...
1423هـ
تمهيد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه،أما بعد:
لقد شهد الفقه الإسلامي شيئا من التراجع،ليس لعدم مقدرة أصوله في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع،وكذلك ليس لقلة عدد المنتسبين إلى الفقه – على نقص المحققين فيهم – بل لقلة إدراك كثير من فقهائنا للغة التي يحسن بهم اتباعها في توجيه أمتهم،لأن الفقه ليس مجرد أحكام تلقى هكذا دون نظر إلى تأثر الناس بها،وتلقيهم لها بالقبول،وهو أمر وإن كنا في غنى عنه في مرحلة سابقة،إلا أنه اليوم في غاية الأهمية،ليس لأن الناس لم يكونوا بحاجة إلى تلقي الأحكام بالقبول لتطبيقها في حياتهم في تلك المراحل السابقة،بل لأنهم كانوا أقل عرضة للموانع،لأننا اليوم أمام موانع كثيرة وشواغل أكثر،فغدا التشويق لازما للغة الفقه اليوم (1) ،
__________
(1) - لست أريد بذلك تتبع أبواب الفقه بابا،بل غاية ما أنشده أن نجد بعض المسائل ذات الصلة بواقع الناس معروضة بتلك الطريقة بحيث تكتسب مزيدا من القوة لتبلغ مزيدا من الأثر،والله تعالى ولي التوفيق..(1/1)
مع السهولة التي يظهرها المثال الواقعي،مما يمسه الناس في معاشهم،دون الاكتفاء بالعرض مع المثال الذي إنما يخاطب به المرء قبل سنون،وهذا ما وجدت كثيرا من الفقهاء في عزوف عن إدراكه،فضلا عن التعاطي الكَيِّس معه،انظر إلى قضية الحجاب في كتابات المنفلوطي،بل وغيرها،ومثله الرافعي،وغيرهم – رغم قلتهم بل ندرتهم – وانظر إلى عمق تأثُّر الناس بها،وهم ليسوا في عرضهم لتلك القضايا سوى أدباء متأثرين بالفقهاء،وقد صاغوا الفقه في قالب من الأدب؛يجعل الممتثل للشرع الحنيف فارسا ركب الجادة كي يصل إلى مراقي الفلاح،وهم جعلوا المُعرض كحمار يحمل أسفارا،ضمن سياق تصويري بديع،وأقول جازما لقد فعلوا بصنيعهم فوق ما صنعته الفتاوي على كثرتها،– هذا ما أحسبه - ولهذا لاح لي أن أعرض شيئا من قضايانا التي جد الحديث عنها وهو خَلِقٌ،في ثوب جديد،قال الرافعي في وحي القلم:"ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى – كالإيمان،الجمال،والحب،والخير،والحق – ستبقى محتاجةً في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة" (1) ،
__________
(1) - وحي القلم( 1/16)،وكمثال على ما قلته،انظر وحي القلم(3/148)في قصة قصيرة بعنوان القلب المسكين- تتمة – قال على لسان محامية تدفع عن راقصة جرمها:"المحامية:آه
دائما الراقصة.
من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع،والحاجة،والاضطرار؟
أليست مجموعة فضائل مقهورة؟
أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟
نعم إنها زلت،إنها سقطت،ولكن بماذا؟
بالفقر لا غير،فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها،وفقر العدل والرحمة في مجتمع فاسد خذلها وأهملها......
تقولون :يجب،ولا يجب،ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي،....فإذا ضاع من يَضِيع في هذا الاختلاط،قلتم له شأنُك بنفسك،ونفضتم أيديَكم منه فأضعتموه مرة أخرى.
ويحكم ياقوم !
غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد لتخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة...."أهـ،والرافعي هنا يقرر أهمية قاعدة سد الذرائع وعلاقتها بالعدالة الاجتماعية،وعلى هذا المنوال يسير،في روائع لا تكاد تجد من يحسن مثلها من كتابنا،غير أنه لا بد من محاولة لعلها تبلغ شيئا مما بلغه في موضوع كموضوعنا هنا (الربا)،لمناسبة لا تخفى،وهي تجدد الحديث عن الاستثمار لدى البنوك الربوية وعلى نطاق واسع،خلال مجموعة من الفضائيات.(1/2)
وهنا حديثنا عن أمر قد تكلموا عنه الآن عبر فضائيات قد كنا قبلها في غنى عن التنزل في الحوار،وفي غنى عن كثير من القول المستند إلى دليل العقل الذي يجد مصداقيته من المعادلة الرياضية،ليزداد الذين آمنوا إيمانا،وتذهب الريبة عن غيرهم،فصرنا في حاجة لنعرض بعض فقهنا من خلال قصة،غير مقصرين في كل ما يتطلبه قرع الحجة بأختها،مع الإعراض عن كل ما لا حاجة إليه ليدرك الناس سر الشريعة (1) ،ضمن سياقها الذي وردت خلاله،لا باعتبار الحكم جزءا لا صلة له بالكل،ليظن الرائي أنه أمام يد فصلت عن جسد،أو أمام رقعة قطعت من ثوب.
لأننا عندما نتحدث عن حكم شرعي لا نملك أن نفهمه على نحو صائب إلا عندما ننظر إلى المنظومة الإسلامية في شمول وتكامل،فليس تحريم الربا في معزل عن حكمته – علته -،كما أن الأشياء التي تؤدي إلى ما من أجله حرم الله تعالى الربا ليست خارجة عن حكمه،وإلا فالشريعة ليست من عند الله تعالى،أو الحكم المظنون ليس هو الشرع الحنيف،ولا شيء سوى هذين الاحتمالين،ولا يملك مؤمن سوى القول بأن ما حسبناه من الشرع ليس منه،لأن الله تعالى لا يشك به عاقل،سبحانه.
والآن أعرض لذكر وقائع جلسة من مجالس الشورى التي تصورها الكاتب،في ذهنه،وهي جلسة عقدت لاتخاذ قرار بشأن ما يسمى بسعر الفائدة،وهي طريقة لعلها جديدة في رد فتوى مجمع البحوث المصري،التي تتعلق بالاستثمار لدى البنوك مع ضمان نسبة من الربح،وهو ما سيجده القارئ بإذنه تعالى.
والآن إلى ذكر تلك الوقائع من محاضر ذلك المجلس.
محضر الجلسة الخاصة بمناقشة مشروع إلغاء سعر الفائدة.
__________
(1) - وعلى كل ليس البحث العلمي بمعناه الدقيق من غرضي هنا،لأن له قوالبه التي لا بد يراعيها طالب العلم لدى الكتابة،بيد أن غايتي الآن أن يصل المرء بعد قراءته الدراسة،إلى التيقن بأن ما أقرره مما على المسلم امتثاله والأخذ به،بل والحذر والتحذير،ليس غير.(1/3)
لقد انعقد مجلس الشورى في جلسة طارئة بتاريخ 14/10/1423هـ،الموافق 18/12/2002م،وذلك لمناقشة المشروع المقدم من قبل اللجنة العليا لدراسة وإقرار أفضل السبل لرفع الفقر وتحقيق رفاهية المواطن.
وعنوان المشروع إلغاء سعر الفائدة.
وأثره في رفع الفقر وتحقيق رفاهية المواطن (1) .
قدم المشروع:عدنان بن جمعان الزهراني.
أولا:مسوغات تقديم المشروع.
? محاولة جادة لتوفير فرص عمل جديدة لأبناء المجتمع بمعنى الحد بل مجابهة البطالة.
? والتشجيع للاستثمار على اختلاف مجالاته.
? وكذلك الحد من الغلاء المستمر المعبر عنه بالتضخم الحاد.
? وبالتالي المحافظة على القوة الشرائية للعملة،وتحقيق الاستقرار في الأسواق.
__________
(1) - خلفية لا بد منها،عن المجلس.
أولا:هو مجلس تم تأسيسه من قبل سكان مدينة تصورها الكاتب في خياله وسماها(ندى)،واقترح أن عدد سكانها3130000نسمة.
ثانيا:عدد الأعضاء313عضوا،منهم 63امرأة،أي أن مستشارا واحدا يمثل 10000شخص.
ثالثا:مؤهلاتهم.
? ... الاستقامة،بحيث لا يوجد غبار يكتنف سيرة أي شخص منهم،ولم تلوث يده بأخذ شيء لا يحل له،ومن المشهود لهم بالانضباط الإداري،ومحاربته لجميع ألوان الفساد والبيروقراطية.
? ... ومشهود لكثير منهم بطول النفس والمثابرة في البحث والدراسة،كل في تخصصه.
? ... أكثرهم أصحاب تخصصات شتى،وبأعلى الدرجات العلمية،مع إلمام مناسب بباقي الجوانب المفيدة لرجل في مثل ذلك الموقع.
? ... بعضهم ليس متخصصا في أي من العلوم لكنه ذا كفاءة عالية،من حيث الفهم،وحسن التقدير،ومقدرة فائقة في التعامل مع الجمهور،وصاحب غيرة على مصالح العامة.
ثالثا:تكوين المجلس.
تم تكوينه من مجموعة اختارها الناس بالانتخاب المباشر،بعد تجاوز العضو لشروط الترشيح.
رابعا:من حق كل عضو تقديم أي مشروع لدراسته،واتخاذ القرار المناسب بشأنه،باعتبار كل رجل منهم مؤهلا للحديث عن مصالح وطنه.(1/4)
وقبل كل ذلك رفع المقت الإلهي،من خلال إغلاق باب كبير من أبواب الحرب لله ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم،وهو ما يوضح من خلال النظر الاقتصادي المجرد مدى ما للشرع الإلهي من إعجاز،يزيد من إيمان المؤمنين،ويزيل الريبة عند غيرهم،ليعلم الجميع أن التشريع الإسلامي لا يمكن أن يكون قد جاء من قبل البشر،من خلال ما سنرى في هذا المشروع.
ثانيا:عرض المشروع.
أصحاب المعالي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليس خافيا عليكم ما نتحمل من مسؤولية تجاه أبناء شعبنا،لأننا سنسأل يوم لا ينفع مال ولا بنون عن كل قول قلناه،وعن كل فعل فعلناه،تحت مظلة هذا المجلس.
نحن لا نجتمع هنا لمناسبة خاصة،أو لمجرد أداء عمل روتيني،أننا نخط بأيدينا مستقبل أبنائنا،وما سنقوله ونقرره يدخل إلى كل بيت،ويتأثر به كل شخص،فالله الله في كل من ولانا الله أمرهم،فليس من جائع إلا وسنسأل عنه – لِم لَم نطعمه ؟-،ولا من عار إلا وسنسأل عنه – لِم لَم نكسه؟- .
لسنا نُسأل عن من أكل،ومن لبس،فضلا عن من نقص ربحه،كسؤالنا عن محتاج لم احتاج ونحن نملك أن نرفع حاجته.
أصحاب المعالي.
ليس من غايات اقتصادنا الإسلامي الحد من ثروة الأغنياء،ولكنه يجعل المال الذي بأيديهم دائرا لينتفع منه جميع الناس على اختلاف طبقاتهم،وهو يحارب الثراء الذي يكون على حساب الفقراء ونحوهم من أبناء المجتمع،واقتصادنا لا يقبل أن يفقد المال مسوغ وجوده،لأنه ليس غاية في ذاته،بل هو وسيلة لتمضي حياة المرء في يسر وسهولة،وليكون ذلك المال عونا على طاعة الله تعالى.
أصحاب المعالي.(1/5)
النقود في اقتصادنا واسطة – قد رضي بها الجميع - لتبادل المنافع،ولا يقبل ديننا أن يكون النقد(المعين) واسطة للنقد(ذاته)مع وجود فرق (1) ،سواء كانت المبادلة حالة (2) ،أو مؤجلة (3) ؛
__________
(1) - إلا عندما يكون الفرق قد جاء لا من قبيل الحتم،والإلزام- أي غير مشروط - ،فعندها يقبله الشرع ويقره،ويعده من مكارم الأخلاق.
(2) - إلا عندما يكون من جنسين مختلفين،لاختلاف أثر كل منهما،فيصير ما يُطلب من مميزات في العِوضين لدى المتقابضين مسوغا لوجود ذلك الفرق،وهو معقول لظهوره .
