تقويم مسيرة الاقتصاد الإسلامي
]1396- 1422هـ[
]1976- 2003م[
الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن يسري أحمد
جامعة الإسكندرية- مصر
(طبعة تمهيدية)
يستهدف هذا البحث تقويم مسيرة الاقتصاد الإسلامي على مدى فترة زمنية تمتد ما بين عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة 1396هـ- 1976م والتاريخ الذي حُدد لعقد المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي في مكة 1422هـ- 2003م. وفي هذا البحث نميّز للاقتصاد الإسلامي ثلاثة أبعاد هامة:البعد الفكري أو النظري Theoretical، والبعد المؤسسي Institutional، والبعد التطبيقي أو العملي Practical.
وهناك بطبيعة الحال أبعاد أخرى للاقتصاد على رأسها تلك التي ارتبطت بالشريعة وأصوله الفكرية وممارساته التاريخية، وتلك التي ارتبطت بالجوانب الثقافية والسياسية التي صاحبت نشأته وما زالت محيطة به. ولكن مقتضيات البحث تستلزم التركيز على الأبعاد الأكثر أهمية، لذلك استطردنا في هذا البحث من مقدمات مختصرة ومركزة على الأصول الشرعية والفكرية للاقتصاد الإسلامي التي ارتبطت بتاريخه المجيد ثم عن ظروف نشأته في العصر الحديث.وفي تناول البعاد الثلاثة الرئيسة للاقتصاد الإسلامي اخترنا التركيز على أهمها وهو الجانب الفكري أو النظري فهو أساسها وأهم عمدها. فالفكر هو القوة الحقة وسلامته ووضوحه ونموه هو السبيل الوحيد على وضوح وسلامة وتماسك واستدامة المؤسسات الخادمة للاقتصاد الإسلامي بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ثم بالضرورة سلامة ونجاح التطبيق. ومع وجود القصد باستهداف التركيز في تقويم مسيرة الاقتصاد الإسلامي من الجانب الفكري إلا أننا أشرنا إلى أهم جوانب التجديد في الجانب المؤسسي كما أشرنا إلى البعد التطبيق كلما لزم الأمر من خلال استعراض وتقويم مسيرة الفكر الاقتصادي الإسلامي.
مقدمة في الأصول الشرعية والفكرية للاقتصاد الإسلامي:(1/1)
عُرفت الممارسات الاقتصادية الإسلامية على المستوين الجزئي والكلي منذ العام الهجري الأول. فلقد أقم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سوقاً للمسلمين في المدينة بعد هجرته إليها مباشرة، ووضع له من الضوابط ما يكفل القضاء على كافة الأشكال والممارسات الاحتكارية والقضاء على الغش والغبن في المعاملات كما يكفل الفرص أمام الجميع مشترين أو بائعين. كما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تنفيذ أوامر الله عز وجل في تحريم الربا فقضى على المعاملات الربوية بأنواعها وأرسى دعائم المشاركة بين العمل ورأس المال. وجمع الزكاة بنسب معينة من فئات معينة كما ألهمه الله عز وجل بحكمته ووزّعها على الفئات المستحقة كما ذكرت تفصيلاً في القرآن، وتبعاً للأولويات التي استنبطها صلى الله عليه وسلم بالمشورة مع صحبه المقربين أولي الرأي، وحمى أرضاً للحفاظ على منطقة طبيعية خضراء حول المدينة المنورة وكذلك لأغراض مالية ودفاعية، وأقطع أراضي لمن يريد أن يستصلحها وأرسى مبدأ تملك الأرض
الموات بالإحياء. ونظّم استخدام الموارد المائية باعتبارها ملكية عامة وشجّع المسلمين على تعلم صناعات جديدة لم يعرفوها من قبل، ومنها صناعة السلاح وممارستها وإتقانها. ولم يمنع النساء من العمل لأجل الإنتاج والتجارة، وليس ثمة دليل واحد أنه وضع حدوداً على نشاطهن في التجارة أو غيرها على نمو ثرواتهن.(1/2)
ووضع النبي عليه الصلاة والسلام قواعد راسخة لمعاملة الإجراء بالعدل وإنصافهم وعدم التدخل في حرية الأسواق وما يجري فيها من معاملات وأسعار ما دامت في إطار الشريعة الإسلامية الغرّاء. وليس المقصود هنا أن نحصر كل شيء فهناك توجيهات إلهية عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مجالات الاستهلاك والإنتاج والتوسع في عمارة الأرض وتوزيع المواريث، وهناك سنن أقامها في هذه المجالات نفسها وفي غيرها حتى تقوم المعاملات الاقتصادية ويتم توزيع الدخول والثروات وتنميتها على أساس العدل الذي أراده الله عز وجل لخير أمة أُخرجت للناس وهو الحكيم الخبير.
ومع الممارسات الصحيحة للصحابة والتابعين لهم واجتهادات علماء المسلمين في القرون الأولى للدولة الإسلامية ازدادت القواعد التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره رسوخاً من حيث المبدأ، بينما اتضح تدريجياً جانب المرونة فيها من خلال التطبيقات في أماكن وأزمنة مختلفة.فجوهر القواعد بقي ثابتاً واختلف شكل التطبيق بما يتفق مع ظروف الدولة الإسلامية التي اتسعت شرقاً إلى الهند والصين وغرباً وشمالاً إلى بلاد المغرب وأسبانيا والبرتغال ومدن أوروبية أخرى في شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوباً إلى أواسط وشرق وغرب القارة الأفريقية.
وفي إطار الدولة الإسلامية الكبرى أصبحت الزكاة مؤسسة راسخة من خلال دواوين منظمة أُنشئت لبيت المال تُجمع وتُوزع وفقاً لتعاليم القرآن وتوجيهات السنة المطهرة بأولويات تتفق مع الظروف المختلفة للفئات المستحقة في المجتمعات والأزمنة المختلفة.(1/3)
واتسعت وتعددت موارد الدولة المالية وأُضيف إليها في زمن عمر بن الخطاب تبعاً لاجتهاده خراج الأرض التي فتحها المسلمون عنوة وتُركت في أيدي أصحابها، وقامت الصدقات بدور غير عادي في إنشاء المدارس والمستشفيات والمساكن لإيواء الأرامل واليتامى من خلال نظام الأوقاف. واتسعت الأسواق الداخلية وتطور معها نظام الحسبة بأشكال متعددة لكي تصون قواعد الشريعة في المعاملات ويقضي على الاحتكار ويصون المنافسة الشريفة ومن ثم نمت التجارة الداخلية على أسس شرعية وقواعد أخلاقية إسلامية. كذلك نشطت التجارة الخارجية بين الأقطار الإسلامية داخل الدولة الكبرى وبين الأقطار الإسلامية وغيرها من الأقطار في العالم براً وبحراً.
ومع تطور التجارة الخارجية تطورت نظم تمويلها ولكنها لم تخرج عن إطار المشاركات، وظهرت أساليب جديدة لتسهيل التجارة بين الأقطار مثل الصك والسفتجة، وظلت الحرب معلنة على الربا لا يجرؤ أحد على التعامل به أو الإخفاء أو بحيل خسيسة.
وخلال القرون العديدة الممتدة ما بين عصر الرسالة والراشدين من جهة ونهاية عصر الازدهار الإسلامي أو بداية الركود في القرن الثامن الهجري والخامس عشر الميلادي ظهرت اجتهادات فكرية مميّزة في مجالات المالية العامة للدولة والأسواق والتسعير والنقود، وتقسيم العمل والعمران الاقتصادي والتوزيع عن طريق علماء مميزين أمثال أبي يوسف والغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية الماوردي وأبي عبيد وأبي
عبد الله الحبشي وابن خلدون والمقريزي.
وبعض هذه الاجتهادات نُشرت بأكثر من لغة،وبعضها لم يُنشر إلا بالعربية في إطار كتب التراث الشاملة التي ضمنت عروضاً متنوعة في مجالات العلوم الشرعية من فقه وحديث وتفسير أو في مجالات علوم الفلسفة والتاريخ(1)
__________
(1) الهوامش والمراجع
(1) …انظر: عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي والطبعة الأخيرة، الدار الجامعية، الإسكندرية، سعيد مرطان، مدخل لفكر الاقتصادي في الإسلام دار العلم للملايين، بيروت- الطبعة الخامسة1980، شوقي دنيا، سلسلة أعلام الاقتصاد الإسلامي، مكتبة الخريجي- الرياض1984، نجاة الله صديقي، استعراض الفكر الاقتصادي الإسلامي، ترجمة سلطان أبو علي والقرنشاوي، جامعة الملك عبد العزيز وأصلاً Recent Works on History of Economic Thought in Islam Survey مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة1982.(1/4)
. هذه نبذة مختصرة عن الأصول الشرعية والفكرية للاقتصاد الإسلامي.
ظروف نشأة الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث:
بالرغم من الأسس الشرعية والفكرية القديمة للاقتصاد في الفكر الإسلامي إلا أن مصطلح الاقتصاد الإسلامي في حد ذاته لم يظهر إلا في أواخر القرن الرابع عشر الهجري أو في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا بد من القول أن ظهور المصطلح لم يكن مجرد عثور على اسم لشيء موجوداً بل كان يعني أكثر من هذا على سبيل التأكيد. لقد كان المصطلح مرتبطاً بعدة أمور بالرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري في إطار الشريعة الإسلامية وصياغة نظريات وسياسات اقتصادية تلائم الاحتياجات الواقعية للأقطار الإسلامية وتساعدها على تحقيق التقدم.(1/5)
لقد ظهرت الرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري يحفظ هوية الأقطار الإسلامية ويحقق مصالحها وقوتها إثر انهيار الدولة العثمانية ( التي اُعتبري آخر حلقات الخلافة في الدولة الإسلامية الكبرى) وظهور النزعات الاستقلالية في الأقطار الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة الدول الغربية الاستعمارية. ولم تكن السلطات الاستعمارية تُخفي نزعتها الفكرية المسيحية في التأثير على الثقافة والتعليم وتوجهاتها في إعادة صياغة التشريعات ووضع القوانين التي تتفق مع توجهاتها العلمانية، وذلك على المستويين المدني والتجاري. وكل هذا مما أثار حفيظة الصفوة من المثقفين الوطنيين وجعلهم أكثر رغبة واستعداداً لخوض معركة الاستقلال الفكري للحفاظ على الهوية الإسلامية. وكان من الشائع في خضم هذه المعركة الفكرية أن الاستقلال السياسي ضرورة لتصفية التبعية الفكرية، وأن الاستقلال الاقتصادي في الإطار الإسلامي هو القاعدة الأساسية للاستقلال السياسي(1).
ومما قوّى حافز الصفوة من المثقفين والوطنيين الإسلاميين ورغبتهم في تحقيق الهوية الاقتصادية الإسلامية ظهور حركات ومذاهب اقتصادية جديدة مضادة للنظام الرأسمالي مثل الاشتراكية التعاونية والماركسية. فقد كان ثمة اعتقاد شائع بأن الرأسمالية هي سر سيطرة الغرب وأنتها الطريق الوحيد إلى القوة.
__________
(1) عبد الرحمن يسري أحمد، الاقتصاد الإسلامي بين منهاجية البحث وإمكانية التطبيق، سلسلة محاضرات العلماء الفائزين بجائزة البنك رقم (15)، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، 1999م.(1/6)
وفي إطار مناخ التحدي للرأسمالية العالمية تزايدت الدعوة إحياء الشريعة والقيم والنظم الإسلامية بآليات مناسبة حتى تتم مواجهة الرأسمالية وتحدياتها الاستعمارية ويمكن للأقطار الإسلامية التخلص من سيطرة الحركات والأفكار الجديدة التي لا تتفق أيضاً مع الشريعة الإسلامية وتحقق التقدم في المجال الاقتصادي، وقد صار من الجلي ما للقوة الاقتصادية من أهمية عظمى في البناء السياسي والاجتماعي.
وهكذا ظهر الاهتمام بإقامة الاقتصاد الإسلامي فكراً وتطبيقاً منذ أوائل القرن العشرين في غمرة أحداث وتطورات عديدة داخل الأقطار الإسلامية وخارجها.
وفي الفترة التالية للحرب العالمية الثانية نالت الأقطار الإسلامية الواحدة تلو الأخرى استقلالها السياسي من الدول الاستعمارية الغربية وبدأت مسيرتها لتحقيق التنمية الاقتصادية. وفي ذلك الإطار الجديد ظهرت عدة توجهات فكرية وسياسية تستهدف العمل على إقامة أو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي والتأثير في السياسات الاقتصادية الكلية. ومن أبرز هذه التوجهات:
1- التوجه إلى إقامة نظام اقتصادي وطني مستقل ينخفض فيه الاعتماد على الخارج، وتُعطى فيه أولوية للسياسات التي تهتم بتلبية احتياجات السكان الأساسية وتعمل على تحقيق التنمية اعتماداً على الموارد الذاتية بصفة أساسية.
2- الحفاظ على النظام الاقتصادي السابق للاستقلال من حيث هويته الرأسمالية، واستمرار اعتماد السياسات التي تؤكد الصلة بالعالم الخارجي وبالدول الاستعمارية السابقة ولكن على أسس جديدة تسعى لتحقيق المصلحة الوطنية.
3- العمل على إقامة نظام اقتصادي ذو نزعة اشتراكية (أو اجتماعية) يتعاظم فيه دور القطاع العام والارتباط مع الكتلة الشرعية على المستوى العالمي بدلاً من الكتلة الغربية الرأسمالية.(1/7)
4- المناداة بإقامة نظام اقتصادي إسلامي يسعى لتحقيق المصالح الاقتصادية في إطار وطني مستقل، والحفاظ على علاقات متوازنة مع العالم الخارجي مع السعي على تحقيق التكامل مع بقية الأقطار الإسلامية.
ولقد لقي التوجه الأول تأييداً عريضاً وكان أكثر التوجهات بروزاً من الناحية الواقعية خلال الخمسينات والستينات خاصة على مستوى الكثير من الأقطار الإسلامية.وبقي التوجه الثاني محدوداً إلا أنه كان قوياً من حيث التأكيد على العلاقات الاقتصادية بالعالم الخارجي. وقد عملت الدول الاستعمارية السابقة من جهتها على دعم هذا التوجه من خلال تنظيمات، مثل الكومنولث البريطانيBritish Commonwealth والكتلة الفرانكفونية (فرنسا)، وذلك لأجل استمرا مصالحه الاقتصادية.
أما التوجه الاشتراكي فقد لقي رواجاً في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات، وقد لقي هذا التوجه تأييداً ودعماً من الاتحاد السوفيتي السابق إلى أن انهار هذا في بداية التسعينات وانهارت معه التجربة الاشتراكية على المستوى العالمي.
وبالنسبة للتوجه الإسلامي فقد وجد طريقه إلى الواقع في حالات معدودات وهي باكستان والمملكة العربية السعودية والسودان وإيران، ولكنه ما يزال في طور التجريب إلى الآن. أما في بقية الأقطار الإسلامية فإنه بالرغم من أن التوجه الإسلامي لقي تأييداً شعبياً كبيراً منذ حصولها على الاستقلال السياسي إلا أنه لقي أيضاً تحديات ومعارضات سياسية هائلة من الداخل ومن الخارج على حدٍ سواء. وقد استهدفت المعارضة أحياناً القضاء على التوجه الإسلامي وأحياناً أخرى دمجه أو مزجه من التوجه الوطني الرأسمالي أو مع التوجه الاشتراكي.(1/8)
وخلال نصف قرن مضى الآن على حصول معظم الأقطار الإسلامية على استقلالها السياسي لم تنجح الأنظمة الاقتصادية البديلة للنظام الإسلامي في تحقيق الاستقلال السياسي لهذه الأقطار أو دفع عجلة التنمية فيها على نحو يقلل من الفجوة الاقتصادية بينها وبين الدول المتقدمة. على العكس من ذلك فقد عانى العديد من الأقطار الإسلامية من ازدياد حدّة المشكلات الاقتصادية في شكل عجز مستمر في موازين المدفوعات وارتفاع غير عادي في الدين العام الخارجي وكذلك الدين العام الداخلي واشتداد حدّة التضخم وزيادة حالة الفقراء سواء.
ولقد تسببت هذه التطورات في نقد الأنظمة الاقتصادية القائمة وإثارة التساؤلات عن ملائمتها وجدوى استمرارها، وقد أتاح هذا لأصحاب التوجهات الإسلامية سواء من المفكرين أو من العاملين في المجالات السياسية والاجتماعية أن يطرحوا بقوة قضية الاقتصاد الإسلامي، والذي من خلاله يمكن تقديم علاج شامل ويتلاءم مع البيئة العقدية والاجتماعية لعامة الناس. وفي هذا المناخ لم تنقطع اجتهادات المفكرين الإسلاميين في تحليل مشكلات مجتمعاتهم وعرض أنواع العلاج الملائمة لها في إطار إسلامي. وهكذا تطور الفكر الاقتصادي الإسلامي الحديث وظهرت مساهمات عديدة عن خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي،وفي مجالات النقود والربا والبنوك الإسلامية والزكاة والضرائب والتنمية الاقتصادية والتضخم وكيفية تحقيق الاستقرار النقدي، وكذلك في مجال التعاون والتكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية.
