الأَمْرُّ بِالمَعْرُّوفِ
لفضيلة الشيخ/ الدكتور
ياسر بن حسين برهامي
الدعوة السلفية
Omar_rahal84@hotmail.com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء
{ ياَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (18) سورة الحشر.
أما بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد:
فإن الأمة الإسلامية إنما نالت الخيرية بكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مع إيمانها بالله عز وجل.
قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران.
وعلق سبحانه الفلاح للمؤمنين إذا كانوا قائمين بهذه المهمة العظيمة فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران(1/1)
وهذا يدل على أنه لا تفلح الأمة ولا تنجح إذا ضيعت هذا الواجب ، وبين سبحانه أنه من صفات المؤمنين والمؤمنات اللازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة.
ويفهم من هذا أن الإيمان الواجب لا يحصل إلا لمن هذه صفته ، ويفهم منه أيضاً أن الرحمة لا تحصل إلا لمن قام بهذه الأمور جميعاً ، وتدل الآية الكريمة على أن واجب الحسبة والدعوة ليس خاصاً بل هو عام للرجال والنساء كل حسب قدرته وعلمه.
وأخبر سبحانه أن من أسباب لعن الأمم المتقدمة من بني إسرائيل خاصة تركهم هذه الفريضة تحذيراً من الاتصاف بصفتهم أو أن نفعل مثل فعلهم فنستحق مثل جزائهم فقال سبحانه وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون (79) تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}سورة المائدة.
فلما صار المنكر بين المسلمين لا يتناكر ولا يستغرب بل أصبح هو المعروف ، وصار المعروف منكراً عندهم مستغرباً ووالوا أعداء الله الذين كفروا خاصة اليهود والنصارى حل بهم من سخط الله ونقمته مالا يخفى على متأمل من تسلط أعدائهم وإنتهاك حرماتهم وإذلال أممهم وشعوبهم وإصابة الأمة فى مقدساتها كالمسجد الأقصى وغيره نسأل الله تفريج كربات المسلمين.(1/2)
وعودة المسلمين إلى عزهم و كرامتهم لا يحدث إلا بسلوك السبيل الشرعى الذى سلكه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهو السبيل الذى بدأ به النبي ( بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالأمر بأعظم معروف وهو التوحيد والنهي عن أعظم منكر وهو الشرك بالله.
فكان هذا هو الطريق وهذا هو السبيل الذى علينا أن نسلكه إذا أردنا أن يرتفع ما بنا من أنواع الذل والهوان .
وقد جعل الله النجاة في الدنيا والآخرة لمن نهى عن الفساد وفي الأرض قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } (116) - سورة هود .
وقال تعالى في قصة أصحاب السبت: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } (165) سورة الأعراف.
ولما بدأت الأمة بعد رقدتها وبدأ شبابها يعود إلى العمل بالإسلام والعمل من أجله ، كثر الخوض في مسائل هذا الباب واشتد الخلاف بين أبناء الدعوة في بعض الصور هل هى من الواجب والمشروع أو من المحرم وغير المشروع ؟ .
لهذا كان لا بد من فهم صحيح وعلم نفهم به هذا الأمر من خلال الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ولكون المشاركة فى الدعوة من أهم الواجبات ، بل مما لا يسوغ للمسلم أن يقيم بالبلاد التى فيها المنكرات من غير نية صالحة وعمل صحيح فى مجال الدعوة .
ومع التفرق فى الفهم عن أهل العلم والاختلاف في التطبيق على الواقع ، وقع انقسام بين أبناء الأمة إلى ثلاث طوائف :
الطائفة الأولى :-
تسعى إلى ما تزعم أنه إزالة للفتنة وهم يقعون فى الفتنة كالخوارج ومن سلك سبيلهم .(1/3)
فمثلاً الذين خرجوا يزعمون أنهم خرجوا يريدون إزالة الفتنة وهم رأس الفتنة الذين حذر منهم النبى ( أمروا ونهوا بطريقة منكرة ، ولم يبتعدوا فى فهمهم عن المنكر فكان أمرهم ونهيهم منكراً .
فقتلوا من لا يستحق القتل ، وسفكوا دماء الأبرياء ، وأخذوا أموالاً بغير حق وكفروا المسلمين والعياذ بالله فكانت فتنة عظيمة .
الطائفة الثانية :-
زعمت أنها تبتعد عن الفتنة بترك الواجب عليها ، فتركت هذا الواجب ، وصاروا كمن قال :
{ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} (49) سورة التوبة.
قال الله عز وجل عن هؤلاء: { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } (49) سورة التوبة.
وذلك لأنهم تركوا الواجب عليهم ، بزعم أنهم يخافون الفتنة ولا يريدونها فكان تركهم لما
يلزمهم هو الفتنة .
الطائفة الثالثة :-
هي التي أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر فكان أمرها موافق لشرع الله ، وإلتزام بما بين رسول الله ( ، وما أجمع عليه أهل العلم .
ووسط هذا كله كان لا بد لنا من علم صحيح وعمل صحيح وممارسة ومشاركة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه مفتاح العلاج إن شاء الله .
فلا يكفي أبداً أن يقف الإنسان موقف المتفرج , ولا حتى المشجع في الدعوة إلى الله .
ولا الناقد الذى ليس له هم إلا النقد ، ليس غرضه النصح والإرشاد والبيان ، ولكن غرضه انتقاص الآخرين وذكر عيوبهم .
ولن يجنى المسلمين الخير إلا بالعلم والعمل وبالدعوة إلى الله فبهذا يتحقق لهم ما وعد الله به من النصر والتمكين .
ولهذا كانت هذه الورقات التى صيغت عباراتها باختصار مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة والإجماع.
موضحاً بكلام العلماء وأقيستهم بغير استطراد أو استقصاء ليكون بذلك كالمنهج لإخواننا الأحباء المشاركين في الدعوة لنسير جميعاً على الصراط المستقيم .
نسأل الله أن ينفعنا وإخواننا والمسلمين ، ويغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا إنه هو التواب الرحيم .
مشروعية الأمر بالمعروف(1/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم قواعد الدين وهو المهمة التي ابتعث الله بها النبيين أجمعين .
قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران.
قال النبي (: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان ".(1)
وهذا أمر إيجاب بإجماع الإمة
نقل الإجماع على وجوبه الجصاص والغزالى وابن حزم والنووى وغيرهم .
ومقصودهم فى ذلك الوجوب أن الأمر بالمعروف الواجب(2) واجب وأن النهي عن المنكر المحرم واجب , والأمر بالمعروف المستحب(3) مستحب ، والنهي عن المنكر المكروه مستحب .
هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟
قالت طائفة قليلة من أهل العلم هو فرض عين على كل مسلم وقال جمهور علماء المسلمين أنه فرض كفاية على الأمة (4).
إذا قام به البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط عن الباقين وإلا أثم كل قادر (5) بحسب قدرته من القيام به بنفسه أو المعاونة على القيام به أو أمر القادرين بذلك .