(3) - وهنا عدم الجواز حتى عندما يكون النقد من جنسين مختلفين،لأنه ليس من المؤكد حصول تلك المميزات في العِوضين لأنها قد تختلف مع مرور الزمن،ولو يسيرا،وهذا لم يكن مفهوما على نحو دقيق من قبل،لوجود قدر من الثبات في النقود القديمة،ولكنه ظهر جليا اليوم،فلقد رأينا أن اختلاف سعر العملة الورقية خلال دقائق،بل ثوان حاصل،كما هو واقع الأرجنتين بل وغيرها من الدول،حيث يدخل المرء إلى السوبر ماركت وهو يسأل عن ثمن السلعة،فيدور ليأخذ شيئا آخر فلا يعود إلا وقد تغير ثمن السلعة الأولى، ففهمنا حكمة الشرع في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ »أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبادة ابن الصامت(3/1211)..(1/6)
لأنه عندها يفقد صفة الوسيط الأمين،المعبر عن صحة،وسلامة العملية التبادلية،لأنه ليس من المعقول ولا من المصدق حتى لو تقبلته عقول بعض الناس،أن النقد يكون وسيطا أمينا حالتئذ (1) ،بل لقد صار غاية في ذاته مما أفقده شيئا من قيمته،وبالتالي فقد الإنسان شيئا من قيمة عمله،وجهده،مما يوغر صدره،ويهدر كرامته،لأن النقد أهم ما يعبر عن جهد الإنسان - في باب المعاملات - (وهو الوسيط بين جهد الإنسان وباقي المنافع) فحين يتم التغاضي عن شيء منه في عملية تبادلية (أي قبول مبدأ النقص أو الزيادة في أحد العوضين – حين يكونان من العملة ذاتها،أو حتى عندما يكونان من عملة أخرى شرط وجود الأجل -)فإننا نتغاضى عن شيء من جهد الإنسان ذاته،وهو ما يعني عدم الاكتراث للإنسان وجعل النقد فوقه،وسيتحول الإنسان بعد ذلك من الإنسانية إلى اعتبار الإنسان شيئا من المادة ذاتها لا روح بل ولا عقل.
أصحاب المعالي.
__________
(1) - قال شينكاروا آيشهارا – أحد الاقتصاديين في اليابان - :"إن النقود يتعين ألا تكون موضوعة للمضاربة؛لأن الوظيفة الأساسية للنقود يجب ألا تكون إثراء للمصارف،وشركات الأوراق المالية،ولكن لتمهيد السبيل لأنشطة الإنتاج.
قال بيتر دار كر : لايستطيع الأمريكيون أن يعيشوا في اقتصاد رمزي،حيث لا يفعل رجال الأعمال أكثر من اللعب بالأرقام،وعلى الأمريكيين أن يعودوا إلى اقتصاد حققي تتحرك فيه التقود لحركة أنشطة الإنتاج الفعلية....وعلى ذلك فإن الاقتصاد الأمريكي هو اقتصاد بلا جوهر،ويتعين عليه أن يعود ليكون اقتصاد إنتاج حقيقي"،انظر ص (25)المصرفية الإسلامية (الأزمة و المخرج) – يوسف كمال محمد – دار النشر للجامعات المصرية – 1996م.(1/7)
هناك فئة ترغب في زيادة النقود بيدها دون منفعة حقيقية يستفيدها المجتمع من ذلك النقد،يعني زيادة دون عمل،نعم هم تلك الفئة التي تدفع النقد ليكون هو بذاته سببا لزيادته،بحيث لا يكون واسطة للتبادل،بل حتى حين يعلمون بوجود تبادل – وذلك لدى دخولهم فيما يسمونه استثمارا - لا يبالون بنقص غيرهم ما داموا هم في زيادة،ويضمن الآخرون لهم ولا شأن لهم بالمجتمع،ويغنمون حتى حين يغرم الآخرون،فلا تبادل على وجه الحقيقة مع وجود زيادة ترجع إليهم.
يالها من خدعة،سنرى أثرها على المجتمع فيما بعد.
أصحاب المعالي.
هنا سؤالان أنتظر إجابتهما منكم،وهي التي ستكون مفيدة لنتحدث بوضوح أكثر عن مشروعنا وبشيء من التفصيل.
وهما:
? هل سيكون من الأفضل عند صاحب رأس المال - وليكن 100,000,000ريال - وضع ماله لدى بنك مقابل نسبة محددة مسبقا،ولتكن 5% كربح سنوي،أو استثمار ما لديه من مال في مشروع قد يحقق ربحا يصل إلى 10%،أو أكثر سنويا،مع احتمال خسارة قد تصل إلى النسبة ذاتها للربح المتوقع،أو أكثر،أو قد تجتاح المال بأكمله؟
? البنك حين يستلم ذلك المبلغ،كيف سيستغله،كي يضمن تسديده لتلك النسبة؟
لأنه قد ضمنها لذلك المودع – أو المقرض،أو المستثمر! – من قبل.
أصحاب المعالي.
أريد جوابا يتفق مع رغبة غالبية أصحاب رأس المال،والذين وصفهم كبار الاقتصاديين بعبارتهم المشهورة(رأس المال جبان)،كما أرغب في جواب لا يأخذ الاعتبارات الشرعية بالحسبان – على أهميتها،بل لا أهمية لغيرها،إلا أنني أريد ما نستطيع به مجادلة أصحاب الرأي الآخر بأسلوب لعله يكون أجدى – نعم سيكون الاختيار الأنسب هو الحصول على الربح المضمون،ولو قل.
لأنهم سيجدون أنفسهم أكثر اطمئنانا.
وبعد ذلك سيقوم البنك بالأمر ذاته،وسيلجأ إلى وضع المبلغ لدى جهة أخرى – بنك وهو المفضل هنا،أو غيره – تقوم بدفع نسبة أعلى،ليصبح الفرق ربحا لصالح البنك الأول،وهكذا.(1/8)
ولابد تقودنا هذه السلسلة في النهاية إلى مستثمر يقبل تحمل عبء مغامرة يدخلها مع احتمال الخسارة والربح،غير أنه مدين لتلك الجهة المقرضة بمبلغ تزيد نسبته حسب حظه،ومدى طول السلسلة التي وصلت بالمبلغ إليه.
مع العلم بأن تلك الجهة المقرضة مضطرة للتساهل مع ذلك المستثمر من حيث الضمانات،نظرا لرغبتها الشديدة في تحويل العبء عنها،خصوصا حين لا تجد من الجهات الاقتصادية – البنوك – من يعطيها هامشا مناسبا للربح،فيكون ذلك المستثمر وبشروط سهلة هو ملاذها وهو من سيقبل دفع تلك النسبة بهامش مفيد،ولنقل بلغ ما سيدفعه المستثمر 9% سنويا (1) .
__________
(1) - في كثير من الحالات نجد الدول في ذلك الموقع البائس،فمثلا قبلت تركيا الاقتراض من البنوك الربوية بنسبة مضمونة قدرها 150%!!!! – كما ذكر ذلك نجم الدين أربكان في لقاء ضمن برنامج "بلا حدود" بتقديم أحمد منصور في قناة الجزيرة الفضائية - والسؤال من سيتولى الدفع؟ومن المستفيد من هذا الدين أصلا؟ثم لو لم تقدر الدولة على دفع خدمات الدين فما مصير حقوق الدائن الأول،ومن سيعطيه حقه أي رأس المال ولو بدون تلك النسبة؟،وما أثر ذلك على رؤوس الأموال بصفة عامة؟،وما هي الضغوط التي ستمارس على الدولة كي تلتزم على الأقل بدفع خدمات الدين؟ومن الذي سيدفع فاتورة تلك الضغوط؟
إن التبعة بكل ثقلها سيتحملها صغار أصحاب رأس المال،وسائر ذوي الدخول المحدودة،بل وذوي من لا دخل لهم أصلا،على صورة ضرائب لا نهاية لها،وبصور شتى لا تكاد تصدق،مما ينشر الرشوة للتهرب من الضرائب،ولإسقاط كل ما يمكن التحايل لإسقاطه من تلك الإتاوات،وسيزداد الفقير فقرا،وسيعم البلاء،ويقع الناس في يأس شديد،وستضعف العملة وتقل قوتها الشرائية،وستزداد الأثمان زيادة لا يتحملها الناس،والنتيجة ثورة على كل شيء،وهنا تتدخل الدول الكبرى والبنك الدولي للمزيد من القروض،وللمزيد من البلاء،وهو حل ليس أكثر من مسكن،ولا صلة له بعلاج الداء،لا يلبث الألم بعد قليل أن يعود،وستتدخل تلك الجهات ليس لأنهم يقدرون الموقف ويرحمون الفقراء،لا هذا ليس مهما بل تدخلهم من أجل عدم انهيار النظام؛ كي يستمر التدفق للسداد ولو بأقل مما كان متوقعا،لأن الاستمرار خير من الانقطاع،وسيعمدون إلى حيلة أخرى يسمونها(إعادة جدولة الديون)،وهذا ما يفسر تدخل البنك الدولي قبل انهيار كثير من النظم،إلا عندما يضمن قيام نظم أخرى أكثر تقبلا لشروط البنك الدولي،ولسنا بعيدين عن أزمة الحكومة الأندونيسية التي أطاحت بسوهارتوا،ثم جاءت بحكومة تقبلت وصفة البنك الدولي مما لم يجعل الأمور تقل سوءا بل تزداد،ولسنا نبعد عن الأزمة التي وقعت فيها الحكومة الأرجنتينية سوى أقل من شهرين – لهذا العام 2002 - ،ولقد رفض البنك الدولي تقديم القروض،لأن الحكومة قررت عدم الاستمرار في دفع خدمات الدين – وهو قرار صائب 100% - وفضلت الحكومة الاحتفاظ بما لديها من عملة قوية لضمان حد أدنى من الكرامة للمجتمع،لأن كثيرين قد فهموا ما يرمي إليه ذلك البنك،بل وغيره من الجهات المقرضة،قال مهاتير محمد في كتابه خطة جديدة لآسيا ص 40:"لم يعد سرا اليوم إذا عرفنا أن صافي الأموال التي تتدفق من الدول المانحة إلى الدول النامية هي في المحصلة النهائية لا شيء .............لأن الثروة التي تخرج من الدول النامية أكثر بكثير من تلك التي تدخل إليها،وأكثر من ذلك فإن الدول المانحة تتوقع من الدول المستفيدة أن تدين لها بالولاء والطاعة إذ أن المستفيد من الدعم غير مسموح له بالكلام،أو توجيه النقد ........ومع كثرة القروض التي حصلت عليها (الدول في أفريقيا)من الغرب فإن الفوائد على هذه القروض تأخذ الجزء الأكبر من ميزانيات تلك الدول،ورغم أن الهدف المعلن هو جعل هذه الدول تنعم بالثراء فإن غالبيتها أصبحت أكثر فقرا.."أهـ،وأقول هنا لتطمئن الدول المدينة؛لأنها مهما بلغت من الفساد،ومن الفوضى،لن يتمكن المجتمع من تغييرها بالقوة،لأن رأس المال وراء استمرارهم في الحكم كي يستمر التدفق في السداد – باعتبار الدول أفضل مستدين لأن الفاتورة تسجل على الجميع،وليس الجميع مسؤولا عن توقيعها إن المسؤول عن توقيعها هم أولئك القلة التي تعبث بالوطن وأهله وفي النهاية ليسوا من سيدفع،حتى وإن تم تغييرهم بطرق ثورية!! أو حتى ديمقراطية!! -،.(1/9)
أصحاب المعالي.
رجل يملك 100،000،000ريال،سيضمن 5% سنويا كربح من ذلك البنك،والبنك سيعطيها بنكا آخر بنسة 7% سنويا،وهذا سيعطيها مستثمرا بنسبة 9%سنويا،والمستثمر في أحسن الأحوال (1) سيقوم بتأسيس صناعة في مجال من المجالات ولنفترض هنا أنه قام بعمل مصنع متكامل للسجاد–نسأل الله تعالى له التوفيق - .
