في الأقتصاد الإسلامي المرتكزات- التوزيع - الاستثمار - النظام المالي
الحمد لله الذي أنزل القرآن تبياناً لكل شيء ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، الذي ناط الله به مهمة البيان، بقوله: (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم )) (النحل : 44 ) ، فكانت سيرته وسنته هما البيان النبوي العملي ، والصورة التطبيقية المعصومة لتنزيل الآيات على واقع الناس، واقترنت السّنة بالقرآن وسيلة للبيان ومصدراً للأحكام ، وبعد ،(1/1)
فهذا كتاب الأمّة الرابع والعشرون (في الاقتصاد الإسلامي : المرتكزات ـ التوزيع ـ الاستثمار ـ النظام المالي ) للدكتور رفعت السيد العوضي ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري ، والتحصين الثقافي ، وإعادة بناء الشخصية المسلمة بعد أن افتقدت كثيراً من منهجيتها وفاعليتها ووسطيتها التي تؤهلها للشهادة على النّاس والقيادة لهم ، وإلحاق الرحمة بهم بتقويم سلوكهم بشرع الله ، وانتشالهم من التورط الاقتصادي والتحكم الثقافي الذي لا تزال مؤسساته التي تعبر عنه تعمل عملها في الحياة الإسلامية ، الأمر الذي أدّى إلى شيوع المناخ الثقافي الذي يمثل فكر الاستعمار وتشكيل الإنسان المسلم وفق الأنماط الاستعمارية حتى تجري عليه سنّة التقليد كما تجري على كل كائن فقد صلته بفكره الأصيل ، فلا يعود يرى حل مشكلاته ومعالجة قضاياه إلاّ من خلال القوالب والمناهج والمقاييس التي اكتسبها من التبعية الثقافية والمناخ الاستعماري، وإذا امتلك الخيار فإنما يقتصر خياره على ساحة الحلول المطروحة من الخارج الإسلامي ، مع شيء من التلفيق ، لكنه يبقى عاجزاً عن التفكير في ارتياد طريق آخر هو الطريق الإسلامي المتميز بعد أن طال على العقل المسلم الأمد في التقليد والتوقف عن الاجتهاد والعطاء ، فاقتصر على النظر والاجتهاد والفتوى على تسويغ وتبرير بعض أشكال وأعمال مؤسسات الاقتصاد الربوي ، مستخدماً فقه الحيل ، أو مبيحا الربا تحت عنوان : الضرورة ـ فالضرورات تبيح المحظورات ـ مسويا المصلحة بالضرورة ، متناسياً أن الضرورة حالة مؤقتة استثنائية ، تعرض للفرد والأمة، وليست هي الأصل المستمر ، وأن الضرورة تقدر بقدرها .(1/2)
وتكاد هذه الصورة ، تشكل الحالة الغالبة لعامة المسلمين ، حتى الماضي القريب ، لكن لا بد لنا أن نسجّل هنا صورة الوجه الآخر للقضية ، وهي أن كثيراً من المسلمين أيضاً رأى في مؤسسات الاقتصاد الربوي طريق هلاك نفسي وانمحاق اقتصادي ، وأفزعه ما ورد من تهديد ووعيد لآكلي الربا وموكليه ـ ولم يقتصر ذلك التهديد على الآكل والموكل ، بل امتد إلى المشاركين والمساعدين من الكتبة والشهود ـ إلى جانب ما يرى من الانهيارات الاقتصادية التي تتسبب عن الربا ، فآثر الانسحاب من الساحة وتقليص نشاطه ومعاملاته الاقتصادية إلى الحد الأدنى المسموح به شرعاً ، لأنه عاجز عن إيجاد البدائل .
هذا الانسحاب ، وإن كان يشكل مواقف فردية تعتصم بالتقوى ، وتنأى بنفسها عن مواطن الشبه ـ والموقف الفردي قد يكون ضرورياً لأنه يدق ناقوس الخطر ، ويشكل صوت النذير الذي يحذر من الانغماس في مؤسسات الاقتصاد الربوي ويستفز العقل المسلم ، ويؤرقه للتفكير في إيجاد البديل الإسلامي ـ لكنه ، على كل حال ، لا يعتبر حلاًّ للمشكلة ، أو يمنح القدرة على مواجهتها ، وكيفية التعامل معها ، حيث لا خيار من النزول إلى الساحة ، وعدم الاعتداد بالمواقف الفردية الصارمة التي لا يمكن بأي حال أن ترفع الجماهير كلها إلى مستواها ، وإذا أمكن الارتقاء بحس الجماهير المسلمة وتوثبها الروحي إلى مستوى المقاطعة للاقتصاد الربوي لفترة ، فإنما يعني ذلك إيقافاً للمشكلة وليس حلاًّ لها.(1/3)
وقد تكون مشكلة كثير ممن وقعوا في أسر الرؤى الاقتصادية غير الإسلامية ، بسبب من تحكم مناخهاً ، أو الدراسة في جامعاتها ، وفقر في المعرفة الإسلامية ، أنهم عاجزون عن الإدراك ، ومن ثمّ التسليم بأن هناك نهجاً اقتصادياً غير الذي درسوه . لذلك ، نجدهم يستغربون ويستنكرون ويجفلون ، وقد يسخرون ، عندما يلقى على مسامعهم بأن هناك نهجاً اقتصادياً إسلامياً متميزاً مرشحاً لإنقاذ الإنسان من ورطاته وأزماته المتلاحقة ، وأن منطلقاته وأهدافه وفلسفته بشكل عام موجودة بالكتاب والسنّة وقد ترجمت إلى برامج وأشكال وأوعية وسعت حركة المجتمع الاقتصادية في عصر الاجتهاد والتألق الإسلامي ، وأن المشكلة اليوم في العقل الذي توقف عن تصنيع تلك المواد الخام ، وتحويل المبادئ والقيم الاقتصادية إلى برامج وأوعية تسع حركة المجتمع المسلم على هدي تلك القيم والمبادئ ، وجنح إلى التقليد والمحاكاة ، سواء كان التقليد داخلياً ، وذلك باستدعاء تلك الأشكال والأوعية والحلول التي وضعت لمشكلات عصر معني ، له سوقه ومنتجاته وهياكله الاقتصادية والمالية وشركاته ، ومحاولة تطبيقها على هذا العصر بكل مداخلاته الاقتصادية المعقدة ؛ أو كان التقليد خارجياً ، وذلك باستدعاء البديل الأسهل: مناهج اقتصادية تحمل خصائص وصفات مجتمعات لها عقيدتها وظروفها ، وتجربتها ، ومشكلاتها ، وعمرها الثقافي والحضاري ، ولها منطلقاتها وأهدافها بعيداً عن قيم أمتنا ومعادلاتها النفسية والاجتماعية ، لذلك ، بقيت عاجزة عن النهوض والتحديث ، كما عجزت الأشكال القديمة عن تقديم الحل المطلوب ، ودفعت بالكثير إلى التفكير باستيراد البديل من الخارج ، كما أسلفنا .
وقد يكون من المفيد أن نذكر بنظرة الإسلام ، المتميزة إلى المال والاقتصاد ، وإن كان الكتاب الذي نقدمه في سلسلة (كتاب الأمة ) غطّى بعضاً منها .(1/4)
لعل هذا التميز يستفز العقل المسلم ، ويشكل هاجساً وقلقاً له ليتابع رحلة البحث والاجتهاد والإنضاج لإبراز معالم الاقتصاد الإسلامي ، ويتقدم خطوة أكثر في فتح بعض القنوات ، وإيجاد الوسائل والأوعية الشرعية لحركة المجتمع الاقتصادية ، فتنحسر أكثر فأكثر مؤسسات الاقتصاد الربوي التي تؤرق الضمير المسلم ، وتكرس معاصينا الاقتصادية .
فمن الأمور التي تكاد تكون مسلَّمة عند المسلم الذي يمتلك الحد الأدنى من المعرفة الإسلامية ـ وهو ما يجب أن يعلم من الدين بالضرورة ـ أن النظام الاقتصادي ، أو سياسة المال في الإسلام ، جزء لا يتجزأ من عقيدته ، وأنه ينطلق منها ، ويرتبط بها، وأن الحركة الاقتصادية ، ابتداءً من نّية الإنسان ( تشكيل الفكرة والعزم على الفعل ) أو كسبه العملي ، وممارساته المختلفة ، خاضعة لفكرة الثواب والعقاب، إلى جانب التحذير من بعض المخاطر الاقتصادية التي تقود إليها الممارسات المحظورة شرعا. ولعل هذا يُشكل مفترق طريق ابتداءً بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاديات الأخرى التي لا تعترف بالجانب القيمي للعملية الاقتصادية، ولا تقيم له وزناً. فالحركة الاقتصادية، والكسب المالي ، إذا لم يضبط بقيم أخلاقية ، كسباً وإنفاقاً ، ينتهي بصاحبه إلى الطغيان ، والأثرة، والدمار الاجتماعي.
والمال في الإسلام وسيلة لتحقيق رسالة، وليس هدفاً قائماً بذاته ، والله تعالى يقول:
((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك )) (القصص : 77 ) فإذا تجردت الحركة الاقتصادية عن ضابطها الخلقي ، وهدفها ، وانقلبت الوسيلة إلى غاية ، انتهى الأمر بالإنسان إلى أزمات نفسية ، واجتماعية ، واقتصادية تجعل المعيشة ضنكاً ، وتحوله إلى عبد للمال ، وخادم له بدل أن يكون المال في خدمة الإنسان .(1/5)
والمال في نظر الإسلام ، له وظيفة اجتماعية، والتصرف به كسباً وإنفاقاً ، مرهون بتحقيق تلك الوظيفة للفرد والأمة على حدّ سواء وأي تصرف اقتصادي أو امتناع عن تصرف يلحق الضرر بالجماعة ، محظور شرعاً ، ويحتاج صاحبه إلى وصاية وحجر ، قال تعالى: (( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما )) (النساء: 5 ) .
ولعل من أهم المنطلقات الأساسية في نظرة الإسلام إلى المال والحركة الاقتصادية التي تميز المنهج الاقتصادي الإسلامي عن غيره ، وتجعله متفرداً ، هي: الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للمال ، لقوله تعالى: ((ولله ما في السموات وما في الأرض )) (النساء: 126 ) ، ((ولله ملك السّموات والأرض )) (آل عمران : 189 ).
وأن ملكية الإنسان للمال ملكية وكالة واستخلاف ، قال تعالى: (( وأنفقوا ممّا جعلكُم مستخلفين فيه )) (الحديد: 7 ) .
وهذا الاعتقاد ، الذي هو جزء من عقيدة المسلم ينتج عنه ـ حكما ـ أن تصرف الإنسان الاقتصادي ـ كسباً وإنتاجاً وإنفاقا ً ـ محكوم بإرادة المالك الأصلي وهو الله ، وهذا يعني بشكل أوضح أن الإنسان لا يمتلك حرية التصرف من كل ضابط، في كسب وإنفاق المال ، وإنما هناك ضوابط شرعية وضعها المالك الأصلي تحكم ممارساته جمعياً ، الأمر الذي يترتب عليه قيود للكسب، وقيود للإنفاق ، أو بمعنى آخر : هناك وسائل كسب شرعية ، ووسائل كسب محظورة وغير شرعية لا يحق للمسلم ممارستها كالربا، والميسر ، والاحتكار ، والغبن والغش، وكل العقود التي تتضمن الغرر والخداع .
وإن كانت هذه الضوابط بطبيعتها ، أقرب للأحكام ، أو فقه المعاملات ، منها إلى تفسير ودراسة الظواهر اقتصادياً ،إلاّ أنه تشكل بوصلة الحركة الاقتصادية التي سوف تضل العملية الاقتصادية بدونها .(1/6)
ويجئ إقرار الإسلام لمبدأ التملك الفردي بشروطه الشرعية ، استجابة لدواعي الفطرة وحافزاً لزيادة الإنتاج ، في الوقت نفسه لم يجز وقوع التملك على المرافق ذات النفع العام، بل جعل ملكيتها جماعية ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاثة: الكلأ ، والماء ، والنار )) ورأى كثير من الفقهاء أن المرافق العامة ليست حصراً في هذه الثلاث ، وإنما قاسوا عليها كل ما يقع في حكمها ، ولم يجيزوا ملكيتها لأحد مهما كانت صفته . وأن المرافق الثلاثة الواردة في الحديث إنما جاءت على سبيل المثال والأنموذج، ولم تأت على سبيل الحصر، لذلك يمتد الحكم إلى ما كل ما يشابها .
ولابد من التأكيد هنا أن ما ورد في الكتاب والسنّة حول المسألة الاقتصادية بشكل عام ، أو ما يمكن أن نسميه نظرة الإسلام إلى المال ، إنما هو قيم وسياسيات ومبادئ عامة لضبط السيرة الاقتصادية ، ورسم اتجاهها وحمايتها من الانحراف ، أكثر من كونها برامج تفصيلية وأوعية لحركة الأمة الاقتصادية ، وأن العقل المسلم هو الذي يجتهد في ضوء هذه القيم والسياسيات العامة في إيجاد البرامج والأوعية الشرعية للمسألة الاقتصادية في كل زمان ومكان 00 والادعاء اليوم بوجود البرامج ، أمل يعوزه الدليل الواقعي ، إلاّ بعض ما ورد في الميراث وأنصبة الزكاة . إلخ....
ولابد أن نعترف: أن كثيراً من العلوم الإنسانية ومنها علم الاقتصاد ، قد توقفت في حياة الأمة على المستوى العام ، إلاّ من بعض محاولات، وملاحظات لم يكتب لها أن تشكل مجرى إسلامياً في حمأة الاقتصاد الربوي ، وأنه لابد لنا اليوم من النزول إلى الساحة لاستئناف المسيرة الاقتصادية الإسلامية، ومجاوزة عقدة الخوف من الخطأ التي يتولد عنها استسهال عملية التقليد والمحاكاة سواء كانت داخلية أم خارجية .(1/7)
وهنا ، قد يكون بالإمكان الإفادة من الكسب البشري للأمم الأخرى وما أنجزته في مجال التقنية الاقتصادية وآلات الفهم والتفسير في كل الجوانب التي ليس لها علاقة بالجانب القيمي ، مع الحذر الشديد أن كثيراً من هذه التقنيات ليست محايدة ، بل هي إفراز لحضارة وثقافة ، وإنسان ، وظروف، وشروط قد تختلف جزئياً أو كلياً عن ظروفنا، وأن إصرارنا على تمييز الاقتصاد الإسلامي من غيره، تأكيد لهذا الحذر ، وإبراز للأهداف والقيم التي تحكمه من دون سائر الأنماط الاقتصادية الأخرى ، ذلك أن تلك الأنماط قد تكون أتقنت الوسيلة الحكمة والهدف .
ولا شك أن العقدين الآخرين قد شهدا نتيجة للتحدي والاستفزاز، وكأمر مواز للصحوة الإسلامية محاولات جيدة وجادة في تحديد وإبراز معالم المنهج وملامح الاقتصاد الإسلامي، وأسست معاهد ، ومراكز ، وأقسام في الجامعات متخصصة في مجال الاقتصاد الإسلامي، يأتي على رأسها مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة ، والمعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي في جامعة إسلام أباد ـ باكستان ـ ومركز الدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي ـ إكس ، فرنسا ـ ومركز التدريب والبحوث الإحصائية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد الإسلامية في أنقرة ، إلى جانب الجهود الفردية الفذة التي تشارك في هذا المجال .
ولم يقتصر الأمر على مستوى التنظير ، بل جاءت تجربة المصارف الإسلامية كأوعية تنفيذية ومراكز تدريب ميدانية ، ومختبرات عملية لحركة الاقتصاد الإسلامي تغني التنظير، وذلك باختباره ميدانياً ، وتتقدم بالمشكلات والمعوقات التي تعترض المسيرة والتي تقتضي حلولاً واقعية ذات أولوية في الدراسة .
فالمصارف الإسلامية في هذا ، يمكن أن تعتبر المراكز التطبيقية للدراسات النظرية .(1/8)
من هنا نقول: إن تجربة المصارف الإسلامية تمثل إحدى الخطوات العملية في محاولة لترجمة المبادئ إلى برامج ، وإيجاد الأوعية الشرعية لنشاط المسلم الاقتصادي بعيداً عن المؤسسات الربوية التي تتحكم بتصرفاته ، وتنغص عليه حياته . ولا شك أن هذه التجربة التي برزت على أكثر من موقع على خارطة العالم الإسلامي، والتي جاءت ثمرة لحركة الوعي الإسلامي سوف تواجه بكثير من التحديات الداخلية والخارجية على حدّ سواء ، وسوف تُكال لها التهم كيلاً ، وتُكبّر أخطاؤها وقد يكون في بعض هذه التهم حق ، لكن لا شك أن فيها الكثير من التجني، وقد تكون الأخطاء من طبيعة الريادة التي تسدد الطريق ، وتغني التجربة ، وتصلب عودها ، وتقوّم مسارها .
كما أن التجربة سوف تحاصر من المؤسسات الربوية على أكثر من مستوىً ، وبأكثر من وسيلة لإسقاطها ، وإعادة التحكم من جديد ، والاستئثار بالنظام المصرفي للعالم الإسلامي ، وقد تدخل الساحة مؤسسات مصرفية تجارية ، ترفع شعارات إسلامية في محاولة لاقتناص شعور المسلمين وانحيازهم إلى المصارف الإسلامية التي خلصتهم من المعاملات الربوية المحرمة ، وتحاول إفساد التجربة من الداخل، ونزع الثقة بها ، إضافة إلى أن الكثير من العثرات يمكن أن تأتي من المسلمين أنفسهم، وقد يكونون مسلمين مخلصين لكنهم غير متخصصين ، يظنون أن مباشرة العمليات المصرفية وتقديم الحلول والأوعية الشرعية لحركة المصارف يمكن أن تغني فيها العاطفة الطيبة ، ولا بد من الاعتراف ـ وعلى أكثر من مستوىً ، سواء كان ذلك في مجال الإعلام ، أو الاقتصاد والأعمال المصرفية وغيرها ـ أننا لا نزال نفتقد أصحاب التخصص الذي يمتلكون أهلية التحمل والأداء معاً ، فتفرض علينا الحاجة الاستعانة باختصاصين لا يتحققون بالقدر المطلوب من التصور والمعرفة الإسلامية ، فتجيء تصرفاتهم وممارساتهم ،(1/9)
والحلول التي يقدمونا أو يقترحونها صورة طبق الأصل عن ممارسات المؤسسات الربوية التي ما أنشئت المصارف الإسلامية إلا للتخلص من رباها .
لذا يكننا القول بأن قيام المؤسسات المصرفية الإسلامية، والمؤسسات الإعلامية الإسلامية وغيرها ، كشف لنا الكثير من جوانب التقصير والتخلف في أكثر من ميدان ، وكأننا بالعقل المسلم المعاصر لم يبصر إلا ميداناً واحداً للحركة ، وطريقاً خاصاً في الدعوة، ووسيلة محدودة في العمل الإسلامي ، أما بقية الميادين فتكاد تكون خالية تماماً (1 ) .
وعلى الرغم من ذلك كله ، نستطيع أن نقول: بأن ما كتب حتى الآن هو عبارة عن توجهات وملحوظات ووجهات نظر لا يزال يعوزها كثير من التحديد والدراسة ، والتمحيص ، والحوار حتى تتبلور وتتحدد معالم المنهج، ويزول التداخل الذي لا يزال قائماً بين ما يخص علم المالية وعلم الاقتصاد ، والمذهب الاقتصادي ، وفقه المعاملات الشرعية إلخ ....
ولعل الكتاب الذي نقدمه في سلسلة ((كتاب الأمة )) للأخ الدكتور رفعت العوضي، أحد المهتمين بهذا الأمر ، يشكل مساهمة طيبة في هذا الموضوع، وخطوة إلى الأمام على الطريق الطويل الذي يقتضي دراسات وندوات وحوارات حتى يتضح منهجه ، ويستقيم على سوقه ، والله من وراء القصد ....
الاقتصاد الإسلامي أحد العلوم الإسلامية ، التي حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة تمثل ذلك في كثير من الكتب والأبحاث، وفي كثير من المؤتمرات وأيضا في تدريسه في الجامعات ، وجاء في القمة من هذا الاهتمام أن أصبح موضوعاً للدرجات العلمية العالية ، الماجستير ،الدكتوراه .(1/10)
الاهتمام بالاقتصاد الإسلامي لم يتمثل في الأبحاث والدراسات عنه فحسب وإنما في التطبيق أيضا ، فقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور كثير من المؤسسات الاقتصادية التي تقوم على أساس تطبيق الاقتصاد الإسلامي ؛ تمثل هذا في المصارف وفي الشركات بأنواعها المتعددة، وهذه المؤسسات كانت موضع دراسة ومتابعة حتى من غير المسلمين في غير العالم الإسلامي، وذلك لما أحسوه من آثارها الاقتصادية وغير الاقتصادية في النهوض بالعالم الإسلامي .
وهذا الكتاب الذي أقدمه عن الاقتصاد الإسلامي يجيء في هذا الإطار من الاهتمام بالاقتصاد الإسلامي . ومما أحمد الله عليه أن اهتمامي بالاقتصاد الإسلامي بدأ منذ أكثر من عشرين عاما ، عندما قدمت رسالتي للماجستير في هذا الموضوع إلى كلية التجارة بجامعة الأزهر ، ومنذ ذلك التاريخ واصلت العمل والبحث في هذا الحقل . والكتاب الذي أضعه الآن بين يدي القاريء المسلم أضمنه بعض ما اكتسبته في الاقتصاد الإسلامي خلال هذه الفترة .
يحتوي هذا الكتاب على أربعة فصول:
الفصل الأول: مرتكزات في الاقتصاد الإسلامي:
وأستهدف بهذا الفصل أن أبرز بعض موضوعات الأساس في الاقتصاد الإسلامي، واعتبرتها مدخلا للدراسة . وقد ناقشت في هذا الصدد العلاقة بين علم الفقه ، وعلم الاقتصاد الإسلامي . وعند مناقشة هذا الموضوع طرحت كثيراً من القضايا التي تدخل فيه، والاهتمام الذي بذلته لإظهار ذلك له سببه الموضوعي الذي يتعلق بالموضوع في حد ذاته وله سبب يتعلق بما يلاحظه الذي يهتم بما يكتب عن الاقتصاد الإسلامي ، إذ يجد أن هناك خلطاً بين موضوعي هذين العلمين الإسلاميين : علم الفقه ، وعلم الاقتصاد الإسلامي.(1/11)
كما ناقشت في هذا الفصل الثبات والتطور في الاقتصاد الإسلامي ، وفي هذا الموضوع أعطيت أيضاً اهتماماً بتحديد طبيعة الثبات والتطور في الفقه ،وفي الاقتصاد الإسلامي . وقد مددت البحث في هذا الموضوع إلى الاقتصاد الوضعي، لأقابل بينه وبين الاقتصاد الإسلامي في خاصيّة التطور والثبات .
الفصل الثاني: توزيع الثروات والدخول:
موضوع توزيع الثروات والدخول هو الذي يميز بين النظم الاقتصادية المتعددة، ويجيء هذا في الاقتصاد الإسلامي أيضاً ، إذ التوزيع من بين موضوعاته الرئيسة التي تميزه عن الاقتصاديات الوضعية . ولهذه الأهمية للتوزيع جعلته الموضوع الأول ، بعد المرتكزات التي ناقشتها في الفصل الأول . وقد عرضت هذا الموضوع في مبحثين ؛ في المبحث الأول عرضت لعناصر رئيسة في فقهه، أما المبحث الثاني فقد خصصته لتقديم محاولة عن نظرية توزيع إسلامية للثروات والدخول . وقد توسعت في عرض ذلك بقدر ما يسمح به هذا الكتاب .
الفصل الثالث: ضوابط في المنهج الإسلامي لاستثمار الملكية واستخدامها:
موضوع هذا الفصل له صلة قوية بالتنمية ، وهي القضية الرئيسة التي تواجه مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، ولهذا أعطيت الموضوع أهمية في هذا الكتاب، فجعلته الموضوع الثاني الذي يبحث بعد موضوع التوزيع .
وأشير من البداية إلى أنني لم أقدم دراسة تفصيلية عن التنمية، وإنما أخذت ما يتعلق برأس المال ، وما بحثته عن هذا الموضوع يصنف بإجمال في موضوعين؛ الموضوع الأول ربطت فيه بين استثمار المال ، هذا الموضوع الاقتصادي ، وبين العقيدة وعلاج الصراع الاجتماعي . والموضوع الثاني ربطت فيه بين الاستثمار، وبين التنمية والتوجيه ، أو التخطيط الاقتصادي .
الفصل الرابع: النظام المالي الإسلامي:(1/12)
الصفة الغالبة على موضوعي الفصل الثاني والثالث هي أنهما يعتبران دراسة في القطاع الخاص ، من حيث توزيع الملكية والدخل ، ومن حيث استثمار المال ، ولهذا خصصت هذا الفصل الرابع للنظام المالي الإسلامي، وحيث يظهر دور الدولة. وما قدمته في هذا الفصل لا يتعلق بدور الدولة التدخلي في الاقتصاد ، وإنما يتعلق بالإيرادات والنفقات التي تكون الدولة طرفا فيها، ويسمى هذا الفرع في الاقتصاد الوضعي باسم المالية العامة . ولم أستخدم هذا المصطلح أي المالية العامة وإنما جعلت المبحث الأول في هذا الفصل الرابع لمناقشة المصطلح الملائم للنظام المالي الإسلامي ، كما أعطيت أهمية لدراسة بعض الإجراءات في النظام المالي . ثم أنهيت هذا الفصل بدراسة عن أخلاق النظام المالي الإسلامي . وأشير بخصوص هذا الموضوع الأخير إلى أنه منذ أن بدأ الحديث عن الاقتصاد الإسلامي ، فإنه ربط بالأخلاق إلا أن ما كتب عن ذلك اتجه إلى الأخلاق على مستوى الفرد ، أما ما قدمته عن هذا الموضوع فإنه اتجه إلى إظهار العناصر الأخلاقية التي تلتزم بها الدولة ، عندما تكون في الإيرادات والنفقات .
بقي أن أشير في هذه المقدمة إلى أمرين : الأمر الأول ، أن ما جاء في هذا الكتاب انصب كله بصفة رئيسة على الاقتصاد الإسلامي ، وما جاء عن الاقتصاد الوضعي إنما هو إشارات قليلة اقتضتها الضرورة ، وهذا المنهج يتيح عرض الاقتصاد الإسلامي باستقلال . أما الأمر الثاني فهو أن فقه الموضوعات التي بحثت في هذا الكتاب لم يتوسع فيه ، وإنما جاءت منه إشارات بالقدر الذي يلزم ، أما ما توسعت فيه فهو المعنى الاقتصادي لهذا الفقه أو الأثر الاقتصادي لإعماله.
هذا هو الإطار العام لهذا الكتاب ، وأدعو الله أن يرقى ما جاء فيه إلى أن يكون إضافة إلى الاقتصاد الإسلامي، والحمد لله رب العالمين .
الدكتور: رفعت السيد العوضي
قدمت هذا الفصل في ثلاث مباحث على النحو التالي:(1/13)
المبحث الأول: بين علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي
والسبب الذي جعلني أقدم هذا الموضوع ضمن الأصول النظرية، التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، فهماً وبحثاً وتدريساً، ما أعتقده من أن الاقتصاد الإسلامي هو ترتيب تال ، وتفريع على علم الفقه. وأضيف إلى هذا السبب أمراً آخر، هو أن بعض اللبس أو الغموض قد يكوّن بشأنه ما يبدو أحياناً، من أن موضوع علم الفقه (الاقتصادي والمالي )، وموضوع علم الاقتصاد الإسلامي أمر واحد. وليس هذا ما أراه.
حاولت في بحث هذا الموضوع، بعد أن عرضت فكرته الرئيسة، إعطاء أمثلة بينت بها أن لعلم الاقتصاد الإسلامي موضوعه، كما أن لعلم الفقه موضوعه. ثم ذهبت إلى كتب التراث باحثاً عن هذا المعنى، مؤكداً له .
المبحث الثاني: الثبات والتطور، وطبيعتهما في علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاقتصاد (الوضعي)
إن الثبات والتطور مسألة دقيقة بين علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي، كما أنها مسألة مثارة بين علم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاقتصاد الوضعي. إن أحكام الفقه لها خاصيّة الثبات ، وهذا لا يصادر أن الفقه يسع ما يستجد من معاملات ، والظاهرة الاقتصادية التي هي موضوع علم الاقتصاد (الإسلامي ) يعتقد أنه متغيرة، وعلم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي في وعاء واحد فكيف يمكن الجمع بين الثبات والتطور؟
ثم إن الثبات والتطور مسألة مثارة أيضا بين علم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاقتصاد الوضعي. الاقتصاد الوضعي يخضع لقاعدة الإلغاء والإحلال المستمرين ، ويعتقد أن هذا يخدم التقدم في هذا العلم، كما يخدم تقدم الواقع الاقتصادي.
وباعتبار أن الاقتصاد الإسلامي مؤسس على أحكام الإسلام التي يعتقد أن لها خاصيّة الثبات، أمام هذا، يتوقف بعضهم عند القول بعلم الاقتصاد الإسلامي.(1/14)
هذه القضية بشقيها: الثبات والتطور بين علم الفقه ، وعلم الاقتصاد الإسلامي، والثبات والتطور بين علم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاقتصاد الوضعي، خصصت لها المبحث الثاني في القسم الأول.
المبحث الثالث: الاقتصاد الإسلامي بديل للاقتصاد الوضعي
عندما ندعو إلى الاقتصاد الإسلامي، فإن هذا يجيء في عالم له اقتصاده، لهذا فالاقتصاد الإسلامي يطرح بديلا عن الاقتصاد الوضعي.
وهذا الطرح البديلي، يثير موضوعات ومشكلات كثيرة، وقد اخترت منها ثلاثة موضوعات معتبراً إياها تدخل في الأصول النظرية التي يقوم عليها فهم الاقتصاد الإسلامي.
الموضوع الأول:
هو بمثابة قضية ضد الاقتصاد الوضعي. إن الاقتصاد الوضعي على النحو الذي يدرس به الآن هو في حقيقة الأمر فكر الإنسان الأوروبي وتاريخه. وقد ناقشت هذه الفكرة شارحاً لها، ثم انطلاقاً منها بينت مشروعية أن يكون للمسلمين الحق في بيان وتعليم فكرهم الاقتصادي وتاريخه.
الموضوع الثاني:
بعض قضايا الأساس بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي. الاقتصاد الوضعي له أسسه وفروضه، التي يدرس انطلاقاً منها، وعندما نقول بالاقتصاد الإسلامي، فمن المشكلات التي تواجهنا أن العقلية الاقتصادية التي تتعامل معها إعطاءً أو تلقياً، قد توجد فيها بعض آثار لهذه الأسس، لذلك بحثت هذا الموضوع، وقد ناقشت الأسس التالية:
مصدر المعرفة، والعلاقات والقوانين في الاقتصاد، والفردية والجماعية، والإعمار، والتبادل، ولا أدعي مناقشة كل أسس وفروض الاقتصاد الوضعي ، كما لا أدعي أن ما ذكرته فيه تفصيل، وإنما ما فعلته هو إثارة الاهتمام بهذا الموضوع كله عند بحث الاقتصاد الإسلامي، مع إعطاء فكرة عن بعض هذه الأسس.
الموضوع الثالث:(1/15)
أسس الاقتصاد الوضعي ليست مقبولة من كل الأمم: الاقتصاد الوضعي يعرض وكأنه مقبول من كل الأمم، وهذا اللبس يجيء حتى من المتخصصين. لذلك ناقشت هذا المعنى مثبتاً أن الأمر ليس على هذا النحو، ولهذا الموضوع أهمية إلى الحد الذي ناقشته ضمن الأصول النظرية التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي.
المبحث الأول
بين علم الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي
لا شك أنه يوجد ارتباط بين علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي، هذه حقيقة. لكن علم الاقتصاد الإسلامي ليس هو علم الفقه. وهذا ما أراه يمثل الحقيقة الثانية.
سأحاول في هذا المبحث تحديد موضوع علم الاقتصاد الإسلامي، مقارنا بموضوع علم الفقه. وما أعرضه هو رأي، ولعلي بهذا الرأي أثير الحوار حول هذا الموضوع، وهذا الحوار ـ إن حدث ـ يثري هذه الفكرة، ولعله يصل بنا إلى اتفاق، أو على الأقل إلى نوع اتفاق حول هذا الموضوع.
أولا: الكتابة عن الاقتصاد الإسلامي فيها مرحلتان، أو تمر بمرحلتين:
المرحلة الأولى: هي المرحلة التي يتم فيها التعرف على الحكم الفقهي .
المرحلة الثانية: هي المرحلة التي يتم فيها التعرف على الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية التي ينشئها الحكم الفقهي.
المرحلة الأولى: هذه المرحلة يبحث فيها عن الحكم الفقهي (المتعلق بالاقتصاد والمال ). ومادام أن الحكم هنا هو المطلوب، فإن هذه المرحلة تقع في نطاق علم الفقه لأنه العلم الذي يبحث فيه عن الأحكام الفقهية ويعرّف بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة من الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية (1 ).
وباعتبار أن هذه المرحلة، موضوعها الأحكام التي يعطيها علم الفقه، لذلك تسمى هذه المرحلة باسم مرحلة الفقه الاقتصادي والمالي.(1/16)
المرحلة الثانية: الحكم الفقهي المتعلق بالاقتصاد والمال ينشيء واقعة، أو ظاهرة اقتصادية. تحديد هذه الظاهرة الاقتصادية، والتعرف عليها، وتحليلها (اقتصادياً ) والعمل عليها
(بسياسات اقتصادية )، كل هذا وغيره يكون المرحلة الثانية في الاقتصاد الإسلامي.
وباعتبار أن هذه المرحلة موضوعها الظاهرة الاقتصادية (التي ينشئها الحكم الفقهي )، أي دراسة اقتصادية وليست دراسة فقهية، لذلك أقترح أن تسمى هذه المرحلة باسم مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي. فهذه مرحلة علم اقتصاد، لأنها تبحث في الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية (تحليلا )، وعلم اقتصاد إسلامي لأن الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية، موضوع البحث، أنشأها الفقه الإسلامي.
ثانياً: ما تقدم تبنى عليه نتائج، إنه يعني أن علم الفقه (الاقتصادي والمالي )، وعلم الاقتصاد الإسلامي ليسا مصطلحين بمعنى واحد ، وإنما هما مرحلتان تكونان الاقتصاد الإسلامي، المرحلة الفقهية والمرحلة الاقتصادية.
وللتميز على نحو أوضح بين هذين العلمين الإسلاميين . علم الفقه (الاقتصادي ) وعلم الاقتصاد الإسلامي أقترح المعيار الآتي:
موضوع علم الفقه (الاقتصادي ): هو إعمال العقل في الدليل لاستنباط الحكم الذي يحكم الظاهرة الاقتصادية.
وموضوع علم الاقتصاد الإسلامي: هو إعمال العقل في الحكم الذي حصلنا عليه لتحديد الظاهرة الاقتصادية، التي ينشئها الحكم ، وتحليلها، والتأثير فيها، والتنبؤ بها.(1/17)
ويترتب على هذا، التمييز بين من هو فقيه له الصلاحية في أن يبحث عن الحكم الفقهي، ومن هو اقتصادي له الصلاحية في أن يبحث في الظاهرة الاقتصادية، التي ينشئها الحكم الفقهي. إن من له الصلاحية في البحث عن الحكم الفقهي يخضع للشروط التي ذكرها علماء أصول الفقه، في من له حق الاجتهاد، وأما من له الصلاحية في أن يبحث الظاهرة الاقتصادية التي ينشئها الحكم الفقهي، فيشترط فيه أن يكون قادراً ـ كحد أدنى ـ على قراءة وفهم الفقه الذي يكتب عن اقتصاده، ويضاف إلى هذا المعرفة الاقتصادية.
ثالثاً: أقدم بعد الأمثلة أو النماذج وأحاول من خلالها شرح هاتين المرحلتين في الاقتصاد الإسلامي والتمييز بينهما.
1- الربا: تعريف الربا وحكمه، ودليل الحكم، وتحديد المعاملات الربوية ،وكل ما يناقشه الفقهاء عندما يكون الربا موضوع البحث، هذه العناصر كلها هي مرحلة الفقه لهذا الموضوع الاقتصادي، أي مرحلة الفقه الاقتصادي .
مرحلة الفقه الاقتصادي تعطي حكماً، وهذا الحكم ينشئ واقعة اقتصادية أو يكون له آثاره على الواقع والمتغيرات الاقتصادية، من أمثلة ذلك أن تحريم الربا له أثره على عرض النقود، لأنه بإعمال تحريم الربا فإن المصارف التجارية لا تصدر نقوداً، وهكذا البعد في دراسة الربا لا يمكن اعتباره فقهاً، وإنما هو أثر اقتصادي للفقه. لذلك فإنه يدخل فيما أسميه مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي.
2- الاستهلاك: تكلم الفقهاء عن استهلاك المسلم للسلع والخدمات سواء باستخدام هذا المصطلح، أو بمصطلحات أخرى .
وأذكر مثالا مما قاله الفقهاء عن هذا الموضوع. يقول الإمام الشيباني: ((المسألة ))
((1/18)
أي الإشباع ) على أربعة أوجه: ففي مقدار ما يسد به رمقه، ويتقوى على الطاعة، هو مثاب غير معاقب؛ وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حساباً يسيراً بالعرض؛ وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له، محاسب على ذلك ، مطالب بشكر النعمة، وحق الجائعين؛ وفيما زاد على الشبع فإن الأكل فوق الشبع حرام (1 ).
هذا الذي قاله الإمام الشيباني هو من فقه الاستهلاك في الإسلام، وهو بهذا يدخل في الاقتصاد الإسلامي في مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي )، أي في المرحلة التي نبحث فيها عن الحكم، أو الأحكام (المنظمة لتصرفات المسلم الاستهلاكية ).
