تطور العمل المصرفي الإسلامي
تشهد الساحة المصرفية المحلية والإقليمية تطوراً هائلاً في تقديم العمليات المصرفية الإسلامية سواء في شكل إنشاء مصارف إسلامية جديدة ( مثل بنك البلاد بالسعودية ، بنك بوبيان بالكويت ) أو تحول مصارف تقليدية الى مصارف إسلامية ( بنك الجزيرة بالسعودية / بنك الشارقة بالامارات ) أو في شكل تحويل فروع تقليدية إلى فروع إسلامية مثل ( البنك الأهلي التجاري ، مجموعة سامبا المالية ، بنك الرياض ، البنك العربي ، البنك السعودي البريطاني بالسعودية ) ، هذا بالإضافة إلي بنوك إسلامية قائمة بالفعل ، وعلى الساحة الدولية تقوم مؤسسات مالية دولية مثل SHBC وسيتي جروب بتقديم العمليات المصرفية الإسلامية ، كما تم مؤخراً إنشاء البنك الإسلامي البريطاني بمدينة لندن .
وطبقاً لآخر إحصائية صادرة من المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية عام 2004 فقد بلغ عدد المؤسسات المالية الإسلامية على مستوى العالم 217 مصرفاً إسلامياً في 48 دولة بقارات العالم الخمس وبحجم اصول بلغت 261 مليار ، هذا بخلاف حجم أعمال البنوك التقليدية التي تقدم عمليات مصرفية إسلامية والتي تقدر بحوالي 300 بنك وبحجم اجمالي يصل إلى أكثر من 150 مليار ، ويبلغ معدل نمو الصناعة المصرفية الإسلامية بين 15% و 20% سنوياً .
هذا التطور في حجم العمل المصرفي الاسلامي لم يكن أحدا يتوقعه عندما بدأت أول تجربة لإنشاء بنك إسلامي لا يتعامل بأسعار الفائدة آخذا أو عطاء وذلك عام 1975 مع بداية عمل البنك الاسلامي للتنمية بمدينة جدة بالسعودية وبنك دبي الإسلامي بدولة الإمارات ، فكان التحدي الكبير لتلك المؤسسات المالية هي القدرة على تلبية إحتياجات المتعاملين عن طريق تقديم الخدمات والمنتجات المالية والمصرفية بدون استخدام أسعار الفائدة .(1/1)
وكان من أهم عوامل نجاح وإنتشار العمل المصرفي الإسلامي هو إلتزام تلك المؤسسات المالية بالضوابط الشرعية في جميع معاملاتها ، حيث تعد الضوابط الشرعية الركيزة الأساسية التي يتعامل بها المصرف الاسلامي مع عملائه .
وتعرف المصارف الإسلامية بأنها مؤسسات مالية تقوم بتقديم الخدمات المصرفية والاستثمارية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ، طبقا لأسلوب الوساطة المالية القائم على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة ، حيث تعد قاعدة المشاركة القاعدة الرئيسية التي يعتمد عليها المصرف في تعامله مع عملائه ( المودعين/ المستثمرين) ، وهي من القيم المضافة للمصرفية الإسلامية في القطاع المصرفي حيث أخرج العميل من دائرة المديونية إلي دائرة المشاركة .
وقد واجهت المصارف الاسلامية في بداية نشأتها العديد من المشكلات من أهمها تقديم الخدمات والمنتجات المصرفية وبكفاءة مصرفية عالية ومتطورة ولكن في ضوء الضوابط الشرعية المستمدة من المصادر الشرعية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ( فقه المعاملات) مع الاجتهاد الشرعي للمنتجات المصرفية الحديثة مثل بطاقات الائتمان والتعامل المصرفي بالإنترنت والتعامل مع أسواق المال الدولية .
وقد تطورت أعمال المصارف الإسلامية خلال العقد الأخير من حيث تنوع المنتجات والخدمات المصرفية والتمويلية التي تقدمها لعملائها حيث بلغت الخدمات المصرفية الاسلامية المقدمة للعملاء ما يزيد عن ثلاثون خدمة مصرفية مطابقة لأحكام الشريعة ومنها بطاقات الإئتمان والاعتمادات المستندية وخطابات الضمان ، بالإضافة إلى توفير أدوات مالية توفر للعملاء عوائد مثل ودائع وشهادات وصناديق الاستثمار الإسلامية ، مع توفير أدوات مالية لتمويل مشروعات التنمية بديلا عن إصدار السندات وهي الصكوك الإسلامية .(1/2)
كما تميزت المصارف الاسلامية بشكل كبير في مجال منح التمويل للعملاء حيث توفر صيغ مختلفة ومتنوعة لتمويل أنشطتهم المتعددة ومن تلك الصيغ صيغة المرابحة للأمر بالشراء والمشاركة بأنواعها المتعددة والمضاربة والاستصناع والتأجير مع الوعد بالتمليك وبيع السلم والتورق والبيع بالعمولة والبيع بالوكالة والمتاجرة والبيع بالتقسيط والاستثمار المباشر .