وبطبيعة الأمر فإن بعض هذه المساهمات يقل من جهة الإتقان العلمي أو القابلية للتطبيق العلمي عن البعض الآخر، ولكنها جميعاً اتجهت إلى محاولة إرساء معالم نظام اقتصادي إسلامي ووضع قواعد لعلم اقتصادي إسلامي حديث. وكان للمؤتمرات والندوات العلمية العالمية في الاقتصاد الإسلامي دور كبير في تنظيم المساهمات الفكرية وتمحيصها.(1/9)
وكان لجامعة الملك عبد العزيز جدة فضل في المبادرة بأول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي أُقيم في مكة المكرمة عام 1976م، كما كان للمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية دور كبير في إقامة وإنجاح معظم الندوات والمؤتمرات التي أُقيمت. ولقد عُقدت هذه المؤتمرات والندوات على نحو شبه مستمر منذ أن عُقد الأول منها في مكة المكرمة، وتم نشر أعمالها أيضاً على مستوى عالمي باللغتين العربية والإنجليزية وأحياناً الفرنسية أو بلغات أخرى.
التجديد في الجوانب المؤسسية للاقتصاد الإسلامي:
لقي الاقتصاد الإسلامي أيضاً دفعة كبيرة في الجانب المؤسسي في الربع قرن الأخير على جبهتين أساسيتين: التعليم والمصرفية. وعلى مستوى التعليم الجامعي الأول والعالي في الأقطار الإسلامية تم إنشاء أقسام علمية أو شعب متخصصة في الاقتصاد الإسلامي في جامعة أم القرى وجامعات أخرى بالمملكة العربية السعودية، وفي جامعة أم درمان الإسلامية وخمس جامعات أخرى بالسودان وفي إيران، وتم إنشاء المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي في إسلام أبد بباكستان، وكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا والتي تمنح درجات جامعية في الاقتصاد مع إعطاء الأهمية الكبرى لمقررات الاقتصاد الإسلامي. وغير ذلك هناك عدد من الجامعات في العالم الإسلامي تعرض مقررات ودبلومات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي ضمن مقرراتها الأكاديمية منها جامعة الإسكندرية بمصر، وجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة الأوزاعي في لبنان.
وفي هذا الإطار تخرجت أعداد كبيرة من الشباب الجامعي الذين يحملون فكراً اقتصادياً إسلامياً قابلاً للتطبيق والتطوير، كما تم إنجاز عشرات من الرسائل العلمية في الاقتصاد الإسلامي على مستوى الماجستير والد كتوراة.(1/10)
أما خارج العالم الإسلامي فقد وجد علم الاقتصاد الإسلامي طريقه أيضاً إلى عدد من الجامعات والمعاهد العليا، كما لقي احتراماً من بعض المنظمات الدولية (كصندوق النقد الدولي IMF) وعل سبيل المثال فإن جامعة Loughborough وجامعة Durham في وسط وشمال انجلترا تقدم مقررات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي ولدى الأخيرة برنامج على مستوى الماجستير يتيح التخصص في التمويل الإسلامي.. وهناك أيضاً المعهد الدولي للاقتصاد الإسلامي والتأمين بجامعة لندن، والمعهد العالي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة.
وبالرغم من هذه التطورات الهامة فإن دراسة الاقتصاد الإسلامي سواء من خلال أقسام متخصصة أو مقررات أو غير ذلك ما زالت تحتل مكانة نسبية بسيطة جداً أو لا تذكر على مستوى جامعات العالم الإسلامي. فما زال معظم هذه الجامعات أو جميعها في بعض الأقطار الإسلامية لا يعرض سوى المقررات الاقتصادية الوضعية.ويُعزى هذا الوضع إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أولها تلقي معظم أساتذة الاقتصاد في جامعات العالم الإسلامي تعليمهم الجامعي في جامعات غربية أو جامعات وطنية تعمل بمناهج علمانية وضعية في إطار الفلسفات الغربية(1)، وثانيها مقاومة كبار المسئولين في الأقطار الإسلامية للاتجاهات التعليمية الإسلامية تحت ضغوط من الدول الغربية ومخاوف من هذه الاتجاهات وانعكاساتها السياسية، وثالثها غياب أو ضعف أو عدم اكتمال الإعداد لمقررات الاقتصاد الإسلامي والمادة العلمية المناسبة فيها.وبينما يرجع السببين الأول إلى عوامل خارجية عن نطاق سيطرة الاقتصاديين الإسلاميين فإن المسئولية تقع عليهم فيما يخص السبب الثالث.
__________
(1) وللأسف الشديد فإن عددا من هؤلاء قد تم استخدامهم لتدريس الاقتصاد في أقسام علمية أنشئت خصيصاً ببعض الجامعات لتدريس الاقتصاد الإسلامي فكان لهم تأثير سلبي غير عادي على توجهات الطلاب من جهة التخصص العلمي في هذا الميدان.(1/11)
أما المسئولية المصرفية الإسلامية فقد تنامت من حيث العدد من بنكين اثنين (أحدهما في مصر والثاني في باكستان) في الستينات إلى نحو سبعين في بداية القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى عدد آخر ليس قليل من البنوك التجارية التي عملت على تنويع نشاطها بفتح نوافذ مصرفية إسلامية أو التي اتخذت خطوات فعلية للتحول إلى العمل المصرفي الإسلامي. وأكدت الأبحاث والدراسات نمو النشاط المصرفي الإسلامي بقوة خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين.
وكان لتميز البنوك الإسلامية بالمعاملات الخالية من الربا أثر كبير في إقبال أصحاب المدخرات الحريصين على دينهم في الاستثمار من خلالها، لكن الحقبة الأخيرة شهدت تراجعاً نسبياً في المصارف الإسلامية لأسباب عديدة منها الهجوم عليها بحجة أن الأساس الذي تقوم عليه وهو ربوية نظام الفائدة غير صحيح (الأمر الذي استند إلى فتاوى دينية رسمية للأسف)، ومنها عدم ملائمة التشريعات المصرفية الوضعية لها وتطبيق لوائح البنوك المركزية بحذافيرها عليها رغم اختلاف نوعية نشاطها الاستثماري عن النشاط الإقراضي للبنوك التجارية.(1/12)
إلا أننا ترى أن من أخطر ما يوجه للمصارف الإسلامية هو عدم قدرتها على تمييز نشاطها المصرفي عن النشاط المصرفي التجاري بشكل واضح. فقد اعتمدت هذه المصارف الإسلامية في توظيف معظم مواردها على صيغة المرابحة للآمر بالشراء والتي لاقت انتقاداً من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين كما لاقت تشهيراً من غيرهم، ويرجع هذا إلى عدم فهم جوهر التمويل المصرفي الإسلامي من قبل الأجهزة الإدارية والعديد من العاملين في هذه المصارف، كما يرجع أيضاً إلى عدم القدرة على تجديد وسائل التمويل الإسلامية التقليدية أو ابتكار الجديد منها في إطار الشريعة الإسلامية.والمسئولية هنا تقع ولا شك على رجال الاقتصاد الإسلامي وهذا ما سوف يُشار إليه فيما بعد عند استعراض وتقويم أعمال البحث في هذا المجال. وثمة ارتباط لا بد أن يُشار إليه هنا بين نمو المؤسسة المصرفية الإسلامية ونمو المؤسسة التعليمية في مجال الاقتصاد الإسلامي، ذلك لأن نمو الأولى بشكل صحي ومطرد كان يمكن أن يُهيئ فُرصاً متزايدة للعمل بالنسبة للجامعيين المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي.
فلقد كان منظراً في السبعينات أن يستمر توسع المصارف الإسلامية وتوسع الاستثمارات والأعمال الإسلامية الممولة من خلالها فيستمر نمو فرص العمل والوظائف في الإطار الاقتصادي الإسلامي، لذلك فإن ثمة ملاحظة يمكن تسجيلها عن اقتران قلة إقبال الطلاب على التخصص في الاقتصاد الإسلامي (في الجامعات الرائدة في هذا المجال) وقلة فرص العمل الجديدة سواء في المصارف الإسلامية أو في المشروعات الممولة من خلالها. هذه العلاقة يجب بحثها بدقة للتعرف على مدى خطورتها وكيفية معالجتها.
وما زال الجانب المؤسسي في الاقتصاد الإسلامي في حاجة إلى التحديد، فهذا الجانب يمثل العمود الفقري للنظام الاقتصادي الإسلامي، ولا نستطيع أن نفترض قيام هذا النظام دفعة واحدة ولا نتصور أيضاً قيامه دون التنظير للمؤسسات التي يعتمد عليها.(1/13)
وهناك مؤسسات كانت قائمة قبل انتشار الدعوة إلى الاقتصاد الإسلامي المعاصر وما تزال كمؤسسة الزكاة، فكيف يمكن تنمية مؤسسة الزكاة في الإطار الرسمي؟ زمن جهة أخرى كيف يمكن إحياء مؤسسات إسلامية هامة كالوقف أو الحسبة؟ والأمر هنا يحتاج إلى أبحاث مستفيضة لا تكتفي ببيان الجوانب النظرية لهذه المؤسسات وإنما أيضاً بالآليات الضرورية لنجاحها عملياً في القطار الإسلامية المعاصرة.
مجالات الاهتمام واتجاهات الفكر الاقتصادي الإسلامي (عروض وتقديم):
ظلت الأبحاث والمقالات أو المحاضرات في الاقتصاد الإسلامي خلال النصف الأول من القرن العشرين تدور في معظمها حول ضرورة النظام الاقتصادي الإسلامي وربوية نظام الفائدة والحاجلة إلى إقامة بنوك إسلامية حتى يتعامل معها المسلمون وهم مطمئنون من الناحية الشرعية.
وبالرغم من ظهور مناقشات وأراء مضادة دافعت عن أنظمة اقتصادية وضعية، وعملت على إضفاء نوع من الشرعية أو إيجاد مبررات للفوائد المصرفية إلا أن الاتجاه الأول ظل غالباً بين علماء الإسلام ومؤيداً بالرغبة في إنهاء الاعتماد على الأنظمة الاقتصادية الغربية وعلى المصارف الربوية التي ارتبط وجودها بوجود الاستعمار الغربي ونمى نشاطها على مدى الأجل الطويل مع زيادة سيطرة رأس المال الأجنبي وزيادة التبعية الاقتصادية للغرب.(1/14)
وفي الربع الثالث من القرن العشرين بعد حصول معظم الأقطار الإسلامية على استقلالها السياسي لم تظهر في هذه الأقطار أية اتجاهات فكرية جديدة ومستقلة في الميدان الاقتصادي أو غيره سوى تلك التي دافع عنها المفكرون الإسلاميون.فالاتجاه الرأسمالي- أو ما يُسمّى باتجاه السوق الحرّة- كان امتداداً طبيعياً للنظام الذي أسسه الغرب الاستعماري وعمل على توفير الحماية القانونية له خلال فترة طويلة قبل الاستقلال،أما الاتجاه الاشتراكي أو الشيوعي فكان يحمل في طياته محاولة من الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق للتسلل داخل الأقطار الإسلامية، من خلال قلة من المفكرين وبعض الحزبيين الذين حملوا مبادئ هذه الكتلة ودافعوا عنها.
لقد كان الاتجاه الإسلامي هو وحده الذي يتضمن تجديداً حقيقياً وخروجاً عن الدائرة الفكرية المغلقة وذلك بتحليل أسباب المشكلات وتقديم حلول لها تختلف في جوهرها عن تلك النابعة من الفكر الرأسمالي أو الاشتراكي.
وفي إطار الفكر الاقتصادي الإسلامي كفكر تجديدي يعمل على إحياء الشريعة الإسلامية في مجال الحياة الاقتصادية طرقت موضوعات جديدة بجوار موضوع النظام الاقتصادي والفائدة والبنوك الربوية والبديل الإسلامي لها، وكان من أوائل هذه الموضوعات إحياء النظام المالي الإسلامي وجوهر الزكاة، وموضوع التنمية الاقتصادية والتكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية، وفي إطار نمو البحث الاقتصادي الإسلامي نجد أيضاً مساهمات أخرى في مجال التنظير للاستهلاك والإنتاج والتوزيع، وفيما يلي تقويم لهذه الاتجاهات وما تمّ من إنجازات.
1- النظام الاقتصادي:(1/15)
يلقى موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي اهتماماً بالغاً من غالبية الروّاد الأوائل، وذلك لحرصهم على بيان وإثبات واختلاف هوية هذا النظام وتميّزه عن الأنظمة الوضعية الرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرها. وبينما قررّ البعض أن النظام الاقتصادي الإسلامي يجمع بين مزايا الرأسمالية والاشتراكية بينما أنه لا يتضمن عيوبهما (الطحاوي 1974) فإن آخرين قرروا أنه لا وجه للتشابه بين النظام الاقتصادي الإسلامي وهذه النظم حتى فيما يُقال أنه مزايا لها.فالحرية المكفولة للأفراد في التملك والتعاقد والنشاط في الرأسمالية، حرية غير مهذبة أو مقيّدة بالأخلاق الفاضلة وبمراعاة حقوق الجماعة في المقام الأول كما هو في الإسلام مناع قطان والفنجري)(1). كذلك فإن الدافع الفردي والإبداع الفردي في الإسلام لا يتماثل أبداً مع فلسفة الفردية وإشباع الرغبات الخاصة للنفس في الرأسمالية، أما الفكر الجماعي في الإسلام فمقيد ومحدود بما يحفظ الدوافع الفردية والملكية الفردية والحرية وليس مهنياً كما هو في الاشتراكيات العلمية (فاروق النبهان)(2).كذلك فإن الملكية المشتركة أو الجماعية في الإسلام مقيدة بما بينته السنة النبوية وليست شاملة أو مسيطرة كما هو في الاشتراكية.
__________
(1) مناع قطان، مفهوم ومنهج الاقتصاد الإسلامي، شوقي الفنجري، المذهب الاقتصادي في الإسلام، وذلك ضمن الاقتصاد الإسلامي- بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز، جدة 1400ـ- 1980م.
(2) محمد فاروق النبهان، أبحاث في الاقتصاد الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط1، 1406هـ- 1986.(1/16)
واعتقد البعض من الروّاد الأوائل أن بحث خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي وكيفية تحقيقه له أولوية فوق بحث أية أمور تنظيرية في مجال الاقتصاد الإسلامي (باقر الصدر 1980)(1). فالنظرية لن تكون صحيحة إلا إذا أسست على فروض واقعية، وهكذا فإن تكّون النظرية الاقتصادية الإسلامية يأتي في مرحلة لاحقة بعد إرساء النظام الاقتصادي الإسلامي. ولقد لاقت هذه الفكرة استحساناً من البعض وهي في حقيقتها تستند إلى مفهوم الإيجابية Positivism الذي يحتل مكان الصدارة الآن في الفكر الاقتصادي الوضعي. لكن من الضروري التأكيد على أن النظرية يمكن أن تُعبّر عما ينبغي Normative ومن ثم فالاجتهاد فيها لا يقوم بالضرورة على أساس فروض واقعية وإنما فروض مثالية إذا تحققت يتحقق فرضها المفسر(2).
__________
(1) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، 1400هـ- 1980.
(2) عبد الرحمن يسري أحمد، الاقتصاد الإسلامي بين منهاجية البحث وإمكانية التطبيق، سبق ذكره، ص 31- 33.(1/17)
ولقد تطورت الأبحاث في مجال النظام الاقتصادي الإسلامي من مرحلة تميزّت بالتأكيد على تطبيق الشريعة والتمسك بالعقيدة الإسلامية (أبو زهرة والمبارك والمودودي)(1) إلى مرحلة أخرى تميزّت بتحليل العلاقة بين القواعد الشرعية والقيم العقدية من جهة والمؤسسات السياسية الاقتصادية الكلية من جهة أخرى، مع عقد مقارنات دقيقة بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى (شابرا 1970،1979 ويسري 1999،1989، محمد أحمد صقر 1976)(2).
2- الفائدة والربا:
__________
(1) …محمد أبو زهرة، التكافل الاجتماعي في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، عبد السميع المصري، مقومات الاقتصاد الإسلامي، مكتبة وهبة- القاهرة 1395هـ- 1975م، أبو الأعلى المودودي، أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة ومضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام، ترجمة عاصم الحداد، الدار السعودية للنشر- بيروت 1967م.
(2) Chapra, M. U,'' The Economic System of Islam'', The Islamic Culture Centre, London1970.