هذه الأحكام المنظمة للاستهلاك تنشئ واقعة اقتصادية، أو تعكس نفسها في المتغيرات والظواهر الاقتصادية. دراسة هذه الوقائع والمتغيرات الاقتصادية التي أنشأها الحكم الفقهي، أو تأثرت به، تدخل في المرحلة التي نقترح تسميتها باسم علم الاقتصاد الإسلامي. وفي هذه المرحلة تكون اللغة التي نتكلم بها هي اللغة الاقتصادية، نستخدم الأسلوب الرياضي أو نستخدم أسلوب الرسوم البيانية، أو نستخدم الفروض للوصول إلى تكوين نظرية اقتصادية.
رابعاً: فهم الاقتصاد الإسلامي على هذا النحو، أي على أن فيه مرحلتين: مرحلة الفقه
(الاقتصادي والمالي )، ومرحلة علم الاقتصاد الإسلامي، يجعلنا نصل إلى رأي فيما يتعلق بالاقتصاد الإسلامي. مقارناً بعلم الفقه .(1/19)
إن علم الاقتصاد (الوضعي ) يخضع للتطور الإلغائي الإحلالي المستمر. بمعنى أنه في زمن معين يصل الاقتصاديون إلى نظرية اقتصادية يعتقدون في صحتها، وبعد فترة زمنية معينة، وبسبب التغيرات في الحياة الاقتصادية، وبسبب تراكم المعارف الاقتصادية، يكتشف الاقتصاديون أن النظرية التي سبق أن سلم بصحتها منتقدة، وبهذا يخرجون عليها ويحلون نظرية أخرى محلها . والاقتصاد (الوضعي ) بهذا يخضع لقاعدة الإلغاء والإحلال، وبسبب أنه يعتقد أن النظرية الحديثة أرقى من النظرية القديمة ، بهذا يكون الاقتصاد
(الوضعي ) يخضع للتطور الإلغائي الإحلالي الارتقائي.
إن تحديد طبيعة التطور التي يمكن تصورها، أو قبولها في الاقتصاد الإسلامي من القضايا المثارة، والتي تتعدد الآراء فيها، بل قد تتباين.
ودون الدخول في تفصيلات هذه القضية، فإن ما ذكرته من وجود مرحلتين في الاقتصاد الإسلامي يجعلنا نصل إلى رأى في هذه القضية. إن مرحلة الفقه الاقتصادي والمالي لا تخضع لقاعدة التطور الإلغائي الإحلالي. وهذا لا يصادر قدرة الفقه على أن يسع المستجدات ، بحيث يعطي لها حكماً، كما لا يصادر قاعدة المرونة التي نتكلم عنها في فقه المعاملات .
أما مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي، فبسبب أنها تصور عقلي، أو استنباط عقلي، لما يمكن أن يترتب على هذا الحكم في الظواهر والمتغيرات الاقتصادية وبسبب أن هذا التصور العقلي الاقتصادي يتأثر بالتطور في الحياة الاقتصادية، وبسبب أن هذا التصور العقلي يتأثر بالمعارف الاقتصادية وتراكمها عند الإنسان، بسبب كل ذلك فإن ما يقال في هذه المرحلة يقبل فيه إعمال التطور الإلغائي الإحلالي والارتقائي وهذا لا يصادر ثبات الأحكام الفقهية.(1/20)
خامساً: الكتب التي نعتبرها ممثلة للتراث الاقتصادي الإسلامي تثبت الرأي الذي سبق ، وهو أن الاقتصاد الإسلامي يتكون من مرحلتين هما مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي ) ومرحلة علم الاقتصاد. ذلك أنه وصل إلينا من التراث كتب تدخل في مرحلة الفقه ، وكتب تدخل في مرحلة علم الاقتصاد .
من الكتب التي تدخل في مرحلة الفقه (الاقتصاد والمالي ) كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الأموال لأبي عبيد، والكسب للشيباني.
وهذا النوع من الكتب معروف ومشهور ولهذا لا نتوقف عنده طويلاً.
ومن كتب التراث التي تدخل في مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي، وكتاب الفلاكة والمفلكون للدلجي، وكتاب المقدمة لابن خلدون.
هذا النوع الثاني من الكتب ليست له شهرة النوع الأول. كما أن طبيعة مساهمته في الاقتصاد الإسلامي ليست واضحة. لهذا أعطي مثالا من هذه الكتب أوضح من خلاله كيفية دخول ما جاء في هذه الكتب إلى الاقتصاد الإسلامي، أو بعبارة أدق إلى علم الاقتصاد الإسلامي.
كتب الدمشقي في كتابه ((الإشارة إلى محاسن التجارة )) (1 ) وهو بصدد الحديث عن وظائف النقود ما يلي: ((جعل الناس الذهب والفضة ثمناً لسائر الأشياء ، فاصطلحوا على ذلك ليشتري الإنسان حاجته في وقت إرادته وليكون من حصل له هذان الجوهران أن كل الأنواع التي يحتاج إليها حاصلة في يده مجموعة متى شاء )) (ص 23 ).
هذا أنموذج مما كتبه الدمشقي. وهذا النوع من الكتابة لا نستطيع أن نعتبره كتابة فقهية ، أي في علم الفقه، فليست هذه لغة الكتابة في علم الفقه، ولا هذا هو منهج علم الفقه، ولهذا لا ندخل ما قاله الدمشقي في الاقتصاد الإسلامي على أنه في مرحلة الفقه.
لكن ما قال الدمشقي لا يعارض حكماً فقهياً، والدمشقي كتب عن موضوع اقتصادي مما يدخل في علم الاقتصاد، لهذا فإن ما قاله الدمشقي يدخل في الاقتصاد الإسلامي في مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي.(1/21)
ما قلته عما كتبه الدمشقي عن وظائف النقود يعمم على كل ما قاله الدمشقي في كتابه المشار إليه ، وكذا على الكتب التي تماثله.
المبحث الثاني
الثبات والتطور وطبيعتهما في علم الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي وعلم الاقتصاد (الوضعي)
على الرغم من أهمية موضوع ما هو ثابت وما هو متطور في الاقتصاد الإسلامي إلا أنه لم يصبح بحث واسع بحيث يتفق على نوع وطبيعة التطور الممكن قبوله في هذا الاقتصاد.
ولقد قدمت في الصفحات السابقة بعض الأفكار التي تتصل بموضوع علم الاقتصاد ، وبناء على ما قلته أحاول إعطاء فكرة عن الثبات والتطور في هذا الاقتصاد .
الفرع الأول: الثبات والتطور في علم الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي
أولا: أعتقد أن في الاقتصاد الإسلامي ما له خاصية الثبات. وهو ما أسميه اقتصاديات الفقه المالي والاقتصادي ، فالفقه المنظم لذلك ثابت ، فيكون اقتصاده أيضاً ثابتاً. وإذا كنت أقول: إن الفقه لذلك ثابت فإن هذا لا يعني أن الفقه لا يسع ما يستجد، وما يتطور، وإنما الفقه ثابت في أحكامه لما عرف من معاملات، أما ما يستجد أو يتطور فستكون له أحكامه التي ستدخل أيضا في هذا الجزء الثابت . ثم إذا كنت أقول أيضاً: إن اقتصاد الفقه المالي والاقتصادي ثابت فإنني بهذا لا أصادر إمكانية أن توجد تصورات متعددة لهذا العنصر من الاقتصاد الإسلامي، وإنما هذه الإمكانية لا يعد وجودها من قبيل التطور، وإنما هو من قبيل تعدد الآراء في نوع الاقتصاد، الذي يترتب على الفقه المالي والاقتصادي.
أذكر بعض الأمثلة التي توضح وتثبت ما قلته .
1- أعطي مثالاً من التراث الإسلامي ، أحاول به أن أوضح وأثبت هذا المعنى الذي تقدم . من الكتب التي تصنف ضمن كتب التراث في الاقتصاد الإسلامي، كتاب (( الاكتساب في الرزق المستطاب )) للإمام الشيباني (1 ) وكتاب ((البركة في فضل السعي والحركة )) (2)(1/22)
2- للقاضي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر. يعالج الكتابان موضوعات كثيرة متشابهة مما تدخل في الاقتصاد الإسلامي، وبالرغم من التباعد الزمني بين تأليف الكتابين، حوالي ستة قرون، إلا أننا نجد تطابقاً في الحكم. وجاء هذا التطابق بالرغم من اختلاف باعث الكتابة لكل من الكتابين؛ فالشيباني كتب مؤلفه للرد على الحركة التي تسللت إلى المجتمعات الإسلامية، وإلى الفكر الإسلامي ممثلة جماعة المانوية(3)، بينما كتب القاضي ابن عبد الرحمن مؤلفه لتسلية قومه، لأنه رآهم في الكد مجتهدين وعلى الحرف معتمدي. وهذا التطابق هو ما أشير إليه بثبات الفكرة ، أو المعلومة الاقتصادية المبنية على الأحكام الفقهية.
2- ومثال آخر على هذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من تحريم الربا. إن تحريم الربا له معطيات اقتصادية كثيرة ، ومنها أثر ذلك على العرض النقدي في المجتمع. ما نستنتجه اقتصادياً عن أثر تحريم الربا على العرض النقدي في المجتمع له خاصية الثبات ، وحتى بفرض وجود اختلاف بين الذين يكتبون في الاقتصاد الإسلامي حول طبيعة ودرجة تأثير تحريم الربا على العرض النقدي إلا أنه يتفق على أن له أثراً وهذا الجزء المتفق عليه هو ما أعتبره ثابتاً في الاقتصاد الإسلامي.
3- ومثال ثالث على هذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من أثر الزكاة على شكل وطبيعة ووظائف الميزانية في الدولة الإسلامية. إن إعداد ميزانية للدولة الإسلامية مع الأخذ في الاعتبار الزكاة ، والزكاة بطبيعتها إيراد مالي مخصص في التحصيل ، وفي الإنفاق، مثل ذلك يجعل التنظير الاقتصادي للميزانية، تبويباً وطبيعة ووظيفة ، يختلف عن تنظير لميزانية ليست فيها الزكاة، وهذا الأثر الاقتصادي للزكاة على الميزانية هو مما يدخل في الجزء الثابت من الاقتصاد الإسلامي.(1/23)
4- ومثال رابع على هذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من نظرية تخصيص الموارد. إن وجود الملكية العامة في الأرض الزراعية وفي المناجم في الإسلام على سبيل المثال، وربط هذا النوع من الملكية بوظائف معينة وبأشكال معينة للاستغلال، كل هذا يحدد أبعاداً معينة تجعل نظرية تخصيص الموارد في ظل اقتصاد إسلامي تتميز عن مثيلتها في اقتصاد آخر، لا يأخذ بما يأخذه الإسلام من أنواع الملكية التي ذكرتها. وهذا الجزء من الاقتصاد له خاصية الثبات، حتى وإن تنوعت الآراء حول طبيعة هذا الجزء ذلك أن التنوع لا يصل إلى حد عدم اعتبار هذا الأثر.
5- ومثال خامس عن الميكانيكية الكلية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي. إن ما يتفق عليه أن الدولة لها دور في الاقتصاد الإسلامي، وفي هذا الجزء يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الرأسمالي، ويتفق أيضاً في الاقتصاد الإسلامي على أن الفرد يأخذ قرارات اقتصادية، وفي هذا الجزء يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الاشتراكي. لهذا فان الميكانيكية الكلية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي تنظر على فروض وجود دور للفرد ودور للدولة. وهذا الجزء من الاقتصاد الإسلامي له خاصية الثبات، حتى وإن تنوعت الآراء حوله. لأن تنوع الآراء لا يصل إلى حد وجود رأي يقول: إن الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي تقوم على فرض أن القرار الاقتصادي يأخذه الأفراد وحدهم، أو تأخذه الدولة وحدها .
ثانيا: أعتقد أيضاً أن في الاقتصاد الإسلامي عنصراً له خاصية التطور، وموضوع هذا العنصر فيه عناصر فرعية متعددة.(1/24)
1- ففيه ما يتعلق بالميكانيكية التي يمكن أن يعمل بها اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي، وهذه الميكانيكية تخضع أيضاً لطبيعة الاقتصاد، أي طبيعة تطوره في التطبيق. وما دامت هذه الميكانيكية على هذا النحو فإنها تكون متطور، ويمكن أن تختلف من شخص لآخر حسب فهمه ومعارفه الاقتصادية، وحسب الوعاء الاقتصادي الذي يتعامل معه.
2- ويدخل في هذا العنصر أيضاً كل ما يتعلق بالمؤسسات والمرافق التي يمكن أن توجد في إطار اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. ذلك أن المؤسسات، والمرافق التي تقبل في اقتصاد ما تتوقف على الهيكل الاقتصادي وطبيعته بقدر ما تتوقف على الأصول النظرية للفكر الاقتصادي. وما دام أمر المؤسسات على هذا النحو، فإن ما يوجد منها ليخدم الاقتصاد الإسلامي يخضع للتطور الهيكلي لاقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. أي أن هذا العنصر في الاقتصاد الإسلامي يكون متطوراً.
3- ويدخل في هذا العنصر المتطور القوانين التي تفسر الظواهر والمتغيرات الاقتصادية التي يمكن أن نكشفها من عمل اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. ذلك أن كل اقتصاد توجد فيه علاقات بين ظواهره ومتغيراته الاقتصادية .
ونستطيع من خلال البحث أن نكشف طبيعة العلاقات الموجودة في الاقتصاد. وبعد التعرف عليه واكتشافها نصوغها في قوانين أو غير ذلك من أساليب الصياغة. ومما لاشك فيه أن العلاقات التي توجد في أي اقتصاد تكون متطورة بحسب تطور الهياكل الأساسية لهذا الاقتصاد .
وينطبق هذا على الاقتصاد الإسلامي كما ينطبق على غيره من الاقتصاديات، إلا أن هنا ما يلزم التحفظ عليه. ذلك أن طبيعة تطور الظواهر والمتغيرات الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي تكون محكومة بأصول وأسس الاقتصاد الإسلامي. لهذا فإن طبيعة تطور الظواهر والمتغيرات الاقتصادية في مجتمع يسير وفق المنهج الإسلامي تختلف عن نظيرتها في الاقتصاديات الأخرى .(1/25)
4- ويدخل في هذا العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي إمكانية أن تعمل فيه أدوات التحليل، التي تفسر وتشرح المعلومة الاقتصادية. إن أي تطور في أدوات التحليل، يقبل استخدامه في شرح المعلومات الاقتصادية الإسلامية. ويعني هذا أننا نستخدم في الاقتصاد الإسلامي ما هو معروف من أدوات التحليل، وما يستجد منها، أي ما يقود إليه التطور المعرفي. وهكذا يكون هذا العنصر المعرفي التحليلي في الاقتصاد الإسلامي له طبيعة متطورة.
أحاول فيما يلي، أن أعطي بعض الأمثلة ، التي تشرح هذا العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي.
المثال الأول: نأخذ تحريم الربا، وإباحة المشاركة، ونحاول التعرف على واحد أو أكثر من العناصر المتطورة ، مقارناً بالعنصر الثابت. يستتبع تحريم الربا وإباحة المشاركة خصائص اقتصادية معينة، وذلك مثل الأثر على العرض النقدي، والأثر على الاستثمار كميّاً وكيفيّاً، وأعتبر هذا العنصر مما يدخل في العنصر الثابت في الاقتصاد الإسلامي. وبجانب هذا العنصر الثابت فإن في اقتصاديات تحريم الربا وإباحة المشاركة عناصر متطورة، ومن هذه العناصر المؤسسات التي يمكن أن توجد في اقتصاد غير ربوي . وقديماً اقتصرت هذه المؤسسات على أشكال محددة للشركات ، أما حديثاً فإن هذه المؤسسات يمكن أن تكون في صورة كثيرة ومنها المصارف. مثل هذه الخاصية في الاقتصاد الإسلامي المتعلقة بتطور المؤسسات، التي يكن أن تعمل فيه، هي ما يدخل في العناصر المتطورة. وأيضاً فإن للاقتصاد غير الربوي ميكانيكية اقتصادية تختلف عن الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد الربوي. وهذا عنصر آخر من العناصر المتطورة.(1/26)
المثال الثاني: تحديد الثمن في الاقتصاد الإسلامي يتضمن أيضاً ما هو ثابت وما هو متطور. إن فقه هذا الموضوع يتأسس على أن الأصل هو حرية تحديد الثمن، ثم ذكر الفقهاء حالات محددة أوجبوا فيها تدخل الدولة في الثمن. إن العنصر الاقتصادي الثابت في هذا الموضوع يتمثل في أن الثمن يعمل عليه كل من قوى السوق وقرارات الدولة. يجيء بعد هذا العنصر الثابت عناصر متطورة. ومن هذه العناصر المتطورة كيفية تدخل الدولة في العمل على الثمن، والأساليب التي تتبعها، والمؤسسات التي تؤدي هذه الوظيفة وأيضاً منها اكتشاف الميكانيكية التي يعمل بها سوق السلع، والخدمات، في ظل حرية السوق ودور الدولة التدخلي.
الفرع الثاني: طبيعة التطور التاريخي بين علم الاقتصاد الإسلامي وعلم الاقتصاد الوضعي
كان موضوع الفرع السابق هو البحث في الثبات والتطور في الاقتصاد الإسلامي. وترتيباعلى ما قلته عن هذا الموضوع، أحاول تحديد طبيعة التطور في هذا الاقتصاد.
أولاً: نعرف التطور وطبيعته في الفكر الاقتصادي الوضعي، وهو تطور تضمن ارتقاءً تدريجياً في الأفكار وفي المنهج، بل تضمن أيضا ارتقاء من نوع إلغاء أفكار لم تعد ملائمة، أو لم تعد صحيحة، وإحلال أفكار أخرى اعتقد في صحتها، أو ملاءمتها للواقع، وهذا الإلغاء والإحلال هو السمة المميزة للتطور، وطبيعته في الفكر الاقتصادي الوضعي.
وظهور مدارس متعددة في الاقتصاد الوضعي يعتبر الترجمة العملية لهذا الإلغاء والإحلال. ونستطيع أن نستنتج الآتي: إن التطور وطبيعته في الاقتصاد الوضعي هو تطور إلغائي إحلالي ارتقائي، ونقول أيضا: إنه ليس هناك ما هو ثابت في الاقتصاد الوضعي.(1/27)
ثانياً: بناء على ما قدمته في الفرع السابق أستطيع أن أقول: إن التطور وطبيعته في الاقتصاد الإسلامي يختلف جذريّاً عن نظيره في الاقتصاد الوضعي. ذلك أنه وكما رأينا، فإن في الاقتصاد الإسلامي ما هو ثابت، ثم فيه ما هو متطور. والاقتصاد الإسلامي يتميز عن الاقتصاد الوضعي بهذا العنصر الثابت. بل إن العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي له طبيعة تطورية تجعله مختلفاً عن الطبية التطورية في الاقتصاد الوضعي. إن العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي محكوم ومربوط بالثوابت في هذا الاقتصاد، بينما الاقتصاد الوضعي ليس فيه ثوابت تحكم التطور.
ثالثاً: في حقيقة الأمر، إن البحث في قضية التطور والثبات في الاقتصاد ليست منفصلة عن البحث في مصدر المعرفة في الاقتصاد.
فالفكر الاقتصادي عندما انفصل عن عنصر الوحى في التعرف على المعلومة الاقتصادية، وجعل الإنسان هو مصدر المعرفة كلها فإن ذلك قاده إلى أنه لم يصبح هناك ما هو ثابت في هذا الاقتصاد بسبب أن الإنسان أصبح مصدر المعرفة. والإنسان متطور في معرفته ليس بسبب المكتسبات المعرفية الجديدة التي يحصل عليها، لكن أيضاً بسبب قصوره ومحدوديته في الإدراك.
أمَّا في الاقتصاد الإسلامي، فإن مصدر المعرفة في الجزء الثابت هو التشريع، لذلك فإن البحث في الاقتصاد الإسلامي من حيث هذا الجزء محكوم بذلك.(1/28)
وفيما يتعلق بالجزء المتطور من هذا الاقتصاد فكما ذكرت فإن التطور هنا محكوم بالثوابت، لذلك لا يصح أن يقال عن الجزء المتطور إنه يخضع كله للإنسان، إذ ليس الإنسان هو مصدر المعرفة باستقلال، وإنما دوره هو أن يعمل عقله في الظاهرة الاقتصادية محكوماً بالثوابت من الوحي، لذلك اقترح أن نسمي منهج البحث في هذا الجزء المتطور من الاقتصاد الإسلامي باسم المنهج الوضعي المغاير. فهو وضعي لأن الإنسان أعمل عقله على هذا النوع من المعرفة، ولكنه وهو يعمل عقله محكوم بالتشريع الذي يحدد له ما هو أكثر من القواعد الأخلاقية في هذه المعرفة الاقتصادية، ولذلك يكون مغايراً. يكون الاقتصاد الإسلامي بهذا فيه منهجان للبحث يعمل كل واحد منها على عنصر من عناصره، فالمنهج المعياري يعمل في العنصر الثابت ، والمنهج الوضعي المغاير يعمل على الجزء المتطور.
رابعاً: أرى أن هذا المنهج على هذا النحو له إسقاطاته على الاقتصاد الإسلامي تميزه عن الاقتصاد الوضعي، وأحاول فيما يلي أن أعطي أمثلة لهذه الإسقاطات.
1- إن الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي ليس موضوعاً للتطور، وقد ذكرت بعض المعلومات عن هذا الجزء عندما ، بحثت العنصر الثابت في الاقتصاد الإسلامي. ومما ينبغي ذكره أن الفقه المالي والاقتصادي يسع المعاملات المستجدة ، والمتطورة في الاقتصاد، كما ثبت ذلك. والثبات هو عندما نعرف الحكم فيها.
وهذا الذي قررته عن هذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي له أهميته. ذلك أننا نرى بعض الأبحاث في الاقتصاد الإسلامي تحاول أن تعمل التطور في هذا الثابت. وهذا خطأ قاد إلى نتائج مخطئة. ومن أمثلة هذه الأبحاث ما قيل عن بعض المعاملات المحرمة بقصد إخراج صور منها من الحرمة، وإدخالها في الحلية، على سبيل المثال يدخل في هذا بعض أو كثير مما قيل عن تعويض التغير في قيمة النقود. والذين فعلوا ذلك أخطأوا، ذلك أنهم أعملوا التطور فيما هو ليس قابلاً أو موضوعاً للتطور.(1/29)
2- الاقتصاد الإسلامي ، بوجود هذين العنصرين فيه، وهما الثابت والمتطور، يملك خاصية تميزه عن اقتصاد يكون كل ما فيه متطوراً. ذلك أن العنصر الثابت هو بمثابة القواعد الثابتة بحيث تجعل العنصر المتطور يدور في فلكها وعلى محورها. ومقارنة العنصر الثابت بالعنصر المتطور تكشف عن أن العنصر الثابت يعمل في الأصل على ضبط السلوك الاقتصادي للإنسان من حيث أخلاقياته الاجتماعية ، بينما العنصر المتغير يعمل في الأصل على فهم وتحليل ميكانيكية عمل الاقتصاد. ولهذا يكون الاقتصاد الإسلامي بوجود العنصرين فيه ينظم الأخلاقيات والعلاقات الاجتماعية، ثم يحلل الميكانيكية الاقتصادية، بينما الاقتصاد الذي يكون كله متطوراً يعمل في مجال واحد، وهو فهم وتحليل الميكانيكية الاقتصادية وهذا ما نعرفه فعلاً عن عمل الاقتصاد المعاصر، الذي شغل فيه الاقتصاديون بضبط معادلة تشرح الميكانيكية الاقتصادية، وانصرفوا عن البحث في ضبط العلاقات الاجتماعية، التي تعمل على أخلاقيات المجتمع. وقد سار الاقتصاديون في هذا المجال إلى حده الأقصى بحيث جعلوا موضوع علم الاقتصاد هو التبادل (1 ) ويكون الإنسان بهذا ـ اقتصادياً ـ هو الشخص الذي يعمل التبادل (2 ) .
3- بناء على ما سبق فإن الاقتصاد الإسلامي يقبل أن تعمل فيه كل أساليب التنظير والتحليل الاقتصادي، فهو قابل أن نصوغه في نظريات، وأن نترجم ذلك في أشكال بيانية أو صيغ رياضية.(1/30)
وإذا كنت أقرر وأقر إعمال أدوات التحليل في الاقتصاد الإسلامي، فإنني أسجل تحفظاً على نوعية أدوات التحليل المستخدمة في الاقتصاد الوضعي. إن ما أعتقده هو أن بعض أدوات التحليل المستخدمة في الاقتصاد بإجمال تحمل مضامين عقيدية وفلسفية ومنهجية، وبعض المضامين ليست إسلامية، بل إنه يظهر في بعضها التناقض مع الإسلاميات التي نعتقدها في الاقتصاد الإسلامي، أو هي، على الأقل قاصرة عن استيعاب العناصر الإسلامية ، التي تحكم الموضوع محل البحث. وأعطي أمثلة: دالة الاستهلاك المعروفة في الاقتصاد، وسواء عبرنا عنها بيانياً أو رياضيّاً، فإن فيها مضامين ليست إسلامية، ومن ذلك ما يعرف باسم معظمة الإشباع المادي. ودالتي الادخار الاستثمار أيضاً، فيهما مضامين ليست إسلامية، ومن ذلك ربطها دالياً بالفائدة (الربا ). ودالة الطلب على النقود، فيها أيضاً مضامين ليست إسلامية.
ولهذا، فإنه في الوقت الذي نقرر ونقر فيه استخدام أدوات وصيغ التحليل في الاقتصاد الإسلامي، فإنه يلزم أن يصاحب ويلازم ذلك العمل على اكتشاف صيغ إسلامية لتفسير الظواهر والمتغيرات الاقتصادية تفسيراً يعبرعن المضامين والمفاهيم الإسلامية. وأهم وأولى ما ينبغي أن نحرص عليه، هو ألا تشغلنا أو تنسينا أو تصرفنا الأدوات والصيغ التحليلية عن الأبعاد العقيدية والاجتماعية، التي يقوم عليها ويتميز بها الاقتصاد الإسلامي. ونجاحنا في تحقيق هذا الهدف يضمن ألا يسير الاقتصاد الإسلامي في طريق استخدام أدوات وصيغ التحليل إلى الحد الذي يغيّب البعد العقيدي والاجتماعي في الاقتصاد .
المبحث الثالث
الاقتصاد الإسلامي بديل للاقتصاد الوضعي
الفرع الأول: الاقتصاد (الوضعي) تاريخ للعالم الغربي(1/31)
الاقتصاد على النحو الذي يعرّف به في الكتب المنشورة تكوّن على مراحل تاريخية طويلة. وقبل عرضٍ تقويمه فإنه من الضرورة الإشارة إلى: أين نشأ؟. وهذا ما أعتبره مدخلاً تاريخياً، وما أذكره لاشك أنه يدخل في تقويم هذا الاقتصاد، لأنه يبين الوعاء الذي نشأ فيه، ومنه اكتسب كل عناصره وفيه تحددت ملامحه.
الاقتصاد المعاصر مقولة أوروبية (1 ) بكل مراحل تاريخه، وبكل أسسه، وبكل عناصره، بل وبتجربته في التطبيق.
وهذا الذي أقرره يثير قضية معروفة وهي: ألم يكن للأمم الأخرى غير الأوربية نظم اقتصادية، أو إذا كانت هذه الأمم رأسمالية، ألم تكن لها مساهمات في الرأسمالية؟.
هذه القضية لا تقتصر على الاقتصاد وحده، وإنما تعمم على كل فروع المعرفة، فعندما يعرض تاريخ أي فرع من فروع المعرفة، فإن ما يعرض يكون تاريخه في أوربا.
بالنسبة للاقتصاد وهو موضوعنا فإن تفسير هذه القضية معروف. إن الذين كتبوا التاريخ الاقتصادي من حيث الفكر، ومن حيث التطبيق، هم الأوروبيون، وتاريخ هذا العلم هو تاريخ كل فروع المعرفة الاقتصادية ويدخل فيها ما يختص بالاقتصاد. والأوروبيون عندما كتبوا تاريخ هذا العلم كتبوه من منظور رؤياهم لأحداث التاريخ، ومن منظور مساهمة مفكريهم، ومن منظور تطورهم الاقتصادي . لذلك فإن الأب الاقتصادي كله يحمل هذه البصمة .
وأعطى المثل من تاريخ الفكر الاقتصادي لأدلل على هذا الذي سجلته.
تاريخ الفكر الاقتصادي الوضعي على النحو الذي يعرفه الاقتصاديون، وعلى النحو الذي يعرف به في كل الجامعات، ومنها جامعاتنا، هو تاريخ للفكر الاقتصادي للإنسان الأوربي ولا يحمل ـ من قريب أو بعيد ـ أية عناصر أو مساهمات لأمم أخرى غير الأمم الأوروبية، ولإثبات متيقن لذلك أحيل إلى جميع الكتب التي كتبت عن تاريخ ((الفكر الاقتصادي ))، سواء باللغة العربية أو بغيرها، من لغات الأرض قاطبة، وسوف نكتشف أن كل هذه الكتب لا تؤرخ إلا لفكر الرجل الأوروبي.(1/32)
وأختار أربعة أمثلة مما تقوله كتب الاقتصاد لأزيد الاقناع بما سجلت:
المثال الأول: جميع كتب تاريخ الفكر الاقتصادي تجعل بداية هذا الفكر مع الحضارة الإغريقية القديمة، والأوروبيون هم الذين بدأوا هذا التقليد وسار على أثرهم كل من كتب عن تاريخ الفكر الاقتصادي، بلغات أخرى غير اللغات الأوروبية.
والمعنى الذي أريد أن أقوله من هذا المثال: هو أن الأوروبيين لم يروا من الحضارات القديمة إلا الحضارة اليونانية ، فجعلوا تاريخ الفكر الاقتصادي يبدأ بها، والأوروبيون
ـ من خلال ذلك ـ قد أذاعوا على العالم كله رسالة مضمونها أن الفكر الاقتصادي بدأته حضارة أوروبية.
المثال الثاني: جميع كتاب تاريخ الفكر الاقتصادي يتفقون على أن هناك فترات في هذا التاريخ، ولهذا العلم مدارسه ومفكروه، تكشف مراجعه كل ما قيل عن ذلك بأن تقسيم الفترات حدد على أساس أحداث ومتغيرات أوروبية، كما تكشف المراجعة عن أن تحديد المدارس الاقتصادية وطبيعتها أسس كله على أساس ما قاله المفكرون الأوروبيون، أو الاقتصاديون الأوروبيون. والرسالة الواضحة التي بثتها أوروبا بواسطة ذلك هي أنهم قالوا للعالم: إن الفكر الاقتصادي كله، بكل مقولاته، وبكل أحداثه، وبكل مفكريه هو صناعة أوروبية.
المثال الثالث: ما قال الأوروبيون عن تاريخ الفكر الاقتصادي في الفترة من سنة 500 إلى 1500 م يعطي دليل إصرارهم على أن غيرهم ليست له مساهمة في الفكر الاقتصادي. إنهم يسمون هذه الفترة باسم ((العصور الوسطى )) وهي في نظرهم فترة ظلام وبربرية وهمجية، ويعممون ذلك على الفكر الإنساني ، وكذا السلوك الإنساني، أوروبي أو غير أوروبي.(1/33)
والأوروبيون في هذا التعميم يغالطون، فالأوصاف التي وصفت بها الفترة المذكورة صادقة على أوروبا ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسلمين، إذ أن هذه الفترة هي التي شهدت الحضارة الإسلامية، وكان لها معطياتها في الاقتصاد، وفي غيره. الأوروبيون أنفسهم يعرفون بعض الريادات الإسلامية لهذه الفترة، مثل ابن خلدون، ولكن وإن اعترف بعضهم بمساهمته في الاقتصاد إلا أنهم لا يجعلون ذلك على نحو يؤثر في تقسيمهم لفترات تاريخ الفكر الاقتصادي، أي أن مثل هذه المساهمة شيء هامشي لا يؤثر في التيار الفكري العام.
وهكذا، نحن في الفكر الاقتصادي أمام علم ، تعكس كل مقولاته التراث الديني والفكري للأوروبيين. وهم قدموا تاريخ هذا العلم بتقسيماته من منظور رؤياهم لأحداثهم الدينية والفكرية والاجتماعية.
وقد تكون هذه الأحداث مشتركة مع غيرهم، لكنهم حيث استندوا إليها، أحالوا إليها من وجهة نظر التفسير الذي أعطوه لها.
المثال الرابع: ما قاله الأوروبيون عن مراحل الفكر الاقتصادي ومدارسه التي اعتمدوها. إنهم يقسمون هذا العلم إلى هذه التصنيفات المرحلية:
1- الحضارة اليونانية ( 300 ق . م ) .
2- الامبراطورية الرومانية ( 500 م ) .
3- العصور الوسطى ( 500 ـ 1500 م ) .
4- الرأسمالية التجارية ( 1500 ـ 1800 م ) .
5- المدرسة الكلاسيكية ( 1776ـ 1820 م ) .
6- المدرسة الرومانسية والمدرسة التاريخية ( 1820 ـ 1860م ) .
7- المدرسة الاشتراكية ( 1820 ـ 1880 م ) .
8- مدرسة الكلاسيك الجدد ( 1870 م ) .
9- المدرسة الكينزية ( 1836م ) .
10- اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذه هي المراحل والمدارس التي اعتمدها الأوروبيون في الفكر الاقتصادي. ونلاحظ أنها كلها ـ بلحمتها وسداها ـ تعكس أحداث وفكر الأوروبي .(1/34)
وهكذا يثبت ويتأكد أن الاقتصاد (الوضعي ) المعاصر بكل جزئياته يمثل تاريخ وفكر الإنسان الأوروبي. وإذا كان ما ذكرت يترجم الاقتصاد الوضعي من حيث الرأسمالية، فإن الأمر مع الاشتراكية تاريخاً وفكراً يسير على المنهج نفسه .
عندما يثبت ويتأكد أن الاقتصاد الوضعي مقولة أوروبية فإنه يثبت ويتأكد في الوقت نفسه الحق لغير الأوروبيين أن يحاولوا إظهار اقتصادهم تاريخاً وفكراً وتفريعاً ، على هذا الحق يصبح للمسلمين الحق في إظهار اقتصادهم تاريخياً وفكراً .
الفرع الثاني: بعض قضايا الأساس بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي
الاقتصاد الوضعي له أسسه الفلسفية والاقتصادية ، التي يبنى عليها، وله فروضه التي يقوم عليها التحليل فيه، وحيث تحكم سلوك وحداته الاقتصادية.
وعندما يدرس الاقتصاد الوضعي فإنه يكون محكوماً بهذه الأسس، سواءً أعلن هذا، أو لم يعلن. ولا شك أن للاقتصاد الإسلامي أسسه وفروضه، سواء تناقضت كلية مع أسس الاقتصاد الوضعي، أو جاء اتفاق في بعض الجزئيات.
أحاول فيما يلي التعريف ببعض أسس الاقتصاد الوضعي، ليس بقصد بحثها تفصيلاً وإنما بقصد أن نعرف الرأي الإسلامي فيها:
1- الاقتصاد الوضعي مؤسس على أن مصدر المعرفة هو الإنسان، فهو قادر بإمكانياته الذاتية أن يكتشف القوانين التي تحكم الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية، وأنه قادر على هذا الاكتشاف بعقله، وليس بمساعدة قوى خارجية غيبية، ثم قادر أن يسيطر على الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية بواسطة القوانين التي تحكم حركتها.
مصدر المعرفة على هذا النحو الذي يؤمن به الاقتصاد الوضعي ليس مقبولاً إسلامياً. إن مصدر المعرفة في الاقتصاد الإسلامي فيما هو محكوم بفقه هو الله ، وفيما دون ذلك فالإنسان يعمل عقله وفق ضوابط شرعية .(1/35)
2- في الاقتصاد الوضعي فإن المستهدف هو اكتشاف القوانين، التي تحكم الظواهر الاقتصادية ، بل إن ذلك يعتبر هو موضوع علم الاقتصاد، في مقابل ذلك فإن الاقتصاد الإسلامي يهتم أولاً بتحديد طبيعة وشكل العلاقات بين أفراد وفئات المجتمع كما يهتم باستهداف تحقيق غايات معينة.
والمقابلة بين الاقتصاد الإسلامي، والاقتصاد الوضعي، تعطي الآتي:
إن الاقتصاد الإسلامي يبدأ بتحديد الغايات المستهدفة، ويشكل العلاقات، ولا يبدأ باكتشاف القوانين ، لأنها في حقيقة الأمر معطاة لما سبق تقريره من غايات وعلاقات.
3- الاقتصاد الوضعي من حيث محرك الاقتصاد تتنازعه فلسفتان. الفلسفة الفردية، والفلسفة الجماعية، في الفلسفة الفردية باعث الاقتصاد المصلحة الخاصة، ولذلك فإن الحرية الاقتصادية هي الوعاء الملائم للاقتصاد، وإن أكفأ دور اقتصادي للدولة هو ألا يكون لها دور. بينما الفلسفة الجماعية تقوم على النقيض من ذلك في الاقتصاد الإسلامي فإن الفرد أحد أشخاص الاقتصاد، ولذلك فإن المصلحة الخاصة معتبرةٍ، والدولة أيضا أحد الأشخاص، ولذا فإن المصلحة العامة معتبرة اعتباراً مباشراً.
4- الفكر الوضعي قائم على أن أحسن اسم لعلم الاقتصاد هو أن ندعوه علم التبادل، ولذلك فإن السوق، هو ما يبدأ به وينتهى إليه الاقتصاد .
السوق، وكيف يصل إلى التوازن، وكيف يمكن أن يحدث الاختلال، وما الذي يسببه، وكيف يمكن العودة إلى التوازن. إن هذا هو شاغل الفكر الاقتصادي الوضعي.
