……………………( المجموعة الأولى )
إضاءات ...
على طريق المحتسبين
عبد الرحمن بن حسن البيتي
شوال 1427هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة ويُطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } التوبة 71
مقدمة ..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
في ظل تسارع عجلة الحياة ، وتجدد الأحداث ، وتغير الطباع ، وزحمة الفتن ، تتعاظم المسؤولية على أهل الخير ممن أرادوا الإصلاح وهداية للناس ، ولعل على رأس هؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فما أجلّ وأعظم مهمتهم في هذا الزمن العصيب الذي كثرت فيه المنكرات ، وظهرت بأشكال مختلفة قد تنطلي على كثير من غير أولي البصيرة والإيمان ، ولهذا كان من المهم لكل محتسب أن يتوقف أثناء سيره ليلتقط الأنفاس ، وليقيّم مافعله ، فيثبت على الصحيح ويزيد منه ، ويبتعد على السقيم ويتخلص منه ، ومن هنا كانت هذه الإضاءات التي أسأل الله عزوجل أن ينفع بها وهي عبارة عن محطات وقفت فيها وبعض الفضلاء ممن ساروا على هذا الدرب نتأمل فيها بعض المواقف والتصرفات ثم نستنير فيها برأي أهل العلم والفضيلة وقد خطرت لي خاطرة بأن أجمع ذلك في رسالة صغيرة ، فكانت هذه المجموعة من الإضاءات المهمة التي أحببت توسيع دائرة الإستفادة منها بعرضها تحت عناوين متنوعة لنتلمس الطريق ، ونبصر من خلالها مواقع أقدامنا ، وهي ليست كلّها على وتيرة واحدة فالواقع مليء بالأحداث المتباينة بين الحزن والفرح ، وبين الإخفاق والنجاح ، والله أرجو أن ينفع بهذا الجهد القليل وهو الموفق والهادي الى سواء السبيل .
.
المحتويات
مقدمة
هل يمكن أن نعيش في عالم بلا خطأ ؟
الحسبة في زمن الغربة أعظم أجراً
من حِكم الحسبة
ابحث عن أيسر الطرق عند الإنكار
تأكّد أنه منكر
افقه مرحلتك لتعرف في أي عصر أنت
النتيجة ليست هدفاً بل الجهد(1/1)
أخطاء المعتقد أشد وأعظم
مكانة الشخص لها أهميتها عند الإنكار
العلم سبيل النجاح في عمل الحسبة
قدر الله عجيب في نشر الفضيلة
مالك التغيير هو الله سبحانه وتعالى
الحسبة واجب الجميع
العذاب العام يتعلق بالمنكر الظاهر وليس المستتر
إذا كنت مخاطراً بشيء فلا تخاطر بدينك
هل يسقط الإنكار إذا أُبلغ الأمير ولم يغيره
الدعوة بقدر العلم
تعرف على الجديد في وسائل المُنكًر
الإحتساب على الأمراء
ظهور المنكر
منكرات لايجب سترها
أحوال المنكر القائم في الحال
المنكر لا يُدفع بمنكر
من عُرف بالفجور هل يمكن من البيع للنساء
هل المحتسب ممنوع من استخدام الشدة ؟
إذا عُدمت الفائدة هل يسقط وجوب الإحتساب ؟
الإحتساب المحرّم
من جمع بين المعروف والمنكر
ولاينبئك مثل خبير
كن شجاعاً أيها المحتسب
لايزال لسانك رطباً من ذكر الله
احذر المغريات فإنها السوس
طلاقة الوجه وإلانة الكلام
عش مع الناس
اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور
إياك وخصومة الجاهلين
وطّن نفسك على مواجهة المصاعب
الإنكار على الكافر
أمور تدفعك الى احتساب الأجر في أعمالك
إن الله ستير يحب الستر
الغاية لاتبرر الوسيلة
سر نجاح الخطط
لاتحقرن من المعروف شيئاً
الملأ هم الملأ
لاخلاص من الشبهات
لايجوز أن نحدد وقتاً لإنزال نصر الله
صفات القائد
وأخيراً
هل يمكن أن نعيش في عالم بلا خطأ ؟(1/2)
هذه الدنيا الواسعة لايسعد فيها إلا من عرف معناها ، وسبب خلقها ، والهدف من وجوده عليها ، والذي لايعرف ذلك فإنه يمارس حياته عليها كباقي الدواب التي خلقها الله ، لقد أوجد الله سبحانه الخير والشر ، وأبان طريق الحق الباطل ، وجعل للجنة أهل وللنار أهل ، فتفاوت الناس عليها بين كافر ومؤمن ، ومبتدع ومتبع ، بل تفاوت فيها حتى أهل الإيمان بين سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه فتأمل في هذا المزيج العجيب ، وتأمل كيف تنوعت الأخطاء بصفة عامة ولكن علاجها هو التوبة والعودة الى الله قال صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) (1) إن وضوح هذه الحقيقة واستحضارها يضع الأمور في إطارها الصحيح فلا يفترض الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المثالية أو العصمة في الأشخاص ثم يحاسبهم بناء عليها أو يحكم عليهم بالفشل إذا كبُر الخطأ أو تكرر . بل يعاملهم معاملة واقعية صادرة عن معرفة بطبيعة النفس البشرية المتأثرة بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنسيان ، ولايعني هذا أن نترك المخطئين في حالهم ونعتذر عن العصاة وأرباب الكبائر بأنهم بشر أو أنهم مراهقون أو أن عصرهم مليء بالفتن والمغريات وغير ذلك من التبريرات بل ينبغي الإنكار والمحاسبة ولكن بميزان الشرع(2) لابميزان الهوى المجرّد من هذه المفاهيم المهمّة .
الحسبة في زمن الغربة أعظم أجرا
__________
(1) رواه الترمذي رقم 2499 وابن ماجة واللفظ له : السنن تحقيق . عبد الباقي رقم 4251
(2) معالجة الخطأ ببيان الحكم – للشيخ محمد المنجد(1/3)
لاشك أن هذا العمل الجليل من أعظم الأمور عند الله سبحانه وتعالى خاصة إذا كثرت الحاجة اليه وأصبح شديداً على النفس ، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم من يقوم به في آخر الزمان بأنهم غرباء لقلة من يعينهم ، ووصفهم بأنهم فئة قليلة يصلحون ما أفسد الناس ، فبهذه الشعيرة يحصل التدافع بين الخير والشر ، ويتمايز المؤمن من المنافق ، وهي وظيفة الرسل ، وسبب خيرية هذه الأمة كما قال تعالى ( كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) (1)
من حِكم الحسبة
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثلاث حكم الأولى إقامة حجة الله على خلقه ، كما قال تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (2)، الثانية خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى:(فتول عنهم فما انت بملوم) (3)، فدل على أنه لو لم يأمر وينهى لكان ملوما ، الثالثة رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)(4) ، وقال سبحانه (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)(5)
ابحث عن أيسر الطرق عند الإنكار
الغرض من هذه الشعيرة إزالة المنكر من الأرض وإيجاد المعروف فعلاً ، وإذا كان هذا هو الغرض منها فيجب الوصول إليه بأيسر طريق وأقصره بشرط أن يكون مشروعاً وأن ينظر الى ما يؤول اليه إنكاره من جهة ما يترتب عليه من زوال مفسدة المنكر وحلول مصلحة المعروف مكانه، وفي ضوء ذلك يقدم أو يحجم عن الاحتساب (6) ، ومن خلال هذا المفهوم يتضح للمحتسب بأن الإحتساب لايتقتصر على أسلوب محدد ، أو وسيلة مقننة ، أو تعليمات جامدة بل يجتهد في إختيار الوسيلة الأقرب للنفع وتحقيق الهدف طالما أنها موافقة للشرع .