Also: ''Objectives of The Islamic Economic Order'' The Islamic Foundation. U.k, 1979.(1/18)
تبلورت المناقشات التي أُثيرت في العشرينات وسنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها مباشرة تبريراً للفائدة البسيطة بشروط معينة (محمد رضا- الفائدة غير المشروطة بعد السنة الأولى، الرصافي- الفائدة على القروض الإنتاجية، السنهوري- نظرية الضرورة في إطار نظام اقتصادي غير إسلامي)(1)في فتح الباب أمام الآخرين من علماء المسلمين لكي يدلوا بدلوهم، وانقسمت المناقشات خلال الستينات والسبعينات وما بعد ذلك إلى قسمين رئيسين أحدهما يقف بشدة أمام أي مبررات للفائدة (عيسى وأبو الأعلى الودودي وغيرهم)(2) وقسم ثان يحاول إيجاد مبررات أكث للفائدة المصرفية ليس فقط البسيط منها وإنما أيضاً المركب (عبد المنعم النمر وسيد طنطاوي)(3). وانضم إلى هذا القسم الثاني رجال اقتصاد مسلمون أرادوا أن يثبتوا الموضوع بالمنطق الاقتصادي البحت أن نظام الفائدة ضروري للمصلحة الاقتصادية لعامة المسلمين وأن التخلي عنه سوف يسبب مزيداً من التخلف والمشاكل الاقتصادية(4).وكرد فعل لهذا الاتجاه
__________
(1) 10) محمد رشيد رضا، الربا والمعاملات في الإسلام، تحرير محمد بهجة البيطار- مكتبة القاهرة 1969، عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، القاهرة، محمود أبو زهرة، بحوث في الربا، دار الفكر العربي، القاهرة، عبد الرحمن يسري، الربا والفائدة-رد على المدافعين عن فوائد البنوك، الدار الجامعية- الإسكندرية،ط1، 1996، الفصل الثالث.
(2) 11) عيسى عبده، الاقتصاد الإسلامي، دار نهضة مصر- القاهرة1974، أبو الأعلى المودودي، أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، ترجمة محمد عاصم الحداد، الدار السعودية للنشر- بيروت1976، صلاح منصور، أرباح البنوك بين الحلال والحرام، دار المعارف- القاهرة1989.
(3) 12) محمد سيد طنطاوي، معاملات البنوك وأحكامها الشرعية، مطبعة السعادة،ط2، القاهرة 1991.
(4) 13) انظر رأي سعيد النجار في صلاح منتصر، مرجع سبق ذكره في ملاحظة،1.(1/19)
الثاني ظهرت كتابات إسلامية قوية تستند إلى الحجج الشرعية المحرمة للفائدة تحريماً قاطعاً وتبين بالمنطق الاقتصادي خطأ مناقشات الاقتصاديين الذين يدعون أن المصلحة العامة لا تتحقق إلا بها(نجاة الله صديقي وعمر شابرا ويسري والمصطفى ونجفي)(1).
وأبدت الأبحاث العلمية المحايدة الحديثة عن الفائدة أنها سلاح غير فاعل في توزيع الموارد التمويلية توزيعاً أمثلاً وان ارتفاع سعر الفائدة لا تؤدي بالضرورة إلى التأثير في الادخار الكلي بشكل إيجابي إلا إذا كان ارتفاعاً حقيقياً كبيراً وفي مثل هذه الظروف يكون له أثر معاكس للاستثمار.(2)
__________
(1) 14) نجاة الله صديقي Banking Without Interest (Siddiqi, M. N) الناشرThe Islamic Foundation, LEICESTER, UK,1983
عمر شابرا Towards A Just Monetary System(Chapra, M.U) الناشرThe Islamic Foundation, UK ، عبد الرحمن يسري، مقال في ندوة Islamic Foundationبعنوان
Riba: its Economic Rational and Implication ومنشور في New Horizon, No 109, May- June 2001 والتي ينشرها Institute of Islamic Banking & Insurance, London, UK
رفيق المصري، ربا القروض وأدلة تحريمه، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عيد العزيز1987، وكذلك الربا والحسم الزمني، دار حافظ- جدة1987، نجفي Najvi, S. N. H, Interest Rate and Interemporal Allocative Efficiency in an Islamic Economy, In Ariff M(ed) Monetary and Fiscal Economics of Islam. International Center of Research in Islamic Economics, Jeddah, 1982.
D Khatkhate, Assessing the Impact of Interest Rates in LDCs, World Development, Vol. 16, No 5, pp 577- 588, Pergamon Press, G.britain.
(2) 15)D.Khatkhate, Assessing the Impact of Interest Rates in LDCs,World Development, Vol 16,No.5,pp.577- 588, Pergamon Press, G. Britain.(1/20)
كذلك أثبتت الدراسات أن نظام الإقراض بالفائدة متحيز في توزيع الموارد التمويلية إلى أصحاب الملاءة المالية ويعمل في غير صالح أصحاب المشروعات المتوسطة والصغيرة، ومن ثم يسيء بصفة مستمرة إلى توزيع الدخل القومي. وظهرت مناقشة اقتصادية جديدة مؤيدة للفائدة على أساس أنها تعويض عن معدل التضخم (الفنجري وصفي الدين عوض)(1)، وكان من اليسير دحضها، فمعدل التضخم نادراً ما تساوى عملياً مع سعر الفائدة التجاري، وليس هناك دليل على أنه إذا انخفض إلى الصفر فإن البنوك أو المؤسسات الربوية ستمتنع عن أخذ أو إعطاء فوائد. وقد شجّع على خروج هذه المناقشة أمران أ,لهما مشكلة التضخم وعدم القدرة على إيجاد حل سريع لها وما نشأ عنها من تدهور مستمر في القيمة الحقيقية للعملة، وثانيهما رفض العديد من الفقهاء من خارج المذهب الحنفي طرح رأي أبو يوسف رضي الله عنه عن التعويض في حالة الغلاء للبحث والمناقشة، ولو حدث هذا لأمكن الاستفادة منه وتطويره أو رفضه رفضاً قاطعاً وإغلاق الباب أمام قضية التعويض أو قبوله بشروط.شيء من هذا لم يحدث، مما فتح الباب لأراء غير ناضجة.
وبالرغم من وضوح تطابق الفائدة داخل عديد من الأقطار الإسلامية سواء من فبل الحافة أو المدافعين عن البنوك الربوية أو بعض رجال الدين الذين تقلدوا مناصب رسمية رفيعة الخ... لذلك استمرت المقالات تتجدد في نفس الموضوع من قبل رجال الاقتصاد الإسلامي ومن مخالفيهم. وفي رأينا أن معالجة هذه الحلقة المفرغة تتأتى من خلال ثلاثة أمور:
__________
(1) 16) محمد شوقي الفنجري، نحو اقتصاد إسلامي، شركات مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، ط1، 1981،ص124- 125، وأحمد صفي الدين عوض، بحوث في الاقتصاد الإسلامي، وزارة الشئون الدينية والأوقاف- السودان 1978، ص31-32.(1/21)
- أولها: التأكيد على صحة الدراسات الاقتصادية الإسلامية المتعمقة التي تثبت بالحجة النظرية والأدلة الفقهية تطابق الفائدة مع الربا، وعدم جدوى نظامها لتنمية الإنتاج وللتوزيع الأمثل للموارد الاقتصادية والدخول والثروات وذلك بإعادة نشر هذه الدراسات.
- ثانيها:التأكيد على صحة هذه الدراسات بأبحاث جديدة تطبيقية تستند إلى إحصائيات وبيانات واقعية.
- ثالثها: القيام بأبحاث للتأكيد على أن وسائل التمويل الإسلامية، وهي البدائل الشرعية لما حرّم الله، يمكن تطويرها وزيادة فاعليتها وانه يمكن الاعتماد عليها لإعادة توزيع الموارد الاقتصادية والدخول والثروات في المجتمع على نحو أفضل تجاه التنمية الاقتصادية ورفاه الأمة الإسلامية.
3- النقود والاستقرار النقدي:
لقي موضوع النقود اهتماماً كبيراً منذ البداية وذلك مع بحث موضوع الفائدة والربا، لكنه نال أيضاً عناية تحليلية خاصة ظهرت في أول مؤتمر عُقد للاقتصاد الإسلامي بمكة 1396هـ (محمود أبو السعود ومعبد الجارحي)(1)، فتطرق محمود أبو السعود من خلال بحث له عن النقود والفائدة والقراض إلى طبيعة ووظائف النقود متعرضاً لآراء اقتصادية وضعية معاصرة ومعقباً من منظور إسلامي. كما تعرض معبد الجارحي إلى قضية النقود الائتمانية وتوليدها والكفاءة النسبية لنظام نقدي خال من الربا.
__________
(1) 17) محمود أبو السعود Money, Interest & Qirad (Mahmud Abu Saud)، ومعبد الجارحي.
(Mahdi Al-Jarhi) The Relative Efficiency of Interest- Free Moneatary Economics:
The Fiat Money Case- كلتا المقالتين في: Studies in Islamic Economics: تحرير خورشيد
أحمد الناشر Islamic Foundation مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز 1980.(1/22)
وتوالت الأعمال بعد ذلك وكان من أبرزها مساهم عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل(1)، كذلك تم بحث موضوع الاستقرار النقدي من خلال التعرض لمشكلة التضخم والتي كانت شديدة الحدة في معظم الأقطار الإسلامية خلال السبعينات والثمانينات، وذلك من خلال عدة ندوات ومؤتمرات في الثمانينات والتسعينات (أبرز الأبحاث والباحثين). وكان الوجه الآخر لمشكلة التضخم متمثلاً في الانخفاض الحقيقي في قيمة العملة النقدية أو قوتها الشرائية، ومن ثم وفي إطار البحث عن علاج إسلامي للتضخم نُوقشت أيضاً مسألة استقرار القوة الشرائية أو القيمة الحقيقية للعملة وطُرحت قضية الربط القياسي للحقوق والالتزامات الآجلة Indexation.
وظهر أكثر من فرض مفسر لظاهرة التضخم ومن ثم أكثر من سياسة مقترحة لكيفية علاجه. أول هذه الفروض أن التضخم أو عدم الاستقرار النقدي في الأقطار الإسلامية إنما هو نتيجة طبيعية لعدم وجود نظام نقدي إسلامي.فالفائدة في حد ذاتها تعتبر تكلفة يتحملها المنتجون مع تكاليف الإنتاج الأخرى ويتحملها المستهلكون في شكل أسعار أعلى. ويظهر هذا الأثر بشكل واضح حينما ترتفع أسعار الفائدة مع معدلات التضخم بشكل مستمر، ومن ثم يصبح التضخم ذاتي التغذية (تضخم مدفوع بارتفاع نفقة الإنتاج متمثلة في الفوائد). بالإضافة إلى هذا فإن البنوك الربوية تعمل على توليد نقود ائتمانية في أوقات الرواج بما يؤدي إلى زيادة العرض الكلي للنقود بمعدلات تفوق زيادة العرض الكلي الحقيقي (الناتج القومي الحقيقي)، فيرتفع معدل التضخم تبعاً لذلك.ولقد استفاد أصحاب هذا الرأي من نظريات وضعية سابقة (هايك)(2).
__________
(1) 18) انظر مرجع شابرا في ملاحظة سابقة، 14.
(2) 19) للإطلاع على مساهمة هايك F.A.Hayek انظر: G.P.O' Driscoll, Economics as a Coordination Problem: The Contribution of Friedrich A. Hayek, Kansas City: Sheed,1977.(1/23)
أما الفرض الثاني فهو أن العوامل السابقة تتسبب في التضخم حقيقة ولكنها ليست الوحيدة، فبفرض التخلص من نظام الفائدة سوف تظل هناك قوى اقتصادية أخرى داخلية تتسبب في التضخم، بعضها هيكلي مثل الاحتكار وعدم مرونة الجهاز الإنتاجي على المستوى الكلي، وبعضها نقدي مثل عدم قدرة السلطات النقدية على إدارة العرض الكلي للنقود بما يتناسب مع احتياجات النشاط الاقتصادي الجاري.
وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى تجارب ونظريات نقدية معاصرة وكذلك تجارب قديمة سجلها علماء المسلمين عن ظاهرة الغلاء الفاحش في ظل ظروف كان الربا فيها محرماً على المستوى الكلي على سبيل التأكيد (المقريزي مثلاً)(1).ومن بين هذه الفروض المفسرة للتضخم في الأقطار الإسلامية حالة العجز المستمر في موازين المدفوعات والمديونية الخارجية، والتي تتسبب في انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع أسعار الواردات بشكل مستمر، وهذا ما يُعرف بالتضخم المستورد والذي يُعزى في حالة القطار الإسلامية إلى اختلال هياكل الإنتاج وعدم القدرة على تنمية الصادرات من خلال تنمية اقتصادية شاملة(2).
__________
(1) 20) المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، دار ابن الوليد، حمص-سوريا، 1956، وملخص المساهمة في عبد الرحمن يسري، تطور الفكر الاقتصادي، سبق ذكره (1).
(2) 21) انظر الأبحاث المقدمة في حلقة العمل الأولى عن (التضخم وآثاره على المجتمعات- الحل الإسلامي) المنظمون مصرف فيصل الإسلامي- ا لبحرين، مجمع الفقه الإسلامي- جدة، البنك الإسلامي للتنمية- جدة، رجب1416هـ- 1995م، ومن بين الأبحاث المقدمة: عبد الرحمن يسري أحمد (التضخم حقيقته ومسبباته وأنواعه وآثاره).(1/24)
لقد ظهرت مساهمات علمية قيّمة في مجال تفسير الظاهرة التضخمية، ولكن المتابعة العلمية ظلت ضعيفة، فلقد كان من المفروض أن يستطرد العمل على دعم الفروض المفسرة السابقة ومحاولة اختبارها، ولا شك أن بإمكان الاقتصاديين الإسلاميين الاستفادة من الأبحاث الاقتصادية الوضعية لدعم الفروض المفسّرة السابقة. فهناك شبه اتفاق على صحة الفرضين الثاني والثالث، كما أن هناك أبحاث وضعية تدين الفائدة كسبب للتضخم وخاصة من خلال آلية التوسع في الائتمان الذي تقوم به البنوك الربوية. ولكن من جهة أخرى فإن هناك قصور في بحث السياسات العلاجية الضرورية للتضخم في إطار إسلامي، وهذا ما يقع عبئه عللا رجال الاقتصاد الإسلامي. ويتضح هذا القصور بشكل بيّن لأصحاب الفرضية الأولى (الفائدة والبنوك الربوية هي السبب الرئيس للتضخم) والذين يؤجلون علاج المشكلة إلى حين قيام نظام اقتصادي إسلامي،علماً بأن هذا كما ذكرنا سيمنع فقط أحد الأسباب الرئيسة للتضخم.(1/25)
والتصور الثاني يأتي من أصحاب التفسيرات الأخرى الذين عليهم أن يقوموا بتحليل العلاقة بين المظاهر المختلفة للاختلال الهيكلي الداخلي والخارجي والتضخم ويقدموا مقترحات محددة حول كيفية المعالجة الهيكلية طويلة الأجل للظاهرة التضخمية. وهناك اقتراب من هذا المعنى في مساهمات شبرا على وجه الخصوص ويسري ولكن بشكل مختصر. وتعرض الوجه الآخر للتضخم الخاص بظاهرة تدهور القوة الشرائية أو القيمة الحقيقية للعملة وكيفية علاجها لمناقشات وجدل كبير بين الاقتصاديين الإسلاميين على نحو لم يتعرض له موضوع آخر.فمن بين مؤكد أن هذه المشكلة ستنتهي تلقائياً بتطبيق نظام نقدي في إطار اقتصادي إسلامي، ومن بين قائل أنها مشكلة خطيرة خاصة حينما تستمر على مدى الأجل الطويل ولكنها تستلزم علاجاً نقدياً بغض النظر عن العلاج الإسلامي الهيكلي، ومن ثم كان هناك تأكيد على ضرورة الربط القياسي للقيم والحقوق النقدية المؤاجلة، واستند أصحاب هذا القول أساساً على مبدأ التعويض لأبي يوسف رضي الله عنه مفسرين له على أسس حديثة.ووجه بعض المدافعين عن الربط القياسي هجوماً شديداً إلى الفقهاء المعارضين (علي السالوس مثلاً) لهذا العلاج وساعدهم في ذلك أن فقهاء آخرين خرجوا آراء تدعم وتؤكد شرعية هذا الحل (نزيه حماد ومحيي الدين القرة داغي)(1).
__________
(1) 22) نزيه حماد، تغير النقود وآثاره على الديون في الفقه الإسلامي، مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، كلية الشريعة، مكة1400هـ- 1980، ومحي الدين قره داغي، انظر أبحاث حلقة العمل الثانية في التضخم، ملاحظة 23.(1/26)
وثمة فريق آخر اتخذ موقفاً وسطاً من المواقف السابقة فكان مؤيداً للربط القياسي بشروط محددة أو في حالات محددة وخلال فترة انتقالية إلى أن يتم تحقيق استقرار نقدي في إطار نظام اقتصادي إسلامي (يسري والمصري ومنور إقبال ودنيا وموسى آدم)(1).