في مقابل ذلك، فإنه قد يمكن القول: إن من أحسن ما يسمى به الاقتصاد في الإسلام هو أن ندعوه علم الإعمار، كيف يحقق الإنسان الإعمار، والإعمار المقبول، وما الذي يعمل عليه، إن هذا كله هو شاغل الفكر الاقتصادي الإسلامي.
الفرع الثالث: أسس الاقتصاد الوضعي ليست مقبولة من الأمم كلها(1/36)
تبين مما سبق أن أسس الاقتصاد الوضعي ، هي في حقيقة الأمر معتقدات نبتت في أوروبا، وآمن بها الإنسان الأوروبي ، وشكلها وفق مصالحه وغاياته . ولنأخذ الرأسمالية كأحد جناحي الاقتصاد المعاصر. الإنسان الأوروبي في تلاؤم مع الرأسمالية من حيث أسسها، إنه لا يحس بخلخلة فيها ، كما لا يحس باضطراب نفسي معها، أما غير الأوروبي فإن الأمر يختلف . ولو قصرنا الكلام على المجتمعات الإسلامية، فإن الفلسفة الرأسمالية، دخيلة على هذه المجتمعات، ومتناقضة مع الفلسفة الإسلامية.
وهذا يفسر قلق المسلم مع الفلسفة الرأسمالية، ويفسر الاضطراب الواقع في المجتمعات الإسلامية المفروض عليها النظام الرأسمالي.(1/37)
أعطي مثالاً لواحد من أسس الرأسمالية المعاصرة ، لأبين منه رفض المسلم للرأسمالية، وهو أساس مصدر المعرفة ، يكتب الإمام عبد الحليم محمود: في فترة من الفترات كانت الكنيسة مسيطرة على العالم الأوروبي سيطرة تامة: ما كان شيء يفعل ، أو شيء ينتهي فيه الأمر، ولا شئ يقام أو يهدم وما كان إنسان يقدم على أمر، وما كان إنسان يحجم عن أمر، إلا باستئذان الكنيسة ، وباستئذان رجال الدين، ولكن الكنيسة ورجال الدين تعسفوا في استعمال سلطتهم حتى لقد أنشأوا محاكم التفتيش. وقد كتب الأوروبيون والمسيحيون عن محاكم التفتيش كثيراً، وصوروها في أبشع مظاهرها، وفي أسوأ صورها، كتب الكاثوليك ، وكتب البروتستانت، وكتب الفرنسيون وكتب الإنجليز كتب كل هؤلاء ـ وهم رجال المسيحية ـ فيما يتعلق بهذا الأمر. ولقد وضحوا وبينوا أن الكبت الذي كان يغمر أوروبا في ذلك العصر ولد الانفجار، واتخذ الانفجار اتجاهاً معيناً ، اتخذ الاتجاه الإنساني وأخذ قادة الحضارة يتحدثون عن الإنسان، بما يوحي بانفصال الإنسانية عن الألوهية، أو انفصال الإنسانية عن الكنيسة ، أو انفصال الإنسان عن الدين ، أو بالتعبير الحديث انفصال الدين عن الدولة ، فالإنسان له عقله ، له منطقه ويجب أن يسير بهذا العقل ، وبهذا التفكير وبهذا المنطق (1 ) .
هذا هو التفسير لجعل مصدر المعرفة الاقتصادية في الرأسمالية هو الإنسان وإبعاد الدين كلية عن ذلك ،وهذا الأساس على هذا النحو أوروبي بحت.
وهذا الأساس على هذا النحو من حيث موضوعه في تناقض مع الإسلام ، ثم هذا الأساس من حيث جذوره التاريخية، هو غريب على المجتمعات الإسلامية.
وما قيل عن هذا الأساس يقال عن الأسس الأخرى للرأسمالية.
لهذا أقرر بأن الرأسمالية من حيث أسسها العقيدية والفلسفية والأخلاقية ليست صالحة لأن تحكم الأمم كلها ، وعلى الأخص أمتنا الإسلامية، وما قيل عن الرأسمالية يقال عن الاشتراكية.(1/38)
أعطى الفصل الأول من هذا الكتاب اهتماماً لمناقشة العلاقة بين الفقه والاقتصاد، وتبين أن موضوع الفقه الاقتصادي هو الأحكام الشرعية المتعلقة بأمور اقتصادية، بينما موضوع الاقتصاد ، الذي يتولد من تطبيق الفقه الاقتصادي .
أعيد التذكير بهذا التوضيح ، بين موضوع علم الفقه ، وموضوع علم الاقتصاد، ونحن بصدد البحث عن التوزيع في الإسلام، والمقصود به التوزيع الاقتصادي للثروات والدخول. ولما كان المستهدف بهذا الكتاب هو الاقتصاد الإسلامي فإن هذا الهدف يحكم البحث من حيث العناصر التي تناقش ، واتجاه المناقشة ، وكذا النتيجة المستهدفة من المناقشة .
إعمال هذا المنهج يقتضي أن يكون عرض الفقه هو لمجرد التعريف به ، والإشارة إليه ، أما ما ينبني على الفقه من اقتصاد فهو الذي يكون محل مناقشة تفصيلية، ومحل اقتراح ، ومحاولة الوصول إلى نتائج جديدة بقصد عرضها للحوار والبحث .
وعلى أسا س هذا المنهج ، أحاول في هذا الفصل الإشارة والتعرف ببعض عناصر فقه التوزيع ،أما المناقشة التي يستهدف بها التعرف على ملامح وعناصر توزيع الثروات والدخول في الإسلام باعتبار أنها من المستهدف الرئيس بهذا الكتاب ، فإنها ستعالج على نحو تفصيلي واسع .
المبحث الأول
عناصر في فقه توزيع الثروات والدخول
تمهيد:
فقه توزيع الثروات والدخول متضمناً إعادة التوزيع ، أو بعبارة أخرى الضمان الاجتماعي، هذا الفقه واسع ، بل إنه أوسع موضوعات الفقه الاقتصادي، وأقترح للتعرف على هذا الفقه أن أعرض العناصر التالية :
- بعض الموضوعات الفقهية التي تتعلق بالتوزيع .
- بعض الآراء الفقهية التي تتعلق بالتوزيع .
- بعض الأدلة الشرعية التي تتعلق بالتوزيع .(1/39)
وفي حقيقة الأمر ، العناصر الثلاثة تعتبر شيئاً واحداً . بل العارف بالفقه قد لا يقر هذا المنهج ، إذ يرى أن عرض موضوعات الفقه التي تتعلق بالتوزيع يستلزم التعرف على آراء الفقهاء متضمناً ذلك الأدلة ، وأقول عن هذا :إنه صحيح ، وأيضا المنهج الذي أقترحه من عرض العناصر الثلاثة له تبريره .
عرض فقه التوزيع بكل تفصيلاته، وآراء الفقهاء فيه ، وأدلته ، ليس مقصوداً في هذا الكتاب ، وإنما المقصود هو التعرف على الاقتصاد الذي ينشئه هذا الفقه ، والعناصر الثلاثة المقترحة تساعدنا في هذا الغرض وتتلاءم معه ، فعرضنا لبعض موضوعات فقه التوزيع ، نقتصر فيه على ذكر بعض أبواب الفقه التي تتعلق بذلك ،وهذا ليس لمن يريد أن يعرف عن فقه هذا الموضوع ، أما عرض بعض الآراء الفقهية التي تتعلق بالموضوع فالهدف منه هو إبراز بعض عناصر هذا الفقه، التي تعتبر بمثابة محددات رئيسة لطبيعة الاقتصاد ، الذي ينشئه هذا الفقه . أما عرضٍ العنصر الأخير وهو بعض الأدلة التي تتعلق بفقه التوزيع فإن المقصود به أيضا التعرف على أدلة هي من المحددات الرئيسة في الموضوع . وأيضا قصدنا بعرض هذه الأدلة شيء آخر ، هو إبراز المعنى الاقتصادي الذي يتضمنه الدليل ، ذلك أن الفقهاء قد يكونون عملوا على النص الذي نذكره باعتباره دليلاً على الحكم ، أما عرضنا له فمع قصد ذلك به ، فإننا قصدنا به أيضا ، استخراج معنى اقتصادي قد يكون حديثاً يتضمنه هذا الدليل .
الفرع الأول: بعض الموضوعات الفقهية التي تتعلق بالتوزيع
أقترح للتعرف على موضوعات الفقه ، التي تتعلق بالتوزيع ، أن نحيل إلى أحد كتب الفقه، وبهذا تزداد الفائدة أكثر من التعرف بهذه الموضوعات ، وذلك بربطها بكتاب معين من كتب الفقه .(1/40)
اخترت كتاب (( المغني لابن قدامة )) ، للتعريف بموضوعات الفقه ، التي تعالج التوزيع ، وقد لا نكون بحاجة لإعطاء تبرير لاختيار ابن قدامة ، فهو فقيه معروف ، وله دوره في الفقه الحنبلي ، على وجه الخصوص ، ومع هذه المسلمة إلا أني أقدم تفسيراً لاختيار كتاب المغني، هذا الكتاب هو واحد من كتب الفقه التي نجد فيها معالجة واسعة لموضوعات الفقه الاقتصادي والمالي . ولا شك أن هذا يفيدنا في الهدف الذي نستهدفه . يضاف إلى هذا أن كتاب المغني يصنف ضمن كتب الفقه المقارن ، ويعني ذلك أنه لا يحصر في أحد مذاهب الفقه المعروفة ـ مع أن ابن قدامة أحد عمد المذهب الحنبلي ـ ولاشك أن هذا البعد المقارن في الكتاب له فائدته في التعرف على موضوعات فقه التوزيع .
ومع كل ما يقال عن كتاب المغني ، وأهميته ، فإنه تلزم الإشارة إلى أنه قد تجيء في كتب الفقه الأخرى موضوعات تجئ في هذا الكتاب، وهذه يجب إدخالها عند البحث الواسع للموضوع .
الموضوعات التي تدخل في فقه توزيع الثروات والدخول وإعادة التوزيع وفق تتبع كتاب المغني هي : (1 )
1- الزكاة : وتفيد في إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي .
2- صدقة التطوع : وتفيد إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي .
3- الصوم ( الفدية ـ زكاة الفطر ): وتفيد في إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي .
4- الحج ( الفدية ـ الهدي ): وتفيد في إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي .
5- البيع: ويفيد في تنظيم الأسواق وتحديد الأثمان .
6- الربا والصرف: ويفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج ( رأس المال ).
7- السلم: ويفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج ( رأس المال ).
8- القرض: ويفيد في الضمان الاجتماعي ( القرض الحسن ) .
9- الرهن والحوالة والضمان : وتفيد في تنظيم أسواق عوامل الإنتاج .
10- الشركة: وتفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج ( توزيع الدخل ) .
11- الوكالة: وتفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج ( العمل ) .(1/41)
12- المساقاة والمزارعة والإجارة: وتفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج (توزيع الدخول على العمل ورأس المال والأرض ).
13- الإجارات: وتفيد في دراسة دخول عوامل الإنتاج ( توزيع الدخل ).
14- إحياء الموات: وتفيد في دراسة الملكية ( توزيع الثروات ) .
15- الوقف والهبة والعطية : وتفيد في دراسة إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي .
16- الميراث والوصية : وتفيد في دراسة الملكية وتوزيع الثروات ( كما تفيد في إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي ) .
17- النفقة: وتفيد في دراسة إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي ( مستوى الأسرة ) .
هذه أبواب الفقه التي جاءت بكتاب المغني ، وأرى أنه تفيد في دراسة توزيع الثروات والدخول متضمناً ذلك إعادة التوزيع ودوره في الضمان الاجتماعي .
ولا أدعي أن ما ذكر قد حصر كل ما تضمنه هذا الكتاب عن موضوعنا ، وإنما هذا ما استطعت الوصول إليه .
الفرع الثاني: بعض الآراء الفقهية التي تعلق بالتوزيع
لا أستهدف تقديم بحث واسع عن أراء الفقهاء ، وإنما أحاول تقديم بعض الآراء التي تعتبر من المحددات الرئيسة في هذا المجال ، وبالتالي تعتبر من المحددات الرئيسة التي تشكل طبيعة الاقتصاد الإسلامي في مجال توزيع الثروات والدخول ، وفيما يلي بعض هذه الآراء:(1/42)
- روي عن عائشة رضى الله عنها قالت : يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ، قال : (( الملح والماء والنار )) رواه ابن ماجه ، وألحق الشافعي رضي الله عنه بذلك ما يوجد في باطن الأرض ، مما نرى منفعته مادية ، وفي متناول من يطلبها ، دون جهد منه أو عمل ، من كل معدن ظاهر ، كالذهب ، والتبر وغيرهما والنبات والماء مما لا يملكه شخص معين ، ولا يحتاج في إظهاره وإدراكه إلى مؤونة . فإن الناس جميعا يكونون في ذلك سواء ، لا يختص به أحد من الناس ، بإحياء أو إقطاع من ولي الأمر ، بل يكون شأنه شأن الماء والكلأ والنار ، والقاصد إليه شريك فيه كشركته في الماء والكلأ ، الذي ليس في ملك أحد، قال الشافعي: ومثل هذا كل عين ظاهرة ، كنفط أو قار أو كبريت أو حجارة ظاهرة في غير ملك لأحد فليس لأحد أن يحتجرها دون غيره (1 ) .
- منع المنافع العامة من أن تكون ملكاً لشخص واحد وجعلها ملكاً للدولة وحدها أمر لا شك فيه ، إذ ورد في معنى الحديث (( أن المسلمين شركاء في ثلاثة : في الماء والنار والكلأ )) ، وهذا من قبيل التمثيل للأمور التي لا يجوز احتكارها ، إذ أن حاجة جماهير الناس إليها سواء ، فلا يصح تمكين يد واحدة من الاستيلاء عليها (1 ) .
- تقدير العطاء (2 ) ( أجر الجندي ) معتبر بالكفاية حتى يستغني بها الجندي عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة 0000 والكفاية من ثلاثة أوجه:
1- عدد من يعول من الذراري والمماليك .
2- عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر .
3- الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص .
- ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل اللهُ لكُم قياماً وارزقوهم فيها واكسُوهُم وَقُولُوا لهم قولاً معروفاً ) . [ النساء : 5 ] .
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذُرّيّةً ضعافاً خافوا عليهم ) . [ النساء : 9 ](1/43)
من التفسيرات الدقيقة لهذه الآية ما نقل عن القرطبي، من أن مصطلح الضعيف مراد به الصغير ، وأن مصطلح السفيه الوارد في هذه الآية مراد به الكبير ، وعلى ذلك يكون تفسير الآية أنها خطاب للجماعة ممثلة في أولياء أمورها بالحجر على السفيه، الذي فقد أهليته للنيابة عن الجماعة في تثمير مالها وحيازته ، أي فقد أهليته لوظيفته الاجتماعية ، فإن استمرار تصرفه بعد السفه إفسادها لما لها من حيث ملاحظة حقها الأصلي ، وإضرار بها من حيث النظر الاقتصادي البحت ، الذي يرى أن مال الجماعة يتأثر بما ينال مال الفرد بسبب السفه والنفقة أو سوء الاستغلال (3 ) .
- ويرى الفقهاء أن المناجم والمعادن لا تملك ملكية خاصة وإنما يكون أمرها إلى الإمام (1 ) .
- إن كل مال يتحقق فيه النماء ، والشروط التي ذكرها الفقهاء ، تجب فيه الزكاة، ولو لم يكن جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2 ) ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حُبه ذوي القربى واليتمى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عهدوا وأولئك هم المتقون ) .
[ البقرة : 177 ] .
إيتاء المال الوارد في هذه الآية غير إيتاء الزكاة ، وهو ركن من أركان البر ، وواجب كالزكاة ، وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل في غير وقت الزكاة (3 ).
- ( الذين ينفقون أمولهم في سيبل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولآ أذىً لهم أجرُهُم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ البقرة : 262 ] .
(((1/44)
ينفقون أموالهم في سبيل الله )) يعني: في دينه ، قيل: أراد النفقه في الجهاد خاصة ، وقيل جميع أبواب البر ، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن إنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ، ومن صرف المال إلى الصدقات، ومن إنفاقها في المصالح لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته ، لأن كل ذلك الإنفاق في سيبل الله (4 ) .
الفرع الثالث: بعض الأدلة التي تتعلق بالتوزيع
هذا هو العنصر الثالث في العرض الذي نقدمه عن فقه التوزيع ، وفيه أقدم بعض الأدلة التي تتعلق بهذا الموضوع ، وقد سبقت الإشارة إلى أن آراء الفقهاء التي عرضت لاشك أن لها دليلها ، والأدلة التي أعرضها في هذه الفقرة مما دخل في تلك الأدلة ، إلا أنني رأيت إبراز هذه الأدلة باعتبارها من محددات هذا الفقه .
كما هدفت من إبراز هذه الأدلة : العمل على ما تتضمنه من محاور اقتصادية واضحة وقد لا تكون هذه المحاور جاءت في الفقه الذي سبق عن هذا الموضوع .
وبناء على هذا التوضيح أقدم الأدلة التالية .
- ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين )
[البقرة : 278 ] .
(( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )) ( الحديد : 57 )
(( وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم )) . ( النور : 33 )
(( كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى )) ( العلق : 6ـ 7 )
(( يُوصيكم الله في أولدِكم للذكرِ مثل حَظّ الأنثيين )) ( النساء : 11 ـ 12 )
(( من بعد وصية يوصى بها أو دين )) ( النساء : 11 )
- ( إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سيبل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) [ التوبة:60 ].
((1/45)
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتي المال على حُبّه ذوي القربى واليتمى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة ) [البقرة : 177 ] .
- ( مثل الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سُنبلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يُضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليم ) [ البقرة : 261 ] .
- روي أن العباس بن عبد المطلب كان يدفع ماله مضاربة ، ويشترط أن لا يسلك به بحراً ، ولا ينزل وادياً ، ولا يشتري ذا كبد رطبة ، فإن فعل ذلك ضمن فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحسنه وأجازه . (1 ) .
- عن أبي سعيد رضي الله عنه قال (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره )) (2 ) .
- القراض كان في الجاهلية وكانت قريش أهل تجارة ، لا معاش لهم من غيرها ، ومنهم من لا يطيق الشغل ، فكان ذو الشغل والمرض يعطون المال مضاربة لمن يتجربه بجزء مسمى من الربح ، فأقر رسول الله صلى الله علي وسلم ذلك وعمل به المسلمون عملاً متيقناً لا خلاف فيه . (3 ) .
المبحث الثاني
نظرية توزيع الثروات والدخول في الاقتصاد الإسلامي
التوزيع في الاقتصاد الإسلامي كما يعطيه الفقه الذي عرضنا له، يتم على ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى:
مرحلة التنظيم الأولى لتوزيع الدخول من خلال تنظيم التملك ، وهذه المرحلة نقترح تسميتها باسم توزيع الثروة . وتمثل التوزيع القاعدي. وفلسفة تكييفه على هذا النحو، تنبع من أن الإسلام في تنظيمه للتملك وضع القاعدة التي يقوم عليها التوزيع، فتنظيم التملك هو تنظيم أولي لتوزيع الثروات، ثم توزيع الدخول ، ومن هنا فإن مجموعة الأسس والمبادئ التي تحكم هذه المرحلة هي التي تؤصل القاعدة التي يقوم عليها توزيع الثروات والدخول .
المرحلة الثانية:(1/46)
وفي هذه المرحلة يتم توزيع الدخول كعائد للخدمات الإنتاجية التي قدمتها عوامل الإنتاج ، وهذه المرحلة نقترح تسميتها باسم: توزيع الدخل وهو من نوع التوزيع العملي، وفلسفة، التسمية تنبع من أن التوزيع هنا يكون بناء على أعمال ومجهودات ، يبذلها الإنسان عاملاً أو مالكاً ، ويلعب السوق دوراً ظاهراً في عملية التوزيع هنا، وهكذا يكون التوزيع في هذه المرحلة مصبوغاً بالصبغة العملية . من خلال تفاعل حقيقي بين القوى الاقتصادية خلال سير العمليات الاقتصادية .
المرحلة الثالثة:
وفي هذه المرحلة نجد أن الإسلام يتدخل بمجموعة من التنظيمات لإعادة التوزيع ( دخل وثروة ) ،وذلك بقصد تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية ، وتغطية احتياجات التضامن الاجتماعي ، ولذلك نقترح تسمية هذه المرحلة باسم : التوزيع التوازني .
وسنحاول فيما يلي أن نستخلص إطار التوزيع في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث ، وكذلك المبادئ والأصول التي تحكم التفريعات فيها، وذلك اعتماداً على الإطار الفقهي الذي سبق عرضه .
الفرع الأول: توزيع الثروة (التوزيع القاعدي)
هذه المرحلة من مراحل تنظيم التوزيع في الاقتصاد الإسلامي، تتناول بالتنظيم : الملكية، والدراسة الخاصة بالملكية ، ويرتبط بها موضوعات محددة منها :
1- القيود التي تنظم الملكية سواء القيود التي تسبق مرحلة التملك ، أو القيود التي تنظم التملك الفعلي .
2- أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي .
3- وسائل اكتساب الملكية .
4- أسس استثمار الملكية .
5- الالتزامات التي ترد على الملكية .
6- التدخل في الملكية أو تحديدها في مقدارها .
وانعكاسات تنظيم الملكية على التوزيع في الاقتصاد الإسلامي ، أو بعبارة أخرى إطار التوزيع في هذه المرحلة يبدو على النحو التالي :(1/47)
أولا: يقر الإسلام الملكية الخاصة ، ويعتبر إقرارها من الأصول الجوهرية للفكر الإسلامي، ولكن التشريع الإسلامي يسبق مرحلة التملك الفعلي بمجموعة من القيود التي تضع الأسس التي تنمو عليها الملكية الخاصة ، وقوام هذه العمد الارتكازية هو التربية على مبدأ (( أن المال مال الله ، والبشر مستخلفون فيه )) وهو مبدأ يربي في الفرد الذي يذهب للتملك شعوراً جماعياً ، ويغرس في نفسه أن ما في يده هو في حقيقة الأمر ليس ملكه وحده، وإنما هناك ـ اعتقاديّاً ـ شركاء آخرون ، وهناك المالك الحقيقي لهذا المال ، الذي سيضع قواعد فيما بعد لتنظيم هذه الملكيات ينبغي الالتزام بها ، ويدور مع هذا المبدأ العام مبادئ أخرى معنوية تدعوا إلى اكتساب المال ، بوسائل شرعها الدين ، والفكر الإسلامي بهذا المنحى رائد في التنظيم للتملك ، فالنظم الاقتصادية التي تقر الملكية الخاصة لا تعرف قواعد منظمة لهذه المرحلة .
ثانياً: يقر الإسلام الملكية العامة ، ونجد أن اعتراف الإسلام بها اعتراف أصيل ، وإقرار هذا النوع من الملكية له انعكاساته على عملية التوزيع . وبناء على فقه الموضوع ، فإن الملكية العامة في الإسلام تؤدي الوظائف التالية :
الوظيفة الأولى: تحقيق تنمية المجتمع وتقدمه ( بالمشاركة مع الأفراد ) .
الوظيفة الثانية: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية في الجيل الواحد ، ثم تحقيق التوازن بين الأجيال الإسلامية .
الوظيفة الثالثة: تغطية احتياجات التضامن الاجتماعي ، وذلك أحد السياسيات التي يعمل بها الإسلام على هذا الجانب في المجتمع الإسلامي .
ومن الأمور الدقيقة في تنظيم الملكية العامة في الإسلام أن هناك بعض الأموال التي لا يجوز أن تدخل الملكية الخاصة، وقد اتفق على أموال معينة تقتصر على الملكية العامة
((1/48)
مثل المناجم وما في حكمها ) كما اتفق على أن المبدأ الذي يحكم تنظيم هذه الأنواع هو مصلحة الجماعة الإسلامية، وهو مبدأ يفتح الباب أمام إدخال أموال أخرى لهذا المجال .
وإمعان النظر في الأموال والنشاطات الاقتصادية التي أوقفت على الملكية العامة حتى الآن ،نجد أنها تحمل خاصيتين ظاهرتين .
أ- إنها أموال لها أهميتها في مجال الحياة الاقتصادية ، بل لها خطورتها .
ب- إنها يمكن أن تدر دخولاً كبيرة لمستغليها ، ومن هنا فإن منع الملكية الخاصة فيها يحمل حساً معيناً في مجال التوزيع .
ثالثاً: مع إقرار الملكية يتدخل الإسلام بالتنظيم في وسائل اكتسابها، ومن ذلك جعل العمل هو الوسيلة الرئيسة للتملك . وهذا قيد هام وأولي في التوزيع .
وجعل العمل هو الوسيلة الرئيسة للتملك ، مع مراعاة أن الإسلام يجعل هذا العمل بمواصفات خاصة ، هذا القيد يجعل توزيع الثروات ، والدخول يقوم على أساس موضوعي . وهناك ، بجانب العمل ، وسائل أخرى للتملك ، يعنينا منها في مجال التوزيع: الميراث والوصية : فانتقال الثروات بالميراث هو توزيع الثروات على نطاق واسع ، وبتشريع الوصية يبرز الإسلام التزام الثروات الخاصة بمواجهة التضامن الاجتماعي لأفراد في الجماعة الإسلامية ، سواء وجهت الوصية إلى أفراد معينين، أو إلى هيئات تخدم أهدافاً اجتماعية، ولعل من دقائق الحس الإسلامي في هذا المجال الاتجاه إلى منع الوصية للوارث ، وذلك كتقوية للأساس المبدئي في الميراث وهو منع تكدس الثروات ، أو بعبارة أخرى توزيعها على نطاق واسع .(1/49)
رابعاً: الإسلام ينظم استثمار الملكية الخاصة بمجموعة من القواعد والقيود وهي في إطارها العام تقوم على ضرورة أن يراعى في تشغيل المال توفير احتياجات المجتمع ، وتحقيق الرفاهية والتقدم لأفراده ، كما تتناول هذه القواعد المجالات التي يسمح للملكية فيها بالاستثمار ، وكذلك طرق أو أساليب استثمار الأموال . وإذا أردنا أن نستكشف انعكاسات هذه القواعد المنظمة للاستثمار على مجال التوزيع ، نجد أن استثمار الملكية الخاصة يراعى فيه اتجاهات جماعية ، بجانب قيامه على المصلحة الفردية ، والاعتراف بهذه الاتجاهات، كما أن استهداف تغطية مثل هذه الاحتياجات ، يجعل توزيع الدخول ـ والدخل يتولد خلال عمليات الاستثمار ـ محكوم بهذين الحدين ـ الحد الجماعي والحد الفردي .
خامساً: بعد اكتساب الملكية واستثمارها يكون التساؤل عن الموقف من تدخل الجماعة في الملكية بعد أن ثبت أن لها حق التدخل فيها بقصد تنظيم استثمارها ، وهذه الفكرة هي التي تكمل أو تختم إطار التوزيع الإسلامي في هذه المرحلة من مراحل التوزيع ، وهي مرحلة التوزيع القاعدي . واستهداف التأثير في التوزيع هنا أمر ظاهر ، ومن بحثنا لهذه الفكرة رأينا أن الإسلام يقر التدخل في الملكية الخاصة ، وأن الهدف الإسلامي هنا يدور على دعامتين محددتين:
الدعامة الأولى: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية :
الدعامة الثاني: مواجهة احتياجات التضامن الاجتماعي :
أن التداخل في تحديد الملكية هو التشريع أو التنظيم الختامي لهذه المرحلة من مراحل التوزيع . وروح وإجراءات هذا التشريع ، تستهدف تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية ، وبين الأجيال الإسلامية ، ومواجهة حاجات التضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي .
وإذا أردنا أن نعطي تصوراً موجزاً لإطار وأبعاد مرحلة توزيع الثروة ، أي التوزيع القاعدي نجد الآتي :
1- احتمالات التفاوت ـ مجرد تفاوت ـ قائمة .(1/50)
2- التدخل لتصحيح هذا التفاوت أمر مشروع .
3ـ الذين يملكون قد ملكوا في ضوء تنشئة عقيدية تجعل هذا التدخل ـ إن وقع ـ أمراً مقبولاً ومستساغا .
4- نوعية الإجراءات والتنظيمات تتجه إلى أن الملكية في خدمة الجماعة ككل من حيث تنظيم النشأة ، ومن حيث تنظيم الاكتساب ومن حيث تنظيم الاستثمار، ثم من حيث نقلها والتدخل فيها ، بل ومن حيث استخدامها واستعمالها .
5- من واقع ومن خلال الحس الاجتماعي للملكية ، يتجه الإسلام إلى كسر حدة التفاوت في هذه المرحلة من مراحل تنظيم التوزيع في الاقتصاد الإسلامي .
6- إن التنظيم الإسلامي يرشد إلى أن الملكية الخاصة تتحمل مسئوليات تحقيق الكفاية لكل فرد في الجماعة الإسلامية ، حتى في مرحلة اكتساب الملكية ، إلا أن إجراءات تحقيق الكفاية ، أو بعبارة أخص تحقيق الضمان الاجتماعي يجيء في مرحلة تالية من مراحل تنظيم التوزيع في الاقتصاد الإسلامي .
الفرع الثاني: توزيع الدخل ( توزيع السوق )
العنصر الأول: تحديد عوامل الإنتاج .
العنصر الثاني: الأسس والقواعد التي تنظم نشاط عوامل الإنتاج .
العنصر الثالث: تحديد دخول عوامل الإنتاج .
العنصر الأول: الفقه الذي سبق تقديمه يثبت أن هناك محوري ارتكاز يقوم عليهما التفكير الإسلامي لاختيار عوامل الإنتاج ثم تصنيفها وهما:
المحور الأول: عوامل الإنتاج ، بمعنى: ما هي ؟
المحور الثاني: تصنيف هذه العوامل .
المحور الأول: عوامل الإنتاج في الفكر الإسلامي:
يتبين من النظرة الاقتصادية لفقه هذا الموضوع أن عوامل الإنتاج في الفكر الإسلامي ثلاثة
1- العمل .
2- رأس المال .
3- الأرض .
هذه العوامل الثلاثة هي مركز القوى في النشاط الاقتصادي التي يعترف بها الإسلام بحيث تحرك الإنتاج ، ثم تستحق نصيباً أو جزءاً من الناتج .
المحور الثاني: تصنيف هذه العوامل:(1/51)
فلسفة الفكر الإسلامي لا تقف عند مرحلة اختيار عوامل الإنتاج ، وإنما يمد الإسلام موقفه إلى مرحلة جديدة ، وهي مرحلة التصنيف المنهجي لعوامل الإنتاج وفي هذه المرحلة ، فإن الإسلام لا يجعل هذه العوامل على درجة واحدة، وإنما يجعلها على درجات متفاوتة، ويجعل العمل في أعلى هذه الدرجات ، وفكرة تعدد الدرجات، هي إسلامية رائدة وينبغي أن تفهم في ضوء ما يلي:
أ - إننا إذا كنا نقول: إن هيكل الاقتصاد الإسلامي يقوم على عوامل الإنتاج الثلاثة السابقة فإن من صميم بناء هذا الهيكل ، أن هذه العوامل تقع على درجات متفاوتة ، ففكرة التفاوت، وتعدد الدرجات ليست مسألة متعلقة بالشكل، وإنما مسألة داخلة في صميم وجوهر هذا البناء .
ب - إن فكرة عوامل الإنتاج المتعددة الدرجات تفهم في مواجهة التقسيمات الاقتصادية المعاصرة لعوامل الإنتاج على النحو التالي :
إن الرأسمالية ـ فيما انتهت إليه ـ تقسم عوامل الإنتاج إلى عمل ورأس مال ، وتجعل الأرض ضمن عنصر رأس المال ، والتنظيم ضمن عنصر العمل ، وتجعلها على درجة واحدة ، وتعاملهما من حيث توزيع الناتج ، وشكل المشاركة، ونوعية القواعد والقيود المنظمة ـ إن وجدت ـ معاملة واحدة ، وفي مقابلة الاقتصاد الإسلامي بذلك ، نجد أن الإسلام يعترف بهذه العوامل ، ولكن يذهب سريعاً إلى الاختلاف بعد ذلك من حيث النظرة إلى عنصر العمل حيث يجعله أعلى درجة ، وهذا هو التصنيف المنهجي .
العنصر الثاني: الأسس والقواعد التي تنظم نشاط الإنتاج(1/52)
هذا هو البعد الثاني في مرحلة توزيع الدخل ( توزيع السوق ) وفي حقيقة الأمر فإن محتويات هذا البعد هي التي قام على أساسها التصنيف المنهجي لعوامل الإنتاج ، وهو المحور الثاني في البعد السابق ، ولكن نظراً لأهمية النتائج التي تترتب على نوعية هذه الأسس والقواعد في مجال التوزيع وأفردنا لها بعداً مستقلاً في وضع الإطار العام لتوزيع الدخل توزيعاً عمليّاً . وفقه هذا الموضوع يتناول ثلاثة جوانب هي :
1- توزيع الناتج بين عوامل الإنتاج التي اشتركت فيه .
2- شكل وأسلوب المشاركة بين عوالم الإنتاج .
3- اتجاه القواعد والأسس التي تحكم استغلال العوامل في النشاط الاقتصادي .
النتائج التي يعطيها فقه هذه الجوانب الثلاثة هي :
1- توزيع الناتج بين عوامل الإنتاج:
إن الإسلام يقوم على أساس أن عوامل الإنتاج الثلاثة جميعاً تحصل على نصيب في الناتج الذي يتولد من النشاط الاقتصادي . ولكن تحليل الاتجاهات التوزيعية بناء على فقه هذا الموضوع يثبت أن العمل هو المحور الارتكازي في عملية التوزيع .
2- شكل وأسلوب المشاركة بين عوامل الإنتاج:
ونعني بهذا الاصطلاح : الأسلوب الذي ينظم العلاقة القانونية بين ملاك عوامل الإنتاج في النشاط الاقتصادي بعبارة أخرى : تحديد الشكل الذي يستحق به كل عامل نصيبه في الناتج ، وينحصر في شكلين أو أسلوبين :
1- المشاركة في الأرباح .
2- أخذ مقابل نقدي محدد .
النتائج التي يعطيها الفقه في هذا المجال هي:
أ- بالنسبة للعمل : أجاز له الإسلام أن يكون أسلوب مشاركته بأي شكل من الأشكال القانونية المعترف بها لتنظيم العلاقة بين المشتركين في النشاط الاقتصادي.
ب- بالنسبة لرأس المال : ليس له إلا أن يشارك في الناتج .
جـ- بالنسبة للأرض : أسلوب مشاركتها ، أو بعبارة ، أصح أسلوب العمل عليها يخضع لمصلحة الجماعة الإسلامية ، فيتحدد وفق ما يكون مناسباً لظروف المجتمع . ( إجارة ـ مزارعة ) .(1/53)
والاتجاهات التوزيعية بالنسبة لهذا البند كله ، مازالت تعبر عن وجهة نظر الفكر الإسلامي التي سبقت ، وهي أن عوامل الإنتاج جميعها تشارك في الناتج ، ولكن العمل مازال يحتل مركزاً خاصاً في عملية التوزيع .
3- اتجاهات القواعد والقيود التي تحكم استغلال العوامل في النشاط الاقتصادي:
فقه هذا الموضوع يتضمن ثلاثة عناصر اقتصادية:
1- دفع جميع عوامل الإنتاج إلى العمل .
2- نطاق أو مجال النشاط أمام عوامل الإنتاج .
3- نوعية القيود المنظمة لنشاط العوامل .
والنتائج الاقتصادية التي يعطيها فقه هذه العناصر هي:
2- الإسلام يفرض ـ بمعنى الإلزام ـ على جميع عوامل الإنتاج أن تعمل في خدمة المجتمع .
2- أما من حيث نطاق أو مجال النشاط أمام عوامل الإنتاج . فالفكر الإسلامي يقوم على أساس إعطاء أكبر انطلاقة ممكنة أمام عنصر العمل في النشاط الاقتصادي ، أما بالنسبة لرأس المال فلا تتوافر هذه الانطلاقة بكل أبعادها وأما عنصر الأرض ، فهو لا يحتمل مثل هذه القيود ، لأنه مفتوح للنشاط الاقتصادي أمام العمل ، ورأس المال ، ولذا فالقيود فيه تكون قيوداً على رأس المال والعمل .
3- أما من حيث نوعية القيود المنظمة لنشاط العوامل فإن فقه هذا الموضوع يعطي التصورات الاقتصادية التالية :
أ- اتجاهات القيود على عنصر العمل مما نطلق عليه قيوداً إيجابية بصفة عامة .
ب- بالنسبة لرأس المال ، فبجانب وجود اتجاهات إيجابية في تنظيمه نجد كذلك أنه يرد عليه اتجاهات سلبية، مثل منع الربا، والاحتكار، أما الأرض فملاحظة البند السابق تنطبق عليها هنا .
وهكذا نجد بالنسبة لهذا الجانب الثالث أنه يتضمن اتجاهاً محدداً في التوزيع ، وهو يتفق مع ما سبق ، في أن عوامل الإنتاج كلها لها اعتبارها في عملية التوزيع ، وأن العمل يمثل موقعا خاصا فيها .
العنصر الثالث: تحديد دخول عوامل الإنتاج:(1/54)
هذا هو البعد الثالث في مرحلة توزيع الدخل ، وفيه يبحث كيف يتحدد العائد على عوامل الإنتاج الثلاثة : العمل ـ رأس المال ـ الأرض ، وفقه هذا الموضوع يعطي النتيجة الاقتصادية التالية :
إن دخل عامل الإنتاج يتحدد في الفكر الإسلامي على ثلاث مراحل :
أولا : وضع قواعد أولية تسبق التحديد الفعلي للعائد في السوق .
ثانيا : تحديد العائد في السوق .
ثالثا : وضع قواعد تصحيحية لقوى السوق .
أولا: وضع قواعد أولية تسبق التحديد الفعلي للدخل في السوق:
إن الإسلام يضع مجموعة من القواعد التي تعطي انعكاسات على تحديد الدخل ، أو تكون بمثابة محددات أو مؤشرات لتحديده ، ولكن هذه القواعد تختلف من عامل لآخر .