والسؤال الآن :
كيف سيكون سعر تلك السلع التي يقوم المستثمر ببيعها؟
__________
(1) - هذا أضربه كمثال،وإلا فأغلب المستثمرين يلجئون إلى تجارة العملة،قال مهاتير محمد في كتابه الرائع (خطة جديدة لآسيا)ص183:"فتجارة العملة كما يقال:هي أكبر عشرين مرة من ناحية النقود من تجارة السلع،والخدمات،ولكن ما هي المزايا،والفوائد،التي نحصل عليها منها؟
بخلاف عدد قليل من الأشخاص،الذين يكسبون مبالغ مالية ضخمة؛فإنها لم تحدث أية زيادة في معدلات التوظيف،أو نمو في النشاط التجاري أو في ثروات الأمم والشعوب"أهـ،وهذا ما عبر عنه موريس آليه – أحد أهم الاقتصاديين في الغرب – بأنها الطفيلية الزائدة للرأس مالية المعاصرة،ونص كلامه كما في كتاب المصرفية الإسلامية (الأزمة و المخرج)،قال:"النقود التي تتدفق حول العالم – حيث البحث عن الربح المتوقع من أسعار الصرف قد تضاعف منذ 1980م ...وإلى 1986م 15 – 20مرة أكثر من حاجة التجارة الدولية...وهو ما يعني أن هناك زيادة أكبر 43مرة من التدفقات الملائمة للصفقات المتعلقة بالسلع والخدمات،....أي صارت تجارة الصرف أضعاف التجارة الخارجية،والحقيقة أن معظم معاملات تجارة الصرف مالية أكثر منها تجارة...,لقد أصبح هذا الانفصام متزايدا بين رأس المال المنتج،ورأس المال النقدي،بين الاقتصاد الحقيقي،وما يسمى بالاقتصاد الرمزي،وأصبحت هناك مفاضلة بين استخدام رأس المال في الديون،واستخدامه في الإنتاج....وهذا تطور خطير يكشف عن ازدياد الطابع الطفيلي للرأس مالية المعاصر"،انظر المرجع السابق ص28.(1/10)
للإجابة نفرض أن تكلفة التصنيع تبلغ 10 ريالات للمتر،ونجعل 35% مصاريف عمومية وإدارية،حين يقر مجلس الإدارة تلك النسبة،أي ستصبح تكلفة المتر 13،5ريال،وهامش الربح الذي قرره مجلس الإدارة 50%من سعر التكلفة أي سيكون البيع 6،75+13،5=20،25ريال،هذا هو المقرر،ولكن المستثمر تواجهه مشكلة خدمات الدين وهي ما نسبته 9%،ولهذا سيتم وضعها ضمن هامش الربح أو ضمن تكلفة المتر النهائية،وهو ما سيكون 1،2ريال تقريبا قبل وضع هامش الربح،ولذا سيزيد سعر المتر بالمقدار ذاته،ليصبح 21،5تقريبا.
هذا سعر البيع المناسب للمستثمر،فهل هو السعر الذي سينزل إلى السوق؟
لا
لأن المستشار الاقتصادي للشركة قد جعل الاحتياط في وجود كساد ونحوه من الطوارئ ما جعل سعر المتر 60 ريالا.
لماذا؟
لأنه سيكون مضطرا لتحميل كل متر سيتأخر بيعه عن عام ما نسبته 9% على الأقل،وهي خدمات ذلك الدين،وعند وجود تأخير في بيع شيء من بضاعته،لن يتقبلها السوق إلا بعد وضع خصم جيد عليها باعتبارها بضاعة قديمة،وهكذا في كل متر يتأخر بيعه،بينما سعر تكلفته يزيد على الأقل 9%،فكيف سيكون الخصم على شيء ستزيد كلفته مع الأيام،فكان المخرج جعل سعر البيع للمتر الجديد 60 ريالا،ليصبح الخصم على البضاعة القديمة لعام 50%،أي 30 ريالا،ولعامين 60% مثلا،أي 24ريالا للمتر،وهكذا تقل آثار تراكم خدمات الدين (1) .
والملاحظ هنا أن المتضرر من الغلاء الشديد هو المستهلك.
__________
(1) - وفي الواقع ليس الأمر على هذا النحو تماما إلا أنه تقريب لا بأس به،يسهل فهم تلك التعاملات.(1/11)
كما لابد من ملاحظة أن بعض المستثمرين سيلجأ إلى أمر آخر وذلك عندما لا يحبذون النزول إلى السوق بسعر عال منذ البداية – ذلك عندما توجد منافسة في المجال ذاته - فعندها سيكون سعر البيع مماثلا لما ينبغي أن يكون عليه الأمر وفي مثالنا21،5ريال،ولكنه سيضطر إلى رفع مستمر للسعر آخذا بالحسبان خدمات الدين للبضاعة التي لم يتم بيعها (1) ،ليصير عبءا تتحمله البضاعة الجديدة،وهو ما نراه في معظم الحالات اليوم،وهو ما يعتبر شيئا يسيرا ولكنه لا يلبث أن يتفاقم ويضر بالمجتمع وهو ما يعني وجود تضخم مستمر (2) ،قد لا تظهر آثاره قريبا،ولكن لدى وجود أقل طارئ يجد الناس أنفسهم أمام أموال عظيمة مهدرة (3) ،
__________
(1) - بالمناسبة تقوم الشركات بعمل حساباتها لتسديد خدمات الدين فقط،وليس من برنامجها سداده قط – هذا غالبا – ولذلك عندما توجد أزمات يحتاج فيها الناس لاسترداد نقودهم فهم لن يجدوها.
(2) - انظر بحثا قيما لهذه المسألة في رسالة الدكتوراه مقدمة من د.أحمد حوَّا بعنوان :صور التحايل على الربا وحكمها في الشريعة الإسلامية،قال ص57:"إن الفائدة سبب رئيس في ارتفاع الأسعار؛حيث تدخل في عمق كل شيء يشترى،وذلك أن هذه الفائدة كلما ارتفعت أدى ذلك إلى زيادة تكلفة الاقتراض،وبالتالي تكلفة الإنتاج.....يقول العبَّار:من أهم عيوب النظام النقدي المعاصر في الاقتصاديات الربوية...وجود خلل بين كمية النقود وكمية السلع والخدمات،وهذا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار،والذي يقود إلى ارتفاع سعر الفائدة،كمحاولة من الحكومة لامتصاص النقود من السوق،ولكن ارتفاع سعر الفائدة يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكاليف السلع والخدمات مما يؤدي إلى ارتفاع آخر في الأسعار،وهكذا تدور الدورة وتسبب مضاعفاتها"أهـ.
(3) - قال د.محسن.س..خان في بحث رائع نشر في مجلة الاقتصاد الإسلامي المجلد التاسع وعنوانه(النظام المصرفي الإسلامي الخالي من الفائدة : تحليل نظري):" ويبين البحث أن النظام المصرفي الإسلامي قد يكون أكثر ملاءمة من حيث قدرته على التكيف مع الصدمات التي تنجم عن الأزمات المصرفية واختلال عمل جهاز المدفوعات بالدولة . ويرجع السبب في ذلك إلى أن النظام الذي يقوم على الاشتراك في الملكية والذي يستبعد أسعار الفائدة المحددة مسبقاً ولا يضمن القيمة الاسمية للودائع، هذا النظام حين يواجه ظاهرة حدوث صدمات لأوضاع الأصول، يسمح بامتصاص هذه الصدمات فوراً عن طريق التغيرات في قيم الأسهم (الودائع) في حوزة الجمهور لدى البنك. ولهذا، فإن القيم الحقيقية لأصول وخصوم البنوك في مثل هذا النظام ستكون متساوية عند كل النقاط الزمنية . أما في النظام المصرفي الأقرب إلى الطابع التقليدي فإننا نجد أن القيمة الاسمية للودائع ثابتة، لذا فإن مثل هذه الصدمات يمكن أن تؤدي إلى تباعد بين الأصول الحقيقية من جهة والخصوم الحقيقية من الجهة الأخرى ، وليس من الواضح ، مسبقاً ، كيف سيجري تصحيح مثل هذا الاختلال ، وكم من الوقت ستستغرقه عملية التصحيح . وبعبارة أخرى ، فإن هناك جموداً في النظام المصرفي التقليدي يمنع التكيف الفوري ، وهذا الجمود يمكن أن يؤدي إلى احتمالات عدم الاستقرار"أهـ،ولقد بين خلال تلك الدراسة التي نشرها تفسيرا كافيا لكلامه الذي نقلته هنا،إلا أنني أوضحه بأسلوب آخر من خلال هذا المثال،حين يقوم رجل بوضع مبلغ تصل قيمته الاسمية إلى 100,000ريال،ونسبة الفائدة عليه 5%،ثم تمر الدولة أو البنك بأزمة لطارئ من الطوارئ – حرب لا سمح الله،أو أعاصير لا سمح الله،أو نحو ذلك – مما سبب الانهيار لكثير من المصانع المنتجة،وغيرها،مما أدى إلى عدم قدرة المستثمرين على الوفاء لتلك البنوك بسداد خدمات الدين فضلا عن الدين ذاته،السؤال الآن كم سيكون نصيب ذلك الرجل لدى ذلك البنك بعد مرور عام ؟سيكون 105000ريال هذا حسب النظام التقليدي – الربوي – في حين خسر البنك شيئا كثيرا من أصوله،وسيكون مطالبا بسداد تلك المبالغ لمن وضعوا أموالهم لديه،وهو لا يستطيع ذلك مما يؤدي إلى تدخل الدولة باعتبارها الضامن لتلك البنوك،أو تتدخل شركات التأمين المتخصصة في تأمين القروض البنكية،ونظرا لكبر الأزمة وشدتها،عجزت الدولة عن الوفاء بتلك الأموال وهو ما واجه شركات التأمين أيضا،في حين بقيت الفيمة الاسمية للدين 105000ريال،وهو مبلغ يطالب به ذلك الرجل تحسبا للظروف وهو مصمم على استرجاعه من البنك،ولكن البنك لا يستطيع،لأنه كما هو الواقع يوجد ألوف من المودعين ينتظرون استرجاع أموالهم،لوجود موجة من الهلع وإقبال على سحب الأموال من البنوك،والبنوك لا تفعل شيئا حيال ذلك،وهناك مودعون كبار من بنوك أجنبية،ورجال أعمال فوق العادة يطالبون بحقوقهم،والبنوك مكانك راوح،وما الحل عندها ؟
قد يلجأ المسؤولون إلى تخفيض قيمة العملة إن لم يكن انهيارها– هناك فلسفة ليس هذا محل شرحها تبين سبب اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة في هذه الحالة والمفيد هنا أنه حل تتحايل من خلاله الجهات المسؤولة عن الاقتصاد في البلد لتقليل القيمة الاسمية للمبالغ المطلوبة مقابل الاحتياطي من العملة الأجنبية– وقد يلجأ المسؤولون إلى فرض الضرائب الباهضة،ويقللون النفقات والمعونات وهو ما يؤدي إلى غلاء شديد،مما يزيد الأمر سوء،وهذا كله سنكون في غنى عنه في ظل الاقتصاد الإسلامي.