__________
(1) 23) انظر الأبحاث المقدمة في حلقة العمل الثانية عن (التضخم وآثاره على المجتمعات- الحل الإسلامي) المنظمون لحلقة العمل الأولى (انظر سابقاً) بالاشتراك مع البنك المركزي- ماليزيا، ومن بين الأبحاث:
عبد الرحمن يسري أحمد، عرض وتحليل لآراء الاقتصاديين الإسلاميين في الربط القياسي، كوالالمبور- محرم1417هـ- يونيو1996م. مقال عبد المنان، ربط القيمة بتغير الأسعار، النظريات والخبرة والتطبيق من منظور إسلامي، وفيه نقد شديد للمعارضين من الفقهاء في حلقة عمل حول ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، البنك الإسلامي للتنمية، جدة- شعبان1407هـ- إبريل1987م، وأحد الأبحاث المميزة في هذه الحلقة: Hasanuzzaman, S. M, Indexation وكذلك مقال منور إقبال (مزايا ربط العملات بمستوى الأسعار ومبادئه، ويمكن أيضاً مراجعة رفيق المصري، الإسلام والنقود، مركز النشر التعليمي، جامعة الملك عبد العزيز-جدة، الطبعة الثانية 1410هـ- 19990م. ومن الأعمال الجديرة بالذكر موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي-رسالة ماجستير، جامعة أم القرى 1405هـ- 1985م، وتم نشرها فيما بعد في سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية، 1414هـ- 1993م. انظر أيضاً آراء ضياء الدين أحمدن ندوة سابقة، يوسف كمال، فقه الاقتصاد النقدي، فصل 7، دار الصابوني ودار الهداية، 1414هـ- 1993م، وفيها معارضة للربط القياسي، كذلك رأي عمر شابرا (نحو نظام نقدي عادل) وهو معارض للربط القياسي أيضاً.(1/27)
لقد بقيت مشكلة التضخم وعلاجها أو علاج آثارها باقية إلى الآن، ومع ذلك انخفضت حدّة المناقشات القائمة حولها كثيراً مع انخفاض معدلات التضخم في معظم الأقطار الإسلامية خلال السنوات الخمس الأخيرة.وهذا الأمر لا يمثل ظاهرة صحية في مجال البحث العلمي، فالمشكلة مازالت كامنة وقد تظهر في فترة أو أخرى قادمة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن رجال الاقتصاد الإسلامي ما يزالون في مرحلة بناء للصرح النظري ومن ثم عليهم أن يبحثوا في المشكلات الاقتصادية التي تواجه مجتمعاتهم وكيفية علاجها سواء في مرحلة انتقالية معاصرة (مازالت بعيدة عن المرحلة الإسلامية) أو في مرحلة إسلامية مثلى، وهذا مما يستدعي ضرورة الاستمرار بجديّة تامة في التحليل واقتراح العلاج للمشكلات سواء زادت حدتها أم خفت، فهذا شأن من يبني للمستقبل في إطار(( ما ينبغي)) هذا الوضع يختلف منهجياً عن وضع رجال الاقتصاد الوضعي الذين يتحركون أساساً لبحث المشكلات الواقعية ولا يعبئون كثيراً بما ينبغي عمله من أجل المستقبل.
4- المصرفية الإسلامية:
ظهرت المساهمات الفكرية في موضوع المصارف الإسلامية ليس فقط مع الهجوم على نظام الفائدة ولكن أيضاً مع الرغبة في إقامة صرح مصرفي إسلامي يسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية للأقطار الإسلامية وتخليصها من أعباء التبعية الاقتصادية للعالم الغربي.(1/28)
ومن أوائل المساهمات تلك التي ظهرت في محاضرات محمد عبد الله المغربي وكتابات عيسى عبده وأبو الأعلى الودودي وأحمد النجار(1)، والتي عملت على إرساء الملامح العامة لنظام مصرفي لا يتعامل بالفائدة أخذاً أو عطاءً.واستطردت المساهمات بعد ذلك، ولكن في مجال أكثر تحديداً وهو إقامة نموذج لمصرف إسلامي يعتمد في تعبئة موارده التمويلية وفي توظيفها على وسائل قائمة على المشاركة في الربح والخسارة، وذلك في إطار استبعاد الفائدة تماماً (سامي حمود، رفيق المصري، محسن خان، عباس ميراخور، شابرا ،وصديقي، والجارحي وغيرهم)(2)
__________
(1) 24) محمد عبد الله العربي، محاضرات في الاقتصاد الإسلامي وسياسة الحكم في الإسلام، مطبعة الشرق العربي، القاهرة، رجب1378هـ- أكتوبر1976م، عيسى عبده، البنوك بلا فوائد، دار الفكر، القاهرة1970، أبو الأعلى المودودي (سبق ذكره)، أحمد النجار، المدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، 1400هـ- 1980م.
(2) 25) سامي محمود (Arabian Information ,London, 1985) Islamic Banking وله أيضاً:
Progress of Islamic Banking, Islamic Economic Studies, December ,1994.
وتطوير الأعمال المصرفية، دار الاتحاد للطباعة،1976، رفيق المصري (سبق ذكره)، ومحسن خان
Islamic Interest- Free Banking, A Theortical Analysis وهو منشور مع أعمال أخرى عن البنوك الإسلامية بالاشتراك مع عباس ميراخور Abas Mirakhor في Islamic Banking and Finance in Theoretical Studies (Houston, TX: The Institute for Research& Islamic Studies, 1987)
شابرا، نحو نظام نقدي عادل، المعهد الدولي للفكر الإسلامي 1987، محمد نجاة الله صديقي، لماذا المصارف الإسلامية، المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة1982، معبد الجارحي A Monetary and Financial Structure for an Interest- Free Economy. In Z. Ahmed, M. Iraqi and F. Khan(eds) Fiscal
Policy and Research Allocation in Islam, Jeddah,1983.
…انظر أيضا قائمة المراجع لمساهمات عبد الحميد الغزالي ومتولي وحسن زبير ومنور إقبال وأوصاف أحمد وحسن الأمين.(1/29)
.
واتجهت الأعمال المقدمة إلى بحث كيفية تحديث وتطوير وسائل التمويل الإسلامية التقليدية حتى تلائم الأعمال المصرفية الإسلامية، وفي إطار البحث تم إجازة الشركة المساهمة محدودة المسئولية في إطار عقد المشاركة الإسلامي، وهو الأمر الذي أتاح قيام البنوك الإسلامية في إطار القوانين المعاصرة للشركات، وأجيزت المضاربة المشتركة حتى يتمكن أصحاب الأموال من وضع أموالهم لدى البنك الإسلامي فتجتمع في وعاء واحد فيستخدمها وفقاً لما يراه مناسباً في الأنشطة المختلفة.(1/30)
وكان لهذا التطور أثره المباشر في تجميع موارد تمويلية بمرونة لدى أي بنك إسلامي، وكذلك في تخفيض المخاطرة بالنسبة لكل عميل من العملاء نظراً لأن مخاطر استخدامات الأموال كلها في مختلف الأنشطة ستوزع على مجموع العملاء فلا يتعرض عميل على حدة (أو عدد من العملاء) لمخاطرة استخدام ماله في نشاط معين. وفد ساعد هذا التطور في تعبئة موارد تمويلية متزايدة بشكل مستمر لدى البنوك الإسلامية. كذلك تم تطوير عقد المرابحة من صورته التقليدية إلى ما يسمى بالمرابحة للآمر بالشراء والتي سمحت بإدخال صيغ البيع الآجل في عقد كان في أصله عقد بيع حاضر، وقد حازت هذه الصيغة قبولاً لدى مديري البنوك الإسلامية لسهولة تنفيذها كما أنها لاقت إقبالاً من الأفراد وأصحاب المشروعات الصغيرة الذين لم تتوفر لديهم مصادر أخرى مناسبة للتمويل، وترجع هذه المساهمة الفكرية إلى سامي حمود وكان صاحب خبرة مصرفية مسبقة(1)
__________
(1) 26) انظر أعمال ندوة (خطة الاستثمار في البنوك الإسلامية- الجانب التطبيقية والقضايا والمشكلات) المنظمون مؤسسة آل البيت (مآب) والبنك الإسلامي للتنمية بجدة، عمان، شوال1407هـ- يونيو1987م، وفيها عبد الستار أبو غدة، عقد المرابحة في المجتمع المعاصر، راضي البدور، عقود المشاركة في الأرباح- المفاهيم والقضايا النظرية، أوصاف أحمد، الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي،، أدلة عملية من البنوك الإسلامية، محمد عبد الحليم عمر، التفاصيل العملية لعقد المرابحة، إسماعيل عبد الرحيم شلبي، الجوانب القانونية لتطبيق عقدي المرابحة والمضاربة، حاتم القرنشاوي، الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة، فهيم خان، تطبيق عقدي المرابحة والمضاربة في البنوك الباكستانية، شوقي شحاتة، تجربة بنوك فيصل الإسلامية في المرابحة والمضاربة، سامي حسن حمود، تطبيقات المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى بناء سوق رأس المال الإسلامي، موسى عبد العزيز شحاتة، تجربة البنك الإسلامي الأردني.(1/31)
. ولم يؤثر عن أي صيغة أخرى للتمويل عن طريق البنوك الإسلامية نجاحاً أكثر مما تحقق عن طريق المرابحة للآمر بالشراء والتي استخدمت في توظيف نحو 80- 90% من الموارد التمويلية التي تجمعت لدى البنوك الإسلامية في جميع الأقطار التي قامت فيها ما عدا السودان، لكن هذه الصيغة نفسها تعرضت لانتقادات متزايدة سواء من الاقتصاديين الإسلاميين أو من الفقهاء، حتى أنها اعتبرت لا تختلف إلا هامشياً عن صيغة التمويل بالفائدة(1).
__________
(1) 27) انظر أعمال ندوة التطبيقات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة- الدار البيضاء- مايو1998، ومن بينها عبد الرحمن يسري أحمد، أثر النظام المصرفي التقليدي على النشاط المصرفي الإسلامي- التجربة المصرية ومقترحات المستقبل، وقد تم نشر أعمال الندوة في تاريخ لاحق- انظر مطبوعات المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، جدة. وفي هذه الورقة وغيرها هناك ملاحظات هامة وانتقادات لممارسات البنوك الإسلامية في المرابحة وغيرها وذلك بقصد تحسين أداء هذه البنوك.(1/32)
ولقد استمعت المحكمة الشرعية الباكستانية في جلسات عديدة وممتدة برئاسة القاضي خليل الرحمن لآراء فقهاء واقتصاديين مصرفيين إسلاميين عن أساليب التمويل المصرفي وتم تجميعها في مجلد واحد ونشرها وهو عمل علمي إسلامي له وزنه الكبير(1).وكان مما تم الإجماع عليه وأقرته المحكمة إدانة بيع المرابحة للآمر بالشراء كما يمارس على أنه مخالف للشريعة الإسلامية ويحمل بعض رجال الاقتصاد الإسلامي والفقهاء بشدة على صيغة المرابحة للآمر بالشراء، ويرى أنه كان من الخطأ إجازتها في المقام الأول بينما يرى آخرون أنها أدت دوراً في توظيف أموال البنوك الإسلامية في مرحلة أولية لنشأتها وأن الخطأ هو الاستمرار فيها بعد تخطي هذه المرحلة.
وهناك رأي آخر وهو أن التجربة المصرفية الإسلامية وحدها هي التي أبانت العيوب الشرعية في صيغة المرابحة للآمر بالشراء، فلم يكن يوسع أحد لان يتبين هذه العيوب من قبل خوض هذه التجربة، وأنه بالإمكان معالجة هذه العيوب للإبقاء على الصيغة التي أثبتت أنها تلقى إقبالاً كبيراً من المتعاملين. وهناك صيغ أخرى للتمويل مثل الإجارة المنتهية بالتملك لم تسلم من الانتقاد والتجريح على أسس من الشريعة.
__________
(1) 28) تقرير Sharia Appellant Court- وهي المحكمة المختصة قي باكستان، وقد نشر التقرير في عدد خاص من مجلة المحكمة برقم وتاريخ وقد تمت ترجمته بالعربية.(1/33)
والحقيقة أن الفكر الاقتصادي الإسلامي في مجال التمويل لا يزال في حاجة ماسة إلى تطوير كبير حتى لا يجتهد العاملين في المصارف الإسلامية على نحو يؤاخذون عليه(1).وفي اعتقادي أن عبء هذا الاجتهاد يقع أساساً على الاقتصاديين الإسلاميين المتخصصين في النقود والمصارف والتمويل، على أن عليهم أن يعرضوا كل ما يتوصلوا إليه على الفقهاء الذين لهم دراية بشؤون المعاملات المالية.وقد تعرض يسري (2003)(2)
__________
(1) 29) انظر أعمال ندوة الصناعة المالية الإسلامية- البنك الإسلامي للتنمية بجدة مع مركز التنمية الإدارية، كلية التجارة- جامعة الإسكندرية مع البنك الإسلامي للتنمية بجدة (المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب), وفي أعمال هذه الندوة العديد من العمال القيمّة التي تناولت الصناعة المالية الإسلامية (البنوك وأسواق المال عموما) بالتحليل والتقويم ومن بين الأعمال المقدمة بحث مسحي لمنور إقبال عن الصناعة المالية الإسلامية ، وبحث لعبد الرحمن يسري أحمد (البنوك الإسلامية- الأسس وآليات العمل وضرورات التطور)، الإسكندرية، سبتمبر2000. وقد تم نشر أعمال الندوة عن طريق البنك الإسلامي.
(2) 30) ندوة مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة درام Durham بإنجلترا- يوليو2003، تحت النشر
A.R.Yousri, Islamic Banking Modes of Finance, Proposals for Further Evolution.(1/34)
في مقال له عن ضرورة القيام بتطوير آخر بل ومستمر في أدوات التمويل الإسلامية المستخدمة لدى المصارف، وذلك حتى يمكن استخدامها بشكل أكثر مرونة وكفاءة في مقابلة المنافسة الشديدة من المصارف الربوية، وحتى يمكن أيضاً توظيفها في خدمة تنمية اقتصادات الدول الإسلامية. كذلك فإن هناك مساهمات جديدة في مجال تطوير عقد المضاربة (محمد أبو زيد 1979)(1) حتى يصبح فاعلاً في توظيف الأموال وليس فقط في تجميعها لدى المصارف الإسلامية.
5- الزكاة والنظام المالي الإسلامي:
__________
(1) 31) محمد عبد المنعم أبو زيد، نحو تطوير نظام المضاربة في المصارف الإسلامية، المعهد العالي للفكر الإسلامي،دراسات في الاقتصاد الإسلامي(36)، ط1، 1420هـ- 2000م، القاهرة.(1/35)
كان من الطبيعي أن تتلقى الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة اهتماماً من الاقتصاديين الإسلاميين، فهذا الركن بالذات يجمع ما بين تطهير النفس والمال وعلى مستوى الفرد (المستوى الجزئي) وما بين التكامل والتماسك الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل والثروة على مستوى المجتمع (المستوى الكلي). وبداية الاجتهادات في موضوع الزكاة جاءت من خلال أبحاث شاملة عن الزكاة والعدالة الضريبية (عاطف السيد) ودورها في معالجة المشكلات الاقتصادية (القرضاوي)(1)، والدور المالي للدولة في الإسلام من خلال دراسة التاريخ (محمد حميد الله ، وحسن الزمان)(2)، وأهمية هذا الدور للرفاه الاجتماعي (شابرا 1980، وحسن الزمان 1981)(3)، ثم شيئاً فشيئاً ظهرت أبحاث تعالج موضوعات متخصصة مثل الدور التوزيعي للزكاة وكذا دورها في تحقيق الاستقرار.
__________
(1) 32) أبحاث المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي (سبق ذكره في 4)، عاطف السيد، فكرة العدالة الضريبية في الزكاة في صدر الإسلام، يوسف القرضاوي، دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية.
(2) 33) Hassanuzaman, S.M, The Economic Functions of The Early Islamic State, International Islamic Publisher, Karachi,1981, Hameedullah, Muhammad, "Budgeting and Taxation the Time of The Holy Prophet", Journal of The Pakistan Historical Society, January, 1955.
(3) 34) Chapra, Umar, The Islamic Welfare State and its Role in The Economy(The Islamic Foundation, U.K ,1979).(1/36)
والحقيقة أن بحث موضوع الزكاة وكيفية تطبيقها في الحياة المعاصرة للأقطار الإسلامية أثار موضوعات عديدة متعلقة بماهية النظام المالي الإسلامي، لذلك تطرقت الأبحاث إلى تفاصيل خاصة بطبيعة وهيكل وأهداف الإنفاق العام في الدولة الإسلامية (نجاة الله صديقي 1987)(1) ومكان الضرائب والسياسة الضريبية في المنظور الإسلامي (منذر قحف 1983)(2) وإلى النظام المالي والسياسة المالية في الإسلام (فريدي 1976، ومتولي وعابدين سلامة 1983، وضياء الدين أحمد 1992)(3).
ومن الدراسات البارزة ما قدمه ضياء الدين أحمد عن دور النظام المالي الإسلامي (وجوهره تطبيق الزكاة) في تحقيق التنمية وإزالة الفقر(4).
__________
(1) 35) Siddqi. M. n, Role of The State in The Economy, An Islamic Perspective, The Islamic Foundation, U.K, 1996.
(2) 36)Faridi I. R, Zakat and Fiscal Policy, in Studies in Islamic Economics (Khurshid Ahmad, ed), Ibid, pp. 119- 130, Metwally, M. M, Fiscal Policy in Islamic Economics, Sammer, 1984. Salams. Abidine A. Fiscal Policy of an Islamic State, in Ziauddin Ahmad, M. Iqbal and F. Khan (eds) Fiscal Policy and Resource Allocation in Isalm, Jeddah, 1983.
(3) 37)Ziauddin Ahmad, Islam, Poverty and Income Distribution, The Islamic Foundation, U.K, 1991.