ففيما يتعلق بتحديد الأجر ، فالقواعد التي تسبق دور السوق ، من القواعد المحددة ـ إلى حد ما في مجال مقدار الأجر الأولي ، فهذه القواعد تضع شرطاً أو قيدا على ما يتحدد في السوق فيما بعد ، وهو أن يكون الأجر بالنسبة للعامل مقدراً بالكفاية ، أي يكفي العامل .
أما فيما يتعلق بالعوامل الأخرى ، فإن القواعد التي تسبق مرحلة التحديد الفعلي في السوق هي من قبيل القواعد التي تؤصل للمبادئ العامة ، والقيم الكلية ، أكثر منها مبادئ تحديد الدخل على عامل الإنتاج .
ثانيا: تحديد الدخل في السوق:
إن الفكر الإسلامي يقوم على أساس أن يتم التحديد الفعلي لدخل عوامل الإنتاج في السوق ، أي أن تتفاعل قوى العرض وقوى الطلب ، بعد إعمال القواعد المذكورة في البند أولا .
ثالثا: وضع قواعد تصحيحية لقوى السوق:
إن الإسلام لا يجعل نتائج السوق نتائج نهائية وقاطعة في تحديد الأجر، وإنما يعقب هذه المرحلة بمجموعة من القواعد التصحيحية لنتائج السوق ، وهذه القواعد تكون بمثابة عملية تقويم لنتائج السوق ، وفي الوقت نفسه تعمل على أن يكون تحديد العائد وفق المبدأ الإسلامي العام وهو العدل ، الذي يقوم على أساس مراعاة مصلحة طرفي التعامل والتوفيق بينهما .(1/55)
وهكذا نجد أن الفكر الإسلامي ، في تحديد دخول عوامل الإنتاج ، يتم وفق هذه الخطوات الثلاث ، ولكن هناك مسائل محددة تثار في الفكر الاقتصادي المعاصر بخصوص دخول عوامل الإنتاج، وأعرض فيما يلي الرأي الإسلامي حول بعضها:
(أ) دور العمل في تحديد القيمة:
النتيجة التي يعطيها البحث في هذه المسألة ، أن الفكر الإسلامي يقوم على أساس الأخذ في الاعتبار مصلحة طرفي التعامل ، البائع والمشتري ، أو المنتج والمستهلك ، وعليه فتفسير القيم بالعمل فقط كما ذهب إلى ذلك الاقتصاد الوضعي لا يتفق مع هذا الموقف .
( ب ) حدود المخاطر كما يراها الفكر الإسلامي:
النتيجة التي يعطيها البحث بصدد ذلك ، هي أن فكرة الخاطرة التي يربطها الفكر الاقتصادي المعاصر بالمنظم ينبغي أن تقيد من وجهة نظر الفكر الإسلامي ، فهي مخاطرة محسوبة ومقدرة بمعرفة كل من العامل ، وصاحب رأس مال ، وأن تعاقدهما تم في اطار هذه المخاطرة ، وليست المخاطرة من اختصاص العامل فقط، كما ذهب إلى ذلك الفكر الاقتصادي الرأسمالي .
(جـ) سبب استحقاق رأس المال دخلاً:
إن سبب استحقاق رأس المال عائداً ليس هو الحرمان أو الانتظار ، كما ذهب إلى ذلك الفكر الاقتصادي الرأسمالي ، وإنما يستحق رأس المال عائداً في الإسلام لأن له إنتاجه ، ولهذا يكون من حقه أن يأخذ جزءاً مما شارك في إنتاجه ، فالإسلام يحرم الربا لأنه غير منظور فيه الإنتاج ، ويجيز المشاركة لأنه يراعى فيها الإنتاج .
(د) الجانب الاجتماعي والسياسي في استغلال الأرض:
إن الأرض كأحد عوامل الإنتاج لها انعكاساتها على الأوضاع السياسية والاجتماعية بأوضح مما في غيرها ، كما أن لها أهميتها من حيث نوع إنتاجها ، ولذا فإن أسلوب استغلال الأرض يتحدد حسب مصلحة الجماعة الإسلامية ، أي يراعى في تحديد أسلوب استغلال الأرض، الاعتبارات السياسية والاجتماعية بجانب الاعتبارات الاقتصادية وذلك بأوضح مما روعي في غير هذا العامل .
((1/56)
هـ) حق ولي الأمر في الدخل في الأسواق:
الإسلام أعطى لولي الأمر الحق في التدخل لتنظيم الأسواق ، سواء أسواق السلع الاستهلاكية ، أو أسواق عوامل الإنتاج ، ومن وسائل التدخل :
التسعير ، منع الاحتكار ، تنظيم نشاط عوامل الإنتاج ، التدخل في تعديل نتائج قوى السوق من حيث تحديد العائد .
وإذا أردنا أن نعطي تصوراً موجزاً لملامح وأبعاد مرحلة توزيع الدخل ( توزيع السوق ) في الفكر الاقتصادي الإسلامي ، نجدها تتلخص فيما يلي :
1- مراكز القوى الاقتصادية للإنتاج والتوزيع هي : العمل ، رأس المال ، الأرض .
2- يمثل العمل العصب بالنسبة لهذه العوامل .
3- السوق يلعب دوراً ظاهراً في هذه المرحلة من مراحل التوزيع ، ولكن هناك مجموعة من القواعد والقيود السابقة عليه، التي تحكم اتجاهاته ، كما أن هناك مجموعة من القواعد التي تصحح نتائجه .
4- مع الاعتراف بالسوق ودوره في هذه المرحلة ـ باعتباره يمثل المصلحة الفردية ـ فإن مصلحة الجماعة موجودة في كل جزئيات هذا التنظيم .
5- يذهب الفكر الاقتصادي إلى تسمية هذه المرحلة باسم التوزيع الوظيفي ، والتبرير لهذه التسمية ، هو أن التوزيع هنا يكون بحسب الوظيفة التي يؤديها العامل الإنتاجي ، ولكن الإسلام لا يتحدد موقفه من داخل عامل الإنتاج بحسب وظيفته التي يؤديها فحسب، وإنما بجانب ذلك ، بحسب تقويم المجتمع لهذه الوظيفة ، ولهذا العامل ، ومن كان السبب لاستخدامنا مصطلح : (( توزيع الدخل )) وليس التوزيع الوظيفي .
الفرع الثالث: التوزيع التوازني(1/57)
هذه هي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التوزيع في الاقتصاد الإسلامي . ومن حيث وضع تسمية لهذه المرحلة ، فإن نوعية الإجراء الذي ينظمه الإسلام هنا يهدف إلى تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، ومسؤولية الدولة باعتبارها ممثلة للجماعة الإسلامية من جانب آخر ، يمكن في ضوء هذا التصور أن يكون الاسم الذي تحمله هذه المرحلة هو التوزيع الكفائي ، أو التوزيع التضامني ، ولكن فضلنا التسمية بالتوزيع على أساس :
* إن المجتمع الإسلامي قد لا يملك كل ما يكفيه ـ بمفهوم الكفاية ـ ولهذا يكون التوزيع المستهدف إسلامياً هو التوازن في حدود ما هو متاح من الموارد .
* إن المجتمع الإسلامي قد يملك موارد واسعة ، وعلى أساس هذه الملكية الواسعة يكون المطلوب من التوزيع هو: توازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، وليس مجرد توفير حد الكفاية .
* ثم إن التوازن يتضمن معنى القصد فيه ، بمعنى أنه لا يحقق نفسه ، وإنما يحقق بالقصد من الأفراد ، أو السلطة الممثلة للمجتمع ، ولهذا يكون فيه معنى التضامن.
واهم البنود التي يهمنا عرضها هنا لبيان وملامح هذه المرحلة هي :
أولا: الموضوعات تخدم هذه المرحلة وأهم ملامحها:
(أ ) الزكاة:
إن هذه الفريضة الإسلامية الإجراء الأولي لمواجهة الاختلال في الجماعة الإسلامية ، وأنه يتحقق فيها شروط الشمول فيمن تجب عليه وفيمن تجب له ممن يكون مستحقا لها وفيما تجب فيه ، وأن الهدف من الزكاة هو : توفير حد الكفاية لكل فرد في الجماعة ، ولكنها بسبب ظروف ما قد لا تستطيع توفير أو تأدية هذا الغرض ، ولهذا تكمل بإجراءات أخرى .
(ب ) موارد ذات طبيعة خاصة:
وتشمل النفقات ، والوقف ، والموارد الأخرى المماثلة ، وزكاة الفطر، والأضحية ، والكفارات والنذور. وأهم الاتجاهات التي يهمنا تسجيلها هنا بخصوص هذه الموارد هي :
1- إن مسؤولية مواجهة التضامن الاجتماعي تبدأ من اللبنة الأولى وهي الأسرة .(1/58)
2- إن الوقف يتضمن موارد دائمة لمواجهة التضامن الاجتماعي .
3- المنحى الفلسفي لموقف الإسلام من تشريع كفارات مالية ، تكفيراً عن بعض التصرفات الخاطئة دينياً هو منحى متميز ومتفرد ، إذ يجعل علاج بعض الأخطاء هو التكفير عنها ببذل مال ، ووضعه في خدمة التضامن الاجتماعي للجماعة الإسلامية .
4- إن هناك مناسبات معينة ، ترتفع فيها الضرورة إلى سد حاجة المحتاج ، ومن هنا شرع الإسلام موارد خاصة لهذه المناسبات ( زكاة الفطر ) .
( جـ ) صدقة التطوع:
وأهم ما يعنينا منها أنها لمواجهة الطوارئ في الجماعة الإسلامية ، وأنها تستهدف تكملة المرحلة السابقة . ونؤكد على أن أهم ما فيها :
1- إنها لا تعني القعود عن العمل .
2- إنها تعطي الفرصة لإظهار ذاتية المؤمن الخيرة .
3- إنها لا تمس جوهر التشريع القائم على مواجهة التضامن الاجتماعي بإجراءات منظمة، ومن قبل سلطة محددة ، وليس بإجراءات تنبني على التعميم .
(د) التوظيف:
وأهم ما فيه أنه إجراء لمواجهة ظروف غير عادية ، وأنه يشمل الجانبين اللذين تدور حولهما الالتزامات المالية ، وإجراءات إعادة التوزيع وهما :
1- جانب المصالح العامة .
2- جانب الضمان الاجتماعي .
ثانيا: خطوات التوزيع التوازني:
الإسلام يعمل للوصول إلى التوزيع التوازني على ثلاث خطوات أو مستويات معينة.
1- المستوى الأول: إلزامي:
ويتضمن مجموعة من الالتزامات المالية ، التي يلزم بها من يملكون في قبل من لا يملكون . ويهدف الإسلام من خلال هذا المستوى : أن يضمن عن طريق الإلزام مواجهة التضامن الاجتماعي بين أفراد الجماعة الإسلامية ، ويتوقع من خلال إجراءات هذه المرحلة أن يكون قد تم مواجهة التضامن الاجتماعي .
ويجيء في هذه المرحلة : الزكاة ـ الموارد الأخرى ذات الطبيعة الخاصة .
(ت ) المستوى الثاني: اختياري:(1/59)
وهذه الخطوة تجيء كمكملة للخطوة السابقة ، وأنها تجيء لسد حاجات لأفراد الجماعة الإسلامية طارئة أو لم تغطها المرحلة الأولى . ومادامت هذه المرحلة مكملة والتكميل يصعب معه تقدير مدى ما يلزم لمواجهته جاء التشريع الإسلامي في هذا الصدد على أساس أن يكون هذا المستوى اختياريّاً ، ويجيء هنا صدقة التطوع .
(جـ) المستوى الثالث إلزامي :
وتجيء هذه الخطوة بمثابة المواجهة الأخير للتضامن الاجتماعي ، ولإعادة التوازن إلى الجماعة الإسلامية ، وذلك حين تعجز المرحلتين السابقتين عن المواجهة الحاسمة ، والنهائية في هذا الصدد ، ولم يكن من المتصور تنظيمياً أن تكون هذه المواجهة الأخيرة إلا بإجراءات إلزامية ، بعد أن عجز الاختيار عن العلاج النهائي ، ويجيء في هذه المرحلة التوظيف .
ثالثا: عناصر ريادة في التوزيع التوازني:
من النظر إلى التشريعات التي ينظم بها الإسلام مرحلة التوزيع التوازني نجد أن هناك بعض الاتجاهات التي تستحق إبرازها بصورة مركزة وقوية ، وباعتبارها عناصر تفوق وريادة في الإسلام.
1- اتجاهات رائدة فيمن يشملهم الضمان الاجتماعي في الإسلام .
إن أهم الاتجاهات الرائدة لتشريعات الضمان الاجتماعي في الإسلام ، أنه يمدّه بحيث يشمل فئات ليس المعهود ـ في النظم الوضعية ـ تغطية احتياجاتها ومنها:
أ- المدين: إن الإسلام يمد الضمان الاجتماعي ليشمل المدينين ، الذين استدانوا لمصلحة عامة كالصلح بين المؤمنين ، أو لمصلحة خاصة . والإسلام يهدف بهذا إلى أمور محددة .
- أن ينمي رابطة التعاون بين أفراد الجماعة الإسلامية ، وألا يخاف أحدهم من مد يد المعونة بإقراضه ، فالمجتمع ، ممثلاً في الزكاة ، ضامن أخير عند العجز.
- أن ينقذ من يهدد بالعجز عن ممارسة دوره الإنتاجي بسبب مديونيته (المشروعة ) .(1/60)
- تشجيع المسلمين أن يسعى كل منهم للقضاء على الخصومات بين المتنازعين وهو أهم الاتجاهات ، حتى ولو أدى ذلك أن يغرم ، فالمجتمع ممثلا في الزكاة سيعوضه عن غرمه، ولو كان غير محتاج .
ب- ابن السبيل: وهو المسافر الذي نفدت أمواله . والسفر المشروع له صور كثيرة ، فيعطي بمقدار ما يسد حاجته ، والتشريع الإسلامي بهذا الاتجاه يستهدف تحقيق قيماً سلوكية داخل الجماعة الإسلامية .
جـ- الرقيق: وإذا كان غير موجود الآن، فيمكن تحقيق هدف البند ـ وهو المساعدة في التخلص من الاستغلال ـ بمساعدة المسلمين الواقع عليهم استغلال للتخلص منه .
2- اتجاهات رائدة في موارد الضمان الاجتماعي في الإسلام:
ضمن موارد الضمان الاجتماعي: الكفارات ، ويعني ذلك أن الإسلام يجعل الخطأ يكفر عنه عمل خير موجه للمجتمع ، ويتمثل هذا العمل الخير في تغطية بعض حاجات الضمان الاجتماعي ، وذلك بإخراج كفارات مالية عن هذا الخطأ . وهذا منحى متميز وممتاز ، وأهميته لا تتمثل في مقدار ما يوفر من موارد للضمان الاجتماعي ، وإنما تكمن أهميته الحقيقية في المعنى الذي يهدف إليه والقيم التي يغرسها ويربيها في نفس المؤمن ، من حيث دوره في الجماعة الإسلامية ، ومسؤوليته عن توفير احتياجاتها حتى أن الله يغفر له خطأه إذا اشترك في تغطية هذه الاحتياجات .
3-اتجاهات رائدة في المجال النفسي في تشريعات التوزيع التوازني:
ضمن مراحل التوزيع ، مرحلة سميت بالمرحلة الاختيارية ، وهي التي تظهر فيها صدقة التطوع لمواجهة الضمان الاجتماعي ، وكان ضمن التفسيرات التي قدمت لتوضيح هذا المنحى الفكري هو أن هذه المرحلة مقصود بها مواجهة ظروف استثنائية ، أو ظروف تكميلية عند عجز الموارد السابقة عن تغطية الضمان الاجتماعي ، فجعل الإسلام التشريع هنا يختبر ذاتية المؤمن ، ومدى تقديره لمسؤوليته الجماعية .(1/61)
ولكن بجانب ذلك ، فإن هذا المنحى الفكري يشير إلى اتجاهات في النفس الإنسانية من حيث حبها أن تعطي ، حتى يتحقق الإشباع لهذا الجانب النفسي في الإنسان . وأيضا إن جعل هذه المرحلة اختيارية ، يتوافق مع ضجر النفس الإنسانية من الإلزام ، حتى ولو كان في الخير ، ولم يكن مستساغا أن يترك الأمر كلية للنفس الإنسانية ، بحيث تعطي إشباعها في هذا المجال ، ولكن في الوقت نفسه ، لم يكن يحتمل أن تحرم كلية من هذا الاختيار ، فأعطى الإسلام لها القدر الممكن واللازم لإشباع هذا الجانب في النفس الإنسانية .
ملاحظة ختامية :
المراحل التي قدمت لعملية التوزيع في الفكر الإسلامي هي مجرد تصنيف لخطوات التوزيع ، وليست إجراءات ، أو عمليات كل منها مستقلة ومنفصلة عن الأخرى ، ولقد رأينا أن كل مرحلة من هذه المراحل تتضمن مجموعة من الإجراءات التي تحقق أو تقوم بالتوزيع فيها . وما نؤكده بالنسبة لهذه الإجراءات : أنه في مجموعها ككل تخدم هدف التوزيع في الإسلام ككل ، وليست إجراءات منفصلة ، بمعنى أن كل إجراء أو أكثر يخدم مرحلة من المراحل فحسب، وإنما نجد أن هذه الإجراءات وما فيها من اتجاهات ، وتأثيرات ، تكمل بعضها ، كما أن القول بهذه المراحل لا يعني ترتيباً لسياسات الدولة الإسلامية في موضوع التوزيع، وإنما تعمل كلها معاً أو بعضها وفق ما تقتضيه مصلحة الجماعة الإسلامية .
ضوابط في المنهج الإسلامي لاستثمار الملكية واستخدامها
تمهيد:
1- أخصص هذا الفصل لإجراء مناقشة ، حول موضوع الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي، وهذا هو المستهدف بهذا الفصل ، ولكن كما يبدو من العنوان: أن المدخل الذي أخذته للدخول إلى هذا الموضوع هو من خلال ضوابطه ، كما أنني ربطته بالملكية واستخدامها ، وهذا يحتاج إلى توضيح .(1/62)
مناقشة الاستثمار فيها عناصر كثيرة ، وقد اخترت أن أناقش بعضها ، باعتبارها ضوابط يضبط بها الإسلام الاستثمار ، بقصد ترشيده . ومن بين ما أقصده بذلك هو الإشارة إلى أن الاستثمار في إطار الاقتصاد الإسلامي ليس له بعدٌ واحد هو الربح للقائم به ، وإنما الأمر في الإسلام أعمق من هذا وأعقد ، فليس الأمر هو أن شخصاً معه رأسمال يأخذ قراراً بتشغيله لأن له ربحاً ، وإنما الأمر في الإسلام كما قلت أعمق وأعقد ، إن الإسلام أخضع ذلك لتشريعات تضبط القائم بهذا العمل (المستثمر ) في سلوكه في ماله ، ومع نفسه ، ومع المجتمع الذي يعيش فيه ، بل تضبط القائم بذلك في إطار العقيدة .
ثم إنه من خلال العنوان ، ربطت الاستثمار بالملكية واستخداماتها ، ذلك أنه وكما هو معروف إسلامياً أن أمر الاستثمار هو تفريع على الملكية ، وليس قراراً منفصلاً بذاته ، كما يتعامل معه الاقتصاد الوضعي ، ولهذا فقد أعملت ما هو مقرر إسلامياً ، فربطت الاستثمار بالملكية .
ثم إنه وكما ظهر في العنوان ، فإن أمر استثمار الملكية في الإسلام هو من قبيل الاستخدامات الواقعة عليها ، وهذا ما جعلت العنوان يبرزه ، وليس العنوان فحسب، وإنما المناقشة التي جاءت في هذا الفصل كله أفادت أن الاستثمار هو أمر في إطار استخدام الملكية ، ودلالة هذا أن قرار الاستثمار ليس منفصلاً من بقية استخدامات الملكية ، أي ليس قراراً منفصلاً بذاته .(1/63)
2- موضوع الاستثمار مربوطاً إلى الملكية وإلى استخداماتها الأخرى ، فيه فقه واسع . وللفقهاء مصطلحاتهم التي استخدموها في هذا الصدد ، ومن هذه المصطلحات : الملكية والثروة والمال ، وباعتبار أننا نعالج هذا الموضوع اقتصادياً فإن للاقتصاد أيضاً مصطلحاته وفيها رأس المال مثلاً ، وهذه المصطلحات بنوعيها الفقهية والاقتصادية استخدمت في هذا الفصل ، فلم أهمل المصطلحات الفقهية ، إعمالاً لما قلته في الفصل الأول ، من الربط بين علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي ، ولم أهمل المصطلحات الاقتصادية ، حتى تجيء دراستنا في إطار المساهمة في علم الاقتصاد الإسلامي .
3- فقه هذا الموضوع الذي بني عليه الاستنتاج الاقتصادي الذي جاء بهذا الفصل يحتاج إلى توضيح ، ذلك أننى لم أعمد إلى تجميع كل فقه هذا الموضوع أولا، ثم الانتقال منه إلى التحليل الاقتصادي ، وإنما اخترت منهجاً لعل فيه ملاءمة ، إن فقه هذا الموضوع جاء في بعض الإشارات التي ذكرتها في الفصل الأول ، وكثير منه جاء في الفصل الثاني ، ولذلك لم أحاول تكرار ما ذكرته هناك ، أما ما ذكرته من فقه الموضوع في هذا الفصل الثالث ، فجاء في صورة بعض الأدلة التي رأيت فيها ربطاً قوياً مع عناصر في اقتصاد هذا الموضوع .
وهذا ما يظهره تتبع المناقشة في هذا الفصل ، ولم أكتف بكل ذلك ، وإنما أحلت خلال المناقشة إلى بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بموضوعنا ، والمعروفة في هذا الصدد .
4- يبقى في التمهيد لموضوع هذا الفصل أن أوضح المقصود بكلمة ضوابط التي جاءت بالعنوان .(1/64)
تعني ضوابط استثمار الملكية واستخداماتها : القواعد والالتزامات التي ينظم بها الإسلام سلوك من بيده المال في المجتمع ، بمعنى أنه إذ كان الإسلام قد أعطى للأفراد حق تملك المال ملكية خاصة ، كما أعطى لهم حق استثمار هذا المال في الأنشطة الاقتصادية التي يختارونها ، إنه إذا كان قد أعطى لهم هذه الحقوق ، فإنه أخضع ذلك لمجموعة من القيود والقواعد ، وهذا هو ما أقصده بالضوابط ، وإذن تكون الضوابط بالمعنى ، الذي أقصده المبادئ والقواعد ، التي يجب أن يعمل مالك المال أي متخذ قرار الاستثمار ، واستخدام المال ، على أن يحققها ويكون الإخلال بهذه القواعد إخلالاً بالمنهج الإسلامي في استخدام المال واستثماره .
وفكرة وجود ضوابط ومعايير ، هي فكرة لا يمكن أن يستغني عنها أي منهج ، وإذا كنا نتكلم عن منهج إسلامي في مجال الاقتصاد ، فإنه من الطبيعي أن يكون لهذا المنهج ضوابطه ومعاييره ، في كل مفردات الاقتصاد ، ومنها الملكية من حيث تشغيلها والتصرف فيها ، وتكون مهمتنا أن نكتشف هذه الضوابط والمعايير.
في ضوء ذلك أعرض بعض هذه الضوابط وهي :
أولا: اعتبار العقيدة الإسلامية .
ثانيا: علاج وضبط الصراع الاجتماعي .
ثالثا: تحقيق التنمية .
رابعاً: توجيه أو تخطيط الاستثمار .
ويمكن أن نصنف هذه الضوابط الأربعة إلى مجموعتين تتضمن المجموعة الأولى الضابطين الأولين، وهما: اعتبار العقيدة الإسلامية ، وعلاج وضبط الصراع الاجتماعي، ونسمي هذه المجموعة بالضوابط العقائدية أو المعنوية ، أما المجموعة الثانية فإنها تشمل الضابطين الأخيرين وهما: تحقيق التنمية، وتوجيه أو تخطيط الاستثمار، ونسميها الضوابط الاقتصادية.
الضوابط المعنوية
المبحث الأول
( اعتبار العقيدة)(1/65)
أعني باعتبار العقيدة الإسلامية في مجال تشغيل الملكية ، والتصرف فيها، أن هذا النشاط الاقتصادي يجب أن يمارس كجزء من العقيدة الإسلامية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر، يجب أن يكون القائم به متحققاً فيه وصف المسلم اعتقاداً وسلوكاً .
قد يكون عرض الموضوع في هذا الإطار مثيراً للتساؤل ، ذلك أنه قد يكون هناك من يرى أن أمر الاقتصاد يخضع أو ينظم بضوابط ومعايير تترجم في صيغ رياضية ، غالباً كما تتوقف كفاءة الاستثمار ـ مثلاً ـ على مقدرة وكفاءة المستثمر على التنبؤ بالأحداث التي سوف تحكم وتقع في سوق الاستثمار خاصة ، وفي السوق بصفة عامة ، لكني أعتقد أن مثل هذا مردود عليه ، حتى في النطاق الاقتصادي ، ويكون بيان ذلك على النحو التالي:
1- النظام الرأسمالي الذي تأخذ به كثير من دول عالمنا المعاصر كإطار يحكم نظمها ، وأنشطتها الاقتصادية ، هذا النظام قد وجد بيئة ملائمة له في أوروبا، وذلك بعد أن تغيرت مجموعة القيم والمبادئ ، التي كانت تحكم تفكير وسلوك الإنسان الأوروبي ، وذلك بأخذه بالفلسفة الفردية كإطار فلسفي يحكم تفكيره ، ويأخذه بمعيار المصلحة الخاصة كحافز يوجه سلوكه ونشاطه الاقتصادي ، وتعامل الأوروبي مع ذلك على أنه عقيدته . إذن يقبل اقتصادياً أن يكون السلوك الاقتصادي هو تطبيق وتفريع للعقيدة ، أي مجموعة القيم والمبادئ التي تحكم سلوك الأفراد .
2- كتفريع لهذا التحليل العام ، نجد أن مدارس الاختيار التكنولوجي على سبيل المثال ، تصنف إلى ثلاث ، ما يهمنا منها المدرسة الثالثة ، وهى المدرسة التي يبنى فيها التحليل على أساس أن التكنولوجيا الملائمة لن تتدفق إلى أية دولة محل البحث إلا إذا حدث تغيير جوهري في هذه الدولة ، بحيث يشمل هذا التغيير المعتقدات ، التي تحكم تفكير وسلوك الناس (1 ) ويعني هذا أنه إذا كانت عملية الاختيار التكنولوجي الملائم ترتبط بمعتقدات الأفراد ، فإن السلوك الاقتصادي يكون كذلك هو أيضا .(1/66)
3- في السنوات الأخيرة بدأت تواجه مجموعة البلاد النامية مشاكل حادة سواء في المجالات الاقتصادية ، أو غيرها من المجالات وحاول بعض الاقتصاديون بحث أسباب هذه المشاكل ، وكان مما قيل: إن الإطار الفلسفي والفكري الذي يحكم أفراد هذه المجتمعات من بين هذه الأسباب ، ويعنون بالإطار الفلسفي والفكري: مجموعة القيم والمبادئ التي تحكم أسلوب تفكير الناس ، وهذا يعني أنهم يتكلمون عن العقيدة .
4- إذا انتقلنا إلى من يسمون بالاشتراكيين ، اقتصاديين أو غير اقتصاديين ، نكتشف أنهم يبنون كل تحليلهم للمشاكل الاقتصادية أو غيرها كتفريع لمذاهبهم، وكتطبيق لذلك. كما نجد أن بعض البلاد النامية، وبعض البلاد الإسلامية التي تصنف ضمن هذه المجموعة من البلاد ، قد فسرت المشاكل التي تواجهها بسبب أنها لم تأخذ بالجرعة الكافية من التعاليم الاشتراكية ، أو لم تأخذ بالاشتراكية ككل ، ونحن نعرف أن المذهب الاشتراكي يطرحه أنصاره على أساس مذهب شمولي ، له رؤياه الاقتصادية والاجتماعية وغيرها ، وكنتيجة لذلك فإن ربط الاشتراكيين مشاكل البلاد النامية ، وإيجاد حلول لها بالاشتراكية ، هو إدخال لفكرة العقيدة في مجال النشاط الاقتصادي .
وهكذا ننتهي إلى أن التساؤل الذي يثار بدهشة من بعضهم حين نتكلم نحن الذين نهتم أو نشتغل بالاقتصاد الإسلامي بضرورة الارتباط بالعقيدة كجزء من المنهج الاقتصادي هو تساؤل غير صحيح ، إذ أن موضوع العقيدة مثار اقتصادياً تحت أي اسم ، وتحت أي عنوان ، وفي أي مذهب .(1/67)
وقد تكون هنا كلمة من الضروري توجيهها إلى بعض الذين يهتمون بالاقتصاد الإسلامي ذلك أنهم قد يرون أننا سوف نتقدم بدراسة الاقتصاد الإسلامي بقدر ما نربطه بالاعتبارات المادية ، وفي المقابل ، أرى شخصياً ومع آخرين أن التقدم الحقيقي في دراسة الاقتصاد الإسلامي يجيء من ربطه بالقيم والمبادئ الإسلامية ، أي بالعقيدة الإسلامية ، والاحتفاظ له بصبغته الحقيقية ، وعدم مسخه بوضعه في قوالب الاقتصاد الوضعي .
بعد هذا التوضيح الذي كان ضروريًّا لبيان الربط بين القيم والمبادئ ، أي بين العقيدة ، وبين النشاط الاقتصادي وفق تحليل الاقتصاديين ، أنتقل إلى عرض الأدلة التي أستند إليها في أن الإسلام ينظر إلى النشاط المتعلق باستخدام الملكية والتصرف فيها ، على أنه ممارسة للعقيدة ، وكذا ينظر الإسلام إلى المستثمر على أنه يلزم أن يكون مسلماً اعتقاداً وسلوكاً .
أ - نأخذ أولا آيات تحريم الربا من أدلة تحريم الربا قول الله تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فكلم رءوسُ أموالكم لا تظلِمون ولا تُظلمُون. وإن كان ذو عُسرةٍ فنظرة إلى ميسرةٍ وأن تصدّقوا خيرُ لّكم إن كنتم تعلمون ، واتقوا يوماً تُرجعُونَ فيه إلى الله ثمّ توفّى كل نفسٍ مّا كسبت وهُم لا يظلمون ) ( البقرة : 278-281 ) .
إذا نظرنا إلى هذه الآيات التي تحرم الربا نكتشف أن الله يوجه الخطاب إلى الذين آمنوا واتقوا الله ، ويعني هذا أنه إذ كان تحريم الربا هو أحد التشريعات الإسلامية بشأن المال فإن الإسلام يوجه بداية الخطاب فيه إلى الذين آمنوا واتقوا الله ، أي أن الأمر كله التزام عقائدي وسلوك عقائدي أيضا، ونوجه النظر أيضا إلى الآية الاخيرة من الآيات السابقة وفيها نجد : ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) إلخ.. ويعني هذا أيضا أن الأمر في:
((1/68)
الاستثمار ) ليس مقدار العائد المادي وحده، وإنما الأمر مرتبط بالعقيدة وبالسلوك الذي سوف يحاسب عليه المؤمن يوم القيامة.
ويتأكد الربط بين العقيدة وتشغيل الملكية واستخداماتها إذا عرفنا معنى المتقي ، وهو الذي يتحقق في صاحبه وصف التقوى ، الذي تكرر في الآية محل الذكر أكثر من مرة ، إن معنى المتقي كما يفسره القرآن هو :
(آلم ذلك الكتب لا ريب فيه هدىً للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم يوقنون . أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون ) (( البقرة : 1 ـ 5 )).
هذه الآيات تحدد أن المتقي هو الذي يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة ، وينفق في سبيل الله ، ويؤمن بالرسل، ويؤمن بالآخرة ، إلى آخر الأوصاف التي وصف بها وهذه الأوصاف كلها تتعلق بالعقيدة . والشيء نفسه ، أي ربط تحريم الربا بالعقيدة، نجده في اية أخرى من آيات تحريم الربا ، وهي :
( يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدّت للكفرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم تُرحمون ) (( آل عمران : 130- 132 ))
وهنا أيضا نجد أن تحريم الربا إسلامياً يوجه في الخطاب إلى المؤمنين الذين اتقوا والذين يعملون ليوم القيامة ، أي تحريم الربا مربوط بأمور كلها تتعلق بالعقيدة .
ب ـ تربط أيضا قصة الرجلين التي وردت في سورة الكهف بين العقيدة وبين موضوع المال ؛ استثماراً أو غيره ، تقول الآيات التي تحكى هذه القصة :
((1/69)
واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ، كلتا الجنتين ءاتت أُكُلها ولم تظلم منه شيئا وفجّرنا خلالهما نهراً ، وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً و أعز نفراً ، ودخل جنتهُ وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هذه أبداً ، ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رُّددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثمّ سّواك رجلاً ، لكنّ هو الله ربى ولا أشرك بربى أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوّة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربى أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حُسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح مآؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربى أحداً ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عُقباً ) ((الكهف: 32 ـ 44 )) .
إن هذه الآيات كلها تنظم استخدام المال على أنه جزء من العقيدة . إن الرجل الذي يقول لصاحبه : (( لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربى أحداً )) : يشير إلى أن المال أو استخدامه لن يكون سبباً في اشراكه بالله . وآية الختام في هذه القصة : ((هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقبا ً)) ، هذه الآية تفوض الأمر وتنقل كل الولاية بما فيها ولاية المال لله الحق . وأخيرا أذكر الآيات الآتية :
((1/70)
إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نآئمون ، فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين ، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ، فانطلقوا وهم يتخافتون ، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حردٍ قدرين ، فلمّا رأوها قالوا إنّا لضالون ، بل نحن محرمون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحن ربنآ إنا كنا ظلمين فأقبل بعضهم على بعض يتلومون قالوا يويلنآ إنّا كنّا طغين عسى ربُنآ أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) (( القلم : 17 : 33 )) .
تشير هذه الآيات إلى قصة بستان ، حيث كان لرجل ينادي الفقراء وقت جني الثمر ، ويترك لهم ما في خطاف المنجل أو ألقته الريح ، فلما مات لم يرد أبناؤه أن يقتدوا به ، فحلفوا ليقطعن الثمرات وهم داخلون في الصباح (1 ) فلما فعلوا ذلك حل بهم العذاب بإهلاك الله بستانهم ، وهنا قالوا سبحان ربنا .
والنتيجة التي أنتهي إليها هي: أن الإسلام ينظر إلى استخدامات الملكية على أنها أمور مرتبطة بالعقيدة الإسلامية ، ولذلك يلزم أن يكون القائم بذلك متحققاً فيه وصف المسلم ، اعتقاداً وسوكاً ، وهكذا . يكون المنهج الإسلامي في هذا الأمر الاقتصادي مرتبطاً ومتفرعاً عن المنهج الإسلامي العام .(1/71)
وهناك نتيجة أخرى تكون مرتبطة ومتفرعة عن النتيجة السابقة ، وهي أن ربط ذلك بالعقيدة يستلزم ربط جميع الضوابط ، وجميع الأهداف ، التي ينظم بها الإسلام رؤوس الأموال بالعقيدة . وتبنى على هذا نتيجتان: الأولى هي أنه إذا كنا نقول على سبيل المثال : أن هناك مسؤولية جماعية على مالك رأس المال باعتباره مستثمراً ، بحيث أنه في استثماره يجب أن يراعي مصلحة الجماعة؛ إذا كنا نقول هذا فإنه يعني أن هذا الهدف هو جزء من عقيدة المسلم الثانية تعني أنه إذا كانت كل الضوابط والأهداف التي ينظم بها الإسلام رؤوس الأموال هي تفريع للعقيدة ، فإنه يعني أن من الوسائل التي تستخدم للرقابة على هذا السلوك مراقبة الله الذي يراقب سلوك المسلم في العقيدة ككل .
وتبقى ملاحظة أخيرة في دراستنا لهذا الضابط الأول ـ وهو اعتبار العقيدة الإسلامية ـ هذه الملاحظة تتعلق بأن الارتباط بالعقيدة ليس قاصراً على ما ذكر فحسب ، وإنما الارتباط بالعقيدة يشمل كل أنواع الأعمال الاقتصادية التي يقوم بها الفرد .
من أدلة ذلك قوله الله تعالى :
( يعملون له ما يشآءُ من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقُدُور رّاسيتٍ اعملوا ءال داوُد شكراً وقليل من عبادي الشكور ) (( سبأ : 13 )) .
وفي آية أخرى يقول تعالى:
( وعلَّمنه صنعة لبوسٍ لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) (( الأنبياء : 80 )) .
وآية أخرى أيضا مع المعنى الذي قلناه وهى :
( أتبنون بكل ريعٍ ءايةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبَّارين فاتقوا الله وأطيعون ) ( الشعراء : 128 ـ 131 ) .
المبحث الثاني
( ضبط وعلاج الصراع الاجتماعي )(1/72)
أعني بالصراع الاجتماعي: هذه الظواهر التي تتصل بما يعرف بالصراع الطبقي، وهو صراع ينشأ في المجتمعات الحديثة من وجود من يملك في مقابل من لا يملك ، وهذا هو ما يقوله المفكرون المعاصرون ، وهذا هو السبب الأساسي للصراع الاجتماعي . وقد تكون هناك أسباب أخرى لهذا الصراع ، ولا تتصل بظاهرة الملكية ، ولكن مثل هذه الأسباب لا تدخل في بحثي ، ولذلك لن أتعرض لها .