تأكّد أنه منكر ؟
__________
(1) آل عمران 110
(2) النساء 164
(3) الذاريات 54
(4) الأعراف 164
(5) أضواء البيان
(6) أصول الدعوة ص 196(1/4)
قال أهل العلم لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين وأما مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه فلا يحكم على احد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا بل المصيب منهم مأجور بإصابته أجرين، والمخطىء منهم معذور مأجور أجرا واحدا، كما جاء في الحديث المتفق على صحته .
والواقع أن الخلاف إما أن يكون سائغاً وإما أن لايكون سائغاً ولكل حكمه :
الخلاف السائغ يمنع من الإحتساب على رأي بعض الفقهاء .
الخلاف غير السائغ ، وهو الخلاف الشاذ أو الباطل الذي لايعتد به لعدم قيامه على أي دليل مقبول كالذي يخالف صريح القرآن أو السنة الصحيحة المتواترة أو المشهورة أو إجماع الأمة أو ماعلم من الدين بالضرورة ، فمثل هذا الخلاف لاقيمة له ولايمنع المحتسب من الإنكار (1)
افقه مرحلتك لتعرف في أي عصر أنت
……… لكل عصر خصائصه ومتطلباته ، وعدم إدراك المحتسب لهذه الحقيقة يوقعه في إشكالات كبيرة ، فبعض المحتسبين يعيش في العصر ، وكأنه يعيش في القرن الخامس الهجري ، لايعرف عصره ولايدري مايقع حوله ، ويريد أن يلزم الناس بالدرّة كما كان يفعل الفاروق رضي الله عنه أحياناً في الأسواق ، ويتناسى مكانة الفاروق ومكانة عصره ، ولذلك يجب أن يتنبه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمثل هذه التغيرات فجميع الدول تقريباً مرّت بمرحلة قوة ثم تبعتها مراحل ضعف ، فليس من الحكمة استخدام وسائل الإنكار في مرحلة القوة عند الإنكار في مرحلة الضعف للتباين والتفاوت بين المرحلتين ، فالمسلم قيّم على عصره ، وشاهد عليه ، فهو يعيش هموم المجتمع ، ويعالج مشاكله بواقعية لا بمثالية .
النتيجة ليست هدفاً بل الجهد
__________
(1) أصول الدعوة ص 191(1/5)
إن الله سبحانه وتعالى لم يطالبنا بالنتيجة عند دعوة الناس ، بل أمرنا بالبلاغ وبذل السبب والله سبحانه من وراء ذلك ، وسواء تغير المنكر أم لم يتغير كفاك أنه إبراء للذمة أمام الله ، قال سبحانه وتعالى ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون ) ولايعني هذا أن يتعذر المحتسب بأقل جهد لترك الإحتساب ، بل الواجب بذل الجهد والطاقة بكل مايستطيعه فهذا هو المطلوب وأما النتائج فأمرها الى الله سبحانه وتعالى .
أخطاء المعتقد أشد وأعظم
العناية بتصحيح الأخطاء المتعلقة بالمعتقد ينبغي أن تكون أعظم من تلك المتعلقة بالآداب ، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم غاية الاهتمام بتتبع وتصحيح الأخطاء المتعلقة بالشرك بجميع أنواعه لأنه أخطر فعن الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَة قال : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ (1)
__________
(1) رواه البخاري فتح 1061(1/6)
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ (1)، فيُلاحظ سرعة تفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الأخطاء الخطيرة وشدة إنكاره عليها لإرتباطها بالعقيدة ، فإذا تقرر هذا فتأمل كيف ضرب الشرك بأطنابه في العالم الإسلامي ، وكيف تفنن دعاته في أساليبهم لصرف الناس عن التوحيد الخالص ، فالشرك خطير وينبغي إدراجه وجميع ما يُوصل اليه في أول مهام الإنكار .
مكانة الشخص لها أهميتها عند الإنكار
__________
(1) رواه الترمذي رقم 2180 وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(1/7)
بعض الناس يُتقبّل منهم مالا يُتقبل من غيرهم لأن لهم مكانة ليست لغيرهم أو لأن لهم سلطة على المخطئ ليست لغيرهم ومن أمثلة هذا الأب مع ابنه والمدرّس مع تلميذه ، فليس الكبير كالصغير ، ولا القريب كالغريب ، فمكانة المُنكِر وهيبته في نفس المخطئ مهمة في تقدير درجة الإنكار ، ومن هذا نستفيد أن على الآمر الناهي أن لا يُسيء التقدير فيضع نفسه في موضع أعلى مما هو عليه ويتصرّف بصفاتِ شخصية لا يملكها لأن ذلك يؤدي إلى النفور والصدّ حتى وإن كانت بيده سلطة فإنه لايملك احترام الناس بسلطته ولكن يملك احترامهم بأدبه وخُلقه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد مما أعطاه الله من المكانة والمهابة بين الخلق في إنكاره وتعليمه وربما أتى بشيء لو فعله غيره ما وقع الموقع المناسب فعن يَعِيشَ بْنِ طِهفَةَ الْغِفَارِيِّ عن أبيه قَالَ ضفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تضيفه من المساكين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يتعاهد ضيفه فرآني منبطحا على بطني فركضني برجله وقال لا تضطجع هذه الضجعة فإنها ضجعة يبغضها الله عز وجل. وفي رواية : فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَأَيْقَظَهُ فَقَالَ هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ(1) وإذا كان إنكاره صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة مناسبا لحاله ومكانته فإنه ليس بمناسب لآحاد الناس فليُنتبه لذلك .