وتتميز الصيغ التمويلية بالمرونة التي تمكنها من تلبية رغبات العملاء المتنوعة ولكافة القطاعات الاقتصادية ، كما تتميز كل صيغة من تلك الصيغ بإمكانية استخدامها لتمويل نشاط لا يمكن لصيغة أخرى تمويله ، فما يصلح للتمويل بالمرابحة لا يمكن تمويل بالإستصناع وهكذا .
وفي الواقع العملي تواجه المصارف الإسلامية العديد من المشكلات ومنها عدم إلمام عملائها بصيغ التمويل الإسلامية وكيفية تطبيقها ، حيث أن غالبية العملاء كانت تتعامل مع البنوك التقليدية بنظام القرض والبعض الآخر لم يكن يلجأ إلى التعامل مع البنوك لعدم رغبته في التعامل بأسعار الفائدة ، وهذا الأمر يتطلب من المصارف الإسلامية أن تقوم بإيضاح صيغ التمويل الإسلامي للعملاء وكيفية الاستفادة من تلك الصيغ في تمويل مشروعاتهم .
وكان من نتائج التوسع المستمر للصناعة المصرفية الإسلامية ارتفاع حجم شرائح المتعاملين وزيادة معدل النمو إلى حوالي 20% مما دفع بعض البنوك المركزية ومؤسسات النقد إلي إصدار قوانين خاصة بالمصارف الإسلامية تتناسب مع طبيعتها مثل البحرين والامارات والكويت ، كما أن هناك بعض الدول قامت بتحويل كافة نظامها بالكامل الى النظام المصرفي الاسلامي وهي باكستان وإيران والسودان .
ويشرف علي العمل المصرفي الإسلامي العديد من الهيئات الدولية ومنها :(1/3)
1 - هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ( AAOIFI ) والتي أنشئت عام 1991 ومقرها البحرين وهي تهتم بإصدار معايير المحاسبة والمراجعة الخاصة بالمصارف الاسلامية وقد أصدرت حتى الان حوالي 18 معيارا محاسبيا .
2 - ً المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية والإسلامية( GCIBFI) الذي أنشئ عام 2001 ومقره البحرين والذي يهتم بتوفير المعلومات عن الصناعه المصرفية الاسلاميه ونشر الوعي العام حول العمل المصرفي الإسلامي .
3 - مجلس الخدمات المالية الإسلامية ( IFSB) والذي أنشئ عام 2002م ومقره ماليزيا وقد قام بتأسيسه العديد من البنوك المركزية ومؤسسات النقد بالعالم ومنها مؤسسة النقد العربي السعودي ومؤسسة نقد البحرين وبنك نيجارا المركزي بماليزيا بالإضافة إلى البنك الاسلامي للتنمية وصندوق النقد الدولي ويهتم المجلس بإصدار معايير الرقابة والإشراف وتطوير آليات لإدارة المخاطر بالمصارف الاسلامية .
ورغم هذا التطور في العمل المصرفي الاسلامي فما زال أمام المصارف الاسلامية الكثير من التحديات والجهد لتطوير أنظمة العمل واستخدام الأساليب التكنولوجية الحديثة ، وتطوير وابتكار أدوات مالية محلية ودولية من أجل تلبية الاحتياجات المتزايدة للعملاء ومواجهة المنافسة المصرفية بالأسواق المحلية والدولية وخاصة بعد تطبيق قرارات منظمة التجارة العالمية وتطبيق مقررات لجنة بازل 2) ) عام 2007 .
... ... ... ... ... د/ محمد البلتاجي
... ... ... ... ... خبير مصرفي إسلامي
... ... ... ... ... WWW.BLTAGI.COM
بطاقات الائتمان
الدورة الخامسة عشرة
6-11/3/2004م
مسقط (سلطنة عُمان)
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة - جامعة دمشق
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:(1/4)
فإن بطاقة الائتمان أصبحت في الغالب في عصرنا الحاضر في بلاد الغرب والشرق، وبنسبة محدودة في البلاد العربية والإسلامية هي أداة الوفاء المستعملة للالتزامات النقدية في البيوع والأشربة والقروض وتقديم الخدمات كسداد الفواتير والرسوم والضرائب والحصول على الحاجات من البضائع والسلع، وذلك بدلاً من حمل النقود المحلية أو صرفها بعملات أجنبية، أو الوفاء بالشيكات ونحوها، وتفادياً لأشكال وأنواع النصب والاحتيال والسرقات والغصب والنهب ونحوها، وربما في المستقبل القريب تحل بطاقات الائتمان محل النقود، وهو تطور اقتصادي واجتماعي ملموس، واتجاه سريع نحو هذه الغاية بما يتم من الاعتماد على هذه البطاقات حالياً.