كيف؟
لقد كتب د.محسن خان بحثه السابق ليثبت ذلك بطريقة رياضية مستخدما في ذلك الطريقة الحديثة وهو متخصص في هذا الشأن ويعمل مستشارا في قسم البحوث لدى صندوق النقد الدولي،وملخص قوله إنه في الاقتصاد الاسلامي لا يسمح بما يسمى سعر الفائدة،ولذا سيكون من وضع ماله لدى البنك أحد رجلين،إما شريك في البنك شأنه شأن باقي المساهمين في البنك،وبالتالي له ربح حين يحقق البنك ربحا،وبالتالي لديه مبالغ تعادل قيمتها الاسمية الأصول لدى البنك،وينقص نصيبه في تلك القيمة الاسمية على قدر النقص الذي عرض للبنك جراء تلك الطوارئ،لأنه شريك في الربح والخسارة،وعندها لن يطالب البنك بشيء يفوق ما يملكه البنك من أصول،لأن الأصول والخصوم هنا تقفان عند نقطة التعادل وهي حين يكون الفرق بينهما(صفرا)،والرجل الآخر هو رجل لا يريد الدخول كشريك مع البنك،ولكنه يريد أن يعمل البنك كأمين يحفظ أمواله،وعندها يحق للبنك أخذ نسبة كأجرة حفظ،وهو ما يتفق مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي،شرط أن تبقى نسبة الاحتياطي النقدي في هذه المعاملة – وقد سماها د.محسن في بحثه نافذة – بنسبة 100%،وهو أمر قد أخذ به وأقره بعض كبار الاقتصاديين النقديين في أمريكا مثل:فيشر (Fisher-1945) ، وسايمونز( Simons-1948) ، وفريدمان( Friedman-1969)،وقريبا منهم كندلبرجر Kindleberger (1985) ، وكاريكن Kareken (1985) ، وجولمبي ومنجو Golembe & Mingo (1985)،على تفاوت بينهم في تفسيرهم لتلك المقترحات،إلا أنهم يضعونها وهي تكاد تتفق مع نظرة الاقتصاد الإسلامي في هذا الصدد،ويحدوهم الأمل أن تحقق تلك المقترحات فرصة حقيقية لمواجهة أزمات اقتصادية عصفت بأوساط القرن الماضي وأواخره،حيث وجدوا في إلغاء سعر الفائدة،وفتح نافذتين للودائع البنكية إحداهما للحفظ يكون الاحتياطي فيها بنسبة 100%مقابل أجرة حفظ،والأخرى مساهمة مع البنك بنظام المشاركة في حصص الملكية،الملاذ المناسب لمواجهة تلك الأزمات،قال د.محسن في صدد هذه الجزئبة نقلا عن بعض من سبقت الإشارة إليهم،قال:"أثارت الأبحاث التي قدمها كندلبرجر Kindleberger (1985) ، وكاريكن Kareken (1985) ، وجولمبي ومنجو Golembe & Mingo (1985) في مؤتمر نظمه بنك الاحتياطي الفدرالي لسان فرانسيسكو ، مرة أخرى ، قضية احتمالات عدم الاستقرار في النظام المالي نتيجة لوجود جهاز مصرفي يعتمد على احتياطي جزئي مع وجود تأمين رسمي على الودائع. وأشار كاريكن (1985) وجولمبي ومنجو (1985) إلى أن السبب وراء إسباغ أهمية خاصة على ظاهرة إخفاق البنوك (إذ تختلف عموماً عن حالة إفلاس شركة من الشركات) هو أثر ذلك على جهاز المدفوعات في الاقتصاد ككل . وبالتالي ، فإن ما ينبغي حمايته هو كفاءة عمل جهاز المدفوعات ، ولا يشمل ذلك بالضرورة جميع عمليات الإقراض والاقتراض التي تقوم بها البنوك ، ولذا يرى هؤلاء الكتَّاب أن تقوم الحكومة بفصل عملية تقديم خدمات المدفوعات عن خدمات الإقراض ، وهو ما يعني في جوهره إنشاء النمطين المستقلين من البنوك اللذين تحدث عنهما سايمونز ( 1948) . وسيكون جانب المدفوعات لدى البنوك ، أي أرصدة المعاملات - مدعوماً بنسبة 100 بالمئة بواسطة نوع ما من الأوراق المالية المأمونة - مثل أذونات الخزانة الأمريكية ، بينما تترك الأنشطة الخاصة بالمحفظة الاستثمارية للبنك دون قيود . ولا تختلف أي من هذه المقترحات ، كما لا يختلف ما اقترحه سايمونز ، بشكل جوهري عن الأنظمة الإسلامية التي تُنفَّذ الآن في عدد من البلدان ، على الأقل في جانب الإيداع . غير أنه ينبغي التأكيد في نفس الوقت على أن الجهاز المصرفي الإسلامي يتطلب أكثر من ذلك ، فهو يشترط أن تكون القروض والسُّلَف التي تقدمها البنوك أيضاً على أساس المشاركة في حصص الملكية"أهـ.(1/12)
لأنه بحسب المستثمرين سداد خدمات ديونهم،أما الديون ذاتها فهم لا يقدرون على سدادها في غالب الحالات.
ولو أرادوا فلن يكون إلا على حساب إغلاق أبواب كثير من الشركات،ولهذا وقعت النمور الآسيوية في شر عظيم،عندما رغب بعض المقرضين (1) الحصول على أموالهم،وإلا فهم سيعلنون أن الاقتصاد هناك لا يوثق به (2) ،فقامت البنوك بطلب سداد الديون من المستثمرين،وهو ما لم يحدث،فرفعت قضايا حقوقية قضائية في هذا الخصوص،وتم بيع شركات كبيرة بأبخس الأثمان (3) ،
__________
(1) - ليست المعاملة هنا قرضا رغم أن أغلب من يتحدث عنها يعدها كذلك،غير أني أصنف المعاملة على نحو مختلف سيطلع عليه القارئ بعد قليل,وهنا إنما استخدم ذلك التعبير من قبيل المجاراة حتى يأتي التحقيق في هذا لاحقا.
(2) - قال مهاتير محمد في كتايه(خطة جديدة لآسيا)ص87:"لقد وجهت انتقادات للمليونير والمستثمر الأمريكي جورج سورس في مناسبات عديدة لدوره في انخفاض قيمة العملات الآسيوية،ولم يكن ذلك يقصد به أبدا الهجوم على سورس كشخص،ولكن سورس كان واحدا من تجار العملة المعروفين بالصراحة وربما أكثرهم نفوذا على نطاق العالم،والتجار مثله لديهم مسؤولية عظيمة،حيث إن الكلمة تخرج منهم يمكن أن يطال أثرها ملايين الناس،وللأسف فإن هذه المسؤولية لم يتم الاعتراف بها فحسب بل إن الأشخاص الذين يتجرأون على الكلام ويتساءلون عن نفوذ تجار العملة يدمغون بالهرطقة والخروج عن المسار المألوف "أهـ.
(3) - وهو ما صرح به مهاتير محمد في الكتاب آنف الذكر قالص89:"ومع استمرار الانهيار في أسعار البورصة،والعملات فإن المستثمرين الأجانب أخذوا يتحركون ويدخلون المنطقة لجني الأرباح،ويجري شراء الشركات التي في حاجة ماسة إلى السيولة في كوريا الجنوبية،وأندونيسيا والعديد من دول شرق آسيا بأبخس الأسعار..."أهـ..(1/13)
بعد إعلان إفلاس كثير منها،وتم تسريح ألوف الناس من أعمالهم،لأن الآلية التي تعمل بها تلك الشركات لم تكن لتستطيع المنافسة لو وضعت في خطتها سداد الدين،فلم يكن عند معظمها سوى آليه لسداد خدمات الدين،فعندما اضطرت البنوك لسداد مبالغ كبيرة لبعض المستثمرين أغلقت أبوابها وسرحت موظفيها ومثلها كثير من الشركات.
لتظهر بسبب ذلك مأساة البطالة مع ما تجلبه من ويلات وفساد،فكم من إنسان خسر عمله،بسبب ما يسمى بسعر الفائدة،فهو كما ظهرت مسؤوليته عن التضخم – وهو ليس ينفي وجود عوامل أخرى إلا أنني أجادل في جعل هذا من أهم عوامل التضخم – تظهر الآن مسؤوليته عن خسارة كثيرين لأعمالهم،بل عدم وجود أعمال أصلا – وكذلك هنا أقول: ليس هذا ينفي وجود عوامل أخرى إلا أنني أجادل في جعل من أهم عوامل البطالة -،وهو ما يعني مزيدا من الفقر والجوع وبالتالي الجريمة والفساد (1) .
أصحاب المعالي.
كيف ستعالج مأساة البطالة؟
هناك جواب على طرف لسان كل اقتصادي يحدده قولهم على الدولة خفض سعر الفائدة،حتى لقد لجأ البنك المركزي الأمريكي بجعلها1,25% فقط (2) ،
__________
(1) - والمزيد من الطلاق،لأن الحالة الاجتماعية تتأثر بالحالة الاقتصادية،فكم من بيت انهار بسبب عدم وجود عمل لمعيله!وكم من فتاة زلت لعدم وجود عمل؟
وكم من شاب واقع الزنا لأنه لا يجد عملا،أو يجد ما لا يمكنه من فتح بيت،فتصير الفاحشة ملاذا له،وكم ...........وكم..ومن هنا نجد معنى آخر للحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده (5/225) من رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دِرْهَمُ رِباً يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً ». وهو حديث قابل للتحسين.
...
(2) - وهو أقل ما تم تسجيله منذ 41عاما،انظر :
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/business/newsid_2414000/2414007.stm(1/14)
في أوائل شهر نوفمبر عام 2002م؛ لمواجهة البطالة التي ارتفعت نسبتها كثيرا لديهم (1) ،وبعض الدول جعلتها أقل من ذلك،والسؤال لماذا لا يتم إلغاءها ما دام وجودها يسبب البطالة وعلاج البطالة في تخفيضها؟
__________
(1) - حيث وصلت إلى 5,7،وهي مرشحة لتصل إلى 6,4،انظر موقع جريدة الوطن:
http://www.alwatan.com/graphics/2002/10oct/18.10/heads/et6.htm
لمقال كتبه جاي هانكوك
كاتب عمود في الشئون المالية في صحيفة الصن خدمة (لوس انجلوس تايمز ـ واشنطن بوست )
على أنني لست متأكدا من صحة هذا التقدير الذي قدمه الكاتب،كما أنه أقر بوجود خلل في الإحصاءات المعلنة من قبل الحكومة الأمريكية،ويزداد الشك لدى قراءة تقرير عن عدد من يعيشون تحد خط الفقر في أمريكا حيث قدر ب 33مليون شخص،انظر
http://arabic.peopledaily.com.cn/200209/26/ara20020926_57887.html
وهو يعادل 13% من عدد السكان.
فهل يصح تصور أن 5,7%هي النسبة الفعلية للبطالة مع وجود هذه النسبة العالية من الفقر!.(1/15)
هناك أجوبة للاقتصاديين لست بصدد تفنيدها (1) ،
__________
(1) - يقولون: إن وجود سعر الفائدة يساعد على وجود آلية تتحكم في التضخم،وآلية يستفاد منها في تنشيط أو الحد من الاستثمار،من خلال تحديد مستوى قوة العملة،كما يساعد على وجود معدلات مناسبة من البطالة لمواجهة الإضرابات العمالية،كما له فوائد أخرى إلا أننا في الواقع نجادل في صحة كل ما يقال عن فوائد وجود سعر الفائدة،ونجزم بوجود آليات أخرى أكثر ملاءمة تحقق الانضباط المطلوب في جميع تلك الحالات،خصوصا مع ما شهده مفهوم الدولة من تبدل،حيث صارت الدولة يعبر عنها بدولة الرعاية،وليس مجرد دولة الحماية كما كان وضعها من قبل،ولذلك ليس كافيا الحديث عن إلغاء سعر الفائدة دون الاهتمام البالغ بمفهوم شامل لتصور الشرع الحنيف للاقتصاد الإسلامي،فهو منظومة متكاملة من خلالها يتحقق الإصلاح الاقتصادي،قال محسن خان في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه:"وبشكل عام ، فإن اصطلاح "الاقتصاد الإسلامي " يعني نظاماً كاملاً يحدد أنماطاً محددة من السلوك الاجتماعي والاقتصادي لكل الأفراد . فهو يتناول مجموعة واسعة النطاق من القضايا، مثل:
حقوق الملكية
ونظام الحوافز
وتخصيص الموارد
وأنماط الحرية الاقتصادية
ونظام اتخاذ القرار الاقتصادي
والدور الملائم للحكومة
والهدف الأعلى للنظام هو العدالة الاجتماعية
وتحقيق أنماط محددة لتوزيع الدخل والثروة
وبالتالي فإن السياسات الاقتصادية ينبغي أن توضع لتحقيق هذه الغايات
وبالإضافة إلى قضية سعر الفائدة
فإن الاقتصاد الإسلامي يوفر أيضاً مبادئ توجيهية دقيقة حول بعض القضايا الأخرى مثل : السياسة الضريبية ، وتوجه النفقات الحكومية . ويتوقع من المصارف الإسلامية أن تشارك بشكل إيجابي في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي ، وبالتالي ينبغي أن يكون عمل البنوك الإسلامية "متسقاً مع المعتقدات والقيم الإسلامية" أهـ.(1/16)
غير أنه من المناسب فهم العلاقة بين سعر الفائدة والبطالة،فهو أمر يوضح عاملا من أهم العوامل المسئولة عن وجود تلك الظاهرة.
أصحاب المعالي.
تصوروا أنه قد تم إلغاء سعر الفائدة تماما.
ما الذي سيفعله أصحاب رؤوس الأموال،وفي مثالنا صاحب 100،000،000ريال؟
سيقول بعضهم لن يستثمر!
بل سيفضل الاحتفاظ بالمال لديه.
أقول له:لا بأس عليه دفع 2،5%سنويا للزكاة،يعني 25%خلال 10سنوات.
وهذا لن نجد من يقبل به مهما قلنا عن جبن رأس المال.
ولذلك سنجده صاحب ذلك المصنع للسجاد،وسيكفيه البيع 21،5ريال للمتر،والبضاعة التي تتأخر لن يتحمل بسببها عبءا جديدا سوى التخزين وهو أمر لا يكاد يذكر في مثل هذه الحالة،وسيكون ممكنا له أن ينافس في كلا الحالتين،في الوقت الذي نجد العامل أكثر أمانا بسبب استقرار الوضع المالي لصاحب الشركة،وبالتالي سيكون المجتمع أكثر استقرارا،ولن يكون ارتفاع الأسعار أمرا لا مفر منه،وسنجد الاستثمار في كل زاوية،وسيبدع أصحاب رؤوس الأموال في ابتكار أساليب لتثمير أموالهم (1) ،وسيكونون دائما في حاجة ليد عاملة،وهو ما يقضي على البطالة أو يحد منها على الأقل،وسيكون المجتمع في نمو مستمر،واستقرار.