العلم سبيل النجاح في عمل الحسبة
__________
(1) رواه أحمد : الفتح الرباني 14/244-245. ورواه الترمذي رقم 2798(1/8)
ذكر الماوردي رحمه الله بأنه ماتم التأليف في كتب الحسبة إلا لما أُبعد العلماء عن مباشرتها فقال : ولمّا كانت الحسبة من قواعد الأمور الدينية ، فقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها ، ولكن لما أعرض السلطان عنها وندب لها من هان وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا لان أمرها ، وهان على الناس خطرها (1) ، ولذا فإن أغلب الأخطاء التي تحدث في هذا المجال إنما تحدث لقيام غير المؤهلين بهذه الشعيرة العظيمة فكان مايفسدون أكثر مما يُصلحون ، فيجب على من ندب نفسه للقيام بهذه الشعيرة أن يتفقه قواعد وضوابط هذه الشعيرة ويتعلمها كما يتعلم أحكام الدين المتعلقة بمسائل العبادات الأخرى ، وهذا الأمر ينبغي أن لايفوت على من امتهن وظيفة الحسبة فتعامله مع الناس لاينضبط بما لديه من سلطة فقط ، ولكن يجب مراعاته لأحوال الناس وزمانهم ، فعن الأسود بن يزيد أن ابن الزبير رضي الله عنه قال له : حدثني بما كانت تفضي إليك أم المؤمنين يعني عائشة رضي الله عنها ؟ فقال: "حدثتني أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال لها: لولا أن قومك حديثوا عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين "(2) فتأمل كيف راعى النبي صلى الله عليه وسلم حال الناس وحداثة عهدهم بالدين وهو صاحب السلطة الأولى فامتنع عن أمر مشروع خوفاً من المفسدة المترتبة عليه فما أحرانا في هذا الزمان الذي رقّ فيه دين الناس أن نراعي هذا الأمر عند احتسابنا .
قدر الله عجيب في نشر الفضيلة
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 258-259 للماوردي
(2) صحيح ) _ ابن ماجه 875(1/9)
يتألم الكثير من المحتسبين عندما يتعرض للتضييق في المنع من الكلام أو النشر ، أو الإنكار باليد في أماكن معينة حتى قد يصيب بعضهم الإحباط وربما جلس في بيته ينتظر هلاك عام يحل بالأمة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من قال هلك الناس فهو أهلكهم )(1) ، ويغيب عن كثير من هؤلاء الِحكم التي جعلها الله سبحانه وتعالى من وراء هذه الإبتلااءات ، وهذا واضح مثلاً في قصة الغلام المؤمن مع الملك الظالم ، فقد كان قتل الغلام بسهمه سبباً في دخول جميع الناس في الإسلام عندما سمعوا الملك يقول : بسم الله رب هذا الغلام قبل أن يرميه بالسهم ، ولم يستطع قتله من قبل ، وصدق الشاعر إذ يقول :
وإذا أراد الله نشر فضيلة () طويت أتاح لها لسان حسود
وتأمل كيف عارض كبار الصحابة بنود صلح الحديبية وتأثر الفاروق رضي الله عنه وقال كيف نرضى بالدنية في ديننا ، لإن ظاهر بنود الصلح أنه لصالح المشركين ، ولكن مآله كان فتح مكة على أيدي المسلمين ، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يأمن قريش وعداوتهم ليوفر جواً آمناً لإنتشار الدعوة فكان له ماأراد وانتشر نور الله في أرجاء الجزيرة حتى غدر أنصار قريش فنقضوا الصلح فكان الفتح بعد أن دان أكثر العرب بالإسلام ، ولم تستطع قريش مقاومة هذا المد الإسلامي العظيم الذي لم تتوقعه ، ولذا فإن مشيئة الله في نشر هذه الدعوة لايعلمها إلا هو وماعلينا إلا العمل والبذل لهذا الدين وفق ماأراد الله من غير تكلف ، وصدق علي رضي الله عنه حين قال ( القدر سر الله في خلقه فلا نكشفه )(2) .
مالك التغيير هو الله سبحانه وتعالى
__________
(1) أخرجه مسلم ، صحيح الجامع 712
(2) العقيدة الطحاوية – للإمام الطحاوي(1/10)
تغيير الواقع أمر ممكن إذا فهمنا الآيات ، واستقرأنا التاريخ واعتقدنا بأن مالك التغيير هو الله سبحانه وتعالى ، فلا نتأثر بكثرة وسائل التأثير التي يملكها الأعداء ، اضافة الى اختلاف المسلمين وخاصة الدعاة ، فكل هذه الحجج تبدو منطقية إذا استسلمنا لها ولم ننظر لآيات القرآن الكريم وسنن الله في الأمم وقدرته سبحانه على تغيير الواقع ، فتداول الأيام من سنن الله ليتمايز الناس ، وليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ولكن الدائرة ستكون للمؤمنين في آخر الأمر ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ) (1)
الحسبة واجب الجميع
الحسبة من فروض الإسلام فلا يتوقف القيام بها على التعيين من قبل ولي الأمر ، نعم قد يملك المعين من الولاية أكثر مما يملكه غير المعين ، ونعلم أن ولي الأمر قد وضع هذا التنظيم منعاً للفوضى ولكنه لايلغي أبداً دور الآخرين في القيام بواجب الحسبة على الوجه المشروع لأن أمر الشارع يشمل الجميع والمحتسب يستمد ولايته من الشرع وإن جاءت عن طريق ولي الأمر .(2)
__________
(1) سورة يوسف آية 21
(2) أصول الدعوة ص 178 بتصرف .(1/11)
يقول ابن القيم رحمه الله:'وأيُّ دين، وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكتُ اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم؛ فلا مبالاة بما جرى على الدين(1) ، ورحم الله الإمام سفيان الثوري ، فقد جاء في ترجتمه أنه ( كان إذا رأى المنكر ولم يستطع تغييره بال دماً ) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الغضب الشديد من الحرقة التي تضطرم في قلبه عندما تنتهك حرمة من حرمات الله ، ويجب أن يُعرّف الناس بأن ألوان الإنكار لاتعتمد على العلم واللسان فقط بل تتعداها الى أساليب يصعب حصرها ، منها البرقية ، والمقال ، والفاكس ، والهاتف ، وإهداء الشريط ، وغيرها من الأساليب .