ويلاحظ أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في ظروفنا الحاضرة متعين بالقلب للجميع . وباللسان في كثير من الأحوال وباليد أحياناً بالشروط الشرعية لعموم المنكرات وعدم من يأمر وينهى.
متى يصبح فرض الكفاية فرض عين ؟
وقد يصبح فرض الكفاية فرض عين فى بعض الأحوال :
(1) كالقادر الذى لم يقم به غيره لعجز أو تقصير (6) كمن كان فى موضع يطمس فيه المعروف أو يرتكب فيه المنكر لا يعلم به إلا واحد (7) ، أو احتاج إلى جدال لمناقشة ولا يصلح لذلك إلا واحد .
(2) وكذا من تعينه الدولة الإسلامية لذلك .
****
تغيير المنكر بالقلب
والتغيير بالقلب واجب على كل إنسان ، وذلك لأنه متعين فى كل حال يوجد فيه المنكر .
وهذا فرض كما أخبر النبي (:
" فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "(1/5)
وقال النبي (: " ما من نبي أرسله الله قبلى إلا كان له حواريون يهتدون بهديه ، و يستنون بسنته ، ثم أنه تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون مالا يفعلون ، و يفعلون مالا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه .
ونفى الإيمان فى الحديث على معنيين :
الأول : أنه فى المستحل فيكون نفي الإيمان عنه بالكلية مستلزماً لكفره فمن جحد المعلوم من الدين بالضرورة أو رأى أنه لا يلزمه فعل الواجب ولا ترك المحرم فإنه كافراً باتفاق أهل العلم .
الثانى : أنه المقصود فى هذا الحديث من رضي بالمنكر وفرح به وأقره وإن لم يستحله . وهذا لا يكفر كفراً ناقلاً عن الملة .
ومعنى: " ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" :
أي فى عمله ذلك أي من غير المنكر بقلبه وهو قادر على أن يغيره بلسانه أو بيده فقد قصر وأثم ولكن فعله هذا وهو التغيير بالقلب بكراهية المنكر وبغضه له وتمنى زواله فيه شيء من الإيمان , أما من لم يكره المنكر بل رضي بوجوده وفرح بنيل شهوته وهواه من خلاله ليس فى هذا الفعل شيء من الإيمان ولا يلزم أن لا يكون فى قلبه شيء من الإيمان فى أمور أخرى كتصديق الله ورسوله (.
والالتزام إجمالاً بالشرع وإن كان الالتزام التفصيلى غير موجود فى هذه المعصية .
فمن ترك الواجب عليه من التغيير و لو بالقلب فهذا قد يكون معه إيمان مجمل ، وليس معه الإيمان الكامل الواجب .
معنى المعروف وصوره
المعروف: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات .
صوره
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله :(1/6)
(( ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراءها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله مثل شرائع الإسلام وهى الصلوات الخمس فى مواقيتها ، وكذلك الصدقات المفروضة والصوم المشروع وحج البيت الحرام .
ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره .
ومثل الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك . ومثل ما أمر الله به ورسله من الامور الباطنة والظاهرة ، مثل: إخلاص الدين لله والتوكل على الله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه والصبر لحكم الله والتسليم لأمر الله .
ومثل صدق الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانات إلى أهلها ، وبر الوالدين وصلة الأرحام والتعاون على البر والتقوى والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك .
والعدل فى المقال والفعال ثم الندب إلى مكارم الأخلاق مثل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك .
ومن الأمر بالمعروف كذلك الأمر بالائتلاف والاجتماع ، والنهي عن الفرقة والاختلاف وغير ذلك .
المنكر
معناه : هو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه .
صوره
قال شيخ الإسلام بن تيمية :
" المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، أعظمه الشرك بالله وهو أن يدعو مع الله إلهاً آخر كالشمس والقمر والكواكب أو كملك من الملائكة أو نبياً من الأنبياء أو رجل من الصالحين أو أحد من الجن أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم أو غير ذلك مما يدعى من دون الله أو يستغاث به أو يسجد له فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله ، ومن المنكر كل ما حرمه الله كقتل النفس بغير حق وأكل أموال الناس بالباطل بالغصب أو الربا أو الميسر والبيوع والمعاملات التي نهى رسول الله ( .(1/7)
كذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وتطفيف الكيل والميزان والإثم والبغي بغير الحق .
وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله و رسوله ( "( الفتاوي28/126) .
فيتضح لك من هذا الكلام النفيس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل الدعوة إلى الإيمان والإسلام ومحاربة الكفر والشرك والبدع والمعاصي كما يشمل الجهاد في سبيل الله وهو من أعظم المعروف الذي أمرنا به ويشمل إصلاح الأمة وتربيتها وتبليغ الشرع وتأليف الكتب الشرعية ونصيحة الإخوان ، وأن يبذل كل جهد مستطاع لنشر الدين و نصره وتمكينه ، وليست الحسبة محصورة في صورة معينة كتكسير أماكن الفساد أو تحريقها ومن لم يفعل ذلك فهو مضيع هذه الفريضة كما يظنه البعض بل هذه الأمور ، عند توافر شروطها كما سيأتي هي بعض صور هذه الفريضة ولا ينفي عداها فضلاً عن تحقيره والاستهانة به (( ورأس المعروف توحيد الله ورأس المنكر الشرك بالله)) وإنما يعرف المعروف والمنكر بأدلة الشرع سواء جرت به عادة الناس أم لا لأن إعطاء هذا الوصف هو حكم شرعي والحكم لله وحده ولا عبرة بعرف الناس إذا خالف الشرع وإنما العرف المعتبر هو ما لا يخالف النصوص ـ وقد تغير عرف الناس حتى أنكروا المعروف وأقروا المنكر وعرفوه فكيف يكون ميزاناً لمعرفة الحق .
شروط المحتسب
1- الإسلام :
فالإسلام شرط للمخاطبة به في الدنيا وكذا في صحته وقبوله عند الله .
ولكن لو أن كافراً رأى مسلماً يزني فنهاه عن لك لوجب على المسلم قبول ذلك لحق الله تعالى .
فإن رسول الله ( قد قال: لأبي هريرة رضي الله عنه (8) عندما نصحه الشيطان قال له(: " صدقك وهو كذوب "
وذلك لأن الحق يقبل من كل قائل به ولو كان أكفر الكفار ، وليس هذا استجابة لأمر الله تعالى .
كما قال النبي (: في صلح الحديبية عن المشركين " والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها " (9) .(1/8)
فهذه طاعة لأمر الله لا لأمر الكافر ولا متابعة لهم ولكنه انقياد للحق الواجب .
ولكن لا يجوز تولية الكافر ولاية الحسبة ولا الشرطة ولا نحوها مما فيه سلطة على مسلم .
قال تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (141) سورة النساء ،
وقال النبي (: " ارجع فلن أستعين بمشرك " (10)
وهذا مجمع عليه .
2-التكليف :
وهو شرط وجوب: فالاحتساب واجب على العقلاء البالغين وليس معنى ذلك أن يمنع من كان من أهل القرية كالصبي المميز من القيام بالأمر والنهي لقوله (: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع "(11) .
بل ينبغى تربية الأبناء على ذلك . قال تعالى فى وصية لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان.