وهذا ما يسمى بالوظيفة الائتمانية للمصارف، التي تتمثل في القرض وفتح الاعتمادات والسحب على المكشوف بفائدة ربوية، وهي الوظيفة الثالثة للمصارف بعد الوظيفة النقدية (قبول الودائع من المسكوكات والعملات) ثم الوظيفة الاستثمارية (استثمار أموال المصرف الخاصة والودائع الاستثمارية في التجارة وغيها وعمليات التسليف والإقراض).
وإذا كانت هذه الظاهرة شائعة في بلدان النظام الرأسمالي القائم على نظام الفائدة البنكية المحرمة في الإسلام، فكيف يمكن إصدار بطاقات ائتمان إسلامية كما تفعل بعض المؤسسات المصرفية الإسلامية الحالية دون تورط بالوقوع في الحرام وتجنب نظام الفائدة الربوية؟ حتى يطمئن المسلم إلى سلامة تعامله من غير اقتراف للحرام.
ويمكن ذلك بعد بحث الموضوع من خلال ما يأتي:
ـ تعريف الائتمان وبطاقة الائتمان وأهميتها العامة والخاصة ومحاذيرها.
ـ أنواع بطاقات الائتمان وحكم كل نوع.
ـ التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان في صورتها الأصلية والعلاقات بين أطرافها.
ـ البدائل الشرعية لبطاقة الائتمان.
ـ الحكم الشرعي لبعض البطاقات المعاصرة المصدَّرة من بعض البنوك الإسلامية.
تعريف الائتمان وبطاقة الائتمان(1/5)
أصل معنى الائتمان في الاقتصاد: القدرة على الإقراض، واصطلاحاً: هو لتزام جهة لجهة أخرى بالإقاض أو المداينة، ويراد به في الاقتصاد الحديث: أن يقوم الدائن بمنح المدين بمنح المدين مهلة من الوقت، يلتزم المدين عند انتهائها بدفع قيمة الدين(1)، فهو صيغة تمويلية استثمارية تعتمدها المصارف بأنواعها.
والأدق في تبيان معنى الائتمان أو الاعتماد Credit:
هو عملية مبادلة شيء ذي قيمة أو كمية من النقود في الحاضر، مقابل وعد بالدفع في المستقبل.
وينظر إليه من ناحيتين(2):
الأولى - من ناحية المهلة التي يمنحها البائع للمشتري، لكي يدفع ثمن السلعة التي تسلَّمها، وفيها يزيد السعر، لأن الثمن مؤجل. وهذا يسمى ((الائتمان التجاري)).
الناحية الثانية - هو العملية التي بموجبها يقرض شخص غيره مبلغاً متأملاً إعادته في المستقبل مضافاً إليه الفائدة المترتبة عليه.
وللائتمان أشكال مختلفة:
- الائتمان قصير الأجل (أقل من ثمانية عشر شهراً).
-الائتمان متوسط الأجل (وهو الذي يصل إلى خمس سنوات).
- الائتمان طويل الأجل (ويكون أكثر من خمس سنوات).
والبطاقات هي في الواقع القائم بطاقات الإقراض.
فإن كان السحب المباشر من الرصيد لا يوصف بالإقراض، فتسمى بطاقات الدفع أو بطاقات المعاملات المالية(3) .
وبطاقة الائتمان Credit card عند الاقتصاديين: هي بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله، تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة، عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم بائع السلع أو الخدمات بالتالي بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف مُصْدِر البطاقة، فيسدِّد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفاً شهرياً بإجمالي القيمة لتسديدها أو لحسمها (لخصمها) من حسابه الجاري لطرفه(1).(1/6)
وبعبارة أخرى: هي مستند من ورق سميك مسطح أو بلاستيكي، يصدره البنك أو غيره لحامله، وعليه بعض البيانات الخاصة بحامله. والجهة المصدرة للبطاقة: هي مصرف أو مؤسسة مالية تقوم بإصدار البطاقة بناء على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية لهذه البطاقات.
وعرفها مجمع الفقه الإسلامي الدولي بأنها: مستند يعطيه مُصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناء على عقد بينهما، يمكّنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدِر بالدفع.
ومن أنواع هذا المستند: ما يمكِّن من سحب نقود من المصارف.