العذاب العام يتعلق بالمنكر الظاهر وليس المستتر
__________
(1) إعلام الموقعين 2157).(1/12)
جاء في صحيح الامام البخاري رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا: لو انا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"(1) ففي هذا الحديث دليل كما يقول الامام القرطبي على تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وانه إذا لم تغير المنكرات وترجع الامور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد (2)، فالمجتمع الذي يشيع فيه المنكر، وتنتهك فيه حرمات الله، وينتشر فيه الفساد، ويسكت الأفراد عن الانكار والتغيير، فإنَّ الله تعالى يعمهم بمحن غلاظ قاسية تعم الجميع وتصيب الصالح والطالح، وهذه في الحقيقة سنة مخيفة يدفع كل فرد لا سيما من كان عنده علم أو فقه أو سلطان إلى المسارعة والمبادرة فوراً لتغيير المنكر دفعاً للعذاب والعقاب عن نفسه وعن مجتمعه (3) قال صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فلا ينكرونه ، فإن فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة »(4)
إذا كنت مخاطراً بشيء فلا تخاطر بدينك
__________
(1) البخاري ح 2313
(2) تفسير القرطبي ج 7 ص 392
(3) أصول الدعوة ص 136
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – لإبن أبي الدنيا(1/13)
قال ابن مسعود رضي الله عنه مايزال الناس بخير ماجاءهم العلم من كبرائهم ، فاحذر أخذ العلم من غير أهله ، أو من أنصاف المتعلمين الذين يفسدون أكثر مما يصلحون واعلم بأن الحق هو ما وافق الكتاب والسنة وليس ما وافق الأهواء والأكثرية فإن القليل محمود إذا وافق الحق قال سبحانه وتعالى ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )(1) ، وإذا تقرر أن الحسبة عبادة فلا ينبغي أن تخرج عن شرطي صحتها وهما الإخلاص والمتابعة ، ولاينبغي أيضاً إطلاق الأحكام المتعلقة بمسائلها دون الرجوع الى أهل العلم الثقات ، فالأصل في العبادات التوقف إلا ما ثبت به الدليل من الكتاب والسنة ، وفي هذا الباب مزالق خطيرة يدفعُ إليها الإعجاب بالنفس ، واستعجال النتائج ، وتوافق الأذواق غير السوية فانتبه ، وقد ذكر الإمام ابن الجوزي عن تلاعب الشيطان بالجاهلين ممن تصدر مقام الإحتساب فقال " فأما إذا كان الآمر بالمعروف جاهلا فإن الشيطان يتلاعب به وإنما كان إفساده في أمره أكثر من إصلاحه لأنه ربما نهى عن شيء جائز بالإجماع وربما أنكر ما تأول فيه صاحبه وتبع فيه بعض المذاهب وربما كسر الباب وتسور الحيطان وضرب أهل المنكر وقذفهم فإن أجابوه بكلمة تصعب عليه صار غضبه لنفسه : وربما كشف ما قد أمر الشرع بستره وقد سئل أحمد بن حنبل عن القوم يكون معهم المنكر مغطى مثل طنبور ومسكر قال : إذا كان مغطى فلا تكسره
وسئل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال : ولا عليك ما غاب عنك فلا تفتش .(2)
هل يسقط الإنكار إذا أُبلغ الأمير ولم يغيره ؟
__________
(1) الأنعام 116
(2) تلبيس إبليس(1/14)
قال العلامة محمد بن ناصر بن معمر رحمه الله : اعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة كماقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )(1) وحينئذ إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره لم يسقط انكاره بل ينكره بحسب الاستطاعة لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الانكار وانكر بقلبه ، وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل انكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد(2) ، ومشكلة البعض أن الإنكار عنده يتوقف على مسألة الإنكار باليد فإن أُتيح له وإلا ترك الإنكار بالكلية ، ويغفل عن الإنتقال الى المرحلة الثانية وهي الإنكار بالقول وهي متاحة بوسائل كثيرة من النصح المباشر ، وإهداء الكتب النافعة وإرسال الرسائل الطيبة ، والزيارات المتكررة وغيرها الكثير مما يتحقق بها هدف الإنكار وتبرأ به الذمة .
الدعوة بقدر العلم
العلم ليس شيئاً واحداً لايتجزأ ولايتبعض وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض ، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية ، ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الأولى وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة الى ماعلم دون ماجهل ولاخلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لايدعو إليه ، لأن العلم بصحة مايدعو اليه الداعي شرط لصحة الدعوة ، وعلى هذا فكل مسلم يدعو الى الله بالقدر الذي يعلمه(3) ، ولايتكلف التحدث فيما يجهله لإنه محسوب عليه .
تعرّف على الجديد في وسائل المُنكَر
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ( 2 / 41
(3) أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان ص 312(1/15)
إن الذي يتأمل هذا الأمر في الوقت الحالي يرى أن فقدانه هو أحد أسباب انتشار الكثير من المنكرات اليوم خاصة تلك التي تتعلق بالأمور الإلكترونية مثل الرسيفيرات التي تفتح القنوات الجنسية ، وكذلك شبكة الإنترنت وانتشار مقاهييه في أرجاء البلاد ، والجوالات ذات الخصائص المتقدمة مثال نظام ( البلوتوث ) الذي يمكن صاحبه من إرسال صور ورسائل الى جوالات أخرى لايعرفها ، فهذه التقنيات التي صار يعرفها الصغير قبل الكبير نرى أن من نُصّب نفسه للحسبة هو أولى بمعرفتها وبكيفية التعامل معها ، ولعل هذا يستدعي رصد هذه الصناعات الحديثة وإقامة الدورات التعريفية بها وكيفية التعامل معها لئلا تستغل من أهل السوء كما هو الحاصل في نشر الفساد ، ويمكن تخصيص فرقة متخصصة لهذا الغرض إذا كان ذلك يتعذر على الجميع .
الإحتساب على الأمراء
يكون الإحتساب على الأمراء بتعريف الحكم الشرعي والوعظ لابالقوة والقهر ، وقد زخر تاريخنا الإسلامي بأخبار المحتسبين مع الخلفاء والأمراء دون أن يلحقهم أذى بل كانوا يقابلون بالقبول والتقدير وهكذا يكون شأن الحكام الصالحين (1) والسلطان بحاجة الى التلطف معه لما يحس من نفسه من سلطة، ولأنه محتاج الى الهيبة وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الاحتساب، ولكن الرفق معه في الاحتساب هو المطلوب وبهذا أشار الفقهاء. ويقاس على السلطان نوابه وولاة الأمور ، وقد يدل على ما قلناه او يؤيده أن الله تعالى أمر نبيه موسى عليه السلام وأخاه هارون وقد أرسلهما الى فرعون أن يقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.(2)
ظهور المنكر
__________
(1) أصول الدعوة ص 187
(2) أصول الدعوة ص 198 بتصرف(1/16)
يقصد بظهور المنكر انكشافه للمحتسب والعلم به بدون تجسس سواء كان ذلك عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو اللمس لأن هذه الحواس طرق سليمه للعلم بالشيء وبها يكون الشيء ظاهراً(1) . أما إن كان المنكر خفيَّاً ، يقترف سراً ، فلا يستقيم التفتيش عنه و ذكر الماوردي في ذلك ضابطان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة ، يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه ، أن رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذا الحال ، أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك .
الضرب الثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة ، من دارٍ ، أنكرها خارج الدار ، ولم يهجم عليها بالدخول ، لأن المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن .
منكرات لايجب سترها
هناك منكرات أعظم أثراً في الأمة من غيرها كمنكر إشاعة الفتنة في الأمة لتقويض هيبة السلطان المسلم والخروج عليه ، وكمنكر استراق أسرار الدولة وأخبارها لنقلها للعدو ، وكمنكر التآمر على إفساد اقتصاد الأمة ، وثقافتها وعقيدتها ، وصحة أبنائها والتآمر على إشاعة الفاحشة في الأمة وتغييب عقول أبنائها فمثل هذه المنكرات يجب اتخاذ السبيل إلى تغييرها ومنعها من قبل وقوعها ، وهو مما يبيت له بليلٍ ، ولا يكون مجاهرة ، وعموم النهي عن التجسس مخصص بما كان من المنكرات التي يكون أثرها فادحاً ومقوضاً لهيبة الأمة وعزتها ، وسلامتها ، بحيث يكون ذلك المنكر أعظم جرماً من التجسس(2) .
أحوال المنكر القائم في الحال
إذا وقع المنكر وانتهى فلا احتساب على فاعله وإنما لولي الأمر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك من خلال إقامة الدعوة عليه ويجوز الإحتساب على فاعله بوعظه بعدم العودة عليه .