مثال ذلك :- أن يقال للصبي ذي السبع سنين أن يأمر زملائه بالصلاة وينهاهم عن السب والبذاء مثلاً .
وينبغى أن يكون ذلك فى الأمور المعلومة المشهورة لدى الجميع ، لئلا يحتاج الأمر إلى فقه وضوابط معينة فيقع الصبي في خلافها ويكون تحت إشراف من يراقبه ليعلم إنضباطه في هذا الباب وبهذا يتربى الأبناء على القيام بهذا الأمر .
هل تشترط العدالة في المحتسب ؟
العدالة: هي هيئة كامنة في النفس توجب على الإنسان اجتناب الكبائر والصغائر من الذنوب والمعاصي ، والتعفف عن بعض الأمور المباحة التي ليس على فعلها ثواب ولا عقاب مما قد يخالف حسن الخلق وجميل العادة .
والعدالة لا تشترط في المحتسب على الراجح من أقوال العلماء إذ أن الإحتساب فرض كسائر الفروض لا يتوقف القيام به على أكثر مما يتطلبه هذا الفرض وترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها .
قال بعض أهل العلم (( فرض على شاربي الكئوس أن يتناهو فيما بينهم )).(1/9)
وأما قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } (44) سورة البقرة.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) سورة الصف.
فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم به .
وقد يكون في ترك الحسبة من مرتكب المنكر إقراراً به وتلبيساً على العوام _ مثل عالم يعلم حرمة التدخين _ لا ينكر هذا المنكر لكونه يدخن فيحتج العوام بفعله على جواز التدخين . وحديث النبي (: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق أقتابه (أى أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بامعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه"(12) متفق عليه .
فتعذييه لأمرين: فعله المنكر وتدليسه على الناس أنه من أهل التقوى والصلاح .
ومن علم أن قوله لا يقبل لعلم الناس بفسقه ففي سقوط الوجوب عليه بذلك وجه وهذا في القول فقط وأما الحسبة بالقوة من قبل المعين لذلك من قبل الإمام فلا يشترط فيها ذلك .
ولا شك أن العدالة من آداب الحسبة وأسباب نجاح الدعوة ولكن لا تشترط العصمة بالإجماع في الاحتساب .
هل يشترط تولية الإمام أو إذنه ؟
عدم اشتراط الولاية أو إذن الإمام هو مذهب جماهير العلماء لعموم الأدلة وعدم المخصص ثم إجماع المسلمين في الصدر الأول .
أما عموم الأدلة فلأن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة الإسلامية كأمة بهذا الواجب فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } (104) سورة آل عمران.
وقال النبي ( مخاطباً أمته: " من رأى منكم منكراً فليغيره "
وكذا يغيير المنكر وجهاد من خالف سنته .
قال (: " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ".
فكيف يكون الأذن مشترطاً في مجاهدتهم ؟(1/10)
وإن كان لا يلزم من جاهدهم الخروج عليهم فإن ذلك معلوم من سنته عليه الصلاة والسلام ، فإن ( نهى عن الخروج على من لم يظهر الكفر البواح (13) منهم من أجل المفاسد في ذلك .
ولكن كما قال أهل العلم يغير منكراتهم كإراقة خمورهم ومنعهم من الظلم لمن قدر على ذلك ويزيله إن أمكنه ذلك وذلك في إطار مراعاة المصالح والمفاسد )) (14).
فإذا كان سيترب على الأمر مفسده أعظم لم يدفع فساد بأفسد منه .
وأما الإجماع فقد نقله إمام الحرمين فقال في عدم اشتراط الولاية أو إذن الإمام: (( والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول ، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية )) أ.ه .
ومما يدل على أن هذا هو فهم السلف قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث : "من رأى منكم منكراً فليغيره " إنما كان في التغيير على مروان بن الحكم حينما بدأ بالخطبة قبل صلاة العيد .
فحاول أبو سعيد منعه من الخروج للخطبة قبل الصلاة في العيد ، فلم يستجب فقام رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة .
فقال مروان: قد ترك ما هنا لك .
فقال أبو سعيد: أما هذا ( يقصد الرجل ) فقد أدى ما عليه .
سمعت رسول الله ( يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره "(15) وذكر الحديث .
وفي بعض الروايات أن أبا سعيد حاول منع مروان من الخطبة قبل الصلاة فلم يمكنه .
فدل ذلك على تغيير منكرات الأئمة أنفسهم .
وإنما يشترط استئذان الإمام المسلم إذا كانت الحسبة تؤدي إلى فتنة أو قتال فيلزم الإذن لرفع الضرر لا لمجرد الإذن .
3- العلم :
ويشترط العلم في القائم بالحسبة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.(1/11)
قال النووي: إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهي عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام فيه مدخل ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء .
العلم المشترط في الحسبة يشمل :-
1- العلم بخطاب الشارع: أي بأن الشرع أمر بكذا أو نهى عن كذا -والتمكين من هذا العلم شرط في التكليف بالحسبة وغيرها .
2- ويشمل العلم بالواقع لكي لا ينكر ما ليس بمنكر - فمثلاً العلم بتحريم الشرع للخمر شرط في الاحتساب على شاربها - والعلم بأن ما في هذه الكأس خمر شرط في قيام المحتسب بالحسبة .
سؤال : هل يجوز لغير العالم أن يأمر وينهى بناء على فتوى عالم ؟
الجواب :
أولاً: كل المسلمين علماء بالمحرمات المشهورة والواجبات الظاهرة كما بينه الإمام النووي .
ثانياً : مالم ينتشر العلم به بين المسلمين فالناس فيه على ثلاثة أقسام :
1- العالم المجتهد: الذي حصل مرتبة الاجتهاد وهذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمقتضى علمه بالشرع وبما يشرع فيه الإنكار .
2_ طالب العلم المميز: الذي يستطيع التمييز بين أقوال العلماء وله نظر فى معرفة الأدلة وطرق الاستدلال لكنه لم يحصل مرتبة الاجتهاد - فهذا له الترجيح بين أقوال العلماء وعليه اتباع ما ظهر له فيها الدليل الشرعي وإذا جمع أدلة مسألة مع علمه بطرق الاستدلال والترجيح فهو بها عالم وما لم يجمع أدلته أو عجز عنه من المسائل فهو ملحق فيه بالعوام .(1/12)
3- العوام: وهؤلاء عليهم سؤال علمائهم والأخذ بما يفتونهم به ، وإذا اختلف على العامي فتاوي العلماء اتبع أوثقهم في نفسه كالأعمى إذا خفيت عليه القبلة واختلفوا عليه قلد أوثقهم وأصدقهم في نفسه ، فهذا النوع لا ينكر إلا إذا أفتاه العالم أن هذه المسألة متفق عليها أو أن المخالف فيها مخالف لنص أو إجماع أو قياس جلى ولذا فلا يسوغ خلافه ، وإن لم يفته العالم بذلك بل قال له فقط هذا الشيء منكر وهو لا يدري هل هو متفق عليه أو مختلف فيه ونحو ذلك لم يجز له الإنكار ولكن ينصح وينقل ما سمعه من العالم للخروج من الخلاف .