(4) 38)Salama. Abidine A, Fiscal Analysis of Zakah with special Reference to Saudi Arabia's Experience in Zakah, in Ariff(ed) Monetary and Fiscal Economics of Islam, Jeddah, international Centre of Islamic Economics, 1982.(1/37)
كذلك تم إنجاز عدد من الرسائل العلمية المتخصصة عن دور الزكاة في توزيع الدخل وفي التنمية وكيفية تفاعل الأدوات المالية الإسلامية مع الأدوات النقدية الخالية من الربا لتحقيق أهداف الاستقرار الاقتصادي، وكذلك عن الحاجة إلى نظام ضريبي يتمشى مع فريضة الزكاة ولا يتعارض معها ويعالج بعض المشكلات المالية التي استجدّت في العصر الحديث.
وبالنسبة إلى الجانب التطبيقي فإنه ليس هناك من قطر إسلامي إلا وبه جمعيات أو مؤسسات أهلية أولجان منبثقة من المساجد أو من المصارف الإسلامية لجمع وتوزيع الزكاة. أما على المستوى الرسمي فليس هناك سوى عدد محدود جداً من الحكومات التي التزمت نظام الزكاة وعملت على إنشاء أجهزة ووضع آليات لجمع وتوزيع الأموال الزكوية(1). وهنا تبرز عدة أسئلة: إلى أي مدى استفادت المؤسسات أو الأجهزة الرسمية أو غير الرسمية من الأبحاث الاقتصادية الإسلامية في موضوع الزكاة، وكيف كانت هذه الاستفادة وما وزنها؟ وما هي معوقات تطبيق الزكاة من خلال نظام مالي إسلامي في معظم الأقطار الإسلامية؟ وما لذي يترتب على هذا التطبيق الرسمي؟ هل إحلال العمل الرسمي في محل نشاطات المؤسسات والجمعيات الأهلية يزيد من فاعلية الزكاة ودورها المالي والاقتصادي؟
__________
(1) 39) انظر مطبوعات البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب: المواد العلمية برنامج التدريب على تطبيق الزكاة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وقائع ندوة رقم (33) تحرير منذر قحف، الإطار المؤسسي للزكاة- أبعاده ومضامينه، وقائع ندوة رقم (22) تحرير بوعلام بن جلالي ومحمد العلمي( 1995).(1/38)
والحقيقة أنه ما من دليل قائم لدى المطلع على أبحاث الزكاة أن المؤسسات والجمعيات الأهلية قد استفادت من الأبحاث في الحياة العملية، فالمعايير التي تعتمد عليها بعض المؤسسات بسيطة ومباشرة، فمعظم الموارد الزكوية إن لم يكن جميعها في بعض الحالات يوزّع على الفقراء والمساكين الذين يتقدمون بطلبات للمساعدة وعادة ما يُبت في طلباتهم بناء على فحص عام للأوراق والمستندات التي ترافقها في نطاق ما هو متاح من موارد. وفي الحقبتين الأخيرتين بدأت بعض الجمعيات أو المؤسسات الأهلية الكبيرة تعمل نسبياً على استثمار أموال الزكاة في التعليم والصحة بإنشاء مستشفيات لتعليم وعلاج الفقراء مجاناً وغيرهم بتكاليف منخفضة عما هو متاح. وهناك أمثلة لهذا في الباكستان ومصر ولبنان وبنغلاديش وغيرها، إلا أنه لا يمكن القول بأن مثل هذه الاستثمارات قد أُنشئت أو نُظمّت وفقاً لأبحاث اقتصادية إسلامية.
لقد تم تحليل معظم القضايا الخاصة بالزكاة على المستوى الكلي كما أشرنا من قبل وفي إطار يغلب عليه التنظيم القائم على فروض نموذج إسلامي مثالي مع إهمال الفجوة القائمة بين فروض هذا النموذج والواقع مما قلّل من فرصة أو إمكانيات التطبيق في الظروف الحالية للأقطار الإسلامية. لذلك مثلاً لا نجد أبحاثاً تدقق وتعمل في تحليل آثار الاستغناء عن الضرائب الحالية أو عن الضرائب التي ينبغي ويجوز فرضها شرعاً بجوار الزكاة حتى يمكن تحقيق نظام مالي إسلامي نموذجي مستقبلاً، ولا نجد في أبحاث الزكاة تعريفاً اقتصادياً دقيقاً لكل فئة من الفئات المستحقة للزكاة أو معايير واضحة لأولويات إنفاق الزكاة على هذه الفئات، أي ما هي المعايير الاقتصادية والمالية التي ينبغي الاستناد إليها لتخصيص أنصبة الفئات المختلفة تبعاً لأوزان الضرورات أو الحاجيات العامة.(1/39)
وهناك مؤتمرات عن الزكاة عُقدت بصفة خاصة في السودان وباكستان وإيران وخرجت بتوصيات عامة ولا نعرف على وجه التحديد مدى تأثيرها في عمليات أنظمة وآليات جمع وتوزيع الزكاة على المستوى الرسمي في هذه الأقطار. وهناك بالإضافة إلى ذلك مسألة جمع الزكاة في الأقطار الإسلامية التي يتعايش فيها المسلمون مع أقليات من أصحاب الأديان الأخرى، فهل تجمع الزكاة من هؤلاء وعلى أي أسس، أو تُفرض عليهم ضرائب بمعدلات متساوية أو مختلفة علماً بأن لكل سياسة ضريبية لآثارها على النشاط الاقتصادي أو توزيع الدخل والثروة.إن رجال الاقتصاد الإسلامي مطالبون بالبحث والتدقيق في هذه المسائل وغيرها وهذا ما يحتاج إلى جهد كبير، وإلى أن يتم مثل هذا الجهد ستظل هناك فجوة كبير ليس فقط في مجال التنظير بل أيضاً بين الفكر التنظيري والتطبيق العملي.
6- التنمية الاقتصادية:
نال موضوع التنمية اهتماماً كبيراً من رجال الاقتصاد الإسلامي، وفي المؤتمر العالمي الأول ساهم خورشيد أحمد بمقال عن التنمية الاقتصادية في إطار إسلامي، كما ساهم آخرون في نفس الموضوع من خلال مقالاتهم عن النظام الاقتصادي في الإسلام (محمد أحمد صقر، وشوقي الفنجري)(1)
__________
(1) 40) انظر أبحاث المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بالعربية وبالإنجليزية Studies in Islamic Economics
سبق ذكرها في (4)، (17).(1/40)
. وتوالت المساهمات بعد ذلك في بيان أساسيات التنمية في الإسلام (نجفي وشوقي دنيا 1979، ويوسف إبراهيم 1981)(1)، وتحليل العلاقة بين القيم الإسلامية والتنمية مع المقارنة بالفكر الوضعي وشرح أولويات الأساسية للمنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي (يسري 1982)(2)، كما تعمق البعض في شرح دور الإنسان أو الموارد البشرية في التنمية من منظور إسلامي(3).
ولقد تمثلت هذه الاتجاهات الرئيسة لهذه الأبحاث في:
ا) السعي لإثبات أن عجز الأقطار الإسلامية المعاصرة عن دفع عجلة التنمية يرجع في المقام الأول إلى إهمال القيم التي أرساها الإسلام مثل عدالة توزيع الدخل والثروات وحرية الأفراد والشورى، بالإضافة إلى عدم تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية بصدد جمع وتوزيع الزكاة وتحريم الربا ومحاربة الاحتكار في الأسواق...الخ.
ب) أن الإنسان هو المحور الرئيس للتنمية، ولذلك فإن معاناة الأقطار الإسلامية من التخلف الاقتصادي يرجع أساساً إلى إهمال التنمية الإنسانية أو البشرية على أساس النموذج الإسلامي.
__________
(1) 41) شوقي دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، دار الفكر العربي، القاهرة1979، يوسف إبراهيم، استراتيجية وتكتيك التنمية الاقتصادية في الإسلام، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، القاهرة 1981.
(2) 42) عبد الرحمن يسري أحمد، الأولويات الأساسية في المنهج الإسلامي للتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز، جدة1982.
(3) 43)Ahmad, Ehsan (ed) Economic Growth and Human Resource Development in Islamic Perspective, Proceeding of the 4th International Islamic Economic Seminar, 1992 (Herndon,IIIT, 1993).(1/41)
جـ) إن الأقطار الإسلامية لن تتمكن من دفع عجلة التنمية بها حتى تتخلص من التبعية (بجميع أنواعها) للعالم غير الإسلامي، التبعية الاقتصادية والتقنية والفكرية، فهذه التبعية تتسبب في اختلالات في هياكل الإنتاج داخلياً واختلالات في موازين مدفوعاتها بالإضافة إلى عدم قدرتها على تنمية الفنون الإنتاجية الملائمة لظروفها.
د) إن الأقطار الإسلامية لن تتمكن من دفع عجلة التنمية إلا إذا اتخذت خطوات ثابتة نحو تعاونها اقتصادياً ثم تكاملها واتحادها، وتزداد أهمية هذا العامل في إطار الظروف العالمية المعاصرة التي تشهد تكتلات اقتصادية عائلة، بالإضافة إلى العولمة.
ه) إن النماذج الإنمائية الوضعية (رأسمالية أو اشتراكية) لا تصلح في الأجل الطويل لدفع عملية التنمية في الأقطار الإسلامية لأنها تتجاهل الشريعة والقيم العقدية الإسلامية والتي هي مغروسة في نفوس الناس في هذه الأقطار، فلا ينشأ عن تطبيق هذه النماذج إلا أصناف من الازدواجية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك حتى يفرض النجاح في دفع عملية التنمية أحياناً عن طريق سياسات وضعية فإن فاعلية هذه السياسات لن تدوم في الأجل أو المدى الطويل من الزمن.
واتجه عدد من الأبحاث في التسعينات إلى التدقيق والتعمق في نقد فكر التنمية الوضعي وبيان آليات العمل الإسلامي (يسري 1990، وشابرا 1992،1993 )(1)
__________
(1) 44) عبد الرحمن يسري أحمد، التنمية الاقتصادية: نقد الفكر الوضعي ،بيان المفهوم الإسلامي الندوة الدولية عن تنمية العالم الإسلامي (تحت رعاية جامعة سيدي محمد بن عبد الله والبنك الإسلامي للتنمية) فاس- المغرب، أكتوبر1990، وكذلك ندوة دور الإسلام في سياسة التنمية (رعاية البنك الإسلامي للتنمية)تيامي- الميجر، مايو1992- ذو القعدة1414هـ، ومحمد شابراChapra انظر:
Islam and Economic Development: A Strategy for Development with
Justice and Stability. IIIT and Islamic Research Institute,1993.
" Islam and The Economic Challenge" The Islamic Foundation, U.K, 1992.(1/42)
وفي بحث وسائل تمويل التنمية قفي الإطار الإسلامي (أحمد علي 1995، بندر الحجار وبريسلي 1996، والقرنشاوي 1996)(1). كما ظهرت أبحاث تؤكد أهمية التقدم العلمي والتقني للعالم الإسلامي (زغلول النجار 1990)(2)، والعلاقة بين التنمية وعدالة التوزيع (عطا الحق برامانك 1993)(3) والتنمية والأمن الغذائي (يسري 1991)(4) والتنمية والاعتبارات البيئية- أو التنمية المتواصلة (يسرس2000، زبير 2003)(5).
__________
(1) 45)Al-Hajjar, Bandar and John Presley, "Finance Economic Development in Islamic Economic: Attitude Towards Islamic Finance in Small Manufacturing Business in Saudi Arabia", 1996, Karanshawy, Hatem, Financing Economic Development from Islamic Perspective, 1996.
(2) 46) زغلول النجار، قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي، رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية، قطر1409.
(3) 47)عطا الحق برامانك Pramanik Atul Huq, Development and Distribution in Islam,Pelanduk, Publication, Malaysia,1993.
(4) 48) عبد الرحمن يسري أحمد، أسلوب الأمن الغذائي والتنمية في العالم الإسلامي، ندوة التنمية بعمان، الأردن، تحت رعاية مؤسسة آل البيت والبنك الإسلامي للتنمية- عمان 1991.
(5) 49) عبد الرحمن يسري أحمد، التنمية المتواصلة، المفاهيم والمستلزمات- تقييم للفكر الوضعي ورؤية إسلامية، مقدم إلى المؤتمر العالمي الخامس للاقتصاد الإسلامي وكان مقررا في 2002م في البحرين وتأجل لأسباب حرب العراق إلى 2003م. وانظر بروفسور زبير
Zubair, Hassan, Sustainable Development, Meaning and Policy Implications from an Islamic Perspective.(1/43)
إن غزارة الأبحاث الإسلامية في مجال التنمية تثبت أن الفكر الإسلامي غني وقادر على تحليل المشكلات والظروف المعاصرة التي تمر بها الأقطار الإسلامية وتشخيص العلاج المناسب لها. لكن من جهة أخرى فإن الاستفادة من هذه الأبحاث لن تكون ممكنة عملياً قبل وجود حكومات لإسلامية تسعى لتنفيذ العلاج الموصوف بالطرق المناسبة على المستوى الكلي، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو أليس في جمعية رجال الاقتصاد الإسلامي ما يهيئ لعملية التحويل من الأوضاع الحالية إلى الأوضاع المرغوبة مستقبلاً؟ ألا يمكن وضع بعض النظريات والسياسات (الوسيطة، أي بين الوضع الحالي والوضع المرغوب) في مجال التنمية، وإقناع رجال الحكم الآن بالعمل على تنفيذ هذه السياسات على أساس (جدواها الاقتصادية) أو (أفضليتها) على أساس المصلحة العامة على السياسات الوضعية البديلة. بالإضافة إلى ذلك فإن الفكر الإسلامي في مجال التنمية ما زال في حاجة إلى استنباط الآليات التي يمكن استخدامها عملياً لتطبيقه.
مثلاً كيف نطبّق معايير العدالة الإسلامية في مجال التوزيع؟ ما هي على وجه الدقة برامج التنمية البشرية التي تستند على مفاهيم إسلامية مع ملاحظة أن لدى رجال الاقتصاد الوضعي الآن (في بداية القرن الحادي والعشرين) برامج واضحة عن التنمية البشرية. كيف يمكن تنسيق برامج التنمية الاقتصادية بين بعض الأقطار الإسلامية بهدف زيادة التعاون الاقتصادي بينها؟ وما هي حدود الاستعانة بالتمويل والمساعدات الأجنبية للتنمية في الأقطار الإسلامية وذلك في إطار الرغبة في التخلص من التبعية؟.(1/44)
كذلك فإنه بالرغم من أن الفكر الإنمائي يرتبط بالتحليل الكلي إلا أننا بحاجة ماسة في الفكر الإسلامي الإنمائي أن نبحث في كيفية إزكاء الدوافع التنموية لدى الفرد من خلال القيم الإسلامية (كالدوافع على العمل وإتقان الأعمال وعدك ترك الموارد الاقتصادية عاطلة....الخ) وفي إرشاد الفرد إلى أهمية الادخار وإلى مفاهيم الرشد في استثمار الأموال.
وهكذا يصبح تحليل التنمية على المستوى الجزئي أساساً لانطلاقها على المستوى الكلي، وهذا أمر في غاية الأهمية في المرحلة الحاضرة التي لا تبدي فيها معظم الحكومات في العالم الإسلامي اهتماماً بتطبيق الفكر الإسلامي الإنمائي على المستوى الكلي، بل ربما تعمل على تطبيق سياسات مضادة له جهلاً أو عمداً.
7- العلاقات الاقتصادية بين الأقطار الإسلامية:
اهتم حسن عباس زكي (1976) في المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي ببحث إمكانيات التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية، وذلك من خلال استعراض الموارد الاقتصادية والمواقع الجغرافية لهذه الدول، وواقع اقتصاداتها وما تعانيه من ندرة في رؤوس الأموال ونقص في الخبرة الفنية، منتهياً بضرورة التنسيق بين سياساتها التجارية والمالية وخططها الاقتصادية وأنشطتها المصرفية(1).وأشار خورشيد أحمد في عجالة (1976) إلى ضرورة التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية كهدف لا ينفك عن هدف التنمية الاقتصادية لها(2).
وقد اتجهت معظم الأبحاث إلى استكشاف وتحليل إمكانيات ومعوقات التكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية.
__________
(1) 50) حسن عباس زكي، التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية، أبحاث المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سبق ذكره في (14).
(2) 51)خورشيد أحمد ،سبق ذكر المرجع في (17).(1/45)
ويلاحظ أن موضوع التكامل الاقتصادي قد يلقى اهتماماً من الاقتصاديين الوضعيين والإسلاميين على حدٍ سواء، فلقد أدى قيام بعض التكتلات الاقتصادية الكبرى (مثل السوق الأوروبية والتي تحولت فيما بعد إلى اتحاد اقتصادي أوروبي) إلى ردود فعل على المستوى العالمي. فشهد العالم محاولات عديدة لإنشاء أسواق مشتركة أو مناطق للتجارة الحرّة أو غير ذلك من الاتفاقات التي تسعى لتحقيق التكامل الاقتصادي، في أوروبا الشرقية قبل انهيار المعسكر السوفيتي (الكوميكون)، وفي أمريكا اللاتينية، وفي آسيا وأفريقيا وبين معظم البلدان العربية.
