًا , بَلْ صُحُفًا . وَتَفْصِيلُهُ فِي : ( يَهُودٌ ) ( وَنَصَارَى ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ :(1/237)
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَجَمِ , وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِطْلَاقِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ , فَقَدْ { أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ , وَيَهُودِ الْيَمَنِ , وَأُكَيْدِرِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ } . فَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى " وَأَهْلُ نَجْرَانَ عَرَبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ . وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ , وَلَا يُفْتَنُ يَهُودِيٌّ عَنْ يَهُودِيَّتِهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَقَدْ { قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَهُمْ عَرَبٌ إذْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ } . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : " إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما قَبِلَا الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ . فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيُهَوِّدْهُمْ كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ , فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . وَقَدْ نَسَبَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
( الْمَجُوسُ ) :
28 - وَالْمَجُوسُ هُمْ عَبَدَةُ النَّارِ الْقَائِلُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ أَصْلَيْنِ اثْنَيْنِ مُدَبِّرَيْنِ , يَقْتَسِمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ , وَالنَّفْعَ وَالضَّرَّ , وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ , أَحَدُهُمَا النُّورُ , وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ . وَفِي الْفَارِسِيَّةِ " يزدان " " وَأَهْرَمَن " . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا .(1/238)
29 - وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ أَوْ الْبَحْرَيْنِ . رَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ - بِسَنَدِهِ - إلَى الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ , وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَأَنْ لَا يُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ , وَلَا تُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ } . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ : مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَشْهَدُ أَنِّي لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ , أَيْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ , وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ , وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ : مِنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ . وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ , لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ . فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي حُكْمِ الْآيَةِ . وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ إلَّا وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَيْضًا إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مَجُوسٌ ) .
قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ :
30 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ , وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ , وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي اسْتِقْبَالِهَا . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ , وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , وَالسُّدِّيِّ , وَأَبِي الشَّعْثَاءِ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكِ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ , لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ , وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ , فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ , وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ , فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ , وَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مَالِكٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ , فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي تَدَيُّنِهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ , وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ , فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا أَقَرَّ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ , فَإِنَّ كَفَّرُوهُمْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ النَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالْإِنْجِيلِ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَالنَّصَارَى . وَذَهَبَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يُسْبِتُونَ , وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : هُمْ يُسْبِتُونَ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي : ( صَابِئَةٌ ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ :(1/239)
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا , أَيْ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْعَجَمِ , وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } . { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَالْآيَةُ تَقْضِي بِجَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً , وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . فَالْحَدِيثُ عَامٌّ يَقْتَضِي عَدَمَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ , فَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ عَبَدَةٍ الْأَوْثَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَةٌ ( سَابِقَةٌ ) مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ , فَلَا حُرْمَةَ لِمُعْتَقَدِهِمْ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَأَخَذَ بِهَا هُوَ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَكَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ , ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . } فَهُوَ خَاصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ , لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ . } وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي كَانَ الْعَرَبُ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ . } وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : " أَجْمَعُوا عَلَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَى أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ , وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ } . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ : بِأَنَّ كُفْرَهُمْ قَدْ تَغَلَّظَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَالْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ , فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ فِيهِ . وَكُلُّ مَنْ تَغَلَّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ لقوله تعالى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أَيْ تُقَاتِلُونَهُمْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا . وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَوْزَاعِيِّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ , سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ , أَمْ مِنْ الْعَجَمِ , وَسَوَاءٌ أَكَانُوا قُرَشِيِّينَ أَمْ غَيْرَ قُرَشِيِّينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ , أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . وَقَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ . وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ . فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } وَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْجِزْيَةَ . فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَبُولُ(1/240)
الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ; لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَاسْتَدَلُّوا لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا النَّقْلِ كُلٌّ مِنْ ابْنِ رُشْدٍ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ , وَابْنُ الْجَهْمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ : فَعَلَّلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَامٌ لَهُمْ , لِمَكَانِهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَعَلَّلَهُ الْقَرَوِيُّونَ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ , فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى الشِّرْكِ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّرْكِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ , فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ :
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ .
الْأَمَاكِنُ الَّتِي يَقَرُّ الْكَافِرُونَ فِيهَا بِالْجِزْيَةِ :(1/241)
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ فِي أَيِّ مَكَان مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ : وَهِيَ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ جَنُوبًا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ شَمَالًا , وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ غَرْبًا إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ شَرْقًا . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَهِيَ : مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادِ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ , } وَنَسِيت الثَّالِثَةَ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْت الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَقَالَ : مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ , وَقَالَ يَعْقُوبُ : وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ . فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا . وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ سَوَاءٌ أَكَانَ وَثَنِيًّا , أَمْ يَهُودِيًّا , أَمْ نَصْرَانِيًّا , أَمْ مَجُوسِيًّا . وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : { كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ , لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ . وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : { كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَّا يَنْزِلَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } . وَبِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , حَتَّى لَا أَدَعُ إلَّا مُسْلِمًا } . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى إقْرَارِ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى السُّكْنَى فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِيمَا عَدَا الْحِجَازَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَتَجُوزُ لَهُمْ سُكْنَى الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ : { كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ , وَأَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . قَالُوا : فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ سُكْنَى الْحِجَازِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ , كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ بِجِزْيَةٍ , وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا . وَالْمُرَادُ بِالْحِجَازِ - كَمَا سَبَقَ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { أَخْرِجُوا أَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بِلَادَهُمْ - وَهِيَ الْيَمَنُ - مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا ; لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ , وَكَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلَا يُحْدِثُوا حَدَثًا , وَلَا يَأْكُلُوا الرِّبَا , فَأَكَلُوا الرِّبَا , وَنَقَضُوا الْعَهْدَ , فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا السَّبَبِ , لَا لِكَوْنِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا تَصْلُحُ لِسُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ .(1/242)
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ أَجْلَى مَنْ كَانَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقَدْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ مِنْ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ
شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ :
34 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ مِنْهَا : الْبُلُوغُ , وَالْعَقْلُ , وَالذُّكُورَةُ , وَالْحُرِّيَّةُ , وَالْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ , وَالسَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ . وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ .
أَوَّلًا : ( الْبُلُوغُ ) :
35 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى صِبْيَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ , وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ , لَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . . . } آيَةَ الْجِزْيَةِ . فَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ تَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقِتَالِ , وَالصِّبْيَانُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ . حَيْثُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ . وَالْحَالِمُ : مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ بِالِاحْتِلَامِ , أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ , فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ , وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فِي مَعْنَى " مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى " : يَعْنِي مَنْ أَنْبَتَ , وَقَالَ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ : هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عَلَى الذُّكُورِ الْمُدْرِكِينَ دُونَ الْإِنَاثِ وَالْأَطْفَالِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ لَوْ لَمْ يُؤَدُّوهَا , وَأَسْقَطَهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَهُمْ الذُّرِّيَّةُ . وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى الصِّبْيَانِ , وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ . فَقَدْ صَالَحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَهْلَ بُصْرَى عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَجَرِيبَ حِنْطَةٍ , وَصَالَحَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَّةَ عَلَى الْجِزْيَةِ أَوْ الْجَلَاءِ , فَجَلَا بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ , فَأَمَّنَهُمْ وَوَضَعَ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ مِنْهُمْ دِينَارًا وَجَرِيبًا . وَوَضَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ وَأَخْرَجَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ , وَالصِّبْيَانُ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا .
36 - وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ يَتَنَاوَلُ الْبَالِغِينَ وَمَنْ سَيَبْلُغُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا , وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ , وَلَمْ يُفْرِدُوا كُلَّ مَنْ بَلَغَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ , فَإِنْ اخْتَارَ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ لَهُ , وَإِنْ اخْتَارَ اللَّحَاقَ لِمَأْمَنِهِ أُجِيبَ إلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ الْبُلُوغُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ , وَإِذَا كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ بِقِسْطِهِ .
ثَانِيًا : ( الْعَقْلُ ) :
37 - نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مَجَانِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : هَذَا إجْمَاعٌ , لَكِنَّ ابْنَ رُشْدٍ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَجْنُونِ , وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنْ الْبَيَانِ وَجْهًا ضَعِيفًا لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .(1/243)
ثَالِثًا : ( الذُّكُورَةُ ) :
38 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ .
رَابِعًا : ( الْحُرِّيَّةُ ) :
39 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ , وَابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رُشْدٍ . لِأَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ , وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا , وَالْعَبْدُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ دَفْعِ الْجِزْيَةِ . وَالْعَبْدُ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ النُّصْرَةُ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا , فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ الْبَدَلُ , فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدٍ كَافِرٍ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ سَيِّدِهِ الْكَافِرِ , وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ . قَالَ أَحْمَدُ : أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ , وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ . وَلِأَنَّ الْعَبْدَ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ , فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَالْحُرِّ .
خَامِسًا : ( الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ ) :
40 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ , فَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ الْعَمَلِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ : وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ لَهُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلَةِ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ الْكَسْبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ , وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يُكَلَّفُ بِهَا . وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . فَقَدْ فَرَضَهَا عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ أَدْنَاهَا الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ , فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ . وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ , فَهُوَ إجْمَاعٌ . وَقَالُوا : إنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ , فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ الْكَسْبِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ . وَأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ , لقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ , كَمَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ , إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ , فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ . وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَعُمُومُ حَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ , وَالسُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَمْ يُفَارِقْ الْمَعْذُورُ فِيهَا غَيْرَهُ , فَتُؤْخَذُ مِنْ الْفَقِيرِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْغَنِيِّ .
سَادِسًا : أَلَا يَكُونَ مِنْ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ :(1/244)
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرُّهْبَانَ الْمُخَالِطِينَ لِلنَّاسِ , وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَالْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , وَهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ عَوَامِّهِمْ , فَإِنَّهُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ , وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ عُلَمَائِهِمْ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ , وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ . فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ , وَمَالِكٌ , وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ , وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ . وَسَوَاءٌ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ ; لِأَنَّ الرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ , لِمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ : " لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا , فَدَعْهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ , وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ . فَإِذَا كَانَ الرَّاهِبُ لَا يُقْتَلُ فَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَالْجِزْيَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ , فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ , كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ ; وَلِأَنَّ الرَّاهِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا تُرِكَ لَهُ مِنْ الْمَالِ الْيَسِيرُ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " الْمُتَرَهِّبُونَ الَّذِينَ فِي الدِّيَارَاتِ إذَا كَانَ لَهُمْ يَسَارٌ أُخِذَ مِنْهُمْ , وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ , وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّوَامِعِ إنْ كَانَ لَهُمْ غِنًى وَيَسَارٌ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَيَّرُوا مَا كَانَ لَهُمْ لِمَنْ يُنْفِقُهُ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَمَنْ فِيهَا مِنْ الْمُتَرَهِّبِينَ وَالْقُوَّامِ أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ " . وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَيَّدَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ الرُّهْبَانِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ - أَنَّ الْمُعْتَمِلَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ , فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِ الْمَالِكِ لَهَا عَنْ الزِّرَاعَةِ , فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ . هَذَا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الرَّاهِبِ , فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ , وَحَمَلُوهَا عَلَى الرَّاهِبِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ الَّذِي يَعِيشُ عَلَى صَدَقَاتِ الْمُوسِرِينَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ , سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوسِرِينَ أَوْ غَيْرَ مُوسِرِينَ , قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَهُوَ يَشْمَلُ الرُّهْبَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ وَغَيْرَ الْقَادِرِينَ , الْمُوسِرِينَ وَغَيْرَ الْمُوسِرِينَ . وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ بَالِغٍ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } . وَحَدِيثِ عُمَرَ السَّابِقِ : { وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى } , وَبِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ " . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَالرَّاهِبُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحَقْنِ الدَّمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَالرَّاهِبُ كَغَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ .(1/245)
سَابِعًا : السَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ :
42 - إذَا أُصِيبَ الْمُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بِعَاهَةٍ مُزْمِنَةٍ , كَالْمَرَضِ , أَوْ الْعَمَى , أَوْ الْكِبَرِ الْمُقْعِدِ عَنْ الْعَمَلِ وَالْقِتَالِ , فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ : فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَوْ كَانُوا مُوسِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } . فَفَحْوَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ; لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ , إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ , وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ : كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي : سَوَاءٌ أَكَانَ مُوسِرًا أَمْ غَيْرَ مُوسِرٍ ; وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ , وَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْكِبَارِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ أَهْلٌ لِلْقِتَالِ , إذْ إنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا كَانُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ , وَوُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مُوسِرِينَ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا مُعْسِرِينَ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَأَهْلِ الْحِيرَةِ : " وَجَعَلْت لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنْ الْآفَاتِ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دَيْنِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالَهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ خَرَجُوا إلَى غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِمْ . وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ , وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوسِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَهُوَ يَشْمَلُ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانَ وَالشُّيُوخَ الْكِبَارَ . وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ , كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ . الَّذِي أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ السَّابِقِ : { وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى } , وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِحَقْنِ الدَّمِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِتِلْكَ الْإِصَابَاتِ , وَأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ .
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ :
43 - يَسْتَوْفِي الْعَامِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَفْقَ دِيوَانٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ : " وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ عَدَدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَسْمَاءَهُمْ , وَيُحَلِّيهِمْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَيَّامِ فَيَقُولُ : طَوِيلٌ , أَوْ قَصِيرٌ , أَوْ رَبْعَةٌ , وَأَبْيَضُ , أَوْ أَسْوَدُ , أَوْ أَسْمَرُ , أَوْ أَشْقَرُ , وَأَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ , أَوْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ , أَوْ أَقْنَى الْأَنْفِ . وَيَكْتُبُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا , لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ , وَيَكْتُبُ مَنْ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ بِالْبُلُوغِ , وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ .
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ :(1/246)
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ , وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إذَا فَتَحَ بِلَادَهُمْ عَنْوَةً . فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى . فَقَدْ { صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ , وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ } . { وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , وَعَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } . وَصَالَحَ عُمَرُ رضي الله عنه بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ . رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا صَالَحَهُمْ - يَعْنِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ - عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ , وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ - فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : لَا , هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ . قَالُوا : فَزِدْ مَا شِئْت بِهَذَا الِاسْمِ , لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ , فَفَعَلَ فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ . وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ : " سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ " . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ , فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ , وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : " وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ , فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْنَا بِهِ " وَقَدْ فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ , فَقَدْ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ , وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَطَاقَتِهَا الْإِنْتَاجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ , فَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ . وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَالنُّصْرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَتَفَاوَتُ , فَالْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَ الْإِسْلَامِ رَاجِلًا , وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا , وَالْمُوسِرُ يَنْصُرُهَا بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ . فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ . 45 - وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ . وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ . وَمِنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا , فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا : أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ , وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ . وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ : مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَهُوَ فَقِيرٌ , وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ , وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ . وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ : مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ مُوسِرٌ , وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ أَوْ الْمُكْتَسِبُ . وَالرَّابِعُ : مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ : " الْمُوسِرُ " : مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ , وَالْبَزَّازِ , وَصَاحِبِ الضَّيْعَةِ , وَالتَّاجِرِ , وَالْمُعَالِجِ , وَالطَّبِيبِ , وَكُلِّ مَنْ كَانَ(1/247)
مِنْهُمْ بِيَدِهِ صِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ الْمُوسِرِ , وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنْ الْوَسَطِ , مَنْ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ , وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ , وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ : مِثْلِ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ وَالْخَرَّازِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ . وَالْخَامِسُ : مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ : إنَّهُ يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ , فَصَاحِبُ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ , وَفِي الْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا . فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عُرْفُهَا , فَمَنْ عَدَّهُ النَّاسُ فِي بَلَدِهِمْ فَقِيرًا , أَوْ وَسَطًا , أَوْ غَنِيًّا فَهُوَ كَذَلِكَ , وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , قَالَ الْمَوْصِلِيُّ : " وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إلَى حَالِ أَهْلِهِ , وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ " .
46 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ : صُلْحِيَّةٌ , وَعَنْوِيَّةٌ : فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ : وَهِيَ الَّتِي عُقِدَتْ مَعَ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَبِلَادَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ , وَهِيَ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ . وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ , وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الصُّلْحِيَّ إنْ بَذَلَ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْعَنْوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ , وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ السَّابِقَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ : وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً , وَتُقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ , وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ , بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ . وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ , وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ , وَيُرْجَعُ إلَى الْعُرْفِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ , وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ , وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . قَالَ الْبَاجِيُّ الْمُرَادُ بِأَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْمُرَادُ بِالضِّيَافَةِ ضِيَافَةُ الْمُجْتَازِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَالضِّيَافَةُ , فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : " أَرَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمْ الْيَوْمَ الضِّيَافَةُ وَالْأَرْزَاقُ , لِمَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَوْرِ " , وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ , وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنْ الْبَاجِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّهُ إنْ انْتَفَى الظُّلْمُ فَلَا تَسْقُطُ .(1/248)
47 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ خَالِصٌ , وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا , فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الْقُوَّةِ , وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ , بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُمَاكَسَةُ فِي الزِّيَادَةِ : بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ إنْ ظَنَّ إجَابَتَهُمْ إلَيْهَا , أَمَّا إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ , فَلَا مَعْنَى لِلْمُمَاكَسَةِ . وَفِي حَالَةِ الضَّعْفِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الدِّينَارِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ بِالدِّينَارِ مِنْ الذَّهَبِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ , وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ مُتَوَسِّطًا أَمْ فَقِيرًا . وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ " أَيْلَةَ " , حَيْثُ { قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ , وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارًا , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ نِصْفَهَا فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةَ فِي رَجَبٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ قِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ , يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ } وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ عَقْدِهَا مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ بِأَنَّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا : " أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ " فَإِذَا كَانَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .(1/249)
48 - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ - : أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إلَى الْإِمَامِ , فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَعَلَى مَا يَرَاهُ . وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ , وَقَالَ الْخَلَّالُ : الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ , فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ , غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : { أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ } . وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا , وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ . فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ , وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ ؟ قَالَ : جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِ الْيَسَارِ . وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْأَمَانِ ضَرْبَانِ : هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ , فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ , فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ , فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَالْأُجْرَةِ .
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :(1/250)
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَا تَتَكَرَّرُ . وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ شَرْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , أَمَّا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ كَوْنَهَا شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ . ( وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ) : 50 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُبَاشَرَةً , إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا : تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقَرٍّ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ , فَكَلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ , حَتَّى تَسْتَقِرَّ جِزْيَةُ الْحَوْلِ كُلِّهِ بِانْقِضَائِهِ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ حَقْنِ الدَّمِ , فَتَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ , وَتَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْأُجْرَةِ . 51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ آخِرُ الْحَوْلِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِزْيَةِ , فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَجُوس بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ , بَلْ كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِجِبَايَتِهَا . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ } . وَتَدُلُّ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ الْجِزْيَةِ . فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَبَا هُرَيْرَةَ إلَى الْبَحْرَيْنِ , فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ , فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ , فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُولِ السَّنَةِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ , فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ , وَلِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَالِ عَنْهُمْ ; لِأَنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ , وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَقَدْ حَظَرَ إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ , وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ , مَنْعُ الْإِعْطَاءِ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ . وَلِقَوْلِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ : { أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ } فَوَقْتُ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَقِبَ الْعَقْدِ مُبَاشَرَةً . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ , فَتَجِبُ فِي الْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ . وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ سُلِّمَ لَهُمْ , فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِوَضُ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا مِنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا , وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي , وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ; لِأَنَّ نُصْرَةَ الْمَاضِي يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِانْقِضَائِهِ . فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ تَجِبُ فِي أَوَّلِهِ .
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ :(1/251)
52 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْجِزْيَةِ : اسْتِيفَاؤُهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ , فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ أَوْ يَسْتَسْلِفَهَا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ , إلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْخَرَاجِ , وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَأَشْبَهَتْ الْأُجْرَةَ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا , وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ , فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الزَّكَاةَ إلَّا بِرِضَا رَبِّ الْمَالِ , بَلْ الْجِزْيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ , لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلسُّقُوطِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ , فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ وَتَتَدَاخَلُ بِالِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
54 - الْجِزْيَةُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ , فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَقِيلَ : يُقَدِّرُهَا الْإِمَامُ . وَالْإِمَامُ يَعْقِدُ الذِّمَّةَ وَيُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِاجْتِهَادِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ وَكِيلٌ عَنْ الْأُمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ , وَفِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : " الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : الْأَوَّلُ : مَا أُخِذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ . وَالثَّانِي : الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ . وَالثَّالِثُ : الْفَيْءُ , وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إيجَافٍ كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ لِلْإِمَامِ , فَيُطَالِبُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّفْعُ إلَيْهِ . وَالْإِمَامُ الْمُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا , أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا , أَوْ بَاغِيًا , أَوْ خَارِجًا عَلَى إمَامِ الْعَدْلِ , أَوْ مُحَارِبًا وَقَاطِعًا لِلطَّرِيقِ .