أصحاب المعالي.
__________
(1) - وهو ما ستفعله البنوك حلتئذ،وهو ما يشير إلية د.محسن خان في دراسته التي سبقت الإشارة إليها،ستصبح البنوك شريكا مضاربا له حق الإشراف المباشر على مشاريع المستثمرين،وستقوم بدورها الكبير في تشجيع الاستثمار لأنها كما أريد لها أن تكون مستودع الثروة،بل سوف تمارس الاستثمار بذاتها،وستجهد في توسيع دائرة الاستثمار قدر طاقتها.(1/17)
أهم ما يقوله بعض الاقتصاديين إن نقص سعر الفائدة فضلا عن إلغائه يؤثر لينقص من سعر العملة،مما سيؤدي إلى التضخم(غلاء السلع)، وذلك بسبب كثرة المعروض من النقد (1) ،ولا نجادل أن ذلك سيؤدي إلى تنشيط الاستثمار ويسهم في تقليل نسب البطالة، إلا أنه يزيد في رغبة السوق لرفع الأسعار.
__________
(1) - لأنك عندما لا تستفيد منه لدى بقائه في البنك فستنزل به إلى السوق مما يوفر النقد بأيدي الناس،والعرض إذا لم يقابله طلب مناسب أنقص من قيمة المعروض.(1/18)
وأقول:لا بأس لأن الغلاء حين يكون معقولا،أقل سوءا من البطالة،على أن الحديث عن هذا الأمر كما لو كان مسلما به غير صحيح،لأننا نستطيع مواجهة الغلاء من خلال الجهات التي تحمي المستهلك وتعمل على استقرار الأسواق (1) ،
__________
(1) - والخدعة التي يسمونها باقتصاد السوق،ليست سوى بضاعة نفقت عندنا،وهم يواجهون غلواءها بكل حيلة يستطيعونها،فانظر إلى أحزاب اليسار ويسار الوسط عندهم- وهي تلك الأحزاب التي تقف في مواجهة رأس المال وتبحث عن أفضل السبل لحماية الطبقات العمالية ونحوها – نعم ترى تلك الأحزاب تؤثر في قرارات الحكومات المحافظة – وهي في الغالب يمينية رأس مالية– مما يعني حماية المستهلك،وسائر الطبقات في المجتمع،بل نجد تلك الأحزاب اليسارية تسيطر على دفة الحكم في كثير من تلك البلاد،حتى صارت أحزاب اليمين تنزع إلى اليسار،والعكس في أحزاب اليسار حيث صارت تنزع إلى اليمين،وهي محاولات منهم لاستقطاب الأصوات لصالحهم حتى لقد يصح تصنيف بعض أحزاب اليسار من يمين الوسط،وكذلك بعض أحزاب اليمين من يسار الوسط،ضمن سياق أسميه الأحزاب الاشتراسمالية،مثل حزب العمال البريطاني،فهو يساري تخلى عن كثير من يساريته لصالح رأس المال ولكن ليس في غياب لحقوق الطبقات الأخرى،قال د. منير الحمش في قراءة مميزة (للجوانب الاجتماعية للاصلاح الاقتصادي) وهي محاضرة ألقاها ضمن فعاليات جمعية العلوم الاقتصادية السورية،قال:" وربما يكون من المفيد أن نمر على عجل، بمنطلقات ما دُعي «الطريق الثالث» الذي وصفه توني بلير (رئيس الوزراء البريطاني) بأنه «ديمقراطية اجتماعية حديثة» مشيراً إلى أنه ليس حلاً وسطاً بين اليسار واليمين، فهو يسعى إلى تبني «قيم أساسية للوسط والوسط اليساري».
ويعتقد أنطوني جيدنز،وهو المنظر البريطاني للطريق الثالث، ويعتبر بمثابة المرشد الروحي لأنتوني بلير أن «الديمقراطية الاجتماعية تستطيع، ليس فقط أن تعيش، ولكن أيضاً أن تزدهر على المستوى الأيديولوجي، وكذلك على المستوى العملي..» وهو إذ يرى «موت الاشتراكية» وبأنه لم يعد هناك بدائل للرأسمالية، فإنه يرى بأن «ينبغي أن نسيطر على الرأسمالية وننظمها» ويرى هنا أنه يقع على عاتق الديمقراطيين الاجتماعيين، اتخاذ رؤية جديدة في صلب المجال السياسي، ويدعو إلى أخذ فكرة «الوسط النشط» أو «الوسط التقدمي» على نحو جدي، وتجديد الديمقراطية الاجتماعية، التي تظل العدالة الاجتماعية وسياسة الانعتاق في صلبها، لذا فهو يركز على المشاركة في الجماعة الاجتماعية الأوسع، ويقترح أولاً الشعارين التاليين:
1- لا حقوق دون مسؤوليات (مع توسع الفردية، يجدر والوصول إلى توسيع الواجبات الفردية).
2- لا سلطة دون ديمقراطية (فالطريق الوحيد لبناء السلطة، يكون من خلال الديمقراطية)."أهـ،ونلحظ هنا كياسة التعبير،لأن بلير لم يقل:حل بين اليمين واليسار،بل قال: إنه ليس حلاً وسطاً بين اليسار واليمين،ثم حددها بقوله: قيم أساسية للوسط والوسط اليساري،ليبدو الأمر أمام أنصاره وكأنه خيار من خيارات اليسار،وليس تقاربا مع اليمين!وهذا لا يغير من حقيقة التقارب شيئا حتى ولكأننا نراه في ضمن ذلك السياق وسط بين بين،وقريبا منه حزب جسباه في فرنسا حيث كان رئيسا لوزرائها وهو من اليسار.(1/19)
والسلاح الأهم من خلال توعية الناس وتوجيههم للنفقة في أوجه البر،لا المبالغة في الرفاهية،والأخذ بالكماليات،وعلينا أن ندرك بأن حماية أمتنا في اقتصادها ليس يكمن في إلغاء سعر الفائدة فقط - على أهميته – بل من خلال فهم شامل للإسلام ونظرته إلى الحياة،ونحو ذلك مما سبقت الإشارة إليه.
أصحاب المعالي.
إننا نستطيع أن ندير 1000.000.000ريال(مليار) من خلال 10 أشخاص فقط،ليحركوها كيف شاءوا،ولكن لو أراد صاحبه النزول إلى السوق مباشرة والاستثمار فيه،فهو يحتاج لتشغيله إلى ما لا يقل عن1000رجل يزيدون أو ينقصون وهم إلى الزيادة أقرب،لأننا في الحالة الأولى يمكن جعلها في ديون أخرى أو نحو ذلك،مع وجود عبء على المبلغ (1) ،
__________
(1) - وهذا صحيح لأنهم سيأخذون المبلغ على أساس سعر للفائدة متفق عليه،وسيجمد الاحتياطي النظامي للمبلغ وهو كما ينص نظام مؤسسة النقد في السعودية الصادر في عام 1980م مبلغ غير مستثمر في أي نوع من أنواع الاستثمار،وهو ما تفعله بعض البنوك المركزية في بعض البلدان الأخرى،- مع ملاحظة أن بعض البنوك المركزية تقوم بالاستثمار وتعطي على ذلك بعض العوائد - ،والمهم هنا أن التباين بينهم إنما يكون في نسبة الاحتياطي فقط إذ تبلغ ما يعادل 20%من المبلغ المودع لدى البنك وأحيانا أقل ويزيد في ظروف أخرى،وذلك المبلغ المودع لدى البنك المشار إليه آنفا سيدفع المتبقي منه بعد خصم الاحتياطي كقرض لطرف ثالث،يعطيهم هامش ربح مناسب كما سبقت الإشارة،ولكنه سيحتفظ بالاحتياطي أيضا وهو ما يصل أحيانا إلى 20%،وهو ما يعني 38%تقريبا من أصل المبلغ – المودع لدى البنك الأول - وهو ما يعبر عن الاحتياطي النظامي للمعاملتين،وتصور لو ذهب إلى طرف رابع يعني مزيدا من الاحتياط،فلعلنا نصل في النهاية إلى مجرد 100000000ريال مستثمرة فعلا،ونراها قد نزلت إلى السوق،وهو ما يعبر عن 10%من أصل المبلغ(مليار)،ما السبب؟
إنه سعر الفائدة ورغبة كل مقترض أن يحصل على الفائدة بالقدر ذاته من الضمان،والله المستعان،لقد حرم الناس من المنافع الكثيرة التي كان من الممكن الحصول عليها من هذا المال بسبب سعر الفائدة.
ملاحظة:إنما أردت هنا تحديد المبلغ الفعلي والسيولة الحقيقية،التي يتسنى الانتفاع بها،من النقد في السوق،لدى وجود أي طارئ ،وإلا فحين ننظر إلى ما يطلق عليه الاقتصاديون الودائع المشتقة فالأمر مختلف،إذ وجود 1000 ريال مثلا يعني نزول 4161ريال،إلى السوق خلال ثمان عمليات من الاقراض،ولكنها ليست أكثر من قيود دفترية،لا تصمد أما مطالبة ذلك العدد من المقترضين،مما يسرع في سريان الانهيار للاقتصاد بأكمله لأقل هزة،لأن الاحتياطي القانوني لن يتمكن من مواجهة هذا الطلب الوهمي،لأنه وضمن أعلى نسبة لعلها تصل إلى 20%كما هو الافتراض هنا لن يحقق تغطية مناسبة لتشمل الودائع المشتقة،والله المستعان،وحديثي كان منصبا على تحديد المبلغ الفعلي الذي سيتمكن الناس من تسييله ضمن السياق الذي سبق شرحه في عملية استثمارية حقيقية.(1/20)
لكن عند النزول المباشر سيتركز النشاط ضمن حدود ما يرغب المستثمر بذاته،مع عدم وجود عبء سوى ما لا بد منه ليتحرك المال في تلك العملية الاستثمارية.
... أصحاب المعالي.
... الذي ذكرته من قبل لم أتعرض فيه إلى الجانب النفسي الذي يعكسه سعر الفائدة ويطبع به كثيرين من أبناء مجتمعنا،نعم وبدون مزيد من الشرح هو يوجد تلك الشخصية التي تنعدم لديها روح المغامرة الشرعية،وهو الأمر الذي تبعث عليه الزكاة،لأن رأس المال سيقرر الدخول في مغامرة شرعية(استثمار)،لأنه إذا لم يفعل سيدفع 2,5% سنويا لصالح الفقراء،وسيجد نفسه أمام طريقين،إما الاستثمار – مع ما فيه من مخاطرة شرعية- أو تقبل نقص 2,5%،وهي نسبة الزكاة.
وكثيرون سيقررون الدخول في الطريق الأول،لأن الإنسان يحب الزيادة بطبعه.
الغريب هنا أننا سنرى صاحب المال في الطريق الأول (الاستثمار) يفيد المجتمع فوق تلك الفائدة التي تجلبها الزكاة حين يقرر سلوك الطريق الثاني،وهو سر بديع للتشريع الإلهي،إذ كانت طبيعة حب الزيادة(وسمها لو شئت طمعا)وهي في ذاتها سوء ومقت،إلا أنها هنا حملت المرء على طريق يظنه يحقق ما تمليه عليه تلك الطبيعة،إلا أنه سار عكسها تماما وهو لا يشعر،فأخذ منه المجتمع أكثر بكثير مما تأخذه الصدقة،لقد أخذت تلك الطبيعة 100%من رأس المال ليصبح كله في يد المجتمع،من خلال ذلك الاستثمار،فاتضح بذلك سر بديع للتشريع الإلهي ،إنها طبيعة سيئة حركها الشرع ليرى الناس منها خيرا كثيرا من حيث لا تشعر.
أصحاب المعالي.
أرجئ الحديث عن أمور أخرى لعلها لا تتصل بما نحن بصدده اتصالا وثيقا،ولها عود بإذنه تعالى،والآن أتقدم بالشكر الجزيل لكم على حسن استماعكم،تاركا لكم حرية اتخاذ القرار بهذا الشأن،وفق الله الجميع لكل خير.
ثالثا:مداخلات الأعضاء.
أ مداخلة الدكتور حمدان
أخي عدنان
لدي سؤال أرغب الإجابة عليه.
وهو أليس ما يسمى سعر فائدة هو الربا بعينه وباسم جديد؟
ورد الأخ عدنان
الجواب:نعم.(1/21)
حمدان
فلماذا هذا البحث،وسيقرر مجلسنا منعه تماما في جميع التعاملات البنكية،لأننا نملك دستورا شرعيا لا يقر شيئا يخالف الشرع،فهو أمر ليس مما يدخل تحت طائلة سلطة مجلسنا لأنه فوقها بموجب دستورنا.
