وقفات هادئة
مع
فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية
د. صلاح الصاوي(1/1)
تقديم
بقلم: أ. د.علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة- جامعة قطر
وخبير الفقه والاقتصاد بمجمع الفقه الإسلامي
بمنظمة المؤتمر الإسلامي
الحمد لله حمدًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على خير الرسل الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وبعد:
فقد صدرت فتوى عن كل من المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ومؤتمر رابطة علماء الشريعة بأمريكا الشمالية تبيح للمسلمين المقيمين بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الاقتراض بالربا لشراء مساكن.
وبأسلوب عملي هادئ، يدل على غزارة علم، ودماثة خلق، وصدق أخوة، وخوف على الإسلام والمسلمين في الغرب، استطاع الأخ الكريم الدكتور صلاح الصاوي أن يثبت بوضوح عدم صحة الفتوى، وأن يبين الأضرار الجسام التي تؤدي إليها. وقد تتبع ما استندت إليه الفتوى، وبتسلسل وترتيب، ذكر كل المرتكزات، وأبطلها جمعيًا بما لا يدع مجالاً للشك في بطلانها!
وعلى هذا فالبحث القيم في غنى عن مقدمة توضيحية، غير أنني أريد أن أخاطب كل مسلم في الشرق أو في الغرب، وحيث إن الفتوى تخالف النص، أحب أن أبدأ بكلام للإمام الشافعي، ثم بكلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية.
روى الشافعي بسنده عن سعيد بن المسيب: «أن عمر بن الخطاب قضي في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست». ثم قال الشافعي: «لما كان معروفًا- عند عمر أن النبي × قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدر من دية الكف، فهذا قياس على الخبر.(1/1)
فلما وجدوا كتاب آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله × قال: «وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل» صاروا إليه، ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم- والله أعلم- حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله ×.
وفي الحديث دلالتان:
أحدهما: قبول الخير، والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.
ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد الأئمة، ثم وجد خبر عن النبي × يخالف عمله، لترك عمله لخبر رسول الله ×.
ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه، لا بعمل غيره بعده.
ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا لهم أن عندكم خلافه ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل خالفه.
ولو بلغ عمر هذا صار إليه- إن شاء الله- كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه، بأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله.
ثم أيد الإمام الشافعي قوله السابق، فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول: «الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا»، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر»(1).
__________
(1) انظر الرسالة ص 422- 426، واقرأ في الحاشية تعليق الشيخ أحمد شاكر وتخريجه للروايات. وراجع كتابي: (قصة الهجوم على السنة) واقرأ فيه: (السنة وحي) و (اعتصام السلف بالسنة) ص 10- 17.(1/2)
وقال ابن تيمية: «الذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف أكثر وأجل قدرًا من هؤلاء [يشير إلى من استجاز نوعًا من الميسر] فإن ابن عباس ومعاوية وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين، وكانوا متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النساء، لا في اليد باليد، وكذلك من ظن أن الخمر ليست إلا المسكر من عصير العنب، فهؤلاء فهموا من الخمر نوعًا من دون نوع، وظنوا أن التحريم مخصوص به. وشمول الخمر لأنواعه كشمول الخمر والربا لأنواعهما، وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم أهل له، فإن الله تعالي عفا للمؤمنين عما أخطأوا فيه، كما قال تعالي: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا".
قال الله: قد فعلت. وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقًا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فنقول: ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ? الآية، وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذه الأمور»(1).
وما ذكره الإمام الشافعي وابن تيمية يبين ما يجب على كل مسلم تجاه زلات العلماء، فلا يحل ترك النصوص واتباع زلات العلماء، وفي الوقت نفسه ليس لمسلم أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل.
لقد لعن الرسول × آكل الربا وموكله، وقال: «هم سواء»، وفي حديث آخر في الربا: «الآخذ والمعطي فيه سواء»، فإذا قال أحد- كائنًا من كان- إنهما ليسا سواء، أفنأخذ بقوله أم بقول الله تعالي في بيانه على لسان رسوله ×؟!
والاقتراض بالربا لتملك مسكن يعني أن المقترض يريد الإقامة الدائمة؛ بل وجدناه يتجنس بجنسيتها، ويصبح محاربًا في جيشها؛ أفيصبح المسلم هو نفسه حربيًّا يحل ماله للمسلم غير المقيم؟!
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/ 238- 239.(1/3)
إذن على المسلم المقيم في أوروبا أو أمريكا أن ينتبه لخطورة هذه الفتوى، وأن هذه البلاد لو اعتبرها دار حرب فلا يجوز له أن يقيم فيها، ويجنس بجنسيتها، ويصبح جنديًّا في جيشها، وعليه أن يترك البيت الذي تملكه، سواء أكان بالربا، أم كان بغير ربا.
إن بعض من وقفوا وراء الفتوى- مثل فضيلة الشيخ القرضاوي- بينوا من قبل أن مثل هذه الفتاوى الشاذة لا يؤخذ بها! فعندما ظهرت فتوى إباحة فوائد البنوك الربوية تصدى لها الشيخ القرضاوي بقوة، ولا يزال، ومما ذكره أن مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني أفتى بتحريم هذه الفوائد، وشارك في المؤتمر علماء من خمس وثلاثين دولة، وذكر أسماء بعض العلماء الكبار الأفذاذ الذين شاركوا في إصدار هذه الفتوى، ثم قال: الاجتهاد الجماعي لا ينقض، وإذا جاز أن ينقض فلا ينقض إلا باجتهاد جماعي أكبر منه، أو مثله على الأقل.
قلت: وذلك المؤتمر هو نفسه، وفي الفتوى ذاتها قال: «الإقراض بالربا محرم، لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا حرام كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة»، فذكر في الاقتراض الضرورة شأن كل حرام لذاته، ولم يذكر الحاجة.
ومجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي قرر بالإجماع ما يأتي: «إن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، ويجب أن يوفر بالطرق الشرعية بمال حلال، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة- قلت أو كثرت- هي طريقة محرَّمة شرعًا لما فيها من التعامل بالربا».
وورد إلى المجمع أسئلة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، منه سؤال حول شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل، بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محدودًا على تلك القروض؟ فأجاب المجمع بأن هذا لا يجوز شرعًا، ولم يذكر أن المسلمين بواشنطن في دار حرب مثلاً.(1/4)
هذا وقد ذكر فضيلة الدكتور الصاوي في نهاية هذا البحث القيم بعض ما ذكر من المعلومات حول بعض التجاوزات الإجرائية في أثناء استصدار هذه الفتوى، وما ذكر من غلبة أصوات غير المتخصصين على أصوات المتخصصين، مما يقضي- إذا صح ما ذكر- بأنها ليست فتوى جماعية أصلاً، فضلاً عن اعتبارها ناقضة للفتاوى السابقة الصادرة عن المجامع الفقهية.
وهذه الفتوى- وإن كانت عندنا زلة- فيجب أن لا ننسى ما ذكره الإمام الشافعي في وجوب اتباع النص، وما ذكره شيخ الإسلام أن ليس للمسلم أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل.
إن فضيلة الشيخ القرضاوي يحمل هموم المسلمين في العالم، وتحمل الكثير من أجلهم، ولذلك نحبه ونجله وندعو له دائمًا، ومع ذلك نختلف معه كثيرًا، وفي الوقت نفسه نعرف منزلته وقدره، وسمو ونبل غايته.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، ونصلي ونسلم على رسوله خير البشر، ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:(1/5)
فقد أتيح لي بعد عودتي من سفر كنت فيه خارج الولايات المتحدة أن أطلع على البيان الختامي للمؤتمر الفقهي الأول لرابطة علماء الشريعة المنعقد في مدينة ديترويت/ ولاية ميتشجان بأمريكا في شهر شعبان 1420هـ، وما أسفر عنه من نتائج تتعلق بإباحة القروض الربوية لتمويل شراء البيوت وفقًا لما يجري عليه العمل على الساحة الأمريكية، بالإضافة إلى البيان الختامي للدورة الرابعة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث المنعقدة في مدينة دبلن بأيرلندا في شهر رجب 1420هـ أي قبل انعقاد هذا المؤتمر بثلاثة أسابيع تقريبًا، والذي انتهى بدوره إلى نفس النتيجة في هذه النازلة، كما طالعت كذلك بعض الأعمال العلمية لهذين المؤتمرين وما دار حولهما من مساجلات صحفية على أصعدة شتى، وأود في هذه الوريقات أن أسهم بشيء من البحث والتأمل في هذه القضية، سواء في إطارها الفقهي أم في تطبيقها العملي، مضمنًا ذلك النصح والتعقيب على بعض هذه المقررات، سائلاً الله- عز وجل- أن ينفع بهذه الكلمة الموافقين والمخالفين على حد سواء، وأن يجعل الإخلاص والصواب حليفنا فيما نأتي ونذر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم آمين.
ورغم شيوع مقررات هذين البيانين واستفاضة العلم بهما، فقد رأيت من المناسب أن أعرف بها بإجمال بين يدي هذه الوقفات والمداخلات، حتى تتسنى المتابعة وتحصل الفائدة لمن لم يسبق له اطلاع عليها، أو لمن يعيشون خارج المجتمعات الغربية لكنهم يهتمون بأمر المسلمين حيثما كانوا، ويحرصون على بذل النصيحة لهم أينما وجدوا.
وموضع المراجعة في ذلك ما صدر في البيانين:(1/6)
[بيان المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وبيان مؤتمر رابطة علماء الشريعة] من القول بإباحة القروض الربوية لتملك بيوت للسكن خارج ديار الإسلام، وفقًا لما يجري عليه العمل في المجتمعات الغربية؛ حيث جرت العادة أن يتولي البنك إقراض المشتري ثمن البيت، ويقسط هذا الثمن أقساطًا طويلة المدى، ويأخذ على ذلك فائدة مركبة قد يبلغ بها القرض في نهاية المدة أضعافًا مضاعفة، وذلك تنزيلاً للحاجة منزلة الضرورة في إباحة المحظورات، أو تعويلاً على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وتلميذه محمد من القول بجواز التعامل بالربا في دار الحرب.
فقد جاء في البيان الختامي لمؤتمر رابطة علماء الشريعة الذي عقد بالولايات المتحدة ما يلي:
- إن الطريقة المتاحة حاليًا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلاً شرعيًّا يسد حاجته؛ كالتعاقد مع شركة تقدم تمويلاً على أساس بيع الأجل أو المرابحة أو المشاركة المتناقصة أو غيرها.
- إذا لم يوجد أحد البدائل المشروعة، وأراد المسلم أن يمتلك بيتًا بطريق التسهيلات البنكية، فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للمسكن عن طريق التسهيلات البنكية، للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة؛ أي لابد أن يتوافر هذان السببان: أن يكون المسلم خارج دار الإسلام، وأن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية لدفع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية، وتحقيق المصالح التي يقتضيها المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية، على أن يقتصر على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه، وليس للتجارة أو الاستثمار.(1/7)
وفي البيان الختامي الصادر عن المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بعد أن حث على الاجتهاد في إيجاد البدائل الشرعية، أو مفاوضة البنوك الربوية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعًا، نص في فقرته الرابعة من قراره رقم (2/4) على ما يلي:
- وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسّرًا في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة.
هذا، ولقد ظل جمهور أهل الفتوى زهاء ربع قرن من الزمان على المنع من هذه المعاملة لما تتضمنه من الربا الجلي القطعي (ربا القروض). وقد تقرر عند أهل العلم قاطبة أن تحريم الربا مما علم من دين الإسلام بالضرورة، وأن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وأنه لا يحل الربا إلا الضرورات؛ لكن استفسارات عديدة وردت من كثير من المستفتين المقيمين خارج ديار الإسلام في أماكن شتى مشفوعة- كما ذكروا- بالمزيد من التوضيحات التي تبرز الحاجة وتذكر المصالح المرتقبة، حملت نفرًا من أهل الفتوى على تغيير اجتهادهم في هذه المعاملة، والترخيص فيها لعموم الحاجة إليها؛ إعمالاً لقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والظروف، واعتمادًا على ما سبقت الإشارة إليه من التخريجات الفقهية.(1/8)
مدارس علمية وليست معركة حزبية:
وقبل أن نشرع في وقفاتنا وتعقيباتنا على مقررات هذين البيانين، أود أن أشير إلى المنطلق الذي ينبغي أن يحكم مثل هذه المداخلات والتعقيبات أو تلك البحوث والدراسات، وهو النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فينبغي إذن أن لا تخرج عن الإطار الفقهي البحت الذي يتمحض مدارسة علمية، بعيدًا عن التهييج والإثارة، أو التقاذف بالتهم والمناكر، فإن ممن شاركوا في هذا المؤتمر من هم من أصحاب الفضل والسابقة، ولهم بلاء في نصرة الدين، وبعضهم ممن تقلدوا أوسمة إبان سنوات القهر التي عاشتها الأمة في النصف الثاني من هذا القرن ودفعوا من مهج قلوبهم ونور عيونهم، ومن أمنهم واستقرار حياتهم، ثمن تصلبهم في دينهم، واستمساكهم بالحق، ووفائهم لمنهج الله تعالى، فلا ينبغي إذن أن يتجاوز الحديث حدود الأدب الذي التزمه سلفنا الصالح فيما وقع بينهم من اختلافات علمية، ولا ينبغي أن يحمل الخلاف العلمي على تجاوز أو استطالة في أعراض المخالفين، مهما بدا للناظر من خطأ في اجتهاداتهم، أو زلل في منهج استنباطهم، فقد حفظنا من تراث أسلافنا رضوان الله عليهم «أن لحوم العلماء مسمومة، وأن سنة الله في هتك أستار متنقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في أهل العلم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب»!
وإن هذا التجاوز فضلاً عما يفضي إليه من التهارج وفساد ذات البين، فإنه يتضمن من البغي والظلم ما لا يجترئ على تحمل تبعاته أحد يخاف الله ويعلم أنه ملاقيه! ويزداد الأمر قبحًا إذا دخلت الأهواء الحزبية على الطريق، فيقبل الأمر أو يرفض لموافقته لاختيارات هذا الحزب أو ذاك، فإن ذلك لعمر الحق سوءة ومثلبه، وتغرير بالعمل كله! وقد يكون المخطئ الذي تجرد في نظره لله تعالى أرضى لله من المصيب الذي زاحمت تجرده أهواء حزبية وعلائق تنظيمية!(1/9)
ومن ناحية أخرى فإننا نقدر الباعث الذي حمل من أصدروا هذه البيانات على ما ذهبوا إليه من القول بإباحة هذا الأمر؛ وهو المحافظة على الضمير الديني عند عموم المسلمين إذا كان في الأمر متسع لذلك، واتباع ما نقل من هديه × من أنه: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه.
نحسب أن هذا وحده هو الباعث، ولا نقر ما يرميهم به الغاضبون من التميع العقدي أو الجرأة على الله ورسوله! فما عرفنا كثيرًا منهم إلا صادعين بما يعتقدون أنه الحق، لا يبالون في ذلك بغضب أحد من الناس أو برضاه- نحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدًا- فإن هم أصابوا بعد ذلك فنرجو أن يؤتيهم الله أجرهم مرتين، وإن هم أخطأوا فنرجو أن لا يحرموا ثواب المجتهد المخطئ، وإن كان هذا لا يمنع من مخالفتهم والاستدراك عليهم؛ بل وتخطئتهم في بعض ما ذهبوا إليه إذا لزم الأمر، فقد تعلمنا منهم ومن أمثالهم: أن النصيحة حق لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن النصيحة يجب أن تبذل في أحسن حال، وأن تُقبل على كل حال، وحفظنا عنهم وعن أمثالهم مقولة ابن القيم -رحمه الله- عن شيخه الهروي: شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا من شيخ الإسلام! فأرجو أن تتسع صدورهم لذلك، وأن يحملوا ما نسطره في هذه الرسالة على أحسن محامله، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(1/10)
المرتكزات الفقهية للمجيزين:
لقد اعتمد البيانات في إباحتهما لشراء البيوت خارج دار الإسلام وفقًا لما قدم من بحوث وما دار حولها من مناقشات على المرتكزات الآتية:
- ما نُسب إلى الإمام أبي حنيفة وبعض أهل العلم من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ومن ذلك التعامل بالربا، ويلاحظ خلو البيان الختامي لمؤتمر رابطة علماء الشريعة من الإشارة إلى هذا المرتكز، وإن كانت أوراقه العلمية ومناقشاته الفقهية قد تضمنت ذلك بوضوح، على خلاف ما كان في البيان الختامي الصادر عن المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث الذي تضمن التنصيص صراحة على هذا المرتكز.
- قاعدة تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، ولما كان المسكن إحدى الحاجات الضرورية التي لابد من توفيرها سواء بالاستئجار أو بالتملك، وكان الاستئجار لا يخلو من عقبات كثيرة، فإن هناك حاجة عامة للمسلمين في هذا البلد إلى هذه المعاملة؛ تحقيقًا لمصالح غالبة، ودفعًا لمفاسد راجحة، ولذلك فإنه يصار إلى القول بجواز الاقتراض بالربا لتحقيق هذه المصالح ودفع هذه المفاسد.
- ما يتصل بالقاعدة السابقة مما هو مقرر فقهًا من أن ما حُرم سدًّا للذريعة أبيح للحاجة، أما ما حُرم لذاته فإنه لا تحله إلا الضرورات، ولما كان المحرم لذاته هو أكل الربا، فإنه هو الذي لا تحله إلا الضرورات، أما ما وراء ذلك من إيكال الربا أو كتابته أو الإشهاد عليه فهو محرم سدًّا للذريعة؛ لذلك فإنه تحله الحاجات.(1/11)
- أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي، وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها وجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
- ما يؤدي إليه عدم التعامل بهذه العقود الفاسدة ومنها الربا في دار الحرب من أن يكون التزام المسلم بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًّا وخسارته ماليًّا، والأصل أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره.
- المصالح الراجحة التي تترتب على القول بإباحة تملك البيوت على هذا النحو: من المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية، وتحسين أحوال المسلمين المعيشية، والتحرر من الضغوط الاقتصادية عليهم ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين.
هذه تقريبًا أهم المرتكزات الفقهية التي اعتمد عليها البيانات في القول بجواز الاقتراض بالربا لتملك المساكن للمسلمين القاطنين في هذه المجتمعات.(1/12)
ملاحظات مبدئية على هذه المرتكزات الفقهية:
ولنا على هذه المرتكزات ملحوظات عامة، نود أن نوردها قبل أن نشرع في مناقشة هذه المرتكزات على التفصيل، وتتمثل هذه الملحوظات فيما يلي:
الملحوظة الأولي:
أن هذين القرارين قد جمعا بين مرتكزين أساسيين يجري كل منهما في مساق غير الذي يجري فيه الآخر:
- ذلك أنه بناء على تخريج الحنفية لجواز التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة في دار الحرب فإننا أمام معاملة جائزة ابتداء في حال السعة والاختيار؛ بل إذا استصحب فيها معنى إتلاف مال الحربي أو إضعاف شوكته فلا يبعد القول باستحقاق المثوبة عليها، واعتبارها من بعض أوجهها بابًا من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى!
- وبناء على المرتكز الثاني «تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات» فنحن أمام معاملة محرمة في الأصل ولا يرخص فيها إلا عند انعدام البدائل أو عدم كفايتا، وهذا الذي صرَّحتْ به البيانات الختامية للمؤتمرين- ولا تُباح إلا للضرورات، أو للحاجات الماسة التي تنزل منزلة الضرورات، وإذا كان هذا هو اختيار البيانين، فلا وجه للتعديل على كلام الحنفية في هذا المقام للفارق البين بين المسارين، فالمعاملة عند الأحناف جائزة ابتداء، سواء في ذلك حالة السعة والاختيار أو حالة الشدة والاضطرار، وعند أصحاب البيانين محرمة ابتداء، ولا يتأتى القول بها إلا عند انعدام البدائل ومسيس الحاجة إليها.
- ومن ناحية أخرى فإن ما ذهب إليه الأحناف لا ينطبق إلا على دار الحرب ولا يمتد حكمه ليشمل دار الإسلام، أما التخريج الثاني فإنه عام التطبيق يشمل دار الإسلام ودار الحرب على حد سواء، ومن ثم فإن هذا التخريج- لاسيما مع التركيز عليه في القرار الأخير وتجاهل الإشارة إلى التخريج الأول- يفتح الطريق لإعمال هذا الاجتهاد في بلاد المسلمين، فربما كانت الحاجة هنالك أمس والبدائل أضيق، فلا وجه لتخصيصه ببلاد الحرب وحدها، وإلا كان تخصيصًا بغير مخصص وتحكمًا بغير دليل.(1/13)
الملحوظة الثانية:
ما يؤدي إليه هذا التوجه من إضعاف كل مبادرة جادة لتوفير بدائل إسلامية في المجتمعات الغربية تُغني المسلمين عن الربا والريبة، وتُحافظ لهم حقًّا على الضمير الديني، لا من خلال تقليد أهل العلم في زلاتهم، ولا في اجتهاداتهم المرجوحة الناشئة عن اختلال الواقع وصعوبات التكيف معه، ولا من خلال التوسع في إضفاء المشروعية على معاملات مشبوهة أو باطلة؛ بل من خلال إقامة مؤسسات مالية استثمارية تشمر عن ساعد الجد، وتوفر للمسلمين البديل الإسلامي الصحيح، وتثبت أقدامهم على طريق المحافظة على الهوية، وعدم الانصهار في المجتمعات الغربية، وتحقق تقوية المسلمين عامة لا آحادًا وأفرادًا، وعلى الدوام لا في فترات محدودة من الزمان، وعلى أصل يرتكز ويبنى عليه لا على حوائط لا تستر إلا أصحابها! وأستعير في هذا المقام ما قاله صاحب الفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في رسالته القيمة (فوائد البنوك هي الربا الحرام) التي كتبها ردًّا على مفتي مصر السابق عندما أفتى بإباحة الفوائد المصرفية، وهو يبين دور بعض الزلات العلمية في تعويق الصحوة الإسلامية وضرب مؤسساتها: «وأعجب شيء اندفاع بعض العلماء المرموقين إلى هذا التيار ليسهموا في ضرب الفكرة الإسلامية والصحوة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية من حيث لا يشعرون ولا يقصدون!!» (فوائد البنوك هي الربا الحرام: 26).
الملحوظة الثالثة:(1/14)
أن المنحى الفقهي الذي نحا إليه المؤتمر يفتح الطريق أمام سلسلة قادمة من الترخصات المطلوبة لحاجات يرى أصحابها أنها ملحة، وأنها تنزل منزلة الضرورات في إباحتها للمحظورات، ولا يملك من فتح الباب في هذه إلا أن يفتحه في تلك، وإلا اتهم بالتناقض والتفريق بين المتماثلات، ذلك أن فتح الباب للتعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب لن يقف عند حدود التعامل بالربا وحده؛ بل سيتجاوزه إلى التعامل في سائر المحرمات، فالذين قالوا بجواز التعامل بالربا في دار الحرب قالوا بجواز بيع المحرمات فيها كالخنزير والخمر والأصنام، وستأتي الإشارة إلى ذلك بالتفصيل عند مناقشة مذهب الأحناف في هذه القضية.