واتجهت معظم الأبحاث الخاصة بالبلدان النامية إلى إثبات أهمية التكامل الاقتصادي للتنمية الاقتصادية والرفاهية، من حيث أنه يؤدي إلى اتساع الأسواق وإعادة تخصيص الموارد وتحسين شروط التبادل الخارجي. كما أكدت معظم هذه الأبحاث على مدخل تحرير التجارة من العقبات الجمركية كمدخل أساسي لتحقيق التكامل.
وفي مجال الاقتصاد الإسلامي نجد أن العديد من الباحثين لم يبتعد إلا هامشياً عن هذه الملامح الرئيسة، فجاءت معظم أبحاث التكامل الاقتصادي الإسلامي مؤكدة لأهمية التنمية الاقتصادية للأقطار الإسلامية المعاصرة على نفس الأسس الوضعية، ومؤكدة لمدخل تحرير التجارة السلعية والذي لاقى نجاحاً كبيراً في التجربة الأوروبية (إسماعيل شلبي 1984، ورفيق جابر 1985)(1).
وتمثلت الإضافات من المنظور الإسلامي في إثبات الدوافع الشرعية والعقدية التي تحث المسلمين على التعاون والوحدة سواء على المستوى الوطني أو العالمي، وكذلك في إثبات أهمية تحقيق الوحدة الاقتصادية – كثمرة مؤكدة للتكامل- للأقطار الإسلامية مجتمعة.
__________
(1) 52) إسماعيل عبد الرحيم شلبي، التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، 1983- القاهرة، وكذلك:
Jabir, Rafique,Islamic Common Market Prospects and Problems. Pakistan and Gulf Economist, Vol. 4, 1985 (March).(1/46)
واتجهت بعض الأبحاث إلى تحري مدى واقعية أو إمكانية تحقيق هدف التكامل الاقتصادي بالنسبة للأقطار الإسلامية في إطار ظروفها المعاصرة، فهذه الأقطار تعامي من مشكلات التخلف الاقتصادي والتبعية للدول المتقدمة اقتصادياً، لذلك فإن هياكلها الاقتصادية مختلّة ومعظمها ينتج سلعاً أولية متماثلة أو سلعاً صناعية بسيطة وبديلة تعكس هياكلها الصناعية (عصام الزعيم 1983)(1) مثل المنسوجات والملابس والمنتجات الجلدية والأثاث الخشبي ...الخ) ولذلك فإن اقتصاداتها بطبيعتها متنافسة وليست متكاملة. وهناك عدة أبحاث أخرى بعضها ذو طابع وضعي تناولت إمكانات التعاون التقني بين البلدان الإسلامية وإمكانات التصنيع لديها من أجل تقوية التجارة فيما بينها(2).
__________
(1) 53)El- Zaim. Issam, The Industrial Patterns of Islamic Countries and Their Opportunities of Industrial Co-operation, Centre d' Etudes et de Researches syr e Monde Atab Conemorian ,1983.
(2) 54) Abdel Rahman,Ibrahim Helmi, "Industrialization in, and Transfer of Technology to Tthe Muslim World'', Islamic Council of Europe,1979. also: Statistical ,Economic and Social Research and Training Centre for Islamic countries (SESRTCIC) Technical Co-operation among the Member States of the Islamic Conference , Journal of Economic Co-operation among Islamic Countries ,Vol. 2,1981 (Ankara).(1/47)
وعموماً فإن أحوال النشاط الإنتاجي في هذه الأقطار تنعكس على علاقات تجارية غير متوازنة فيما بينها وبين البلدان المتقدمة ولصالح الأخيرة من جهة، وعلاقات تجارية ضعيفة فيما بين هذه الأقطار الإسلامية وبعضها من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى سيادة قوانين وتنظيمات اقتصادية وضعية لا تساعد في حد ذاتها على الاتجاه نحو التكامل أو تحقيقه (فولكرنين هاوس 1984، 1986، ويسري 1983، 1987، 1990)(1).
__________
(1) 55) عبد الرحمن يسري، العلاقات الاقتصادية بين البلدان الإسلامية ودورها في التنمية الاقتصادية، منشورات المؤتمر العالمي الثاني للاقتصاد الإسلامي ،إسلام أباد-باكستان 1983, Towards Positive Economic Integration Among Islamic Countries ، ندوة اتحاد البنوك الإسلامية
ومنظمة المؤتمر الإسلامي، إسلام أباد 1987، وكذلك مراحل التكامل الاقتصادي الإسلامي في إطار الظروف المعاصرة، ندوة وزارة الأوقاف والشئون الدينية، الجزائر العاصمة 1990، انظر فولكرنين هاوس:
Nienahus, Volker. Direction of Trade Among Islamic Countries Levels
Growth Rate, Rank Orders, Concentration and Polarization 1975- 1980
In Thought of Economics, Vol. 5,1984. No11(Jan- March).p1-19.
Economic Development Thought Regional Co-operation , A Customs Drawback Union of Islamic Countries, International of Institute of Islamic Economics, Islamabad( Seminar on Fiscal Policy and Development Planning in Islam), July 1986. Islamabad, Pakistan.(1/48)
وبالتأكيد فإن هذا الاتجاه يتسم بالواقعية في الكشف عن العقبات التي تواجه التكامل الاقتصادي الإسلامي. وبناءً عليه بدأ بعض الباحثين في وضع مقترحات لتحقيق هذا الهدف عن طريق مداخل أخرى خلاف مدخل إزالة العقبات الجمركية أمام التجارة، مثل مدخل المشروعات الاستثمارية الإسلامية المشتركة (ICCICE,1984)(1) ومدخل تحرير حركة العنصر البشري(2).
ومثل هذه المداخل المقترحة لا تتميز فقط بأنها أكثر واقعية بل أيضاً أنها تهيئ وتقترب بدرجة أكبر من المفهوم الإسلامي الشامل للتكامل الاقتصادي، فالعنصر البشري هو الأكثر أهمية في المنظور الإسلامي وتحريره على مستوى الأقطار الإسلامية أكثر أهمية من تحرير التجارة السلعية، ليس معنى هذا بإهمال تحرير التجارة السلعية أو تجارة الخدمات وإنما هي مسألة الأولويات وضرورة مراعاتها.
ومن ضمن المداخل المقترحة أيضاً مدخل التكامل الإقليمي (فولكرنين هاوس 1986)(3)، وكذلك مدخل التعاون بين المؤسسات التمويلية وتفعيل نشاطها في مجال تمويل التجارة الإسلامية البينية (شاهد حسين 1979، عزيز الرحمن 1982، أحمد النجار 1992)، ومدخل المراحل (يسري 1990).
ويحتاج موضوع التكامل الاقتصادي الإسلامي في الوقت الحاضر والمستقبل القريب إلى مزيد من الأبحاث في عدّة اتجاهات:
__________
(1) 56)Islamic Chamber of Commerce. Industry and Commodity Exchange(ICCICI).''Program for The Promotion of Industrial Joint Ventures among OIC Member Countries, Information Bulletin ,Islamic Chamber, Vol.4, 1984.No7- 9.
(2) 57) انظر مقال عبد الرحمن يسري أحمد (1990) سبق ذكره في (55) للتأكيد على أهمية تحرير حركة العنصر البشري الإسلامي في المرحلة الأولى للتكامل.
(3) 58) سبق ذكره في (55).(1/49)
- أولا: انعاكسات اتفاقية تحرير التجارة والعولمة على مشروع أو مشروعات التكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية، ذلك لأن اتفاقية منظمة التجارة العالمية WOT( التي حلت محل الجات) والتي قام معظم الأقطار الإسلامية بقبولها تعمل على تحرير تجارة السلع والخدمات وتيسير انتقال رؤوس الأموال لأغراض الاستثمار على المستوى العالمي، فماذا تضيف الأقطار الإسلامية إلى ذلك؟ أم أن منهج المعاملة بالمثل الذي تقرره الاتفاقية يحتاج إلى مناقشة إسلامية لأن قاعدة التفضيل لدى المسلمين على غيرهم في التجارة الخارجية قد تقررت من قديم في عصر الخلافة الراشدة (نظام العشور) أم هل تهتم الأقطار الإسلامية أساساً في تحقيق التكامل بمدخل حركة العنصر البشري والاستثمارات المشتركة وحماية صناعتها الناشئة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ما زالت في حاجة لبحث مستفيض.
ثانياً: إمكانيات إقامة شبكة مصرفية إسلامية قوية تعمل على مستوى الأقطار الإسلامية لتمويل مشروعات تكاملية وفقاً لبرامج وأولويات محددة.
ثالثاً: إمكانيات عقد اتفاقيات تعاون أو تكامل في مجالات التعليم والتقنية بما يؤدي إلى إحياء الثقافة الإسلامية وتنمية الفنون الإنتاجية المناسبة للأقطار الإسلامية تجاه التخلص من الفجوة التقنية القائمة بين هذه الأقطار والعالم المتقدم صناعياً.
8- التحليل الجزئي والكلي للاستهلاك والإنتاج والتوزيع- وضع الأسس لنظريات إسلامية:(1/50)
قام محمد أحمد صقر (1976)(1)بتحليل الاستهلاك من خلال التفرقة التي أقامها بين ما أسماه الطيبات الحرّة وهي الأشياء النافعة التي خلقها الله للإنسان بوفرة كافية والطيبات الاقتصادية وهبي الأشياء النافعة كالتي لا بد للإنسان أن يعمل فيها قدراته الذهنية والعلمية والجسمية والفنية، حتى يتمكن من الحصول عليها، مؤكداً أن هذه تتسم بالندرة النسبية وأن السعي لإنتاجها لإشباع الحاجات منها لا يعد عملاً دنيوياً صرفاً بل واجباً دينياً أيضاً.
وعلى المستوى الكلي تتطرق إلى قضية التشغيل الأمثل للموارد الاقتصادية التي أتاحها الله سبحانه وتعالى، ولكن مشيراً إلى أن هذا لا ينبغي بالضرورة تحقيق أعلى معدل ممكن للنمو، فقد يكون من مصلحة المجتمع تحقيق معدل نمو أقل من المعدل الممكن (ص55)(2)مبرراً ذلك بعدم تشجيع واستنزاف طاقات المجتمع وموارده بمعدل سريع وعدم إرهاق الطاقات البشرية. وهذه النظريات القائمة على أخلاقيات الإسلام لم تكن مميّزة لدى المفكرين الوضعيين حتى حقبة التسعينات من القرن العشرين حينما صار اهتمام متزايد بقضية التنمية المتواصلة.
وفي مجال الإنتاج تناول قضية التدخل في السوق ومحاربة الاحتكار وسياسة الأجور، كما تناول قضية تحقيق التوزيع العادل للدخل والثروة بدون تعمق في الأدلة الشرعية أو القيم العقدية الإسلامية التي تساند هذه القضايا.إلا أنه أولى موضوع الزكاة وأثرها في التوزيع أهمية كبيرة في تحليله، وأولى شوقي الفنجري (1976)(3) اهتماماً بالغاً لقضية التوزيع متطرقاً من خلالها إلى الضمان الاجتماعي ومؤثراً ضرورة ضمان ((حد الكفاية)) وليس ((حد الكفاف)) لكل فرد، ومؤيداً تحليله بأحاديث نبوية وآيات قرآنية.
__________
(1) 59) سبق ذكر المرجع في (4).
(2) 60) المرجع السابق.
(3) 61) سبق ذكر المرجع في (4).(1/51)
ومن أبرز الأبحاث الرائدة في مجال التنظير للاستهلاك ما قدّمه أنس الزرقاء (1976)(1) في مقاله بعنوان ((صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك))، وفيها محاولة جريئة لوضع دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية بناء على فكر الإمامين الغزالي والشاطبي في مجال تمييز الضروريات والحاجيات عن التكميليات.وقدّم انس الزرقاء تحليلاً بيانياً واقترح صياغة رياضية للدالة مستخدماً بعض أدوات تحليلية وضعية دون أن يتخلى عن المنطق المنظور الإسلامي، بل على العكس محاولاً تأكيده وبغض النظر عن قبول أو رفض النتائج التي توصل إليها أنس الزرقاء فإن محاولته كانت رائدة في لإثبات إمكانية الاستعانة بأدوات التحليل الاقتصادي المعروفة وبالأسلوب الرياضي في مجال الاقتصاد الإسلامي دون انحراف عن أهدافه.
وخلال الثمانينات والتسعينات ظهرت مساهمات أخرى في المجالات المذكورة احتوى يعضها على أفكار جديدة، بينما البعض الآخر كان تكراراً لما سبق، ومما يذكر هنا التفرقة الواضحة التي أقامها البعض بين المفهوم الوضعي للمنفعة التي يتعلق بإشباع النفس في إطار الماديات فقط والمفهوم الإسلامي الذي يستلزم الموازنة بين الإشباع المادي والإشباع غير المادي للنفس وللغير أو بين ذلك المفهوم الوضعي الذي يعتمد على الفلسفة الفردية في إمتاع الذات إلى الحد الأقصى Hedonism دون النظر إلى الغير والمفهوم الإسلامي الذي يعتمد على فلسفة المسئولية تجاه الغير في إطار ما أحله الله من الطيبات.
__________
(1) 62) أبحاث المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي، سبق ذكر المرجع في (4).(1/52)
فالفرد لا يسعى إلا معظمة منفعته الخاصة دون اعتبار لمن هو مسئول عنهم على درجات مختلفة من المسئولية، ومن ثم أمكن اقتراح دالة الاستهلاك الفردي لتعبر عن هذه الموازنات السلوكية (يسري 1988، 2003)(1). وفي بحث عن نظرية سلوك المستهلك من منظور إسلامي قام فيها خان (1992)(2)بمقارنة دقيقة بين فروض النظرية الوضعية والفروض الإسلامية التي ينبغي أن تحكم سلوك المستهلك المسلم حينما يوازن بين الإنفاق في سبيل إشباع الحاجات الدنيوية والإنفاق في سبيل الله معتمداً أكثر على تقنيات التحليل المستبان Revealed Preference بدلاً من تحليل منحنيات السواء فقط الذي استخدمه أنس الزرقاء من قبل. ثم تطرق بالتفصيل إلى مفهوم الإسلام للحاجة Need وفكرة المصلحة في مواجهة فكرة المنفعة. ورأى فيهم خان أنه بالرغم من أن مفهوم المصلحة يظل متعلقاً بالعامل الشخصي Subjective إلا أن طبيعة هذا العامل فيه أقل حدّة من مفهوم المنفعة مما يجعل مفهوم المصلحة أقل غموضا وأكثر صلاحية في تحليل سلوك المستهلك المسلم.
ويقرر بناء على ذلك أن المصلحة الفردية لدى المسلم ستكون دائماً متناسقة أو متلائمة مع المصلحة الاجتماعية على عكس المنفعة الفردية التي ستكون دائماً متعارضة مع المنفعة الاجتماعية، وينطلق بعد ذلك لبيان قاعدة توزيع المواد في المجتمع تبعاً للحاجات الرشيدة.
__________
(1) 63) انظر عبد الرحمن يسري أحمد، دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، دار الجامعات المصري، الإسكندرية، ط1، الطبعة الثالثة 2003، الدار الجامعية، الإبراهيمية، الإسكندرية.
(2) 64)Fahim Khan, Theory of Consumer Behavior in Islamic Perspective in Ausfa Ahmad, et al (eds)
Lecture Islamic economics, 1412h, 1992,pp169- 181.(1/53)
وعلى مستوى التحليل الكلي نجد أن الأبحاث تؤكد على أن دالة الاستهلاك تعتمد على الفروض الخاصة بالاستهلاك على المستوى الجزئي، بمعنى أن العوامل الحاكمة لاستهلاك الأفراد هي نفسها العوامل الحاكمة للاستهلاك الكلي. بعبارة أخرى فإن دالة الاستهلاك الكلي أشبه بدالة تجميعية لاستهلاك الفرد في المجتمع، لذلك يقوم عامل الرشد في الاستهلاك (الابتعاد عن الإسراف وعن التقتير) بدور في تحديد الاستهلاك الكلي للمجتمع (منان 1986، أفضل الرحمن 1975، أوصاف أحمد 1992)(1). كما أن عمليات دفع وإنفاق الزكاة تقوم بدور آخر في تحديد هذا الاستهلاك (أوصاف أحمد 1987)(2). هذا بينما أن قحف (1981)(3)يُدخل عامل الثروة في تحديد الاستهلاك الكلي وهو عامل لا ينكر في تأثيره في تحديد المدخرات والاستهلاك كما أثبت التحليل الوضعي. ويرى يسري (2003)(4) أن معظم العوامل المؤثرة في الاستهلاك الفردي تدخل في تحديد الاستهلاك الكلي بطرق التجميع، ولكن التحليل الكلي يستلزم اعتبارات أخرى فالاستهلاك الكلي يتأثر بالثروة الحقيقية للمجتمع إذا زادت هذه أو نقصت (خاصة على مدى الأجل الطويل) فإذا زادت هذه انتقلت دالة الاستهلاك الكلي إلى أعلى وإذا انخفضت انتقلت إلى أسفل.
__________
(1) 65)Mannan, M.A, Islamic Economics, Theory and Practice, Hodder and Stoughton Cambridge, 1986 (Ist Edition 1970).
(2) 66) المرجع السابق ذكره.