4- القدرة: وذلك لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (16) سورة التغابن ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة ، وقول النبي (: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (16) وقوله (: " فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .
وهذا يدل على أن شرط القدرة إنما هو في تغيير المنكر باليد واللسان .
أما الإنكار بالقلب فيجب أن يكون كاملاً ودائماً وهو متعين إذا هو مستطاع لكل أحد .
ومن معنى حصول القدرة: غلبة الظن بالسلامة من الأذى والمكروه لنفسه وغيره من المسلمين .
قال الغزالي: (( لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسى (17) ، بل يلحق به ما يخاف عليه من مكروه يناله فذلك فى معنى العجز )) (18) .
ويلاحظ هنا أن العجز الحسى يسقط التكليف بالكلية وهو مثل الإكراه الملجئ مثل امرأة قيدت واغتصبت قهراً فهذه لم يقع منها فعل ولا يوصف ما وقع لها في حقها بإباحة ولا كراهة لأن العجز هنا عجز حسى كامل.
أما العجز المعنوي فإنه لا يسقط التكليف بالكلية ولكنه يسقط الوجوب في الواجب ويصبح مستحباً أو مباح الترك وقد يوصف بالتحريم إذا كان فيه ضرر متعدٍ لغيره إذا كان يترتب عليه منكراً أعظم وكذا يسقط التحريم في المحرم ويصبح مكروهاً أو مباح الفعل .(1/13)
وهو مثل الإكراه غير الملجئ الذي يظل المكره معه له نوع قدرة وإرادة ، ولكن مع مشقة عظيمة وعسر كبير لوجود الأذى المعتبر فى الإكراه .
لما كانت الشريعة الإسلامية قد جاءت برفع الحرج أباح الله للأمة عند حصول هذا النوع من الإكراه ترك الواجب وفعل المحرم ولو كان كفراً عند وجود الإكراه المعتبر بشروطه .
قال تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} (106) سورة النحل.
وقال تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (33) سورة النور . والآيتان الإكراه فيهما من النوع الثاني ، أي الذي يبقي معه التكليف فإن نطق اللسان لا يتصور فيه الإكراه الملجىء.
وسبب النزول في الآيتين يوضح أنه في الإكراه غير الملجئ فإن البغاء لا يتصور فيه إلا المطاوعة .
ولما كان التعذيب اللاحق على الرفض عظيماً سقط إثم الزنا وحَدُّه .
****
الإكراه
قال النووي في (( روضة الطالبين ))(19): "وأعلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع " وكذا قال ابن مفلح واطلق القاضي وغيره سقوط الأمر بالمعروف بخوف الضرب والحبس .
واسقطه أيضاً بأخذ المال اليسير ...
قال الإمام أحمد رحمه الله: ((من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف ))(20) قال ابن دقيق العيد (21): " وفي الحديث دليل على أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك " .(1/14)
قال القرطبي (22): قال ابن عطية: (( والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض على من أطاقه وأمن القدر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه .
وقال النووي(23): قال ابن بطال: (( النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل قوله وأمن على نفسه المكروه فإن خشى أذى فهو في سعة )) .
وقال ابن رجب: (( ومن هذا من خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفى أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم )) .
وأدلة أهل العلم الذين سبق كلامهم هي أدلة اعتبار الإكراه قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (106) سورة النحل.
وفي حديث عمار قال النبي (: " إن عادوا فعد " (24) وقال النبي (: " وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (25) [حديث حسن ] وقال عمر: (( ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب )) وعنه: (( أربع كلهن كره السجن والضرب والوعيد والقيد )) راجعه تفسير القرطبي .
قال ابن حجر الهيثمي في الرد على من قال يجب الإنكار على كل حال (( وإن قتل المنكر ونيل منه أنه غلو مخالف لظاهر الحديث إلى أن قال ولا حجة لهم فى خبر: (( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول الله تعالى: " ما منعك إذا رأيت كذا وكذا أن تنكره فيقول رب خشيت الناس فيقول الله تعالى إياى كنت أحق أن تخشى".(26)
لأن المراد بالخشية فيه مجرد رعايتهم مع القدرة إذ لو وجب الإنكار مطلقاً لم يتأت قوله (: (( فإن لم يستطع )) وإذا جاز التلفظ بالكفر عند الخوف والإكراه كما في الآية فليجز ترك الإنكار بالأولى لأن الترك دون الفعل في القبح .(1/15)
قال ابن رجب: (( قال ابن شبرمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد و يجب على الواحد أن يصابر فى الإثنين ويحرم عليه الفرار منهما ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك فإن خاف السب أو سماع الكلام السيء لم يسقط عنه الإنكار _ نص عليه أحمد - وإن احتمل فهو أفضل )) أ.ه .
فإن قال قائل: المنكر الحاصل أمر مقطوع به والأذى أمر مظنون فكيف نترك المقطوع به للمظنون ؟
قيل له: المقصود بالخوف المعتبر غلبة الظن بحصوله ولا عبرة بالشك والتوهم وإمكان حصول الأذى ولو صح تطبيق هذا الكلام لا نسد باب الإكراه أصلاً إذ مبناه على غلبة الظن فالتهديد بالقتل والسجن والتعذيب كل ذلك مما أجمع العلماء على اعتباره في الإكراه في الجملة وهو من أمور المستقبل وليس قطعياً بالمعنى الاصطلاحي ولكن الشرع وضع غلبة الظن محل العلم وجريان العادة في الواقع المشهود والتجربة كاف في حصول غلبة الظن ولذا فينطبق على هذه مسألة - خوف الضرر- شروط الإكراه المعتبر كما ذكرها ابن حجر رحمه الله في الفتح .
الأول: أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.
الثاني : أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك .
الثالث: أن يكون ما هدد به فورياً فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لا يخلف .
الرابع: أن لا يظهر من المأمور به ما يدل على إختياره أ.ه .
وهذا الكلام يتضح منه أنه جريان العادة بعدم تخلف الأذى مدة معينة أو زمناً قريباً يعد عذراً أما إذا كان الأذى متوقعاً في الجملة فهذا غير معتبر .
فإن قيل: نحن نتمكن من التخلص بالفرار - فالجواب أن من يعلم أن فراره سوف يلحق الأذى المتوقع بأقاربه وأهله وإخوانه أو غيرهم من المسلمين العاجزين عن الفرار لم يكن فعله مشروعاً إذ ترتب عليه هذا المنكر الآخر .(1/16)
فإن قيل: فالجهاد والحسبة من باب واحد وهو لا يخلو من خوف الأذى و المكروه ، وأين آيات الابتلاء والصبر نحو قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2) سورة العنكبوت الأية وغيرها .
الجواب: أن المسلمين في الجهاد لا يغلب على ظنهم الانهزام كما لا يغلب على ظن إنسان بعينه حصول القتل أو الجرح له بل هو مظنون في الجملة أما بالنسبة لشخص بعينه فهو محتمل وممكن .