ومن ناحية أخرى فإن تطبيق قاعدة (تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات) ليس خاصًّا بقضية المساكن وحدها؛ بل لابد في الغالب أن يمتد ليشمل المطعوم والمشروب والملبوس، وسائر ما يحتاج الناس إليه في تقلبهم وفي معايشهم: زُرَّاعًا أو صُنَّاعًا أو تُجَّارًا أو عُمالاً أو طلابًا، فإذا لم يضبط مفهموم الحاجة ولم يحكم القول في شرائطها فتحنا بابًا واسعًا إلى خلع الربقة، والتفلت من كثير من قيود التكليف، بما يتوهم أنه من قبيل المصالح أو الحاجات، وهو في حقيقته لا يعدو أن يكون من جنس الأهواء والشهوات!
وبعد هذه الملاحظات العامة، نشرع في إيراد أهم ما بدا لنا على هذه المرتكزات من ملاحظات وتعقيبات، سائلين الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وذلك على التفصيل التالي:
المرتكز الأول
الاستدلال بما ذهب إليه الأحناف من جواز التعامل بالربا في دار الحرب(1/15)
وقد أشار إلى هذا المرتكز من قبل الدكتور مصطفي الزرقا- رحمه الله- في عدة فتاوى صدرت عنه، أشار إليها صاحب الفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة في ورقته المقدمة إلى المؤتمر، كما اعتمد عليه المؤتمران فيما انتهيا إليه من القول بإباحة هذه المعاملة، وإن كان البيان الأخير لمؤتمر رابطة علماء الشريعة قد خلا في صياغته من الإشارة إليه، ولكن ما دار في المؤتمر من مناقشات، وما قُدم فيه من أوراق يؤكد اعتبار هذا المرتكز، والتعويل عليه في تبني هذا الموقف.
ولنا على هذا المرتكز جملة من الوقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
أن أحدًا من المستدلين به لم يناقش مذهب الأحناف في هذه المسألة من حيث المبدأ: قوة أو ضعفًا، صوابًا أو خطًا، وكأنه انطلق من مسلمة تمثلت في أن الآراء الفقهية كافة ما دامت منسوبة إلى الأئمة المتبوعين فإنها تدخل بذلك في إطار القبول العام، ويمكن الاعتماد عليها، وبناء المواقف على أساسها، أيًّا كان حظها من النظر، وهذا خلاف المعروف عند أهل العلم؛ إذ الأصل فيما تنازع الناس فيه أن يرد إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: ?فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ? [النساء: 59]. ولا أحسب أنه يغيب عن جل من أجازوا هذه المعاملة ما قرره علماء الأصول في قولهم:
وليس كل خلاف جاء معتبرًا ... إلا خلاف له حظ من النظر
وقد تعلمنا منهم ومن أمثالهم أن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق، وكثيرًا ما ردَّدوا على مسامعنا هذه المقولة: «اعرف الحق تعرف أهله»!
الوقفة الثانية:(1/16)
أن ما ذهب إليه الأحناف في هذه المسألة معارض بما ذهب إليه الجمهور من القول بأن حرمة الربا لا تتغير بتغير الأماكن، فالربا حرام فوق كل أرض وتحت كل سماء، فلا يحل للمسلم أن يعامل الحربيين بالربا أخذًا أو إعطاء، وأدلتهم أقوم قيلاً وأهدى سبيلاً، ومن هذه الأدلة:
- إطلاقات النصوص الواردة في تحريم الربا والتي لم تقيده بمكان دون مكان، ولا بفريق من الناس دون فريق.
- أن حرمة الربا ثابتة في حق الكفار كما هي ثابتة في حق المسلمين على الصحيح من أقوال أهل العلم في مخاطبة الكفار بالحرمات، وقد قال تعالى: ?وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ? [النساء: 161]، وقال تعالى: ?وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ? [المائدة: 5]، وهذه الآية نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة كما يقول القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (1/ 647)، ومتى كانت المحرمات أمرًا خاصًّا بالمسلمين في ديار الإسلام، فإذا خرجوا منها استحلوا محارم الله! والنبي × يقول: «اتق الله حيثما كنت»؟! (رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي ذر، راجع: صحيح الجامع الصغير: ج1، حديث رقم 97).
- قياس حرمة الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب على حرمته بين المسلم وبين المستأمن في دار الإسلام، فإن المستأمن في دار الإسلام يجري تحريم الربا بينه وبين المسلم إجماعًا (راجع: المجموع للنووي: 9/ 443، والمغني لابن قدامة: 4/ 39)، وممن نقل هذا الإجماع الأحناف أنفسهم (راجع: حاشية ابن عابدين: 5/ 186)، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه.(1/17)
- ما يفضي إليه تحريم الربا في علاقة المسلم بالمسلم، وإباحته في علاقة المسلم بالحربي، من التشبه باليهود في تحريمهم الربا في علاقة اليهودي باليهودي، وإباحته في علاقته مع الأمميين! ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ? [آل عمران: 75]، وقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الثالث والعشرين والمنسوب إلى موسى -عليه السلام: «لا تقرض أخاك ربًا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا»، وفيه: «للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك»، فضلاً عما فيه من الازدواجية والتطفيف الذي تلفظه الفِطَر وتنكره العقول السوية، ولقد أشار صاحب الفضيلة العلامة الدكتور القرضاوي لهذا المعنى في كتابه القيم (فوائد البنوك هي الربا الحرام) عندما قال: «ومن فضل الإسلام على البشرية أنه حرم الربا تحريمًا جازمًا؛ بل حرم كل ما يفضي إليه أو يساعد عليه، ولم يقل ما قالته التوراة المحرفة من تحريم الربا في معاملة الإسرائيليين بعضهم لبعض، وإباحته إذا تعاملوا مع الآخرين؛ بل حرمه في كل تعامل مع مسلم أو غير مسلم، فالإسلام لا يتعامل بوجهين، ولا يكيل بكيلين» (فوائد البنوك هي الربا الحرام: 19) وأحسب أن الإسلام هو الإسلام، وأنه لا يزال لا يتعامل بوجهين، ولا يكيل بكيلين!
الوقفة الثالثة:
أن أدلة الحنفية فيما ذهبوا إليه من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب لا تخلو من مقال؛ بل هي عند التحقيق ضعيفة ومتهافتة:(1/18)
- فحديث مكحول: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب»، الذي يعد عمدة أدلتهم في هذا المقام رده أهل العلم بالحديث والفقه معًا، فقد قال فيه الشافعي: «وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه» (سير الأوزاعي للشافعي: 7/ 359)، وقال الزيلعي: «غريب»، أي لا أصل له، وقال فيه النووي: «مرسل ضعيف فلا حجة فيه» (المجموع للنووي: 9/ 392). وقال العيني في البناية: «هذا حديث غريب ليس له أصل مسند» (الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 158). وقال ابن قدامة في المغني: «وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به» (المغني: 4/ 46).
وعلى فرض ثبوته فإنه يحتمل النهي؛ وذلك كقوله تعالى: ?الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ? [البقرة: 197].
قال النووي -رحمه الله تعالى: «والجواب عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعًا بين الأدلة» (المجموع للنووي: 9/ 392).
والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة التي تحرم الربا؛ إذ لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب من كتب السنة.(1/19)
- واستشهادهم بعدم رد النبي × لربا العباس إلا يوم فتح مكة، رغم أنه كان مسلمًا بمكة من قبل، وكان تحريم الربا يوم خيبر، ولم يرد ما كان منه من ربا منذ إسلامه بمكة، وقد كانت يومئذ دار حرب إلى أن أصبحت بفتحها دار إسلام، وأن في ذلك دليلاً على جواز الربا في دار الحرب، موضع نظر كذلك بل ضعيف، وأول ما يرد عليه: أنه لو صح هذا التخريج وكان العباس يتعامل بالربا في مكة لأنها كانت دار حرب، فكيف يفسرون استمراره على الربا بعد فتح مكة وتحولها إلى دار إسلام منذ السنة الثامنة من الهجرة حتى كانت خطبة الوداع في السنة العاشرة؟! إن موقف العباس -رضي الله عنه- محتمل للعديد من التخريجات نذكر منها:
أن تكون هذه الحالة واقعة عين خاصة بالعباس وحده، لملابسات أحاطت بإقامته في مكة يومئذ وهي دار كفر، وقد أباح له النبي × ما هو أعظم من ذلك؛ كإظهار الشرك، وإعلان الكفر في مكة أمام المشركين.
أن يكون الحديث عما كان له من ربا قبل ذلك؛ إذ ليس هناك ما يدل على أن العباس -رضي الله عنه- قد استمر على الربا بعد إسلامه.
ولو سلم استمراره عليه فقد لا يكون عالمًا بالتحريم لإقامته بمكة وبعده عن مهبط الوحي بالمدينة، فأراد النبي × إنشاء هذه القاعدة وتقريرها يومئذ، وقد أشار إلى هذا التخريج والذي قبله السبكي في تكملته للمجموع شرح المهذب (9/ 392).
أن يكون الربا الذي كان يتعامل به العباس مع أهل مكة يومئذ هو ربا الفضل، وليس ربا الديون الذي استفاض تحريمه، وتحريم ربا الفضل مما أنشأته السنة، ولم يكن تحريمه شائعًا معلومًا لجميع الصحابة، فقد كان تحريمه يوم خيبر في السنة السابعة من الهجرة، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس من قوله: «لا ربا في بيع يد بيد، إنما الربا في النسيئة»، وبهذا فقد يكون تعامل العباس به في مكة لأنه لم يبلغه تحريمه.(1/20)
وربما لأن تحريم الربا لم يكن قد استقر يومئذ حتى نزل قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ? [البقرة: 278]، وذلك بعد إسلام ثقيف سنة تسع من الهجرة، أي قبيل حجة الوداع، فكان العباس يتعامل به في مكة من قبل حتى أحكم الله تحريمه مع نزول هذه الآية الكريمة، ولعل مما يدعم هذا القول ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن تحريم الربا كان على سبيل التدرج، وأن آخر آيات الربا نزولاً آيات سورة البقرة، وبها أحكم التحريم حيث نصت نصًّا قاطعًا على تحريم كل زيادة على رأس المال؛ بل ورد أن هذه الآية هي آخر آي القرآن نزولاً، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قوله: «آخر آية نزلت على النبي × آية الربا»، وأخرج البيهقي عن عمر مثله (راجع في هذه التخريجات أحكام التعامل بالربا للدكتور نزيه حماد: 28- 32).
ومن ناحية أخرى فإنه لم ينقل قط أن الصحابة تعاملوا بالربا بينهم وبين أهل الحرب، ولو فهم الصحابة جواز التعامل بالربا مع الحربيين لنقل ذلك عنهم، فدل عدم النقل على عدم دلالة هذا الحديث على الجواز.(1/21)
ومما هو جدير بالتأمل في هذا المقام أن الأحناف يعتبرون دلالة العام على أفراده دلالة قطعية، ولا يجيزون تخصيصه ابتداء بالدليل الظني كخبر الواحد أو القياس؛ لأن عام القرآن والسنة المتواترة قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وما كان كذلك لا يصح تخصيصه بالظني، ولأن التخصيص عندهم تغيير، ومغير القطعي لا يكون ظنيًّا، وقد ردوا بهذه القاعدة كثيرًا من النصوص الصحيحة والصريحة كردهم ما جاء في حديث فاطمة بنت قيس من أن النبي × لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، وذلك إعمالاً للعموم الوارد في قوله تعالى بشأن المطلقات: ?أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِّن وُّجْدِكُمْ? [الطلاق: 6]، ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه القاعدة وبيان أن جمهور أهل العلم على خلافها، ولكن السؤال الذي نطرحه في هذا المقام: لم خالف الأحناف في هذه المسألة مذهبهم في دلالة العام فقبلوا بتخصيص العمومات القاضية بتحريم الربا بأدلة لا ترقى إلى مستوى الاحتجاج بها ثبوتًا أو دلالة؟
أما استشهادهم بأن أموال الحربيين على أصل الحل، فهي مباحة للمسلم بلا عقد، فأولى أن تباح بالعقد الفاسد؛ لأن هذا على رضًا منهم، ولا يتضمن غدرًا بهم، فهو بدوره ضعيف وموضع نظر، ووجه ضعفه ما يلي:(1/22)
أنه منقوض بأن الحربي إذا دخل دار الإسلام بأمان فلا يجوز للمسلم أن يعامله بالربا اتفاقًًا، ولو صح ما ذكروه لكان مطردًا في دار الإسلام وفي دار الحرب على حد سواء، فإن قالوا: إنه قد استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام، فأصبحت أمواله معصومة، وخرجت بذلك عن مقتضى الإباحة الأصلية التي أباحت للمسلم أخذ الزيادة منه في دار الحرب! قلنا: وكذلك الأمر عندما دخل المسلم دارهم بأمان فإنهم يستفيدون العصمة بذلك، وتصبح أموالهم في مواجهته أموالاً معصومة، فإن رفعها الرضا هنا فليرفعها كذلك في دار الإسلام، وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه! وتفريق الأحناف بين الأمانين: أمان الحربي في دار الإسلام، وأمان المسلم في دار الحرب، حيث يجعل الأول العصمة متبادلة بينه وبين أهل الإسلام، ويقصرها الثاني على عصمة أموال المسلم فقط في مواجهة الحربيين بينما تبقى أموال الحربيين بالنسبة له على أصل الإباحة لا وجه له؛ إذ كيف يكون الكسب المحرم إذا تراضيا عليه غدرًا مرة ولا يكون غدرًا أخرى، كيف يكون تعامله بالربا مع الحربي المستأمن في دار الإسلام غدرًا ولا يكون نفس التصرف مع الحربي المستأمن في دار الحرب غدرًا كما يقول الدكتور نزيه حماد؟! (راجع أحكام التعامل بالربا للدكتور نزيه حماد: 26).
أنه لا يلزم من إباحة أموالهم بالاغتنام إباحتها بالعقود الفاسدة، فإن أبضاع نسائهم تباح بالاغتنام ولا تباح بالعقود الفاسدة، وقد نوقش هذا الجواب بالتفريق بين الأبضاع وبين الأموال، فالأبضاع لا تباح إلا بالطريق الخاص، ولا تستباح بالإباحة، بخلاف الأموال فإنها تستباح بالإباحة، أو بطيب أنفس أصحابها.
أن هذا التعليل -إذا سلمنا بصحته جدلاً- قاصر على حالة أخذ المسلم الفضل من الحربي، ولكنه لا يصلح إذا عكس الأمر وكان الحربي هو الذي يأخذ الفضل من المسلم، كما هو الحال في هذه النازلة شراء البيوت عن طريق الاقتراض الربوي من الحربيين.(1/23)
أما استدلالهم بمراهنة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- للمشركين على ظهور الروم على فارس، بعلم النبي × وإقراره، فإنه موضع نظر، وقد أجاب أهل العلم عنه بعدة أجوبة، منها:
أنه منسوخ بنهي النبي × عن الغرَر والقمار، وذكر من قال ذلك أنه قد جاء في بعض روايات الحديث عن نياز بن مكرم الأسلمي: «قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان»، وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قول النبي ×: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر»، وهو ما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي وأحمد (الفروسية لابن القيم: 6).
عدم التسليم بحرمة هذا الرهان وفساد عقده، فالمحرم من الرهان هو الرهان الباطل الذي لا منفعة فيه للدين، أما الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه؛ كرهان أبي بكر فهو مشروع؛ بل هو أولى بالمشروعية من الرهان على النضال وسباق الخيل والإبل! (المرجع السابق: نفس الموضع).
عدم التسليم بإجازة النبي × لما جاء من المال عن هذا الطريق، لما روي من أن أبا بكر لما قمرهم وأخذ الخطر جاء به إلى النبي × فأمره أن يتصدق به، وقد استدل سفيان بظاهر هذا على أنه لو كان ذلك طيبًا لما أمره النبي × أن يتصدق به. (راجع السير الكبير: 4/ 1411).
أما استدلالهم بما روي من قوله ×: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية»، وقولهم: إن ما وقع في دار الجاهلية من قسمة الميراث فإنه يمضي وإن كان مخالفًا لأحكام الإسلام، ويقاس على ذلك المعاملة بالربا فهو استدلال ضعيف؛ لأنه يحتمل أن معناه أن ما تم بين المشركين من عقود قبل الإسلام لا تنقض ولا يتعرض لها، فيخرج بهذا الاحتمال ما ورد من قوله × من حديث ابن عباس: «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام» (سنن أبي داود: 2/ 114).(1/24)
وبعد: فهذه هي جملة أدلة الأحناف على ما ذهبوا إليه، وقد رأينا فيها من ضعف، الأمر الذي لا يصح معه تقييد النصوص الجلية القاطعة الواردة في تحريم ربا النسيئة بمثل هذه الاحتمالات الضعيفة، ومن أجل هذا لم تقبل بقية المذاهب المتبوعة رأي الأحناف في هذه المسألة؛ بل رده كذلك أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة- رحمه الله.
أما ما ذكر من أنه كم من اجتهادات لم يقبل بها السواد الأعظم من أهل العلم في زمانها، ثم فاءت الأمة إليها، ووجدت فيها مخرجًا من أزماتها بعد حين من الدهر، وذلك كاجتهادات شيخ الإسلام في باب الطلاق الثلاث والحلف بالطلاق ونحوه، فهو حق في ذاته، لكن المنازعة في صلاحيته للتطبيق في هذا المقام؛ إذ لا يخفي أن اجتهادات شيخ الإسلام في هذه المسائل لم تُقبل لمجرد أن شيخ الإسلام قال بها؛ بل لما لاحظه من اعتبرها من قوة أدلتها، وسبق بعض السلف الصالح من القرون الفاضلة إلى القول بموجبها، فأرجو الانتباه إلى الفارق بين المسألتين!
هل ورد في المذاهب الأخرى قول بإباحة الربا مع الحربي في دار الحرب؟
لقد ورد عن بعض الأئمة المتبوعين ما يفيد جواز ذلك عند انعدام الأمان بين المسلم والحربي، فقد نص على ذلك مجد الدين ابن تيمية في المحرر حيث قال: «الربا محرم في دار الإسلام والحرب، إلا بين مسلم وحربي لا أمان بينهما» (المحرر: 1/318)، كما ورد ذكره كذلك عن آخرين من علماء الحنابلة، كما ورد عن بعض علماء المالكية القول بكراهية ذلك وعدم تحريمه، ففي البيان والتحصيل لابن رشد الجد قوله: «وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه، وليس بحرام؛ لأنه لما جاز له أن يأخذ من ماله يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه، وكره من أجل أنه لم يأخذ على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله، وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا» (البيان والتحصيل لابن رشد: 17/ 291).
ولا يخفى أن هذه النصوص لا تفيد من ذهبوا إلى القول بالحل في هذه النازلة لسببين:(1/25)
الأول: أن فرض هذه النصوص انعدام الأمان بين المسلم والحربي، وهو خلاف فرض المسألة المعاصرة؛ لأننا نتحدث الآن عن معاملة تجري بيننا وبين قوم نعيش على أرضهم، وبيننا وبينهم حبال موصولة من الأمان والتعامل، وقد اتفق المجيزون والمانعون من هذه المعاملة على هذا القدر، فلم يقل أحد منهم إنه لا أمان بيننا وبين هذه المجتمعات، وفي تملك البيوت للسكنى أكبر دليل على تحقق مثل هذا الأمان.
الثاني: أن هذه الأقوال إنما تتحدث عن أخذ الربا من الحربي، ولا تتحدث عن إعطائه له، وما ورد من أقوال مطلقة في هذا المقام فهي محمولة على ذلك، ومن ذلك على سبيل المثال ما روي عن الإمام أحمد أنه قال: «لا يحرم الربا في دار الحرب» (الفروع لابن مفلح: 4/ 147) فإنه محمول على الأخذ لا على الإعطاء، فقد علل ابن مفلح هذه الرواية بقوله: «لأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحًا» (المبدع شرح المقنع: 4/ 157) فدل هذا التعليل على اقتصار الحل على حالة الأخذ كما هو ظاهر، وفرض المسألة المعاصرة إعطاء الربا للحربي وليس أخذه منه، وتفصيل القول في ذلك نقدمه في الفقرة التالية.
الوقفة الرابعة:
ما يتضمنه مذهب الأحناف «جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب» من الأحكام واللوازم الفاسدة التي تنقض عرى المحرمات عروة عروة، والتي لا يقول بها من تبنى مذهبهم في هذه النازلة من المعاصرين، من ذلك على سبيل المثال:(1/26)
جواز التعامل بالربا مع من أسلموا في دار الحرب ولم يهاجروا، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الحربيين، فقد جاء في الدر المختار: «وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي، فللمسلم الربا معه خلافًا لهم؛ لأن ماله غير معصوم، فلو هاجر إلينا ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقًا» (حاشية ابن عابدين: 5/ 186). وفي بدائع الصنائع للكاساني عند حديثه عن شرائط جريان الربا: «ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعًا، وهو أن يكونا مضمونين حقًّا للعبد، فإن كان أحدهما غير مضمون حقًّا للعبد لا يجري فيه الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب، فبايع رجلاً أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهمًا بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام، أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده» (بدائع الصنائع: 5/ 192)، فهل يلتزم بذلك من تبنى مذهبهم في هذه النازلة، فيحل للمسلمين الوافدين أن يتعاملوا بالربا - إذا كانت الزيادة لهم - وغيره من العقود الفاسدة مع إخوانهم من المسلمين الجدد في هذه المجتمعات؟!
ومن ذلك أيضًا ما يتضمنه مذهبهم من جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد أخذًا وإعطاء ماداموا لم يهاجروا، سواء أكان ذلك مع نظرائهم من المسلمين الجدد أم مع بقية الحربيين؛ وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداء، وقد أشار إلى ذلك ابن عابدين في الحاشية في قوله: «يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثمة ولم يهاجروا لا يتحقق الربا بينهما أيضًا» (حاشية رد المحتار: 5/ 187)، ولا يخفي أن الهجرة لا سبيل إليها في هذه الأيام في الأعم الأغلب، فيتدينون طيلة حياتهم بدين لا أثر فيه لحرمة الربا؟!(1/27)
ومن ذلك أيضًا ما يتضمنه مذهبهم «جواز العقود الفاسدة في دار الحرب» من جواز القمار مع الكفار، وجواز بيع المحرمات إليهم؛ كالخمر والميتة ولحم الخنزير ما دامت وسيلة للحصول على أموالهم التي هي مباحة في الأصل، فهم لا ينظرون إلى فساد العقد في ذاته، وإنما ينظرون إلى كونه وسيلة إلى الحصول على أموال القوم وهي غير معصومة ولا متقومة ابتداء، وما هذه العقود إلا وسائل يسترضيهم بها، ويتجنب من خلالها الوقوع في الغدر في حصوله على أموالهم.