(3) 67) Kahf Munzer, A Contribution to the Theory of Consumer Behavior in an Islamic Society, in Studies in سبق ذكر المرجع في (17) Islamic Economics. Khurshid. A. (ed)
(4) 68) سبق ذكر المرجع في (63).(1/54)
ويبدو أن المبررات الواقعية هي المبرر الأساسي لأخذ عنصر الثورة الحقيقية في الحسبان عند الحديث عن الاستهلاك الكلي. ولكن بالإضافة إلى ذلك يرى يسري أن ثمة علاقة ينبغي أن تقوم بين مستويات الاستهلاك الكلي في الأقطار الإسلامية المختلفة. فمن الجهة الإسلامية لا يجوز أن يعيش الأفراد في قطر إسلامي في رغد وسعة بينما يعيش الأفراد في قطر أو أقطار إسلامية أخرى في فقر وبؤس. ومن ثم ففي الوضع المثالي للعالم الإسلامي ينبغي أن يقتطع من الاستهلاك الكلي في مجتمع غني نسبياً لكي يتحسن الاستهلاك الكلي في مجتمع فقير نسبياً عن طريق آلية المساعدات الحرة (من الزكاة أو الصدقات)،وبذلك يتحرك دالة الاستهلاك لأسفل في الأول ولأعلى في الثاني.
وفي مجال نظرية الإنتاج على المستوى الجزئي نجد أن عدداً من المساهمات التي أبرزت الجانب التنظيمي في النشاط الإنتاجي أنواع الشركات الإسلامية التقليدية ومدى ملائمتها للعصر الحديث.ونجد منور إقبال (1992)(1)
__________
(1) 69)Munawar Iqbal, Organization of Production and Theory of Firm Behavior
From and Islamic Perspective. In Ausaf Ahmad, et la (1992),pp 205- 212.(1/55)
يقترح الاستخدام المرن للعقود المختلفة في المجال التنظيمي للإنتاج حيث يهيئ هذا فرصة كبيرة لظهور هياكل تنظيمية جديدة تستطيع أن تخدم النشاط الإنتاجي بكفاءة. ويستطرد بعد هذا لبحث نظرية المشروع Theory of the Firm من المنظور الإسلامي متسائلاً هل يتعلق هدف المشروع بمعظمة الربح Profit Maximization كما هو في التحليل النيوكلاسيكي أم لا؟ ويدخل في مناقشة الانتقادات لهذا الهدف وضعياً إسلامياً. وخلال هذا يتعرض لرأي متولي(1) القائل بأن تطبيق مفهوم الأمانة Trusteship في المجال الاقتصادي (وهو يعتمد على فلسفة الاستخلاف في الأرض) يتعارض بشدة مع مبدأ تحقيق المنفعة للنفس، والذي هو المبدأ الأساس الذي تقوم عليه الاقتصاديات في المجتمعات غير الإسلامية. والأخذ برأي متولي يعني أن المشروع لن يعمل على تعظيم ربحه بل يكتفي بربح معقول أو عادل، وبهذا الشكل فإن المشروع سوف يستهدف أمرين: تحقيق مستوى معقول من الأرباح والإنفاق على العمل الخيري أو الأعمال الصالحة، ويبدو منور إقبال موافقاً من حيث المبدأ على تحليل متولي ولكنه معترضاً على إدخال الإنفاق الخيري أو على الأعمال الصالحة في دالة أهداف المشروع الإسلامي. وفي تحليله لهدف معظمة الربح يرى يسري (1988)(2)
__________
(1) 70)Metwally, M. M. A Behavioral model of an Islamic Firm. Centre for Research in Islamic Economics, King Abdul Aziz University, Jeddah, Research Series in English, No 5.
(2) 71) عبد الرحمن يسري أحمد- مرجع سابق ذكر في (63) والطبعة الثانية 2001، الدار الجامعية بالإسكندرية.
(72) Metwally. M. M. Macroeconomics Model of Islamic Doctrines, j. k. Publisher, London, 1981.(1/56)
أن هناك انتقادات لهذا الهدف سواء في التحليل الوضعي أو الإسلامي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، ولكن اعتبارات الاستخدام الأكثر كفاءة للموارد الإنتاجية ما زالت تقتضي أخذ هذا الهدف في الاعتبار بدلاً من إهماله. بعد ذلك يرى أن الاعتراض على معظمة الربح ضروري من الجهة الشرعية فقط إذا كان المشروع يتبع أساليب غير جائزة شرعاً في تحقيق أرباحه، أم إذا كان المشروع يعمل في ظروف منافسة صافية إسلامية( كما يشرحها) ولا يتبع سبيل الغش أو الغبن لحقوق الآخرين في جميع معاملاته سواء في سوق عناصر الإنتاج عند شراء خدماتها أو في سوق المنتجات عن بيع منتجاتها، فلماذا يكون هناك اعتراض على معظمة الأرباح علماً بأنه كلما زادت الأرباح كلما زادت مدفوعات الزكاة أو ما يقرره المشروع من صدقات من دخله المحقق.
وهكذا يظل هدف المشروع الإسلامي هو تحقيق أقصى أرباح ممكنة ولكن في إطار أسواق إسلامية تخضع لرقابة ذاتية من الفرد على تصرفاته، ورقابة حكومية على الأسواق متمثلة في الحسبة، ومن جهة أخرى فإن تحقيق أكبر ربح ممكن بطريق الكفاءة وحدها يتيح مزيد من الرفاه للمجتمع لأنه يؤدي إلى زيادة المدفوعات التحويلية للفقراء وذوي الحاجات الماسة عن طريق الزكاة وغيرها.
وكل ما سبق وغيره من المساهمات إنما يمثل البدايات الأولية فقط في مجال التحليل الاقتصادي الجزئي أو الكلي للاستهلاك والإنتاج، فما زال الاجتهاد مطلوباً على أشده حتى تتكون نظريا إسلامية تقوم على فروض مستمدة من القواعد الشرعية والعقدية الإسلامية وتتعمق في تحليل الظواهر الواقعية طالما كانت هذه محايدة.(1/57)
ويلاحظ أن تحليل النشاط الإنتاجي الكلي من منظور إسلامي لم يتم بشكل مستقل بقدر ما تم من خلال تحليل العوامل المؤثرة في النمو الاقتصادي أو التنمية وآثار الزكاة وتحريم الربا على النشاط الإنتاجي للمجتمع. ولقد ظهرت بعض مساهمات جديرة بالذكر في مجال وضع نماذج تحليلية لتحديد المستوى التوازني للدخل الكلي أو الناتج الكلي في إطار فروض إسلامية مثل إسقاط نظام الفائدة أو لإقرار نظام الزكاة (متولي 1981، وسيد طاهر 1992)(1).
وتطرق الاقتصاديون الإسلاميون إلى تحليل التوزيع من عدة جوانب: أولاً من جهة فلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي الذي بينما يسمح بتفاوت الثروات والدخول إلا أن يعمل على ضمان حد أدنى من المعيشة للفقراء والمساكين والعاجزين عن العمل والكسب (حد الكفاية كما يرى الفنجري 1976)(2)، وذلك عن طريق آليات الزكاة والصدقة الاختيارية والقرض الحسن، وكذلك يمنع تركيز الثروة في أيدي القلة من أغنياء المجتمع.
وبهذا يتميز النظام الإسلامي عن الرأسمالية أو الاشتراكية (شابرا 1992)(3). ومعظم الذين تطرقوا إلى موضوع التوزيع أو إعادة التوزيع أعطوا الأهمية الكبرى للزكاة من خلال دورها في نقل شريحة من الثروات العاطلة لدى الأغنياء ومن الدخول الحقيقية التي تتحقق في نشاط الإنتاج والتجارة إلى أصحاب الدخول المنخفضة في المجتمع(4)، واتجه البعض بصفة خاصة إلى بيان دور الوقف (تاريخياً في الأغلب) في ضمان الحاجات الأساسية للفقراء والمساكين في المجتمع (يسار وغيره 1984، ونعمت مشهور 1997)(5)
__________
(1) 73) شوقي الفنجري سبق ذكره في (14).
(2) 74) M. U. Chapra, Islam and the Economic Challenge, Islamic Foundation, U.K,1982
انظر الفصلين السابع والثامن على وجه الخصوص
(4) 75) المراجع مذكورة في مجال أبحاث الزكاة.
(5) Basar, Hasmet (ed) Management and Development of Awqaf (76)Properties, Proceeding of
a Seminar held4- 16 August, by IRTI, IDB,Jeddah,1984- Publication 1987.
ونعمت عبد اللطيف مشهور، أثر الوقف في تنمية المجتمع، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، القاهرة 1997.(1/58)
. وأفاض البعض في بيان كافة العوامل الممكنة التي تؤثر في توزيع الثروة والدخل في مجتمع إسلامي (أنس الزرقاء 1988، وضياء الدين أحمد 1991)(1).
وفي الطريق إلى نظرية جزئية Micro إسلامية في التوزيع رأى يسري (1989)(2) أن بالإمكان الاستفادة من النظرية النيوكلاسيكية الإسلامية المحددة. أما في التمهيد لنظرية كلية Macro إسلامية في التوزيع فإن مساهمات أوصاف أحمد (1988) ومعبد الجارحي (1988)(3)جديرة بالذكر. لقد وضع كل كم أحمد الجارحي نموذجاً كلياً Macro Model للتوزيع في اقتصاد إسلامي، ولم يرى أي منهما مانعاً في الاعتماد على الأفكار الأساسية لنموذج Kaldor-Pasinetti مع إدخال اعتبارين أساسيين هما الزكاة والامتناع عن التعامل بالفائدة.
__________
(1) 77)Zarqa .m. a. Islamic Distributive Schemes, in Iqbal, M. (ed) Distributive Justice and Need Fulfillment in an Islamic Economic
( Islamabad International Institute of Islamic Seminar), Publisher: The Islamic Foundation 1988.
وفي هذا الكتاب عدة مقالات جديرة بالقراءة في الموضوع
سبق ذكره في (37) Ziauddin Ahmad, Islam, Poverty and Income Distribution
(2) 78) أعمال ندوة أبو ظبي في الاقتصاد الإسلامي- تحت رعاية المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية: عبد الرحمن يسري أحمد، تنظيم السوق وتحديد الأسعار للسلع وعناصر الإنتاج في النظام الاقتصادي الإسلامي، أبو ظبي1989.
(3) 79)Ausaf Ahmad, A Marco Model of Distribution in an Islamic Economy And Mabid Ali Al-Jarhi.
Towards An Islamic Marco Model of Distribution: A Comparative Approach in Fahim Khan (ed) Distribution in Macroeconomic Framework: AN Islamic Perspective, International Institute of Islamic Economics Islamabad 1988.(1/59)
ولقد اعترض البعض اعتراضاً شديداً على اعتبار نموذج Kaldor-Pasinetti نقطة انطلاق في تحليل إسلامي (سيد طاهر 1988)(1). والحقيقة أن أساسيات هذا النموذج تعبر عن طبقتين: أصحاب رؤوس الأموال والعمال وعن فلسفة توزيع الدخل فيما بينها في مجتمع رأسمالي، ولا يصح كما قال البعض أن نعتمد على النموذج الرأسمالي مع طرح الربا وإضافة الزكاة فقط (الصادق المهدي 1988)(2). ومع ذلك لا نملك التعقيب على العملين المذكورين إلا أن نقول أنهما يمثلان خطوة إيجابية إلى الأمام في وضع نظرية توزيع إسلامية على المستوى الكلي، ولو أن الانتقادات التي وجهت للنموذجين أدخلتا عليهما في شكل إضافات أو تحسينات لربما كان لدينا الآن نماذج للتوزيع أكثر صدقاً في التعبير عن روح النظام الإسلامي.
__________
(1) 80) انظر المرجع السابق.
(2) 81) انظر المرجع السابق.(1/60)
وأكدت أبحاث أخرى أن عدالة التوزيع مرتبطة بعدالة توزيع الموارد التمويلية، الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال وسائل إسلامية للتمويل بالمشاركة في الربح أو الخسارة. وأكدت هذه الأبحاث على دور النظام المصرفي الإسلامي في هذا الصدد، فالمصارف الربوية تأخذ بقاعدة الملاءة المالية فلا تفرض أموالها إلى المشروعات الصغيرة أو المتوسطة بل إلى المشروعات الكبير وأثرياء رجال الأعمال فقط، وهذا على خلاف ما يسمح به النظام المصرفي الإسلامي(1).كذلك أكدت الأبحاث أن السياسة النقدية الحكيمة التي تحارب التضخم تمثل أحد العناصر الهامة في التوزيع العادل لدخول بين أفراد وطبقات المجتمع ، ففي ظل التضخم تتدهور الدخول الحقيقية لفئات العاملين في الوظائف الرسمية أو في وظائف بعقود طويلة الأجل بينما ترتفع دخول الفئات العاملة في أنشطة التجارة والخدمات والسمسرة(2)، ويحتاج هذا الموضوع إلى مزيد من الأبحاث على المستوى التطبيقي لمعرفة أنماط توزيع الدخل في الأقطار الإسلامية التي تعرضت أو تتعرض للتضخم وكيفية معالجتها تدريجياً بأساليب إسلامية.
قضية المنهاجية العلمية:(3)
__________
(1) 82) انظر مراجع سابقة في مجال المصرفية الإسلامية.
(2) 83) شابرا- نحو نظام نقدي عادل (سبق ذكره) ومراجع أخرى عديدة مذكورة في 21، 23.
(3) 84) المراجع لقضية المنهاجية العلمية محدودة جداً، واعتمد هنا أساساً على ما ورد مفصلاً في: عبد الرحمن يسري، الاقتصاد الإسلامي بين منهاجية البحث وإمكانية التطبيق، في سلسلة محاضرات الفائزين بجائزة البنك رقم (15)، مطبوعات البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ط1، 1419هـ- 1999م، جدة.
ومن المراجع الجديرة بالذكر:
-Chapra, M. Umer, The Future of Economics. An Islamic Perspective, The Islamic Foundation, U.K. 2000.
-Akram Khan M. Methodology of Islamic Economics With Emphasis on Research Administration and Finance, IRTI, IDB, 1986.
-Anwar, Muhammad, Islamic Economics Methodology, Journal of Objective Studies, Aligara, India, July, 1990,pp 28-46.
-Zarqa, M. A. Problems of Research in the theory of Islamic Economics. Suggested Solutions, in IRTI,1986.(1/61)
منذ أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي اتحدت الآراء في أن الاقتصاد الإسلامي يعتمد في أصوله على القواعد الشرعية والقيم العقدية الخاصة بالمعاملات لكن اختلفت التوجهات في رؤية طبيعة العلاقة بين هذه القواعد والقيم الإسلامية من جهة والبحث والتحليل الاقتصادي من جهة أخرى، فاعتقدت طائفة من العلماء أن الاقتصاد الإسلامي فرع أو جزء لا يتجزأ من الفقه الإسلامي.
واعتقدت طائفة أخرى أن تحليل أسباب المشكلة الاقتصادية والتعرف على الحل الملائم لها يستدعي نوعاً من المعالجة المنهجية التي تختلف عن المعالجة الفقهية في طبيعتها، ومع ذلك تظل القواعد الفقهية والقيم الأخلاقية الإسلامية ملزمة ومحددة الإطار العام للتحليل. وظهر اتجاه ثالث يتمثل في أن القواعد الفقهية والقيم الأخلاقية الإسلامية مقيدة بصفة خاصة ومباشرة لجوانب محددة، أساساً الزكاة والربا وما يتعلق بهما، وخلاف ذلك فإن هذه القواعد والقيم لها دور إرشادي عام في الكليات وليس في الجزئيات.
وتشدد بعض أصحاب الاتجاه الأول الفقهي حتى أنهم رأوا أنه لا يجوز لغير الفقهاء المتخصصين في نواحي المعاملات أن يخوضوا في الاقتصاد الإسلامي، واختلف أصحاب الاتجاه الثاني في كيفية ودرجة المزج بي الأدلة الاقتصادية المحضة والأدلة الفقهية أو في مدى إدخال الأخلاقيات الإسلامية في التحليل الاقتصادي.
أما الاتجاه الثالث فقد كان من ثماره أبحاثاً بعضها يقترب جداً منهجياً من الأبحاث الاقتصادية الوضعية فيما عدا أنها نمت تحت المظلة الإسلامية شكلاً.(1/62)
ولا شك أن اختلاف المنهج في بداية المسيرة لأي علم من العلوم ظاهرة صحية، فالآراء تتعدد تاركة المجال للناقدين والمتابعين من العلماء أن يتخيروا فيما بينها. فيختاروا الأكثر صحة وقدرة على خدمة البحث العلمي، لكن بقاء الاختلاف المنهجي في الأجل الطويل أمر آخر، حيث يدل على أمر من اثنين إما أن الاقتصاد الإسلامي ينتمي إلى عدة مدارس فكرية أو أنه لم تتكون له مدرسة بعد. فكيف سارت الأمور خلال نحو ربع قرن بعد انعقاد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي. خلال هذه الفترة استمر تدفق الأبحاث ذات التوجه الفقهي في مجال الاقتصاد الإسلامي، وقامت أكاديمية الفقه في منظمة المؤتمر الإسلامي بدور كبير في هذا الشأن من خلال مؤتمراتها وندواتها العلمية.