1 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ :
54 م - الْإِمَامُ الْعَادِلُ : هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامَةِ وَبَايَعُوهُ , وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مَالًا لَا يَطْلُبُهُ إلَّا بِحَقٍّ , وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالًا عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " إنِّي أَنْزَلْت نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَرْضًا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَّا اسْتَسْرَعَ خَرَابُهَا . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الدَّفْعُ إلَيْهِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَفْرِقَةُ خَرَاجِ رَأْسِهِ بِنَفْسِهِ , وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْجِزْيَةَ إلَى مُسْتَحِقِّ الْفَيْءِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُ ثَانِيَةً ; لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ .
2 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ :(1/252)
55 - الْإِمَامُ الْجَائِرُ : هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ , فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ وَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِذَا أَدَّى الذِّمِّيُّ الْجِزْيَةَ إلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا , فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ , ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ , وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا , لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِأَخْذِهِمْ , ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ , وَلَا تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ , وَهُمْ يَصْرِفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ , فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِي طَلَبِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِمَا يَلِي : أ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ , كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ , وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي . وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ . قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ : أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ , ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ , فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : فِي بَيَانِ مَعْنَى " أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ " - أَيْ ادْفَعُوا إلَى الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمْ الَّذِي لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ , سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَوْ يَعُمُّ , وَذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالزَّكَاةِ , وَفِي الْأَنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ . ب - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ ؟ قَالَ : تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ , وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } . ج - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { إنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ , أَسْوَدُ , يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا } .
3 - دَفْعُ الْجِزْيَةِ إلَى الْبُغَاةِ :
56 - الْبُغَاةُ : هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ , أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ , أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشِبْهِهَا , فَيُدْعَوْنَ إلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ . فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ وَنَصَبُوا إمَامًا , فَجَبَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَفْعِهَا إلَى الْبُغَاةِ , وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ , وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ . وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً , فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ وَتَتَجَمَّعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَبَالِغُ طَائِلَةٌ لَا يُطِيقُونَهَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَفَعَ الْجِزْيَةَ إلَى الْبُغَاةِ الْإِعَادَةُ , لِأَنَّهُ أَعْطَاهَا إلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا .
حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطُّرُقِ " :(1/253)
57 - الْمُحَارِبُونَ : هُمْ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلَاحِ فَيَغْصِبُونَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً أَوْ يَقْتُلُونَ أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ , وَلَمْ تَسْقُطْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُحَارِبِينَ ; لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِلُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ :
الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
60 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْجِزْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ لِلْجِزْيَةِ : بِأَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ بِتَلَطُّفٍ دُونَ تَعْذِيبٍ أَوْ ضَرْبٍ , وَأَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ , وَأَنْ يُقَسِّطَهَا عَلَيْهِمْ , وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ الْقِيمَةَ بَدَلًا مِنْ الْعَيْنِ . وَالصَّغَارُ فِي قوله تعالى { وَهُمْ صَاغِرُونَ } مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَالِاتِّجَاهُ الْآخَرُ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِهَانَةٍ وَإِذْلَالٍ , لقوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
الْأَمْوَالُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
61 - لَا يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ وَلَا نَوْعٌ بِعَيْنِهِ , بَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِمَّا تَيَسَّرَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : كَالسِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَالْحُبُوبِ وَالْعُرُوضِ فِيمَا عَدَا ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - حَدِيثُ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْقِيمَةِ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ الثِّيَابِ الْمَصْنُوعَةِ بِالْيَمَنِ وَالْمَنْسُوبَةِ إلَى قَبِيلَةِ مَعَافِرَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " أَلَا تَرَاهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ الثِّيَابَ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ ؟ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَأَنْ لَا يُبَاعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْءٌ , وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا سَهُلَ عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ . أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } فَقَدْ بَيَّنَ لَك ذِكْرُ الْعَدْلِ أَنَّهُ الْقِيمَةُ " . 2 - { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ } . 3 - مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ النَّعَمَ فِي الْجِزْيَةِ . 4 - مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ : مِنْ صَاحِبِ الْإِبَرِ إبَرًا , وَمِنْ صَاحِبِ الْمَسَانِّ مَسَانًّا , وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ حِبَالًا . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِمْ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ , إرَادَةَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :(1/254)
62 - اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَعْيَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَمَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا تَوَلَّى الذِّمِّيُّ بَيْعَهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : " بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْخَنَازِيرِ , وَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ , فَقَالَ عُمَرُ : لَا تَفْعَلُوا : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ : إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ , فَقَالَ : لَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ , وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " يُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا , فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ بِلَالٌ , وَنَهَى عَنْهُ عُمَرُ , ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الْمُتَوَلِّينَ لِبَيْعِهَا ; لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ " . 2 - وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا , وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا , فَجَازَ أَخْذُ أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ كَثِيَابِهِمْ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - رَوَى الْبَيْهَقِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا , وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ } . 2 - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ . 3 - وَلِأَنَّ ثَمَنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِنَا فَحَرُمَ عَلَيْنَا أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ .
تَأْخِيرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ :
63 - مِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ تَأْخِيرُ مَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ , أَيْ حَتَّى تَنْضَجَ الثِّمَارُ , وَتُحْصَدَ الزُّرُوعُ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيْعِهَا وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : " قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حُذَيْمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , فَلَمَّا أَتَاهُ عَلَاهُ بِالدُّرَّةِ , فَقَالَ سَعِيدٌ : سَبَقَ سَيْلُك مَطَرَك , إنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ , وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرُ , وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ , فَقَالَ : مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا هَذَا , مَا لَك تُبْطِئُ فِي الْخَرَاجِ ؟ قَالَ : أَمَرْتنَا أَلَا نُزِيدَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَلَسْنَا نُزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَلَكِنَّنَا نُؤَخِّرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ . فَقَالَ عُمَرُ : لَا عَزَلْتُك مَا حَيِيت . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إلَى الْغَلَّةِ الرِّفْقُ بِهِمْ , وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا مِنْ الزَّمَانِ يُجْتَبَى فِيهِ غَيْرَ هَذَا .
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ :(1/255)
64 - وَمِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَاطٍ , فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ شَهْرِيًّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ . قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ : " يَأْخُذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ - أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ - لِأَجْلِ التَّسْهِيلِ عَلَيْهِ " . وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ : " يُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ , ثُمَّ قَالَ : نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَاتِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَصَارَ إجْمَاعًا . وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كُلَّ عَامٍ .
كِتَابَةُ عَامِلِ الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ :
65 - إذَا اُسْتُوْفِيَتْ الْجِزْيَةُ كُتِبَ لِلذِّمِّيِّ بَرَاءَةٌ , لِتَكُونَ حُجَّةً لَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا . التَّعَفُّفُ عَنْ أَخْذِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ : 66 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْجِزْيَةِ عَفِيفَ النَّفْسِ , فَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رِشْوَةً لِحَدِيثِ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ : { اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ , فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ , فَقَالَ : فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ , أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ , أَوْ شَاةً تَيْعَرُ , ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَغْت ثَلَاثًا } . فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ لِلْعُمَّالِ حَرَامٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهَا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : " فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ , وَإِنَّمَا يُهْدَى إلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ وَلِيُخَفِّفَ عَنْ الْمُهْدِي وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ " . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( هَدِيَّةٌ وَرِشْوَةٌ ) .