__________
(1) أصول الدعوة ص190
(2) فقه تغيير المنكر "الدكتور محمد توفيق محمد سعد(1/17)
إذا ظهرت بوادره ولاحت علاماته وقامت القرائن على وشك وقوعه ، جاز الإحتساب فيه بالتعريف إذ قد يكون جاهلاً ، ثم بالوعظ والإرشاد بلا تقريع إذ قد يحمل التقريع المحتسب عليه على ارتكاب المعصية على وجه العناد .
إذا ظهرت بوادره ولم ينفع فيه الوعظ وجب على المحتسب الإنكار بالوجه الذي يمنع وقوعه مادام قادراً على ذلك .(1)
المنكر لايُدفع بمنكر
يجب أن يكون الإحتساب بالطرق المشروعة ، فلا يُدفع منكر بمنكر ، والغاية لاتبرر الوسيلة ، فعلى المحتسب أن يتحرى في احتسابه ما شرعه الله له من أساليب ووسائل لإنكار المنكر ، قال شيخ الإسلام : لايعتدي على أهل المعاصي بزيادة عن المشروع في بغضهم وذمهم ، أو نهيهم أو هجرهم ، أو عقوبتهم ، بل يُقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضلّ إذا اهتديت (2)
من عُرف بالفجور هل يمكن من البيع للنساء
__________
(1) أصول الدعوة ص 190 بتصرف
(2) الحسبة النظرية والعملية عند شيخ الإسلام – د. ناجي حضيري ص 138(1/18)
قال أبو يعلى الحنبلي : وإذا كان من أهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتسب سيرته وأمانته فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن وأدّبه على التعرض لهن .(1) إذا عُلم هذا فتأمل حال أسواقنا اليوم وكيف انتشرت فيه ظاهرة بيع الشباب للنساء مع الأسف ومانتج عن ذلك من شرور كثيرة ، وحينما نقول ظاهرة فإننا نخرجها عن كونها حالات فردية يسهل التعامل معها الى مشكلة عامة تحتاج الى تكاتف الجهود مع أعيان المجتمع لحلها ، ومثل هذه الظواهر تحتاج الى التدرج في إنكارها في ظل ضعف سلطة الإنكار عليها ومن المهم على أهل الغيرة دراستها دراسة مستفيضة ووضع الحلول والضوابط الكفيلة بحلها دون الإقدام على التصادم المتوقع مع بعض أجزائها فتزيدها قوة الى قوتها ، بل الواجب التريث واتباع سياسية النفس الطويل ، ووضع الخطط المرحلية لتحسين وضعها والتخفيف من هذا المنكر ولو على خطوات .
هل المحتسب ممنوع من استخدام الشدة ؟
الرفق يلازم الاحتساب بالتعريف بالحكم او بالوعظ والارشاد او التخويف من الله تعالى. فإذا لم ينفع الرفق تحول المحتسب الى الشدة إذا كان قادراً على ذلك وترجحت فيه المصلحة ، خاصة إذا كان المنكر جسيماً لا يمكن معه الانتظار فإن المحتسب يأخذ بالشدة الكافية لدفعه ولا يعتبر ذلك خروجاً عن قاعدة الرفق، لأن من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتسب عليه بإبعاده عن المنكر وتخليصه من المعصية وما يترتب عليه من عقاب (2)
إذا عُدمت الفائدة هل يسقط وجوب الإحتساب ؟
__________
(1) أصول الدعوة ص 195
(2) أصول الدعوة ص 199 بتصرف(1/19)
لا يجب الاحتساب وإنما يستحب عند عدم رجاء الانتفاع فإذا كان مرجواً وجب الاحتساب ودليل هذا القول ما فهموه من قوله تعالى: ?فذكر إن نفعت الذكرى? وهناك قول آخر بالوجوب والراجح من القولين الوجوب كلما كان الانتفاع مرجواً او ممهداً لتحقيق الانتفاع او كان فيه إظهار شعائر الاسلام، او يحقق مصلحة مشروعة غير انتفاع المحتسب عليه، فإذا عري عن ذلك كله كان مستحباً لا واجباً (1)
الإحتساب المحرّم
يحرم الاحتساب إذا لحق المحتسب من جرائه اذى جسيماً بغيره من اصحابه أو اقربائه او رفقائه أو عموم المسلمين حتى ولو قدرنا زوال المنكر، لأنه يفضي إلى منكر آخر هو إلحاق الأذى بالآخرين وهذا لا يجوز، لأن للمسلم له أن يتسامح في حق نفسه ويتحمل الأذى ولكن ليس من حقه أن يتسامح في إيذاء غيره عن طريق احتسابه. وكذلك يحرم الاحتساب إذا أدى إلى وقوع منكر أكبر من المحتسب عليه مع لحوق الأذى بالآخرين. وكذلك يحرم الاحتساب إذا لم يكن من ورائه إلا إلحاق الأذى الجسيم بنفسه كقتله أو هتك عرضه دون أن يكون لاحتسابه اي مصلحة او اي أثر في إزالة المنكر ورفعه.(2)
من جمع بين المعروف والمنكر
__________
(1) أصول الدعوة ص 200
(2) أصول الدعوة ص 201(1/20)
قال الإمام ابن تيمية : إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر ، بحيث لايفرقون بينهما ، فإما أن يفعلوها جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً ، فلا يجوز للمحتسب أن يأمرهم بمعروف ولاينهاهم عن منكر ، بل عليه أن ينظر ، فإن كان المعروف أكبر أمر به وإن استلزم مادون من المنكر ، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، لأن ذلك يكون حينئذ من باب الصد عن سبيل الله ، وإن كان المنكر أغلب ، نهى عنه ، وإن استلزم فوات مادونه من المعروف ، لأنه لو أمر بذلك المعروف المستلزم لمنكر أكبر منه كان آمراً بمنكر ، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يأمر بهما ولم ينه عنهما (1) وهذا الملحظ الدقيق لا ينبغي لآحاد الناس أن يجتهد فيه بل مجال الرأي فيه لأهل العلم المختصين .
ولا ينبئك مثل خبير
ينبغي أن يطّلع المحتسب على السيرة النبوية وسيرة المصلحين ليستفيد من فهمهم وتجاربهم في الإحتساب فيكون أكثر خبرة في أداء العمل ، وينبغي أن يكون على معرفة بأحوال المجتمع وخصائص أفراده من حيث أفكارهم وعاداتهم ، وأن يكون مطّلعاً على الاَحداث والمواقف ليتخذ الاُسلوب الانجح في احتسابه، وأن يكون قادراً على تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعاً للظروف من حيث اللين والشدّة ، أو الحيطة والحذر ، أو الاسراع والتأني وأن يكون مطّلعاً على الفوارق الطبيعية بين بلدٍ وآخر ، أو قوم وآخرين ، وعدم المعرفة بالاوضاع الاجتماعية والفردية أو بعدم استخدام الاُسلوب الاَنجح ، قد تؤدي إلى نتائج عكسية ومنها النفور من الاِسلام أو من الداعين له وتأمل كيف بيّن صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه عندما أرسله لليمن بأنه يأتي قوم أهل كتاب وأفهمه بكيفية دعوتهم والأولويات التي يبدأها معهم في دعوته .