يقول السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط: «وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقدًا أو نسيئة، أو بايعهم في الخمر والميتة والخنزير فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله تعالى- ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف -رحمه الله- لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون، ومن حكم الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة» (المبسوط للسرخسي: 10/ 95).
وفي فتح القدير للكمال بن الهمام : «فلو باع مسلم دخل إليهم مستأمنًا درهمًا بدرهمين حل، وكذا إذا باع منهم ميتة أو خنزيرًا أو قامرهم أو أخذ المال يحل كل ذلك عند أبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف» (فتح القدير: 7/ 38)، فهل يقبل إخواننا المجيزون لهذه النازلة بهذا القول، ويجيزون للمسلم أن يتعامل في بيع المحرمات من الميتة والخمر ولحم الخنزير أو يجيزون له القمار في هذه المجتمعات؟! وهل لقائل أن يقول: إنه إذا أعيد الاعتبار لاجتهادات الأحناف في هذا الباب، فلن يمضي عقد من السنين حتى يتم تطبيع الحس الإسلامي وتطويع الضمير الديني للمقيمين في المجتمعات الغريبة من المسلمين والمسلمات للتعامل بالربا، والتصالح مع الميسر، والتجارة في الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وغيره من سائر المحرمات!!
الوقفة الخامسة:(1/28)
حول مدى ملاءمة مذهب الأحناف للاستدلال به في هذه النازلة -أي للقول بحل شراء البيوت عن طريق القروض الربوية- ولنا على هذه الملاحظات التالية:
الأولى: أن القائلين بالترخص في هذه المعاملة لا يوافقون الأحناف في حكم التعامل بالربا في دار الحرب: فالأحناف يقولون بحله ابتداء في حال السعة والاختيار بناء على التوجيهات السابقة، والمترخصون يقولون بحرمته ابتداء أخذًا بما عليه الجمهور، ولا يجيزونه إلا للضرورات، أو ما قام مقامها من الحاجات العامة، وقد صرحوا بذلك في كل بيان أصدروه، فافترق السبيلان فتنبه!
الثانية: أن القائلين بالترخص في هذه المعاملة لا تطيب أنفسهم أن يشاع عنهم القول بأنهم يطلقون وصف دار الحرب على المجتمعات الغربية إن لم يكن من قبيل الموقف الفقهي فمن قبيل السياسة الشرعية، ولا تطيب أنفسهم أن ينقل عنهم إلى العالم أنهم ينظرون لشبابهم وتجمعاتهم استباحة أموال الناس في هذه المجتمعات، وأنه إذا تجاوز المسلم دار الإسلام فقد حلت له أموال العالم، لا يتحرز إلا من الغدر والخيانة، لا فرق في ذلك بين ما كان في دار الأمان أو في دار الحرب، وذلك في وقت تشن فيه الغارة على الإسلام ودعاته، ودعاوى الإرهاب تطاردهم فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولا أدل على ذلك من أن المؤتمر الأخير الذي عقد في أمريكا قد خلا بيانه الختامي من الإشارة إلى هذا التخريج واكتفى بالنص على قاعدة: "تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات"، ولعل هذا استجابة منه لنصيحة مخلصة أهداها إلى إدارته أهل الدراية بهذه المجتمعات.(1/29)
الثالثة: أن المسلم في هذه النازلة هو الذي يدفع الفضل للحربي، وليس هو الذي يأخذه منه، فهو الذي يقترض بالربا من الحربي، ويدفع القرض أضعافًا مضاعفة، فهي إذن عكس الصورة التي أجازها الأحناف واتجهت إليها تخريجاتهم الفقهية، ذلك أن قول الأحناف بالحل إنما هو ما كان فيه الفضل للمسلم، والصورة التي معنا على نقيض ذلك، فافترق السبيلان مرة أخرى فتنبه!
وتحرير ذلك أن توجيه الأحناف لهذه المسألة أن الربا لا يقع ابتداء بين المسلم والحربي في دار الحرب؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد، والزيادة التي ينالها المسلم من الحربي لا ينالها بمقتضى العقد الربوي؛ بل ينالها بمقتضى الإباحة الأصلية لأموال الحربيين، فالعقد الذي يعقده المسلم مع الحربي لا يفيده تملك الزيادة الربوية؛ بل يفيد منه الرضا الذي يحله من قيد الأمان، ويعيد أموال الحربي إلى أصلها من الحل، فيكون أخذ المسلم للزيادة في هذه الحالة كالاستيلاء على الكلأ والمباحات.
أما أن مذهب الأحناف بأن ذلك فيما كان فيه الفضل للمسلم فهو الذي يشهد به تصريحهم وتخريجهم على حد سواء، ولعل إطلالة سريعة على الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي تؤكد هذا المعنى وتزيده جلاء: فقد جاء في بدائع الصنائع للكاساني وهو من أمهات كتب المذهب الحنفي في توجيهه لمذهبهم: «أن مال الحربي ليس بمعصوم؛ بل هو مباح في نفسه إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش» (بدائع الصنائع: 5/ 192).(1/30)
ويزيد الكاساني الأمر جلاء فيقول: «وبه يتبين أن العقد هاهنا ليس بتملك؛ بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكًا، لكنه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقق الربا؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد» (المرجع السابق: 7/ 132).
وفي الدر المختار: «ولا بين حربي ومسلم» مستأمن ولو بعقد فاسد أو قمار (ثمة) لأن ماله ثمة مباح فيحل برضاه مطلقًا بلا غدر خلافًا للثلاثة. وقد علق ابن عابدين في حاشيته على ذلك فقال: «قال في فتح القدير: لا يخفى أن هذا التعليل إنما يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم، والربا أعم من ذلك؛ إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان أي في بيع درهم بدرهمين من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين، وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر، بأن يكون الغلب له، فالظاهر أن الإباحة بقيد نيل المسلم الزيادة، وقد ألزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم، نظرًا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، قلت: ويدل على ذلك ما في السير الكبير وشرحه حيث قال: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عري عن الغدر فيكون ذلك طيبًا له، والأسير والمستأمن سواء، حتى لو باعهم درهمًا بدرهمين أو باعهم ميتة بدراهم أو أخذ مالاً منهم بطريق القمار فذلك كله طيب»، ثم علق- رحمه الله- على ذلك فقال: «فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموالهم برضاهم فعلم أن المراد من الربا والقمار في كلامهم ما كان على هذا الوجه وإن كان اللفظ يدور مع علته غالبًا» (حاشية ابن عابدين: 5/ 186).(1/31)
وفي المبسوط للسرخسي عند توجيهه لمذهب أبي حنيفة ومحمد في هذه المسألة يقول: «وهما يقولان هذا أخذ مال الكافر بطيبة نفسه، ومعنى هذا أن أموالهم على أصل الإباحة إلا أنه ضمن أن لا يخونهم؛ فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز عن الغدر ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد، وبه فارق المستأمنين في دارنا؛ لأن أموالهم صارت معصومة بعقد الأمان فلا يمكنه أخذها بحكم الإباحة والأخذ بهذه العقود الباطلة حرام» (المبسوط للسرخسي: 10/ 95).
فالأحناف لا يحلون الربا في دار الحرب أو غيره من المحرمات القطعية كما قد يتوهم، وإنما يتحدثون عن قضيتين:(1/32)
القضية الأولى: عدم انعقاد سبب التحريم ابتداء كما هو الحال بالنسبة لقضية الربا، فهم لا يستحلون الزيادة الربوية في دار الحرب باعتبار العقد الربوي؛ لأنهم لا يرون انعقاده ابتداء بين مسلم وحربي، وإن حصلت صورته ظاهرًا؛ وذلك لأنهم باعتبار تخريجهم السابق يرون أن الأصل في أموال الحربيين هو الحِلُّ، وأن المسلم حين ينال الزيادة منهم برضاهم، فإنما ينال ذلك باعتبار الرضا وليس باعتبار العقد، وبالرضا يرجع مالهم حلالاً كما كان، ويتحلل بذلك من قيد الأمان الذي حرم أموالهم عليه فتصبح أموالهم مباحة كغيرها من سائر المباحات، فلا تطيب له الزيادة باعتبار الربا؛ بل باعتبار الإباحة الأصلية، أي إن الأصل في أموالهم هو الحل، وكذلك الأمر بالنسبة لما رخصوا فيه من بيع الميتة أو الخنزير لهم لا ينظرون إلى عقد البيع في ذاته، وإنما ينظرون إلى كونه وسيلة إلى الحصول على أموالهم بطريق عري عن الغدر، فالميتة والخنزير بالنسبة للمسلم كالعدم، ليست مالاً متقومًا عنده، فإذا بذلها لهم ليحصل على أموالهم فقد بذل لهم لا شيء مقابل ما يناله من أموالهم، ولسنا بصدد الرد على هذا القول، فإن فساده ظاهر، فلا تزال هذه العقود محرمة، لا يزال حمل الخمر وبيعها محرمًا سواء حملها إلى مسلم أو حملها إلى حربي، ولا يزال بيع الخنزير محرمًا... إلخ، ولكنها محاولة لفهم مذهب القوم، وبيان أن مرد هذه الفروع جميعًا إلى أن مال الحربيين مباح في الأصل، وأن هذه العقود الفاسدة كالعدم، وأن المسلم لا يستحل بها في ذاتها ما يناله من أموالهم، وإنما يسترضيهم بها فقط ليبرأ من الغدر، ثم ينال أموالهم بعد ذلك باعتبار حلها في الأصل بالنسبة له.(1/33)
القضية الثانية: وهي قضية إقامة العقوبات الشرعية على من يرتكب شيئًا مما يستوجب ذلك خارج دار الإسلام، فلا يرون إقامة الحد عليه لعدم توافر المنعة والشوكة التي يستظهر بها في إقامة الحدود، ولكن يلحق فاعل ذلك الإثم ويكون في خطر المشيئة بالنسبة للعقوبة الأخروية.
جاء في بدائع الصنائع للكاساني: «وأما الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فأنواع: منها أن المسلم إذا زنا في دار الحرب أو سرق أو شرب الخمر أو قذف مسلمًا لا يؤخذ بشيء من ذلك؛ لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية» (بدائع الصنائع: 7/ 131)، فالقضية عند الأحناف في هذا المقام قضية إقامة حدود وتطبيق عقوبات، وليست قضية حل وحرمة، وإلا فهل يظن بهم القول بإباحة الزنا والسرقة وشرب الخمر للمسلم المقيم في دار الحرب؟!
ولسنا بصدد الرد على تخريج الأحناف في هذا المقام، فقد سبق تفصيل القول في ذلك، ولكن المقصود أن مذهبهم لا يفيد القائلين بحل القروض الربوية التي يدفع فيها المسلمون الزيادة إلى الكافرين على النحو الوارد في هذه النازلة.
ولا يغني في هذا المقام أن يقال: إن مذهب الأحناف جواز ذلك فيما كانت المنفعة فيه للمسلم، فإذا انعكست الآية وصار أخذ القرض منهم وإعطاؤهم الربا أوفر للمسلم كما في هذه النازلة وجب أن ينعكس الحكم بناء على أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ لأن مذهب الأحناف في جواز أخذ الزيادة الربوية من الحربي معلل بأن أموالهم على أصل الحل، وأن الاستيلاء عليها برضاهم من جنس الاستيلاء على المباحات، فهو حكم مرتبط بتخريجه وعلته، ولا يخفى أن أموال المسلم بالنسبة للحربي ليست على أصل الحل؛ بل الأصل فيها الحرمة والعصمة، ومن ثم فلا يصح القياس العكسي في هذا المقام لوجود الفارق فتنبه!
المرتكز الثاني
تنزيل الحاجات منزلة الضرورات
في إباحة المحظورات(1/34)
يذكر البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الفقهي التابع لرابطة علماء الشريعة أن «المسكن هو إحدى الحاجات الضرورية التي لابد من توفيرها؛ سواء أكان ذلك بالاستئجار أم التملك، وأن استئجار المسكن للمسلم المقيم في أمريكا لا يخلو من عقبات كثيرة، منها ما يتعلق بحجم الأسرة أو اختيار الموقع المناسب للسكن أو تحكم أرباب البيوت بالمستأجرين، وأن الطريقة المتاحة حاليًا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلاً شرعيًّا يسد حاجته؛ كالتعاقد مع شركة تقدم تمويلاً على أساس بيع الأجل أو المرابحة أو المشاركة المتناقصة أو غيرها، فإذا لم توجد البدائل المشروعة، وأراد المسلم أن يمتلك بيتًا بطريق التسهيلات البنكية، فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للسكن عن طريق التسهيلات البنكية للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة.. على أن يقتصر على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه وليس للتجارة أو الاستثمار».
ويذكر قبله البيان الختامي الصادر عن الدورة العادية الرابعة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث نفس المعنى تقريبًا، فيقرر بعد جملة من المقدمات أكد فيها على حرمة الربا، وأن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وناشد فيها أبناء المسلمين أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها، وأن يفاوضوا البنوك الأوربية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعًا، بعد هذه المقدمات يقول البيان: «وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرًا في الوقت الحاضر فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة؛ وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة».(1/35)
ولنا على هذا المرتكز عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
لقد أحسن المؤتمران صنعًا عندما قررا بوضوح أن الأصل في هذه المعاملة أنها من قبيل الربا المحرم الذي لا يجوز للمسلم أن يقدم عليه عند توافر بديل شرعي، وهما بهذا لم يفعلا ما يفعله المفتونون الذين يقولون دائمًا: الربا حرام، ولكن... ما الربا؟
وبهذا يبدو الفرق جليًا بين مسلك المؤتمرين في التعامل مع هذه النازلة وبين مسلك كثير من الفاتنين من بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، ممن يخرجون فوائد البنوك ابتداء من نطاق الربا الحرام، ويضللون الأمة بهذه العبارة التقليدية: الربا حرام، ولكن ما الربا؟ وهو أمر يحمد للمؤتمرين على كل حال.
الوقفة الثانية:
أن كلا المؤتمرين لم يأخذ بمذهب الأحناف في هذه القضية على التحقيق (حكم الربا في دار الحرب) كما فهمه وتبناه المجيزون لهذه النازلة؛ لأن الأحناف بناء على هؤلاء لمذهبهم يجيزون هذه المعاملة ابتداء، فهي تدخل عندهم في نسيج المشروعية الأصلية في حال السعة والاختيار، وليس فقط في حال الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وإذا كان هذا هو موقف المجيزين فعلام كان إنفاق الوقت والجهد داخل جلسات المؤتمر وخارجها في مناقشة مذهب أبي حنيفة، وحشده بين المرتكزات الفقهية التي اعتمدوا عليها في قولهم بالإباحة، وهم لا يقولون في النهاية بمذهبه، على الأقل على مستوى التنظير، وإن انتهوا إلى قريب من النتيجة من حيث التطبيق؟!(1/36)
ولقد كان المؤتمر الأخير بأمريكا أكثر وضوحًا في هذا عندما أغفل الإشارة إلى مذهب الأحناف بالكلية في توجيهه لقراره، وإن كان قد أشار إليه إشارة عابرة عند عرضه لمذهب المخالفين، وذلك في قوله: «وهناك من يرى المنع من استخدام طريقة التسهيلات البنكية ولو تحققت الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وأنه ينبغي الاكتفاء بالاستئجار كبديل عن التملك بغض النظر عن المزايا المعروفة التي تفوت المستأجر استنادًا إلى الاتجاه الفقهي الذي يرى تحريم الربا في دار الإسلام وخارجها، وأنه لا يباح إلا للضرورة الشرعية، وليس للحاجة ولو كانت عامة».
الوقفة الثالثة:
وهي حول تعريف الحاجة وشرائط تطبيقها والفرق بينها وبين الضرورة، فالحاجة في اللغة: ما تكون حياة الإنسان بدونه عسيرة شديدة، وفي الاصطلاح الفقهي: ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المصلحة، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة.
أما عن شرائط تطبيقها فقد تحدث أهل العلم عن ذلك، فذكروا منها:
أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، ومن ثم شرع الجهاد مع أئمة الجور، ذلك أن الجهاد ضروري لحفظ الدين، واعتبار العدالة في الولاة مكمل لذلك، والمكمل إذا عاد على الأصل بالبطلان لم يعتبر.
أن تكون قائمة لا منتظرة، فلا يشرع الأخذ بالرخص إلا إذا تلبس المكلف بأسبابها فعلاً، فليس لمن نوى السفر أن يستفيد من الرخص بمجرد النية؛ بل لابد من التلبس الفعلي بالسفر.
أن لا يكون الأخذ بها مخالفًا لمقصود الشارع، فإذا كانت الرخصة قد شرعت للتيسير وتحقيق حاجات الناس فليس لأحد أن يتحيل لإيجاد سبب يترخص بمقتضاه كأن ينشئ سفرًا ليقصر الصلاة أو ليفطر في نهار رمضان، أو أن يهب ماله لغيره فرارًا من الحج الواجب.
وأما عن الفرق بينها وبين الضرورة فإنه يفرق بينهما من عدة أوجه، منها:(1/37)
أولاً: أن الضرورة أشد باعثًا من الحاجة؛ لأن الضرورة مبنية على فعل ما لابد منه للتخلص من المسئولية، ولا يسع الإنسان تركه، وأما الحاجة فهي مبنية على التوسع فيما يسع الإنسان تركه.
ثانيًا: أن الضرورة تبيح المحظور سواء أكان الاضطرار حاصلاً للفرد أم للجماعة، بخلاف الحاجة فإنها لا توجب الترخص والخروج على الأحكام العامة إلا إذا كانت حاجة الجماعة؛ ذلك لأن لكل فرد حاجات متجددة ومختلفة عن غيره، ولا يمكن أن يكون لكل فرد تشريع خاص به، بخلاف الضرورة فإنها نادرة وقاسرة.
ثالثًا: أن الحكم الاستثنائي الذي يتوقف على الضرورة هو إباحة مؤقتة لمحظور بنص الشريعة، تنتهي الإباحة بزوال الاضطرار وتتقيد بالشخص المضطر، أما الأحكام التي تثبت بناء على الحاجة فهي لا تصادم نصًّا، ولكنها تخالف القواعد والقياس، وهي تثبت بصورة دائمة يستفيد منها المحتاج وغيره.(1/38)
من أجل ذلك فإن الفقهاء عندما تحدثوا عن هذه القاعدة لم يمثلوا لها في الأعم الأغلب بإباحة محرمات قطعية انعقد الإجماع على حرمتها وبطلان العقد بها، كالزنا وربا النسيئة وشرب الخمر أو بيعها وأكل لحم الخنزير أو بيعه ونحوه مما علم تحريمه من الدين بالضرورة؛ بل جل ما ذكروه من تطبيقاته مما يدور في فلك العقود المشروعة ابتداء، ولكن ذكروا أن مشروعيتها جاءت على خلاف القياس رعاية لجانب الحاجة، فقد ذكروا من تطبيقاتها على سبيل المثال: مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، والسلم، والاستصناع، وأنها جوزت على خلاف القياس لعموم الحاجة إلى ذلك؛ لأن الإجارة والسلم والاستصناع بيع معدوم - وبيع المعدوم باطل - ولكنه جُوِّز لحاجة الناس، والجعالة فيها جهالة، وفي الحوالة بيع دين بدين وهو ممنوع، وكل هذه العقود سوف تجد من الآثار ما يدعم مشروعيتها ابتداء عند كثير من أهل العلم، فالإجارة والسلم ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع، وقل مثل ذلك في الحوالة والجعالة، فقد ثبتت مشروعيتهما كذلك بالسنة والإجماع، ومن راجع كتب الفقه عرف مصداق ذلك؛ بل إن من أهل العلم من نازع في كونها ابتداء على خلاف القياس، ومن يتأمل في هذه الأمثلة يجد أنها تمثل نوعًا من التخريج الفقهي لبعض العقود المشروعة بحيث تبدو متناسقة مع الأصول الشرعية والقواعد الفقهية؛ الأمر الذي يظهر معه دقة هذه القواعد واستيعابها بتطبيقاتها واستثناءاتها للأحكام الجزئية.
يقول السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر) : «القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة:
من الأولى: مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، ونحوها، جوزت على خلاف القياس، لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة، وفي الثانية: من الجهالة، وفي الثالثة: من بيع الدين بالدين، لعموم الحاجة إلى ذلك، والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة.(1/39)
ومنها ضمان الدرك، جوز على خلاف القياس؛ إذ البائع باع ملك نفسه، ليس ما أخذه من الثمن دينًا عليه حتى يضمن، لكن لاحتياج الناس إلى معاملة من لا يعرفونه، ولا يؤمن خروج المبيع مستحقًّا، ومنها مسألة الصلح وإباحة النظر للمعاملة ونحوها وغير ذلك.
ومن الثانية: تضبيب الإناء بالفضة يجوز للحاجة، ولا يعتبر العجز عن غير الفضة؛ لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعًا؛ بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سوى التزيين؛ كإصلاح موضع الكسر والشد والتوثق، ومنها: الأكل من الغنيمة في دار الحرب جائز للحاجة، ولا يشترط للأكل أن يكون معه غيره» (الأشباه والنظائر للسيوطي: 88).
ومن يتأمل في كل ما ذكره من الأمثلة- رحمه الله- يجد أنها تدور جميعًا في فلك عقود مشروعة، ثبتت مشروعيتها بأدلة أخرى، ولكن المقام مقام تخريجها على القواعد الفقهية والأصول الشرعية، بحيث يبدو الانسجام والتناسق في منظومة الأحكام الشرعية.
الوقفة الرابعة:
أنه لا مماراة في كون المسكن إحدى الحاجات الضرورية للإنسان التي لابد من توفيرها سواء أكان ذلك بالاستئجار أم التملك، أم بأي صورة أخرى من صور ملكية الانتفاع، فمبدأ وجود كن (مسكن) يأوي الإنسان إليه، حاجة من حاجاته الأساسية بلا نزاع، ولكن المنازعة في الإصرار على كون هذه الحاجة لا تندفع إلا بالتملك، وفي اعتبار التملك بذاته دون غيره من بقية الصور يمثل حاجة أساسية في جميع الحالات، بحيث يتسنى معها الترخص في محرم قطعي علم تحريمه من الدين بالضرورة، وفي الإصرار على أن هذه الحاجة لا تندفع بالإيجار إلى جميع الحالات، وفي بعض الأوراق التي قدمت إلى مؤتمر رابطة علماء الشريعة تنصيص على ذلك وتأكيد عليه. (راجع: بحث شراء البيوت عن طريق القروض الربوية في غير دار الإسلام للأخ الكريم الدكتور محمد قطناني).(1/40)
وإن كل ما سيق وما يمكن أن يساق من أدلة في هذا المقام لا ينصرف شيء منه إلى خصوصية التملك، وإنما ينصرف إلى مبدأ الاكتنان في ذاته، وفرق بين أن يكون الحديث عن مبدأ الإيواء أو الاكتنان في ذاته، وبين أن ينصرف إلى صورة معينة من صوره تملكًا كانت أو إيجارًا، فالاكتنان في مسكن يقي من الحر والبرد وعيون المارة وسائر العاديات هو الأمر الذي لا بديل منه ولا غنى عنه، وهو الذي تنصرف إليه كل الأدلة التي يحتج بها من يتحدثون عن أهمية السكن ومسيس الحاجة إليه، أما أن يجعل التملك في ذاته هو الذي يمثل الحاجة الأساسية، بحيث لا تندفع الحاجة إلى المسكن إلا من خلاله، فليس في أدلة الشرع ولا معطيات الواقع ما يؤيد ذلك بوجه من الوجوه.