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ :(1/256)
67 - عَلَى الْإِمَامِ مُشَارَفَةُ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحُ الْأَحْوَالِ , وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ هَذَا الْوَاجِبِ : الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ , وَضَرُورَةُ مَنْحِهِمْ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي نَصِيحَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِهَارُونَ الرَّشِيدِ : " أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ , يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ , وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ , وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ ؟ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَعَلَى مَا وَظَّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ , فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَك وَصَحَّ , أَخَذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ , حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ , حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إلَيْهِمْ فِيهِ , فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِهِ , وَقَدْ أُمِرَ بِغَيْرِهِ , وَإِنْ أَحْلَلْت بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ , وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَإِذَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَك فِي رَعِيَّتِك وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ خُبْثِ طُعْمَتِهِ أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ , فَحَرَامٌ عَلَيْك اسْتِعْمَالُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ , وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِك أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِك , بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ , وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ " . وَلِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْجِزْيَةِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ , يَصْرِفُ الْإِمَامُ لَهُمْ أُجُورًا ( رَوَاتِبَ ) مُجْزِيَةً تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ , وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ . وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ حَيْثُ قَالَ : " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْيَاخُنَا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : دَنَّسْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إذَا لَمْ اسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ ؟ أَمَّا إنْ فَعَلْت فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنْ الْخِيَانَةِ يَعْنِي إذَا اسْتَعْمَلَتْهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ لَا يَحْتَاجُونَ .
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
68 - الْقَبَالَةُ ( أَوْ التَّقْبِيلُ ) وَتُسَمَّى التَّضْمِينَ أَوْ الِالْتِزَامَ : هِيَ فِي اللُّغَةِ - بِالْفَتْحِ الْكَفَالَةُ , وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَبَلَ بِفَتْحِ الْبَاءِ إذَا كَفَلَ وَقَبُلَ بِضَمِّهَا إذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : كُلُّ مَنْ يَقْبَلُ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكُتِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابٌ , فَالْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ هُوَ الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْعَمَلُ قِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ ; لِأَنَّهُ صِنَاعَةٌ , وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا , وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ , فَيَقْبَلُ ذَلِكَ , وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا . وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى مَنْعِهَا , قَالَ أَبُو يُوسُفَ " فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقَرْيَةِ أَنَا أُصَالِحُكُمْ عَنْهُمْ وَأُعْطِيكُمْ ذَلِكَ لَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا سَأَلَ لِأَنَّ ذَهَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ لَعَلَّ صَاحِبَ الْقَرْيَةِ يُصَالِحُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِيهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ " .
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ :
69 - تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ , أَوْ الْمَوْتِ , أَوْ التَّدَاخُلِ , أَوْ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ , أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ تَوْفِيرِ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , أَوْ الْإِصَابَةِ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ , أَوْ اشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ , وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ خِلَافٌ يَتَبَيَّنُ بِمَا يَلِي :
الْأَوَّلُ : الْإِسْلَامُ :(1/257)
70 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ } . 2 - الْإِجْمَاعُ : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : " أَجْمَعُوا - يَعْنِي الْفُقَهَاءَ - عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ " . 3 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَهُ . 4 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ أَوْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ , فَلَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . وَلَا يُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى النُّصْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . هَذَا الِاتِّجَاهُ الْفِقْهِيُّ هُوَ السَّائِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , وَلَكِنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ لَمْ يَلْتَزِمُوا بِهِ , فَقَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ عَلَى الْعَبِيدِ . وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا , فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ :(1/258)
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ , فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ , وَلَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَسْلَمَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا , وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ , فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ . 2 - قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ لَا يُطَالَبُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ , وَكَذَا لَا يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ قَبْلَ إسْلَامِهِ . قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْهُ : " الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُوضَعَ عَمَّنْ أَسْلَمَ الْجِزْيَةُ حِينَ يُسْلِمُ , وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ السَّنَةِ إلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لقوله تعالى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا . . . } يَعْنِي مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ شَيْءٍ " . 3 - وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . 4 - وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً : أَيْ جَزَاءَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ , فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يُطَالَبُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ السَّنَةِ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : وَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ السَّنَةِ كَالْأُجْرَةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَقَدْ وَصَلَ إلَى الذِّمِّيِّ الْمُعَوَّضُ وَهُوَ حَقْنُ الدَّمِ , فَصَارَ الْعِوَضُ وَهُوَ الْجِزْيَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ . 2 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ , وَقَدْ اسْتَوْفَى الذِّمِّيُّ مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ , فَلَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ . 3 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ , وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ , فَكُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ .
الثَّانِي : الْمَوْتُ :(1/259)
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْمَوْتِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَحَصَلَ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إذَا حَصَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ . بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ . أَمَّا إذَا حَصَلَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ , فَلَا تَسْقُطُ بِهِ أَيْضًا فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ الْحَوْلِ . وَتَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ حَوْلِهَا وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ بِالْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ : 1 - مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنَادَةَ - كَاتِبِ حَيَّانِ بْنِ سُرَيْجٍ - وَكَانَ حَيَّانُ بَعَثَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَكَتَبَ يَسْتَفْتِيهِ أَيَجْعَلُ جِزْيَةَ مَوْتَى الْقِبْطِ عَلَى أَحْيَائِهِمْ ؟ فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ - فَقَالَ : مَا سَمِعْت لَهُمْ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ , إنَّمَا أُخِذُوا عَنْوَةً بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ , فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى حَيَّانِ بْنِ سُرَيْجٍ يَأْمُرَهُ : أَنْ يَجْعَلَ جِزْيَةَ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْأَحْيَاءِ . 2 - وَلِأَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى , فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ .
الثَّالِثُ : اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ :
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَدَاخُلِ الْجِزَى : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى عَدَمِ التَّدَاخُلِ وَتَجِبُ الْجِزَى كُلُّهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ , فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَغَيْرِهِمَا . وَلِأَنَّ الْمُدَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا مَضَتْ عَلَى الْجِزْيَةِ سَنَةٌ وَدَخَلَتْ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ الْجِزَى تَتَدَاخَلُ , فَتَسْقُطُ جِزَى السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ وَيُطَالَبُ بِجِزْيَةِ السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , وَالْعُقُوبَاتُ إذَا تَرَاكَمَتْ تَدَاخَلَتْ خَاصَّةً إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْحُدُودِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ زَنَى مِرَارًا ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ , فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ , فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا , لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ , كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ ; وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ , وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى , وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ .
الرَّابِعُ : طُرُوءُ الْإِعْسَارِ :(1/260)
74 - الْإِعْسَارُ : ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ سَوَاءٌ أَطَرَأَ عَلَيْهِ الْإِعْسَارُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ . وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْسَرَ أَكْثَرَ الْحَوْلِ ; لِأَنَّ الْإِعْسَارَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْإِعْسَارَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ , وَتُعْتَبَرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , وَيُمْهَلُ إلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ . أَخْذًا بِعُمُومِ قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ , وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا كَانَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , وَيُنْظَرُ وَيُمْهَلُ إلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ
الْخَامِسُ : التَّرَهُّبُ وَالِانْعِزَالُ عَنْ النَّاسِ :
75 - إذَا تَرَهَّبَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ , فَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ وَانْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ , فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ , لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ وَالْجُنُونَ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَلَوْ مُتَجَمِّدَةً عَنْ سِنِينَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَخَوَانِ ( مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ) مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ الطَّارِئِ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً , فَلَا يُعْتَبَرُ عُذْرًا لِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ . وَعَلَّلَهُ الْأَخَوَانِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّخِذُهُ وَسِيلَةً لِلتَّهَرُّبِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ التَّرَهُّبَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ . أَمَّا إذَا تَرَهَّبَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ . وَقَالُوا : الْمُرَادُ بِالرَّاهِبِ الَّذِي تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , هُوَ مَنْ لَا يَبْقَى بِيَدِهِ مَالٌ إلَّا بُلْغَتَهُ فَقَطْ وَيُؤْخَذُ مِمَّا بِيَدِهِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ , وَأَمَّا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَتَاجِرَ وَالْمَزَارِعَ فَحُكْمُهُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ اتِّفَاقًا .