وقد سبق أنه لا عبرة بالإمكان والاحتمال ، وأما عند غلبة الظن بحصول الهزيمة والقتل للمسلمين لكونهم أقل من نصف عددهم فقد رخص الشرع لهم في الانصراف ، والخلاف في استحباب الثبات أو الانصراف إن كان في الثبات نكاية للعدو ، أما إذا كان القتال فيه هزيمة المسلمين من غير نكاية وجب الإنصراف وحرم القتال إجماعاً نقله ابن جزى عن إمام الحرمين بلا خلاف ، وذكر مثله النووى في الروضة ج 10 ، بل يكون الواجب عند ذلك تحريز المؤمنين استمراراً للدعوة وحفظاً للدين ، أما الصبر الواجب على الأذى فهو عند الأذى لا يعتبر عذراً في الإكراه ، أما الأذى فسيأتى تفصيله إن شاء الله .
فإن قيل: فالأذى الواقع على البعض منكر خاص والمنكرات العامة منكر عام والموازنة تقتضى دفع الضرر العام بتحمل الضرر الخاص ؟
والجواب: إن هذا تطبيق للقواعد في غير موضعها وإهمال لكلام أهل العلم الذي سبق في أمر الموازنة إذ جعلوا الأذى الحاصل للمحتسب أو غيره منكراً يقدم دفعه على دفع المنكر الأصلي _ وهذا لأن المنكر إنما يضر من فعله مختاراً ومن رضي به _ ولا يضر من كرهه وأباه ممن عجز عن تغييره و أما إيذاء المسلمين الأبرياء الذين لا ذنب لهم فهو ضرر محض لمن لا يستحقه .
قال ابن رجب -رحمه الله-: (1) ولعمري إن أيام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم (2) كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول و اليد لتعذر ذلك والخوف على النفس .(1/17)
وقد حكي أن الحجاج لما مات قال الحسن: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإن أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن: هيهات ، والله حال دون ذلك السيف والسوط .. قال ((فّهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان )) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( فهذه الأمور العدل فيها أن لا يطلب العبد أن يبتلى وإذا ابتلى بها فليتق الله وليصبر والاستعداد لها أن تصيبه من غير طلب الابتلاء بها )) وقال: (( والتعرض للفتنة هو من الذنوب )) .
***
ما هو المكروه المعتبر في إسقاط الحسبة
المكروه نوعان :
1- فوات الحاصل .
2- خوف امتناع المنتظر .
وهو في أربعة أشياء :
1- الصحة والسلامة في البدن .
2- المال .
3- الجاه والمنزلة .
4- العلم .
ولايتصور فوات الحاصل في العلم لأنه لا يمكن لأحد أن ينسى غيره ما يعلمه ، ولا يحصل فوات الحاصل في العلم إلا بتقصير منه .
فأما فوات الحاصل في الصحة والسلامة في البدن فمثاله أن يقتل أو يضرب ضرباً مؤلماً أو يقطع عضو من أعضائه أو يحبس حبساً يدخل عليه الضيق .
وفوات الحاصل في المال أن يؤخذ ماله ويهدم داره وتسلب ثيابه .
وفوات الحاصل في الجاه أن يهان الإنسان أمام أهله أو جيرانه أو أصدقائه بما يسقط مرؤته . وكل من هذه الثلاثة لها حد في الكثرة لا بد من اعتباره وحد في القلة لا بد من إهداره ، وما بينهما محل إجتهاد ونظر وترجيح .
والترجيح في ذلك بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع .
فمثال: ما لا بد من اعتباره ما ذكرناه من القتل وسلب المال وهدم الدار والإهانة أمام الأهل والجيران .
ومثال: ما لا بد من إهداره الضربة الخفيفة ألمها وحبس دقائق أو سويعات .(1/18)
وأخذ الحبة من المال كقروش معدودة ، وفي الجاه لوم الفاسق وعتابه وتعنيفه وسقوط المنزلة من قلبه وقلب أمثاله .
وكذا غيبته وعيبه للمحتسب ، فكل هذا لا بد من إهداره وعدم اعتباره لأن حياة الإنسان المعتادة لا تخلو من مثل ذلك ولو من غير حسبة أو دعوة فلا يعد هذا عذراً في الحقيقة والدعوة إلى الله لا تخلو أبداً من مثل هذا .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (29) سورة المطففين
وأما خوف امتناع المنتظر في الصحة والسلامة .
فمثاله: مريض يرجو أن يشفى على يد طبيب لو أمره ونهاه امتنع من علاجه فهذا غير معتبر . وفي المال: أن يرجوا الإنسان أن يعين في وظيفة يأخذ منها مالاً أو ينتظر عطاء أو هبة أو يباع ويشترى منه فإذا أنكر عليهم لم يفعلوا ذلك معه فهذا أيضاً غير معتبر .
وفي الجاه: أن يتوقع أنه سوف يحتاج إلى إنسان ومنزلته في المستقبل ، فلو أمره ونهاه الآن لم يكن عنده له وجاهة فلا يعطيه ما يريد ولا ينفذ له ما يبتغيه فهذا غبر معتبر .
وفي العلم: أن يكون الإنسان جاهلاً بأمر يحتاج إلى تعلم كالتلميذ مع أستاذه إذا علم أنه إذا انكر عليه امتنع عن تعليمه فهذا ايضاً لا يعتبر .
لكن يستثنى من عدم إعتبار خوف امتناع المنتظر عذراً يسقط الوجوب ما تشتد الحاجة إليه ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر فهذا يلحق بفوات الحاصل في اعتباره عذراً يسقط الوجوب .
فمثال ذلك في الصحة: المريض يرجو العلاج من طبيب لو أنكر عليه لم يعالجه يكون المرض قاتلاً لو لم يعالج كنزيف أو ألم مبرح ، أو أن يكون الإنسان جائعاً أو عطشان يخشى الهلاك لو لم يُعط الطعام أو الشراب ، فهذا عذر معتبر مع أنه خوف امتناع منتظر وليس فوات الحاصل .
بل هذا عذر معتبر في الإكراه على فعل المنكر وليس في السكوت عن إنكاره .(1/19)
ومثال ذلك في المال: من إذا لم يعين في وظيفة أو منع من العمل أو فُصل منه لم يجد طعاماً وشراباً و كسوة ضرورية له أو لمن تلزم نفقته حتى يجوع أو يعرى .
فهذا عذر يسقط وجوب الحسبة بل قد يبيح له فعل الحرام طالما لم يجد وسيلة أخرى يكتسب ما يحتاجه .
ومثال ذلك في العلم: أن يكون الجاهل الذي يحتاج إلى التعلم جاهلاً بأمر ضروري كأنه كان لا يحسن الفاتحة ، أو مالا تصح صلاته إلا به ولو نهى أستاذه عن شرب الدخان مثلاً لم يعلمه ما تصح به صلاته وهذا محذور تزيد مفسدته على مفسدة السكوت على المنكر فيكون عذراً معتبراً .
***
إسقاط الوجوب في الحسبة لحصول المكروه
لا يسقط إستحبابها
إذا لم يتعدى الضرر على المحتسب إلى غيره فإن الوجوب إذا سقط فلا يسقط الاستحباب إذا كان للحسبة أثر في رفع المنكر أو في كسر جاه صاحبه أو في تقوية قلوب أهل الدين وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (21) سورة آل عمران .