أجاب عدنان
هذا صحيح،ولكننا نجد من أهل العلم من قبل مثل تلك التعاملات،ولم يعتبرها من الربا في شيء،وفي مثل هذه الحالة كما هو مقرر في نظام مجلسنا،أن من حق المجلس اتخاذ قرار في كل ما اختلفت فيه وجهات نظر العلماء،لا سيما ونحن نشهد أن تلك التعاملات موجودة في مجتمعنا،لعدم وجود قرار يخصها،وليس لدى السلطة التنفيذية ما تعتمد عليه في إيقاف مثل تلك التعاملات،خصوصا في ظل قاعدتنا الدستورية التي تقول:"الأصل صحة وجواز ما يفعل المرء،ما لم يرد ما يوجب البطلان،أو التحريم وهذا في باب العادات والمعاملات"،ولهذا لا نملك الوسائل الدستورية التي تمكن من منع مثل ذلك التعامل إلا حين يقوم هذا المجلس - الموقر - بإقرار قانون بهذا الشأن.
ثم ومن خلال الواقع سنجد من يحتج ببعض الفتاوى الصادرة من جهات معترف بها رسميا تجيز مثل ذلك التعامل،والناس سيجدون مسوغا للعمل بتلك الفتوى،وهو ما لا حرج عليهم فيه،لأنهم ليس لديهم من العلم ما يميزون به بين البيع والربا،ولكن هذا المجلس حين تتضح له الصورة سيملك اتخاذ القرار الملزم عمليا حيال ذلك.
ب مداخلة المستشار محمد
الأخ عدنان
لقد وصلتني فتوى صادرة عن مجمع البحوث الإسلامية تجيز الاستثمار مع ضمان نسبة ربح،وأعرض عليك السؤال مع إجابته كما وصلتني من أحد الأصدقاء،وهي كما يأتي:
فتوى مجمع البحوث الإسلامية
حول استثمار الأموال في البنوك
التي تحدد الربح مقدما
بقلم: د . محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر
بعث الدكتور / حسن عباس زكي رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية العربية الدولية
كتابا بتاريخ 2002/10/22 إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور / محمد سيد طنطاوي شيخ?الأزهر وهذا نصه :(1/22)
حضرة صاحب الفضيلة الدكتور / محمد سيد طنطاوي ـ شيخ الأزهر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فإن عملاء بنك الشركة المصرفية العربية الدولية يقدمون أموالهم ومدخراتهم للبنك الذي يستخدمها ويستثمرها في معاملاته المشروعة مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع العميل عليها , ونرجو الإفادة عن الحكم الشرعي لهذه المعاملة .
رئيس مجلس الإدارة
دكتور / حسن عباس زكي
وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب ومرفقه للعرض على مجلس مجمع البحوث الإسلامية في جلسته القادمة .
وعقد المجلس جلسته في يوم الخميس 25 من شعبان سنة 1423 هـ الموافق 31 من أكتوبر سنة 2002 م وعرض عليه الموضوع المذكور وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم قرر المجلس :
الموافقة علي أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدما حلال شرعا ولا بأس به .
ولما لهذا الموضوع من أهمية خاصة لدي المواطنين الذين يريدون معرفة الحكم الشرعي في استثمار أموالهم لدى البنوك التي تحدد الربح مقدما , وقد كثرت استفساراتهم عن ذلك فقد رأت الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية أن تعد الفتوي بالأدلة الشرعية وخلاصة أقوال أعضاء المجمع حتى تقدم للمواطنين صورة واضحة كاملة تطمئن إليها نفوسهم.
وقد قامت الأمانة بعرض نص الفتوى بصيغتها الكاملة على مجلس مجمع البحوث الإسلامية في جلسته المنعقدة في يوم الخميس 23 من رمضان 1423 هـ الموافق 28 من نوفمبر 2002 م وبعد قراءتها ومداخلات الأعضاء في صياغتها تمت موافقتهم عليها.
وهذا نص الفتوى
الذين يتعاملون مع بنك الشركة المصرفية العربية الدولية ـ أو مع غيره من البنوك ـ ويقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلا عنهم في استثمارها في معاملاته المشروعة , مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع المتعاملين معه عليها .(1/23)
هذه المعاملة بتلك الصورة حلال ولا شبهه فيها , لأنه لم يرد نص في كتاب الله أو من السنة النبوية يمنع هذه المعالمة التي يتم فيها تحديد الربح أو العائد مقدما , مادام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة.
قال الله ـ تعالى ـ : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا?أن تكون تجارة عن تراض منكم .."( سورة النساء : الآية 29)
أي : يا من آمنتم بالله حق الإيمان , لا يحل لكم , ولا يليق بكم , أن يأكل?بعضكم مال غيره بالطرق الباطلة التي حرمها الله ـ تعالى ـ كالسرقة , أو الغصب , أو الربا , أو?غير ذلك مما حرمه الله ـ تعالى ـ لكن يباح لكم أن تتبادلوا المنافع فيما بينكم عن طريق?المعاملات الناشئة عن التراضي الذي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا , سواء أكان هذا التراضي?فيما بينكم عن طريق التلفظ أم الكتابة أم الإشارة أم بغير ذلك مما يدل علي الموافقة?والقبول بين الطرفين .
ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين علي تحديد الربح مقدما من الأمور المقبولة شرعا وعقلا حتى يعرف كل طرف حقه .
ومن المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدما , إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع , ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها .
ومن المعروف كذلك أن هذا التحديد قابل للزيادة والنقص , بدليل أن شهادات الاستثمار بدأت بتحديد العائد 4% ثم ارتفع هذا العائد إلى أكثر من 15% ثم انخفض الآن إلى?ما يقرب من 10%.
والذي يقوم بهذا التحديد القابل للزيادة أو النقصان , هو المسئول عن هذا الشأن?طبقا للتعليمات التي تصدرها الجهة المختصة في الدولة .(1/24)
ومن فوائد هذا التحديد ـ لاسيما في زماننا هذا الذي كثر فيها الانحراف عن الحق?والصدق أن في هذا التحديد منفعة لصاحب المال , ومنفعة ـ أيضا ـ للقائمين على إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال . فيه منفعة لصاحب المال , لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن?الجهالة , وبمقتضي هذه المعرفة ينظم حياته . وفيه منفعة للقائمين علي إدارة هذه البنوك , ?لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي حددوه لصاحب المال , وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم , حقا خالصا لهم في مقابل جدهم ونشاطهم .
وقد يقال : إن البنوك قد تخسر فكيف تحدد هذه البنوك للمستثمرين أموالهم عندها?الأرباح مقدما؟
والجواب : إذا خسرت البنوك في صفقة ما فإنها تربح في صفقات أخرى , وبذلك تغطي الأرباح الخسائر ،ومع ذلك فإنه في حالة حدوث خسارة فإن الأمر مرده إلى القضاء .
والخلاصة أن تحديد الربح مقدما للذين يستثمرون أموالهم عن طريق الوكالة الاستثمارية في البنوك أو غيرها حلال ولا شبهة في هذه المعاملة فهي من قبيل المصالح المرسلة وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل فيها وبناء علي ما سبق فإن استثمار الأموال لدي البنوك التي تحدد الربح أو العائد مقدما?حلال شرعا ولا بأس به والله أعلم .
27 من رمضان سنة 1423
2 من ديسمبر سنة 2002
انتهى السؤال ونص الفتوى.
ثم عقب محمد قائلا:
فما جوابك عن هذه الفتوى التي تجيز ما ترغب من خلال دراستك منعه،وبقرار من مجلسنا،وتجادل في قوة ملحوظة أن مثل ذلك التعامل من الربا المحرم؟
وأجاب عدنان
أخي المستشار محمد
ليست هذه الفتوى جديدة في قول الدكتور سيد طنطاوي،وإن كانت جديدة من حيث صدورها من قبل مجمع البحوث،وقد سبق لي الاطلاع عليها،بيد أن هناك وقفات سأذكرها مع تلك الفتوى.
الوقفة الأولى:(1/25)
إني ابدأ بشكري لأصحاب الفضيلة والسعادة الذين صادقوا على الفتوى،ونحن نقول لهم إن الاختلاف لا يفسد للود قضية،ومن حقهم النظر إلى المسألة من الجهة التي يريدون،ولكن لدى الاختلاف يرد الأمر إلى الكتاب العظيم والسنة المطهرة،ونسلم أن مسألتنا ليست مما وضح أمره حتى تراه ظاهرا في الكتاب والسنة،بل لقد أخرج مسلم (4/2322) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ...ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ وَدِدْتُ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا".(1/26)
كما أخرج أحمد (1/36)وغيره عَنْ سَعِيدِ بْن ِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ عُمَرُ إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ.وإسناده لا ينزل عن درجة الحسن،فإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجد ذلك – أي عدم وضوح مفهوم الربا – مما حمله على ترك كثير من أبواب الحلال خوفا من الربا،قال رضي الله عنه:" تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا"،أخرجه عبد الرزاق في مصنفه مرسلا،عن عمر – وفي النفس شيء من الاحتجاج به رغم أنه من مراسيل الشعبي عامر بن شراحيل وقد قال عنها في معرفة الثقات(2/12)نقلا عن العجلي:"لا يكاد يرسل إلا صحيحا"،أقول ولكنها مرسلة على كل حال،ودون الجزم باتصالها خرط القتاد،إلا أن تلك النصوص تحملنا على عذر المخالف في مثل هذه الأبواب،مع يقيننا الجازم بأن الحق لا بد من ظهوره لا سيما في صدد ما عنه نتحدث،قال ابن حزم في المحلى(8/477)معلقا على ما سبق ذكره عن عمر رضي الله عنه:" حاش لله من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين الربا الذي توعد فيه أشد الوعيد والذي أذن الله تعالى فيه بالحرب ولئن كان لم يبينه لعمر فقد بينه لغيره وليس عليه أكثر من ذلك ولا عليه أن يبين كل شيء لكل أحد لكن إذا بينه لمن يبلغه فقد بلغ ما لزمه تبليغه"أهـ.(1/27)
ولهذا على أهل العلم دراسة ما يعرض لهم من وقائع جازمين بوجود تشريع إسلامي يخصها،لقوله تعالى:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"،ولقوله تعالى:"وقد فصل لكم ما حرم عليكم"،وهذا أصل عليه يعولون في دراساتهم،بيد أنهم حين لا يجدون جوابا شافيا يحصل لهم به الجزم بحكم شرعي،فليس عليهم سوى التوقف،حين لا يطمئن الواحد منهم للجزم بالرجوع إلى الأصل الكلي الذي نعلم به صحة وجواز كل فعل صدر من الإنسان،وهنا لست أجد أدنى ريبة في أن تلك المعاملة من الربا الذي نهى الله عنه،مع حملي قول المخالف على حسن الظن،وبيان قولي ما يأتي.
الوقفة الثانية:
نجد من خلال ما سبق شرحه في الدراسة أن الربح المحدد بنسبة ثابتة،يوجد عبءا ثقيلا على المجتمع بأكمله،وهو جدير بالمنع لهذا السبب،حتى لو لم نسمه ربا،فما قولكم ونحن نجزم أنه من الربا الذي حرم الله تعالى؛لأن ما يدفعه الناس لتلك الجهات الاستثمارية من بنوك ونحوها ليس سوى صرف (1)
__________
(1) - هناك تفاوت في عبارات المتخصصين الاقتصاديين من فقهاء الشريعة في توصيف الوديعة البنكية،مع اتفاقهم أنها ليست وديعة بمعناها الشرعي،لأن الوديعة تحفظ كما هي،وترد بعينها – قال المناوي في التعاريف ص723 هي:" استنابة في الحفظ،وشرعا استحفاظ جائز التصرف متمَوَلا أو ما في معناه تحت يد مثله"أهـ -،وليس هو الواقع فيما يسمونه وديعة بنكية اليوم،فهي ليست كذلك شرعا ولكن حين تكون في حساب جاري يعدونها قرضا،لأنه نقد لا يأخذه الناس بعينه بل يأخذون بدله – انظر المهذب ص302،كشاف القناع(3/312) – وأنبه هنا أن من شرط الشرع في جعل النقد المدفوع قرضا حالتئذ أن يكون ما دفع إنما دفع من باب الارتفاق والتعاون،لأنه إن لم يكن كذلك صار صرفا،ولهذا قرر فقهاؤنا أن باب القرض جاء على خلاف القياس،وإنما جوزه الشرع رفقا بالناس،والسؤال الآن هل ما يودع لدى البنوك بغرض الاستثمار يصح توصيفه كقرض؟
الجواب
لا يصح
ولذلك قلت:إنه صرف،وإن سمي استثمارا،فالملح ملح ولو سميته سكرا ،لأن الصرف كما في التعريفات للجرجاني ص 147هو :" بيع الأثمان بعضها ببعض".