وإذا كان أول الخلل في هذا المقام هو الخلط بين مبدأ الاكتنان في ذاته وبين شكل معين من أشكاله، وتنزيل الأدلة الواردة في الأول على الثاني، فلعل أول الرشد هو إزالة هذا الخلط ورفع هذا الالتباس، وإني لأرجو أن يمتهد من خلال ذلك سبيل إلى حسن التعامل مع هذه النازلة، وإلى التقاء المتنازعين فيها على كلمة سواء.
الوقفة الخامسة:
وهي حول نشأة هذه الحاجة التي يتسنى تنزيلها منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، ومدى ما تبيحه من المحرمات.(1/41)
إن الحاجة إلى الحرام لا تنشأ ولا يتصور وجودها ابتداء إلا إذا انعدم البديل المشروع الذي تندفع به هذه الحاجة، كما أن الاضطرار إلى الحرام لا ينشأ ولا يتصور وجوده ابتداء إلا إذا انعدم البديل المشروع الذي تندفع به هذه الضرورة، فإذا عم الحرام في كل ما تندفع به الضرورات أو الحاجات، تحققت هذه الحالة وامتهد السبيل إلى مناقشتها. فإذا قلنا مثلاً: إن الحاجة إلى كن يؤوي الإنسان ضرورة من ضروراته، ثم نظرنا من حولنا فلم نجد كنًّا إلا من خلال التملك، ولم نجد سبيلاً إلى التملك إلا من خلال القروض الربوية، فهنا يصح القول بتحقق حالة الضرورة التي تبيح لصاحبها من المحظور ما يلزم لدفعها، وينشأ في هذه الحالة سؤال: إن الضرورة قد تندفع بأدنى المساكن (مكان مغلق يقي من الحر والبرد والعاديات)، فهل نكتفي بالوقوف عند مرتبة الضروريات في دفع هذه الحاجة، فلا نأخذ من المساكن إلا أدناها لأن الضرورة تقدر بقدرها؟ أم يمكن أن نتوسع قليلاً، فننزل إلى مستوى الحاجيات لما يؤدي إليه الوقوف عند مستوى الضروريات من عنت ظاهر ومشقة بالغة، لاسيما إذا عمت الحاجة واتسعت دائرة الضرورة وطال أمدها؟ هنا يأتي دور هذه القاعدة «الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات»؛ لتحدث شيئًا من التوسعة الضرورية التي يؤدي غيابها إلى سقوط القوى، وانتقاض البنية، وصد الخلائق عن التصرف والتقلب في أمور المعاش! فيقال: إنه لا يلزم والحال كذلك أن يقف المضطر عند حدود الضرورة فقط؛ بل يأخذ ما يؤدي تركه إلى التضرر في الحال والمآل من غير ترفه ولا تنعم ولا خروج عن حد الحاجة إعمالاً لهذه القاعدة، وهذا هو الذي ناقشه إمام الحرمين الجويني في كتابه (الغياثي)، وفصل القول فيه في تحقيق نفيس لم يسبق إلى مثله، ثم جاء بعده من أساء قراءته أو أخطأ تأويله!
الإمام الجويني وتحقيقه لهذه القاعدة:(1/42)
لقد بين- رحمه الله- أن الحاجة لا يعني بها التشهي أو التشوف، وإنما يعني بها دفع الضرر، وما يتوقع منه فساد البنية، ويصد الناس عن التصرف والتقلب في أمور العيش، فيقول- رحمه الله: «لسنا نعني بالحاجة تشوف الناس إلى الطعام وتشوقها إليه، فرب مشتهٍ لشيء لا يضره الانكفاف عنه، فلا معتبر بالتشهي والتشوف، فالمرعي إذن دفع الضرار واستمرار الناس على ما يقيم قواهم»، ثم انتهى- رحمه الله تعالى- إلى القول: «إن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به ما يتوقع منه فساد البنية، أو ضعف يصد عن التصرف والتقلب في أمور المعاش».
ولم يجعل- رحمه الله- معيار الانتفاع هو معيار الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة المحظور فقال- رحمه الله: «فإن قيل: هلا جعلتم المعتبر في الفصل ما ينتفع به المتناول؟ قلنا هذا سؤال عم عن مسالك المراشد! فإنا إذا أقمنا الحاجة العامة في حق الناس كافة مقام الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار، فمن المحال أن يسوغ الازدياد من الحرام انتفاعًا وترفهًا وتنعمًا، فهذا منتهى البيان في هذا الشأن» (الغياثي للجويني: 480 - 481).(1/43)
وفرض المسألة كما ذكره- رحمه الله- أن يعم الحرام طبق الأرض كلها، وأن تفسد المكاسب كلها، وأن لا يجد الناس إلى طلب الحلال سبيلاً! والسؤال الذي طرحه في هذه الحالة: هل يقف الناس في هذه الحالة عند حدود ما يسد الرمق ويدفع عنهم غائلة الموت، أم إن لهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة؟! واختيار الثاني أمر بدهي؛ لأن في الاقتصار على الضرورات فحسب في مثل هذه الحالة «سقوط القوى وانتكاث المرر، وانتقاض البنية، وما يؤدي إليه ذلك من ارتفاع الزرع والحراثة وطرائق الاكتساب وإصلاح المعايش التي بها قوام الخلق قاطبة، وقصاراه هلاك الناس أجمعين، ومنهم ذو النجدة والبأس وحفظة الثغور من جنود المسلمين، وإذا هم وهنوا وضعفوا واستكانوا استجرأ الكفار وتخللوا ديار الإسلام، وانقطع السلك وتبتر النظام» (الغياثي: 476- 478).
فتأمل- رحمك الله- هذه الضوابط التي ذكرها هذا الإمام الجليل.
فالحاجة عنده لا تعني مجرد التشوف إلى الشيء أو التشوق إليه.
والحاجة عنده لا تعني الانتفاع والترفه والتنعم.
وإنما الحاجة عنده تعني دفع الضرار، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم.
أن يؤدي فواتها إلى هذه المفاسد التي أشار إليها أو قريب منها في الحال أو في المآل.
وفرض المسألة أن يعم الحرام طبق الأرض كلها، وأن تفسد المكاسب كلها، وأن لا يجد الناس إلى طلب الحلال سبيلاً!
كيف طبق الجويني- رحمه الله- هذه القاعدة في باب المساكن على وجه التحديد:
حاجة الرجل إلى المسكن حاجة ماسة:
ولم يفته- رحمه الله- أن يتحدث عن المساكن بصفة خاصة فقال: «فأما المساكن فإني أرى مسكن الرجل من أظهر ما تمس إليه حاجته، والكن الذي يؤويه وعيلته وذريته مما لا غناء به عنه».(1/44)
وهكذا بدأ ببيان أن حاجة الرجل إلى المسكن من أمس حاجاته، وأنه مما لا غناء به عنه، ولكنه لم يترك الأمر مشرعًا؛ بل بين أن الترخص في استباحة المحرم لتحصيله مرهون بجملة شروط حازمة بيَّنها بقوله: «وهذا الفصل مفروض فيه إذا عم التحريم، ولم يجد أهل الأصقاع والبقاع متحولاً عن ديارهم إلى مواضع مباحة، ولم يستمكنوا من إحياء موات وإنشاء مساكن سوى ما هم ساكنوها» (المرجع السابق: 486).
ثم يزيد الأمر- رحمه الله- جلاءً فيقول: «ثم يتعين الاكتفاء بقدر الحاجة، ويحرم ما يتعلق بالترفه والتنعم» (المرجع السابق: 487) ثم يواصل تأكيده على ضوابط هذا الترخص فيقول: «ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أن جميع ما ذكرناه فيه إذا عمت المحرمات، وانحسرت الطرق إلى الحلال، فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحل فيتعين عليهم ترك الحرام واحتمال الكَلِّ في كسب ما يحل، وهذا فيه إذا كان ما يتمكنون منه مغنيًا كافيًا درائًا للضرورات سادًّا للحاجة، فأما إذا كان لا يسد الحاجة العامة ولكنه يأخذ مأخذًا ويسد مسدًّا، فيجب الاعتناء بتحصيله، ثم بقية الحاجة تتدارك بما لا يحل على التفصيل المتقدم.
فإن قيل: ما ذكرتموه فيه إذا طبقت المحرمات طبق الأرض، واستوعب الحرام طبقات الأنام، فما القول فيه إذا اختص ذلك بناحية من النواحي؟
قلنا: إن تمكن أهلها من الانتقال إلى مواضع يقتدرون فيها على تحصيل الحلال تعين ذلك، فإن تعذر ذلك عليهم وهم جم غفير وعدد كبير، ولو اقتصروا على سد الرمق وانتظروا انقضاء أوقات الضرورات لانقطعوا عن مطالبهم، فالقول فيهم كالقول في الناس كافة، فيأخذوا أقدار حاجاتهم كما فصلناها..» (المرجع السابق: 487 - 488).
ومن خلال هذه النقول التي أسهبنا فيها عن عمد نتبين أن ضوابطه في خصوص المسكن تتمثل فيما يأتي:
أن يعم التحريم طبق الأرض، وتنحسم الطرق إلى الحلال، وإلا تعين احتمال الكل في كسب ما يحل.(1/45)
أن لا يجد الناس متحولاً عن ديارهم إلى مواضع مباحة.
أن لا يتمكنوا من إحياء موات وإنشاء مساكن أخرى.
أن لا يتمكنوا من الانتقال إلى مواضع أخرى.
الاكتفاء بمقدار الحاجة وتحريم ما يتعلق بالترفه والتنعم.
مزيد من الاحتياط في باب المساكن!
ومما يدل أشد الدلالة على احتياط الإمام- رحمه الله- وحرصه على عدم تجاوز قدر الحاجة أنه جعل معيار ما يترخص في مثله من الثياب إذا عم الحرام طبق الأرض هو ما يترخص في مثله للمفلس الذي أحاطت به ديونه وحجر عليه بسبب إفلاسه؛ وهو أنه يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه، ولكنه في باب المساكن ذكر أنه يكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه، فلم يقل يترك له مسكنه، وإنما قال: «ثم المحجور عليه المفلس يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه ويكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه، فالجواب أن نقول: إذا عم التحريم اكتفى كل بما يترك عليه من الثياب لو حجر عليه»، ثم افترض سؤالاً يرد عليه في هذا المقام: «لِمَ لا يترك على المفلس مسكنه ويتعين عليه أن يكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه؟» وأجاب عن ذلك بقوله: «قلنا: سبب ذلك أنه في الغالب يجد كنّاً بأجره لزر.... فليكتف بذلك» (المرجع السابق: 486).
فتأمل- رحمك الله- ضوابطه في هذا المجال، وارجع البصر هل ترى من تهاون أو تفريط في تقرير أن الضرورة تقدر بقدرها والحاجة بما يدفعها؟ ثم ارجع البصر كرتين هل ترى الحاجة عنده إلا درء الضرار في الحال أو المآل، وأن الضرار الذي عناه ما يتوقع منه فساد البنية أو الضعف الذي يصد عن التصرف والتقلب في أمور المعاش؟ وهل تراه يتهاون في طلب البديل المشروع قبل الترخيص فيما شاع وانتشر من الحرام؟ ثم قارن بين ما نقلته لك وبين أقوال أحبابنا المجيزين، وابحث عن أثر الترخص في شأن المسكن المملوك وميزاته وما فيه من الترفه مقارنة بكلام هذا العالم الجليل!
صاحب الفضيلة الدكتور القرضاوي وضوابطه في الضرورة:(1/46)
قال- حفظه الله وأطال الله بقاءه- في كتابه القيم (فوائد البنوك هي الربا الحرام) وتحت عنوان: «تنبيه لابد منه حول دعوى الضرورة»:
«وقبل أن أنهي هذه المناقشة أريد أن أقرر أن هناك قاعدة لا خلاف عليها، وهي أن للضرورات أحكامها المقررة شرعًا، وكما أباحت الضرورة للأفراد أن يأكلوا الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة كما صرح بذلك القرآن الكريم: ?فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [المائدة: 3] فإن ضرورة الأمة لها اعتبارها كذلك، وهي تبيح لها ما كان محظورًا في وقت الاختيار.
وكل ما هو مطلوب في الحالين أمور ثلاثة لابد من رعايتها:
الأول: أن تتحقق الضرورة بالفعل، ولا يكون ذلك مجرد دعوى لاستغلال الحرام الصريح، ولذلك شواهده ودلائله عند أهل العلم والبصيرة، ويسأل في ذلك عدول أهل الذكر والخبرة في شئون المال والاقتصاد ممن لا يتبعون الهوى، ولا يبيعون الآخرة بالأولى: ?وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ? [فاطر: 14].
الثاني: أن تغلق أمام المضطر - فردًا أو حكومة - أبواب الحلال كلها مع محاولة طرقها، وألا توجد بدائل شرعية تسد الحاجة، ويمكن الاستفادة منها للخروج من حد الضرورة وضغطها القاهر، فأما إذا وجدت البدائل، وفتح باب للحلال، فلا يجوز اللجوء إلى الحرام بحال.
الثالث: ألا يصبح المباح للضرورة أصلاً وقاعدة؛ بل هو استثناء مؤقت، يزال بزوال الضرورة؛ ولهذا أضاف العلماء إلى قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) قاعدة أخرى مكملة وضابطة لها وهي التي تقول: «ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها»، وهي مأخوذة من قوله تعالى: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ?، ومن تجاوز حد الضرورة زمانًا أو مقدارًا فقد بغى وعدا. (فوائد البنوك هي الربا الحرام: 110 - 111).
وليس وراء ما ذكره الشيخ الجليل في هذا المقام تعقيب ولا إضافة!(1/47)
وإن الأمور إذا لم تضبط على هذا النحو فإن هذا يفتق في الدين فتوقًا عظيمة، ويفتح الباب أمام خلع الربقة واستباحة جل المحرمات في هذه المجتمعات بخليط من الشهوات والشبهات! وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
إن من تطول عزوبته في هذا البلد مثلاً تكون له حاجة ماسة لقضاء إربه. وقد تحول دون الزواج عقبات كثيرة قانونية أو اجتماعية أو مادية، فهل يتسنى القول بأن مثل هذه الحاجة تبيح له الزنا أو شيئًا من مقدماته؟ وإن التجار وأصحاب الأعمال في هذه البلاد لهم حاجة ظاهرة في كثير من الأحيان إلى الاقتراض الربوي لترسيخ استثماراتهم وجعلها قادرة على الاستمرار والمنافسة في عالم لا مكان فيه للكيانات الصغيرة الهزيلة، فهل يتسنى القول بأن هذه الحاجة مسوغ للاقتراض الربوي مادامت المنفعة فيه للمسلم؟ وإن لهم كذلك حاجة إلى الترخيص في الاتجار في الخمور ولحم الخنزير باعتبار ذلك جزءًا من مشروعات متكاملة لا يتسنى لأحد أن يدخل فيها إلا إذا قبل بها جملة، كما هو الحال في محلات (سفن إلفن وشبرز) وغيرها، فهل يتسنى القول بمثل ذلك والحال كذلك؟! وإن للمسلمين عامة حاجة إلى التوسع في باب اللحوم لقلة المتاجر التي تبيع اللحم الحلال وارتفاع أسعارها بصورة ظاهرة، فهل يتسنى القول بأن هذه الحاجة مبرر لهم لأكل الميتة من المنخنقة والموقودة ونحوها؟! ثم يبقى بعد ذلك السؤال الأخير: لماذا قصر تطبيق هذه القاعدة على الغرب، ولم يُفْتَ بمثلها في الشرق، والحاجة هناك أمس والبدائل هنالك أضيق؟!
الوقفة السادسة:(1/48)
وهي حول الخلط بين مرتبة الحاجيات ومرتبة التحسينات في سلم تحقيق المصالح، فإن مفهوم الحاجة وفقًا لاصطلاح الأصوليين وكما سبقت الإشارة إليه في كلام الجويني هو ما يؤدي فواته إلى الحرج والمشقة، وهي كما يقول الشاطبي: «ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة» (الموافقات: 2/ 4 - 5).
ويمكن أن يمثل لها في حالتنا هذه بشخص كثر عياله وضاق به مسكنه المستأجر واستشعر حرجًا في مقامه فيه، ومثل هذه الحاجة هي التي يدور الجدل حول إباحتها للمحرم أو عدم إباحتها له، فمرتبة الحاجيات دون مرتبة الضروريات؛ لأن الضروري هو ما لابد منه في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة، ويمكن أن يمثل لها في حالتنا هذه بشخص غلقت أمامه أبواب الاستئجار وأبواب القرض الحسن، وتقاصرت إمكاناته عن الشراء الحال، وأصبح عرضة لأن يهيم على وجهه بلا مأوى، فمثل هذا هو الذي تنطبق عليه حالة الضرورة التي اتفق أهل العلم على أنها تبيح من المحظور ما يلزم لدفعها.
ومما سبق يتأكد أن الحاجة المقصودة في هذا المقام لا يقصد بها بطبيعة الحال مجرد الترفه أو التنعم أو محض التوسع والاستزادة من الملذات، فذلك أليق بمرتبة التحسينات التي عرَّفها الشاطبي بقوله: «الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات» (الموافقات: 2/ 5).(1/49)
ويمكن أن يمثل له في نازلتنا هذه - والتمثيل لمجرد تصور مرتبة التحسيني في سلم تحقيق المصالح - بتاجر يريد أن يقترض بالربا توسعًا في تجارته، وتشوقًا لمزيد من الربح، أو شاب في مقتبل عمره لم يتزوج بعد، أو حديث عهد بزواج وله دخل مناسب، ويريد أن يتملك مسكنًا بدلاً من الاستئجار؛ لأن هذا أحظى له وأنمى لأمواله، ولا يخفى أن أحدًا من أهل العلم لم يقل بتنزيل التحسينات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات!
وبالتالي فإن ما ذكره المؤتمر من مزايا ومنافع التملك الربوي للبيوت، لا يصلح وحده مبررًا للترخص، إلا إذا أضيفت إلى ذلك حاجة ماسة تخرج الأمر من نطاق التحسينات إلى نطاق الحاجيات، على أدنى تقدير حتى يمتهد سبيل للنظر إلى هذا الاجتهاد، باعتباره اجتهادًا معتبرًا يقف مع الاجتهاد الآخر الذي عليه جمهور أهل العلم؛ من القول بضرورة توافر حالة الضرورة حتى يتسنى الترخص في ربا النسيئة التي اتفقت الأمة كلها على تحريمه، تحريم مقاصد وليس تحريم ذرائع! ويكون لصاحب النازلة أن يستفتي قلبه أو من شاء من أهل العلم حتى يرجح له بينهما.
إن التعميم الذي صيغ به قرارا المؤتمرين، والذي يفهم من ملابساتهما وحيثياتهما، مما يحتاج إلى تأمل ومراجعة دقيقة؛ لأنه بتوسعه يشمل المرتبتين معًا الحاجيات والتحسينات، ويفتح الباب أمام تداعيات لا يقول بها السادة الأجلاء أصحاب هذه الفتوى، وهم من الورع والديانة بمكان لا يجحد، ونحسبهم كذلك، والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدًا!
إن إطلاق القول بنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات سوف يفتح الباب أمام عشرات من الصور والتطبيقات الأخرى التي لعل بعضها لم تدر بخلد من أطلقه، وقد تنتهي بنا إلى استباحة ما حرم الله بالكلية في باب المعاملات:(1/50)
قد يأتينا الطالب ليقول: إنه محتاج إلى الاقتراض الربوي لاستكمال دراسته؛ إذ لا طاقة لأحد في هذه المجتمعات بالمصروفات الدراسية، اللهم إلا أبناء كبار رجال الأعمال، وقليل ما هم!
وقد يأتينا الطبيب بعد تخرجه ليقول: إنه في حاجة إلى تجهيز عيادة أو مستشفى ليبدأ حياته العملية، ويبني نفسه اقتصاديًّا، ولا يجد السيولة اللازمة لذلك، ولا القرض الحسن.
وقد يأتينا هذا الطالب بعد تخرجه ليقول: إن به حاجة إلى الزواج، ولا يجد السيولة ولا القرض الحسن، ويريد أن يستخدم بطاقة الائتمان لشراء مستلزمات الزواج، ويسدد ذلك على أقساط، مع ما يتضمنه ذلك بطبيعة الحال من الزيادات الربوية.
وقد يأتينا بعد ذلك ليقول: إن به حاجة لاستقدام والده وبعض من أفراد أسرته لشهود عرسه، أو يريد هو أن يسافر إليهم ليشركهم في فرحته، وهي فرحة العمر كما يقولون، ويريد أن يستخدم لشراء التذاكر اللازمة بطاقات الائتمان، مع ما تعنيه من الالتزام بدفع الزيادات الربوية.
وقد يأتينا كذلك ليقول: إن به حاجة لشراء سيارة، والسيارات القديمة الرخيصة كثيرة الأعطال باهظة النفقات، ويريد أن يشتري سيارة جديدة عن طريق القروض الربوية، وقد لا يفوته أن يقول: إنه حريص على أن يدرك بها صلاة الجماعة وأن ينال فضيلة الصف الأول!
وقد يأتينا كل صاحب مشروع خاص عارضًا حاجته إلى قرض ربوي لتمويل استثماراته التي يريد أن يستغني بها عن ذل التوظف ومفاجآته، وأن يفرغ قلبه بعدها للعمل الإسلامي، والإسهام في بناء الجالية المسلمة.(1/51)
قد يأتي التاجر ليقول: إنه يبيع بالنسيئة، وحاجته إلى خصم ما لديه من أوراق مالية لدى البنوك حاجة ماسة، فالناس لا يملكون السيولة الكافية للشراء بالأجل، وهو لا يملك رأس المال الكافي لكل هذه التسهيلات، أو يأتي ليقول: إنه لا مكان في هذه المجتمعات للكيانات الاقتصادية الصغيرة الهزيلة، ويريد التوسع النسبي في تجارته من خلال بعض القروض الربوية ليصلب عود استثماراته وتقوى على المنافسة!
وقد يأتي الزارع ليقول: إن حاجته إلى قرض ربوي لتغطية نفقات زراعته حاجة ماسة، لاسيما من يعملون في مجال استصلاح الأراضي، ولا يخفى ما تكلفه من النفقات الباهظة.
وقد تأتي الجالية المسلمة لتقول: إن حاجتها إلى إقامة مدرسة إسلامية حاجة ماسة، وهي لا تملك السيولة اللازمة لذلك وتريد الترخيص بقروض ربوية لسداد هذه الحاجة.