كذلك ساهمت بعض لجان الفتوى في المصارف الإسلامية بأبحاث ذات طابع فقهي محض في معالجة بعض المشكلات التي صادفتها، ولكن يلاحظ أن الأبحاث ذات التوجه الفقهي لم تنمو أبداً عدداً ولم تتنوع بنفس القدر الذي نمت وتنوعت به أبحاث الاقتصاد الإسلامي التي سلكت منهجية مختلفة. وأحد الأسباب الهامة وراء ذلك هو أن المنهجية الفقهية لم تمكن الباحثين في الاقتصاد الإسلامي من بحث الموضوعات التي تدخل في نطاق الاقتصاد الكلي.وحتى حينما تم التطرق إلى موضوعات تدخل في نطاق الاقتصاد الكلي كان المدخل إليها بالأسلوب الجزئي غير المناسب.
زمن الواضح أن معظم الأبحاث ذات التوجه الفقهي تعرض لمسائل جزئية للتعرف على مناسبة القواعد الفقهية لها أو إمكانية تطويع القواعد الفقهية لها. ومن الواضح أيضاً أنها بينما تقدمت بحلول فقهية للمشكلات الاقتصادية الجزئية التي تعرضت لها إلا أن هذه الحلول لم تلق دائماً قبولاً عاماً من جمهور الفقهاء المتخصصين. وكذلك من معظم الاقتصاديين الإسلاميين الذين رأوا فيها مخارج شرعية شكلية أكثر منها طرقاً للمعالجة الاقتصادية الحقيقية لهذه المشكلات.(1/63)
من جهة أخرى فإن الاتجاه المنهجي الثالث الذي يتخذ من القواعد الشرعية الأخلاقية الإسلامية مظلة عاملة ليعمل تحتها في بحث وتحليل ومعالجة المشكلات الاقتصادية دون رؤية واضحة للعلاقة بين هذه القواعد والقيم والفروض الأساسية المستخدمة في التحليل ودون رؤية كافية لما قد يترتب من علاج مقترح على منظومة الاقتصاد الإسلامي علماً وتطبيقاً، فيما بعد هذا الاتجاه استمر في النمو وعلى نحو نشط خاصة في الحقبة الأخيرة. ولقد استمد هذا الاتجاه وقوده من مصدرين: النظرية الاقتصادية الوضعية والبيئة الثقافية للباحثين أو الناقدين التي لم تعبأ كثيراً أو ربما لم تهتم بمحاولة إيجاد الصلة بين القواعد الشرعية والقيم الأخلاقية الإسلامية والفروض المستخدمة في الأبحاث.(1/64)
وكثيراً ما وجدنا أبحاثاً من هذا القبيل تقرر أن الفروض المستخدمة إسلامية أو تستهدف مصلحة الأمة الإسلامية دون أن نعرف سبباً واحداً لذلك. وأحياناً اختلطت مفاهيم الأخلاق الفاضلة في الفلسفات غير الإسلامية بالمفاهيم الأخلاقية الإسلامية، فلم يعد واضحاً إذا كانت الأبحاث الاقتصادية المقدمة إسلامياً كما يُقال أم لا. وتطوع فريق من أصحاب هذه الأبحاث التي لم تعد هويتها واضحة لتقديم دراسات واقعية تعتمد على إحصائيات من الأقطار الإسلامية وقاموا بتصميم نماذج اقتصادية قياسية ليثبتوا وجهات نظرهم وليؤكدوا على أن الاقتصاد الإسلامي له مفهوم إيجابي Positive لا يقل شأناً عن المفهوم الإيجابي الوضعي (مع أنه تأكيداً يعلو عليه شأناً) ولكن مع غياب أو غموض الأساس المنهجي السليم تبقى هذه الأبحاث ونتائجها في برزخ إلى أن يتم فحصها جيداً والتأكد من انتمائها للاقتصاد الإسلامي.ولا يفيدنا هنا كدليل أو أدلة على انتمائها للاقتصاد الإسلامي أن تبدأ بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو أن يتخللها مثل هذا ، كما أنه لا يؤكد على عدم انتمائها للاقتصاد الإسلامي أن تكون قد كُتبت بأقلام كتّاب غير مسلمين ممن دخلوا في دائرة الاقتصاد الإسلامي، فبعض هؤلاء قد يكون له آراء سديدة يستفاد منها حقاً.
ولكن مرة أخرى فإن فحص مثل هذه الأبحاث صار ضرورة قبل الإسراف في نشر قوائم بأبحاث الاقتصاد الإسلامي ليسترشد بها الباحثون الجدد دون التأكيد من جانب مما يُنشر في هذه القوائم زائف أو يضر أكثر مما ينفع.(1/65)
ومع هذه المثالب التي اتضحت فإن الاتجاه المنهجي الثاني الذي يتقيد من جهة بالقواعد الشرعية والقيم العقدية الإسلامية، ويلتزم من جهة أخرى بعمق التحليل الاقتصادي في إطار هذه القواعد والقيم قد أثبتت وجوده تدريجياً على مدى ربع القرن الماضي بخطى بطيئة نسبياً ولكن مستقرة. فظهرت أبحاث عديدة في هذا المجال لها قيمة علمية في الطريق إلى تكوين نظرية اقتصادية إسلامية ومن ثم لبناء نظام اقتصادي إسلامي يصلح للأقطار الإسلامية المعاصرة التي تسعى للتنمية والتكامل فيما بينها. والحقيقة أن هذا الاتجاه وحده هو القادر على بناء نظرية اقتصادية من منظور إسلامي، فالتمسك به يستدعي بذل الجهد في ترجمة القواعد الشرعية والقيم العقدية الإسلامية إلى فروض أساسية من جهة، وبذل الجهد من جهة أخرى في جمع ملاحظات علمية دقيقة والاستعانة بأدوات التحليل الاقتصادي المحايدة، وذلك لاقتراح فرض (أو فروض مفسرة) للظاهرة الاقتصادية، وذلك في إطار الفروض الأساسية السابقة.
واكتمال هذا المنهج العلمي لن يتأتى إلا باختبار الفرض المفسر في ظل ظروف اقتصادية إسلامية واقعية. إن هذا هو الطريق الصعب ولكنه لا غنى عنه وينبغي الالتزام به سواء من جهة التدريس أو البحث حتى تتكون لدينا مدرسة علمية فسي الاقتصاد الإسلامي. لا نقول تقارن بل تتفوق بإذن الله على ما عداها من مدارس وضعية وتكون مرشدة لها مستقبلاً في كيفية الوصول بالإنسان إلى المرتبة التي أرادها الله له في الدنيا والآخرة.
كلمة ختامية:
حقق البحث العلمي في الاقتصاد الإسلامي نمواً كبيراً على مدى ثمان وعشرين عاماً عقب عقد أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة. وتمثل هذا النمو في عدد من الأبحاث والمؤلفات وتنوعها بلغات عالمية مختلفة ولكن بالعربية والإنجليزية خصوصاً.(1/66)
وبالرغم من تنوع الموضوعات إلا أن قوائم المراجع المتاحة الآن عن الاقتصاد الإسلامي تؤكد أن أكبر كم من الأبحاث جاء في موضوعات الفائدة وربويتها، والمصارف الإسلامية ثم الزكاة، ويلي ذلك أبحاث التنمية الاقتصادية وغيرها. وإن كان هذا الهيكل يدل على نوع من عدم التوازن في بحث الجوانب المختلفة للمشكلة الاقتصادية إلا أنه يدل أيضاً على اتجاه البحث العلمي في الاقتصاد الإسلامي إلى توزيع الاهتمامات بشكل يتناسب إلى حد كبير مع الأهميات النسبية لجوانب هذه المشكلة كما هو في الواقع العلمي للمسلمين في المجتمعات المعاصرة.
فلا شك أن قضية ربوية الفائدة قد أثيرت وما زالت مثارة في ظل الأوساط الثقافية والجماهيرية أكثر من أي قضية أخرى. ولا شك أن نمو نشاط المصارف الإسلامية وسط تحديات هائلة داخلية وخارجية، والرغبة في تحسين أداء هذه المصارف حتى تقابل هذه التحديات ظل وما يزال إلى الآن يستدعي البحث، ونفس الأمر يأتي بالنسبة لإحياء الزكاة في إطار الرغبة المسلمين في القيام بهذه الفريضة كما ينبغي.وكذلك التنمية وما ينبغي نحوها لأجل التخلص من مشكلات الفقر والتوصل إلى حياة أفضل للمسلمين.
ومع ذلك فإن الاهتمام بالبحث العلمي في هذه الموضوعات ما زال يحتاج إلى دفعة كبيرة من الناحية التحليلية البحتة حتى تصبح وسائل التمويل الإسلامية بالدرجة من الكفاءة في الممارسات العملية ما يجعل المصارف الإسلامية في مرتبة تنافسية عالية تمكنها من تنمية نشاطها بشكل صحي على حساب تقلص نشاط المصارف الربوية في الأقطار الإسلامية.(1/67)
وما زالت أبحاث الزكاة تحتاج إلى دفعة كبيرة لبيان الآليات العملية التي يصبح بتها النظام المالي واضحاً من حيث الحاجة أو عدم الحاجة إلى فرض ضرائب وبأي قدر، وكيف يعامل غير المسلمين في الأقطار الإسلامية مالياً، هذا بالإضافة إلى كيفية معالجة مشكلات أخرى حادة قي إطار نظام مالي إسلامي ن مثلاً مشكلة الدين العام الداخلي التي أصبحت تثقل كاهل معظم إن لم يكن جميع الحكومات في العالم الإسلامي.
وفي إطار الاهتمام أيضاً بما نواجه من مشكلات واقعية في عالمنا الإسلامي المعاصر فإن قضية التنمية البشرية المتواصلة تحتاج إلى مزيد من البحث، فالتنمية البشرية هي أساس التنمية في الإسلام ونحتاج إلى أن نبحث في كيفية تفعيلها على المستوى الجزئي وليس فقط على المستوى الكلي. هناك أيضاً حاجة ماسة إلى التعرف على موقف العالم الإسلامي من العالم. من التطورات المتلاحقة على الساحة العالمية تحليل دقيق متعمق لانعكاسات تحرير التجارة العالمية وتيار العولمة على العالم الإسلامي من كافة النواحي الاستهلاكية والإنتاجية والتجارية والتوزيعية، وإمكانيات التكامل بين الأقطار الإسلامية في هذه الظروف الجديدة.(1/68)
وكذلك بحث مشكلة المديونية الخارجية الباهظة والمساعدات الأجنبية التي يتلقاها العالم الإسلامي من الخارج، كيف نواجه هذه المشكلات وما هي المخارج الاقتصادية السلامية لها . ولكي يتحقق هذا وغيره مما اقترحناه ضمن هذه البحث لا بد من الالتزام بمنهاجية علمية صحيحة، فينبغي للاقتصاديين الإسلاميين بذل مزيد من الجهد في جمع ملاحظات علمية دقيقة من الواقع العملي لبلدانهم، والعمل على تحليلها في إطار القواعد الشرعية والقيم الأخلاقية الإسلامية. ثم اقتراح السياسات والآليات المناسبة للعلاج ، ولا بأس إطلاقا من الاستعانة بأدوات التحليل الوضعية أو النظرية الاقتصادية طالما صارت هناك طمأنينة كاملة من حيادها فكرياً أو عدم تناقضها مع الفكر الإسلامي. ولكن الحذر كل الحذر من نقل الفكر الوضعي والمفاهيم الوضعية وادعاء أسلمتها بينما تظل كما هي لم تتغير، ومثل هذا المنهج الإسلامي العلمي الفريد الذي له استقلالية من حيث الرد أو الأخذ من اعلم الوضعي والذي لا هو بمنهج تجريبي بحت ولا بمنهج مثالي بحت (كما في الفكر الوضعي) سوف يسهم تدريجياً في بناء اقتصاد إسلامي صحيح في النهاية.
ويلاحظ أن الأبحاث في مجال التنظير وفي بناء نماذج اقتصادية لإسلامية تصلح للتطبيق فقط في أُطر مثالية له قيمته العلمية بلا شك، لكنه لن يفيد في مجتمعاتنا الإسلامية الآن في واقعها المعاصر، هذا إلا إذا قام البعض بأبحاث تكميلية تبين كيفية التحول من الأوضاع الحالية إلى الأوضاع المثالية التي تصورها هذه النماذج على مدى الزمن.(1/69)
وتثير القضايا الفكرية المطروحة قضايا أخرى متصلة بالجانب المؤسسي في الاقتصاد الإسلامي وضرورة تفعيله، من حيث أنه يمثل حلقة الوصل بين الفكر والتطبيق. وعلى رأس القضايا الهامة هنا الجانب التعليمي في الاقتصاد الإسلامي.كيف يمكن تنمية المعرفة بالاقتصاد الإسلامي على جميع المستويات بدءاً من مستوى الرجل العادي وربة المنزل وتلامذة المدارس الابتدائية إلى مستوى الطالب الجامعي والباحث في الدراسات العليا.ذلك لأن التزام الرجل العادي وربة المنزل بالقيم الاقتصادية الإسلامية هو السبيل إلى نشر أنماط استهلاكية وادخارية واستثمارية إسلامية تنعكس بعد ذلك على النشاط الإنتاجي وتوازنه مع النشاط الاستهلاكي على المستوى الكلي، وتنعكس على أداء المؤسسة المصرفية الإسلامية أو غيرها من الشركات الإسلامية.
كذلك فإن إعداد التلامذة في مراحل تعليمية سابقة للجامعة ثم تخريج أعداد متزايدة من الجامعيين الحاملين للفكر الاقتصادي الإسلامي لا بد أن يؤثر في آليات القرار الاقتصادي على المستويين الجزئي والكلي في المجتمعات الإسلامية على مدى الأجل الطويل، فيكن هذا سبباً مؤكداً بعد حين من الزمن إلى نفاذ النظام الاقتصادي الإسلامي إلى الواقع رغم تحديات القوى المعارضة له، لذلك علينا نشر الثقافة والمعرفة الاقتصادية الإسلامية بأكفأ الطرق وأكثرها فاعلية ومرونة في الوقت نفسه. ولرجال الاقتصاد الإسلامي دور هام هنا في تبسيط المناهج للعامة ولطلاب المدارس، وللفقهاء والعلماء دور أكثر أهمية من حيث التأكيد على الجوانب الفقهية والأخلاقية وصلتها بالممارسات العملية في عالم الاقتصاد.(1/70)
وهكذا فنحن بحاجة إلى اقتصاد إسلامي مبسط وإلى مناهج مساندة للاقتصاد الإسلامي كفقه الاقتصاد الإسلامي وأخلاقيات الاقتصاد الإسلامي أو التربية الاقتصادية الإسلامية. وهذه المعارف التأسيسية يجب أن تميز بدقة عن الاقتصاد الإسلامي كعلم يبحث في تحليل ومعالجة المشكلة الاقتصادية في إطار القواعد الشرعية والقيم العقدية الإسلامية، ذلك لأن اعتقاد البعض أن هذه المعارف التأسيسية جزء من الاقتصاد يقلل جداً شأنها ويفقدها أصالتها الفكرية بينما لا يفيد التقدم العلمي للاقتصاد الإسلامي بل يقف حائلاً أمامه.
كذلك فإن العمل على تفعيل المؤسسة المصرفية الإسلامية أصبح أمراً في غاية الأهمية بعد أن كادت بعض الممارسات الخطأ أن تفقدها هويتها المميزة تجاه المؤسسة المصرفية الربوية. ولا بد في هذا المجال من ضرورة الإشارة إلى خطورة الاستمرار في الاعتماد على وسائل تمويل تُوصف بأنها إسلامية بينما هي محل شك وانتقاد شديد من الاقتصاديين الإسلاميين ومن العديد من أهل الفقه الإسلامي، وإلى خطورة استمرار سيطرة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة على المؤسسة المصرفية الإسلامية. فلا بد أن تدار هذه المؤسسة على نحو علمي بواسطة أشخاص يجمعون بين ثقافة إسلامية ودوافع عقدية عالية وخبرة مصرفية كافية وبموظفين مؤمنين بأهداف العمل المصرفي الإسلامي وضرورة بذل الجهد والتضحية في سبيل نجاحه، ولن يتحقق ذلك إلا باستخدام أعداد متزايدة ممن تلقوا دراسات في الاقتصاد الإسلامي، وليس بواسطة أشخاص ممن يسعون إلى الحصول على أية وظائف ذات دخل مرموق.
أما مؤسسات الزكاة والوقف والحسبة التي يُنتظر من ورائها إحياء النظام الاقتصادي الإسلامي فما زالت بحاجة إلى جهود علمية وعملية في أداء وظائفها وحلولها، وبالتالي محل المؤسسات الوضعية القائمة.(1/71)
إن ثمة مسئولية كبيرة ملقاة على عاتق رجال الاقتصاد الإسلامي حتى يضعوا نماذج اقتصادية واقعية على أسس إسلامية متينة، ويضعوا تصورات واضحة عن السياسات والآليات والظروف اللازمة لنجاحها. فإذا نجحنا في ذلك يمكن أن تصبح هذه النماذج منارة للبلدان النامية جميعاً إسلامية وغير إسلامية.
- - -(1/72)