السَّادِسُ : الْجُنُونُ :
76 - إذَا أُصِيبَ الذِّمِّيُّ - بَعْدَ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ - بِالْجُنُونِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إلَى سُقُوطِهَا بِالْجُنُونِ الطَّارِئِ إذَا اسْتَمَرَّ أَكْثَرَ الْعَامِ , لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً - كَمَا بَيَّنَّا فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ إنْ كَانَ يَسِيرًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ مِنْ سَنَةٍ فَلَا تَسْقُطُ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَيَوْمٍ إفَاقَةً وَيَوْمٍ جُنُونًا فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ تُلَفَّقُ فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْجُنُونِ طِبْقًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ تَدَاخُلِ الْجِزْيَةِ كَمَا سَبَقَ فِي ( ف 73 ) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ إذَا كَانَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ . أَمَّا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّابِعُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ .
السَّابِعُ : الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ :(1/261)
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شُرُوطِ الْجِزْيَةِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِهَذِهِ الْعَاهَاتِ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ , وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ إصَابَتُهُ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ أَكْثَرَ السَّنَةِ , وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ ; لِأَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا أُصِيبَ بِإِحْدَى الْعَاهَاتِ السَّابِقَةِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِكَمَالِ الْحَوْلِ .
الثَّامِنُ : عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :(1/262)
78 - عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مُقَابِلِ الْجِزْيَةِ تَوْفِيرُ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَالذَّبُّ عَنْهُمْ , وَمَنْعُ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ , وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ , وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ سَوَاءٌ أَكَانُوا يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي بَلَدٍ لَهُمْ . فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ حَتَّى مَضَى الْحَوْلُ , فَهَلْ يُطَالَبُونَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ ؟ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا لَمْ تَتَمَكَّنْ الدَّوْلَةُ مِنْ حِمَايَةِ الذِّمِّيِّينَ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ , لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ , فَإِنْ لَمْ تَدْفَعْ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ , لَمْ تَجِبْ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لِلْحِفْظِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ , فَلَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ , كَمَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّمْكِينُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالسُّقُوطِ إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْحِمَايَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْحِمَايَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ عِنْدَمَا أَعْلَمَهُ نُوَّابُهُ عَلَى مُدُنِ الشَّامِ بِتَجَمُّعِ الرُّومِ لِمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ رُدُّوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ : إنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ , لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنْ الْجُمُوعِ , وَأَنَّكُمْ اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكُمْ , وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ , وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ , وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الشُّرُوطِ مَا كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إنْ نَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الْبَلَاذِرِيُّ : حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : " بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُوعَ , وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إقْبَالُهُمْ إلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ رَدُّوا عَلَى أَهْلِ حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ مِنْ الْخَرَاجِ . وَقَالُوا : قَدْ شَغَلَنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ عَنْكُمْ , فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ , فَقَالَ أَهْلُ حِمْصَ : لَوَلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ . وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْلَ عَنْ الْمَدِينَةِ مَعَ عَامِلِكُمْ , وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا : وَالتَّوْرَاةِ لَا يَدْخُلُ عَامِلُ هِرَقْلَ مَدِينَةَ حِمْصَ إلَّا أَنْ نُغْلَبَ وَنَجْهَدَ فَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَحَرَسُوهَا " . وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَهْلُ الْمُدُنِ الَّتِي صُولِحَتْ مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ . وَقَالُوا : إنْ ظَهَرَ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِرْنَا إلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَإِنَّا عَلَى أَمْرِنَا مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ , فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ وَأَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوا مُدُنَهُمْ وَأَخْرَجُوا الْمُقَلِّسِينَ , فَلَعِبُوا وَأَدَّوْا الْخَرَاجَ . وَجَاءَ فِي كِتَابِ صُلْحِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَعَ أَهْلِ تَفْلِيسَ : " . . . وَإِنْ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ شُغْلٌ عَنْكُمْ فَقَهَرَكُمْ عَدُوُّكُمْ فَغَيْرُ مَأْخُوذِينَ بِذَلِكَ . هَذِهِ السَّوَابِقُ التَّارِيخِيَّةُ حَدَثَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَعَلِمُوا بِهَا وَسَكَتُوا عَنْهَا , فَيُعْتَبَرُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا . وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ حَيْثُ قَالَ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ : " إنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ , وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ , وَنَمُوتُ دُونَ ذَلِكَ , صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ " وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
التَّاسِعُ : اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :(1/263)
79 - صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّينَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ الشَّلَبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ : " أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ سَنَةً , فَقَاتَلُوا مَعَهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ , وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ طَرِيقَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْمَالَ دُونَ النَّفْسِ . وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ . فَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى : " الْجِهَادُ أَنْ يُقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُشْرِكُ لَا يُقَاتِلُ لِذَلِكَ ; وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُ أَنْ يُقَاتَلَ عَنْهُ وَتُمْنَعُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْحَرْبِ وَإِنْ اُسْتُعِينَ بِهِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ وَالْخِدْمَةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : " إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ . وَانْظُرْ بَحْثَ : ( جِهَادٌ ) - الِاسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ .
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ :
80 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ , حَتَّى رَأَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ اسْمَ الْفَيْءِ شَامِلٌ لِلْجِزْيَةِ . وَيُصْرَفُ الْفَيْءُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ وَمَرَافِقِ الدَّوْلَةِ الْهَامَّةِ : كَأَرْزَاقِ الْمُجَاهِدِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَسَدِّ الثُّغُورِ , وَبِنَاءِ الْجُسُورِ , وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ , وَإِصْلَاحِ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا , وَرَوَاتِبِ الْمُوَظِّفِينَ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ وَمَا يُرَاعَى فِيهِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ : ( بَيْتُ الْمَالِ , وَفَيْءٌ ) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْجِهَادِ (1)
10 - الْقَصْدُ مِنْ الْجِهَادِ دَعْوَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْإِسْلَامِ , أَوْ الدُّخُولِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ , وَجَرَيَانُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , وَبِذَلِكَ يَنْتَهِي تَعَرُّضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ , وَوُقُوفُهُمْ فِي طَرِيقِ نَشْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , وَيَنْقَطِعُ دَابِرُ الْفَسَادِ , قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتُهُ , وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ , وَتَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ وَهِيَ : قَبُولُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , وَعَقْدُ الذِّمَّةِ . فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا , فَالْقِتَالُ . وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ , عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( جِزْيَةٌ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
مُجَاوَرَةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ (2):
13 - لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ التَّعَرُّفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَدْعَى لِإِسْلَامِهِ طَوَاعِيَةً . وَيُمْنَعُ مِنْ التَّعَلِّي بِالْبِنَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ , وَهُوَ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ وَإِنَّمَا مِنْ حَقِّ الْإِسْلَامِ , وَلِذَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } , وَلِمَا فِي التَّعَلِّي مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْأَصَحِّ - بِمَا إذَا لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ عِمَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إشْرَافٌ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَلَا مُجَاوَرَةَ عُرْفًا . وَقَيَّدَ الْحَلْوَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الْمُجَاوَرَةِ بِأَنْ يَقِلَّ عَدَدُهُمْ بِحَيْثُ لَا تَتَعَطَّلُ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا تَقِلُّ جَمَاعَتُهُمْ بِسُكْنَاهُمْ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ . وَيُنْظَرُ فِي التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحُ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) وَمُصْطَلَحُ : ( تَعَلِّي ) .
و - تَحْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالنَّارِ , وَتَغْرِيقُهُ بِالْمَاءِ , وَرَمْيُهُ بِالْمَنْجَنِيقِ (3):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5588)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5681)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5609)(1/264)
32 - قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : إذَا قَدَرَ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ; لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ : إنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا , وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ , فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } . فَأَمَّا رَمْيُهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالنَّارِ , فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُمْ بِدُونِهَا لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ بِهَا ; لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِهَا فَجَائِزٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَغْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالْمَاءِ , إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ .
33 - وَأَمَّا حِصَارُ الْقِلَاعِ : فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ , وَإِرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ , وَقَطْعُهُ عَنْهُمْ , وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ وَغَيْرِهِمَا ; لقوله تعالى : { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } { وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ , وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ } . وَقِيسَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَعُمُّ بِهِ الْهَلَاكُ , وَوَافَقَ أَحْمَدُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْلَ فَقَالُوا : يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ بِالْحِصْنِ بِغَيْرِ تَحْرِيقٍ وَتَغْرِيقٍ إذَا كَانُوا مَعَ مُسْلِمِينَ , أَوْ ذُرِّيَّةٍ أَوْ نِسَاءٍ , وَلَمْ يَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَيُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ , وَلَوْ مَعَ ذُرِّيَّةٍ , أَوْ نِسَاءٍ , أَوْ مُسْلِمِينَ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْغَرَقِ لَمْ يَجُزْ إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إتْلَافُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يَحْرُمُ إتْلَافُهُمْ قَصْدًا , وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِهِ جَازَ . وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا لَزِمَتْهُ مُصَابَرَتُهُ , وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا فِي إحْدَى الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ :
1 - أَنْ يُسَلِّمُوا فَيُحْرِزُوا بِالْإِسْلَامِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
2 - أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ , فَيَجُوزُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ , سَوَاءٌ أَعْطُوهُ جُمْلَةً , أَوْ جَعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ , فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَبَذَلُوهَا لَزِمَهُ قَبُولُهَا ; لقوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَإِنْ بَذَلُوا مَالًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْجِزْيَةِ فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَبُولِهِ قَبِلَهُ , وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ .
3 - أَنْ يَفْتَحَهُ .
4 - أَنْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهُ , إمَّا لِضَرَرِ الْإِقَامَةِ , وَإِمَّا لِلْيَأْسِ مِنْهُ , وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ يَنْتَهِزُهَا , تَفُوتُ بِإِقَامَتِهِ , فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا , فَقَالَ : إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَدًا . . . } .(1/265)
5 - أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ , فَيَجُوزُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِأَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ } . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ حُرًّا مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا فَقِيهًا كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى ; لِأَنَّ عَدَمَ الْبَصَرِ لَا يَضُرُّ هُنَا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَأْيُهُ وَمَعْرِفَةُ الْمَصْلَحَةِ , وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَصَرِ فِيهِ , بِخِلَافِ الْقَضَاءِ , فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَصَرِ لِيَعْرِفَ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ , وَالْمُقَرَّ لَهُ مِنْ الْمُقِرِّ , وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْفِقْهِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ وَيُعْتَبَرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَلَا يُعْتَبَرُ فِقْهُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا . وَلِهَذَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا حَكَّمُوا رَجُلَيْنِ جَازَ , وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ , وَإِنْ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ جَازَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ , وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ جَعَلُوا التَّعْيِينَ إلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اخْتَارُوا مَنْ لَا يَصْلُحُ , وَإِنْ عَيَّنُوا رَجُلًا يَصْلُحُ فَرَضِيَهُ الْإِمَامُ جَازَ ; لِأَنَّ { بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَيَّنُوهُ فَرَضِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَجَازَ حُكْمَهُ وَقَالَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ } . وَإِنْ مَاتَ مَنْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ قَامَ مَقَامَهُ , وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ , أَوْ طَلَبُوا حُكْمًا لَا يَصْلُحُ , رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ , وَكَانُوا عَلَى الْحِصَارِ حَتَّى يَتَّفِقُوا , وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِاثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ جَازَ , وَإِلَّا رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ , وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِتَحْكِيمِ مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ الشَّرَائِطُ فِيهِ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ . ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَمْ يَحْكُمْ , وَيُرَدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا . 34 - وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ : فَإِنْ حَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ , وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ نَفَذَ حُكْمُهُ ; لِأَنَّ { سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِذَلِكَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ , فَقَالَ الْقَاضِي يَلْزَمُ حُكْمُهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ إلَيْهِ فِيمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ , فَكَانَ لَهُ الْمَنُّ كَالْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ . وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ ; لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ , وَلَا حَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ , وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ , فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إذَا سُبُوا فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ , وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ السَّبْيُ فِيهِمْ بِخِلَافِ مَنْ سُبِيَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ , وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ جَازَ , لِأَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ , وَالْفِدَاءِ , وَالِاسْتِرْقَاقِ , وَالْمَنِّ , فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ , وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّرَاضِي , وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إجْبَارَ الْأَسِيرِ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ , وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ جَازَ لِلْإِمَامِ الْمَنُّ عَلَى بَعْضِهِمْ , لِأَنَّ { ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا مِنْ قُرَيْظَةَ وَمَالِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَهُ } . وَيُخَالِفُ مَالَ الْغَنِيمَةِ إذَا حَازَهُ الْمُسْلِمُونَ ; لِأَنَّ مِلْكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهُمْ أَحْرَارٌ , وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ , بِخِلَافِ الْأَسِيرِ , فَإِنَّ الْأَسِيرَ قَدْ ثَبَتَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ , وَلِذَلِكَ(1/266)
جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ . وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ نَظَرْت , فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ سَقَطَ لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ , قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ . كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ , وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حُكِمَ فِيهِ , وَإِنْ حُكِمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ غَنِيمَةً ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ .
( جَهْلٌ ) (1)
1 - الْجَهْلُ لُغَةً : نَقِيضُ الْعِلْمِ . يُقَالُ جَهِلْت الشَّيْءَ جَهْلًا وَجَهَالَةً بِخِلَافِ عَلِمْته , وَجَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ . وَجَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ , فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ . وَجَهَّلْتُهُ - بِالتَّثْقِيلِ - نَسَبْته إلَى الْجَهْلِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَهُوَ قِسْمَانِ : بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ . أ - الْجَهْلُ الْبَسِيطُ : هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا . ب - الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ : عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ . وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ " جَهَالَةٌ " التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ ( جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ ) فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْلَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ , وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ بِهَا ( ر : جَهَالَةٌ ) .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - ( النِّسْيَانُ ) : 2 - النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدِهِمَا : تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ , وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ . وَالثَّانِي : التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } أَيْ : لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ . وَنَسِيت رَكْعَةً أَهْمَلْتهَا ذُهُولًا , وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : مِنْ الْمَجَازِ نَسِيت الشَّيْءَ تَرَكْته . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَالِ السُّنَّةِ , فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ : نَفْسَ الْوُجُوبِ , لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ . قَالَ الْقَرَافِيُّ : النِّسْيَانُ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ , بِخِلَافِ الْجَهْلِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَعَلُّمُهُ . وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ , وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ . قَالَ التَّهَانُوِيُّ : وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا . قَالَ الْآمِدِيُّ : إنَّ الذُّهُولَ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ , لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً , وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ , بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ .
ب - السَّهْوُ : 3 - السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا : أَيْ غَفَلَ , وَالسَّهْوَةُ : الْغَفْلَةُ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ , إذَا ذَكَّرْته تَذَكَّرَ , وَالسَّاهِي بِخِلَافِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ التَّهَانُوِيُّ : وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ( الْجَهْلِ ) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ .
أَقْسَامُ الْجَهْلِ : يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إلَى قِسْمَيْنِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5654)(1/267)
أَوَّلًا - الْجَهْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ عُذْرًا : 4 - وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يُقْتَلَ , وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ حَتَّى أَنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْلُ الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ , فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا , لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ , بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ , وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُولِ مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ . وَكَذَا جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُولُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ يَقُولُ بِعَدَمِ إثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ . هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ , وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ : الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؟ الْمُرَجَّحُ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لَا مُطْلَقًا , وَمِنْ ثَمَّ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ , أَوْ عَمِلَ بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا .
حِجَازٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5796)(1/268)
1 - الْحِجَازُ لُغَةً مِنْ الْحَجْزِ , وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الْحَجْزُ أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَ مُتَقَاتِلَيْنِ , وَالْحِجَازُ الِاسْمُ وَكَذَا الْحَاجِزُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } أَيْ حِجَازًا بَيْنَ مَاءٍ مِلْحٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ لَا يَخْتَلِطَانِ , وَذَلِكَ الْحِجَازُ قُدْرَةُ اللَّهِ . وَيُقَالُ لِلْجِبَالِ أَيْضًا حِجَازٌ , أَيْ لِأَنَّهَا تَحْجِزُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ . وَالْحِجَازُ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ , سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ الْحَجْزِ الَّذِي هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ , قِيلَ : لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْغَوْرِ ( أَيْ تِهَامَةَ ) وَالشَّامِ وَالْبَادِيَةِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : سُمِّيَ حِجَازًا لِأَنَّ الْحِرَارَ حَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَالِيَةِ نَجْدٍ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ اللُّغَوِيِّينَ فِي بَيَانِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْحِجَازِ وَبَيَانِ حُدُودِهِ , فَقَالَ يَاقُوتٌ الْحَمَوِيُّ : الْحِجَازُ الْجَبَلُ الْمُمْتَدُّ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الْغَوْرِ , غَوْرِ تِهَامَةَ , وَنَجْدٍ , ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ الْحِجَازُ مِنْ تُخُومِ صَنْعَاءَ مِنْ الْعَبْلَاءِ وَتَبَالَةَ إلَى تُخُومِ الشَّامِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ هِشَامٍ الْكَلْبِيِّ إنَّ جَبَلَ السَّرَاةِ مِنْ قُعْرَةِ الْيَمَنِ إلَى أَطْرَافِ بِوَادِي الشَّامِ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ حِجَازًا , فَصَارَ مَا خَلْفَهُ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ غَوْرَ تِهَامَةَ , وَمَا دُونَهُ فِي شَرْقِيِّهِ إلَى أَطْرَافِ الْعِرَاقِ وَالسَّمَاوَةُ نَجْدًا . وَالْجَبَلُ نَفْسُهُ وَهُوَ سَرَاتُهُ وَمَا اُحْتُجِزَ بِهِ فِي شَرْقِيِّهِ مِنْ الْجِبَالِ وَانْحَازَ إلَى نَاحِيَةٍ فِيهِ هُوَ الْحِجَازُ . وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَخَاصَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ قَصَرُوا حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ , فَبَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالْحِجَازِ كَمَا يَلِي : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا . ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنْ يُمْنَعُوا رُكُوبَ بَحْرِ الْحِجَازِ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ " . ا هـ . وَذَكَرَ فِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ مَدَنِ الْحِجَازِ وَقُرَاهُ : مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَامَةَ وَقُرَاهَا كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ وَجَدَّةَ وَالْيَنْبُعَ وَخَيْبَرَ , ( وَأَضَافَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ فَدَكًا ) . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ الْإِقَامَةِ بِجَزَائِرِ بَحْرِ الْحِجَازِ وَلَوْ كَانَتْ خَرَابًا , وَمِنْ الْإِقَامَةِ فِي بَحْرٍ فِي الْحِجَازِ وَلَوْ فِي سَفِينَةٍ . وَفَسَّرَ الْقَلْيُوبِيُّ الْيَمَامَةَ بِأَنَّهَا الْبَلَدُ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُسَيْلِمَةُ , وَاَلَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحِجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَأْتِي - يَشْمَلُ مَا هُوَ شَرْقِيَّ جِبَالِ الْحِجَازِ حَتَّى الْيَمَامَةِ وَقُرَاهَا وَهِيَ مِنْطَقَةُ الرِّيَاضِ الْآنَ , أَوْ مَا كَانَ يُسَمَّى قَدِيمًا الْعَرْضُ أَوْ الْعَارِضُ وَهِيَ بَعْضُ الْعُرُوضِ , جَاءَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ : الْعُرُوض الْيَمَامَةُ وَالْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهُمَا . وَلَيْسَتْ الْبَحْرَيْنِ وَقَاعِدَتُهَا هَجَرُ مِنْ الْحِجَازِ . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ : فَإِنَّهُمْ عِنْدَمَا تَعَرَّضُوا لِمَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحَدِيثِ ( الْحِجَازُ ) . جَاءَ فِي الْمُغْنِي : قَالَ أَحْمَدُ , فِي حَدِيثِ { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا وَمَا وَالَاهَا . وَجَاءَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَيْمَاءَ وَفَيْدًا وَنَحْوَهُمَا لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ سُكْنَاهَا وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَنَجْرَانُ وَتَيْمَاءُ وَفَيْدٌ مِنْ بِلَادِ طيئ . وَجَاءَ فِي مُطَالَبِ أُولِي النُّهَى : يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِالْحِجَازِ , وَهُوَ مَا حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ . وَالْحِجَازِ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ وَالْيَنْبُعِ وَفَدَكِ وَقُرَاهَا , وَفَدَكُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ . وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَمِنْ الْحِجَازِ تَبُوكُ وَنَحْوُهَا , وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى وَهُوَ عَقَبَةُ
الصَّوَّانِ يُعْتَبَرُ مِنْ الشَّامِ كَمَعَانٍ .(1/269)