كن شجاعاً أيها المحتسب
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (15/176، 28/136)(1/21)
إنّ مواجهة الناس ومواجهة الاحداث والمواقف لتغييرها بالاِسلام بحاجة إلى الشجاعة والاقدام لاَنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي له سيصطدم بشهوات البعض ، ويصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ويصطدم بالمنحرفين الذين يبغضون الصلاح ، ويصطدم بمخططات ومؤامرات أعداء الاِسلام أو التيارات الفكرية المنحرفة التي لا يروق لها انتشار مبادئ الاِسلام في المجتمع ، ويصطدم بالنفوس الشريرة التي تقابله بالاذى والتكذيب والاستهزاء ، ويصطدم بالمثبطين له عن الانطلاق في التكليف أو الاستمرار به ، ولذا فهو بحاجة إلى أن يتسلح بالشجاعة وان تكون احدى خصائصه وصفاته ؛ لينطلق دون خوف أو وجل أو تردد أو تراجع ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « لا يحقر أحدكم نفسه » ، قالوا : يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « يرى أمراً لله عليه فيه مقال ، ثم لايقول فيه ، فيقول الله عزَّ وجلَّ له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإيّاي كنتَ أحق أن تخشى » (1)والشجاعة لها دور كبير في التغيير ؛ لاَنّ الناس يتأثرون لا إرادياً بالشجاع، ويكون له تأثير لا شعوري على سلوكهم وممارساتهم ،والشجاعة خلق حميد بين الجبن والتهور ، وإنما تتأتى الشجاعة بتكرار وتمرّس مواجهة الناس فعندها يتلاشى الخوف وتكتسب النفس الطمأنينة ويفتح الله تعالى عليها إن كانت صادقة بكلمات وأفعال لاتتوقعها .
لايزال لسانك رطباً من ذكر الله
__________
(1) سنن ابن ماجة 2 : 1328 .(1/22)
الأحاديث في فضل الذكر كثيرة ، والذكر أثبت للقلوب في المواقف الصعبة قال تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا فأثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تلفحون )(1) وقد أخبرني أحد طلبة العلم بأن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان لايفتر لسانه من ذكر الله ، وكان يُلاحظ على الشيخ عند استفتائه وفي بعض المواقف بأن لسانه لايفتر من قول ( استغفر الله ) فما أن ينتهي السائل من سؤاله إلا ويُجيب الشيخ بإجابات محكمة ، فكم هي المواقف التي تمر عليك أيها المحتسب في مجال عملك فتذكر هذه العبادة السهلة فبها يُعينك الله على السداد في القول والفعل .
إحذر المغريات فإنها السوس
الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم ، والزهد في الحياة الدنيا ، يساعد على زرع ثقة الناس بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، فيشعرون بانه لا يرجو دنياً ولا جاهاً في قيامه بالإحتساب ، وإنّما يعمل لذات المسؤولية تقرباً إلى الله تعالى
فبالزهد يكتسب الإنسان محبة الناس ، وبمحبة الناس له يستطيع التأثير على قلوبهم ،
والطمع فيما لدى الناس يمنع من ابداء الآراء ، كما يمنع من نصيحة بعض المخطئين ممن يُطمعُ بأموالهم خوفاً من عدم الحصول عليها ، ومن يستسلم للمغريات قد يؤدي به في النهاية إلى تخلّيه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّما ازدادت أمامه المغريات .
طلاقة الوجه وإلانة الكلام
البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام تساعد على جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم وتوجيهها ؛ لاَنّ الناس غالباً ما يتأثرون بالاشخاص قبل التأثر بالافكار والقيم ، ويروى أن وكيعاً شيخ الإمام الشافعي أُتهم بالتشيع في آخر عمره وكان سبب ذلك أنه رأى أحد علماء الشيعة في زمنه فأعجبه سمته فظنّوا الناس أنه تأثر به
__________
(1) الأنفال 45(1/23)
وقبل ذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم لايُرى إلا متبسماً وهو القائل ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه )(1) فعوّد وجهك الإبتسامة والطلاقة وعوّد لسانك لين الكلام وبذل السلام وقد قيل من عذب لسانه كثر إخوانه.
عش مع الناس
من أهم الصفات التي تجعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قادراً على الاصلاح والتغيير هي عدم الانعزال عن الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لايخالط الناس ولايصبر على أذاهم ) (2) لاَنّ التكليف وأداء الواجب لا يقتصر على إلقاء الخطب في مجالس محدودة ، بل يشاركهم في أعمالهم ، ويعيش معهم كواحد منهم يفرح لافراحهم ويحزن لاَحزانهم ، ويكون شريكاً لهم في آمالهم وآلامهم ، وهذه الصفة تجعله قادراً على التأثير على أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية ، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويجيب الدعوة .وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي كلاً من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه . وكان يضحك ممّا يضحكون ويتعجب مما يتعجبون.
فعن زيد بن ثابت قال : كنّا إذا جلسنا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا ، فينبغي أن نسمع من الناس مثل ما نحب أن يسمعوا منا ، نستمع إلى اقتراحاتهم وملاحظاتهم ونبيّن لهم الحق بأيسر الطرق وأسهلها .
اصبِر عَلى مَا أصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الاُمُورِ
__________
(1) ح 634 السلسلة الضعيفة للألباني
(2) ح 939 السلسلة الصحيحة للألباني(1/24)
لا بدّ من صبرٍ على الشدائد المحيطة بالمصلح والمغيّر ، والصبر هو أهم وسائل الاستمرار في الدعوة فقد صبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة عشر عاماً على التكذيب والاستهزاء والاَذى ، وصبر على المغريات والمساومات ، وصبر على أذى أهل الكتاب وأذى المنافقين في العهد المدني ، والصبر هو حبس النفس عن الجزع والشكوى لغير الله (1) ، والمقصود أن لايجزع المحتسب عند رؤية المنكرات بل يصبر ويصابر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية " وكثير من الناس إذا رأى المنكر ، أو تغيّر كثير من أحوال الإسلام ، جزع وكلّ وناح ، كما ينوح أهل المصائب ، وهو منهي عن هذا ، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر ، إن وعد الله حق ، وليستغفر لذنبه ، وليسبّح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار "(2)، والمقصود من كلام الإمام ابن تيمية : أن الجزع والكلل والنياحة بسبب رؤية المنكر ، منكرٌ يجب الإحتساب على صاحبه ، أما الغضب لله وتمعّر الوجه وتغييره من رؤية المنكر في الحدود الشرعية المعقولة ، فهذا يكون من آثار الإنكار بالقلب الذي هو فرض عين لا يسقط عن أحد بأي حال (3)
إياك وخصومة الجاهلين
قال تعالى : ( خُذِ العَفوَ وأمُر بِالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهِلينَ )(4) .