وقال النبي ( لمن سألأه عن أفضل الجهاد: (( كلمة حق عند سلطان جائر )) (27)
لكن إذا علم المحتسب أن لا أثر لحسبته عاجلاً ولا آجلاً ولا خاصاً ولا عاماً لا على المحتسب عليه ولا غيره مع حصول الأذى الجسيم كقتله أو انتهاك عرضه فقد قال تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ َ} (195) سورة البقرة , فسقط الجواز عندئذ .
حكم تعدي الضرر إلى الغير
وأما إذا غلب على ظنه تعدي الأذى إلى غيره من أقاربه أو أصحابه أو رفقائه أو عموم المسلمين حرم الاحتساب ولو قدر زوال المنكر لأنه يفضى إلى منكر آخر وهو إلحاق الأذى بالآخرين وليس له أن يسامح في حق غيره (28) إلا من أذى يسير لا تنفك عنه الحسبة كالشتم والسب فهذا فيه نظر .(1/20)
قال ابن رجب :((إن خشى فى الإنكار على الملوك أن يؤذى أهله أو جيرانه لم ينبغ له حينئذ من تعدى الأذى إلى غيره كذلك قال الفضيل بن عياض و غيره ))
قال الغزالى :(( فإن كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه و جيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور نعم إن كان لا ينالهم أذى فى مال أو فى نفس ولكن ينالهم الأذى بالسب والشتم فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات فى تفاحشها ودرجات الكلام المحذور فى نكايته فى القلب وقدمه فى العرض )) وقال (( وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة فى شىء بل لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر يتعطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإنكار على الأظهر لان المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو ))
قال الشيخ أحمد الدردير (29) فى شروط جواز الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : (( وفى المنكر أن لا يخاف أن يؤدى إلى منكر أعظم منه )) .
قال أحمد الصاوى معلقاً : (( أى كنهيه عن أخذ مال شخص فيؤدى إلى قتله وفى الحقيقة هو شرط فى الأمر أيضاً )) .
قال الشيخ عز الدين بن عبد الملك : (( و إذا حدث رد فعل سىء للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فله نوعان : أحدهما أن يصيبه القائم به أذى و الآخر ألا يضر نفسه و لكن تحدث مفسدة أخرى نحو أن يقتل رجل برىء أو يزيد مرتكب المنكر تمادياً و إصراراً و غير ذلك .
أما النوع الثانى من رد الفعل فقد أجمع العلماء على عدم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى هذا الوجه )) (30)
مراعاة المصلحة والمفسدة في الحسبة(1/21)
قال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة ، وقال عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } (88) سورة هود ، وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (64) المائدة.
قال بن القيم رحمه الله (31) (( إنكار المنكر أربع درجات :
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده .
الثانى: أن يقل وإن لم يزل بالكلية .
الثالث: أن يخلفه ما هو مثله .
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليتان مشروعتان ، والثالثة موضع إجتهاد ، والرابعة محرمة )) .
قال ابن تيمية رحمه الله : (( ولهذا قيل وليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم )) أ .ه
قال النووى فى شرح مسلم: (( قال إمام الحرمين رحمه الله ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله مالم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان .
قال: وإذا جار والى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب هذا الكلام إمام الحرمين وهذا الذى ذكره من خلعه غريب ومع هذا فهو محمول على ما إذا يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه ))أ .ه(1/22)
قال الجويني في غياث الأمم: (( وإن علمنا أنه لا يأتى نصب إمام دون اقتحام داهية دهياء وإراقة الدماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال وإهلاك أنفس ونزف دماء فالوجه أن يقاس ما الناس إليه مدفعون مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون على ما الخلق مدفعون إليه فلا يسوغ التشاغل بالدفع بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع )) أ .ه
وقال أيضاً: (( إن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشا احتكامه واهتضامه وبدت فضيحته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن وإثارة الفتنة ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع ويقوم محتسباً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدماً والله نصيره على الشرط المتقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع (32)
كيف نوازن بين المصالح والمفاسد ؟
يقول ابن تيمية رحمه الله: (( وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت )). (( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام ))أ.ه (33)
أنواع المصلحة
وقد بين أهل العلم أنواع المصلحة من حيث اعتبارها شرعاً إلى:(1/23)
1-مصلحة شهد الشرع لاعتباها:
الأول: وهى ما دلت أصول الشرع لنوعها ( وهى في الحقيقة نوع من القياس بل من القياس بل هي القياس الصحيح ومثالها تضمين السارق قيمة المسروق قياساً على الغاضب )
الثانى: ما دلت أصول الشرع لجنسها في القول بها من عدمه وإن كان تصرف أكثر العلماء على اعتبارها في الجملة .
2_ مصلحة شهد الشرع لبطلانها:
وهي ما وجدت في الواقعة نصوص شرعية تناقش الحكم الذي تمليه المصلحة ، ومثالها فتوى بعض المنتسبين للفقه لأحد الملوك بالصوم بدلاً من العتق في الكفارة المرتبة زجراً له )) وهذا القول باطل بإتفاق من يعتد به من أهل العلم إذ هذه المصلحة متوهمة باطلة وليست مصلحة في الحقيقة .
ولا شك أن تعطيل النصوص بزعم المصلحة كما في تحليل الربا والخمر وسائر المحرمات بزعم المصلحة وكذا تعطيل الحدود هو من هذا الباطل الذي يراد به هدم الشريعة .
ومن هنا نعلم أن النصوص الشرعية هي الأصل في معرفة المصالح وليس العكس ولا شك أن الموازنة بين المصالح والمفاسد من أعظم الأمور خطراً وهى تحتاج إلى علم واجتهاد وبصيرة وفقه عظيم في دين الله وسنن الأنبياء في الكتاب والسنة ليكون الترجيح بموجب الدين لا بموجب الطبع والهوى .
هل يشترط الانتفاع بالاحتساب لوجوبه ؟
- الأظهر من قولي العلماء أن الحسبة واجبة مع ظن التأثير والنفع ، ومع عدمه إذا كانت فيه مصلحة أخرى كانتفاع غير المحتسب أو إظهار شعائر الإسلام أو الأثر والنفع آجلاً لا عاجلاً (34) فإن عدم ذلك سقط الوجوب وعليه تحمل الأحاديث الواردة في ترك الأمر والنهي ونحوها مما ورد في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (105) سورة المائدة.(1/24)
مثل قوله (: (( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام..)) (35) الحديث ، رغم أن في سنده مقال .
والهداية لا تتم للعبد إلا بأداء الواجبات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد تجب العزلة إذا لم يمكن للإنسان حفظ دينه والنجاة من الفتن إلا بالعزلة مع التنبيه على أن ذلك أمر مخصوص في أحوال مخصوصة وليس عاماً في الأرض كلها في أى زمن لقول النبي (: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم إلى قيام الساعة " (36)
* المقصود أن الأمر بالاعتزال إنما هو لمن لم يجد على الخير أعواناً وخشى على نفسه الوقوع في الفتن أو على حصول الأذى الذي لا يصبر عليه ، وهذا لا يكون عاماً بل هو خاص بمن وجد في هذه الأحوال .