والمستثمرون هنا يعطون ليأخذون لابنية الارتفاق بل بنية التجارة.
وبالمناسبة،قد يطرأ سؤال هنا يقول هل تعتبر الوديعة في الحساب الجاري قرضا،لأننا فهمنا أنك لا تعتبرها قرضا سوى بشرط نية الارتفاق؟
الجواب
صحيح هذا الاعتراض،وهو وجيه أيضا،لأن المودعين لدى البنوك لا يضعون أموالهم مساعدة للبنوك بل لقد جاء في سنن ابن ماجه(2/812) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ. فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ ».،والحديث في إسناده خالد بن يزيد الدمشقي،قال عنه النسائي في الضعفاء(1/36):"ليس بثقة"،كما ضعفه ابن حبان على تساهله،انظر المجروحين (1/284).
والحديث مع ضعفه إلا أنه يقرر واقعا من حيث طبيعة القرض،لأنه لا يكون سوى من حاجة،والمودعون لا يكون شأنهم كذلك،فكيف يصبح ما يضعونه قرضا،ليس من جهة أنهم يضعونها لا بنية الارتفاق فقط،بل ومن جهة أنهم يعطونها لمن لا يحتاج أصلا؟
والجواب
إننا لسنا في حاجة لبحث جانب الارتفاق في المسألة على أهميته،باعتبار أن التوصيف الشرعي للمعاملات اليوم ليس مطلوبا منه أن يكون دقيقا على نحو ما ورد في كتب علمائنا من قبل،بل يكفي قرب الصورة وعدم وجود فروق كبيرة ومؤثرة كي يصح التخريج وبناء الأحكام،وبعبارة ثانية سيكون متحتما التغاضي عن فروق لا أهمية لها في المقارنة وتخريج الأحكام الشرعية،بل لقد رأيت الحنفية مثلا يعتبرون القرض سالكا مسلك العارية ويعطونه أحكاما بهذا الاعتبار- انظر بدائع الصنائع للكاساني(7/396) – والأمر هنا كذلك؛إذ لا نملك توصيفا شرعيا أقرب من اعتبار النقد المودع لدى البنوك في الحسابات الجارية من اعتبارها قروضا،على أن جانب الارتفاق لا زال موجودا لا من قبل المودع بل من قبل البنك لأنه يتبرع بالحفظ،فهو ارتفاق من هذا الجانب،وأقول:حتى حين يجادل الآخرون في نية الارتفاق هنا،ليخرجوا التوصيف من باب القرض،فإننا نسلك به مسلك القرض لعدم نية التجارة – البيع - من قبل المودع.
وللفائدة راجع كتاب الجامع في أصول الربا د.رفيق يونس المصري ص 213وما بعدها،حيث ميز بجلاء بين الاصطلاحات التي سبق ذكرها،وغيرها مما يقع فيه الخلط،والكاتب متخصص يعمل مستشارا لدى البنك الإسلامي للتنمية،والرجل مرجع من كبار المراجع في هذا الباب،وفقه الله تعالى.(1/28)
ألبس ثوب الاستثمار،لأنهم يدفعون نقودهم ويأخذون بدلها وليس في نيتهم الارتفاق ولا التعاون على البر والتقوى،بل هو بيع للعملة مع اشتراط زيادة محددة من قبلهم أو من قبل غيرهم،فصارت تلك المعاملة صرفا ولو سموها استثمارا،فهم لا يريدون سوى تلك النقود وليس في تصورهم ما يسمى استثمار أصلا،لأن الرجل منهم يدفع كمثال 10000دولار في إحدى مجالاتهم الاستثمارية،ويعلم أنه سيأخذ بدلها بعد عام 11000دولار،فقل لي بالله عليك ما الفرق بين هذا وبين رجل أعطى آخر 10000دولار،ليرد بدلها تماما بعد أجل ولكن مع زيادة 10%،كنسبة مشروطة،إنهما في كلا الحالتين لم يفكرا سوى في مردود الـ10000دولار،ليس غير،وفقد النقد ما من أجله وجد حيث صار غاية في ذاته دون دخول ملموس إلى السوق (1) .
__________
(1) - ولعلنا نجد شبها بين هذه المعاملة وما يسميه علماؤنا بصورة عكس العينة،وذلك عندما نضع العقد – أي ذلك المشروع الذي يستثمر فيه البنك – في الاعتبار،وعكس العينة أن يبيع رجل شيئا بثمن حال ثم يشتريه المشتري بثمن أعلى مؤجلا،فهنا المستثمر اشترى العقد من البنك بثمن ولنقل 1000دولار،وباعه للبنك مؤجلا بـ1200دولار،وهي صورة قريبة جدا مما نراه في تلك العقود إلا أن صورة الصرف بل وحقيقته أقرب لأننا في عكس العينة نجد سلعة معلومة،وهنا لا سلعة أصلا فليس لدينا سوى أوراق ثبوتية،فصورة الصرف أقرب فلا ريب في سلوك العقد هنا مسلك الصرف.(1/29)
فالقول في الحالتين لا يختلف من حيث الحكم الشرعي،والمعاملة صرف ولو سميت استثمارا،ومن شرط الصرف التقابض في مجلس العقد (1) ،وهنا لم يحدث التقابض،فهو من الربا وإن لم تكن زيادة،فما قولنا وقد تم تحديد زيادة مشروطة (2) ؟
قال المستشار محمد
لماذا لا نعتبرها مضاربة والبنك ليس سوى شريك مضارب مع المستثمر – رب المال -؟
أجاب عدنان
__________
(1) - وقد استقر أن العملة تأخذ أحكام النقدين (الذهب والفضة)،بحيث تعامل العملة باعتبارها صنفا واحدا،والأخرى صنف آخر،وبذلك صدرت فتاوى كثير من المجامع الفقهية.
(2) - أخرج مسلم (3/1208)وغيره،عن أبي سعيد الخدري قال أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا- أي تزيدوا - بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ ».(1/30)
بداية البنك لم يجعل من نفسه مضاربا،وليس في عقودهم ما يحدد وضع البنك في تلك العقود،سوى أنه ليس أكثر من جهة تأخذ كذا،وسترد كذا بعد كذا،ولا يهمه وصف أو تكييف وضعه أكثر من ذلك،وهو الأمر ذاته لدى من وضع ماله عند البنك،لا يفكر سوى في أنه وضع كذا وسيأخذ كذا بعد كذا،بل الفتوى ذاتها لم تجعل البنك في توصيفها سوى وكيل لأولئك المستثمرين،كما جاء في نصها الذي سبق ذكره،ونحن لا نستطيع جعلها مضاربة،لأن من شرط صحة شركة المضاربة وهو مما اتفق عليه علماء الشرع الحنيف (1) لحوق الخسارة برأس المال عندما توجد خسارة،والمضارب عندها يخسر جهده ليس غير،وهنا رأس المال مضمون،بل مع زيادة مشروطة،وليس يخسر البنك بتاتا،بل لا يتصور ذلك لأنه شخص اعتباري،وموظفوه تقاضوا رواتبهم،ولا شأن لهم بخسارة البنك لو خسر،ولو قيل قد يربحون في مشاريع أخرى،فهذا الذي قد ربحوا فيه يحمل ما وقعت فيه خسارة (2) .
__________
(1) - انظر الإجماع لابن النذر ص 98.
(2) - هناك قاعدة في الاقتصاد الإسلامي لابد من التذكير بها ضمن هذا السياق،وتلكم القاعدة تقول:الخراج بالضمان،قال السيوطي في الأشباه والنظائرص 135:" القاعدة الحادية عشرة
الخراج بالضمان
هو حديث صحيح أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة وفي بعض الإشارة ذكر السبب وهو أن رجلا ابتاع عبدا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال الرجل يا رسول الله قد استعمل غلامي فقال الخراج بالضمان"أهـ،والسيوطي هنا قد صحح الحديث إلا أن له طرقا لا تبلغ به درجة الصحيح،وحسبها أن تصل به إلى درجة الحسن لغيره،وهذا لا يعكر صحة تلك القاعدة،لأننا وجدناها تتفق مع قواعد الشريعة وعموماتها،لا سيما وقد ثبت من طرق أخرى معنى ما ترشد إليه تلك القاعدة مثل ما أخرجه أحمد في مسنده (2/174)وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ –أي البائع - وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.،وهو حديث لا ينزل عن درجة الحسن،والمهم هنا أن الرجل هنا ينال ربحا وليس يضمن – أي ليس يغرم - عندما تقع خسارة،وهو ما توضحه قاعدة أخرى تقول: الغنم بالغرم – انظر التقرير والتحبير(2/269) – ومفادها ألا غنيمة لمن لا يغرم مقابل غنيمته.(1/31)
وأقول عندها:ماذا تقولون لو خسر البنك في جميع مجالاته الاستثمارية بل وغيرها عندما يعرض كساد عام،أو ما أشبهه،لماذا تقع الخسارة فقط على رب المال،ولا يوجد من يخسر شيئا في الطرف الآخر،ولماذا لا نزال نصمم على اعتبار تلك المعاملة قراضا- أي مضاربة-ضاربين عرض الحائط كل تلك الفروق،رغم وجود تخريج أصح وشبه أقرب،حين نقول هو صرف فقد شرط حله (1) ،والسلام.
والوقفة الثالثة:
أنها اعتبرت البنك وكيلا،وهو أقرب من اعتباره مضاربا،ورغم ذلك لا يصح هذا الاعتبار،لأن الوكيل من شأنه ألا يضمن إذا لم يتعد (2) ؛لأن يده يد أمينة،وهنا نجد البنك ضامنا لرأس المال بل وربح زائد،ولا نظر إلى ماهية المشروع،ولا إلى ربحيته أصلا،وليس يسأل البنك عن خسارة بتاتا،حتى نقول بتحميله – تضمينه – رأس المال؛قائلين له لقد قصرت فاضمن.
فهو ضامن مع زيادة قصر أم لم يقصر،فهل هذه وكالة!!
ليس هناك توكيل أصلا،وعقدهم لم ينص على ذلك حتى نتبرع من قبلنا بوضع هذا التوصيف،لا سيما حين نجد ما هو أصح وأقرب شبها!.
الوقفة الرابعة:
نصت الفتوى أن لا مانع ما دام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة.
أقول:وهو صحيح،عندما تكون تجارة يديرونها بينهم،لا صرفا فاقدا لشرطه،مما صرح الشرع بتحريمه،وجعل آكله كمن يتخبطه الشيطان من المس.
ولعل في بياني السابق ما يوضح صحة هذا التقرير.
الوقفة الخامسة:
__________
(1) - سبقت الإشارة إلى شرط صحة الصرف،وهو المماثلة والحلول أو التقابض على اختلاف بين أهل العلم في ذلك،أي الاكتفاء بمجرد الحلول،وهو يجعل القبض على التراخي حين يتأخر صاحب الحق في القبضه،ولكن الحق مهيأ له تحت طلبه،وهو وما يعني أن القبض على التراخي لا على الفور، أو التقابض وهو مباشرة الاستلام من الطرفين لمجرد وقوع القبض لأحد العوضين،انظر الجامع في أصول الربا ص 82.
(2) - انظر مجلة الأحكام العدلية ص 284،وهو ما لا خلاف فيه بين العلماء من حيث الأصل.(1/32)
نصت الفتوى قائلة:"ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين علي تحديد الربح مقدما من الأمور المقبولة شرعا وعقلا حتى يعرف كل طرف حقه "أهـ.
وهو صحيح 100%،إذا كان المقصود بذلك نسبة من الربح،لا من رأس المال،فلا بد من التنصيص على نصيب كل من الشريكين من الربح،وبالنسبة التي يكون بها خراج كل منهما،ولكن ما الجواب لو لم يكن ربح أصلا،فهل مما لا شك فيه أن يتحمل الخسارة أحدهما دون الآخر،وهل هو من المقبول عقلا،فضلا عن الشرع؟!
الوقفة السادسة:
نصت الفتوى على أن:"من المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدما , إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع , ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها"أهـ.
يبدو من الكلام أن أعضاء المجمع ليسوا على دراية كافية بالكيفية التي يتم بها حساب الأرباح،في تلك البنوك.