بل قد تأتي لتقول: اشترينا قطعة أرض لبنائها مسجدًا، وقد تقاصرت إمكاناتنا دون إتمامه، والحاجة إلى إتمامه حاجة ماسة، وليست أهمية إقامة بيت لله بأدنى من أهمية إقامة البيوت الخاصة التي رخصتم في شرائها بقروض ربوية، ويريدون بدورهم الترخيص بقرض ربوي لإتمام هذا البناء! وهذا الاحتمال والذي قبله قد وقع بالفعل في كثير من المناطق مما لا أظنه يغيب عن المجيزين لهذه النازلة.
بل قد لا يقف الأمر عند حدود الربا وحده؛ بل قد يأتي من يسحب ذلك على محرمات أخرى، إن كثيرًا من المشروعات الاقتصادية في هذه البلاد تشوبها المحرمات، فالمطاعم ومحلات الأغذية تحتوي على الخمور ولحم الخنزير، وقد يلزم أصحابها من يشتريها أن يتعامل معها كما هي باعتبارها وحدات نمطية متكررة، وقد يأتي من يقول لنا من المستثمرين المسلمين: إن به حاجة لدخول هذا المجال بدلاً من التقوقع في الوظائف أو المشروعات الهزيلة الفاشلة، ويريد الترخيص له بتملك هذه المشروعات على ما تحتويه من المحرمات.(1/52)
ونستطيع أن نتمثل خطورة هذه التداعيات عندما نستصحب ما جاء في أوراق مؤتمر رابطة علماء الشريعة من أن المقصود بالضرورة في مجال العادات إنما هو الحاجة وليس الضرورة بمفهومها في باب العبادات، وبما جاء في بيانه الختامي من أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي، وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل: أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث، وغيرها من الأحوال الشخصية بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها، وجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وإنه لتتعين الإجابة على مثل هذا التساؤل: هل هذا الترخص مقرر لدفع حرج ومشقة، أم للتوسع في جلب المنافع وتحقيق المصالح؟ إن كانت الثانية فأولى أن تكون الصياغة تنزيل الحاجات والتحسينات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات! وذلك لأن صاحب الأسرة المحدودة قد يقول: إنه على الرغم من كونه لا يستشعر حرجًا في مقامه، ولا يشكو نقصًا في دخله، ولا كثرة في عياله، إلا أنه يريد أن يتملك منزلاً بالربا ترفهًا وتنعمًا، أو لأنه بمنطق المصلحة وحسابات الكسب المادي يرى أن هذا هو الأحظى والأنمى لأمواله، أو يقول: إنه يريد أن يستبدل سيارة حديثة فاخرة بسيارته الراهنة المتواضعة، ولم لا؟ أليس المسكن الواسع والمركب الهنيء من سعادة العبد ويمن طالعه مادام الأمر مما تتسع له قواعد المشروعية؟!(1/53)
بل لا يبعد أن تحتج بذلك الدول في بلادنا، وتسوغ به ما تحتاج إليه من قروض ربوية في المحيط الدولي؛ بل ولتسوغ به ما تقدم عليه من مشروعات سياحية مع ما تتضمنه من أنشطة محرمة؛ كالفجور والخمور والسفور ونحوه بدعوى تنشيط مرفق السياحة، وتوفير العملة الأجنبية! ولا يغني في الرد على ذلك أن يقال: إن الفتوى خاصة بما كان من ذلك خارج دار الإسلام؛ لأن الفتوى تستند إلى قاعدة عامة (تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات)، ولم يقل أحد ممن مضى من أهل العلم بتخصيص تطبيقها على ما وقع من عقود خارج دار الإسلام، فيصبح تخصيصها بذلك تخصيصًا بغير مخصص وتحكمًّا بغير دليل!
الوقفة السابعة:
حول التفريق بين تحقق الحاجة أو الضرورة على المستوى الفردي وبين تحققها على مستوى الجماعة، ذلك أنه قد يصح القول بتحقق الحاجة على المستوى الفردي لانعدام البديل المشروع الذي تندفع به هذه الحاجة، ويعسر تبني نفس المقولة على مستوى الجماعة، إذا كان في مقدورهم أن يسعوا في الخروج من حالة الاضطرار أو الاحتياج التي تحيط بهم، لكنهم يتقاعسون عن ذلك ويتخاذلون، فما قد يرخص به بالنسبة للآحاد قد لا يرخص بمثله للمجموع، وقد تمهد عند أهل العلم أنه قد يرخص في الشيء بالجزئية ويمنع منه بالكلية.(1/54)
وتطبيق ذلك على هذه النازل أنه - إذا صح جدلاً تحقق الحاجة العامة لانعدام البدائل على مستوى الآحاد، وهو غير صحيح - فإنه يعسر إطلاقًا القول بانعدام البدائل على مستوى المجموع على هذا النحو؛ لأن في مقدور الأفراد مجتمعين أن يتجاوزوا حالة الاضطرار المفترضة، وأن يخرجوا منها بإيجاد البديل المشروع، لا يعوقهم عن ذلك عائق، ولا يمنعهم منه مانع، ففضول الأموال مكتنزة، والحرية الاقتصادية متاحة، والعقول التي تدير ذلك بكفاية واقتدار متوافرة، فما الذي يحول بين هذا المجموع وبين المبادرة إلى إنهاء هذه الحالة من الاضطرار بإنشاء المؤسسات التي تدير هذا الأمر في إطار من الربانية ومن خلال مرجعية الشريعة؟! وعلى هذا فلو اقتصر القرار على الترخيص في ذلك لمن يقع في حالة احتياج ظاهرة من الآحاد بعد عرض نازلته على من يثق في دينه من أهل الفتوى؛ لكان له متسع من النظر، أما أن يطلق القول بالترخيص، ويتوجه بخطابه إلى عموم الجاليات فهذا الذي يضاعف الخطأ ويجعله مرتين: مرة يوم أن افترض انعدام البديل، ومرة يوم أن فرض انعدام القدرة على إيجاده على مستوى المجموع، هذا مع ملاحظة أنه إذا اجتمعت الهمة على طلب البديل وصدق العزم على ذلك فإن الأبواب تفتح، والصعوبات تذلل بإذن الله، سواء أكان ذلك على مستوى الآحاد، أم على مستوى التجمعات، وقد رأينا بنوكًا إسلامية في الغرب كبنك التقوى بسويسرا تحاول أن تمد أعمالها الاستثمارية إلى هذا المجال، كما رأينا توجه بعض البنوك الإسلامية في الشرق إلى الاستثمار أيضًا في هذا المجال، وهي محاولات وإن كانت تبدأ ضعيفة ولا تحقق كل التوقعات، ولكنها تقوى ويشتد عودها مع الزمن رويدًا رويدًا بإذن الله.
المرتكز الثالث
أن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للحاجة(1/55)
ويعد هذا المرتكز من مكملات المرتكز السابق، وقد أردت أن أفرده بالذكر لأهميته ولضرورة تحقيق القول فيه، وخلاصته كما جاء في البيان الختامي للمجلس الأوربي: «ما هو مقرر فقهًا من أن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للحاجة، أما ما حرم لذاته فإنه لا تحله إلا الضرورات، ولما كان المحرم لذاته هو أكل الربا فإنه هو الذي لا تحله إلا الضرورات، أما ما وراء ذلك من إيكال الربا أو كتابته أو الإشهاد عليه فهو محرم سدًّا للذريعة، لذلك فإنه تحله الحاجات»، ولنا على هذا المرتكز عدة وقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
لقد حفظ لنا تراثنا الفقهي فيما حفظ أن ما حرم سدًّا للذريعة هو ربا الفضل وليس ربا النسيئة، وقد استدل على ذلك بمثل قوله ×: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرما» والرما هو الربا (مسند أحمد، راجع: الفتح الرباني: 15/ 74).(1/56)
قال ابن القيم- رحمه الله: «الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدًا وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجَلِيُّ فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخر زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة... فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقهِ أن حرَّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله» إلى أن قال- رحمه الله: «وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع» (أعلام الموقعين: 2/ 154- 155). وذكر- رحمه الله- في موضع آخر أنه يباح من ربا الفضل ما تدعو الحاجة إليه كالعرايا، وهي بيع رطب بالتمر لعدم القدرة على تحقيق التماثل بينهما؛ لأن الرطب والتمر من جنس واحد، وأحدهم أزيد من الآخر قطعًا بلينته، وهي زيادة لا يمكن فصلها وتمييزها، والأصل في باب الربا أن الشك في التماثل كالعلم بالتفاضل، وقد كان مقتضى القياس تحريم هذه المعاملة لو لم تأتِ بها سنَّة، ولكن السُّنة قد جاءت بالإباحة، فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله × رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً»، ولهذا فإن هذا النوع من الربا قد تبيحه الحاجات على شرائطها المقررة عند أهل العلم في مثل هذا المقام.(1/57)
أما ربا النسيئة فالكلمة متفقة على أن تحريمه تحريم ذاتي، وأنه هو الذي جاء فيه الوعيد القرآني ابتداء، وعليه أعلنت الحرب من الله ورسوله، وعندما اجتمع مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام1385هـ جاء في مقرراته: «أن الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته»، وقد حضر هذا المؤتمر ممثلون ومندوبون عن خمس وثلاثين دولة إسلامية، وإنما فرق المؤتمر بين الإقراض والاقتراض؛ لأن الإقراض لا تتصور فيه الضرورة ابتداء، إذ لا يدفع إليه إلا شره وجشع ومحادة بينة لله ورسوله، أما الاقتراض فهو الذي تتصور في مثله الضرورة؛ كأن يكون الشخص على حافة هلاك، ولا يجد ما يدفع به غائلته عن نفسه إلا الاقتراض الربوي، ومن هنا يأتي الترخص، لكن لم يقل أحد - فيما نعلم - أن تحريم الاقتراض الربوي تحريم ذرائع وأنه تحله الحاجات.
هذا هو ما قرره مجمع البحوث الإسلامية قبل ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، وقد استشهد به أستاذنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي في رده على صاحب الفضيلة مفتي مصر في إباحته لفوائد البنوك، وكتب في ذلك كتابًا جليلاً عنوانه: (فوائد البنوك هي الربا الحرام)، وقد عنون فضيلته في كتابه هذا فقال: «لا ينسخ الإجماع إلا إجماع مثله»، ثم ذكر تحته إجماع المجامع الفقهية على حرمة فوائد البنوك، وذكر آراء أهل العلم في مدى قابلية الإجماع للنسخ، ثم أردف فقال- حفظه الله وأطال بقاءه: «وإذا طبقنا هذا على حالتنا هذه، واعتبرنا الإجماع هنا من النوع الاجتهادي، ولو تجاوزًا، فليس من حق فئة قليلة من الناس -أكثرهم غير متخصصين في الفقه ولم يخوضوا بحاره- أن تخالف هذا الإجماع برأي أحادي جديد؛ لأن الأضعف لا يلغي الأقوى، لابد أن تنعقد المجامع مرة أخرى للنظر في هذا الأمر إن كان قد جد فيه جديد» (فوائد البنوك هي الربا الحرام: 70).(1/58)
فهل لنا أن نستأذن شيخنا الجليل في استخدام نفس العبارة فنقول: إن الأضعف لا يلغي الأقوى، وإن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، والذي حضره مندوبون وممثلون عن خمس وثلاثين دولة، قد قرر بالإجماع أن الاقتراض بالربا محرم، وأنه لا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وأنه ليس من حق فئة قليلة من الناس -أكثرهم غير متخصصين في الفقه ولم يخوضوا بحاره - أن تخالف هذا الإجماع، فتقرر أن تحريم الاقتراض بالربا تحريم ذرائع، وأنه تحله الحاجات؛ لأن الأضعف لا يلغي الأقوى؟!
إن من حق فضيلته - وهو الفقيه المجدد - أن يتغير اجتهاده، ولكن هل من حقنا نحن أن نقف مع ما قرره الجمهور من قبل من أن الاقتراض بالربا لا يترفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة؟ وهل لنا أن نطالب مع فضيلته أن تنعقد المجامع مرة أخرى للنظر في هذا الأمر إن كان قد جدَّ فيه جديد؟!
والخلاصة أن ما قرره المؤتمران من أن الإقراض الربوي هو الذي يعد وحده من المحرمات الذاتية فلا تحله إلا الضرورات، أما الاقتراض الربوي فتحريمه سدًّا للذرائع فتحله الحاجات، مما يحتاج إلى مراجعة متأنية مع استصحاب جميع التداعيات التي أشير إليها سلفًا عند تطبيق هذه القاعدة في واقعنا المعاصر.
الوقفة الثانية:
أن النصوص الواردة في هذا المقام تسوي في اللعن بين آكل الربا وموكله، فقد لعن رسول الله × آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه (رواه مسلم)، وعند النسائي عن طريق آخر عن ابن مسعود قال: «آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد ×»، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأن الذين نزلت فيهم آيات التحريم كانت طعمتهم من الربا، وإلا فالوعيد كما في الحديث ينال هؤلاء وهؤلاء، ويعسر مع هذه النصوص القول بأن تحريم إيكال الربا تحريم ذرائع يباح لمجرد الحاجات.
المرتكز الرابع
عدم التكليف بإقامة أحكام الشرع
المدنية والمالية والسياسية خارج دار الإسلام(1/59)
لقد ذكر البيان الختامي الصادر عن المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث هذا المرتكز باعتباره وجهًا من وجوه الترجيح؛ لما ذهب إليه الأحناف من القول بأنه لا ربا في دار الحرب، وذلك عندما ذكر: «أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي، وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية».
وقد أشبعنا مذهب الأحناف في هذه المسألة مناقشة وتعقيبًا فيما سبق، وذكرنا أن البيان الصادر عن مؤتمر الرابطة بأمريكا تجاهل في بيانه الختامي الإشارة إلى مذهب الأحناف أو التعويل عليه في صناعة قراره، واكتفى بالإشارة إلى قاعدة تنزل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، وسواء أكان موقفه هذا سياسة حتى لا يساء فهم القرار عندما تطيره وكالات الأنباء، أو كان موقفًا فقهيًّا لما رآه من خطورة إشاعة مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة ووخيم عواقبه، فإن صياغة هذا المرتكز على هذا النحو يستوجب وقفات عديدة نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
أن في هذا التعميم من الخطورة والمجازفة ما لا تحمد عواقبه، فإن هذا يفتح الباب واسعًا أمام الجاليات الإسلامية للتفلت من جميع أحكام المعاملات المدنية والمالية والسياسية بدعوى أنها خارج حدود الوسع والطاقة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها! فلا يقف الأمر عند حدود الضرورات أو الحاجات؛ بل يصبح الأصل فيه هو الحل مادام قد خرج عن إطار التكليف والمطالبة.(1/60)
ما الذي يحمل التجار والصنّاع وسائر رجال الأعمال على اجتناب الربا في معاملاتهم - والربا كما قال بيان المؤتمر - جزء من الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي، وهو ليس مطالبًا بتغييرها ولا قادرًا عليه، ولا تلزمه إقامة الأحكام الشرعية المتعلقة بها؟
ما الذي يحمل المستثمرين في شتى القطاعات على التقيد بأحكام العقود في الشريعة مادامت قواعد هذه العقود وآلياتها جزءًا من فلسفة الدولة واتجاهها الاقتصادي، وهو ليس مطالبًا بتغييرها ولا تلزمه إقامة الأحكام الشرعية المتعلقة بها؟
ما الذي يحمل هذه الجاليات بعد صدور هذا البيان على الدخول في المعترك السياسي، وإقامة المؤسسات السياسية التي تتبنى الدفاع عن حقوقهم في المواطنة في الداخل، وتدعم قضايا الأمة وهمومها في الخارج، مادامت رسالة المؤتمر إليها أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه؟!
وبعد هذا ألا يمكن أن يقول قائل: إن هذا التوجه خطوة على طريق علمنة الجاليات الإسلامية بحيث تدع ما لقيصر لقيصر (المعاملات المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام)، وما لله لله (أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية)؟! فالأولى ليست مكلفة شرعًا بأن تقيم أحكام الشرع المتعلقة بها؛ لأنها ليست في وسعها لتعلقها بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي، والثانية فقط هي التي تطالب بإقامتها، فإن عجزت عنها وجبت عليها الهجرة!
استدراك واجب:(1/61)
ما سبق ذكره من المآلات واللوازم التي تترتب على التخريج السابق لا يعني بالضرورة أنه مذهب لمن قالوا بهذا القول أو خرَّجوا هذا التخريج؛ بل إن الواقع العملي يؤكد أن مذهبهم على النقيض من ذلك في جل ما ذكر، ومنهم من وقف حياته على إحياء الأمة، وتجديد الدين في حياتها، وحثها على الأخذ بالعزائم في دينها، وما هذه الصحوة الإسلامية المنبعثة في مشارق العالم ومغاربه إلا أثر من آثار جهادهم وجهاد أمثالهم من أهل العلم وحملة الشريعة، وثمرة من ثمار سعيهم الدائب وجهادهم المتواصل؛ بل ما عرف كثير من المتدينين خطورة العلمانية إلا من خلال دروس أمثالهم وكتاباتهم، ومن ثم فإن إيراد هذه اللوازم في هذا المقام من جنس ما يذكر لتنبيه المخالف على ضعف تخريجه أو خطورة قوله، وما قد يفضي إليه في الواقع من مآلات سيكون هو أول من ينكرها ويتبرأ منها، ولا يعني بالضرورة نسبة هذه اللوازم إليهم أو التشنيع عليهم بها، فقد اتفق أهل العلم بالشريعة على أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن من حاسب الناس على ما تئول إليه أقوالهم ونسبها إليهم فقد زل، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فأجاب بما يلي: «الصواب أن لازم المذهب ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه؛ بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال، ولو كان لازم المذهب مذهبًا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات إنه مجاز وليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة» (مجموع الفتاوي: 20/ 217).(1/62)
وظننا فيمن خرجوا هذا التخريج، وذهبوا بناء عليه إلى القول بالإباحة في هذا التخريج، وذهبوا عليه إلى القول بالإباحة في هذه النازلة، أنهم لا يقولون بهذه اللوازم ولا يلتزمونها؛ بل ينكرونها غاية الإنكار، فلا يكون ذكرها في هذا المقام إلا من قبيل الإلزام بضعف التخريج الذي أفضي إليها، وفساد القول الذي أنتجها، من غير أن تنسب إليهم أو أن تعتبر مذهبًا لهم، وأرجو أن يستصحب هذا المعنى في جميع ما يذكر في هذه الدراسة من لوازم أو مآلات تترتب على ما قال به من ذهب إلى هذا المذهب في هذه النازلة فتنبه!
الوقفة الثانية:(1/63)
أن هذا التعميم قد يقطع الطريق ويوهن العزم أمام محاولات الدعاة والمصلحين ممن يطالبون الجاليات الإسلامية بالسعي لإنشاء مؤسساتها المالية والسياسية لاستصلاح أحوالها والمحافظة على هويتها والاستقامة ما استطاعت على أحكام دينها. وإلا فما الذي يحمل الناس على التجاوب معهم مادامت هذه الدائرة ابتداء خارج إطار التكليف، وأن المسلم إنما يطالب فقط بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية؟! وعلام إذن دعوة المسلمين إلى المشاركة السياسية وإنشاء المؤسسات التي تتبنى ذلك وتدعو إليه؟ وعلام إذن دعوة المسلمين إلى استغلال مناخ الحرية المتاحة لإنشاء مؤسساتهم الاقتصادية التي تحافظ لهم على إطار إسلامي نظيف لاكتساب أموالهم وتثميرها؟ وما الفرق فيما يراه السادة أصحاب هذا القرار بين المطعوم والمشروب من ناحية، وبين المسكون من ناحية أخرى؟ لقد نظموا الجميع في سلك واحد عندما قرروا أن هذا من الضرورات الحيوية التي لابد من تحقيقها، ولو من خلال التعاملات الربوية، ثم فرقوا بينها هذه المرة، فاعتبروا أحكام المطعوم والمشروب واجبة التطبيق فوق كل أرض وتحت كل سماء، وجعلوا أحكام المسكون ليست واجبة التطبيق؛ لتعلقها كما قالوا بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي؟! وهل فات أحبابنا أن كثيرًا من أحكام المطعوم والمشروب مما يتعلق كذلك بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي؟ أليست إباحة الخمر ولحم الخنزير في هذه المجتمعات جزءًا من فلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي؟ فلم نفرق بين المتماثلين أو نجمع في صياغة القرار بين المختلفين؟! فإن قالوا لنا: نحن نقصد بالنسبة للمطعوم والمشروب أن يقيم حكم الإسلام فيما يخصه منها فيتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولا نطالبه بتغير(1/64)
أنظمة الدولة؛ إذ لا قبل له بذلك، قلنا: هلا قلتم ذلك في المسكون أيضًا وفرقتم بين ما يخصه منها؛ أي فيما يعتقده من عقود خاصة به وبين ما يتعلق بأنظمة الدولة وآليات التعامل فيها، فألزمتوه حكم الإسلام في الأولى ووسعتم عليه في الثانية؟
الوقفة الثالثة:
أن هذا خلاف المستقر فقهًا من أن المسلم مطالب بأن يجتنب النواهي وأن يأتي من الأوامر ما استطاع: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطتعم»؛ بل خلاف ما درج عليه جل القائلين بهذا القول في حياتهم العملية، وفيما قدموه إلى الأمة من آثار علمية، ولا تزال صحائف جهاد كثيرين منهم شاهدة بذلك، لقد ظلت كتابات صاحب الفضيلة الدكتور القرضاوي مثلاً، وكلماته تشحذ الهمم والعزائم، وتربي الأمة على التماسك والمحافظة على الهوية، والسعي ما وسعها الجهد في المحافظة على ما بقي من الدين، وفي تجديد ما بلي واندثر من رسومه وأعلامه، لم يقل للأمة قط ما قاله لها بعض المنهزمين: «ليس في الإمكان أبدع مما كان، اقتصروا على العبادات وقضايا الأسرة، وألقوا السلم لكل نظام وكل ذي سلطان لتريحوا وتستريحوا»، ولو فعل ذلك لحقنت- فيما يراه البشر- دماء كثيرة، ووفرت جهود كثيرة. ولكن صدى كلماته، وكلمات أمثاله من الدعاة الهداة لا يزال يدوي في أعماق الأمة ينبه غافلها، ويوقظ نائمها، ويبعث فيها روح الإصرار والمقاومة، وكان لهم أبلغ الأثر في إفاقة الأمة، وفي انبعاث صحوتها، وفيما شيد على أرضها من مؤسسات إسلامية اقتصادية وغير اقتصادية، وما كتب هذه السطور وآلاف أمثاله إلا حسنة من حسنات أمثالهم وقبس من أنوارهم!(1/65)
- فإن قال لنا قائل: إن المؤتمر يقصر هذا التوجيه على المقيمين خارج دار الإسلام، قلنا: إن القضية كما يبدو من التعليل قضية وسع وإطاقة وليست قضية نطاق مكاني أو زماني، وإلا فإن المسلم مطالب بأن يتقي الله حيثما كان فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولا فرق من حيث التكليف ابتداء من أحكام المطعوم وأحكام المسكون ولا بين أحكام الدين وأحكام الدولة؛ بل كل ذلك شرع ودين واجب الاتباع على كل من قدر على ذلك وأطاقه. ولا أظن أنه يخفى على كثير ممن قال بهذا القول أن مساحة الحرية المتاحة على الصعيدين الأوربي والأمريكي أكثر بكثير مما هو متاح منها في بلاد المسلمين، وأن أصحاب البصيرة يستطيعون في هذه المجتمعات أن يحققوا على المستوى المؤسسي كثيرًا مما عجزوا عن تحقيقه في بلاد المسلمين.