__________
(1) انظر القاموس المحيط
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 18/295)
(3) الحسبة النظرية والعملية عند شيخ الإسلام – د. ناجي حضيري ص 111
(4) الأعراف 199(1/25)
والاعراض هو الترك والاهمال ، وعدم الدخول في جدال يضيع معه الوقت والجهد دون ان يحقق شيئاً في طريق الواجب ، وقد قيل إن (المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقّه ) وللخصومة آثار سلبية فهي تشغل القلب عن ذكر الله عزَّ وجلَّ ، وتورث النفاق ، وتكسب الضغائن ، وتستجيز الكذب كما ذكر بعض أهل العلم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم وإني لزعيم ببيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّاً ) .
وطّن نفسك على مواجهة المصاعب
أنت لا تعيش في الدنيا وحدك، بل هناك أشخاص كثيرون حولك تشكل معهم مجتمعك الذي تعيش فيه، ولا شك أن احتكاكك بالناس سيتولد منه بعض التصادمات، في الآراء... في الأخلاق... في الطباع والعادات... أو نتيجة سوء فهم منك أو من الطرف الآخر... أو ربما توضع رغما عنك في موقف تكرهه ! وهذه كلها أمور عادية... أكرر عادية ! تفرضها علينا طبيعة التجمع البشري فأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق" فلا بد أن توطن نفسك على مواجهة مثل هذه المواقف وتحمّلها نعم تحمّلها بحسب ما يمليه عليك دينك ، ثم توج ذلك كله بالعفو قال بعض السلف:(لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس).
الإنكار على الكافر
الكافر المقيم في ديار الإسلام ، سواء أكان ذمياً أم مستأمناً ، يمنع من المعاصي كافة لأنه مطالب في الأمور الظاهرة بصيانة النظام الإسلامي العام ، وإنما يترك ومايدين به في بيته(1) وهذا الترك فيما إذا كان منكره مقصوراً على نفسه أما تعدى بمنكره وصادر داعياً اليه في بلاد الإسلام كمن يدعو الى التنصير ويوزع النشرات لأجل ذلك فهذا يحاسب ويُعرض عنه لولي الأمر لمجازاته .
أمور تدفعك الى احتساب الأجر في أعمالك
__________
(1) الحسبة النظرية والعملية عند شيخ الإسلام – د. ناجي حضيري ص 115(1/26)
سرعة مرور الوقت وهذا يعاني منه الجميع وقد قيل ( إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ) ، وكذلك الموت قال تعالى ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) خاصة مع كثرة موت الفجأة ، وكذلك تغير الأحوال من صحة إلى مرض... ومن غنى إلى فقر... ومن أمن إلى خوف... ومن فراغ إلى شغل... ومن شباب إلى شيخوخة... فما أتيح لك من وقت العافية فاستغله بالخير فإنه لايرجع أبداً ، فإن فرصة العيش في الحياة الدنيا واحدة لا تتكرر لتعويض ما فات...قال تعالى {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2)ومع أن الحياة فرصة واحدة إلا أنها تنقضي بسرعة أيضا... !، فعندما تجلس عند أحد المسنين وتقول له : احكي لي قصة حياتك خلال الستين سنة الماضية فسيحكيها لك في ساعة أو ساعتين ! فاعتبروا يا أُولي الألباب .
إن الله ستير يحب الستر
__________
(1) الجمعة:8)
(2) الزمر:58).(1/27)
قد تطلع على أسرار بعض البيوت إما مباشرة أو لوقوع بعضهم في أخطاء فكنت ممن عالجت هذا الخطأ، أو لحاجتهم إلى استشارتك في خصوصياتهم، فاحذر أن يكون هتك تلك الستور حديثك في المكالمات الهاتفية والمجالس الخاصة حيث حلوى بعض الناس أعراض المسلمين مع الشاي والقهوة!!.. ويغنيك عن ذلك إن كنت لابد قائله أن تقول: "هناك شخص فعل كذا... أو حدث له كذا " ونحوه...بشرط ألا يتمكن المستمع إلى حديثك من استنتاج الشخص الذي تقصده ، لأنه سبحانه يحب الستر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ـ عز وجل حليم حيي ستير يحب الحياء والستر"(1)، فإذا أنت فعلت محاب الله أحبك الله ، واحتسب عند سترك على مسلم أو مسلمة أنك تحافظ على المجتمع المسلم من انتشار الرذيلة لأن انتشار أخبارها طريق إليها حيث تألفها النفوس فلا تنكرها ! ، عن علام بن مسقين قال: سأل رجل الحسين فقال: يا أبا سعيد: رجل علم من رجل شيئا، أيفشي عليه؟، قال يا سبحان الله! لا)(2).
قال عمر بن عبدالعزيزرحمه الله:(من علم أن الكلام من عمله أمسك عن الكلام إلا فيما يعنيه)(3).
الغاية لاتبرر الوسيلة
__________
(1) - النسائي (1/ 200) وقال الألباني (2/ 758) ح 3387: صحيح.
(2) - مكارم الأخلاق (504).
(3) - الزهد للإمام أحمد (296).(1/28)
إن الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات، فلا يجوز الوصول الى الغاية الشريفة بالوسيلة الخسيسة. ولهذا لا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية للمبدأ الخبيث "الغاية تبرر الوسيلة" وهو مبدأ انحدر إلينا من ديار الكفر. يدل على ذلك، أي على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الأخلاق فيها قوله تعالى: ?وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعملون بصير? فهذه الآية الكريمة توجب على المسلمين نصرة اخوانهم المظلومين قياماً بحق الاخوة في الدين، ولكن اذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفار الظالمين لم تجز النصرة لان وسيلتها الخيانة ونقض العهد، والإسلام يمقت الخيانة ويكره الخائنين (1) .
سر نجاح الخطط
__________
(1) أصول الدعوة ص 91(1/29)
أخبرني أحد الفضلاء ممن عُنوا بمجال الدعوة أنه كُلف ومجموعة من طلبة العلم بوضع خطة مناسبة لأحدى مندوبيات الدعوة المنشأة حديثاً لتمارس عملها الدعوي في المجتمع فاتفقوا على بذل الجهد لوضع خطة قوية ، واختاروا أن يذهبوا لأفضل دكتور متخصص في الإدارة لإستشارته في ذلك ، وتمكنوا من الوصول الى أحد أفضل الإداريين بالفعل وعرضوا عليه مجموعة من الخطط فقلّب النظر فيها وقال كلها مناسبة ولكنها تحتاج الى عنصر واحد فقط لو توفر في أحدها لأصبحت خطتكم من أفضل الخطط فقالوا وماهو ، قال : الحب ، فلو ساد الحب بينكم والمودة لأنصهرت جميع الفروق ، وتلاقيتم على نهر الأخوة ، ولبذل كل واحد فيكم جهده لإنجاح الخطة وسد كل ثغرة فيها ، قالوا : وما السبيل اليها ، قال : نمّوا علاقاتكم قبل اعداد خطتكم وستجدون أثر ذلك على نجاح خطتكم ، فعمدوا الى وضع برنامج لأعضاء المندوبية أنفسهم قبل وضع الخطط الخارجية ، وكان برنامجهم يحتوي على لقاءات للرجال ، وأخرى للنساء وثالثة خصصت للأطفال فكانوا بحق من أنجح المندوبيات التي رأيتها ألفة ومحبة وتعاوناً على الخير فهل نستفيد من مثل هذه التجارب عند وضع خططنا .