كيف يعالج الإسلام ، بواسطة منهجه في تشغيل الملكية واستخدامها ، الصراع الاجتماعي ؟ وكيف يعمل على ضبط هذا الصراع ، بحيث لا يدمر المجتمع كما يشاهد الآن في عالمنا المعاصر ؟ بل وكما نشاهده في البلاد الإسلامية ، والتي لا تأخذ بالمنهج الإسلامي ككل ، ولا تأخذ بالمنهج الإسلامي في الاستثمار وتنظيم المال خاصة ؟ هذه الأسئلة وغيرها هي التي أحاول الإجابة عليها ، وذلك بهدف أن أحدد التصور الإسلامي ، لضبط وعلاج الصراع الاجتماعي في إطار موضوع دراستنا .
يعمل الإسلام على علاج وضبط الصراع الاجتماعي بوسائل متعددة ، وفي تقديري أن هذه الوسائل كلها تُجمع في مبدأ واحد هو: تقرير حقوق للجماعة الإسلامية على المال ، وبواسطة تقرير هذه الحقوق يهدف الإسلام إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي بدورها تعمل على علاج وضبط الصراع الاجتماعي ؛ وهكذا يتحدد ويتشكل المنهج الإسلامي لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي .
أعرض بعض الآدلة والأحكام الإسلامية التي أعتقد أنها تتعلق وتتصل بالمنهج الإسلامي لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، ومن خلال ذلك أحاول أن أحدد الأهداف التي يستهدفها الإسلام ، وذلك لاستخدامها كوسيلة للعلاج وللضبط .
1- أعرض أولاً قصة قارون ، يقول الله تعالى عن قارون :
((1/73)
إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتينه من الكنوز مآ إنّ مفاتحهُ لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدّار الأخرة ولا تنسَ نصيبك من الدُنيا وأحسن كمآ أحسنَ الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إنَّ الله لا يُحبُ المُفسدين قال إنَّما أُوتيتُهُ على علمٍ عندي أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرونِ من هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جمعاً ولايُسألُ عن ذُنُوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا يليت لنا مثل مآ أُوتي قرون إنه لذو حظٍ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صلحاً ولا يلقاها إلا الصّابرُون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان لهُ من فئةٍ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنّوا مكانهُ بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عبادهِ ويقدرُ لولا أن مّنّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدارُ الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبةُ للمتقين ) (( القصص : 76 ـ 83 )) .
تصور هذه الآيات قصة قارون كواحد من الأغنياء رزقه الله مالاً وفيراً ، ولكنه لم يراع حق الجماعة في هذا المال . ويمكن بالنظر إلى الآيات السابقة أن أعدد الجوانب التي لم يراع فيها قارون حق الجماعة على النحو التالي :
الجانب الأول : يتمثل في أن قارون استغل هذا المال ، أو اتخذه وسيلة للتعالي على أفراد جماعته التي يعيش فيها ويصور ذلك : (( لا تفرح )) ، (( فخرج على قومه في زينته ))، فقد دل هذا على أنه اتخذ هذا المال الذي منحه الله إياه وسيلة للتعالي ، وليس هذا أحد أوجه استغلال ، أو استخدام المال ، التي يمنح الله لها المال ، وقارون بهذا يسيء إلى الجماعة التي عايشها ، أي أنه لم يراع حقها فيما أعطاه الله .(1/74)
الجانب الثاني : يتمثل في أن قارون لم يعن بماله ذوي الحاجة في مجتمعه ، ويصور ذلك:
( وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ).
الجانب الثالث: يتمثل في أن قارون استخدم المال الذي أعطاه الله له كوسيلة بغي وطغيان، تصور ذلك الآية : ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) .
ونحن نعرف أن الله تعالى في قرآنه يصب حمماً من الوعيد على صاحب المال حين يطغى بماله: ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رّءاه استغنى ) ((العلق: 6ـ 7 )).
( وإذا أردنا أن نُّهلك قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميراً )
(( الإسراء : 16 )) .
وهكذا، يكون الطغيان بالمال وسيلة فورية للدمار والخراب ، وقد وقع في هذا قارون .
ومعنى آخر في هذه القصة يشير إليه قوله تعالى : ( لولا أن مَنَّ اللهُ علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ) . والمعنى الذي تشير إليه هذه الآية : هو أن الإسلام يربي المسلم بواسطة ما يقصه عليه من قصص السابقين ، على أنَّ منَّ الله بالمال على أحد ليس هو المنُّ الحقيقي ، وإنما المنُّ الحقيقي هو الإيمان . ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في آية أخرى :
( بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) ((الحجرات : 17 )) . وبإجمال ، فإن الوسائل التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي والتي يمكن أن نستنتجها من التصور القرآني لقصة قارون ، هي :
أ - الوسيلة الأولى :هي أن الإسلام يربي المسلم على الإيمان بأن المعطي الحقيقي هو الله، وأنه ليس لأحد أن يقول إنما أوتيته على علم عندي ، ويكمل الإسلام هذا المعنى بتربيته على إن إعطاء الله المال ليس هو المنَّ الحقيقي وإنما المنُّ الحقيقي هو منّ الله على المسلم بالإيمان .(1/75)
ب - الوسيلة الثانية التي تستنبط من هذه القصة تتكون من مجموعة من المعاني ، هذه المعاني هي : أن الإسلام ينمي في المسلم الذي يمتلك المال صفات معينة ، منها: ألا يتخذ ما أعطاه الله من المال وسيلة للطغيان ، والبغي في الأرض ، أو يكون وسيلة لإذلال الآخرين ، بفرحه بماله في مقابل أن الله لم يعطهم ، ومعروف أن مجرد وجود ظاهرة من يملك ، ومن لا يملك ، ليس هو السبب الحقيقي لوجود الصراع الطبقي أو الصراع الاجتماعي ، وإنما ينشأ هذا الصراع ويقوى من المعاني التي تنشأ في نفوس الفقراء ، وهم يرون أصحاب المال يفرحون ويفتخرون بأموالهم ، لذلك حين يقول الإسلام للمسلم من خلال قصة قارون : لا تفرح بما لك ولا تفتخر به ، فإنه يعالج الظواهر الحقيقية التي تولد ما تولد في نفوس الفقراء.
ج - الوسيلة الثالثة التي تستنبط من هذه القصة: إن المسلم الذي يربيه الإسلام وهو يقص عليه قصة قارون ويسمعه ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) و(وأحسن كما أحسن الله إليك ) ، هذا المسلم يعلم أن عليه حقوقاً للآخرين . وإذن فمن خلال العطاء ، ومن خلال خلق الإحساس عند من لا يملك أن الله جعل له حقوقاً عند من يملك ، أي أنه شريك فيه ، يستخدم ويستهدف الإسلام من هذا كله مواجهة وعلاج الصراع الاجتماعي .
وإذا راجعنا الوسائل السابقة التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، نجد أن بعض هذه الوسائل تكون وسائل معنوية ، بينما بعضها الآخر، وسائل مادية ، وهكذا يعالج الصراع الاجتماعي ، بالتوجه مباشرة إلى أسبابه الحقيقة.(1/76)
توجد آيات أخرى كثيرة في القرآن يمكننا أن نستدل بها ، ونربطها بعلاج وضبط الإسلام للصراع الاجتماعي ، من خلال تقريره حقوقاً للجماعة الإسلامية على المال الخاص وعلى صاحبه ، ولن أتتبع كل ما يتعلق بذلك ، لأنه أكبر من نطاق هذا البحث ، وإنما أختار بعض الآيات التي سبق الاستدلال بها عند بحث اعتبار العقيدة في المنهج الإسلامي لتشغيل المال واستخداماته .
من هذه الآيات: سورة القلم ، قصة الجماعة التي أوردها القرآن لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي . ذلك أنه كما سبق أن قلت : إن إحدى الوسائل التي يستخدمها الإسلام في هذا الصدد هي تقرير حقوق للذين لا يملكون في مال الذين يملكون، وقد أخلت الجماعة التي يقص علينا القرآن قصتها هنا بهذا ، وبالرغم من أنهم قد أحكموا ما دبروه للقيام بالحصاد في غيبة الفقراء ، حتى لا يأخذوا منهم الذي قرره الله لهم ، بالرغم من ذلك ، لم يكن تدبيرهم خافياً على الله الذي شرع هذا الحق ، ولذلك سبقتهم القدرة الإلهية إلى مالهم فأهلكته ، حتى إنهم وقفوا أمامه وهم مأخذون من شدة التدمير ، الذي أصابه ، وقالوا :
(( إنا لضالون )) ، ولا أبالغ أو أجهد النص إذا قلت : إن تدمير هذا المال الذي دبر أصحابه أن يمنعوا منه حق من لا يملك ، فيه إشارة إلى أن الصراع الاجتماعي يمكن أن ينتج مثل هذا التدمير ، ولكن ساعتها لن يكون الأمر تدمير المال وحده ، وإنما سوف يكون معه دمار المجتمع ، بما فيه من بشر ومال .(1/77)
وآيات أخرى سبق الاستدلال بها في موضوع العقيدة ، وهي تحمل أيضاً ارشادات إسلامية بشأن علاج وضبط الصراع الاجتماعي ، هذه الآيات هي آيات سورة: الكهف : ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما ) إلخ... يقص القرآن بهذه الآيات قصة أخرى على المسلمين ، ليعلمهم كيف لا يكون تقرير حق الملكية الخاصة ، وحق استثمارها لصالح صاحبها ، كيف لا يكون سببا في الصراع الاجتماعي . والآيات هنا صريحة في الربط بين ظاهرة الصراع الاجتماعي وظاهرة وجود من يملك ، ومن لا يملك ، ولكن يوجد في الآيات معنى دقيق جداً تلزم الإشارة إليه ، وهذا المعنى هو أن تحليل ظاهرة الصراع الاجتماعي وظاهرة وجود من يملك ، ومن لا يملك ، وفق التصور الإسلامي كما تشير إليه هذه الآيات ، هذا التحليل لا يقوم على أن مجرد وجود ظاهرة من يملك، ومن لا يملك ، هي السبب في وجود الظاهرة الأخرى وهي الصراع الاجتماعي ، وإنما ظاهرة الصراع الاجتماعي ترتبط وتتعلق وتدور مع ظاهرة أخرى ، وهي كيفية التصرف واستخدام المال، ويجعل الإسلام هنا التصرفات والاستخدامات المعنوية للمال تساوي التصرفات المادية . إن الرجل الذي تحكي الآيات قصته على أنه ظالم كان سوء تصرفه واستخدامه لماله من قبيل الإعمال المعنوية ، ذلك أنه قال لصاحبه: أنا أكثر منك مالاً ثم دخل جنته مغروراً ظالماً وهو يعتقد أن ماله لكثرته لن يفنى أبداً .(1/78)
إن المنهج الإسلامي الذي يربط ظاهرة الصراع الاجتماعي بظاهرة سوء استخدام الملكية ، وليس بظاهرة وجود الملكية الخاصة ، هذا المنهج يتفرد به الإسلام ، ذلك أن كل الذين تعرضوا لتحليل ظاهرة الصراع الاجتماعي أو كما يسمونها ظاهرة الصراع الطبقي ، هؤلاء كلهم ربطوا بين هذه الظاهرة وبين ظاهرة الملكية الخاصة نفسها ، ولذلك كان علاجهم لها يتجه إلى المطالبة بإلغاء حق الملكية الخاصة كوسيلة ، للقضاء على الصراع الطبقي ، وهي المجتمعات التي تدعي الآن أنها تطبق الماركسية . هذه المجتمعات تعاني الآن من أعنف صور الصراع الاجتماعي ، أو بمصطلحهم الصراع الطبقي ، ذلك لأن تحليل فلاسفتهم كان تحليلاً خاطئاً وكان مغرضا، وكان تحليلاً يقوم على الحقد وحب الانتقام ، وليس تحليلاً يستهدف بناء مجتمعات ، وهكذا فإن الالتزام بالتحليل الإسلامي الذي يربط ظاهرة الصراع الاجتماعي ـ وليس الصراع الطبقي ـ بظاهرة سوء استخدام الملكية الخاصة ـ وليس بظاهرة الملكية الخاصة نفسها ـ هذا التحليل يستهدف بناء مجتمع ، وليس تخريب مجتمع قائم . وكنتيجة : إن العلاج الإسلامي للصراع الاجتماعي لا يستهدف إلغاء الملكية الخاصة، وإنما يعالج ذلك من خلال ترشيد الاستخدام والتصرف في الملكية الخاصة ، حتى ولو كانت هذه التصرفات من قبيل التصرفات المعنوية .
وأكرر أيضاً : إن ارتباط المنهج الإسلامي في هذا الصدد بالتصرفات المعنوية بجانب التصرفات المادية هو تحليل أيضاً غير مسبوق ، ولا يوجد له نظير إلى وقتنا هذا عند الفلاسفة كلهم ، الذين كتبوا وتعرضوا لهذا الموضوع .(1/79)
إذا كانت المعاني التي تستنتج من قصة قارون تمثل البعد الأول في الضوابط التي تتعلق بعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، وهو العلاج الذي أعتقد أن الإسلام يعمل للوصول إليه من خلال تقرير حقوق للجماعة ، عند التصرف واستخدام المال ، فإن تحريم الربا يمثل البعد الثاني ، وأحاول أن أعرض: كيف يكون تحريم الربا أحد الأبعاد التي تمثل حق الجماعة عند أخذ قرار الاستثمار ، وبالتالي أحد أبعاد المنهج الإسلامي لعلاج الصراع الاجتماعي .
إن الربا يضمن دخلاً لصاحب رأس المال عندما يشارك مع عوامل الإنتاج الأخرى ، في أي نشاط اقتصادي . ويمكن هنا أن نميز بين طرفين : يمثل الطرف الأول صاحب المال، ولا يختلف اثنان على أن تحديد دخل محدد لصاحب رأس المال بصرف النظر عن النشاط الاقتصادي ، هذا التحديد يحابي ويميز ، ويكون لمصلحة هذا المالك، هذا هو الطرف الأول . أما الطرف الثاني فإنه يتمثل في ملاك عوامل الإنتاج الأخرى ، التي تشارك رأس المال في النشاط الاقتصادي المنتج ، وأيضا لا يختلف اثنان هنا على أن تحديد دخل محدد مقدماً لصاحب رأس المال يحابي ولا يكون لصالح ملاك خدمات العوامل الأخر، حتى وإن تحقق ربح يفيض عن النصيب الذي أخذه صاحب رأس المال ، لأننا بالفائدة التي حددناها لرأس المال ، قد أعطينا له نوع ضمان قبل بدء النشاط الاقتصادي بينما لم نوفر هذا لملاك خدمات العوامل الأخرى .(1/80)
ويكون الموقف أكثر محاباة لصاحب رأس المال ، وأكثر تمييزاً له ، إذا حقق النشاط الاقتصادي الذي اشتركت فيه عوامل الإنتاج خسارة ، ولم يحقق أرباحا ، لأننا نكون بهذا قد ضمنا دخلاً لصاحب رأس المال على حساب ملاك عوامل الإنتاج الأخرى ، بمعنى أنهم يدفعون لصاحب رأس المال ، وهكذا إذا كنا ننظر إلى ضوابط الاستثمار من وجهة نظر صاحب رأس المال وحده ، فإن الفائدة تكون ضابطاً جيداً، أما إذا كنا ننظر إلى ضوابط الاستثمار من وجهة نظر جميع ملاك عوامل الإنتاج ، أي من وجهة نظر الجماعة ككل ، أي من زاوية علاج وضبط الصراع الاجتماعي ، فان الضابط الذي يعتبر ، يكون هو الذي يجعل ملاك العوامل يشاركون في الربح والخسارة معاً ، والمشاركة في الربح والخسارة هي التي يعبر عنها الفقهاء المسلمون بقاعدة الغنم بالغرم ، ويمكن أن نعبر عن هذا بمصطلحات أخرى ، كأن نقول : إن تحريم الفائدة ، وتشريع المشاركة في الربح والخسارة ، يحقق العدل والتوازن ، بين ملاك خدمات عوامل الإنتاج . وهكذا يكون تحريم الربا يمثل بعداً آخر لحق الجماعة عند أخذ قرار الاستثمار ، كأحد ضوابط الاستثمار ، أي أنه أحد الأدوات التي يستخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي .(1/81)
قد يعترض علي أنني بهذا التحليل السابق أجهد التحليل الإسلامي ، بمعنى أن أحمله فوق طاقة ما يحتمل ، ذلك أن الصراع الاجتماعي في تحليل المفكرين المعاصرين ، وهم الذين يسمونه بالصراع الطبقي ارتبط بوجود ظاهرة من يملك في مقابل من لا يملك ، وتحريم الربا في الإسلام الذي قد يكون في البيوع ، أو في الاقتراض ، ليس مرتبطا بالضرورة بالتبادل والتعامل بين من يملك ، ومن لا يملك ، وإذن كيف أدخله في علاج الصراع الاجتماعي ؟ إنني أعتقد أن تحليل الصراع في المجتمع على أساس ربطه بظاهرة من يملك في مقابل من لا يملك ، هو تحليل من وجهة النظر الإسلامية مبالغ فيه ، في البساطة ، ذلك أن الصراع الاجتماعي في الفهم الإسلامي يرتبط بجانب ما سبق أن قدمته ، بتجاوز الحد ، ويمكن أن يترجم هذا المصطلح بمصطلحات أخرى ، مثل : عدم تحقيق العدل، أو الاخلال بالتوازن ، الذي يستهدفه الإسلام ، بين ملاك خدمات عوامل الإنتاج ، ويرشدنا إلى هذا الفهم ما ينقل إلينا من أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، تخاصم اثنان بسبب أن أحدهما يمنع الآخرين من أن تمر المياه له . ولما ظهر لعمر تعنته أمر الذي يضار من ذلك بأن توصل المياه إلى أرضه ، وقال قولته : ( حتى ولو كان ذلك لأجرين الماء ولو على بطنك ) .
برغم أن هذه الحادثة كما قلت : تشير إلى الفهم الإسلامي للصراع الاجتماعي ، فإن النزاع هنا كان بين مالكين ، ولم يكن بين مالك وغير مالك ، وإذن إذا كنا نقول : إن تحريم الربا هو أحد الأدوات التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، فإننا نمد بهذا الفهم الإسلامي للصراع من كونه يرتبط بظاهرة من يملك ومن لا يملك ، إلى كونه صراعاً يرتبط بظاهرة سوء الاستخدام، والتصرف في الملكية حتى ولو كانت بين مالكين .(1/82)
يمثل تحريم الاحتكار بعداً ثالثاً في المنهج الإسلامي بشأن الملكية من حيث استخدامها ، كيف يكون ذلك ؟ يميز في الدراسات الاقتصادية بين أنواع عديدة من الاحتكار ، منها الاحتكار الكامل ، حيث يسيطر على السوق بائع واحد أو مشتر واحد ـ والاحتكار الثنائي ـ والمنافسة الاحتكارية ، إلى غير ذلك من التقسيمات المعروفة لأنواع الاحتكار ، والتي تمتلئ بها الكتب الاقتصادية .
وعندما تكون المنافسة هي التي تسيطر على السوق ، يشير التحليل الاقتصادي إلى أن المنشآت التي تعمل في مثل هذا السوق لا تحقق إلا ما يعرف اقتصادياً بالربح العادي ، وذلك لأن ميكانيكية الدخول والخروج إلى ومن هذا السوق تجعل الأرباح غير العادية تختفي من هذا النشاط أما عند ما تكون السوق خاضعة لأحد أشكال الاحتكار ، فإن الشركات التي تعمل في هذا النشاط تحقق فوق الربح العادي ما يعرف بالأرباح غير العادية . هذا هو أحد جوانب الاحتكار .
هناك جانب ثان من جوانب الاحتكار ، ويتمثل في أن المحتكر بصفته الاحتكارية يحدد التوازن عند مستوى أقل من مستوى الإنتاج الأمثل ، فالمحتكر يتحكم في كمية الإنتاج ، وهو يسعى إلى أن تكون الكمية المعروضة في السوق صغيرة بالنسبة للطلب ، حتى يرتفع الثمن ، وهكذا يكون الجانب الثاني للاحتكار يتلخص في النقص المصطنع للكمية المنتجة ، أي أن الاحتكار يؤدي إلى حرمان المجتمع من كمية من السلعة التي تخضع للاحتكار .(1/83)
هناك بعد ثالث للاحتكار ، ويتمثل هذا البعد كأوضح ما يكون في حالة الاحتكار الجزئي ، وفي هذا النوع من الاحتكار يكون لكل طرف احتكاري استراتيجية، في مواجهة الطرف الآخر في السوق ، ويدرس سلوك المحتكرين هنا بنظرية معروفة وهي ( نظرية التقارع ) أو نظرية اللعب ، وما يعنيني وأنا أدرس هذا النوع من الاحتكار هو أن أشير إلى هذا السلوك العدائي ، وهذه المواجهة بين المتعاملين في هذا السوق ، ومن وجهة نظر الجماعة ككل ، يكون مثل هذا السلوك ضاراً بل مدمراً للمجتمع.
هناك بعد رابع للاحتكار ، وهو يمثل أحد أبعاد الاحتكار الأكثر سوء نتائج من وجهة النظر الاجتماعية ، ويتعلق هذا البعد بأثر الاحتكار على تحديد الأجر وعلي تحديد كمية العمل المشغلة ، حيث يحدد الأجر ، بأقل مما ينتج العامل ، كما تحدد الكمية المشغلة ، بأقل مما يجب أن تشغل إذا لم يكن هناك احتكار.(1/84)
ما سبق هو باختصار بعض الأبعاد التي تلازم الاحتكار ، ونعرف أن الإسلام حرم الاحتكار ومن أدلة هذا التحريم :حديث الرسل صلى الله عليه وسلم ، : ( الجالب مرزوق ، والمحتكر خاطيء ) ، وأيضاً الحديث الذي معناه : من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها علي المسلمين فكأنه أخذ قطعة من النار إلى غير ذلك من أدلة تحرم الاحتكار . يشير الحديث الأول إلى معنى اقتصادي في الاحتكار ، وهو أثر الاحتكار على حجم أو كمية الإنتاج المعروضة ، ذلك أن الحديث يقارن بين جلب السلع إلى الأسواق ، وبين الاحتكار ، ويعني هذا أن الاحتكار يعمل على تقليل كمية المنتجات ، التي تعرض في الأسواق ، وهذا هو أحد الأبعاد التي أشرت لها للاحتكار . ويشير الحديث الثاني إلى معنى اقتصادي آخر ، وهو أثر الاحتكار ، من أن المحتكر يعرض سعراً أعلى من السعر الحقيقي للسلعة محل الاحتكار، وهكذا نستنتج أن الإسلام حين حرم الاحتكار لم يحرمه للاعتبارات الأخلاقية وحدها ، وإنما حرمه أيضاً لأسباب اقتصادية يرتبط بها التحليل الاقتصادي الحديث .
نتساءل الآن عن علاقة تحريم الاحتكار بحق الجماعة الإسلامية في عملية الاستثمار ، كأحد الضوابط الحاكمة في هذا المجال ، أي بعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ؟ لو نظر إلى الاحتكار من وجهة نظر شخصية ، أي من وجهة نظر المحتكرين ، يكتشف أن الاحتكار يحقق للمحتكر منافع اقتصادية ، لا يمكن إنكارها ، وأقرب أنواع هذه المنافع الأرباح غير العادية التي تتحقق له ، لكن من الوجه المقابل إذا نظر إلى الاحتكار من زاوية الجماعية ككل ، يكتشف أن الاحتكار يسبب أضراراً اقتصادية وأخلاقية لها.(1/85)
من الأضرار الاقتصادية : نقص الإنتاج المتعمد ، وعدم تشغيل العدد الصحيح من العمال ، الذي يمكن أن يشغل لو لم يكن هناك احتكار . وكذلك من الأضرار زيادة الأثمان عن مستوياتها الحقيقية، التي يمكن أن تحدد في حالة سيطرة المنافسة على السوق . وبجانب هذه الأضرار الاقتصادية ، هناك المساوئ الأخلاقية التي يولدها الاحتكار ومنها : تقوية وظهور الأنانية الفردية للمحتكر ، وإشعال نار الحقد والصراع بين أعضاء الجماعة ، لذلك يجب تحريم الاحتكار من وجهة نظر الجماعة.
وكنتيجة ، فإن الإسلام حين حرم الاحتكار ، قد راعى حق الجماعة وألغى أو أبطل المصحلة الفردية ، التي يمكن أن تتحقق للمحتكر . يرتبط تحريم الإسلام للاحتكار بفهم حقيقة وطبيعة الصراع الاجتماعي ، وكذلك بعلاجه ، ذلك أن التحريم هنا ليس مرتبطاً بظاهرة من لا يملك في مقابل من يملك ، وإنما يرتبط بظاهرة سوء الاستخدام ، والتصرف في الملكية.
لذلك فإن المنهج الإسلامي لعلاج الصراع الاجتماعي لا يرتبط بإلغاء ظاهرة الملكية الخاصة ، وإنما يرتبط بترشيد استخدامها ، والتصرف فيها وطرق استثمارها ، ومن هذا الترشيد الاجتماعي تحريم الاحتكار.(1/86)
يمثل تحريم الإسلام للغش أيضاً ، أحد أبعاد حق الجماعة في عملية الاستثمار ، وبالتالي في علاج الصراع الاجتماعي. إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (من غشنا فليس منا ) ، هذا الحديث ينظم أيضاً عمليات الاستثمار، فالذي يزعم القيام بمشروعات استثمارية ، وليس هناك في حقيقة الأمر شيء ، هو غاش للجماعة ، والذي يوجه الاستثمار إلى مشروعات ليست هي المشروعات الأكثر ضرورية للمجتمع ، كأن يستثمر في دور اللهو ويهمل أساسيات الحياة ، ومنها ما يلزم للقمة العيش ، هو غاش للجماعة . والذي يقوم فعلاً بعملية حقيقية للاستثمار، ولكنه يغش فيها فإن رسول الله بريء منه وتحريم الإسلام للغش هو مراعاة لحق الجماعة ، وإبطال لمصلحة وأنانية الفرد التي يحققها بواسطة الغش.
وتحريم الإسلام للرشوة ، وبخاصة الذين يتولون المسؤولية ، هو بعد آخر من الأبعاد المتعلقة أو المنظمة لحق الجماعة ، وبالتالي لعلاج الصراع الاجتماعي والرشوة هي واحدة من أخطر الأسباب ، إن لم تكن أخطرها ، التي أصيبت بها المجتمعات النامية ، ومنها مجتمعاتنا الإسلامية . إن الآية التي حرم الله فيها الرشوة تشير بصفة قطعية إلى أن سبب التحريم إنما يعود لمراعاة مصلحة الجماعة . ومراعاة هذه المصلحة هو تعبير عن علاج الصراع الاجتماعي : ( ولا تأْكُلُواْ أمْوَالَكُم بَيْنكُم بالبْاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأكُلُواْ فرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (( البقرة : 188 )) .(1/87)
إن الآية تتجه صراحة إلى سبب الرشوة ، وأنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل ، وليس المراد هنا أن المرتشي يأكل أموال الناس بالباطل ، وإنما المراد أن الراشي هو الذي يستهدف من وراء الرشوة أكل أموال الناس بالباطل ، أي الحصول على حقوق ليست له . وهكذا ، إذا كانت الرشوة يمكن أن تحقق للراشي أو المرتشي مصلحة شخصية ، إلا أنها تحرم إسلامياً لما لها من آثار سيئة من وجهة نظر الصراع الاجتماعي .
النتيجة العامة التي نسجلها في نهاية بحث هذا الموضوع ، هي: أن المنهج الإسلامي لتحليل الصراع الاجتماعي ، هو منهج متميز ، من حيث فهمه لطبيعة هذا الصراع ، ثم من حيث علاجه وضبطه . ويبنى هذا المنهج باختصار على أساس أن الصراع الاجتماعي لا يرتبط بظاهرة وجود من يملك في مقابل من لا يملك ، ولذلك لا يكون علاجه هو إلغاء الملكية الخاصة ، وإنما يرتبط هذا الصراع بظاهرة سوء الاستخدام والتصرف ، في استثمار رأس المال ولذلك يكون العلاج بترشيد هذا الاستخدام ، أي بترشيد الاستثمار . أما المنهج الإسلامي لهذا الترشيد فإنه يقوم علي دعامتين ، الدعامة الأولى : يعمل الإسلام من خلالها على ترشيد استثمار رأس المال ، بواسطة تأثيمه لبعض صور استخدام رأس المال مثل تحريم الاحتكار إلى آخر ما ذكرناه ، هذا ما أعبر عنه بجانب المنع في هذا المنهج . أما الجانب الإيجابي في هذا المنهج فهو ما يتعلق بالجوانب التي يباح فيها استخدام رأس المال .
الضوابط الاقتصادية
المبحث الثالث
( التنمية الاقتصادية )
مقدمة:
هذا هو الضابط الثالث من ضوابط المنهج الإسلامي في الملكية من حيث استثمارها . عرضت من قبل لضابطين هما : اعتبار العقيدة ، وعلاج وضبط الصراع الاجتماعي، ويعالج الضابط الثالث هذا ما يتعلق بالتنمية .(1/88)
المقصود بهذا الضابط هو أن الإسلام يستهدف في تشريعاته للملكية ، بالإضافة إلى الضوابط السابقة : تحقيق التنمية . ولا أريد هنا أن أدخل في المناقشة التي تثار عن الفرق بين التنمية والنمو ، وإن كنت أشير إلى أنني استخدمت مصطلح التنمية ، ولم استخدم مصطلح النمو كأحد ضوابط المنهج الإسلامي في الاستثمار ، لأن التنمية المقصودة إسلاميّاً هي أكبر من مجرد زيادة دخل الفرد في المتوسط ، وهو المعنى الذي يفسر به عادة مصطلح النمو .
والأدوات التي يستخدمها الإسلام وتقع على الملكية لتحقيق التنمية أربع ، وأعتقد أنها تمثل أدوات استخدمها الإسلام لتحقيق التنمية في منهجه لاستخدامات المال ، وتكييف علاقة صاحبه به . وهذه الأدوات هي:
1- الإلزام بالتشغيل الكامل للمال .
2- الإلزام بأن يغطي الاستثمار الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع .
3- الإلزام بأن يكون أسلوب مشاركة رأس المال كأحد عوامل الإنتاج ، مع العوامل الأخرى يستهدف الإنتاج وليس مجرد الحصول على دخل.
4- الإلزام بأن يستهدف استثمار رأس المال تنمية العنصر البشري .
هذه هي العناصر الأربعة ، أو بمعنى آخر: الأدوات الأربع ، التي أعتقد أن الإسلام يستهدف بها تحقيق التنمية من خلال منهجه في الملكية واستخداماتها .
وأود أن أشير قبل عرض هذه الأدوات إلى أن الأدوات التي يستخدمها الإسلام لتحقيق التنمية لا تقتصر على هذه الأدوات الأربع وحدها .
وبسبب أن دراستنا تتجه إلى الكشف عن المنهج الإسلامي لاستخدام الملكية في مجال التنمية، فإن الدراسة الكاملة لأدوات تحقيق التنمية في المنهج الإسلامي لا تكون موضوعنا المستهدف . لذلك لن أعرض لهذه الأدوات كلها .
الفرع الأول: الإلزام بالتشغيل الكامل للمال:(1/89)
أعني بالتشغيل الكامل لرأس المال في هذا الصدد : أن الإسلام يلزم ضمن منهجه لاستثمار رأس المال ، أن يوجه إلى الإنتاج ، وأن يوضع في خدمة المجتمع الإسلامي جميع وحدات رأس المال . ويتضمن هذا ألا تكون أية وحدة من وحدات رأس المال عاطلة ، أي لا تعمل في دائرة النشاط الاقتصادي المشروع . والدليل الذي أستند إليه في هذا ، قوله تعالى:
( يأيها الذين ءآمنوا إن كثيراً من الأحبار والرّهبان ليأكلُون أموال الناس بالباطل ويصُدّون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سيبل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبُهُم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) (( التوبة : 34 ، 35 )) .
والسياق الذي وضع فيه تأثيم الاكتناز من حيث إنه قُرن بالصد عن سبيل الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، ، وقُرن تأثيم الاكتناز بأكل أموال الناس بالباطل ، وما يتضمنه من حقوق للجماعة على المال الخاص ، بحيث إن كنزه يقرن بأكل أموال الناس بالباطل ؛ هذا السياق يضع أساساً عقيدياً للتشغيل الكامل للمال ، لكن الذي أريد أن أقف عنده ، هو المعنى الذي يستنتج من تأثيم الإسلام للاكتناز في علاقته بالتشغيل الكامل لرأس المال . إن الاكتناز هو جزء الادخار الذي لم يوجه إلى الاستثمار . وإذا التزم المسلم التزاما إسلاميّاً صحيحاً بالمنهج الإسلامي ، ومن هذا المنهج تأثيم الاكتناز فسوف يوجه كل ادخاراته التي هي جزء الدخل الذي يفيض عن الاستهلاك ، سوف يوجهه إلى الاستثمار ،ومعنى ذلك أنه وفق المنهج الإسلامي لا توجد رؤوس أموال مكتنزة أي عاطلة .(1/90)
هناك دليل آخر يستدل به على التشغيل الكامل لرأس المال، وهذا الدليل يتعلق بالزكاة ، التي يمكن أن ينظر إليها من إحدى زواياها على أنها تستهدف أن توجه رؤوس الأموال إلى التشغيل ، وألا تبقى عاطلة ، وتستند وجهة النظر هذه إلى تحليل طبيعة الزكاة ، والتي يشير إليها القول المأثور (( اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة )) . يعني هذا أن بقاء رأس المال عاطلاً وعدم تشغيله في النشاط الإنتاجي مع استمرار فرض الزكاة عليه يجعل رأس المال ينفد . وأريد أن أوضح رأيي في علاقة الزكاة بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال . ذلك أنه وإن كنت أرى أنه يمكن استنتاج علاقة بين فرض الزكاة والإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال ، إلا أنه تكملة لرأيي ، لا أعتقد أن هذه العلاقة تمثل الهدف الرئيسي للزكاة، إذ أن للزكاة أهدافا ( اقتصادية ) أخرى أقوى وأوضح من هذه الأهداف منها استخدام حصيلة الزكاة في تنمية العنصر البشري في المجتمع، وذلك بتوفيها حداً أدنى من الدخل لصاحب الحاجة ، ومن هذه الأهداف أيضاً تقليل حدة التفاوت الدخلي بين أفراد المجتمع الإسلامي . وبمعنى آخر: إن الزكاة تمثل إحدى الأدوات المستخدمة في إعادة التوزيع في النظرية الاقتصادية الإسلامية . وهناك أهداف أخرى كثيرة للزكاة يمكن البحث عنها والرجوع إليها في الكتب المخصصة لدراسة الزكاة ، كما أن الزكاة تستهدف أيضاً هدفاً معنويّاً له أهميته في المجتمع ، هذا الهدف هو خلق نوع من الترابط والتماسك والإحساس الجماعي المشترك ، ماديّاً ومعنويّاً بين أفراد الجماعة الإسلامية. هذه هي بعض الأهداف الرئيسة للزكاة . أما علاقة فريضة الزكاة بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال ، فهي نوع من أنواع الالتزام ، أي الأمر الذي يترتب بالضرورة على أمر آخر .(1/91)
إذا قارنا بين المنهج الإسلامي للاستثمار ، وبين المناهج الاقتصادية الوضعية، فيما يتعلق بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال ، نجد أن للمنهج الإسلامي تميزة وذاتيته المستقلة في هذا الصدد . ذلك أن الاقتصاديين يتكلمون عن ضرورة المساواة بين الادخار والاستثمار ، وهي الفكرة ذات الأهمية الاقتصادية، هي فكرة يربطها الاقتصاديون بالدورة التجارية .
وهكذا يكون التشغيل الكامل لرأس المال ، وإن استهدف في المناهج الاقتصادية الوضعية إلا أنه لا يستهدف كأداة في المنهج الاستثماري ، بقصد تحقيق التنمية . في المقابل ، إن الاقتصاد الإسلامي وهو يفرض ، ويلزم بالتشغيل الكامل لرأس المال ، يربط هذا الإلزام بهدف التنمية . والقول المأثور الذي سبق ذكره وهو: ((اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة )) هو واضح في هذا الربط ، ذلك أن المقابل لتعطيل المال حسب هذا النص :
الاتجار به ، والاتجار هو مصطلح يكنى به عن تشغيل رأس المال في النشاط الاقتصادي، سواء أكان إنتاجاً مادياً أم إنتاجاً خدمياً .
وتربط كذلك الآية التي سبق الاستدلال بها ، وهي آية تحريم وتأثيم الاكتناز ، بين الإلزام بتشغيل رأس المال ، وبين التنمية ، ذلك أنها تربط بين اكتناز الأموال وبين منع إنفاقها في سبيل الله . الإنفاق في سيبل الله معنى واسع يشمل كل ما يدخل في مصالح الأمة .
نستنتج أن الإسلام يجعل ضمن ضوابطه للملكية ، وبالتالي لاستثمار رأس المال في التنمية، ومن الأدوات التي يستخدمها لتحقيق ذلك : الإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال .
الفرع الثاني: الإلزام أن يغطي الاستثمار الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع:(1/92)
يمثل الإلزام بأن يغطي الاستثمار الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع ، الأداة الثانية التي استخدمها الإسلام لتحقيق التنمية ، كأحد ضوابط المنهج الإسلامي للاستثمار . ويمكن الاستدلال على هذا النوع من الأدوات بالحكم الإسلامي المعروف : فرض الكفاية . (1 ) ويعني هذا المصطلح أن القيام بما يلزم للجماعة الإسلامية يكون فرض كفاية : إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، وبتطبيق هذا النوع من الأحكام على النشاط الاقتصادي نستنتج أنه إذا كان هناك نشاط اقتصادي مشروع يلزم للجماعة الإسلامية كضرورة ، يكون القيام به ، أي تنفيذه وتوجيه الاستثمارات إليه فرض كفاية على جميع المسلمين ككل . فإذا قام بهذا الاستثمار ببعض أفراد المجتمع الإسلامي فإن هذا يكفي ، وتسقط المسؤولية عن باقي أفراد الجماعة الإسلامية . وفي المقابل ، إذ لم يقم بهذا الاستثمار أحد ، مع وجود القادرين عليه ، تظل المسؤولية واقعة على جميع المسلمين وأعتقد أن الشيخ محمود شلتوت قد استند إلى هذا حين قال: (( إذا كان من قضايا العقل والدين أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجبه الإسلام على أهله ، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة ، كانت هذه العمد واجبة ، وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجبا )) (1 ) . أريد أن أشير إلى أهمية هذا النوع الفريد من الأحكام في الإسلام ، وهو فرض كفاية ، وهو حكم قصد به مواجهة ضروريات سوف تواجه المجتمع الإسلامي . كما أريد أن أشير إلى أننا تعلقنا بهذا الحكم طويلا من خلال تطبيقاته في العبادات ، كما أنه ارتبط بفكرنا من حيث ربطه بحالات من الجهاد . والآن وأمام تحديات كثيرة ومعقدة تواجه العالم الإسلامي ، هي في غالبيتها اقتصادية ، يحب أن نربط هذا الحكم الهام ، وهو فرض الكفاية ، بمثل هذا النشاط .(1/93)
إن فرض الكفاية كأحد الأحكام الإسلامية ، هو فرض ليس له نظير في التشريعات الوضعية ، سواء منها ما تعلق بالاقتصاد أو بغير الاقتصاد. وهو فرض فريد من حيث تكييفه القانوني . هذه الآداة ، أي الإلزام بتغطية كل الأنشطة الاقتصادية اللازمة للمجتمع تعني أن الاستثمارات توجه إلى الأنشطة الضرورية للمجتمع الإسلامي ، ولن ترتبط بمعيار الربح ، بمعناه المادي والأناني في الاقتصاد ، الذي يعرف الربح بأنه العائد النقدي من الاستثمار . ويكون الاستثمار أعلا ربحية حين يحقق أكبر عائد نقدي . لكن من وجهة النظر الإسلامية ، يكون الاستثمار أعلا ربحية حيث يوجه إلى النشاط الاقتصادي الأكثر ضرورية من وجهة النظر الإسلامية .
وإذا كان الاقتصاديون ينتقدون باستمرار توجيه الاستثمار في البلاد الإسلامية إلى إنتاج السلع الترفية ، دور اللهو ، والسلع المشابهة ، وإهمال إنتاج السلع الضرورية ، ويذكر هذا على أنه أحد أسباب استمرار تخلف هذه المجموعة ، من البلاد ، فإن الإلزام بهذه الأداة الإسلامية ، التي تعني ضرورة توجيه الاستثمارات إلى أوجه النشاط الاقتصادي الضرورية واللازمة للمجتمع ، مما يقضي على التخلف الاقتصادي ، المسبب عن هذا الخلل التوجيهي للاستثمارات ، وأيضاً يعني ذلك أن الاستثمارات تغطي كل ما يلزم للجماعة الإسلامية .
إن الاقتصاديين ينتقدون دائماً في البلاد المختلفة ما يسمى بتضخم الاستثمارات ، أو بطنة الاستثمارات ، في بعض الأنشطة الاقتصادية ، أو بعض المناطق الاقتصادية ، بينما يكون هناك في المقابل الجوع للاستثمارات ، وشدة الحاجة إليها في أنشطة أخرى ، أو مناطق أخرى ، ويمكن أن نعطي كثيراً من الأمثلة : تركيز الاستثمارات في كل عواصم البلاد الإسلامية ظاهرة منتشرة ، يقابل ذلك إهمال خطير للمناطق الأخرى البعيدة عن العواصم .(1/94)
وهكذا إذا وضعنا موضع التطبيق هذه الأداة الإسلامية في الاستثمار ، وهو تغطية كل أوجه النشاط الاقتصادي الضروري للمجتمع الإسلامي ، فإننا بهذا نقضي على أحد أسباب تخلف العالم الإسلامي الناتج عن إهمال ذلك .
الفرع الثالث : الإلزام بأن يكون أسلوب مشاركة رأس المال كأحد عوامل الإنتاج، مع العوامل الأخرى يستهدف الإنتاج وليس مجرد الحصول على دخل (مادي):
يمثل هذا الإلزام الأداة الثالثة ، من الأدوات التي يستخدمها الإسلام لتحقيق التنمية كأحد ضوابط المنهج الإسلامي لتشغيل المال ، ويمكن أن أختصر هذا في مصطلح واحد هو استهداف الإنتاج . وأستدل على هذه الأداة من تحليل المعاملات ، التي أباح الإسلام التعامل بها . وهذه المعاملات معروفة على نحو تفصيلي ، ويبقى أن نربط بينها وبين استهداف الإنتاج ، كأحد أدوات التنمية في المنهج الإسلامي ، أي نربط بينها لاستخلاص دلالتها الاقتصادية .
إذا أخذنا المعاملات التي يمنع الإسلام أن يتعامل بها الناس ، نجد أن المعنى الذي يعمل الإسلام على وجوده ، من خلال منع وتحريم هذه الأشكال وأمثالها من المعاملات هو : أن هذه المعاملات ليست أعمالاً منتجة اقتصادياً ، والاقتصاديون أنفسهم يعتبرون الاحتكار كأحد أشكال المعاملات المحرمة شرعاً ليس عملاً منتجاً، ولذلك لا يحق للمحتكر الحصول على دخل ، لأنه لم يؤد للمجتمع أي نشاط منتج . وكذلك الغاش ، وكذلك الراشي . ويعني هذا أن الإسلام يلزم ويوجه أن يكون الاستثمار في معنى أن يستغل المال في نشاط اقتصادي منتج ، فإذا مارس أي شخص مثل هذه المعاملات الممنوعة والمحرمة شرعاً فيكون الدخل الذي يحصل عليه دخلاً حراماً ويكون هو آثماً . وبجانب هذه العقوبة ، يكون على ولي الأمر منعه ومعاقبته .(1/95)
وإذا أخذنا المعاملات التي أباح الإسلام للناس أن يتعاملوا بها ، وبحثنا عن المعاني الاقتصادية ، التي يمكن أن نشتقها من المعاملات ، نجد أن استهداف الإنتاج هو أحد هذه المعاني . وإذا أعدنا النظر في المعاملات التي أباحها الإسلام مثل المضاربة وغيرها ، نجد أن استهداف أن يوجه الاستثمار إلى أنشطة اقتصادية منتجة ، يكون هدفاً واضحاً في هذه الدراسة ، وما أعيده من قبيل الاستنتاج .
إن الإسلام قد جعل الإجارة ، هي من صور الجائزة شرعاً للسفينة والآلات المماثلة لها . وتعني الإجارة الحصول على عائد محدد نقداً لنوع من أنواع رؤوس الأموال وهو الأموال الممثلة فيها آلات كالسفينة ، وفي المقابل منع الإسلام أن يقرض رأس المال، الذي هو في صورة نقدية مقابل عائد محدود ، وهو ما يسمى شرعاً بالربا ، ويستنتج من ذلك أن الأموال الممثلة في آلات لا يمكن عند اقتراضها أن تستخدم للاستهلاك المباشر ، وإنما تستخدم بالضرورة في الإنتاج . لذلك كانت المعاملة المباحة لمثل هذا المال هي الإجارة حيث إن أخذها ليس أمامه إلا توجيهها للانتاج . وفي المقابل ، إن الأموال الممثلة في نقد يمكن لمقترضها أن يوجهها إلى الإستهلاك المباشر . لذلك تكون المعاملة التي أباحها الإسلام لمثل هذا المال هي المشاركة ، وتحريم القرض بفائدة محددة ، وسوف يضمن هذا أن يوجه هذا المال إلى الإنتاج بسبب الإلزام بالمشاركة .
إذن يستنتج أن المعاملات التي أباح الإسلام لصاحب رأس المال أن يستغل بها ماله مراعى فيه استهداف الإنتاج . وهو ما اعتبرته إحدى الأدوات التي يستخدمها الإسلام لتحقيق التنمية ، وذلك كأحد الضوابط في منهج الاستثمار .
والنتيجة هي أن استهداف الإنتاج ، الذي استهدف بواسطة المعاملات المباحة شرعاً ، وكذا بواسطة منع وتحريم بعض المعاملات ، يكون أحد أدوات التنمية المستخدمة إسلامياً .(1/96)
المعنى الاقتصادي الذي يستنتج منه استهداف الإنتاج بواسطة أشكال معينة من المعاملات ، كأحد أدوات التنمية في المنهج الإسلامي للاستثمار ، يمكن أن يربط اقتصادياً بأوضاع كثير من المجتمعات والدول التي عرفت في أحد عصور تاريخه غنى في شكل امتلاكها مالاً سائلاً ، وهو رأس المال النقدي . وبالرغم من ضخامة ما امتلكته هذه الدول من أموال ، إلا أن حضارتها أو دورها التاريخي في المساهمة في القيادة وصنع الحضارة كان قصيراً وكان محدوداً جداً ، أو يكاد أن يكون منعدماً . ذلك أن هذه الدول احتفظت بثروتها في شكل رأس مال سائل ، وقد استتبع ذلك أن كان النشاط في إقراض واقتراض رأس المال هو النشاط الاقتصادي الرئيسي والسائد ، وصاحب ذلك إهمال النشاط الاقتصادي المنتج ، في شكل سلع مادية وخدمية ، ويمكن أن نأخذ إسبانيا ، كمثال في الفترة التاريخية المسماة بعصر الرأسمالية التجارية . في هذه الفترة كانت إسبانيا أغنى دولة أوروبية ، أو أغنى دولة في العالم بسبب ما تمتلكه من نقود في شكل ذهب وفضة، وقد استجلبت هذه المعادن من مستعمراتها . وبسبب أنها لم توجه رؤوس الأموال هذه إلى النشاط الاقتصادي الإنتاجي ، بالمعنى الذي نقصده للإنتاج ، فإن دورها القيادي للاقتصاد العالمي كان قصيراً جداً ، وكان أثرها في الحضارة الإنسانية منعدماً ، وذلك بالرغم من غناها الفاحش في إحدى فترات التاريخ ، ويمكن أن نأخذ كمثال في العصر الحديث بعض الدول التي تمتلك ثروات سائلة فلكية ، وذلك بسبب امتلاكها لبعض المواد الأولية ، وبالرغم من ذلك تكون اقتصاديات هذه الدول اقتصاديات هشة ، كما أن التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي لهذه الدول يكون متشائماً . ذلك أن هذه الدول احتفظت بالجزء الرئيسي من ثرواته في شكل نقدي سائل وجعلت النشاط الاقتصادي الرئيسي له هو المضاربة في السوق المال .(1/97)
وكان الأمن الاقتصادي الحقيقي لهذه الدول ، هو أن تحول رؤوس أموالها النقدية إلى مصانع ومزارع وغير ذلك من صور النشاط الاقتصادي المنتج حقيقة .
وفي ضوء التحليل التاريخي ، يصبح المعنى الاقتصادي لاستهداف الإنتاج بواسطة أشكال معينة من المعاملات واضحاً . ذلك أن الإسلام وهو يستهدف إقامة مجتمع إسلامي قوي ودولة إسلامية ثابتة ، وحضارة إسلامية حقيقية ، استخدم لذلك كثيراً من الأدوات والوسائل والأساليب ، ومن الأدوات والأساليب: أنه في مجال المعاملات الاقتصادية ربط استخدام رأس المال بواسطة الغير ، والتعاون معه بأشكال من المعاملات الاقتصادية . وقد استلزم في هذه الأشكال أن يكون أسلوب المشاركة هو أساس التعاقد . وبهذا الشرط ، يكون الإسلام ضمن أن يوجه رؤوس الأموال السائلة ، وأن تتحول إلى نشاط اقتصادي منتج حقيقة ، بالمعنى الذي نقصده ، والذي شرحناه ، ويكون الإسلام بهذا قد خلص المجتمع الإسلامي من داء حصر النشاط الاقتصاد لأصحاب رؤوس الأموال في الاتجار بالنقد : شراء وسمسرة إلى آخر صور التعامل في النقد والتي نعرفها في المجتمعات المعاصرة ، من خلال دراسة نشاط البورصات ونشاط المصارف .(1/98)
استهداف الإسلام تحريم الربا ، وتحريم الاتجار بالنقد ، هو استهداف أصيل ، وتشريعه التعامل بالمشاركة ، هو تشريع مقصود به تحقيق غايات ومقاصد معينة محددة ، لأنه بواسطة المشاركة يتخلص المجتمع الإسلامي من وباء سماسرة الاتجار بالمال . وأريد أن أعود وأكرر أن المجتمعات التي تعتمد على الاتجار بالنقد وتجعله النشاط الاقتصادي الرئيسي فيها ، هي مجتمعات هشة اقتصادياً ولا يمكن أن ننخدع بمظاهر الرواج الاقتصادي الذي تبدو به هذه المجتمعات . ذلك أن أية أزمة اقتصادية عالمية ، سوف تعصف باقتصاديات هذه المجتمعات ، وتأتي على الأخضر واليابس فيها . ولنحفظ ولنع درس التاريخ في مجتمعات مماثلة لها سابقة ، مثل حالة إسبانيا التي أشرت إليها ، وهناك غير إسبانيا الكثير . وبجانب أن هذه المجتمعات هشة اقتصادياً ، فإنها هشة أخلاقياً ولندرس بإمعان الدول الموجودة الآن ، والتي تدعي أنه توجد بها أسواق المال العالمية ، وأن السمسرة هي نشاط رئيسي فيها .
وهكذا ، يكون اشتراط المشاركة في المعاملات الإسلامية ، وهو الاشتراط الذي يستلزم توجيه رأس المال السائل إلى النشاط الإنتاجي الحقيقي ، وعدم توجيهه إلى الاستهلاك المباشر ، هذا الاشتراط يستهدف الإنتاج ، وبالتالي يستخدم هذا لتحقيق التنمية .
المبحث الرابع
( توجيه أو تخطيط الاستثمار )
يمثل توجيه أو تخطيط الاستثمار الضابط الرابع في مجموعة الضوابط التي أعتقد أن الإسلام ينظم بها منهجه في استثمار الملكية واستخداماتها . اقتصادياً يميز بين أنواع عديدة من التخطيط ، وفي كل نوع منها يأخذ التخطيط معنى خاصًّا، ومن أنواع التخطيط (1 ):
1- التخطيط ضد الدورات في مقابل التخطيط للتنمية . الأول يهتم بالتشغيل الكامل في مقابل أن الثاني يهتم بالتنمية الاقتصادية المعجلة مع إصلاح الهيكل الاقتصادي .(1/99)
2- التخطيط الجزئي في مقابل التخطيط الشامل : يكون الأول لبعض القطاعات الهامة ، مثل الزراعة أو الصناعة ، أما الثاني فإنه يغطي كل الاقتصاد .
3- التخطيط العام في مقابل التخطيط التفصيلي: يهتم الأول بالمؤشرات الرئيسة، أما الثاني فإنه يحدد الأهداف والوسائل بتفصيل .
4- التخطيط الوظيفي مقابل التخطيط الهيكلي : يتضمن الأول تخطيط الاقتصاد خلال النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم ، أما الثاني فإنه يخطط لنظام جديد بالكامل ، مع تغيرات جذرية في هيكل الاقتصاد .
وقد تعد أنواع أخرى من التخطيط ، مثل التخطيط الإقليمي ، والتخطيط بعد الحروب (2 ).
يعتبر مصطلح التخطيط أحد المصطلحات الاقتصادية الحديثة نسيًّا ، وهو يرتبط بمصطلح التنمية ، فقد استتبع الاهتمام بالتنمية الاقتصادية الاهتمام بالتخطيط وبالرغم من حداثة هذا الفرع من فروع الاقتصاد ، إلا أنه يكثر الاهتمام به والكتابة عنه ، وقدمت نماذج ونظريات تخطيطية كثيرة . وليس هنا المجال لمناقشة كل ما يتعلق بالتخطيط ، أو حتى بعض ما يتعلق به وإنما ذكرت ما ذكرت عنه لأعرف القارئ بأبعاد المصطلح الذي نعرضه الآن .
أحاول في هذا المبحث مناقشة بعض الموضوعات في الاقتصاد الإسلامي ، والتي ترتبط باستثمار الملكية ، واستخداماتها ، وهي موضوعات تتعلق بتوجيه الاستثمار أو بتخطيطه :
1- إثبات المسؤولية الجماعية في استثمار رأس المال .
2- إثبات مسؤولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف التنمية .
3- إثبات مسؤولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف إعادة توزيع الدخل والثروة.
4- استنتاج التصور الإسلامي العام لتوجيه وتخطيط الاستثمار .
الفرع الأول: المسؤولية الجماعية الإسلامية في الاستثمار:
أعني بهذا المصطلح الالتزامات التي يضعها الإسلام على الجماعة الإسلامية ، ممثلة في الدولة للقيام بعمليات الاستثمار اللازمة للمجتمع .(1/100)
والأدلة الإسلامية التي يمكن أن تساعدنا في بحث هذه الجزئية كثيرة منها :
1- الدليل الأول قوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ) (( النساء : 5 )) .
وجه الدلالة في هذه الآية ، هو أن الإسلام يلزم ولي الأمر ، أن يمنع السفيه من التصرف أو استثمار ماله ، ويجعل الجماعة الإسلامية ، ممثلة في ولي الأمر مسؤولة عن ذلك ، ومن التفسيرات الدقيقة لهذه الآية ، ما نقل عن القرطبي من أن مصطلح الضعيف مراد به الصغير ، أما مصطلح السفيه الوارد في هذه الآية فمراد به الكبير (1 ) . ومن التعليقات التي قيلت في ذلك : وعلى ذلك يكون تفسير الآية أنه خطاب للجماعة ممثلة في أولياء أمورها بالحجر على السفيه ، الذي فقد أهليته للنيابة عن الجماعة في تثمير مالها وحيازته، أي فقد أهليته لوظيفته الاجتماعية ، لأن استمرار تصرفه بعد السفه إفساد لمالها من حيث ملاحظة حقها الأصلي ، وإضرار بها من حيث النظر الاقتصادي البحت الذي يرى أن مال الجماعة يتأثر بما ينال مال الفرد بسبب السفه أو سوء الاستغلال (2 ) .(1/101)
هذا هو الدليل الأول الذي ارتبط به . أما المعنى الاقتصادي الذي يريد أن نستنتجه منها فهو : أن الإسلام يوجه الخطاب إلى الجماعة الإسلامية ممثلة في ولي الأمر بشأن يتعلق بالمال الخاص لبعض الأفراد في المجتمع وفي هذا الخاطب نجد أن الإسلام يضيف المال الخاص إلى الجماعة، وهذه الإضافة تخلق الحس لدى المسلم ، وكذا لدى الدولة الإسلامية بالمسؤولية المشتركة عن استثمار المال واستغلاله والمحافظة عليه . وإذا كان للجماعة على المال الخاص حق ومسؤولية، فإنه يترجم ذلك بلغة العصر الاقتصادية : أن للدولة الإسلامية حق التوجيه أو التخطيط لاستثمار المال . ويشمل هذا الحق بيقين ، مال السفيه ومن على شاكلته، ويمكن أن يشمل ، استنباطاً ، الحق في توجيه مثال غير السفيه بحيث يكون في خدمة المجتمع .
من الأدلة التي أستدل بها على المعنى السابق نفسه ، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( ألا من ولي يتيماً فليتجر بماله حتى لا تأكله الصدقة )) . يلزم الإسلام هنا باستثمار مال اليتيم . ويناظر هذا ، الإلزام الذي أشارت إليه الآية السابقة .
يمثل عمل الإسلام على غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو استثمار رأس المال ، الأساس الأول لحق الدولة الإسلامية في التدخل في استثمار رؤوس الأموال الخاصة . والمسؤولية الجماعية هي تعبير آخر عن المسؤولية المشتركة عن استثمار المال الخاص ، بين صاحبه من جانب ، وبين ولي الأمر من جانب آخر .
الفرع الثاني: مسؤولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف التنمية:
2- بعد غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية أو المسؤولية المشتركة توجد مجموعة أخرى من الأدلة التي أرى أنها تمثل مرحلة متقدمة في مجال توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي ، من هذه الأدلة : قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة )) (1 ).(1/102)
وينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن الله استخلفنا على عباده ، لنسد جوعهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم . كما ينقل عن الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه : وليكن نظرك في عمارة الأرض ، أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج . كما ينقل عن الإمام الماوردي: أن مسؤولية الحاكم: عمارة البلدان ، باعتماد مصالحها ، وتهذيب سبلها ومسالكها (2 ) .
تتجه هذه المجموعة من الأدلة معاً ومباشرة إلى تحديد مسؤولية ولي الأمر في عملية الاستثمار . وهذه المسؤولية تتحدد في ضرورة القيام ورعاية المسلمين، وتوفير ما يلزم لهم اقتصادياً ، ويعني هذا مسؤولية ولي الأمر عن عملية الاستثمار. وهو تعبير يمكن أن يستبدل بمصطلح توجيه أو تخطيط الاستثمار .
بل يستنتج من هذه الأدلة ، أن الإسلام يوجه ولي الأمر إلى أنه ينبغي عليه أن يكون استهدافه التنمية الاقتصادية للمجتمع الإسلامي، وليس استجلاب أو الحصول على أموال ، تحت أي شكل من أشكال الضرائب ، لتنفق في وجوه كثيرة ليس من بينها التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
الفرع الثالث: مسؤولية ولي الأمر عن استخدام المال بهدف إعادة التوزيع:(1/103)
هناك مجموعة ثالثة من الأدلة التي تتعلق بمسؤولية الجماعة الإسلامية عن الاستثمار ، أو توجيه وتخطيط الاستثمار . من هذه الأدلة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم حمى أرضاً بالبقيع . وينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رفض توزيع أرض العراق على الفاتحين ، وحبسها لمصلحة المسلمين عامة ، وقال في ذلك قوله المشهور : إذا وزعتها الآن ، فماذا يبقى لمن يجيء بعدنا . إن المعنى الاقتصادي الذي يمكن استنتاجه من الدليلين السابقين ، هو أن للجماعة الإسلامية ، ممثلة في ولي الأمر ، أن تستبقي في نطاق الملكية العامة بعض الأموال التي وضعت في يد الدولة ، وإذا راجعنا نوعي المال في الدليلين السابقين، نكتشف أن فيهما ما يتعلق بأحد عوامل الإنتاج وهو الأرض ، وأن استبقاءه في نطاق الملكية العامة مقصود به استغلاله وتوجيهه للاستثمار ، وليس للاستهلاك المباشر ، بعكس ما يشاهد في الأموال التي توضع حديثاً في يد الدولة.
توجد مجموعة أخرى من الأدلة التي تنظم أيضاً مسؤولية الجماعة الإسلامية في عملية الاستثمار من هذه الأدلة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير ، بين المهاجرين ، ماعدا اثنين من الأنصار أعطاهما الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب فقرهما، وتحققت فيهما الشروط التي كانت السبب في قصر التوزيع على المهاجرين . ودليل آخر ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كتب إلى عامله على الحمى : اضمم جناحيك على المسلمين ، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة ، وإياك ونعم ابن عوف وابن عفان (1 ) .
يشير هذان الدليلان من أدلة تنظيم مسؤولية الجماعة الإسلامية في عملية الاستثمار ، إلى معنى خاص ، وهو أن للدولة وعليها أن تستخدم الأموال ، التي توضع في يدها لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخول بين أفراد المجتمع .(1/104)
والدليلان السابقان مباشرة يكونان صريحين في الدلالة على ذلك ، فالدليل الأول يشير إلى ذلك في مال يتوقع أن يكون موزعاً من الدولة على الأفراد ، ليستخدم غالباً في الاستهلاك . أما الدليل الثاني ، فإنه يشير صراحة إلى أن على الدولة أن تستخدم استثماراتها لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخول بين إفراد الجماعة الإسلامية ، وذلك مع الأهداف الأخرى ، التي يجب أن تعمل على تحقيقها، ومنها التنمية الاقتصادية .
الفرع الرابع: استنتاج التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار (تحليل اقتصادي)
عرضت ثلاثة أبعاد بهدف البحث عن التصور الإسلامي ، لتوجيه وتخطيط الاستثمار . عرضت أولاً للأدلة التي تثبت المسؤولية الجماعية والإسلامية في عملية الاستثمار . ثم عرضت ثانياً للأدلة التي تثبت مسؤولية ولي الأمر عن توجيه الاستثمار بحيث يحقق التنمية الاقتصادية . وأخيراً عرضت للأدلة التي تثبت مسؤولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف إعادة توزيع الدخل والثروة .
وسوف أحاول الآن أن أستنتج ، بناء على ما عرضته من أدلة تتعلق بهذه الأبعاد الثلاثة ، التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار .
أولا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار على غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو استثمار رأس المال . ولقد عرضت في الفقرة الأولى لهذا الضابط من ضوابط المنهج الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار ، بعض الأدلة ، التي أعتقد أنها تدل على ذلك ، وهي أدلة تعلقت بمسؤولية الجماعة الإسلامية عن التصرف واستثمار أموال السفهاء ، كذلك أموال اليتامى . ويمكن أن نضيف إلى هذه الأدلة أدلة أخرى ، تخدم المعنى نفسه ، الذي استنتجناه وهو غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو المال . من هذه الأدلة قوله تعالى : (( هُوَ الّذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعاً ))
(((1/105)
البقرة : 29 )) وإن كنت أرتبط بالأدلة الأولى أكثر من هذا الدليل الجديد ، ذلك أن الأدلة الأولى تتجه مباشرة إلى إثبات مسؤولية الجماعة الإسلامية عن استثمار أموال فئات معينة من الناس ، تعجز بنفسها عن التصرف الصحيح في أموالها ، أما هذا الدليل الجديد فإنه يغرس في النفس الإحساس بحقنا جميعاً في ما خلقه الله ، وأوجده في هذه الأرض .
غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية له أهميته توجيه أو تخطيط الاستثمار . ذلك أن عملية الغرس هذه تثبت نوعين من النتائج ، التي أعتقد أنه تشكل محاور أساسية في التنظيم الإسلامي للتدخل في المال : استثمارً أو غيره . تتمثل النتيجة الأولى في محور نفسي أساسي وضروري لنجاح تدخل الجماعة ممثلة في ولي الأمر في الحياة الاقتصادية الخاصة للأفراد. ذلك أن الهدف الإسلامي من غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو استثمار المال يعمل في اتجاهين : يتعلق الاتجاه الأول بالمالكين لرأس المال ملكية خاصة، والذي يقوله ويغرسه فيهم الإسلام هنا ، وهو غرس وقول نفسي : إن ما في أيديكم للجماعة الإسلامية عليه حقوق . ويهيء هذا الغرس النفسي نفوس أصحاب رأس المال الخاص لقبول أنواع من التدخل ، من الذين يمثلون الجماعة الإسلامية ، وقد يكون هذا التدخل في صورة مخففة كتوجيه الاستثمار باستخدام سياسيات اقتصادية معينة ، أو بالتدخل تدخلاً مباشراً لتخطيط الاستثمار . هذا هو المعنى النفسي الأول . وهو كما قلت يتجه إلى المالكين لرأس المال ملكية خاصة . أما المعنى النفسي الثاني فإنه يتجه إلى ولي الأمر كممثل ومسؤول عن الجماعة الإسلامية ، والمعنى الذي يغرسه الإسلام هنا : هو أنه يجعل ولي الأمر يحس بأنه مسؤول أمام الله عن التوجيه الصحيح لرأس المال الخاص .(1/106)
من تفاعل المعنيين السابقين ، المعنى الذي يغرس في نفوس المالكين لرأس المال ملكية خاصة ، والمعنى الذي يغرس في نفوس ولي الأمر ، ينتج الأثر الإسلامي المستهدف من غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو استثمار الجماعية نحو استثمار الأموال . يتمثل هذا الأثر فيما أسميه بالتهيئة النفسية لقبول التدخل : توجيهاً أو تخطيطاً في الاستثمار الخاص . ولأجل أن يتضح ما أريد أن أقول ، أشير إلى معنى مماثل في الاقتصاديات الوضعية .
نتكلم كثيراً عن المشاكل التي تواجه التنمية الاقتصادية في البلاد النامية .
ويرجع بعضهم ذلك إلى أن سكان هذه البلاد يُهيأوا التهيئة النفسية الصحيحة والكافية لما تتطلبه التنمية الاقتصادية من سلوكيات معينة ، ترتبط بالتصنيع ، أو غيره من مظاهر التنمية الاقتصادية . هذه الفكرة التي أشير إليها في الاقتصاديات الوضعية تقرب لنا المعنى الذي أريد استنتاجه من بحث البعد الأول من أبعاد أو تخطيط الاستثمار في الإسلام ، وهو ما أسميه : غرس الإحساس بالمسؤولية الجماعية نحو استثمار رأس المال . هذا المعنى هو: أن الإسلام يريد أن يضمن نجاح تدخل ولي الأمر حين يجيء ، لذلك هيأ نفوس المالكين لرأس المال ملكية خاصة وولي الأمر ، الاثنين معاً ، لهذا التدخل ليضمن النجاح له .
هناك جانب آخر يمكن استنتاجه ، أو ربطه بهذا البعد الأول من أبعاد توجيه أو تخطيط الاستثمار ، يرتبط هذا المعنى بفكرة الحق والواجب ، كما تعرض في الاقتصاد الإسلامي . وأيضاً ، أحاول أن أقرب المعنى هنا بالمقارنة مع الاقتصاديات الوضعية . حين يحدث التدخل من الدول التي تأخذ بالنظم الوضعية في الملكية الخاصة ، يقوم الحاكم بهذا التدخل على أنه حق له .(1/107)
ويتصرف من منطلق أنه يملك حقاً كنتيجة ، قد يتجاوز الحد الذي ينبغي ألا يتخطاه ، وهو في نفسه قد يجد مبرراً لتجاوزه ، لأنه يعتقد أنه يملك حقاً . من الوجه الآخر نجد أن مالك رأس المال الخاص ، الذي تتدخل الدولة باسم النظم الوضعية في ملكيته الخاصة ، ينظر إلى هذا التدخل على أنه اعتداء على حقه ، الذي يمثل اعتداءً على ملكيته الخاصة ، وعلى حقوقه المقررة عليها .
وهكذا ينظر المالك الخاص إلى أي نوع وأية صورة من صور تدخل الدولة على أنه تجاوز للحد . يصور هذا التقابل المتعارض بين وجهتي النظر السابقتين أحد المعوقات الاقتصادية التي تواجه البلاد النامية وهي تخطط للتنمية . بل إن ذلك يكون أحد أسباب فشل التنمية الاقتصادية ، وذلك بسبب المد والجزر الذي يلاحظ في التدخل ، ويقصر عما كان يجب عليه عمله . وكلا الأمرين:
الإفراط والتفريط ، يجد تبريره في أن التدخل منظور إليه من زاوية الحاكم على أنه حق . وفي المقابل ، أياً كانت درجة التدخل ، ينظر مالك رأس المال إليه على أنه تدخل غير مشروع في ملكيته . ولهذا يقاوم هذا التدخل ويعمل على إفساده ، وسوف ينقض عليه عندما تواتيه الفرصة . ويفسر لنا هذا ما يحدث في البلاد النامية التي تأخذ بالتخطيط ، ثم يجيء من يلغيه كلية ، وهكذا في فترة يتقرر حق الدولة في التدخل الاقتصادي ، ثم بعد ذلك يجيء من يتنكر كلية لهذا الحق.
أقول : إن هذا المد والجزر في التوجيه أو التخطيط الاقتصادي ، إنما ينشأ بسبب أن النظم الاقتصادية الوضعية لا تكيف تكييفاً صحيحاً التداخل بواسطة الدولة ولا تعالجه معالجة صحيحة .(1/108)
نعود إلى المنهج الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار ، الذي هو نوع من أنواع تدخل ولي الأمر في النشاط الاقتصادي . يكيف الإسلام التدخل من جانب ولي الأمر بأنه واجب عليه، لذلك يلتزم عند تنفيذ هذا الواجب ، بما يتقرر عليه . ولهذا لن يوجد من الحاكم إفراط أو تفريط في التدخل ، إذا كان هناك التزام كامل بالمنهج الإسلامي ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يكيف الإسلام التدخل من جانب صاحب الملكية الخاصة ، بأن ولي الأمر يتدخل لأن الشرع يعطيه ذلك ، يفهم هذا من أن الله عبر عن مال السفيه ، بأنه مال الجماعة التي يمثلها ولي الأمر، أي له حق التدخل المشروع والمحدد من قبل الشارع ولن يقعد للتدخل بالمرصاد ، ينقض عليه عندما تواتيه الفرصة ، لأن مقاومته للتدخل تفسر على أنه خروج على الشرع .
وهكذا ، تتبين الأهمية القصوى لهذا البعد الأول من أبعاد توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي . وهو بعد كما قلت : يؤسس ويعالج جوانب نفسية
تتمثل في غرس المسؤولية الجماعية عن استثمار المال . وينتج هذا ، الاستقرار في التوجيه والتخطيط ، وبالتالي الاستقرار في إدارة الاقتصاد القومي .
ثانيا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار ثانيا على تحديد مسؤولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف التنمية ويمثل ذلك البعد الثاني في هذا التصور. ولقد عرضت الأدلة التي اعتمدت عليها في تأسيس هذا البعد .
وأعيد التذكير بهذه الأدلة مرة أخرى في مجال عرض التصور الإسلامي العام لتوجيه وتخطيط الاستثمار ، كما أضيف ما أراه يتصل بموضوعنا من أدلة جديدة.(1/109)
في الحديث الذي أوردته عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، (( من ولاه الله من أمر المسلمين .. )) إلى آخر الحديث ، نجد في هذا الحديث توجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى مسؤولية ولي الأمر عن التنمية الاقتصادية . وما أريد أن أشير إليه بصفة خاصة ، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربط مسؤولية ولي الأمر عن التنمية بيوم القيامة ، ويدل هذا من جديد على ما سبق أن عرضته ، من اعتبار دور العقيدة الإسلامية في المنهج الإسلامي للاستثمار ، وأريد أن أضيف إلى هذا الدليل الأدلة الآتية :
يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته )) . ويروى أيضا عن الرسول صلى الله عليه وسلم : (( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته ، من علم علماً ، أو كرى نهراً أو حفر بئراً ، أو غرس نخلاً ، أو بنى مسجداً، أو درس مصحفاً ، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته )) . ويروى أيضا عن الرسول صلى الله علي وسلم : (( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل من طير أو إنسان إلا كان له به صدقة )) . هذه هي الأدلة الجديدة التي أضيفها إلى الأدلة التي عرضتها قبل ذلك وأنا بصدد إثبات توجيه أو تخطيط الاستثمار .(1/110)
إذا أخذنا هذه الأدلة ، نستنتج منها أن الإسلام يجعل ولي الأمر مسؤولاً عن توجيه الاستثمار لخدمة هدف التنمية الاقتصادية ، كأحد الأهداف المقصودة من الاستثمار. بل إن إمعان النظر في هذه الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم يكشف عن أن توجيه صلى الله عليه وسلم بشأن التنمية ، قد شمل كل ما يسميه الاقتصاديون بالهيكل الأساسية للتنمية ، ويعني هذا المصطلح اقتصادياً أن هناك أساسيات ضرورية لبدء وانطلاق التنمية الاقتصادية ، ومنها :إعداد شبكة الطرق اللازمة ، وشبكة الري اللازمة ، أو الموانيء ، وأيضا تدريب الحد الأدنى من الأيدي العاملة التي تعتبر كأساس لبدء التنمية. وأشير إلى أنني ألمح في حديث الرسول صلى الله علي وسلم الذي ذكرته: ((سبع يجري للعبد أجرهن )) إلى آخر الحديث، ألمح في هذا الحديث دليلاً على تجهيز وتوفير ما يسمى بالهياكل الأساسية للتنمية التي سبقت الإشارة إليها يقول الاقتصاديون أيضا : إن التنمية الاقتصادية تعتمد على دعامتين :
المتاح من عوامل الإنتاج ، والتقدم التكنولوجي . وإذا أمعنا النظر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المشار إليه نجد أنه قد شمل هاتين الدعامتين ، ذلك أنه يشير إلى تنمية عوامل الإنتاج ، بالإضافة إلى العلم التكنولوجيا .(1/111)
تكشف دراسة التاريخ الإسلامي ، أن تطبيقات الخلفاء الراشدين قد التزمت بالتوجيه النبوي الكريم بشأن التنمية الاقتصادية . ولقد سبق أن عرضت قول عمر، رضي الله عنه : (( أن الله استخلفنا على عباده )) إلى آخر ما ذكرته . وأضيف في هذا الصدد قولاً آخر لعمر هو: (( لو أن شاة عثرت على شاطيء الفرات لسئل عنها عمر يوم القيامة )) (1 ) . كما عرضت أيضا قول الإمام علي كرم وجهه : (( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج )) . تمثل توجيهات عمر وعلي رضي الله عنهما بشأن التنمية الاقتصادية نماذج وسياسات للتنمية الاقتصادية ، بنيت على الأسس الإسلامية التي علمها لهما الإسلام .
يمثل أيضل ما نقلته عن الإمام الماوردي من أن مسؤولية الحاكم عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سبلها ومسالكها ، يمثل هذا القول الحلقة الثالثة في الأدلة التي اعتمدت عليها لإثبات توجيه وتخطيط الاستثمار إسلاميًّا ، ذلك أن هذا القول يمثل التقنين الفقهي من الفقيه الماودري للأحكام الإسلامية التي تتعلق بالتنمية الاقتصادية .
ماذا يعني اقتصاديّاً ما عرضته في هذا البعد الثاني، هو البعد الذي يتعلق بتوجيه أو تخطيط الاستثمار لتحقيق هدف التنمية الاقتصادية ؟ يتضح المعنى الاقتصادي لهذا البعد بالمقارنة بما نعرفه من دراستنا للاقتصاد الوضعي .