وللفائدة أقول:
الأموال التي يستثمرها الناس لدى دور المال الكبرى – أوعية الاستثمار على اختلافها – تسير غالبا - ولعله بنسبة تزيد عن70% من حجم المال المستثمر- في طريقين.
الأول:الوعاء البنكي.
الثاني:وعاء شركات التصنيع والخدمات ونحوهما،من شركات المساهَمة.
والوعاء الأول إنما يحكم نسبة الربح فيه سلطة النقد في تلك الدولة،فليس للبنك دور سوى في هامش يسير تتركه تلك السلطة كي تسهل عمليات التدفق والسيولة – لدى البنوك لمواجهة بعض الظروف الاستثنائية -،فلدى البنك قدرا محددا يدفعه للناس،وآخر يأخذه وبنسب معينة من قبل تلك السلطة.
أما الوعاء الثاني فهو مما لا يقع تحت طائلة دراستنا هنا،وهو لا يكاد يغطي ما نسبته 30%من حجم المال في الوعائين،رغم تأثره بالنسبة التي تحددها تلك السلطة باعتباره يستثمر هو لدى تلك البنوك،وهي تستثمر لديه،والنسب هنا تقريبية،إلى حد بعيد،ولكنه يشبه ألا يختلف معي أحد المختصين في تقديرها تقريبا.
الوقفة السابعة:(1/33)
نصت الفتوى على الآتي:" ومن فوائد هذا التحديد ـ لاسيما في زماننا هذا الذي كثر فيها الانحراف عن الحق?والصدق أن في هذا التحديد منفعة لصاحب المال , ومنفعة ـ أيضا ـ للقائمين على إدارة هذه?البنوك المستثمرة للأموال . فيه منفعة لصاحب المال , لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن?الجهالة , وبمقتضي هذه المعرفة ينظم حياته . وفيه منفعة للقائمين علي إدارة هذه البنوك ،?لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي حددوه لصاحب المال , وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم , حقا خالصا لهم في مقابل جدهم ونشاطهم "أهـ.
صحيح أن زماننا كثر فيه الانحراف،لا سيما في تعاطي الناس مع المعاملات المشبوهة،بل ما يجزم أهل العلم بالاتفاق على تحريمه،وليس من دليل يصحح هذا القول أقوى من صدور هذه الفتوى،ليس لأن أصحابها خالفوا الصواب،كلا فلعل من حقهم الاجتهاد؛فيعذرون ويؤجرون،ولكن السائل يسأل في أمر يعلم مسبقا أنه يتفق مع ما يريده،وإلا فلماذا لم يوجه سؤاله إلى شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى (1) ،
__________
(1) - وقد أفتى بتحريم ذلك،فضيلته برقم (1257)ضمن مجلدات فتاوى دار الإفتاء المصرية،بشأن الأموال المودعة في البنوك وبنك فيصل الإسلامي، بتاريخ ذو القعدة 1400 هجرية - 8 أكتوبر 1980 م.
ونصها
قال شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد:"
? ... المبدأ : تحديد الفوائد عن الأموال المودعة بالبنوك مقدما من قبيل القرض بفائدة وهو محرم شرعا.
? ... وعدم تحديدها مقدما هو من قبيل المضاربة في المال وهى جائزة شرعا.
سئل : بالطلب المتضمن الإفادة بيان حل أو حرمة الحصول على الفائدة عن المبالغ المودعة بالبنوك التجارية، وكذلك فوائد المبالغ المودعة ببنك فيصل الإسلامي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية.
أجاب : جاء في القرآن الكريم قوله تعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.&يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم } البقرة 275 ، 276 ، وروى البخاري وأحمد عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب.والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء).
بهذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم والسنة الشريفة وبإجماع المسلمين ثبت تحريم الربا سواء كان ربا الزيادة أو ربا بالنسيئة.
لما كان ذلك وكان إيداع النقود بالبنوك التجارية بفائدة محددة مقدما من قبيل القرض بفائدة، كانت هذه الفائدة من باب ربا الزيادة المحرم بتلك النصوص الشرعية - وإذا كانت الفوائد التي يؤديها بنك فيصل الإسلامي محددة مقدما كانت من هذا القبيل المحرم شرعا، أما إذا كان طريقها الاستثمار دون تحديد سابق للفائدة، وإنما يبقى العائد خاضعا لواقع الربح والخسارة كل عام أو في كل صفقة كان هذا التعامل داخلا في نطاق عقد المضاربة الشرعية، والربح واستثمار الأموال بهذه الطريقة حالا لشدة الحاجة إليها في التعامل، لأن من الناس من هو صاحب مال ولا يهتدي إلى التصرف، ومنهم من هو صاحب خبرة ودراية بالتجارة وغيرها من طرق الاستثمار ولا مال له، فأجيز عقد المضاربة الشرعية لتنظيم وتبادل المنافع والمصالح.
هذا وإن الله سائل كل مسلم ومسلمة عن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه.&والله سبحانه وتعالى أعلم"أهـ.(1/34)
ولا أظنه تخفى عليه وجهة نظر فضيلته،ونحن نقول:للسائل،هب أنهم قد قالوا لك بل هو محرم وكبيرة من كبائر الذنوب،فقط قدر ذلك ذهنيا.
هل ستمتثل وتقبل،أجب نفسك،بل كل واحد منا حين يسأل عالما،هل يريد الامتثال،أو مجرد التسلية،أو تحقيق رغبات معينة؟
من يسأل وهو يريد الامتثال فإنه يسأل من يحسبه مكانا لثقته هو علما وتقوى،حتى حين لا يكون صاحب منصب رسمي،لأنه يريد ما يبرئ ذمته يوم لا ينفع مال ولا بنون،ولن يتوجه بسؤاله هكذا كيفما اتفق،فالناس لا بد أن يراجعوا أنفسهم،ولا بد تقوم توعية بهذا الشأن على أوسع مدى،نعم لا بد يفهم الجميع أن السؤال لرفع الجهل والامتثال،ولذلك لابد من عرض القضية على أوثق من يجده المرء،في أمر من الأمور (1) ،لا أن ينتقي حسب هواه.
ثم نصت الفتوى في القسم السابق الذي عرضته،أن هذه المعاملة مفيدة لصاحب رأس المال،وللبنك.
__________
(1) - وهو كما عبر عنه الأصوليون بقولهم:"مذهب العامي مذهب مفتيه"،ونص ابن عبد البر في جامع العلم،أن العامي حين يختلف الناس في أمر يسأل عنه،فإنه يقلد أكثرهم علما في نظره،وعد ذلك رحمه الله تعالى إجماعا.(1/35)
هذا صحيح 100%،لأنه حين تقع خسارة لا البنك سيتأثر،لأنه ليس أكثر من شخص اعتباري،نال مشغلوه رواتبهم،وما استطاعوا الحصول عليه منه على اختلاف الوسائل وتعددها،ولا المستثمر لديهم تأثر لأنه سينال ماله والربح المقرر،من ضمان الدولة،أو من ضمان شركات التأمين،أما السؤال عن كيفية ضمان الدولة،وعلى حساب من،فهذا لا يكترث له – وقد رأينا شيئا منه من قبل – وأما كيف صنعت شركات التأمين وعلى حساب من ضمنت فهو أيضا لا يهمه (1) ،أخي الكريم إن المجتمع بأكمله هو من سيتأثر وهو من سيدفع فاتورة تلك الفوضى،على نحو ما سبق شرحه.
يا سادة نحن أمام كارثة أخلاقية،حتى لو سلمنا من الكارثة الاقتصادية،أليس من موقف لمثل هذا النوع من الأنانية؟!.
الوقفة الثامنة:
نصت الفتوى على الآتي:" ومع ذلك فإنه في حالة حدوث خسارة فإن الأمر مرده إلى القضاء ".
أي حين تحدث خسارة.
وأقول:ماذا يستطيع أن يفعل القضاء هنا؟
من سيحاسب لو وقعت خسارة فادحة؟
هل المسئول هو المدير،أو نائبه،أو فلان؟
ثم ماذا؟
يسجن.
يغرم.
حسنا ما فقدناه من خير كان يمكن أن يقدمه رأس المال لو دخل إلى السوق كيف سيستدرك،بعبارة ثانية هل نحن حين نعاقبهم بالسجن سنعوض المجتمع!!!!!!؟
أليست الوقاية خير من العلاج؟!
ج-مداخلة المستشار فهد
الأخ عدنان
أليست المصلحة كفيلة لتجعل مثل تلك المعاملة صحيحة،نظرا لحاجة المجتمع في دورته الاقتصادية للاستثمار لدى تلك البنوك،وهو أمر قد نبهت إليه تلك الفتوى؟
وأجاب عدنان
لعلك وجدت ذلك من قولهم:" ولا شبهة في هذه المعاملة فهي من قبيل المصالح المرسلة وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل".
__________
(1) - وشركات التأمين هذه مسخرة أخرى في وطننا العربي،ليس نظرا للحكم الشرعي،فأنا لست ضدها،ولكن نظرا للخدمة السيئة التي تقدمها،ونظرا للتحيز الخبيث لصالح رأس المال،مما سلمت منه كثير من الدول الغربية،وليس هنا مكان شرح ذلك.(1/36)
وهنا أقول: لقد ذكر علماؤنا تعريف المصلحة المرسلة،وهي أمر لم يشهد له الشرع بإبطال (1) ولا باعتبار معين (2) ،ولدى تأمل التعريف نجد تلك المعاملة مما شهد الشرع بإبطاله،كيف لا وهي صرف أو مما يُسلك به مسلك الصرف على أقل تقدير،وقد فقد شرط حله،وقرر الشرع تحريمه وفساده،وليس كافيا قولنا هذا فيه مصلحة حتى نقول بحله،بل لابد من موافقة الشرع لاعتبار تلك المصلحة،أو على الأقل مما لم يشهد الشرع بإبطاله،وإلا فلن يجد أحد عناء في تغيير كل شيء يرغب في تغييره من الشرع بدعوى المصلحة،وهذا مما يتنافى مع إيماننا بصلاحية شرعنا لكل زمن.
د-مداخلة المستشار زيد
الأخ عدنان
ما هي فقرات المشروع الذي تطلب التوقيع عليه.
أجاب عدنان
ملخص ما أطلبه حسب المذكرة التي بين أيديكم:
1- إلغاء سعر الفائدة.
2- فتح نافذتين في البنوك،إحداهما للاستثمار الشرعي، بحيث يدخل البنك في جميع ما يمكنه من الصيغ الشرعية للاستثمار،سواء بأمواله أو بأموال الغير.
3- فتح نافذة ثانية لحفظ الأموال مقابل أجر،وهي تحتفظ باحتياطي 100%،ويكون المال وديعة بالمفهوم الشرعي للوديعة (3) .
__________
(1) - مثل المصالح التي توجد في الخمر،حيث اعترف بها الشرع الحنيف ولكنه حرم شربها -رغم ذلك – وعليه فالمصالح التي توجد في الخمر أهدرها الشارع ولم يعتبر بها،فالمصلحة المرسلة ليست من هذا النوع حيث لم يشهد الشرع ببطلانها،كما أنه ليست مما شهد الشرع بعتباره،مثل الكذب للمصالحة؛فهذه أقرها الشرع بقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الكذاب من يصلح بين لناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا"،وعليه هناك مصالح ملغاة،وأخرى معتبرة،وثالثة مرسلة أي مطلقة ليس لدينا ما يقطع باعتبارها أو إلغائها،والشرع لا يقف منها موقف المنع،أو حتى موقف القبول،ولكنها ترجع إلى أصل الإباحة حتى يجد العلماء ما يقطع بأحدى الوجهتين
(2) - انظر روضة الناظر (1/169).
(3) - انظر الحاشية رقم 26 تعرف الوديعة.(1/37)
4- قيام توعية كبيرة لخصائص الاقتصاد الإسلامي،على اختلافها،للأسباب التي سبق بيانها.
صاحب المعالي رئيس المجلس أيها المستشارون الكرام
أرجو عرض مشروعي للتصويت وتقبلوا خالص شكري.
رئيس المجلس
أيها الأعضاء الآن يمكنكم التصويت.
وبعد التصويت خرجت النتيجة الآتية
موافق بنسبة 85%
متحفظ بنسبة10%
معترض بنسبة 5%
وتم إقرار المشروع ونحن بانتظار نتائجه في الواقع،والتي نسأل الله أن تعود بالنفع على أبناء مدينة الندى.
كتبه:عدنان بن جمعان الزهراني
? إمام جامع النهضة – حي النهضة
? المجموعة المصرفية الإسلامية
? بنك الجزيرة (مدير)
? جدة - 053690767(1/38)