لا تحقرن من المعروف شيئاً(1/30)
كثيرة تلك التجارب التي تتعلق بهذا الموضوع ، فكم نواجه في حياتنا من مثبط ومحبط يثنونا عن فعل الخير ، واذكر أنني مررت بأحدى مندوبيات الدعوة فلا حظت فائضاً كبيراً من المطويات لديهم فسألتهم إن كانوا يستطعيون أن يمدونني بمجموعة منها لمشروع كنت أُعد له يتعلق بدعوة الطالبات والمدرسات في ادارة التعليم من خلال اهدائهن شهرياً مجموعة من المطويات والنشرات التي تحتوي على بعض النصائح والأحكام الشرعية فوجدت ترحاباً طيباً على الرغم من قلة المطويات مقارنة بعدد مدارس البنات ، إلا أن هذا المشروع وُوجه بنقد حاد من البعض ، فمن قائل أن مدير التعليم لن يقبل بمثل هذه الهدايا ، وآخر يقول بأنها سترمى ولن تعلق هذه النشرات وهكذا تسمع من الكلمات ما يكفيك لرمي هذا المشروع من أوله في سلة النفايات ، ولكن تبدد كل ذلك حينما وضعنا خطوات عملية للسعي في المشروع فكانت الخطوة الأولى زيارة مدير التعليم وفوجئنا بترحيبه الكبير وبتذليله كافة الصعاب أمامنا ، ثم بدأ المشروع بحمد الله واستمر لأكثر من سنتين وزع فيه على أكثر من خمسمائة مدرسة شهرياً آلاف الأشرطة والمطويات والنشرات الدعوية فجزى الله خيراً كل من سعى وبذل فيه ، فكم من مشروع وأد في مهده قبل أن يرى النور بسبب بعض الكلمات والمواقف التي تحقّر منه .
الملأ هم الملأ(1/31)
كثيراً ما يستغرب بعض الدعاة الصد الذي يجده عند بعض المترفين والكبراء عن قبول الحق ولكن القرآن الكريم بين بأن صنفاً من الناس يقفون غالباً في وجه كل دعوة ، ويحاربونها بدافع الكبر الذي يغشى نفوسهم ، وبدافع حب الرياسة على الناس ، وخوفهم من أن تسلبهم هذه الدعوة مركزهم ومكانتهم ، إنهم الملأ عليةُ القوم وكبراؤهم وأشرافهم ، وقد نبّه المفسرون الى صفاتهم وأنهم يوجدون في كل زمان ومكان ، جاء في تفسير ابن كثير في قوله تعالى ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) قال : وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة ، وقال أيضاً ثم الواقع غالباً أن من يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته .
لاخلاص من الشبهات(1/32)
ليعلم الداعي أن إثارة الشبهات في وجه الدعوة الى الله أمر قديم مضت به سنة الله في العباد فلا يستغرب ولايضيق بها ، وهي في جوهرها لا تتغير ولا تتبدل وإنما الذي يتغير فيها الأسلوب والكيفية ، قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) والذي قيل للرسل الكرام هو الباطل الذي كان في حق الناس شبهات ، وقال تعالى ( ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) فالأقوام قبل قريش اتهموا الرسل الكرام بالسحر والجنون ، وكذلك فعلت قريش لتنفير الناس من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا فقه الداعي هذه الحقيقة ووعاها جيداً زال عنه العجب والحنق والغضب إذا اُتهم بالتهم الباطلة أو أثيرت الشكوك والريب حول دعوته ، لأنه ليس أحسن حالاً من رسل الله ولا أفصح بياناً منهم ولا أكثر إخلاصاً منهم ولا أكثر تأييداً من الله تعالى منهم ، ومع ذلك كله أثار أهل الباطل ما أثاروه من الشبهات حولهم مما قصه الله تعالى علينا في أخبارهم ، ففقه هذه الأمور لازمة لكل مسلم بلا استثناء ليميز الخبيث من الطيب وحتى لايتأثر بالشبهات فينساق وراءها ويصير من حيث لايشعر مع الأعداء ضد الدعاة الى الله تعالى (1)
لايجوز أن نحدد وقتاً لإنزال نصر الله
__________
(1) أصول الدعوة ص 426 بتصرف(1/33)
قال تعالى ( إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )(1) قال ابن كثير ( رحمه الله ) في تفسير هذه الآية : المراد بالنصر الإنتصار ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو غيبتهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحي وزكريا وشعيباً سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، فعلى الداعي والمحتسب أن يتيقن بنصر الله ولايشك فيه أبداً سواء تحقق بحضوره أو في غيبته أو بعد مماته ، وتأمل قصة سمية رضي الله عنها حينما كانت تعذب في رمضاء مكة المكرمة كيف ثبتت ، وكيف نصرت دين الله بصبرها وإن لم تر فتحه الذي حدث بعد موتها وتعذيبها ، فهكذا يكون النصر بالثبات على القيم والمباديء وأما النصر العام للأمة فهو الى الله سبحانه وتعالى ينزله وقت ما يشاء .
صفات القائد
القيادة لها ارتباط وثيق بالعقيدة ، فعقيدة الشخص ومنهجه هي التي تؤثر في قيادته وأكثر كتب الإدارة التي تتكلم عن صفات القائد هي كتب غربية تغفل هذا الجانب المهم لإرتباطها بالماديات فمهما أراد الإنسان أن يكتسب حنكة وخبرة القيادة فلن يجدها في أفضل من سيرته صلى الله عليه وسلم ، ومن أهم تلك الصفات التي تجلت في شخصيته صلى الله عليه وسلم : كمال الاخلاق : فالرسول صلى اللّه عليه وسلم افضل قومه مروءة، واحسنهم خلقا، واكرمهم حسبا وارجحهم حلما، وأحسنهم سياسة صبر على أذى قومه بكل حكمة وبعد نظر حتى انقادوا اليه ، والتفوا حوله ، وكان من خلقه التواضع والصبر والوفاء ، والرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يدع جماعة الا عين لها قائداً وكان اختياره للقادة بناء على هذه الصفات بالإضافة الى الكفاءة والحب. وقد قال صلى اللّه عليه وسلم: " خيار ائمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ( اى تدعون لهم ويدعون لكم ) وشرار امتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم )(2) .
وأخيراً
__________
(1) غافر 51
(2) ح 907 السلسلة الصحيحة للألباني(1/34)
حاولت في هذه الإضاءات السريعة ، أن أنير الطريق لمن عزم على السير في طريق الإحتساب ، من خلال تجارب سابقة ، ومفاهيم شرعية غائبة ، وفتاوى مهمّة كنا في أمسّ الحاجة اليها ، فإن أصبنا فمن الله وحده ، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان والله المستعان وعليه التكلان .(1/35)