شروط المنكر
1- أن يكون ظاهراً بدون تجسس:
( سواء عن طريق البصر أو السمع أو غيرها من الحواس ) حتى لو غلب الظن الاستسرار بها إلا ما ظهرت أماراته أو آثاره ويكون في تركه حرمة يفوت استدراكها فيجوز الإقدام والكشف مثل أن يخبره من يثق به أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها .(37)
2- ومن شروطه أن يكون قائماً فى الحال:
فما لم يقع بعد من المنكرات لا يجوز فيها الاحتساب بغير الوعظ والإرشاد إذا ظهرت بوادره ، وما وقع وانتهى من المنكرات فالعقوبة عليه من حد أو تعزير لولى الأمر ومن يقوم مقامه ، وأما ما كان واقعاً في الحال فيغير بحسب الإمكان بدرجات التغيير المختلفة على ترتيبها الذي سنذكره إن شاء الله .
فمن كان ممكناً وله قدرة مطلقة فيجب عليه القيام بالحسبة كاملاً حتى يزول المنكر .
3- ومن شروطه أن يكون غير مختلفاً فيه اختلافاً سائغاً:
وأما الخلاف غير السائغ وهو الذى دل صريح القرآن أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي القديم على بطلانه وشذوذه فلا يمنع الإنكار .(1/25)
قال ابن رجب: المنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج ، وتأوله القاضي على من لعب بغير اجتهاد أو تقليد سائغ وفيه نظر فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك أ .ه
وقال النووى: مرجحاً أنه ليس للمحتسب حمل الناس على مذهبه ولم يدل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً و الله أعلم أ .ه
ومن هذا الكلام يتضح لك معنى قول من أطلق من أهل العلم أنه لا ينكر إلا ما كان منكراً في مذهب فاعله أو إلا ما كان متفقاً عليه فإن العلماء يستثنون ما خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي ، مع أن الصحابة أنكروا على من خالف النصوص ولو متأولاً .
فقد أنكر ابن الزبير على ابن عباس: فتواه في المتعة وغلظ عليه .
ورد عليه ابن عباس بقوله: إنك لجلف غليظ قد كانت تفعل على عهد رسول ( فقال: "جرب بنفسك وإن فعلت لأرجمنك بأحجارك " .(38)
وأنكرت عائشة على زيد ابن أرقم بيع العينة .
وأنكر ابن عمر على ابنه وسبه لما حدثه بحديث النبي (: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". (39)
فقال ابنه: والله لنمنعهن فسبه سباً لم يسبه أحداً .
وأنكر أبو الدرداء على معاوية في مسألة ربا الفضل .
وقال له: لا أساكنك بأرض أنت فيها - وغير ذلك كثير- وهو يثبت أن من خالف السنة أو الإجماع أنكر عليه ولو كان متأولاً .
درجات التغيير
أولاً: يبدأ بالتعريف: وهذا في حق الجاهل (40)
ثم: الوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى: وهذا في حق من يعلم ويصر ويكون برفق من غير عنف وشدة .(1/26)
ثم: التعنيف والتغليظ بالقول الخشن: عند العجز عن المنع بالرفق .
ثم: تغيير المنكر باليد: كإراقة وكسر آلات اللهو والباطل كالموسيقى وغير ذلك ويدخل في ذلك إتلاف كتب البدع والضلال من غير تعرض لمرتكبه .
ثم: التهديد والتخويف بالعقوبة لمرتكبه ثم مباشرة العقوبة كالضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح - وذلك مشروع للآحاد حال وجود المنكر بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة للدفع ولو أدى للقتل كدفع الصائل على نفسه أو غيره وإن احتاج إلى شهر سلاح وجمع أعوان فللآحاد ذلك ما لم يثر فتنة ومفسدة أعظم ومن العلماء من قيد ذلك بإذن إمام وخلفائه كما سبق عن إمام الحرمين. (41)
وينبغى أن يعلم أن الحسبة مع الوالدين لا تتعدى التعريف والوعظ والنصح لقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } (23) سورة الإسراء , وقوله: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (15) سورة لقمان ، وكذا الزوجة مع زوجها لقوامته وأما الأب مع الولد غير البالغ والزوج والزوجة فله تعزيرهم في حدود ما أذن به الشرع بغرض الإصلاح بل للأب تعزير ولده البالغ كما في حديث التيمم ففيه تعزير أبي بكر لعائشة رضي الله عنها .
آداب المحتسب
ينبغى على المحتسب التحلى بالرفق والصبر والعفو والإعراض عن الجاهلين .
قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (10) سورة المزمل.
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف , وأن يجتهد في إخلاص النية لله تعالى .
ونسأله تعالى أن يجعلنا آمرين بالمعروف فاعلين له ناهين عن المنكر مجتنبين إياه وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والبصيرة في الحق وأن يغفر لنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم .
كتبه:
ياسر برهامي
(1) …رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/27)
(2) …كالذي يخطىء في صلاته فلا يقيم صلبه فيما بين الركوع والسجود لأنه ما صلى , لهذا وجب على من رآه أن ينصحه وأن يبين له الخطأ .
(3) …كالذى ترك رفع اليدين من الركوع والرفع منه فيستحب أن ينصح ويبين له الخطأ. وهذا يجوز أن يترك نهيه إذا كان يؤدى إلى نفروه وبعده عن طلب العلم بالكلية .
لأن المقصود أصلاً هو فعل الواجب وترك المحرم . وفى المستحب و المكروه يمكن تركه مصلحة أكبر أو كان فى فعله مفسدة أعظم .
(4) …والدليل قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } (104) سورة آل عمران .
وظاهر قوله ((منكم)) أنها للتبعيض . وعلى قول من يجعلها زائدة أى بمعنى ((لتكونوا)) فإن ذلك متحقق بوجود الطائفة التى تأمر و تنهى فهو كالجهاد.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة.
(5) …هذا هو الحكم فى سائر فروض الكفاية و هو أنه إذا لم يقم بها البعض أثم كل قادر .
و إطلاق البعض من أهل العلم الأثم على الجميع مراعاة الغالب فإن أحداً لا ينفك غالباً عن نوع من القدرة إما بنفسه أو بالتعاون مع غيره , أو أمر القادرين.
وإلا فلو فعل إنسان كل ما يقدر عليه لم يؤاخذ بما تركه الآخرون { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (286) سورة البقرة.
(6) المقصود أن غيره لم يقم به لكونه عاجزاً أو كان الغير مقصراً أيضاً مع قدرته فيأثمان جميعاً لكون فرض الكفاية قد صار فرض عين على كل منهما.
(7) إ ما لا يعلم بوجوده إلا هو : كصاحب المنزل ، والزوج مع زوجته ، والأب مع أولاده و نحوه .(1/28)
أو لا يعلم بكونه منكراً إلا هو كمن يعلم حرمة المعازف مثلاً وسط مجموعة من الناس لا يعلمون بذلك لجهلهم بالحديث وكلام أهل العلم.