الوقفة الرابعة:(1/66)
أن كثيرًا من أحكام الأحوال الشخصية ليس بوسع المسلم إقامتها خارج دار الإسلام فلا يستطيع أن يستعلن بزواجه بثانية، ولا يستطيع أن يمارس على زوجه حق التأديب، ولا يستطيع أن يلزمها بصلاة ولا حجاب ولا غير ذلك من شرائع الدين، ولا يستطيع أن يمارس حقه في طلاقها متى شاء إلا من خلال أنظمة القوم وأمام محاكمهم، فالطلاق عندهم من اختصاص القضاء وليس من اختصاص الأزواج، ولابد أن يكون مسبوقًا بفترة من الانفصال الجسدي، وهو عندهم لا يعترف برجعة ولا عدة، ولا يستطيع أن يحفظ ماله منها عند الطلاق، فهي مستحقة لنصف أمواله في هذه الحالة، على خلاف ما تقضي به الشريعة، ولا يستطيع أن يمارس على ولده حق التأديب، فلو اكتشف أنه نال منه، ولو بسواك، فله الويل مما يتعرض له من نتائج لعل من أبسطها أن يصادر عليه حقه في كفالته، وأن يودع في كفالة أسر بديلة تنشئه على الكفر بالله ورسله، ولا يستطيع أن يمنع ابنته من اتخاذ خليل لها إذا بلغت سن الثامنة عشرة، فإن فعل فالسجن له بالمرصاد، وعلى النقيض من ذلك فإن كثيرًا من الأحكام المالية يتسنى له إقامتها في هذه البلاد فيستطيع أن ينشىء من شركات الاستثمار ما شاء، وأن يضع لها من أنظمة التعامل ما شاء، ويستطيع أن ينشىء بنكًا أو ما يسمى (Credit Union) ويضع له من الضوابط ما شاء، لا يرد عليه في ذلك إلا ما يرد على سائر المؤسسات الاقتصادية من أخطار المنافسة وتلك سبيل ليس فيها بأوحد.
فالقضية في هذه المجتمعات ليست قضية مسائل أحوال شخصية متاحة ومسائل مالية أو مدنية غير متاحة؛ بل من كل ذلك ما هو متاح وما هو غير متاح، فيصبح الأصل في هذا كله هو قاعدة الوسع والإطاقة، فيقيم من جميع الأحكام ما أطاق إقامته سواء أكانت أحكامًا أسرية أو مدنية أو مالية أو سياسية، وما لا طاقة له به اجتهد في تلاشي الوقوع تحت طائلته ابتداء ما استطاع، وما عجز عنه من كل ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
المرتكز الخامس(1/67)
المصالح الراجحة التي تترتب
على التملك الربوي للبيوت
ويتلخص هذا المرتكز فيما أشار إليه البيان الختامي للمجلس الأوربي من القول بأن إباحة تملك البيوت على هذا النحو، يحقق الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام من المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية، وتحسين أحوالهم المعيشية، والتحرر من الضغوط الاقتصادية عليهم؛ ليقوموا بواجب الدعوة، ويساهموا في بناء المجتمع العام، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين.
ولنا على هذا المرتكز عدة وقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
وهي حول الخلط بين مفهوم المصلحة في إطاره الشرعي وبين مفهومها في الإطار الوضعي البحت، في صياغة هذا الترخص وترتيب آثاره.
إن المصلحة في اللغة ضد المفسدة، فالمصلحة كالمنفعة لفظًا ومعنى، والصلاح ضد الفساد، أما في اصطلاح الأصوليين فهي: المحافظة على مقصود الشارع بتحقيق مصالح الخلق ودفع المفاسد عنهم، وقد اتفق أهل العلم على أن مقاصد الشارع من الخلق خمسة: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال. كما اتفقوا كذلك في هذا المقام على جملة من الأمور نوجزها فيما يلي:(1/68)
أن مرد المصلحة إلى هداية الشارع وليس إلى أهواء البشر أو عقولهم المجردة، فلا يستطيع العقل البشري أن يستقل وحده بدرك المصالح بعيدًا عن هداية الشرع؛ بل لابد له من ولاية أو وصاية، ووليه ووصيه الوحي المعصوم قرآنًا وسنة، وقد قال تعالى: ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ? [القصص: 50]، فالمصلحة المعتبرة عند حملة الشريعة هي ما كان مردها إلى قصد الشارع لا إلى القصد المجرد للمكلف، فقد جاءت الشريعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لمولاه: ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ? [المؤمنون: 71]. قال الغزالي في المستصفى: «إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة؛ وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة» (المستصفي: 1/ 287).
أن المصلحة والمفسدة في الشريعة ليست محدودة بالدنيا وحدها كما يرى ذلك النفعيون؛ بل تمتد لتشمل اعتبار الدنيا والآخرة معًا زمانًا ومكانًا لجني ثمار الأفعال، فالأعمال الصالحة تنتج لأصحابها ثمارًا نافعة إما في العاجل أو الآجل، فمن هذه الثمرات ما يجني في الدنيا ومنه ما يرجأ إلى الآخرة.
أن المصلحة لا تنحصر في اللذة المادية وحدها كما هو الشأن عند الماديين؛ بل تمتد لتشمل اللذة الروحية والسعادة الأخروية كذلك.
أن مصلحة الدين أساس لبقية المصالح ومقدمة عليها جميعًا عند التعارض، ومن أجل ذلك شرع الجهاد، وفيه ما فيه من التغرير بالنفوس وإزهاق الأرواح، إعلاء لمقصد حفظ الدين، وتقديمًا له على ما سواه.(1/69)
وهذه الخواص جميعًا تقتضي أن يكون الصلاح والفساد في الأفعال أثرًا لأحكام الشارع التكليفية من الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، وإلا لما صح أن تكون هذه المصالح فرعًا عن الدين.
وعلى هذا فالخبرات العادية البحتة والموازين العقلية والتجريبية المحضة ليس لها أن تستقل بفهم مصالح العباد بل لابد من هداية من الشرع تضبط ذلك كله وتقود مساره، فلا يجوز مثلاً الاعتماد على ما قد يروج له بعض الاقتصاديين من تسويغ التعامل بالربا لتنشيط الحركة التجارية والتنمية الاقتصادية في البلاد، أو ما يروج له بعض علماء الاجتماع من إباحة الدعارة خوفًا من انتشار البغاء السري، أو بعض علماء النفس والتربية من إباحة الاختلاط بين الجنسين في مرافق المجتمع تخفيفًا من شره الميل الجنسي في مرحلة الشباب، أو بعض الأطباء من أن لحم الخنزير ليس بمستخبث، أو أن إتيان المرأة في المحيض ليس بضار، أو بعض القانونيين من الدعوة إلى إلغاء الحدود والقصاص بدعوى ما تتضمنه من همجية وبربرية، أو بدعوى أن الجناة مرضى يتعين علاجهم بدلاً من كونهم مجرمين يتعين تأديبهم أو استئصالهم!(1/70)
ولا يعني هذا بالضرورة حرمان العقل من التفكير والتدبر؛ بل إن الشريعة قد فرضت ذلك عليه شريطة الاهتداء بنور الله عز وجل: "وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ" [النور: 40]، فالعقل كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- «شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل لكنه ليس مستقلاً بذلك؛ لأنه غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عُزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة، فالأحوال الحاصلة مع عدم النقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه لم تأتِ بما يعلم العقل امتناعه»، فعلاقة العقل بالنقل كعلاقة نور العين بنور الشمس لا غنى للإنسان عن كليهما في الإبصار والإدراك.
وعلى هذا فمهما ذكرت أوراق المؤتمرين من مصالح ومنافع تترتب على الاقتراض الربوي لتملك بيوت سكنية لغير المضطرين، يجب أن يفهم في ضوء المقررات السابقة، وأنه لا حرمة لمصلحة أهدرتها الشريعة إذا وقعت في مقابلة نصوص قاطعة الدلالة على التحريم.
فلقد اتفق أهل العلم قاطبة - كما سبق - على أنه يشترط لقبول المصالح المرسلة أن لا تكون معارضة للنصوص، وإلا كانت ملغاة، وكانت محض الهوى والتشهي، وهل أرسل الرسل وأنزلت الكتب إلا لقطع الناس عن الاسترسال مع الهوى، وإخراجهم عما يتوهمونه بأهوائهم منافع ومصالح إلى داعية الهدى، حتى يكونوا عبيدًا لمولاهم بدلاً من أن يكونوا عبيدًا لأهوائهم؟!
الوقفة الثانية:(1/71)
أن ما ذكر المؤتمرون من منافع ومزايا لتملك المساكن من خلال القروض الربوية لا تعدو أن تكون مصالح في مقابلة نصوص وأدلة صريحة وصحيحة وقاطعة، وهذه النصوص والأدلة هي ما جاء في تحريم ربا النسيئة من صريح القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة وصريحها، وما انعقد عليه إجماع الأمة من تحريم ذلك على مدار القرون. وقد اتفق أهل العلم بالشريعة على أن المصلحة التي تقع في مقابلة نص تكون مصلحة ملغاة لا اعتبار لها، فالنصوص هي مقر المصالح ومستودعها، ولو صح تحكيم المصلحة في النصوص لفتح الباب على مصراعيه لخلع الربقة وإخراج المكلف من داعية الهدى إلى داعية الهوى، ولصح على سبيل المثال ما سبق أن أشرنا إليه آنفًا مما يذكره الاقتصاديون من ضرورة الربا لتسيير الاستثمارات المعاصرة، وما يذكره العلمانيون من ضرورة الخمور والإباحية لتنشيط السياحة، وما يذكره الاجتماعيون من ضرورة الترخيص بالدعارة لمحاربة البغاء السري؛ بل وما قاله العرب قديمًا من ضرورة وأد البنات سترًا للعورات، ودفعًا للعار الذي يترتب على الأسر. وفساد ذلك ظاهر!
الوقفة الثالثة:(1/72)
أن كثيرًا مما ذكر من المصالح قد يكون مبالغًا فيه من الناحية العملية، وأخشى أن تكون صورة وردية رسمها المستفتون أمام أهل الفتوى ليستنطقوهم بما يريدون وقديمًا قالوا: إن المفتي أسير المستفتي. وعلى سبيل المثال: ما ذكر من أن المسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم هو موضع نظر، ويكاد ينحصر الفرق بين الاستئجار والتملك فيما يتاح من مرونة بالنسبة لعدد أفراد الأسرة، فإن ما يتاح منها بالنسبة المسكن المملوك أعلى منها بالنسبة للمنزل المستأجر؛ ولهذا فإن الأمر يختلف باختلاف عدد أفراد أسرة المستأجر كثرة وقلة، فإن كانت الأسرة محدودة العدد فالإيجار يفي بحاجتهم بلا نزاع، أما إن كثرت كثرة تجاوزت العدد المسموح به حسب أنظمة المساكن في هذه البلاد فهنا يبدأ الحرج النسبي ويتسنى النظر في البدائل، أما بقية الاعتبارات فالمسكن المملوك والمستأجر فيها سواء، فاختيار المسكن قريبًا من المسجد أو المدرسة لا علاقة له باستئجار أو تملك فالمساكن المعدة للإيجار مبثوثة في كل مكان، وليست بأقل من حيث الوفرة من المساكن المعدة للتملك، فافتراض توافر مساكن التمليك بجوار المدارس والمراكز الإسلامية وندرة أو انعدام المساكن المعدة للإيجار توهم قائم على غير أساس، وما ذكر من إمكانية التقارب وإنشاء مجتمع إسلامي صغير داخل المجتمع الكبير متاح كذلك فيما يستأجر وفيما يتملك، وليس أحد السبيلين في ذلك بأحظى من الآخر، أما تحسين الأحوال المعيشية ورفع مستوى العيش فلا يظهر الفارق بين الاستئجار والتملك إلا بعد قرابة ربع قرن من الزمان بعد أن يصبح المسكن سلمًا لصاحبه بتأديته لجميع أقساطه، ولا يظهر للباحث وجه صلة قوية بين تملك مسكن وبين أهلية الانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس على النحو الذي جاء في البيان الختامي للمجلس الأوربي!(1/73)
وقد حددت عناصر هذه الخيرية نصًّا في كتاب الله- عز وجل- في قوله تعالى: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? [آل عمران: 110]؛ بل لو قال قائل: إن الأمر على النقيض من ذلك وإن أهلية الانتماء إلى هذه الأمة إنما تكون بالبعد عما حرمه ربها عليها من الربا الجلي وبالتواصي بذلك، والأخذ على يد المخالف، لكان أقرب إلى الآية نصًّا وروحًا.(1/74)
أما الشعور بالأمان الذي يوفره البيت المملوك فهو موضع نظر كذلك، فإن قصد به الأمان من السرقة فإن الاعتداءات لا تفرق في العادة بين بيت مملوك وآخر مستأجر؛ بل ربما كان تطلع اللصوص إلى البيوت المملوكة أكثر لليسار المادي الذي يتوقع أن يكون فيه أصحابها، أما إن قصد به احتمال الطرد من المسكن عند العجز عن دفع المبلغ الشهري فالبيت المملوك والمستأجر في ذلك سواء، فإن صاحب البيت المملوك من خلال القروض الربوية يكون أسيرًا للبنك طوال هذه الفترة، ويستطيع البنك أن يتخذ من الإجراءات ما يضمن به استيفاء حقه ما يشاء، فكما يستطيع المؤجر أن يطرد المستأجر عند الإعسار والتخلف عن الوفاء بالإيجار يستطيع البنك أن يطرد المالك أيضًا عند الإعسار والتخلف عن الوفاء بالأقساط، وذلك من خلال عرض المنزل بالمزاد لكي يحصل على كامل حقوقه، ولا يبالي أن يبيع المنزل بثمن بخس، والويل للمنهزم! بل إن الإحصائيات التي أجرتها بعض البنوك الربوية تؤكد أن متوسط إقامة المشتري في البيت الذي يشتريه لا يتجاوز سبع سنوات، ثم يضطر لبيعه ودفع ثمنه نقدًا للبنك المقرض والبحث عن بيت آخر في منطقة أخرى لشرائه، ومرد ذلك إلى أسباب عديدة منها: تغير ظروف العمل أو الحاجة إلى الانتقال إلى ولاية أخرى أو غير ذلك من الأسباب، مع ما يعنيه ذلك من عرض البيت للبيع وتحمل الخسارة التي تكون مرتفعة في الغالب؛ لأن جل المبالغ المسددة يوجه في الأيام الأولى إلى سداد الفوائد، ولا توجه منها نسبة تذكر إلى سداد أصل الدين.
أما إن كان المقصود بالأمان هو الأمان الاقتصادي الذي يوفره الشعور بالتملك فقد يكون ذلك صحيحًا إلى حد ما، ولكن هل هذه هي الحاجة التي تبرر الترخص في أمر أجمعت الأمة على تحريمه؟! وهل هذا هو مقياس الحاجات التي تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات؟!
المرتكز السادس
تجنب أن يكون التزام المسلم بالإسلام
سببًا لضعفه اقتصاديًّا وخسارته ماليًّا(1/75)
وخلاصة القول في هذا المرتكز ما يؤدي إليه عدم التعامل بهذه العقود الفاسدة - ومنها الربا في دار الحرب - إلى أن يكون التزام المسلم بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًّا وخسارته ماليًّا، والأصل أن الإسلام يقوِّي المسلم ولا يضعفه ويزيده ولا ينقصه وينفعه ولا يضره.
ولنا على هذا المرتكز وقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى:
أن الأصل في المسلم أن يتقي الله حيثما كان بتحليل حلاله وتحريم حرامه، وأن يمتلئ قلبه يقينًا أن من ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه، وأن لا يكون ممن يعبدون الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة!
الوقفة الثانية:(1/76)
أن تاريخ الإسلام حافل بالتضحيات التي تحملها المسلمون الأوائل إيمانًا واحتسابًا فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فمنهم من ضحَّى بماله، ومنهم من ضحَّى بمكانته الاجتماعية بين قومه، ومنهم من ضحَّى بنفسه وجاد بدمه، ودائمًا كان الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، ولم يستشعر أحد منهم الغبن، ولم يشتكِ أحد منهم أن الإسلام قد أضعف قوته أو أنقص ماله! فالقول بأن الإسلام يزيد المسلم ولا ينقصه ويقويه ولا يضعفه، قول صحيح على أن يتسع مفهوم القوة والزيادة ليشمل الجانبين المادي والمعنوي، ويمتد نطاقهما ليشمل الدنيا والآخرة معًا، إن صهيبًا الرومي لما تخلى عن ماله كله في سبيل الله تعالى، لم ينقصه الإسلام بل زاده بما يدخر له من النعيم المقيم والدرجات العلا في الآخرة، وإن مصعب بن عمير- وكان أرغد فتى في مكة- لما مات شهيدًا لم يجدوا له كفنًا يستر جسده؛ بل وجدوا ثوبًا قصيرًا إذا غطوا به رأسه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه ظهرَ رأسه، ولم ينقصه الإسلام بذلك؛ بل زاده علاء ورفعة بما ينتظره من نعيم الأبد في الآخرة. ونفس القول ينطبق على كل الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله! وإن من يتخلى عن المحرمات في كل زمان ومكان فينحسر بذلك ماله أو يضعف نماؤه لا يقال عنه إن الإسلام قد أنقصه وأضعفه؛ بل قد زاده زكاة وإيمانًا وطهرًا، كما أن الزكوات والصدقات لا تنقص مال أصحابها كما هو معلوم؛ بل تزيده طهرًا ونقاء وبركة، وقد أقسم النبي × على هذا المعنى عندما قال: «ما نقص مال قط من صدقة» (صحيح الجامع الصغير: ج1، حديث رقم 3025).
الوقفة الثالثة:(1/77)
أن هذا المنطق قد يحتج به كل من تورط في الحرام، ويدفع به في وجه من يوجهونه إلى التوبة، ويستحثونه على التجافي عن المحرمات، سيقول لنا التاجر الذي يعتمد في تجارته على القروض الربوية: إن الإسلام يزيد المسلم ولا ينقصه، ويقويه ولا يضعفه، فكيف أتخلى عن تعاملاتي الربوية وتسعة أعشار تجارتي قائم على ذلك؟! وسيقول لنا من يتاجر في المحرمات بدوره: إن الإسلام يزيد المسلم ولا ينقصه ويقويه ولا يضعفه، فكيف أتخلى عن مشروعاتي التي ألفتها وتراكمت خبراتي فيها مع ما يعينه ذلك بالنسبة لي من الانهيار والشلل الاقتصادي؟ وسيقول لنا الكاهن والعرَّاف والساحر وسائر الدجَّالين نفس القول، وقد توجس بعض الناس في زمن النبوة من تحريم قربان المشركين للمسجد الحرام لما يجره ذلك - فيما يراه البشر - من بوار تجارتهم وكساد سلعهم فأنزل الله تعالى قوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ? [التوبة: 28]، وعندما جاء أحد المصورين إلى ابن عباس وقال له: إني إنسان، إنما أعيش من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله × سمعته يقول: «من صوَّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا»، فأصابه من الذعر والخوف ما أصابه واصفرَّ وجهه من هول هذا الوعيد! فقال له ابن عباس: «إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر: كل شيء ليس فيه روح» (رواه البخاري، فتح الباري: 4/ 525)، فأرشده إلى البديل المشروع، ولم يجعل من مجرد حاجته إلى التكسب من مهنته مبررًا له للاستمرار فيما تحرمه منها الشريعة.
لا علاقة لهذه الدراسة بما اعتبر من قبيل التجاوزات الإجرائية:(1/78)
بقيت كلمة أخيرة: وهي أنه لا علاقة لهذه الدراسة بما اعتبر من قبيل التجاوزات الإجرائية التي تعلقت بسير العمل داخل أروقة مؤتمر رابطة علماء الشريعة، فإن الخطأ فيما كان من هذا القبيل ليس فيه ما يعد من قبيل المحكم الذي لا يختلف فيه أو يختلف عليه؛ بل هو حمال ذو وجوه، وللنظر فيه مسارح ومنادح، وللاجتهاد فيه مساغ ومتسع، ويمكن تخريجه وتوجيهه بوجه أو بآخر، وإن كان لابد فيه من نصيحة فبالرفق والكلمة الهادئة، بعيدًا عن الانفعال والتوتر.
ومن ثم فلا شأن لهذه الدراسة بما أثير من أن طريقة انتخاب رئيس المؤتمر ونائبه والمقرر ونائبه لم تكن ديمقراطية (!)، وأنها كانت أشبه بطريقة الانتخابات في البلاد المتخلفة أو الدكتاتورية، فهذا - إن صح - قد يكون له عند من قام به توجيه أو اجتهاد سائغ، هذا مع تحفظنا على استخدام تعبير الديمقراطية لما يحمله من ظلال علمانية، وإن كان مقصود المتكلم به في هذا المقام واضحًا لا لبس فيه، وأحسب أن البعد عن مثل هذه العبارات الموهمة أو المستفزة أولى بأهل العلم، وأليق بحملة الشريعة.
ولا شأن لهذه الدراسة بما أثير من أنه لم تشكل لجنة علمية متخصصة لدراسة كل بند من البنود المطروحة، وإنما نوقشت القضايا المطروحة بشكل جماهيري عام يعطي لكل شخص ثلاث دقائق ليعلق على الموضوع المقترح، فقد يكون لهذا الموضع - إن صح حدوثه - ما يسوغه في خصوص هذا الاجتماع، وإن كان الأحرى والأولى بصفة عامة ألا تعامل قضايا الحلال والحرام بهذه الطريقة، وأن لا يتعجل في مثلها هذه العجلة، مهما بدا للقائمين على الأمر أن اجتهادهم أرجح وأن نظرتهم أسد، ونؤكد أنه ينبغي ألا يضن على قضايا الحلال والحرام بوقت ولا جهد، وأن يتبع فيها ما تعارفت عليه المجامع الفقهية من الآليات والطرائق المعتمدة فإن هذا - فيما نعتقد - أقرب إلى السداد وأولى بالاتباع.(1/79)
ولا شأن لهذه الدراسة بما أثير من أنه لم يدع كل المشاركين في المؤتمر للنظر في القرارات والتوصيات المتخذة، وإنما دعت رئاسة المؤتمر من شاءت، واستبعدت من شاءت، فجرى التصويت على هذا الأمر وبقية الأمور الفقهية خلال جلسة خاصة اختير أعضاؤها من قبل إدارة المؤتمر، وكان ذلك في فترة متأخرة من مساء يوم الأحد، وقد غاب عنها عدد ممن ناقش الموضوع من العلماء يوم السبت، فضاعت أصواتهم، وأيًّا كان الأمر فإن المأمول؛ بل المطلوب في مثل هذه المؤتمرات أن تتاح لأهل العلم ممن دعوا إلى المشاركة، فرصة متكافئة للمشاركة في التصويت، وأن ترتب جداول المؤتمر بما يتناسب مع ظروفهم وارتباطاتهم؛ قطعًا للطريق على مثل هذه الظنون، وضربًا للمثل في التجرد والموضوعية، ولكونها مما تتعلق بقضايا الحلال والحرام في أمور جوهرية تمس صميم حياة الملايين من المقيمين في الغرب، وذات أثر كبير على حاضر هؤلاء ومستقبلهم.