وسوف أختار فكرتين أعرض في ضوئهما المعنى الاقتصادي الذي أبحث عنه ، تتعلق الفكرة الأولى بأنواع التخطيط ، و هل يمكن استنتاج شيء من الأدلة التي عرضتها في هذا الصدد بالنسبة للاقتصاد الإسلامي ؟ ، وتتعلق الفكرة الثانية بدور الدولة ، وهل يكون دورها في الإسلام هو كما يصوره النظام الفردي أم لها دور اقتصادي متميز ؟(1/112)
أبحث أولا الفكرة الأولى وهي أنواع التخطيط . كنت أشرت في بداية بحثي لهذا الضابط ، توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي ، إلى أنواع التخطيط ، وما ذكرته هناك عن هذا الموضوع كان على سبيل المثال ، وليس على سبيل الحصر ، وتبين أن الاقتصاديين يميزون بين أنواع عديدة من التخطيط ، والسؤال الآن هو : أين الاقتصاد الإسلامي من ذلك ؟
بناءً على ما عرضته من أدلة إسلامية ، أعتقد أن هذه الأدلة تثبت وتقرر نوعاً من تدخل الدولة ، وهذا التدخل هو أهم من أن يكون توجيها أو تخطيطاً ، بمعنى أن هذا التدخل قد يقف عند المرحلة التي نسميها في الاقتصاد بالتوجيه ، وهي المرحلة التي تتدخل فيها الدولة في إدارة الاقتصاد القومي ، ليس بطريقة مباشرة إنما بطريقة غير مباشرة مثال ذلك : عندما يرى صانعوا القرار الاقتصادي أن هناك تضخماً ، أي ارتفاعاً في الأسعار ، فإنهم يحاولون علاج ذلك بأدوات السياسية النقدية ، أو بأدوات السياسية المالية ، وهي أدوات معروفة لدراسي الاقتصاد ، من أمثلة أدوات السياسة النقدية إنقاص العرض النقدي، ومن أمثلة أدوات السياسة المالية إنقاص الإنفاق العام ، ويأمل صانعوا السياسة بواسطة استخدام مثل هذه الأدوات كبح التضخم وخفض الأسعار.(1/113)
هذا نوع من أنواع التدخل ، ويمكن أن يمثل نوعاً من التوجيه أو التخطيط وقد يكون التدخل الإسلامي ، الذي تقر بناء على الأدلة التي عرضتها ، في مرحلة أكثر تدخلاً من المرحلة التوجيهية التي أشرت إليها ، بمعنى أن التدخل قد يكون مباشراً وبخطة محددة مفصلة . مثال ذلك أن تكون الأمة الإسلامية في تخلف اقتصادي ، وليس هناك وسيلة لإخراجها من هذا التخلف إلا بخطة اقتصادية ، وهنا يكون تدخل الدولة أو إدارة الاقتصاد القومي وفق خطة موضوعة يمكن أن تعتمد وتقر بناء على الأدلة التي عرضتها ، ونحن في هذا لا نجهد الدليل الإسلامي ، إننا نتساءل : ماذا يعني قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ، (( الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته )) ؟
إذا كان هناك مسلمون متخلفون اقتصادياً ، أليست مسؤولية الإمام هنا هي أن يضع خطة اقتصادية لتنمية اقتصادهم ، أية مسؤولية أخرى يمكن أن تعادل هذه المسؤولية ؟ ونتساءل أيضاً ماذا يعني قول عمر رضي الله عنه : لو أن شاة عثرت على نهر الفرات لسئل عنها؟ إذ كان عمر سوف يسأله الله عن الشاة إذا عثرت ، ألا نعتقد أن الله سيسأل الحاكم عن ملايين من المسلمين تموت جوعاً بسبب التخلف الاقتصادي ؟ ، وإذا كان سيسأل ، وسوف يسأل الإمام حتما وقطعاً فلا بد أن نعطيه الوسيلة لأن يدرأ مسؤوليته، والوسيلة هنا هي أن يدير الاقتصاد بواسطة الدولة : إدارة غير مباشرة ، أي استخدام التوجيه بأدوات السياسات الاقتصادية المعروفة ، أو إدارة مباشرة ، أي استخدام التخطيط المباشر بأي نوع من أنواع التخطيط .(1/114)
وإجمالاً ، أعتقد أن تدخل الدولة ، الذي يقرره الإسلام بشأن الاستثمار ، هو تدخل يتسع بحيث يشمل أي نوع يحقق مصلحة المسلمين فإذا كان يكفي مجرد توجيه الاقتصاد القومي بطريقة غير مباشرة ، يكتفي الإسلام بهذا القدر من التدخل . أما إذا كان العلاج الاقتصادي، يستلزم نوعاً من التدخل أبعد من النوع السابق ، فإن الإسلام يقر مثل هذا النوع . ويمكن أن يأخذ هذا النوع أي شكل من أشكال التخطيط : مركزي أولا مركزي ، وظيفي أو هيكلي ، إلى آخر ما نعرفه من أنواع التخطيط .
أنتقل الآن إلى بحث الفكرة الثانية ، وهي تتعلق بدور الدولة الاقتصادية في المنهج الإسلامي . ولأجل أن يتضح ما أقصده بهذا المصطلح ، أعرض لبعض ما يتعلق بهذا الموضوع في المناهج الاقتصادية الوضعية .
يتحدد دور الدولة كما يعرضه فلاسفة المذهب الفردي ، في أنها تقوم بوظائف ثلاث رئيسة، وهي : الدفاع ، والأمن ، والقضاء . ولا يتصور أو لا يسمح هؤلاء الفلاسفة بأن يكون للدولة دور اقتصادي . ولهذا تسمى الدولة عندهم بالدولة الحارسة ، وفي مقابل المذاهب الفردية ، نجد المذاهب الجماعية ، وهي تقر تدخل الدولة بكل صور التدخل .(1/115)
أين يمكن أن نجد الموقف الإسلامي بخصوص هذا الموضوع ؟ مما سبق من الأدلة نستنتج أن فكرة الدولة الحارسة هي فكرة مستبعدة كلية من المنهج الإسلامي. إن ولي الأمر في التصور الإسلامي منوط به مسؤوليات متعددة ، ومنها مسؤوليات اقتصادية . لنعيد النظر من جديد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم ، وخلتهم ، وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته ، وخلته ، وفقره ، يوم القيامة )) . إن نوع المسؤولية التي يشير إليها هذا الحديث هي مسؤولية اقتصادية . بل إنها تقع في نطاق ما يسميه الاقتصاديون باقتصاديات التنمية ، ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولي الأمر مسؤولاً عن وضع خطة اقتصادية للتنمية وللقضاء على التخلف . وهكذا لا تكون الدولة في المجتمع الإسلامي دولة حارسة ، وإنما هي دولة عليها مسؤوليات اقتصادية . وكذلك ما يشير إليه قول عمر رضي الله عنه : لو أن شاة عثرت على شاطئ نهر الفرات لسئلت عنها ، ، وأن المسؤولية التي يلزم عمر نفسه بها ، باعتباره حاكماً للمسلمين ، هي مسؤولية اقتصادية . وأيضا رأي الإمام الماوردي : إن من مسؤولية الحاكم عمارة البلدان ، باعتماد مصالحها ، وتهذيب سبلها ومسالكها ، وما يقرره المارودري هنا كأحد مسؤوليات الحاكم الإسلامي يتعلق بالمسؤوليات الاقتصادية .
وهكذا فإن الدولة في المنهج الإسلامي ليست دولة حارسة ، وإنما هي دولة عليها مسؤوليات اقتصادية ومن هذه المسؤوليات توجيه أو تخطيط الاستثمار ، وسوف تتحدد حدود تدخل الدولة في هذا الأمر بما تحدده مصلحة المسلمين : إذا كان الأمر يعالج بواسطة التدخل غير المباشر ، فإن هذا يكفي إسلامياً ، أما إذا كان العلاج لا يكون إلا بالتدخل المباشر ، فإن هذا يستلزم إسلامياً .(1/116)
ثالثا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه أو تخطيط الاستثمار على توجيه التنمية بهدف إعادة توزيع الدخل . ويمثل هذا ، البعد الثالث في المنهج الإسلامي، لتوجيه أو تخطيط الاستثمار .
لقد اعتمدت في عرض هذا البعد الثالث على كثير من الأدلة الإسلامية .
وسوف أحاول أن أستعيد بعضها ، وأنا في مجال استنتاج التصور الإسلامي العام، لتوجيه وتخطيط الاستثمار عرضت أولا أدلة عن أنواع من الأموال التي دخلت فيما يمكن أن نسميه بالمصطلح الحديث ملكية الدولة ، وهي تشمل أرض الحمى البقيع ، وأراض العراق، على سبيل المثال ، وقد لفت نظري تعليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمنع توزيع أراضي العراق على الفاتحين :
إذا وزعتها الآن فماذا يبقى لمن يجيء بعدنا ؟ ، أستنتج من هذا التعليل أن عمر استخدام الملكية العامة لعمل نوع من إعادة توزيع الثروات والدخول ، هذا النوع لم يعرف ، ولم يطبق في جميع النظم الاقتصادية الوضعية ، وهو ما أسميه إعادة التوزيع بين الأجيال . لقد استخدم عمر رضي الله عنه ما دخل في الملكية العامة لضمان دخل للأجيال ، التي تأتي بعده ، وإذا لم يكن هذا إعادة توزع للثروات والدخول ، فماذا يكون إذن ؟ إذا أردنا أن نفهم جيداً عظمة هذا المنهج الإسلامي ، فلنقابله بما يحدث لنا الآن . إن الجيل الذي سبقنا بسنوات تعد على أصابع اليد الواحدة ، وأتيحت له فرض الامتلاك بسبب مشروع ، هذا الجيل يطحن كل الأجيال التي تلته في الدرجة الأولى وبوسائل اقتصادية . إنه لو طبق المنهج الإسلامي في إعادة توزيع الثروات بين الأجيال لما حدث ما يحدث الآن.
عرضت بعد ذلك أدلة أخرى عن أموال دخلت فيما نسميه بالمصطلح الحديث ملكية الدولة، أو الملكية العامة وتمثل هذا في فيىء بني النضير ، وفي أموال الحمى . وقد لفت نظري الأمر الذي أصدره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعامله على الحمى ، إذ قال له:
(((1/117)
اضمم جناحيك على المسلمين ، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة ، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف )) ، ويعني عمر بذلك أن تستثمر الأموال العامة ، بحيث تعطى الأولوية لعائد استثمارها لأصحاب الدخل الأقل : (( رب الصريمة ورب الغنيمة )) ، وهذا ما نسميه في المصطلحات الاقتصادية المعاصرة بإعادة توزيع الثروات والدخول .
إن ما فعله عمر رضي الله عنه ، هو توجيه وتخطيط للاستثمار ، بحيث يعمل على إعادة توزيع الثروات والدخول لصالح الفئات الأقل دخلاً . ويعني ما عرضته عن هذا البعد الثالث من وجهة النظر الاقتصادية ، أن توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي يستهدف إعادة توزيع الثروات والدخول .
يعرف الذين يدرسون الاقتصاد الوضعي، أن هناك عدد من النماذج التخطيطية قد صاحب الاهتمام بالتنمية الاقتصادية الاهتمام بهذه النماذج .
وتميزت النماذج التخطيطية ، التي قدمت في المرحلة الأولى، وهي المرحلة التي تغطي الأربعينات والخمسينات وبضع سنين من الستينات ، تميزت النماذج بأنها اعتبرت متغير الإنتاج وحده ، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بمتغير الدخل القومي ، أو متوسط دخل الفرد .
وقد كشفت الدراسة التطبيقية عن أن التنمية الاقتصادية قد صحبتها آثار توزيعية
تدميرية (1 ) . وقد قيل : إن من أسباب هذه النتائج سيطرة مثل النماذج السابقة ، والتي اعتبرت المتغير الإنتاجي، وأهملت المتغير التوزيعي .
وفي السبعينات ، قدمت نماذج تخطيطية جديدة ، وقد اعتبرت مع المتغير الإنتاجي المتغير التوزيعي . ويستهدف بهذه النماذج علاج الآثار التوزيعية السيئة ، التي صاحبت أو ترتبت على النماذج الأولى .(1/118)
لنرجع إلى المنهج الإسلامي لتوجيه أو تخطيط الاستثمار ، ولنستكشف المعنى الاقتصادي للبعد الثلث الذي قدمته . إن المعنى الاقتصادي الذي يستنتج من هذا البعد هو أن توجيه أو تخطيط الاستثمار، يجب أن يستهدف بجانب التنمية إحداث إعادة توزيع لصالح أصحاب الدخل الأقل . أو بتعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( رب الغنيمة ورب الصريمة )) . ولا أريد أن أقول : إن الاقتصاد الإسلامي بهذا يماثل آخر الاتجاهات في النماذج التخطيطية ، حيث إن ذلك لا ينبغي أن يكون المنهج في دراسة وعرض الاقتصاد الإسلامي ، إذ ينبغي عرضه كاقتصاد متميز وله ذاتيته المستقلة.
النظام المالي الإسلامي
تمهيد:
خصص هذا الفصل للتعريف بالنظام المالي الإسلامي ، وهذا الموضوع يقابله في الفكر الاقتصادي الوضعي العلم المعروف باسم: المالية العامة .
وهو العلم الذي يبحث في إيرادات الدولة ونفقاتها ، ويمتد إلى دراسة ما يعرف باسم الميزانية العامة ، حيث يجمع بين الإيرادات والنفقات .
وما أقدمه في هذا الفصل عن النظام المالي الإسلامي، ناقشت فيه موضوعات أرى أنه تعطي تصوراً إجمالياً عن الموضوع ، وقد اتجهت في الدراسة إلى تقديم تحليل مالي واقتصادي للموضوعات التي ناقشتها ، وأما فقه هذه الموضوعات ، فلم أخصصه بفقرة مستقلة على النحو الذي يظهر في بعض فصول هذا الكتاب، وذلك لأن هذا الفقه معروف ، حيث يتدخل فيه نظام الزكاة والخراج والعشور (المكوس ) والتوظيف المقابل للضرائب في المالية العامة .
لذلك فالموضوعات التي بحثتها في هذا الفصل بناء على هذا المنهج الذي أشرت إليه هي :
1- المصطلح الملائم للنظام المالي الإسلامي . وقد أجريت مناقشة واسعة نسبيّاً عن هذا الموضوع ، واستهدفت من ذلك إبراز طبيعة النظام المالي الإسلامي وتكييف عناصره إيراداً وإنفاقاً .(1/119)
2- إيرادات النظام المالي الإسلامي ، وما قدمته عن هذا الموضوع جاء في صورة دارسة تحليلية (مالية ) ، وما بحث في هذه الفقرة يخدم التصنيف (المالي ) للإيرادات في النظام المالي الإسلامي .
3- وظائف النظام الإسلامي . كان الملائم بعد دراسة الإيرادات تقديم دراسة عن النفقات ، ولكن رأيت تقديمها من خلال بحث وظائف النظام المالي الإسلامي ، ومن خلال هذه الوظائف بينت بإجمال النفقات التي تظهر في النظام المالي الإسلامي ، مع بيان الوظائف التي تترتب عليها .
4- إجراءات النظام المالي الإسلامي . هذا الموضوع له طابعه ، وهو مما يظهر فيه التطور ، وقد رأيت أن أعرضه من خلال أحد كتب الفقه المالي الرئيسة ، واخترت كتاب الأموال لأبى عبيد ، فله أهميته في هذا المجال .
والسبب الذي من أجله اخترت هذا المنهج ، لبحث هذا الموضوع ، هو إظهار أن هذا الموضوع الفني اهتم به الفقهاء قديما ، وما قدمته عن هذا الموضوع يبين أهمية ما قالوه في هذا الصدد .
5- الحسبة . بحث هذا الموضوع في إطار النظام المالي قد يتوقف معه ، لأن النظام المالي يتجه إلى دراسة الإيرادات والنفقات ، وما يتفرع عن ذلك . ومع ذلك فإن بحثي لهذا الموضوع له مبرره . ذلك أن التعرف على ما قاله الفقهاء عن الحسبة ، وهي تمثل الدواء الرقابي للدولة ، يبين أنهم أدخلوا عناصر من النظام المالي . وهذا التكييف للدور الرقابي للدولة مما يتميز به الاقتصاد الإسلامي . وقد اخترت لبحث هذا الموضوع أن أعرضه من خلال أحد كتب الفقه المعتمدة في ذلك ، وهو كتاب الأحكام السلطانية للماوردي .(1/120)
6- من أخلاق النظام المالي الإسلامي . الحديث عن الاقتصاد الإسلامي ، نربطه دائما بالأخلاق ، والدراسات التي احتوت على مناقشة لهذا الموضوع ركزت الحديث على الأخلاق من قبل الأفراد ، ولتقريب هذا المعنى يمكن القول : الأخلاق في اقتصاد القطاع الخاص . في إطار عرضي للنظام المالي الإسلامي ، أعطيت أهمية لبحث هذا الموضوع ، لأبين أن الإسلام نظم أيضاً أخلاقيات الدولة في أداء دورها الاقتصادي . والمنهج الذي اخترته لبحث هذا الموضوع ، هو أن أعرضه في إطار أحد كتب الفقه المعتمدة في ذلك ، وهو كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف . وسبب اختياري هذا الكتب ، أن أبا يوسف وضعه بناء على طلب من هارون الرشيد الخليفة العباسي ، أي أنه وضع ليكون سياسة مالية للدولة الإسلامية ، وقد أعطى أبو يوسف اهتماماً للبعد الأخلاقي الذي يغلف النظام المالي الإسلامي .
المبحث الأول
المصطلح الملائم للنظام المالي الإسلامي
الموضوع الذي ينبغي أن نبدأ به البحث في النظام المالي الإسلامي هو المصطلح الذي يتلاءم مع التشريعات المالية والاقتصادية ، بحيث نسمي به هذا الفرع من فروع الاقتصاد الوضعي وهو : المالية العامة وتعني كلمة العامة في المصطلح أن هذا المال يقابل المالية الخاصة، فالدولة تمتلك هذا المال ، وتتخذ بشأنه قرارات استخدامه وتوزيعه على صور الإنفاقات المختلفة ، وعلى هذا النحو تكون كلمة (( عامة )) هي بمثابة تكييف وتحديد لطبيعة هذا المال .
النظام المالي الإسلامي يقابل المالية العامة ، هل يتلاءم مع طبيعته أن نسميه المالية العامة الإسلامية ؟؟ . إن تحليل النظام المالي الإسلامي الذي تكون الدولة طرفاً فيه توجد به عناصر، تجعل طبيعته لا تتفق معها كلمة (( عامة )) ، ومن هذه العناصر :(1/121)
أولاً ـ المالية العامة محكومة بقاعدة عدم تخصيص الإيرادات . وتعني هذه القاعدة أن الدولة وهي تقوم بتحصيل الإيرادات من الأفراد بأنواعها المتعددة تجمعها بحيث لا تكون هذه الإيرادات مخصصة لإنفاق معين ، وإنما تجمعها أولا عامة ، وبعد ذلك تبدأ الدولة بواسطة أجهزتها الكثيرة في توزيع هذه الإيرادات على أنواع النفقات التي تقوم بها . ولذلك فإن كلمة (( عامة )) تتضمن إعطاء الحرية ( المطلقة ) للدولة في تخصيص الإيرادات .
هذا المعنى المتضمن في مصطلح (( عامة )) يجعلنا نتوقف أمام استخدامه في المالية الإسلامية، التي تكون الدولة طرفاً فيها ، ذلك أن تحليل عناصر الإيرادات في النظام المالي الإسلامي يبين أنها في إجمالياتها مخصصة ، ويعني هذا أن المالية الإسلامية تخضع بإجمال لقاعدة تخصيص الإيرادات . وأعرض بعض العناصر في المالية الإسلامية، والتي تدلل على الرأي الذي أقترحه:
1- الزكاة ، وهي عماد النظام المالي الإسلامي كلها تخضع لقاعدة تخصيص الإيرادات ، بمعنى أنه عند جمعها يكون محدداً أوجه صرفها ، ولا يترك أمر صرفها بعد جمعها لقرارات أجهزة الدولة .
2- التوظيف في النظام المالي ، وهو ما يتشابه مع الضريبة جزئيّاً ، هذا التوظيف ، وعلى النحو الذي بحثه الفقهاء وأجازوه يخضع لقاعدة التخصيص، فالحاكم لا يوظف على القادرين ماليّاً إلا لحاجة حقيقية ومحددة ، وليس للحاكم أن يوظف بمعنى يفرض ضرائب ، ثم بعد ذلك ينظر في أمر تخصيصها على أوجه الإنفاق التي تقوم بها الدولة .
3- بعض عناصر النظام المالي الإسلامي قد لا تكون خاضعة لقاعدة التخصيص ، بمعناها الذي حدد؛ مثل الخراج والالتزامات المالية الواقعة على غير المسلمين ، إلا أن النظر في هذه العناصر يبين أنها مخصصة على نحو إجمالي ، فهذه الإيرادات تنفق في مصالح المجتمع . والفقهاء يحددون هذه المصالح على نحو فيه تفصيل ودقة .(1/122)
ثانياً: كلمة (( عامة )) الواردة في مصطلح المالية العامة لها معناها من حيث الملكية ، إنها تعني أن هذا الأموال مملوكة ملكية عامة ، وهذا في مقابل الملكية الخاصة ، أي أن هذه الأموال تصبح مملوكة للدولة . في النظام المالي الإسلامي ، ملكية الدولة لهذه الإيرادات فيها توقف ، وأعرض في هذا الصدد العناصر التالية للتدليل على ذلك :
1- الزكاة وهي عماد النظام المالي لا تدخل الملكية العامة ، بمعنى لا تمتلكها الدولة ، وإنما يد الدولة عليها يد واسطة ، تمر عليها الزكاة من الأغنياء إلى المستحقين للزكاة . ولهذا لا يقبل أن تسمى الزكاة مالية عامة ، على أساس أن الدولة امتلكتها ، فأصبحت ملكية عامة ، بل إن الزكاة لا تدخل في ميزانية الدولة ، وإنما يكون لها ميزانيتها المستقلة.
2- بحث الفقهاء موضوع دفع الزكاة إلى الأمراء ، وقد اختلفوا في ذلك ، فمن الفقهاء من يرى أنها تدفع إليهم ، ولكن توجد أيضاً آراء لها أهميتها : أنها لا تدفع إليهم . وهذا الاختلاف الفقهي حول هذا الموضوع يؤكد الرأي الذي نظهره هنا ، وهو أن الزكاة لا تدخل في ملكية الدولة ، أي أنها لا تكون ملكية عامة .(1/123)
3- أشير في هذا الصدد إلى حوار ، أرى له دلالة واتصالا ، واتصاله فيما نتكلم عنه ، وهو طبيعة يد الدولة في النظام المالي الإسلامي ، وهو الحوار الذي جرى بين معاوية بن أبي سفيان ، وأبي ذر الغفاري . كان معاوية يقول عن المال الذي دخل في حوزة الدولة : مال الله ، فاعترض عليه أبو ذر حين سمع ذلك وقال له : يا معاوية ما يدعوك لأن تسمي مال المسلمين مال الله ؟ قال معاوية: يا أبا ذر ألسنا عبيد الله والمال ماله ؟ فرد أبو ذر وقال: لا تقله . قال معاوية: سأقول: مال المسلمين . هذا الحوار يدل على أن التسمية ليست مسألة شكلية وإنما هي تكييف سياسي واقتصادي . فإذا كان المسلمون الأوائل ممثلين في أبي ذر ، رفضوا التسمية بمال الله ، ورأوا أن تسمى باسم مال المسلمين ، فإن هذا يدل على أنها ليست مملوكة الدولة ، وإنما لجماعة المسلمين ، والتكييف على هذا النحو له معطياته ، فيمن يتخذ القرار ، وفيمن يراقب ، وغير ذلك مما يدخل في هذا الموضوع .
ثالثاً : مصطلح (( عامة )) في المالية العامة يشير إلى نوع معين من المركزية ، أي جعل الأمر عل مستوى الدولة ككل . وتطبيق هذا على موضوعنا يعني أن الإيرادات كلها تجمع في الخزانة العامة للدولة ، وبعد ذلك توزع هذه الإيرادات كنفقات عامة .
هذا الأمر على هذا النحو ، أي تجميع الإيرادات وجعلها عامة ، وإنفاقها على أنها عامة لا ينطبق على كل عناصر النظام المالي الإسلامي . إن الزكاة التي هي عماد النظام المالي الإسلامي لها طبيعة محلية ، ويمكن أن تتسع دائرة إنفاقها فتشمل المجتمع الإسلامي كله إلا أنها تبدأ محلية .
وليست الزكاة هي وحدها التي يظهر فيها عنصر المحلية ، وإنما الالتزامات المالية الإسلامية الأخرى فيها هذه الخاصية ؛ أنها تبدأ محلية ، ثم بإعمال مبدأ التكافل الاجتماعي، والمسؤولية المشركة بين المسلمين كافة ، تتسع دائرتها بحيث يمكن أن تشمل المجتمع الإسلامي كله .(1/124)
والتشريع المالي الإسلامي من هذا البعد له تميزه الواضع، ذلك أنه يبدأ بوحداته الصغيرة من حيث المسؤولية ، ثم تتسع هذه المسؤولية إلى مستوى أكبر عند الحاجة إلى ذلك .
بناء على هذه المناقشة حول المصطلح الملائم استخدامه في المالية الإسلامية التي تكون الدولة طرفاً فيها ، نجد أن مصطلح المالية العامة ، وهو المصطلح المستخدم في الاقتصاد الوضعي ، لا يتلاءم مع المالية الإسلامية .
وذلك لأن طبيعة المالية الإسلامية وتكييفها ، لا تتفق مع التكييف الذي يتضمنه مصطلح (( عامة )) . ولهذا فالاقتراح هو استخدام مصطلح النظام المالي الإسلامي في مقابل المالية العامة في الاقتصاد الوضعي .(1/125)
وفي نهاية بحث هذا الموضوع المتعلق بالمصطلحات ، فإنه تلزم الإشارة إلى أن أمر المصطلح ليس أمراً شكليّاً ، وإنما هو تكييف شرعي ، له معطياته التطبيقية ، وأن تمسكنا برفض وصف ((عامة )) تستهدف أن نحافظ للنظام المالي الإسلامي على غاياته ومقاصده. وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يفهم ذلك فهّماً دقيقاً. والذين يدق عليهم فهم ما فهمه بدقة أبو ذر أذكرهم لهم حقيقة مالية معاصرة: ليست المشكلة في كثير من الدول حجم الإيرادات أو حجم النفقات ، فالدولة الحديثة تملك من وسائل الإجبار ومن المصادر ما تحصل به على ما تشاء من أموال ، وإنما القضية هي إدارة هذه الإيرادات والنفقات ، والانحراف كله الذي نشكو منه ينحصر في هذا الجانب ، وسوء الإدارة هو وليد التكييف الخاطئ ، لقد قال الاقتصاديون: إيرادات عامة ونفقات عامة ، فأطلقوا بهذا يد السلطة في الأموال ، التي وضعت تحت تصرفها . وتصحيح انحرافات السلطة في سلوكها المالي لن يتأتى إلا إذا أعدنا تكييف طبيعة هذه الأموال . ولا أبالغ إذ قلت : إن التكييف الإسلامي في هذا الصدد هو التكييف المعياري ، فهو التكييف الذي يجعل الإيرادات ( في مجملها ) عند تحصيلها ، ولذلك لا تستطيع السلطة التنفيذية أن تنفق في غير الغرض الذي جمع من أجله الإيراد .(1/126)
وزيادة في إبراز هذا المعنى ، وتأكيده ، أشير إلى أنه في المالية العامة قرر فصل الإيرادات عن النفقات ، وإخضاع الإيرادات لقاعدة عدم التخصيص وذلك لإعطاء الحرية للسلطات المالية أيّاً كان مستواها، ولعدم إخضاعها عند البت في قرارات الإنفاق لأي التزامات تقررت عند تحصيل الإيرادات . وما أراه إسلاميّاً ، أن هذا التسبيب مرفوض ، إذ كيف تعطى الحرية المطلقة للسلطات المالية للتصرف كما تشاء ، وكما ترى ، في الإيرادات التي هي في الواقع استقطاع من دخول الأفراد. ولهذا فإذا كان النظام المالي الإسلامي يخضع لقاعدة تخصيص الإيرادات فإن هذا مما يعمل على ترشيد القرار المالي الذي تتخذه السلطات المالية .
إننا نستطيع أن نتبين أهمية ما يقرره الإسلام ، وذلك إذ نظرنا إلى بعض الانتقادات التي توجه للمسؤولين الماليين ، هذا الإرهاق والعنت في فرض ضرائب متعددة ، وهذا الإسراف والتبديد في النفقات ، إن هذا كله يمكن ربطه بالقاعدة التي توجد في المالية العامة من حيث عدم تخصيص الإيرادات ، فالمسؤول المالي يجد نفسه غير ملتزم إلا بما يراه .
قد يرد في هذا الصدد القول: بأن السلطات المالية في الدول الحديثة تتصرف على أساس الميزانية العامة للدولة، وهي معتمدة من النواب المنتخبين في المجالس النيابية. ولكن ما أراه أنه حتى مع وجود ذلك ، فإنه لم يغير من الانتقادات التي وجهت ، وهي الإسراف في فرض الضرائب والإسراف في الإنفاق .
يبقى في هذه المناقشة أن نشير إلى معنى برز مما سبق وهو أن النظام المالي الإسلامي من حيث تكييفه وطبيعته وهو الذي ظهر واضحاً من مناقشة ما سبق ، أن لجماعة المسلمين إشرافاً مباشراً على السلوك المالي للدولة ، إيراداً ونفقة .
المبحث الثاني
إيرادات النظام المالي الإسلامي ( دراسة تحليلية )(1/127)
نحاول في هذه الفقرة التعريف بإيرادات النظام الإسلامي. وما أراه ملائماً لعرض هذا الموضوع في دراستنا هو ألا ندخل في دراسة فقهية واسعة، ذلك أن فقه هذه الإيرادات معروف ، والكتابات المتاحة عنه كثيرة ، سواء في كتب الفقه القديمة ، أو في الكتابات الحديثة ، وإنما ما أراه ملائماً لدراستنا هو أن نشير إلى عناصر هذه الإيرادات مع تضمين ذلك رؤية تحليلية مالية .
ونعني بالتحليل المالي أن نناقش ما يتعلق بهذه الإيرادات من حيث الوعاء الذي تقع عليه ، ومن حيث الدورية أو عدم الدورية ، وغير ذلك مما هو معروف في دراسة النظم المالية .
عناصر في إيرادات النظام المالي الإسلامي
1- الإيرادات التي تنظم بها مالية الدولة الإسلامية تشمل الإيرادات التي تعرف في المالية العامة تحت مصطلح الضرائب والرسوم ، وتشمل نوعاً آخر من الإيرادات هي إيرادات الدولة من ممتلكاتها . من أمثلة النوع الأول: الزكاة ، والخراج . ومن أمثلة النوع الثاني
( إيرادات الدولة من ممتلكاتها ): إيرادها من الأرض المعروفة باسم أرض السواد . والمعنى الاقتصادي لظهور نوعي الإيرادات في التنظيم المالي الإسلامي هو أن الاقتصاد الإسلامي من حيث طبيعته المذهبية ليس من قبيل الاقتصاديات الفردية ، وليس من قبيل اقتصاديات التدخل أو التخطيط .
2- وضع العشور ( على غير المسلمين ) ضمن الإيرادات المالية للدولة الإسلامية ، وهي تقابل حديثاً الرسوم أو الضرائب الجمركية . ويكشف ما قاله الفقهاء، عن تنظيم متقدم لهذا النوع من الالتزامات المالية ؛ فالمال الذي يخضع لفرض العشور عليه هو ما يكون للتجارة، وهذا مبدأ لقانون جمركي يعكس تنظيماً متقدماً ، وفي المناقشة التي يذكرها الفقهاء عن ذلك ما يسمح أن نبحث موضوع منع ازدواج الضرائب الجمركية ، وذلك فيما ذكروه عن منع خضوع المال نفسه للضريبة الجمركية مرتين .(1/128)
3- تحليل عناصر الإيرادات يبين أنه لا يوجد مال يعفى من الخضوع للالتزامات المالية في الاقتصاد الإسلامي ، وأيضاً لا يوجد نشاط اقتصادي مميز بعدم الدخول ، أو المساهمة في وعاء مالية الدولة الإسلامية ، وإذا ثبت هذا فإن مما يثبت أيضاً اختلاف المعدل الذي يقتطع به من كل مال ، ويكشف التحليل الاقتصادي ، أن اختلاف المعدل يربط إما بالتفاوت في التكلفة الخاصة بكل مال ، أو نشاط اقتصادي ، وإما بصفة خاصة بهذا المال. ومثال النوع الأخير : فرض الخمس على الركاز .
4- يدخل في الوعاء المالي للدولة الإسلامية: المسلمون ، ويدخل معهم أيضاً غير المسلمين ، الذين يقيمون إقامة مشروعة في الأراضي الإسلامية .
ويشير ذلك إلى درجة المساواة الاقتصادية في الدولة الإسلامية وهذا برغم اختلاف المعدل الذي يفرض به الالتزام المالي أو اختلاف مسمى هذا الالتزام .
5- ضريبة الرؤوس ضريبة شبه غائبة في النظام المالي الإسلامي ، بل لا نتعدى الحقيقة إذا قلنا: إنها غائبة ، لا تفرض ضريبة الرأس على المسلم ، وما يقع عليه من التزامات فإنما يرد على ماله ، ولا يمكن أن نعد زكاة الفطر من قبيل الضريبة على الرؤوس . وضريبة الرؤوس على غير المسلمين تتمثل في الجزية ، ويتبين من تحليل هذا الإلزام المالي أن الجزية تفرض على غير المسلمين ، بشروطها ، مقابل الزكاة التي فرضت على المسلمين ، والزكاة هي التزام يرد على المال ، وليس على الشخص ، وكأن الجزية بهذا هي إلزام يقع على مال . وبجانب ذلك فإن في التشريع الإسلامي للجزية جوانب أخرى تجعل الضريبة على الرأس فكرة يمكن أن تغيب في الاقتصاد الإسلامي ، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، استبدل الجزية عن نصارى بني تغلب لأسباب ارتآها وضاعف عليهم الصدقة، أي أنه أسقط ضريبة الرأس واستبدلها بالتزام يقع على المال(1 ).
المبحث الثالث
وظائف النظام المالي الإسلامي(1/129)
تطورت المالية العامة من حيث الوظائف التي تؤديها، فقد اقتصرت وظائفها في البداية على تمويل وظائف الدولة الثلاث، وهي الدفاع والأمن والقضاء، وكان ذلك متلائماً مع فكرة الدولة الحارسة ، التي لا تتدخل في الاقتصاد. أما في القرن العشرين وخاصة منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينيات فقد تطورت وظائف المالية تطوراً واسعاً يتلاءم مع فكرة الدولة المتدخلة في الاقتصاد .وأحدث الاتجاهات في تحديد الوظائف التي تؤديها الدولة من خلال المالية العامة يتأسس على أن الدولة تؤدي ثلاث وظائف .
- وظيفة تخصيص الموارد.
- وظيفة إعادة توزيع الدخل .
- وظيفة الاستقرار والنمو الاقتصادي .
عندما نتكلم عن النظام المالي الإسلامي فإنه يلزم أن يكون من بين الموضوعات ، التي تعطى لها أهمية ، تحديد الوظائف التي يؤديها النظام المالي الإسلامي ، وما أراه بشأن تحديد هذه الوظائف ، هو أن ندخل إليها من القاعدة التي سبق عرضها في الفرع السابق ، وهي قاعدة تخصيص الإيرادات ، وهي القاعدة التي تحكم النظام المالي الإسلامي . وذلك لأن تخصيص الإيرادات تتضمن الأغراض التي تتحقق من ذلك ، أي يتضمن تحديد وظائف النظام المالي الإسلامي .
تحليل عناصر النظام المالي الإسلامي ، وهي الإيرادات والنفقات يبين أن الوظائف التي تؤدي بواسطة هذا النظام هي :
أولاً: وظيفة الضمان الاجتماعي ، ويظهر في هذه الوظيفة العناصر التالية :
1- ضمان حد أدنى من الدخل للذين عجزوا بوسائلهم الخاصة من حيث العمل والملكية عن توفير هذا الحد . وتظهر العناصر الآتية :
أ - أصحاب الحاجة من الفقراء والمساكين . وبالنسبة لهذه المجموعة يعمل الإسلام على توفير حد أدنى من الدخول لهذا النوع من أصحاب الحاجة .(1/130)
ب - أصحاب الحاجة بسبب الرق ( عندما كان قائما ) ، ومن الفقهاء المحدثين من يرى أن سهم (( في الرقاب )) يمكن أن يصرف لأسرى المسلمين ، كما يمكن صرفه للأقليات الإسلامية ، التي تقع تحت حصار الأغلبيات غير المسلمة ، التي تعيش معها .
جـ ـ الغارمون ومنهم الذين استدانو لإصلاح ذات البين ، فيعطون في إطار النظام المالي الإسلامي تشجيعاً لهذا النوع من الأعمال ، الذي يحفظ الوئام للمجتمع الإسلامي .
دـ مجموعة من العناصر الأخرى تظهر في هذه الحقيقة ، ومنها الإعانة على التعليم ، والإعانة على الزواج ، وغير ذلك من الأعمال ذات الطابع الاجتماعي . ويمكن الوقوف على تفصيل ذلك بدراسة حالة المجتمع الإسلامي في عهد عمر بن عبد العزيز ، عندما جمعت الزكاة ولم يوجد مستحقين لها فوجهها عمر إلى إنفاقات جديدة .
2- يتضمن أداء هذه الوظيفة إحداث نوع من التوازن الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي .
3- تمد مظلة التأمين في هذه الوظيفة فتشمل غير المسلمين ، الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية .
4- هذه هي الوظيفة الأولى للمالية الإسلامية ، والوظيفة التي تناظرها في المالية العامة ، هي وظيفة إعادة التوزيع ، ويتبين من مقارنة الوظيفتين أن الأداء الاجتماعي للوظيفة الإسلامية أكفأ ، وذلك من حيث العناصر التي تشملها ، إذ أنها تتضمن عناصر ليس لها نظير في المالية العامة ، في الاقتصاد الوضعي .
وتظهر كفاءة الوظيفة الإسلامية في الضمان الاجتماعي أيضاً من حيث إن مرتكزها يتحدد في علاج الحاجة ، بينما نظيرها في المالية العامة ، يدور حول فكرة إعادة توزيع الدخل والثروة ، وهي فكرة مرتبطة بالصراع كما أنها تتضمن الاعتداء على الملكية الخاصة .
ثانيا: وظيفة المصالح العامة ؛ ويدخل في هذه الوظيفة كل ما يكون ضرورياً للمجتمع الإسلامي ، ومن ذلك ما يلزم للدفاع والأمن ، ويدخل أيضاً ما يلزم للتنمية ، إذا كان المجتمع الإسلامي في حالة تخلف .(1/131)
ثالثا: وظيفة مواجهة الحالات الطارئة وغير العادية مثل المجاعات والحروب وغير ذلك مما ذكره الفقهاء . وتمول هذه الوظيفة في النظام المالي الإسلامي ، بما يكون موجوداً في بيت المال ، فإذا لم يكن به فللحاكم أن يوظف على الأغنياء بقدر ما يزيل الحاجة التي وظف لها ( التوظيف تناظره الضرائب في المالية العامة ) .
رابعا: وظيفة تحقيق التوازن والاستقرار بين أجيال الأمة الإسلامية . ومن الموارد التي استخدمت لأداء هذه الوظيفة أرض السواد ، وهو ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان من أقواله في ذلك : إذا وزعت هذه الأرض فماذا يبقى لمن يجيء بعدكم .
خامسا: وظيفة تخصيص الموارد الاقتصادية ؛ وهي وظيفة تبحث في توزيع الموارد الاقتصادية المتاحة في المجتمع على الأنشطة الاقتصادية ، التي تلزم له ، كما يدخل فيها أيضا توزيع الموارد بين القطاعين العام والخاص . وهذه الوظيفة ، عمل الإسلام على تأديتها بواسطة الأموال التي تمتلكها الدولة ، ومنها :
1- أرضى الحمى .
2- الأرض المفتوحة .
3- المناجم والمعادن .
4- المرافق الأساسية الضرورية للمجتمع ، والتي يشير إليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( الناس شركاء في ثلاثة ـ الماء والكلأ والنار )).
وعند المقابلة بين هذه الوظيفة في النظام المالي الإسلامي ،وفي المالية العامة ، يتبين أن أداءها في الإسلام أكفأ لأن الدولة تؤديها من خلال ملكيتها ، بينما في المالية العامة في النظام الرأسمالي تحاول الدولة تأديتها بالتدخل في الأثمان ، وهذا النوع من التدخل قد يحقق هذه الوظيفة ، كما أنه قد لا يحققها .
المبحث الرابع
إجراءات في النظام المالي الإسلامي(1/132)
من الموضوعات التي تعطى لها أهمية عند تنظيم ما يتعلق بمالية الدولة ، الإجراءات التي يتم بها تحصيل الإيرادات وتقديرها ، وكذا إنفاقها . ولا شك أن بعض الإجراءات من الأمور التي يظهر فيها التطور ، وطبيعة المؤسسات التي توجد في الدولة ؛ ويعني هذا أن الإجراءات التي تنظم بها مالية الدولة الإسلامية تستفيد من التطور الذي يكون عليه المجتمع ، بما في ذلك التطور في المؤسسات . ومع أن هذا الموضوع مما يظهر فيه التطور بوضوح إلا أن الفقهاء الذين كتبوا عن النظام المالي الإسلامي قد تضمنت مناقشتهم له قواعد وإرشادات تفيد في وضع إجراءات منظمة للمالية الإسلامية .
كتاب الأموال للإمام أبي عبيد هو من أوسع الكتب في مجال النظام المالي الإسلامي ، وقيل عنه : (( إنه خير ما ألف في الفقه المالي الإسلامي وأجوده ، وبه كل ما يتعلق بالنظام المالي في الإسلام )) (1 ) . ولذلك أقترح أن نعرض لبعض إجراءات النظام المالي الإسلامي بالإحالة إلى هذا الكتاب .
(1 ) ناقش الإمام أبو عبيد بإسهاب نسبي فرض الزكاة على ما أسماه الفائدة والولادات والأرباح (ص 372 / 7 ) . ويمكن أن يناقش الموضوع بعبارة أخرى : فإذا كان هناك مال بدأ به الحول وهو ما يسمى أصل المال ، ثم حدثت زيادات على هذا المال من الولادات والأرباح ، هذه واحدة من قضايا الزكاة ، وهي في التشريع المالي الوضعي واحدة من قضايا الضريبة . وهذا الموضوع في الإطار الذي عرض به في كتاب الأموال يثري البحث فيما يسمى فرض الضريبة على الأرباح وما يشبهها من العناصر الأخرى .
(2 ) عند بحث زكاة التجارات أثار أبو عبيد موضوع التقويم النقدي ، وببحث هذا الموضوع ، فإنه يسجل للنظام المالي الإسلامي كفاءته بسبب ربط النصاب فيه والمعدل إلى وحدات عينية ، وإباحته التقويم النقدي .
((1/133)
3 ) ينقل أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد الباري قوله : كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب ، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ،ثم حسبها ، شاهدها وغائبها ، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب (ص 384 ) . وبإقرار هذا المبدأ نواجه واحدة من المشاكل في النظام المالي المعاصر ، وهي المشكلة المعروفة باسم التهرب الضريبي ، تحت أي اسم وبأية وسيلة ، ومنها تهريب الثروات إلى الخارج ، التي هي ظاهرة منتشرة في البلاد المتخلفة على وجه الخصوص ، ويدخل في ذلك عالمنا الإسلامي.
(4 ) أفرد أبو عبيد باباً مستقلاً لبحث الصدقة في الحلي ، من الذهب والفضة وما فيها من الاختلاف (ص 397 ) . والموضوع من منظور الإيرادات له أهميته البحثية والتطبيقية . ومما يجدر ذكره أن أبا عبيد يأخذ بوجهة النظر التي ترى فرض الزكاة على الحلي
( ص403 ) ، ويفتح هذا الباب المناقشة حول فرض الزكاة على كل ما يتخذ كحلي ، حلي الأشياء ، مثل التحف ذات القيمة العالية في بعض البيوت .
(5 ) أفرد المصنف باباً لبحث الصدقة في التجارات والديون وما يجب فيها وما لا يجب . والذي يعنينا هنا بحث فرض الزكاة على الديون . ويتمثل التسجيل الذي يثبته المصنف ببحث ذلك في امتداد الكتب ، التي كتبت عن النظام المالي الإسلامي ، إلى مثل هذه التفصيلات الدقيقة ، إذ أن هذا الموضوع وما على شاكلته هو من المشاكل المعاصرة في المالية العامة والضرائب .
(6 ) بيع بعض الأموال ذات الطبيعة الخاصة لتحصيل الإيرادات . ينقل المصنف عن ذلك القول المشدد لعلي بن أبي طالب لواحد من عماله : إنى أتقدم إليك الآن ، فإن عصيتنى نزعتك ، لا تبيعن لهم في خراج حماراً ، ولا بقرة ولا كسوة شتاء، ولا صيف، وارفق بهم ( ص 47 ) فهذه أموال لها أهمية معينة . ( وسائل معيشة ووسائل كسب ) .
((1/134)
7 ) عندما تكون زكاة في عين المال ، وليس في قيمته ، فإنه يلزم تجنب أخذ الخيار من هذا المال . قال رسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ : (( إني أبعثك إلى أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة في أموالهم . فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم ، وإياك ودعوة المظلوم ، فإنه ليس لها دون الله حجاب )) (ص 364 ) .
(8 ) إعفاء بعض ما يلزم من المال الأكل المفروض عليه الزكاة . كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية (ص436 ). ونقل عن عمرو بن العاص: خففوا على الناس في الخرص فإن المال العرية والأكلة.
( ص 436 ) .
(9 ) تأخير تحصيل الإيرادات إلى وقت حصاد المال المفروض عليه الالتزام المالي ، ومراعاة اللين وحسن المعاملة . ينقل المصنف أن عمر بن الخطاب أُتي بمال كثير، فقال : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس ، قالوا : لا والله ما أخذنا إلا عفواً وصفواً، قال : فلا سوط ولا نوط ، قالوا : نعم . قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ، ولا في سلطاني
( ص 46 ). وينقل عنه أيضا أنه قال لعامله الذي قال له حسب أوامره: نؤجر الناس إلى غلاتهم : لا عز لتلك ما حييت (ص 46 ). ومما يدخل في الإجراءات حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع )) (ص 364 ) .
((1/135)
10 ) كتب أبو عبيد عن المكس ، ويقابله الآن الضرائب الجمركية . وما قاله أبو عبيد عن هذا الموضوع يؤسس الحرية التامة للتبادل بين الأقاليم الإسلامية استناداً إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل الجنة صاحب مكس )) ( ص 469 ) وقد التزم ولاة الأمر من الخلفاء الراشدين بذلك ، فهذا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة : أن ضع عن الناس الفدية ، وضع عن الناس المكس . ( ص 470 ) وكتب أيضا إلى عبد الله ابن عوف القارئ : أن اركب إلى البيت برفح ، الذي يقال له بيت المكس ، فاهدمه، ثم احمله إلى البور فانسفه (ص 470 ) . يتمتع بهذه الحرية في التبادل ، المسلمون ، ومن لهم عهد ولا توضع القيود على التبادل ، بما في ذلك فرض الضرائب ، أو الرسوم الجمركية ، إلا على أهل الحرب، ونقل أبو عبيد في ذلك عن عبد الرحمن بن معقل : سألت زيد بن حدير : من كنتم تعشرون ؟ قال : ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً ، قلت : فمن كنتم تعشرون ؟ قال تجار الحرب ، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم (ص 471 ). وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب : إنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة ومن أهل الحرب العشر تاما، لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله، إذا قدموا بلادهم ، فكان سبيله في هذين الصنفين بيِّناً واضحاً (ص473 ).
(11 ) يكتب أبو عبيد عن القاعدة الأساسية في الإسلام ، بشأن تحديد من له حق في المالية المشتركة في الإسلام ؛ ينقل عن عمر: ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال حق، أعطيه أو منعه . وقد قرأ عمر بعد ذلك: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرّسُولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) ، ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) ، ( والذينتبوءُو الدار والإيمان من قبلهم ) ، ( والذين جاءُو من بعدهم ) (( الحشر : 1 ـ 7 )) ، قال عمر: فاستوعبت هذه الآيات الناس .
(ص 202 ) .
((1/136)
12 ) من قواعد الأسس المنظمة للنفقات المشتركة في الإسلام أنها تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء . فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 220 ) . وهي السياسة التي نفذها الخلفاءالراشدون ، وقال بشأنها عمر رضى الله عنه : يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم ( ص 220 ) .
(13 ) توجد بعض الحالات ، التي تعطى لها أهمية في المالية في الإسلام ، ومنها الحالات الثلاث التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رجل تحمل بحمالة بين قوم ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله، ورجل أصابته فاقة )) (ص 217 ).
(14 ) التسوية أو التفاوت بين الناس . وقد خص أبو عبيد هذا الموضوع بباب مستقل
(ص 244 ـ 246 ) وبدأ بحثه بذكر ما نقل عن أبى بكر : لما قدم عليه المال جعل الناس سواء ، وقال وددت أني أتخلص مما أنا فيه بالكفاف ، ويخلص لي جهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد على من كلمه أن يفضل بين الناس في القسم فقال : فضائلهم عند الله ، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير ( ص 244 / 5 ) . كما ذكر أبو عبيد فعل عمر ابن الخطاب حين فاضل في القسم والمعيار الذي اتخذه في ذلك ثم ذكر عنه أيضا قوله: لئن عشت إلى هذا العام المقبل ، لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا بياناً واحداً ( 245 ).
(15 ) الحد الأدنى الذي يعطى لمن له حق والحد الأعلى الذي يطيب له ، موضوع أولاه أبو عبيد بالبحث ، وقد أفرد له بابا مستقلا ( ص 497 ـ 504 ) وقبل أن أعرض ما قال، أشير لدقة المصطلح الذي استخدم مع الحد الأعلى: وكم أكثر ما يطيب له منها
( ص 497 ). يدور الخلاف بين الفقهاء في ذلك على بعض المحاور . بعض الآراء تذهب إلى أنه يعطى ما يكون رأس مال ، والإمام مالك يترك ذلك لاجتهاد وحسن ظن المعطي . ويرى أبو عبيد أن التوسعة خير . ونقل عن عمر أنه يجوز شراء مسكن .
(16) بعض الحالات التي أثبت أبو عبيد أنها تعتبر في النظام المالي في الإسلام وهذه الحالات هي :(1/137)
أ- إعانة الطفولة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من ترك كلا فإلينا ومن ترك مالا فلورثته )) ( ص 223 ) ، وفرض عمر للمولود ( ص 223 ) ، وقول الحسن بن على: يجب سهم المولود إذا استهل ( ص 223 ) .
ب- الإعانة على الزواج ( ص 246 ) .
جـ- الإعطاء على تعلم القرآن (ص 243 ) .
د- إعطاء علاوة للمتزوج ( ص 227 ) .
هـ- إجراء الطعام على الناس ( الذين يحتاجون ) شهريّاً ( ص 230 ) .
(17 ) إفراد المصنف باباً مستقلاً لبحث قسم الصدقة في بلدها ، وحملها إلى بلد سواه ، ومن أولى بأن يبدأ به منهما ( ص 506 ) . وهذه أيضا واحدة من قواعد الإجراءات .
(18 ) بحث المصنف أيضا تفريق الصدقة في الأصناف الثمانية وإعطائها بعضهم دون بعض ( ص 512 ) ويدخل ذلك في التنظيمات الإجرائية .
(19 ) ثم بحث المصنف موضوعاً له دقة كتنظيم إجرائي وهو موضوع تعجيل الصدقة وإخراجها قبل أوانها . وقد تعجل الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة عمه العباس سنتين
( ص 522 ) . وكان الصحابة لا يرون بأساً في ذلك (ص 523 ) . بلال ابن رباح يقول في ذلك : قدم ولا تؤخر ( ص 523 ) .
هذه بعض القواعد الإجرائية التي كتب عنها أبو عبيد ، وكل هذا له أهميته التطبيقية للنظام المالي الإسلامي . وكما قلت في بداية هذه الفقرة: فإن موضوع الإجراءات ، باعتباره موضوعاً فنياً فإنه يرتبط كثيراً بالتطور إلا أن فيه بعض عناصره المبنية على أحكام فقهية ، لذلك ناقشه الفقهاء .
المبحث الخامس
الحسبة ( عناصر في دور الدولة الرقابي )
عناصر في دور الدولة الرقابي:
خصص الماوردي الباب العشرين لبيان الحسبة ، ويعرفها بأنها أمر بالمعروف إذ ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذ ظهر فعله (ص 270 ) والحسبة واسطة بين أحكام القضاء ، وأحكام المظالم ( ص 271 ) . وللمحتسب اجتهاد رأيه فيما تعلق بالحرف دون الشرع كالمقاعد في الأسواق (ص 271 ) .(1/138)
وتشتمل الحسبة على فصلين :الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ينقسم الأمر بالمعروف إلى ثلاثة أقسام : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى ، والثاني ما يتعلق بحقوق الآدميين ، والثالث ما يكون مشتركاً بينهما ( ص 275 ) .
القسم الثاني هو الذي يتعلق مباشرة بدراستنا الاقتصادية التي نقدمها هنا .
ينقسم الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين إلى عام وخاص ، فأما العام كالبلد إذا تعطل شربه ، أو تهدم سوره ، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوي الحاجات ، فكفوا عن معونتهم ( ص 276 ) وأما الخاص فكالحقوق إذا مطلت ، والديون إذا أخرت (ص 227 ) . العناصر الاقتصادية ذات الأهمية توجد في النوع العام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . يقرر الماوردي أنه إذا تعطل شرب بلد ( مرفق المياه بلغة حديثة ) ، وتهدم سوره ( وعلى غراره الطرق ) ، ولم يقم بذلك ذوو المكنة ، فإن كان في بيت المال مال أمر بإصلاح ذلك ، وإن لم يكن توجه المحتسب إلى ذوي المكنة ، وكأن ذلك حكم النوازل إذا حدثت ، قي قيام كافة ذوي المكنة به ( ص 376 / 277 ) .
إن الذي قرره الماوردي بشأن ما أسماه الأمر العام في حقوق الأدميين يؤكد المنحى المتميز للاقتصاد الإسلامي . إن توجه المحتسب إلى القادرين ماليّاً عند الحاجة للمصالح العامة ، مثل المياه ، والطرق ، هذا التوجه هو تقرير لمسؤولية هؤلاء القادرين على تحمل هذه النفقات اللازمة والضرورية للمجتمع الإسلامي .
ألمح فيما قرره الماوردي بعداً آخر ، هو ما أسميه الخاصية المزدوجة للمالية الإسلامية ، بين المحلية والعمومية . تتوجه المسؤولية المالية للنفقات المشار إليها وما على شاكلتها . تتوجه أولا إلى المستوى المحلي ، ولهذا المستوى المحلي درجات ، فإذا عجز المستوى المحلي عن الوفاء بهذه الالتزامات تجئ مسؤولية المستوى العام ، وهو أيضاً على درجات، نصل في أقصاه إلى مسؤولية بيت مال المسلمين .(1/139)
وهكذا فإن العناصر الاقتصادية ذات الأهمية في وظيفة المحتسب المتعلقة بالحق العام في حقوق الآدميين تدور بين فكرة العامة وفكرة المحلية . ومن باب الاستطراد أن أذكر أنه يلزم بذل مجهود في البحث لتأصيل هاتين الفكرتين، وسوف يكشف ذلك عن تميز في المالية الإسلامية .
يتعلق الفصل الثاني من فصول الحسبة ، بالنهي عن المنكر ، ويشتمل على ثلاثة أقسام أحدهما ما يتعلق بالعبادات ، والثاني ما يتعلق بالمحظورات ، والثالث ما يتعلق بالمعاملات. والقسم الثالث هو الذي يدخل دخولاً مباشراً في دراستنا الاقتصادية .
تتسع وظيفة المحتسب في المعاملات اتساعاً كبيراً ، فمن مسؤوليات وظيفته : منع غش المبيعات ، وتدليس الأثمان ، ومراقبة المكاييل والموازين ( ص 285 ) ويشبه عمل المحتسب في هذه الوظيفة عمل وزارة التموين والأجهزة التابعة لها . ومن مسؤوليات وظيفته أنه يراعي من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف : منهم من يراعي عمله على الغرر والتقصير ، ومنهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة ، ومنهم من يراعي عمله في الجودة والتقصير (ص 287 ) ، وعمل المحتسب في هذا المجال أوسع من أن تشمله وظائف وزارة التموين ، بعضه يدخل في عمل وزارة الاقتصاد . ومن مسؤوليات وظيفته أنه يراقب الحقوق المشتركة بين الناس، وذلك مثل المنع من الإشراف على منازل الناس ( ص 288 )، ومنع أصحاب السفن من حمل ما لا تسعه ( ص 289 ) ، وعمل المحتسب هنا يدور بين اختصاص وزارة الداخلية ووزارة العدل .
هذه بعض وظائف المحتسب، وهي تدور على أبعاد متعددة ، بعضها أبعاد اقتصادية ، وبعضها أبعاد غير اقتصادية .
وبالإضافة إلى ما سبق تقديمه من آراء ( فقهية ) للماودري عن هذه الوظائف ، نحاول تقديم نموذج آخر ، له صلته القوية بدور الدولة الرقابي في الإسلام .(1/140)
يقول الماوردي: إن على المحتسب أن يمنع من المعاملات المنكرة ، حتى وإن تراضى المتعاقدان بها (ص 284 ) . ما قاله الماوردي هنا يثير قضايا متعددة ، يثير أولاً القضية الأم في الاقتصاد الإسلامي ، وهي قضية حلية ومشروعية النشاط الاقتصادي ، وهذا من أهم ما يميز بين الاقتصاد الإسلامي وغيره من الاقتصاديات الوضعية ، الذي يؤسس عليه الاقتصاد ، وإنما المعتبر أولاً هو حلية ومشروعية الأنشطة وأيضاً ليس المعتبر أولاً في الاقتصاد الإسلامي فرض الرشد الاقتصادي ، وهو الفرض الذي يؤسس على الاقتصاد، وإنما المعتبر أولاً هو حلية ومشروعية الأنشطة الاقتصادية ، ثم بعد هذا يجيء النظر في الرشد الاقتصادي في النشاط موضوع البحث .
ثم قضية تواجهنا في العصر الحاضر ، وهي تتصل اتصالاً قوياً بموضوع الربا بصفة خاصة ، نواجه بمن يقول بشأن المعاملات الربوية : مادام الطرفان قد رضيا بهذه المعاملة، لأن كلاهما يرى فيها تحقيق مصلحة له فلماذا نمنعها ؟ ما قرره الماوردي يرد على هذا السؤال الاعتراضي . الأمر في النشاط الاقتصادي من وجهة نظر الإسلام هو أمر حلية ومشروعية ، وهذه هي قاعدة الأساس .
وحلية ومشروعية النشاط الاقتصادي تدور من وجهة نظر الإسلام على محور أوسع من محور المصلحة الخاصة للفرد . إن أمر الحلية والمشروعية يدور إسلاميّاً مع العقيدة ، ومع مصلحة المجتمع ، ثم مع المصلحة الخاصة، وعلى هذا النحو نمنع إسلاميّاً المعاملات المحرمة حتى وإن تراضى بها الطرفان فإننا نحقق إلزامات اقتصادية إسلامية .
المبحث السادس
من أخلاق النظام المالي الإسلامي(1/141)
الكلام عن ( أخلاق ) النظام المالي ، يعتبره الاقتصاديون خروجاً على اللحن الاقتصادي ، ذلك أن علم الاقتصاد الوضعي تقرر فصله عن الأخلاق منذ القرن التاسع عشر ، بل يعتبر الاقتصاديون أن هذا الفصل هو الذي قاد إلى تأسيس (( علم )) الاقتصاد ، بعد أن كانت المعالجات الاقتصادية مجرد أفكار مبعثرة في علوم أخرى . ويعتقد الاقتصاديون أن لهم منطقهم فيما يقولون ، إنهم يعتقدون أنهم حيث فصلوا علم الاقتصاد عن الأخلاق ، فإنهم نقلوا البحث الاقتصادي من اعتبار المعايير الشخصية إلى اعتبار المعايير الموضوعية ، وأنهم أحلوا قوى السوق التي هي في نظرهم قوى موضوعية ، محل معيار العدل ، على سبيل المثال الذي هو حكم قيمي وشخصي . ويعتقد الاقتصاديون ايضاً أن علم الاقتصاد بقدر ما يكون فيه من موضوعية فإنه يتقدم ، وتزول عنه صفة العلم بقدر اعتباره للمعايير الشخصية .
يفارق الاقتصاد الإسلامي علم الاقتصاد من هذا المنظور مفارقة كلية .إن البحث يثبت أن الاقتصاد الإسلامي يعتبر النوعين من الاعتبارات : المعايير الموضوعية، والمعايير الشخصية ، التي تعكس العنصر الأخلاقي ، وهذا النوع الأخير هو ما أقترح تسميته أخلاق النظام المالي الإسلامي ، وندرسه تحت مصطلح المعايير الأخلاقية ، بدلاً من مصطلح المعايير الشخصية .
ونظراً لدقة دراسة ما يتعلق بالأخلاق في الاقتصاد ، فإن الأمر يحتاج معالجة خاصة ، إنه يحتاج إلى إثبات ذي طبيعة خاصة ، وقد يكون البعد التاريخي الذي نأخذه من التراث الإسلامي من أقوى الإثباتات وأفضلها في هذا الصدد ، ذلك أن هذا البعد يمكن أن يكشف لنا الطبيعة التي فهم بها المسلمون الأوائل قضايا الاقتصاد ، وصلتها بالأخلاق .
لهذا أقترح أن ندرس هذا العنصر الأخلاقي في النظام المالي الإسلامي بالإحالة إلى كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (1 ) ، واختيار هذا الكتاب تحدد انطلاقاً من الأسباب الآتية :(1/142)
1- إن كتاب الخراج لأبي يوسف يدخل كله في النظام المالي الإسلامي ، ولهذا فاختياره للإحالة إليه ونحن بصدد تحديد عناصر أخلاقية في النظام المالي الإسلامي يكون مقبولاً .
2- هذا الكتاب كتبه أبو يوسف بناء على طلب هارون الرشيد الخليفة العباسي، وقد أثبت ذلك أبو يوسف في مقدمة كتابه بقوله : (( إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى ، سألني أن أضع له كتاباً خاصاً يعمل به في جباية الخراج والعشور والجوالي ، وغير ذلك مما يجب النظر فيه والعمل به ،وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته ، والصلاح لأمرهم ، وفق الله تعالى أمير المؤمنين ، وسدده وأعانه على ما تولى من ذلك ، وسلمه مما يخاف ويحذر ، وطلب أن أبين له ما سألني عنه مما يريد العمل به ، وأفسره وأشرحه ، وقد فسرت ذلك وشرحته )) (ص 3 ) .
وكون هذا الكتاب لهذا الغرض ، فإنه يعني أن ما به كان للتطبيق العملي ، ولم يكن بحثاً نظريّاً ، ولذلك أهميته في الموضوع الذي نبحثه ، فهو يعني أن أمور الأخلاق التي جاءت بهذا الكتاب خوطب بها ولي الأمر ليعملها في التطبيق مع غيرها، مما تضمنه الكتاب مما يتعلق بالإيرادات والنفقات وغير ذلك .(1/143)
3- يتأكد هذا المعنى أكثر ، كما يتقوى اختيارنا لهذا الكتاب ، من أن النظر فيه يبين أنه وضع ليحدد وليعطي البرنامج المالي للدولة الإسلامية ، ويظهر هذا بوضوح من الطريقة التي عرض بها مصنفه : إيرادات ونفقات النظام المالي الإسلامي ، ونلحظ بجانب ذلك شيئاً آخر على درجة معينة من الأهمية . ركز أبو يوسف في كتابه على أن يبرز بوضوح أخلاقيات سلوك أطراف النظام المالي الإسلامي ، لقد أسهب بتركيز في بيان الأخلاق التي يلتزم بها ولي الأمر ، باعتباره قائماً على تطبيق النظام المالي الإسلامي ، كما فصل بتأكيد القواعد السلوكية ، التي تقع على العمال ، الذين يعملون في النظام المالي الإسلامي ، وأبان أيضاً بوضوح السلوك الأخلاقي، الذي ينبغي أن يتحلى به أفراد المجتمع الإسلامي ، الذين هم محل تطبيق هذا النظام . ويذهب أبو يوسف دائماً وبتكرار إلى تاريخ العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين ، يعطي منهم المثل تلو المثل مستشهداً به على ما يقرر من قواعد سلوكية أخلاقية، لهذه الأطراف الثلاثة.
هذا هو المنهج الذي نقترحه لبحث هذا العنصر في النظام المالي الإسلامي ، وهذا هو الكتاب الذي نقترح الإحالة إليه .
والعناصر الأخلاقية التي يتضمنها كتاب الخراج لأبي يوسف كثيرة وأحاول تجميع ما أستطيعه منها وتبويبه في الآتي :
أولا: المال، طيب المورد وعدل الإنفاق:(1/144)
حرص القاضي أبو يوسف أن يبرز لهارون الرشيد وهو يكتب له عن النظام المالي الإسلامي باعتباره ولي الأمر ، حرص أن يبرز له تشريع الإسلام بأن يكون المال الذي يجنى طيّباً ، ويعني بذلك أن يكون أساس الإلزام أساساً شرعيّاً صحيحاً ، وهذا هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعمل الخلفاء الراشدين من بعده ؛ فهذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما يصل إليه مال العراق يخرج إليه عشرة من أهل الكوفة ، وعشرة من أهل البصرة ، يشهدون أربع شهادات بالله أنه من طيب ، ما فيه ظلم مسلم ولا معاهد ( ص 124 ) .
هذه أول القيم الأخلاقية التي تخضع لها الإيرادات. نقل أبو يوسف قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق ، أعطيه أو منعه ، وما أحد أحق به من أحد . ( ص 50 ) .
والمصطلح الذي استخدمه أبو يوسف هو (( الحق )) ويعني ذلك أن الأمر في النظام المالي الإسلامي هو أمر حق يجب أن يتمسك به صاحب الحق .
أما القيمة الثالثة فهي تؤصل للمساواة أو عدم المساواة عند الإنفاق ؛ يذكر أبو يوسف عن ذلك بأن أبا بكر رضي الله عنه كان يقسم بالسوية ، وقال عبارته المشهورة: هذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة . ثم جاء عمر فرأى الأخذ بالتفاوت في العطاء .
((1/145)
ص 45 ـ 46 ). يوجد معنى اقتصادي يجمع كلاً من فعل أبي بكر، وفعل عمر على الرغم مما يبدوا بينهما من اختلاف هذا المعنى هو أنه لو كانت الأوضاع الاقتصادية تلزم بالمساواة في العطاء ، وذلك عندما يكون مستوى المعيشة منخفضاً بحيث لا يوجد فائض يسمح بالتفاوت فإن المعتبر إسلامياً هو المساواة في العطاء ، وهذه هي حالة عهد أبى بكر رضى الله عنه ، أما حين تسمح الأوضاع الاقتصادية بتفاوت الدخول ، فإن الإسلام يجيز التفاوت في العطاء وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه ، أما قول عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ، وفاوت في العطاء على هذا الأساس ، فإن هذه معايير تعمل حين توجد الوفرة ، التي تسمح بالتفاوت ، أما إذا لم تكن هناك وفرة فلا إعمال لهذه المعايير ، وهذا هو ما فعله عمر نفسه في عام المجاعة ، وهي الحالة التي اختفت فيه الوفرة .
هذه هي القيم الثلاث التي أعتبر أنها معاً تشكل الأساس الأول في أخلاق النظام المالي الإسلامي ، وهو ما أسميه : طيب المورد وعدل الإنفاق .
ثانيا: صفات من يتولى أمر إيرادات الدولة
ليس كل شخص صالحاً لأن يتولى أمر إيرادات المالية الإسلامية . الإسلام ينظر إلى هذا الأمر نظرة غاية في الدقة ، ويظهر ذلك من الشروط التي يشترطها فيمن يقوم بذلك ، ومن الرقابة التي يخضعه لها. وقد حرص أبو يوسف أن يقول ذلك لهارون الرشيد فيما قاله عن النظام المالي الإسلامي :
1- قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعمل أقاربه في تحصيل الإيرادات ، أي لم يعنيهم في ذلك ( ص 123 ) . وقد كانوا أهل فقه وأهل كفاية . وهذه خطوة أولى من خطوات بدايات إصلاح النظام المالي في عصرنا الحاضر .(1/146)
2- قال أبو يوسف لهارون الرشيد عن الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتولى أمراً في النظام المالي الإسلامي : أن يكون فقهياً ، عالماً ، مشاوراً لأهل الرأي ، عفيفاً ، لا يطلع الناس منه على عورة ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، ما حفظ من حق وأدى من أمانة احتسب به الجنة ، وما عمل من غير ذلك ن خاف من جور في حكم إن حكم ثم يذيل أبو يوسف هذه الشروط بقوله : فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها من حلها ، وتجنب ما حرم منها، يرفع من ذلك ما يشاء ويحتجز منه ما يشاء ، فإذا لم يكن عدلا ، ثقة ، أميناً فلا يؤمن على الأموال ثم يضيف مجموعة جديدة من الشروط : أن لا يكون عسوفاً لأهل عمله. ولا محتقراً لهم ، ولا مستخفاً لهم اللين للمسلم ،والغلظة على الفاجر ، والعدل على أهل الذمة ، وإنصاف المظلوم ، والعفو عن الناس ، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له، وترك الابتداع فيما يعاملهم به ، والمساواة بينهم في مجلسه ، ووجهه ، حتى يكون القريب والبعيد ، والشريف والوضيع ، عنده في الحق سواء ، وترك اتباع الهوى فإن الله ميز من اتقاه وآثره طاعته وأمره على من سواهما (ص 115 ـ 116 ) .
3- ثم قال أبو يوسف: إن عمال الجباية يجب أن يخضعوا للرقابة ، وقد جعل هذه الرقابة على درجات متعددة . قال لهارون الرشيد: أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف، ممن يوثق بدينه وأمانته ، يسألون عن سيرة العمال، وما عملوا في البلاد ، وكيف جبوا الخراج على ما أمروا به وعلى ما وظف على أهل الخراج واستقر ( ص 120 ) وهذه رقابة عليهم في أعمالهم ، كما أن هناك رقابة عليهم في أموالهم وتضخم ثرواتهم .
تجمل لنا هذه العناصر الثلاثة معاً الشروط فيمن يتولى أمر الأموال في النظام المالي الإسلامي ، وفيها شروط الخبرة والكفاية والمعرفة ، وهي التي تتعلق بها النظم المالية الوضعية ،ولكن في النظام الإسلامي ، شروطاً أخرى ، منها الصلاح والتقوى إلى آخر ما ذكرناه من شروط .(1/147)
ثالثا: مراعاة الطاقة عند فرض الإلزام المالي
تتحقق هذه القيمة في النظام المالي الإسلامي بمجموعة من العناصر:
1- إن المنهج الإسلام في الإلزام المالي يأخذ بفكرة النصاب .
وهي تعني أن الإلزام المالي لا يجيء إلا إذا كان المال الواقع عليه الإلتزام قد بلغ حداً معيناً . ويترتب على ذلك أن الإلزام المالي في الإسلام يجيء مع الطاقة ، بل إن المعدل الذي يفرض به الإلزام يختلف حسب طبيعة التكلفة اللازمة لإنتاج المال الخاضع لهذا الإلزام .
2- الأساس في الالتزام المالي الطاقة ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه )) ، وهذا ما التزم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ كان يسأل من يفرض عليهم الخراج : أيطيقون ما فرض عليهم أم لا ؟
( ص 92 ) وهذه شورى في فرض الالتزامات المالية غير مسبوقة ولا نعتقد أنها غير مبتوعة ، ويكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله أن يراعي الطاقة عند فرض الإلزام المالي (ص 93 ) .
3- يكتب أبو يوسف لهارون الرشيد : لو تقربت إلى الله يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلساً واحداً ، تسمع فيه من المظلوم وتنكر علىالظالم ويسير ذلك في الأمصار والمدن ، فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه ، فلا يجترئ على الظلم ، ويأمل الضعيف المقهور جلوسك ، ونظرك في أمره ، فيقوى قبله ويكثر دعاؤه . (ص 121 ). هذا الذي طلبه أبو يوسف من ولي الأمر فيه مراجعة ومراقبة لسلوك الذين يتولون تحصيل الإيرادات .
4- إعمالاً لما سبق ، فإن للإمام أن ينقص ويزيد فيما يوظفه من الخراج على أهل الأرض، علىقدر ما يحتملون ، وأن يصير على كل أرض ما شاء بعد أن لا يجحف ذلك بأهلها (ص 92 ) .
رابعاً: آداب تحصيل الإيرادات
تتحقق آداب تحصيل الإيرادات في المنهج الإسلامي باتباع مجموعة من القيم السلوكية:(1/148)
1- منع التفتيش للجباية. وهذا ما نقله إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أمرني ألا أفتش أحداً ( ص 130 ) .
2- منع الالتزام وهو الأسلوب الذي شاع في العصور المتأخرة ، ويعبر عن الالتزام بمصطلح التقبيل . (( ورأيت أن لا تقبل شيئا من السواد ولا غير السواد من البلاد ، فإن المتقبل إذا كان في قبالته فضل عن الخراج ، عسف أهل الخراج وحمل عليهم ، ما لا يجب عليهم وظلمهم وأخذهم بما يجحف بهم، ليسلم مما يدخل فيه ، وفي ذلك وأمثاله خراب البلاد وهلاك الرعية ، والمتقبل لا يبالي بهلاكهم بصلاح أمره في قبالته، ولعله أن يستغفل بعد ما يتقبل به فضلاً كثيراً ، وليس يمكنه ذلك إلا بشدة منه على الرعية ، وإنما أمر الله عز وجل أن يؤخذ منهم العفو وليس يحل أن يكلفوا فوق طاقتهم )) (ص 114 ) . وكأن القاضي أبا يوسف رحمه الله رأى بالفقه الذي أعطاه الله له ما سوف يحل بالعالم الإسلامي من خراب عند تطبيق أسلوب الالتزام ، في تحصيل الإيرادات .
3- حرص أبو يوسف أن يكتب لهارون الرشيد عن العلاقة التي يجب أن تكون بين متولى أمر تحصيل الإيرادات وبين من ولي عليهم . وكذلك الصفات السلوكية التي يجب أن تكون بين متولي أمر تحصيل الإيرادات ، وبين من ولي عليهم ،وكذلك الصفات السلوكية التي يجب أن يلتزم بها . وكان عمر يشترط فيمن يستعمله أن لا يركب برزوناً، ولا يلبس رقيقاً ، ولا يأكل نقيّاً ، ولا يغلق باباً دون حوائج الناس ، ولا يتخذ حاجباً
(ص 125 ـ 6 ). وكان رضي الله عنه ، إذا بلغه أن عاملا لا يعود المريض ، ولا يدخل عليه الضعيف، نزعه ( ص 126 )؟
ما ذكرته في هذا المبحث هو بعض عناصر أخلاقية في النظام المالي الإسلامي .
وقد حرصت أن أربط ما قلته بواحد من الكتب المعتبرة في النظام المالي الإسلامي ، وهو كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف .
مكتبة مشكاة الإسلامية
تم نسخة من الشبكة الإسلامية .(1/149)