(8) …رواه البخارى فى صحيحه عن أبو هريرة رضى الله عنه .
(9) …رواه البخارى فى صحيحه ضمن حديث طويل عن المسرور بن مخرمة رضى الله عنه .
(10) …رواه مسلم فى صحيحه من حديث عائشة رضى الله عنها .
(11) …رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وصححه الشيخ/ الألباني في صحيح الجامع برقم 5868 .
(12) …رواه البخارى و مسلم من حيث أسامة بن زيد رضي الله عنه .
(13) …رواه البخارى ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ولفظه ((بايعنا رسول الله ( على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )) .
(14) …سيأتى فصل المصالح والمفاسد .
(15) …راجع الحديث والقصة في صحيح مسلم .
(16) …رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه .
(17) …العجز الحسي: كالأخرس مثلاً لا يجب عليه التغيير بالسان لعجزه ، وكالمشلول اليد لا يجب عليه التغيير باليد ، ولا يوصف الأمر فى حق العاجز بالاستحباب أو بالإباحة أو غيرها من أحكام التكليف لأنه خارج عن التكليف .
(18) …العجز المعنوي: وهو أن يصيب الإنسان أذى معتبر فى الإكراه يزول عنه الحكم من الوجوب أو التحريم .
(19) …ج 10 ص 231 .
(20) …الآداب 1/355 .
(21) …فتح المبين / 90 .
(22) …القرطبى /225 .
(23) …مسلم شرح النووى 1/54 .
(24) …حديث عمار رواه أبو نعيم في الحلية[ ج1 ص 140 ] وابن سعد في طبقاته [ج3ص178] و ابن جرير في تفسيره [ج14ص182] كلهم عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر.(1/29)
(25) …رواه البيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجاحع برقم 7110 وفي إرواء الغليل برقم 82 .
(26) …رواه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1818 وفي السلسلة برقم 929 .
(27) …رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة فىي سننه والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ورواه النسائي في سننه من حديث شهاب رضي الله عنه وصحح الحديث الشيخ/الألبانى في صحيح الجامع برقم 1100 وفي السلسلة الصحيحة برقم 491(1/30)
(28) …الأخذ بالعزيمة مستحب والأخذ بالرخصة جائز وقد يكون مستحباً ، وليس للإنسان أن يفرض على الآخرين الأخذ بالعزيمة وقد جعل الله لهم سعة في الرخصة فمن عرض غيره للأذى فهو يلزمه بما لا يلزمه شرعاً ومن هنا كان له أن يسامح في حق نفسه لا في حق غيره وما أعظم فقه عبد الله بن حذافة الصحابي رضي الله عنه في هذه المسألة: ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له تنصر و أنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتى فقال له: لو أعطيتنى جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن ارجع عن دين محمد ( طرفة عين ما فعلت! فقال: أنت وذلك ، فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه النصرانية فيأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه فقال: إني بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى فى هذا القدر الساعة فى الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله ، فقال له الملك قبل رأسي وأنا أطلقك فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ، قال نعم : فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فرجع إلى عمر بن الخطاب فقال: (( حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة و أنا أبدأ وقبل رأسه رضي الله عنهما )) أ . ه نقلاً من البداية و النهاية لابن كثير .
(29) …الشرح الصغير 2/483 .
(30) …ميثاق الأزهار 1/50
(31) …أعلام الموقعين 3/5:4
(32) …غياث الأمم /731
(33) …الحسبة /75 .(1/31)
(34) …احتج من يرى سقوط وجوب الحسبة إذا ظن عدم التأثير بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} فمفهومه أنها إذا لم تنفع لم يجب التذكير وهو مفهوم شرط وجمهور أهل العلم يقولون به والأصل عدم تقدير محذوف نحو قولهم: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي وإن لم تنفع مثل قوله تعالى: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } أي والبرد والحق أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا تصور انتفاء جميع أنواع النفع فإن المسلم إذا لم يستجب للحسبة من أول مرة فإن ذلك يحدث في قلبه أثراً ولا شك وهو ما يسميه بعض أهل العلم نكاية في قلبه وبتكرار ذلك عليه يشعر بأن فعله مستقبح لدى الناس ففعله في الآجل يترك هذا المنكر أو حتى يفعله وهو في حرج لا أن يتعود عليه إذا لم ينكر عليه أحد- حتى يصبح هذا المنكر معروفاً وكذلك قد ينتفع بالحسبة آخرون غير المحتسب عليه - وينتفع المجتمع كله بظهور شعار الإسلام فيه وامتناع العذاب العام والفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة .
(35) …رواه أبو داود والترمذى وابن ماجة في سننهم وابن حبان في صحيخه من حديث أبي شعلة الخشنى رضي الله عنه ، والحديث ضغفه الشيخ/ الألباني في ضعيف الجامع برقم 2344 .
(36) …رواه البخارى ومسلم عن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وروى الحديث أيضاً الإمام أحمد والترمذى و أبو داود وابن ماجة والحاكم وابن حبان والدارمى بألفاظ مقاربة عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم.
(37) …الماوردى : الأحكام السلطانية .
(38) …رواه مسلم فى صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه .
(39) …رواه مسلم فى صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ورواه بنفس اللفظ الإمام أحمد في
مسنده ورواه الإمام البخاري و أبو داود وابن ماجة والحاكم بألفاظ متقاربة .(1/32)
(40) كحديث الأعرابى الذي بال فى المسجد (*) وحديث معاوية ابن الحكم السلمى الذى تكلم فى الصلاة وهو عند مسلم بلفظ بينما أنا أصلى مع رسول الله ( إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واَثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلى هكذا فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصدوننى لكنى سكت .
فلما صلى رسول الله ( فبأبى هو و أمى ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فو الله ما نهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.( **)
ـــــــــ
(*) رواه البخارى ومسلم من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه .
(**) رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى .
(41) هذا استثناء في الأغلب وليس بأصل إذ الأغلب حصول الفتن بالنسبة للجماعة التي تمارس الحسبة بدون ولاية بل تعم المفسدة وغيرها من الجماعات كما هو مشاهد .
ملحوظة: ذكر الغزالى رحمه الله هذه المراتب وتبعه عليها غيره من أهل العلم والدليل عليهما هدى الرسول في التغيير كما سبق فى قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاوية ابن الحكم وغيرها كثير .
ومن القواعد العامة فى الشريعة مثل استعمال الرفق مع المسلمين ما أمكن لقول النبي (:(( الرفق لا يكون في شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه )).(*)
وأن الأصل حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه وارتكابه المنكر هو استوجب عقابه إذا أصر عليه والضرورات تقدر بقدرها فإن اندفع بالأخف لم يجز الانتقال إلى الأشد مراعاة لأصل الحرمة .
ــــــــ
(*) رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنه بلفظ :
(( إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه ))
??
??
??
??
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـــــــــــــــــــــــــــ للدكتور/ ياسر بن برهامي
14(1/33)