ولا شأن لهذه الدراسة بما أثير من أن القرارات والتوصيات لم تقرأ على المشاركين في المؤتمر لإقرارها أو تعديلها، خلافًا لما يجري عليه العمل في سائر المؤتمرات؛ بل وخلافًا لما هو مذكور في جدول أعمال المؤتمر في يومه الرابع، الذي ينص على قراءة القرارات والتوصيات على المشاركين، وكاتب هذه الكلمات لا يعلم على التحقيق ما الذي حمل إدارة المؤتمر على ذلك إن صح حدوثه على هذا النحو! فقد يكون لديهم من الملابسات والأعذار ما يشفع لهم، ولكنه يؤكد على ضرورة مثل هذه القراءة النهائية، وأنها هي التي يتأكد بعدها نسبة الأقوال إلى أصحابها، ونسبة البيان الختامي إلى المؤتمر، ويقطع من خلالها الطريق على الوساوس والهواجس.(1/80)
ولا شأن لهذه الدراسة بما أثير من إصرار لجنة المؤتمر على عدم ذكر المعارضين لما تبناه من قرارات وتوصيات حول هذا الموضوع، وتغييب أسمائهم، والاكتفاء بأن المؤتمر قد قرر بأكثرية أعضائه كذا وكذا، ولم يكن هؤلاء المعارضون مجرد طلبة علم متميزين؛ بل كان منهم على سبيل المثال صاحب الفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الكويت، الذي ذكر أنه قال وهو يبكي: «لنا موقف معكم أمام الله يوم القيامة إذا لم تفعلوا هذا!»، والأستاذ الدكتور عتيق القاسمي أستاذ الفقه بالهند، وعضو مجمع الفقه الإسلامي بالهند، الذي ذكر أنه قال للمؤتمر: «نحن أحناف، ونعيش بين الهندوس الوثنيين، ولا نأخذ بكلام أبي حنيفة في هذه المسألة ولا نفتي به»، ومنهم كذلك أصحاب الفضيلة: الأستاذ الدكتور محمود الطحان أستاذ الحديث بكلية الشريعة بجامعة الكويت، والأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، والأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجار أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية، والأستاذ الدكتور على الصوا أستاذ الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية، لم يكونوا إذن من غمار الناس ولا من صغار طلبة العلم، وقد طلبوا بإلحاح ذكر أسمائهم في قائمة المعارضين لهذا القرار، وبعد معارضة في البداية، وتحت ضغط إلحاحهم وإصرارهم الشديد وافق على طلبهم، ووعدوا بتلبيته، ولكن هذا الوعد لم يُكتَب له التحقيق، وخلا البيان الختامي من الإشارة إلى أسمائهم، وهو ما حدا ببعض الناس إلى القول بأن إدارة المؤتمر إنما تمارس بهذا المسلك لونًا من ألوان القهر والمصادرة للآخرين، وهو الأمر الذي تجرع الإسلاميون مرارته زهاء نصف قرن أو يزيد، وملأوا الدنيا تنديدًا به وتهييجًا على أصحابه، وحمل بعضهم على الهجرة من بلاده ومفارقتها غير مأسوف عليها! فما بالهم اليوم وقد مكن لهم في بعض المواقع يقومون بنفس الدور،(1/81)
ويمارسون نفس الخطيئة، ويجرعون مخالفيهم بنفس الكأس؟! ولا أدري مرة أخرى - إن صحت هذه المقولة - ما الذي حمل أحبابنا في إدارة المؤتمر الموقرة على ذلك؟ وما الذي قام في ذهنهم من اجتهادات تسوغ هذا الأمر أو تفسره؟ ولكننا نؤكد بالقطع أن حق إثبات المخالفة العلمية والإشارة إلى أصحابها مكفول لكل من دعي إلى المشاركة في المؤتمر، ويتأكد إذا طالب به صاحبه وأصر عليه، اللهم إلا إذا حملت على خلاف ذلك ضرورة ملجئة.
ولا شأن لهذه الدراسة بما أثير من أن الأكثرية التي شاركت في صناعة هذا القرار لم تكن من العلماء وحملة الشريعة؛ بل كان فيهم الاقتصاديون والتربويون الذي لابد أن تكون أصواتهم وفقًا لآليات التصويت موازية لصوت صاحب الفضيلة الدكتور القرضاوي، أو صاحب الفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي، أو عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر! وأن أهل الفتوى والتخصص الذين يصح أن ينسب إليهم هذا القرار في الحقيقة هم الدكتور القرضاوي والدكتور عبد الستار أبو غدة، وأما أغلب الموافقين بعد ذلك فهم تبع لهم، وأن ذلك كان في مواجهة المخالفين من أهل الفتوى والتخصص وهم كثير، وقد أشرنا إلى بعضهم قبل قليل، وأنه إذا كانت الكثرة الكاثرة ممن شارك في التصويت تعد من طلبة العلم من أئمة المساجد في هذا البلد، فهم لا يقدمون أنفسهم على أنهم أهل الاختصاص والفتوى إلا على سبيل الضرورة إذا غاب من هو أهل لذلك، ولديهم من الورع والديانة ما يكفي للإقرار بذلك!(1/82)
ولا شأن لهذه الدراسة بما ذكر في بعض التغطيات الإعلامية من أن الأكثرية المدعاة كانت بفارق ثلاثة أصوات، في واقع كانت فيه رئاسة المؤتمر هي صاحبة القرار في الإقصاء والمنع، وفي توجيهها لمسار المؤتمر وفق ما انتهت إليه سلفًا من اجتهاد في هذه النازلة، وقد علم الجميع أن تبنيها لفتوى الإجازة قد فرغ منه، وقد شهد بذلك البيان الختامي الصادر عن المجلس الأوربي في نفس الموضوع قبل هذا المؤتمر بقليل، والذي لم يكن بينه وبين بيان مؤتمر رابطة علماء الشريعة أكثر من ثلاثة أسابيع.
لا شأن لهذه الدراسة بجميع ما سبق؛ لأنها أرادت أن تتمحض تعقيبًا علميًّا بحتًا حول المرتكزات الفقهية لهذا القرار تاركة هذه المسائل - على ما في بعضها إن صح وقوعه من خطورة بالغة - إلى توقيت آخر ينجلي فيه الأفق، وتنقشع فيه هذه الغاشية، وتكون النفوس معه أكثر تهيأ لاستقبال التناصح حول هذه التفصيلات والدقائق، وعسى أن يكون ذلك قريبًا بإذن الله.
خلاصة
بما انتهت إليه الدراسة
والذي نخلص إليه من هذا كله ما يلي:
أولاً: التأكيد على ما أكدت عليه الأدلة الشرعية القاطعة من حرمة الربا بنوعيه فضلاً ونسيئة، وأن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وهو ما قررته جميع المجاميع الفقهية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
ثانيًا: التأكيد على أن الأصل أن الربا لا تحله إلا الضرورات، شأنه شأن سائر المحرمات القطعية في الشريعة، وعلى من تلبس بحالة من حالات الضرورة أن يلجأ إلى من يثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى في تقدير ضرورته.
ثالثًا: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة في إباحة المحظور متى توافرت شرائط تطبيقها، وتتمثل هذه الشروط فيما يلي:
تحقق الحاجة بمفهومها الشرعي وهو دفع الضرار، والضعف الذي يصد عن التصرف والتقلب في أمور المعاش، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم، وليس مجرد التشوف إلى الشيء، أو مجرد الرغبة في الانتفاع والترفه والتنعم.(1/83)
انعدام البدائل المشروعة، وذلك بأن يعم الحرام، وتنحسم الطرق إلى الحلال، وإلا تعين احتمال الكل في كسب ما يحل، ومن بين هذه البدائل الاستئجار متى تحققت به الحاجة.
الاكتفاء بمقدار الحاجة وتحريم ما يتعلق بالترفه والتنعم، أو محض التوسع.
انعدام القدرة على التحول إلى مواضع أخرى يتسنى فيه الحصول على البديل المشروع.
رابعًا: وبناء على ما سبق فإن الأصل في العاجز عن تملك مسكن بطريق مشروع لا ربا فيه ولا ريبة أن يقنع بالاستئجار، ففيه مندوحة عن الوقوع فيما حرمه الله ورسوله من الربا.
خامسًا: إذا مثل الاستئجار حرجًا ومشقة ظاهرة بالنسبة لبعض الناس، لاعتبارات تتعلق بعدد أفراد الأسرة، أو لغير ذلك، جاز لهم الترخص في تملك مسكن بهذا الطريق في ضوء الضوابط السابقة، بعد الرجوع إلى أهل العلم لتحديد مقدار هذه الحاجة، ومدى توافر شرائطها الشرعية؛ وذلك للتحقق من مدى صلاحيتها لأن تنزل منزلة الضرورة في إباحة هذا المحظور، وقد أظهرت التجربة أن اشتراط عدد معين في أغلب الأحوال أمر نظري محض، لا يهتم ملاك البيوت بالتقيد به، وإن كانوا يذكرونه للمستأجر احترامًا للقانون.
سادسًا: التأكيد على ما أكد عليه البيان الختامي لكل من مؤتمري رابطة علماء الشريعة بأمريكا والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث من ضرورة العمل على توفير البدائل الإسلامية لمشكلة تمويل المساكن: إما من خلال إنشاء مؤسسات إسلامية وهو الأولى والأرضى للرب- جل وعلا- والأنفع لدينه ولعباده، أو من خلال إقناع البنوك الغربية بالتعديل في عقودها في تعاملها مع الجاليات الإسلامية بما يتفق مع مقررات الشريعة الإسلامية إلى أن يتوافر البديل الإسلامي المنشود، وهو أمر ميسور في هذه المجتمعات، ولو أن ما بذل من الجهود في إقامة مثل هذا المؤتمر الذي تبنى حل هذه المعاملة قد بذل في إقناع البنوك الربوية بتبني النموذج المنشود لامتهد سبيل لحل هذه المشكلة ولو بصورة مبدئية!(1/84)
سابعًا: مناشدة القادرين في العالم الإسلامي أن يتبنوا مشروعًا استثماريًّا يجمع الله لهم فيه بين الكسب في الدنيا وبين الأجر في الآخرة، لتوفير مساكن الراغبين في ذلك من المسلمين المقيمين في المجتمعات الغربية، وذلك من خلال الصيغ الشرعية المعروفة مشاركة أو مرابحة أو استصناعًا أو تأجيرًا منتهيًا بالتمليك أو نحوه، وأن لا يغالوا في تقدير أرباحهم، حتى لا يكونوا فتنة تصد الناس عن التعامل ابتداء مع المؤسسات الإسلامية، وتحملهم على إساءة الظن بالتطبيق الإسلامي كلما دعي إليه أو لاحت بوادره.
خاتمة
وبعد: فقد كانت هذه هي أهم ملاحظاتنا وتعقيباتنا على هذين البيانين، وأوردناها على عجل، ولم نوفها حقها من الاستقصاء كما يجب، نضعها بين أيدي أحبابنا ممن أصدروا هذه البيانات، آملين أن تقع في نفوسهم موقع القبول، وأن يجدوا متسعًا في أوقاتهم الثمينة للنظر فيها، والاستفادة من بعض ما جاء بها، وهي في النهاية مبلغنا من العلم. فإن كانت صوابًا فمن الله ، ولله وحده الفضل والمنة، وإن كانت خطأ فمني أو من الشيطان، وأنا راجع عن الخطأ في حياتي وبعد مماتي، وإني لأتمثل عند فراغي من كتابتها قول القائل:
وما من كاتب إلا سيفنى ... ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
فالله نسأل أن يقبل عثراتنا، وأن يستر عوراتنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن لا يجعل للشيطان حظًّا في أعمالنا، وأن يجعل لنا مما نكتب زادًا طيبًا إلى الدار الآخرة.
وإني أنشد الله كل رجل قرأها وانتفع ببعض ما جاء فيها أن يذكر كاتبها الخطاء بدعوة صالحة بظهر الغيب، وأن لا يضن عليه بنصيحة يسديها إليه، سواء تعلقت بها أو بغيرها، مما عسى أن يكون قد وقف عليه من زلاته في مواضع أخرى، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الملاحق(1/85)
البيان الختامي للمؤتمر الفقهي الأول للمجلس الفقهي التابع لرابطة علماء الشريعة بأمريكا الشمالية المنعقد في مدينة ديترويت/ ولاية ميتشيجان في الفترة من 10 – 13 شعبان 1420 هـ الموافق 19- 22 نوفمبر 1999م.
شراء البيوت عن طريق التسهيلات البنكية
استعرض المشاركون في المؤتمر المشكلة التي يعاني منها المقيمون في أمريكا للحصول على بيت للسكن في ضوء التطبيقات المتبعة وهي الاستئجار أو التملك عن طريق القروض (Mortgage) وانتهوا إلى ما يلي:
أولاً: يوصي المؤتمر المسلمين المقيمين في بلاد الغرب والمؤسسات الاستثمارية في البلاد الإسلامية بالآتي:
1- العمل على توفير البدائل الإسلامية لحل مشكلة تمويل المساكن عن طريق إيجاد العدد الكافي من المؤسسات المالية الإسلامية أو الجمعيات التعاونية الإسكانية (التي يؤمل منها أن تراعي ظروف واحتياجات ذوي الدخل المحدود)؛ وذلك للخروج من حالة الرخصة والضرورة إلى حالة العزيمة والاختيار.
2- العمل على دعم وتقوية المؤسسات الإسلامية الناشئة التي تعمل وفق أحكام معاملات الفقه الإسلامي لتمكينها من إيجاد البدائل السابقة.
3- دراسة العقود التي يجري العمل حاليًّا لتمويل المساكن في البنوك التقليدية للوصول إلى صيغة لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية والعمل على إقناع البنوك بالتعامل بها.
ثانيًا:
1- المسكن هو إحدى الحاجات الضرورية التي لابد من توفيرها سواء ذلك بالاستئجار أو التملك.
2- استئجار المسكن للمسلم المقيم في أمريكا لا يخلو من عقبات كثيرة منها ما يتعلق بحجم الأسرة أو اختيار الموقع المناسب للسكن أو تحكم أرباب البيوت بالمستأجرين.(1/86)
3- إن الطريقة المتاحة حاليًّا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية (Mortgage) بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلاً شرعيًّا، يسد حاجته كالتعاقد مع شركة تقدم تمويلاً على أساس بيع الأجل أو المرابحة أو المشاركة المتناقصة أو غيرها.
4- إذا لم يوجد أحد البدائل المشروع وأراد المسلم أن يمتلك بيتًا عن طريق التسهيلات البنكية فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للمسكن عن طريق التسهيلات البنكية (Mortgage) للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، أي لابد أن يتوافر هذان السببان: أن يكون المسلم خارج ديار الإسلام، وأن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية، لدفع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية وتحقيق المصالح التي يقتضيها المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية، على أن يقتصر على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه وليس للتجارة أو الاستثمار.
وهناك من يرى المنع من استخدام طريقة التسهيلات البنكية، ولو تحققت الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة وإنه ينبغي الاكتفاء بالاستئجار كبديل عن التملك بغض النظر عن المزايا المعروفة التي تفوت المستأجر استنادًا إلى الاتجاه الفقهي الذي يرى تحريم الربا في دار الإسلام وخارجها، وأنه لا يباح إلا بالضرورة الشرعية، وليس الحاجة ولو كانت حاجة عامة.
وقد تبيَّن من البيانات التي قدمها بعض المختصين حول العقود المطبقة حاليًّا لتملك المساكن أن بعض هذه العقود تقترب كثيرًا من عقد بيع الأجل من حيث المضمون، وأنه تطبق هنا قاعدة (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني)، وأن تنقيحها ممكن بتغير المصطلحات التقليدية المستخدمة فيها.(1/87)
وقد أجمع الجميع على حرمة الاقتراض بالفوائد البنكية؛ لأنه من قبيل الربا المحرم، وأن القول بجواز تملك المساكن عن طريق البنوك بالشروط السابقة إنما هو من قبيل الاستثناء بسبب الضرورة التي تقدر بقدرها أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة مع بقاء الحكم الأصلي بالحرمة.
آراء حول المؤتمر الفقهي الأخير
لرابطة علماء الشريعة في أمريكا الشمالية
الشيخ محمود الطحان يتحفظ من قرارات المؤتمر:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله × وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإشارة إلى المؤتمر الفقهي الأول لرابطة علماء الشريعة في أمريكا الشمالية المنعقد في مدينة ديترويت بولاية ميتشيجان في الفترة من 10 - 13 شعبان 1420هـ الموافق 19 - 22 نوفمبر 1999م، وإشارة إلى القرار (ثانيًا) المتعلق بحكم شراء المنازل عن طريق قروض ربوية من بنك ربوي والذي جاء فيه: «أنه قد ذهب أكثر المشاركين في المؤتمر إلى جواز التملك للمسكن عن طريق القروض الربوية إذا لم توجد البدائل الشرعية للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة»، وأدعو أن الحاجة للمسكن لا تندفع بالاستئجار؛ لأنه لا يخلو من عقبات كثيرة، كما جاء فيه: وهناك من يرى المنع من استخدام طريق التسهيلات البنكية - أي شراء البيوت عن طريق القروض الربوية - ولو تحققت الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وأنه يكتفي بالاستئجار كبديل عن التملك، ولا شك أن الحاجة تندفع إذا تيسر الاستئجار، وشرط الذين أجازوا شراء البيوت عن طريق القروض الربوية ما يلي:
أن يكون المسلم خارج ديار الإسلام.
أن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية.
أن يقتصر على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه وليس للتجارة أو الاستثمار.(1/88)
أقول: ونحن نرحب ببحث المسائل والمشكلات، ولكن ليس بهذه الطريقة المتسرعة، وبما أن صياغة القرار غير دقيقة فإيضاحًا للواقع وإبراء للذمة، وتحذيرًا للمسلمين لئلا يخدعوا بهذا القرار فيقعوا في حرمة التعامل بالربا من غير علم ولا تبيين، أبين ما يلي:
أولاً: أن الذين لم يوافقوا على هذا القرار هم أكثر المشاركين المدعوين من خارج أمريكا من علماء الشريعة وأهل الاختصاص والفتوى، ولا عبرة بالكثرة إذ لم يكونوا من أهل الفتوى أو أهل الاختصاص الشرعي، فقد حشدت إدارة المؤتمر أشخاصًا ليسوا أهل الاختصاص في العلوم الشرعية؛ بل لقد عَدُّوا من بين العلماء والأئمة المشاركين الأستاذ بيتر سميث، وهو غير مسلم، ومنهم اقتصاديون وتربويون... إلخ، وعمدوا إلى عدم ذكر أسماء بعض المشاركين، فقد شطبوا على اسمي من قائمة المشاركين مع أني مدعو، ومن أبرز غير الموافقين على هذا القرار من العلماء المشهورين ما يلي:
- الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الكويت.
- الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية.
- الأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجار، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية.
- الأستاذ الدكتور علي الصوا، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية.
- الأستاذ الدكتور عتيق القاسمي، أستاذ الفقه في الهند وعضو مجمع الفقه الإسلامي في الهند.
- الشيخ عبد الله سليم من الهند ومقيم في أمريكا.
- الشيخ موفق الغلاييني، إمام المركز الإسلامي بآن آير.
- الشيخ علاء الدين رمضان إمام مسجد في كاليفورنيا.
- الدكتور حمزة الضلوي من اليمن.
- الدكتور شرف القضاة، أستاذ جامعي بالأردن.
- الدكتور مجذوب يوسف بابكر من السودان.(1/89)
وغيرهم من العلماء الذين طلبوا من رئاسة المؤتمر ذكر أسمائهم في قائمة غير الموافقين على هذا القرار، ولكن رئاسة المؤتمر رفضت طلبهم، وبعد الإلحاح الشديد على هذا الطلب وعدت رئاسة المؤتمر بتلبية الطلب، ثم نكثت بوعدها، فلم تذكر أسماءهم، وما أدري ما السبب؟
ثانيًا: ما السبب أن يباح الربا للحاجة للمسلم الذي يقيم خارج دار الإسلام، ولا يباح للمسلم الذي يقيم في دار الإسلام، يعني هل يباح للمسلم أن يتفلت من أحكام الإسلام، إذا خرج من ديار الإسلام؟ مع أن الرسول × قال: «اتق الله حيثما كنت».
ثالثًا: جاء نص الفقرة (ثالثًا) كما يلي: وقد تبين من البيانات التي قدمها بعض المختصين حول العقود المطبقة حاليًّا لتملك المساكن أن بعض هذه العقود تقترب كثيرًا من عقد بيع الأجل من حيث المضمون، وأنه تطبق هنا قاعدة «العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني»، وأن تنقيحها ممكن بتغيير المصطلحات التقليدية المستخدمة فيها. انتهى نص الفقرة بالحرف الواحد، وهذا أمر عجيب وخطير جدًّا، ولم يذكر في مداولات المؤتمر؛ بل هو عند رئاسة المؤتمر، وهو يشبه قول غير المسلمين في الربا كما حكاه القرآن الكريم عنهم ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا?، فالأمر معروف لدى أهل العلم، فلا يجوز تمييع الأمور حتى يختلط الحلال والحرام، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن، فبدلاً من العمل على إيجاد البدائل الشرعية ونصح المسلمين بالثبات على التزام.
رابعًا: إن سير المؤتمر والأجواء التي سادت جلسات المؤتمر غير سليمة وغير مألوفة في المؤتمرات التي تبحث قضايا علمية مهمة، وذلك لما يلي:
- طريقة انتخاب رئيس المؤتمر ونائبه والمقرر ونائبه لم تكن ديمقراطية، وإنما كانت أشبه بطريقة الانتخابات في البلاد المتخلفة أو الدكتاتورية.(1/90)
- ولأنه لم يؤخذ التصويت على القرارات في نهاية مناقشة كل بند من البنود المطروحة على المؤتمر.
- ولأنه لم تشكل لجنة علمية متخصصة لدراسة كل بند من البنود المطروحة، وإنما نوقشت القضايا المطروحة بشكل جماهيري عام يعطي لكل شخص ثلاث دقائق ليعلق على الموضوع المطروح.
- ولأنه لم يكن بين أيدينا - أعضاء المؤتمر - وثائق، ولا إحصائيات ولا إثباتات تدل على الضرورة لشراء البيوت بالقروض الربوية.
- ولأنه لم يدع كل المشاركين في المؤتمر للنظر في القرارات والتوصيات المتخذة؛ وإنما دعت رئاسة المؤتمر من شاءت واستبعدت من شاءت.
- ولأنه لم تقرأ القرارات والتوصيات على المشاركين في المؤتمر لإقرارها أو تعديلها، وفي ذلك خلافًا لما هو معمول به في المؤتمرات، ولما هو مذكور في جدول المؤتمر في اليوم الرابع وهو يوم الإثنين 22/ 11/ 1999م الذي ينص على بند لجنة الصياغة وبند قراءة القرارات والتوصيات على المشاركين في المؤتمر، فقد سافر رئيس المؤتمر ومقرر المؤتمر في صبيحة ذلك اليوم، ولم تقرأ على المشاركين في المؤتمر أي قرارات.
محمود الطحان
أستاذ الحديث بكلية الشريعة
بجامعة الكويت
البيان الختامي للدورة العادية الرابعة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث المنعقدة في مدينة دبلن بأيرلندا في الفترة 18- 22 رجب 1420هـ الموافق 27- 31 أكتوبر 1999م.
القرار 2/ 4: حكم شراء المنازل بقرض بنكي ربوي للمسلمين في غير بلاد الإسلام:
نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تُشترَى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.
وقد قُدِّمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:(1/91)
1- يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
2- يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، مثل «بيع المرابحة» الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.
3- كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوربية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعًا، مثل «بيع التقسيط» الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عددًا كبيرًا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة؛ وهو ما يَجْري به العمل في بعض الأقطار الأوربية، وقد رأينا عددًا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعًا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها، ويمكن للمجلس أن يساعد فيه، ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك لتعديل سلوكها مع المسلمين.
4- وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرًا في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه مسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسين:(1/92)
المرتكز الأول: قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»: وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: ?وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ?، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر المحرمات من الأطعمة: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج، وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا تستطيع أن يعيش بدونها، والله رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?، وفي سورة المائدة: ?مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ?، والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنًا حقًّا.
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها، والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: ?وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا?، وجعل النبي × السكن الواسع عنصرًا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان، وإن كان يكلف المسلم كثيرًا بما يدفعه لغير المسلم، ويظل سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرًا واحدًا، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع يصبح عرضة لأن يُرمَى به في الطريق.(1/93)
وتملك المسكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريبًا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعًا إسلاميًّا صغيرًا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام.
كما أن هذا يُمكِّن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يفي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكًا له.
وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم، الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذي يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم؛ ليقوموا بواجب الدعوة، ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد وينصب طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو دعوته.
المرتكز الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني- وهو المفتى به في المذهب الحنفي - وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، فيما ذكره بعض الحنابلة من جواز التعامل بالربا - وغيره من العقود الفاسدة - بين المسلمين وغيرهم في دار الحرب، ولهم في ذلك أدلة ذكرها الإمام الطحاوي وغيره، لا يتسع المقام لذكرها.
والمراد بدار الحرب عند الحنفية ما ليس بدار إسلام، فالتقسيم عندهم ثنائي وليس ثلاثيًّا، فيدخل فيها ما يسمى عند غيرهم دار عهد، أو دار أمان، ولهذا عدة اعتبارات، منها:(1/94)
1- أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي. وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل: أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث، وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضُيِّق عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.(1/95)
2- أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة - ومنها عقد الربا - في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًّا، وخسارته ماليًّا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من الكافر بحديث: «الإسلام يزيد ولا ينقص»؛ أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث: «الإسلام يعلو ولا يُعلى»، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم، سيضطر إلى أن يعطي ما يُطلَب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائمًا وليس له الغنم، وبهذا يظل المسلم أبدًا مظلومًا ماليًّا، بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبدًا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه - في غير دار الإسلام - لغير المسلم، يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم، وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء، وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين:
الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم.
الثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم.
وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم، والجواب: أن هذا غير مسلم، مما يدل على ذلك قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذاهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة فهو المستفيد؛ إذ به يتملك المنزل في النهاية.(1/96)
وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك؛ بل أحيانًا تكون أقل، ومعنى هذا أننا إذا حَرَّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حَرَمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارًا شهريًّا أو سنويًّا، ولا يملك شيئًا، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة - وربما أقل - أن يملك البيت.
د. عجيل النشمي
عميد كلية الشريعة بالكويت يعقب
على فتوى شراء المنازل بالقرض الربوي
«الذي يبيح الربا الضرورة... أما الحاجة فلا».
السؤال: ما حكم الشرع في شراء البيوت في البلاد الأوربية بالقرض الربوي إذا كان السبيل الوحيد لشراء البيوت هناك؟ وهل يعد ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات؟ أو هو من المصالح التي تنزل منزلة الضرورة؟
الجواب: من المقطوع به حرمة الربا للنص الصريح في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 278 - 279]، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : «اجتنبوا السبع الموبقات...» وعدَّ منها الربا. (البخاري 5/ 392، ومسلم 1/ 93)، وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه: «لعن رسول لله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» (مسلم 3/ 1219).(1/97)
ولا ريب أن السكن من ضروريات الحياة التي تحفظ على الإنسان نفسه وماله وعرضه، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أوعامة، وتخريج جواز أو عدم جواز شراء البيوت في أوروبا مبنيٌّ على تحقق الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وهل الربا مما يباح للحاجة المنزلة بمنزلة الضرورة؟ وهل المصلحة تصلح دليلاً لجواز الاستقراض بالربا؟ هذه أهم النقاط التي ذكرت في الفتوى.
فنقول وبالله التوفيق: إن الضرورة الشرعية التي تبيح المحرم ليست متحققة في هذه المسألة هنا ولا الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، ولو تنزلنا بإبطال الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، بطل الاستدلال بالضرورة لعدم تحقق ما هو أقل منها، فنذكر دليل الضرورة والحاجة المنزلة منزلة الضرورة، ونسند الفتوى بكلام الفقهاء، وقد جاءت الفتوى مجردة من النصوص، وسنذكر ما يصلح لأن يكون دليلاً ليتسنى الرد عليه بكلام الفقهاء أيضًا مع تحقيق مناط المسألة محل الفتوى، فنبدأ بكلام الفقهاء حول قاعدة الحاجة العامة المنزلة منزلة الضرورة وربطها بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات فنقول:
هذه القاعدة ذكرها كثير من علماء الفقه والأصول وذكروا لها جزئيات منها:
إباحة العرايا للحاجة العامة بالرغم من أن الربا بيع مال ربوي بجنسه غير متحقق تماثلها، وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة تبيح المحرم. وقال: لا يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها كما جاز بيع العرايا بالتمر. وقال: وقال الشارع: لا يحرم ما يحتاج إليه الناس في البيع لأجل نوع من الغرر؛ بل بجميع ما يحتاج إليه في ذلك. وقال الزركشي: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس. وفي مجلة الأحكام العدلية: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة (المادة: 32).(1/98)
وقال الجويني: الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر. ويمكن أن نوجه الاستدلال للفتوى بأن حاجة المسلمين في تلك الديار، تقتضي الاقتراض بالربا؛ لتأمين المسكن حتى يتحقق الاستقرار وتربية الأبناء في أماكن مناسبة، ولو قلنا بمنع حرمة ذلك لأدى إلى إيقاع المسلمين في حرج وضيق. نقول: قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، قاعدة متفق عليها لكنها غير منطقية على واقعة الشراء المنتجة للربا، وإنما تعلم قاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة بإرجاعها إلى قاعدتها الأم وهي قاعدة الضرورة، ومنها قول الرسول ×: «لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه»، قال الزركشي والسيوطي: ويتعلق بهذه القاعدة قواعد:
أولها: الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها، ويمثل لها بجواز أكل الميتة عند المخمصة، وإسالة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال وأخذ مال الممتنع من أداء الدَّين بغير إذن، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله.
وإذا أبيح ما ذكر فإنما يفيد بقاعدة ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فالمضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق، قال الجصاص في قوله تعالى: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ"، فالضرورة هنا هي خوف الضرر على نفسه، أو بعض أعضائه بتركه الأكل، وقد انطوى تحته معنيان:(1/99)
أحدهما: أن يحصل في موضع لا يجد منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه، وكلا المعنيين مراد بالآية لاحتمالهما، وبين حدود أو مقدار الضرورة في قوله تعالى: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" فعلق الإباحة بوجود الضرورة، ولا الاعتبار في ذلك بسد الجوعة؛ لأن الجوع عند الابتداء لا يبيح كل الميتة إذا لم يخف ضررًا بتركه، والمراد من قوله: "غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" باغ ولا عاد في الأكل، ومعلوم أنه لم يرد الأكل منها فوق الشبع.
وقال ابن عطية: للباغي بالأكل فوق حاجته، فيجيء أكله شهوة والعادي أكل ونحوها مع وجود غيرها. وقال ابن جزي: الضرورة خوف الموت لا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت، ويكفي حصول الخوف من الهلاك ولو ظنًّا. وقال ابن قدامة: يباح له أكل ما يسد الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع، ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع، وفي الشبع روايتان أظهرها: لا يباح، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك، وأحد القولين للشافعي، والثانية: يباح له الشبع، ثم قال: والضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فيهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور.
ومن هنا يتبين أن إباحة المحرم تكون حال الضرورة إذا توافرت شروطها، أخصها:
- أن يخشى فوات نفسه أو عضو من أعضائه ولا يتقيد الحكم في الأكل؛ بل في كل ضرورة.
- أن الضرورة تقدر بقدرها، ولا يتوسع إلا الملاذ والتشهي والتزود.
- أنه إن وجد مخرجًا غير ارتكاب الحرام لم يحل له المحرم، كأن يجد من يقرضه مالاً أو طعامًا أو يشتري بالدَّين ونحو ذلك.(1/100)
وهذه هي حال الضرورة التي يباح عندها المحرم لذاته، وأما لحاجة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة فلا يعني حكمها حكم الضرورة من كل وجه، وإلا لم يكن للتفرقة بينها وبين الضرورة محل، لكن المراد منها الحاجة التي تنفك عنها حاجة الناس الماسة في معاشهم ومعاملاتهم وتركها يدخل العسر الشديد.
وقد مثل السيوطي وغيره للحاجة العامة بمشروعية الإجارة والجعالة والحوالة، قال: جوزت على خلاف القياس لما في الإجازة من ورود العقد على منافع مدونة، وفي الثانية من الجعالة، وفي الثالثة من بيع الدَّين بالدَّين، وثمل الحاجة لتضبيب الإناء بالفضة، قال: يجوز للحاجة، ولا يعتبر عن غير الفضة؛ لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعًا، بأن المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سوى التزيين؛ كإصلاح موضع الكسر والشد والتوثق، وعليه فإن الحاجة أو ما نزله الفقهاء منزلة الضرورة إلى غرر مراعاته، تفضي إلى مفاسد وعسر وحرج يعطل مصالح عامة أو خاصة.
قال ابن تيمية: الشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه في البيع لأجل نوع الغرر؛ بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك، كما قد يباح لمصلحة ما حرم سدًّا للذريعة.(1/101)
قال ابن القيم: ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب من جملة النظر المحرم وقد تكون الحاجة المنزلة مستثناة بنص كبيع العرايا ونحوها، هذه هي الأحوال الحاجة الصالحة لتنزيلها منزلة الضرورة، فإذا شرع الحكم للحاجة فيتقيد فيه بقدرها على خلاف الأصل ولا يتوسع فيها توسع المباح، فالأصل ألا تكون الإباحة في ثابت المنع عند الحاجة إليه لا على قدر المبيح إلا بدليل عند مالك والشافعي خلافًا لأبي حنيفة، فالقاعدة المستمرة عند مالك والشافعي أن الموضوع إذا أبيح لحاجة إليه أو لضرورة، أن تكون الإباحة مقيدة لدفع الحاجة دون زيادة إلا بدليل يدل على الزيادة وهذا معنى قولهم: الضرورة تقدر بقدرها فالذي يبيح حرمة الربا الضرورة أما الحاجة فلا.
قال الزركشي والسيوطي: الضرورة هي بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام، والحاجة كالجائع لو لم يجد ما يأكله لم يهلك غير أنه في جهد ومشقة وهذا لا يبيح الحرام، وقال الشافعي: وليس يحل بالحاجة محرم إلا في الضرورات من خوف تلف النفس، فأما غير ذلك فلا أعلمه يحل الحاجة، والحاجة فيه وغير الحاجة سواء.
فيظهر أن الربا المقطوع بحرمته وهو في أعلى المراتب لا يباح ولا تباح شبهته للحاجة ولو همت؛ لذا رد جمهور الفقهاء قول الحنفية بإباحة بيع الوفاء، وهو بيع المال أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع، وقد اشتدت الحاجة إليه في بخارى وشاع بسبب كثرة الديون على أهلها، فأباحه الحنفية وأنكره بعضهم ورده جمهور الفقهاء؛ لأنه انتفاع بالعين في مقابلة الدين وهو من قبيل الربا أو أنه صفقة مشروطة في صفقة وهو غير جائز، وهذا ما اتجه إليه مجمع الفقه في دورته الثامنة..(1/102)
الهوامش :
1-مجموع الفتاوى.
2-المنثور في القواعد.
3-المستدرك على الصحيحين.
4-أحكام القرآن.
5-المحرر الوجيز.
6-المغني والشرح الكبير.
7-القوانين الفقهية.
8-الأشباه والنظائر.
9-إعلام الموقعين.
10- قواعد المقري.
11- الأم.(1/103)
الدورة العادية الرابعة للمجلس إيرلندا رجب 1420 أكتوبر 1999.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله × وبعد:
فقد اطلع الموقعون على هذه المخالفة العلمية على القرار المتعلق بشراء البيوت عن طريق القروض الربوية الذي أقرته أكثرية أعضاء المجلس، ويرون إثبات مخالفتهم التالية:
أولاً: حول مسوغات القرار:
يرى أعضاء المجلس الموقعون على هذه المخالفة أن شراء البيوت عن طريق القروض الربوية من البنوك أو غيرها محرم شرعًا، وأن الحجج التي سبقت لجواز ذلك، لا ترقى إلى إباحته للأسباب التالية:
1- عدم انطباق هذه الحالة على مذهب الأحناف؛ لأن المرجح عندهم أن التعامل بالربا في دار الحرب إنما يصح عدم انطباق هذه الحالة على مذهب الأحناف، لأن المرجح عندهم أن التعامل بالربا في دار الحرب إنما يصح إذا كانت الدار دار حرب، وكان المسلم آخذًا لا معطيًا - كما رجحه محققو الحنفية كالكمال بن الهمام في فتح القدير، وابن عابدين في رد المحتار - وأن يقع التعامل مع الحربي في دار الحرب عن تراض منهما.
وإن الشرطين الأوليين غير متوافرين؛ لأن الدولة الغربية ليست دار حرب، والمسلم - في هذه الحالة - هو المعطي لا الآخذ، فتختلف العلة التي استند القرار إليها، وإن حاول تعميم الشرط الثاني منهما على الآخذ والمعطى على حد سواء.
يضاف إلى ذلك أن الأدلة التي ساقها الحنفية في هذه المسألة لا تقوم بها الحجة، ولا تتسع هذه المخالفة المختصرة لإيراد ما قاله العلماء فيها وفيهم بعض علماء الحنفية.
أما ما يقال: إن التقسيم عند الحنفية ثنائي لا ثلاثي، فإما أن تكون الدار دار إسلام أو دار حرب فلا يخالف ما ذهبنا إليه من عدم جواز هذه المعاملة؛ لأنهم يرون أن دار الكفر قد تكون دار أمان، وقد لا تكون كذلك، وإذا كانت دار أمان لم تحل فيها هذه المعاملة.
2- والسبب الثاني في عدم جواز هذه المعاملة هو عدم تحقق الضرورة التي تدعو إليها تلك المعاملة من الهوية؛ سواء كانت فردية أو جماعية لانعدام شروط الضرورة المعتبرة شرعًا، وهي:
أ- أن تكون واقعة لا منتظرة، بأن يتحقق أو يغلب على الظن وجود خطر حقيقي على الدِّين أو النفس أو المال أو العقل أو النسل.
ب- وأن تكون ملجئة بحيث يخاف الإنسان هلاك نفسه، أو قطع عضو من أعضائه أو تعطل منفعته إن ترك المحظور.
ج- وأن لا يجد المضطر طريقًا إلى غير المحظور، أو قريب منه يضاف إلى ذلك توفر المساكن المستأجرة المتوافرة غالبًا في هذه الدولة بما تندفع معه تلك الضرورة.
3- وبحكم إقامتنا في أوروبا فإننا لا نرى هناك حاجة ماسة تنزل منزلة الضرورة بحيث تلجئ الجالية المسلمة إلى هذه المعاملة الربوية فضلاً عما ذهب إليه القرار من جواز الاقتراض بالربا لتوفير السكن المناسب في سعته وموقعه.
4- ونرى أن الضعف الاقتصادي للجالية المسلمة التي أشار إليها القرار ليس لعدم تعاملها بهذه المعاملات الربوية، ولكنه لتفرق كلمتها وعدم توظيف أموالها، ووضعها إياها في المصارف الربوية التي تزيدها قوة إلى قوتها، وابتزازًا إلى ابتزازها.
5- سكوت القرار عن بيان الحكم الشرعي في شراء غير البيوت عن طريق الاقتراض بالربا، وهذا ما سيؤدي بالكثير من أفراد الجالية إلى الجرأة على التعامل بالربا الصريح في أوروبا استنادًا على هذه الفتوى.(1/104)
ثانيًا: الفتوى التي نراها:
إن الموقعين على هذه المخالفة العلمية يرون أن شراء البيوت بقروض ربوية في أوروبا لا تدعو إليه الضرورة، ولا تدفع حاجة تنزل منزلة الضرورة، ويرون أن هذه الطريقة محرمة شرعًا، ولا يصح الإقدام عليها إلا إذا لم يجد الإنسان بيتًا يسكنه ولو عن طريق الإيجار المناسب، وليس لديه مال يشتري به ذلك المسكن، أو لم يجد من يقرضه قرضًا حسنًا، أو لم يجد وسيلة شرعية أخرى تعينه على الشراء؛ كبيع المرابحة الذي تكون فيه الزيادة في الثمن مقابل الزيادة في الأجل، وأن لا يتجاوز المسكن الذي يشتريه حدود الحاجة، كأن تكون غرفه ومرافقه أكثر مما يحتاج إليه، أو يكون ذا مواصفات عالية تتطلب مبلغًا فوق الحاجة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
د. محمد فؤاد البرازي (الدنمارك)
د. صميعي حسن عبد الغفار (لندن)
إضافة إلى عضوين آخرين
اضطرا إلى السفر قبل الفراغ من هذه الصياغة(1/105)
فهرس البحث
الموضوع ... الصفحة
تقديم أ.د علي أحمد السالوس
مدارسة علمية وليست معركة حزبية
المرتكزات الفقهية للمجيزين
ملاحظات مبدئية على تلك المرتكزات
الملحوظة الأولى: الجمع بين مساقين مختلفين
الملحوظة الثانية: إضعاف المبادرات لتوفير البدائل الشرعية
الملحوظة الثالثة: فتح الباب أمام ترخصات قادمة
المرتكز الأول للمجيزين: الاستدلال بمذهب الأحناف في ربا دار الحرب
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: التسليم بمذهب الأحناف دون مناقشة
الوقفة الثانية: مذهب الجمهور أرجح وأقوى مستندًا
الوقفة الثالثة: جوانب الضعف والقصور في مذهب الأحناف
- هل ورد في المذاهب الأخرى قول بجواز الربا في دار الحرب
الوقفة الرابعة: المآلات الفاسدة المترتبة على اعتماد مذهب الأحناف
الوقفة الخامسة: عدم ملائمة مذهب الأحناف فقهيًّا لتخريج هذه النازلة
المرتكز الثاني للمجيزين: تنزيل الحاجات العامة منزلة الضرورات
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: الإقرار بربوية الأصل حسنة للمؤتمرين
الوقفة الثانية: لم يلتزم المجيزون بمذهب الأحناف على التحقيق
الوقفة الثالثة: لم يخرج الأقدمون على هذه القاعدة إباحة محرمات قطعية
الوقفة الرابعة: خطأ الإصرار على أن التملك هو الذي يدفع الحاجة إلى السكن
الوقفة الخامسة: حقيقة الحاجة التي تنزل منزلة الضرورات وحدود تطبيقها
- الإمام الجويني وتحقيقه لهذه القاعدة
- كيف طبق الجويني هذه القاعدة في باب المساكن تحديدًا
- صاحب الفضيلة الدكتور القرضاوي وضوابطه في الضرورة(1/106)
الوقفة السادسة: الخلط بين التحسينيات والحاجيات في سلم تحقيق المصالح
الوقفة السابعة: الخلط بين تحقق الضرورة الفردية والضرورة الجماعية
المرتكز الثالث للمجيزين: أن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للحاجة
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: التحقيق في الربا المحرم لذاته والمحرم ذريعة
الوقفة الثانية: التسوية بين آكل الربا وموكله تدفع هذا اللبس
المرتكز الرابع للمجيزين: عدم التكليف بإقامة الأحكام العامة خارج دار الإسلام
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: مكمن الخطورة والمجازفة في هذا التعميم
- استدراك واجب: لا نلزم قائلي هذا القول بلازم مذهبهم
الوقفة الثانية: خذلان هذا القول للمصلحين والدعاة إلى البديل الشرعي
الوقفة الثالثة: مخالفة هذا القول لمبدأ ربط التكليف بالوسع
الوقفة الرابعة: لا يستطيع المسلم تطبيق بعض الأحكام الخاصة في الغرب
المرتكز الخامس للمجيزين: المصالح المترتبة على تملك البيوت
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: الخلط بين المصلحة الشرعية والمصلحة الوضعية
الوقفة الثانية: لا اعتبار لمصلحة في مقابلة النص
الوقفة الثالثة: المبالغات في تصوير المصالح المذكورة
المرتكز السادس للمجيزين: أن لا يكون التزام المسلم بالإسلام سببًا في ضعفه
الوقفة الأولى مع هذا المرتكز: «اتق الله حيثما كنت»
الوقفة الثانية: مفهوم القوة والضعف والزيادة والنقصان في الإسلام
الوقفة الثالثة: فتح باب التعلل والمعاذير أمام المتورطين في الحرام
لا علاقة لهذا التعقيب بالتجاوزات الإجرائية
خلاصة بما انتهت إليه الدراسة
خاتمة
الملاحق
فهرس البحث(1/107)