ولبطاقات الائتمان صور:
- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف، وليس من حساب المصدِر، فتكون بذلك مغطاة.
- ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدِر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة، ومنها ما لا يفرض فوائد.
- وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها، منها ما لا يفرض فيه المصدِر رسماً.
أهميتها:
حققت بطاقة الائتمان نجاحاً ملموساً من نواح متعددة سلبية وإيجابية. فقد حققت فعلاً الأمان لحامليها من السطو وسرقة النقود أو ضياعها، أو حملها، لاكتفائهم بحملها وهي صغيرة لا تتجاوز 5/9 سم2، ممغنطة تحمل رقماً رمزياً.
وضمنت لأصحاب الحقوق أداء حقوقهم بعد التثبت بواسطة جهاز الكتروني (كمبيوتر) من ملاءة صاحب البطاقة، واستطلاع الجهاز المعلوماتي الخاص بالمصدر عن مقدار المبلغ المالي المودع في حسابه.
وصارت هي الأداة المفضلة على النقود ذاتها في التجارة والمطاعم والفنادق وغيرها.
وكانت سبباً لزيادة المبيعات في المحلات التجارية، وحققت أرباحاً ملموسة ومجدية ونشطة لمصدري البطاقة.(1/7)
كل ذلك بسبب آليتها السريعة في العمل وضمان وفاء الحقوق، حيث ينظِّم التاجر فاتورة يدوِّن عليها أهم بيانات البطاقة، ويختمها بتوقيع العميل، ثم يرسلها إلى الجهة الْمُصْدِرة التي تتولى دفع القيمة المدونة فيها، إما من حساب العميل، أو تحسب ديناً عليه بضمان حسابه لدى الجهة المصدرة.
ويتولى إصدار البطاقات العالمية جهتان رئيستان وهما: ((أمريكان إكسبريس) و((فيزا)) العالميتان، ويطلق على المصدِر اسم: راعي البطاقة(1) .
محاذيرها:
ليس لبطاقات الائتمان غالباً في مجال التعامل الاقتصادي أية محاذير، عند من يتعامل بالفوائد البنكية لاستعداده لسداد هذه الفوائد إذا تأخر عن تغطية رصيده في البنك الذي يودع فيه حسابه.
وإنما المحذور واضح بالنسبة للمسلم الملتزم بأصول دينه، حيث يكتسب الإثم الكبير أو المعصية إذا تعامل بالربا أو بالفوائد المصرفية، كما كان عليه عرب الجاهلية: ((أتقضي أم تربي؟)).(1/8)
والاتفاق الذي يوقعه حامل البطاقة ومُصْدِرها فاسد، لوجود الشرط الفاسد، وهو استعداده لدفع الفائدة إذا تأخر عن الدفع في الوقت المحدد، ومن عقد عقداً فاسداً، كان آثماً بالعقد ذاته، سواء دفع حامل البطاقة الفائدة أو لم يدفعها، لأن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية عند الجمهور يفسدها، وقرر الحنابلة أن الشرط الفاسد المنافي لمقتضى العقد لا يفسد العقد، كاشتراط ألا خسارة عليه، أو ألا يبيع المبيع أو لا يهبه لغيره، وإنما يبطل الشرط وحده العقد صحيح، لقوله (ص): ((من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مئة شرط))(1) . ويؤيد هذا الاتجاه ما أخذت به بعض لجان الفتاوى في المصارف الإسلامية، وهو أن حامل البطاقة إذا اتخذ من الاحتياطات ما يكفل عدم تطبيق الشرط المحرم عليه وهو دفع الفائدة، لا بأس عليه في الاستفادة من البطاقة وتوقيعه على اتفاقيتها، على الرغم من هذا الشرط، لأنه في معرض الإلغاء شرعاً، بدليل قول النبي (ص) في الصحيحين لعائشة رضي الله عنها في شأن بريرة رضي الله عنها: ((خذيها واشارطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق)) وفي رواية: ((اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء)) والمراد أنه لا قيمة لهذا الشرط المخالف للحق والشرع، ويظل الولاء للمعتق(2) .
أنواع بطاقات الائتمان وحكم كل نوع:
يتمكن أصحاب بطاقات الائتمان من السحب من أرصدتهم نقداً بنحو سريع (الصراف الآلي)، أو من الحصول على قرض، أو دفع أثمان المشتريات ومقابل الخدمات بمجرد إبراز البطاقة، وتوقيع صاحبها على الفاتورة، واستكشاف وفرة حسابه في البنك، وتضمن مؤسسة الإصدار استيفاء المدفوعات الآجلة عن طريق الاقتطاع الشهري أو السنوي حسب الاتفاق، وتمنح بعض المؤسسات لعملائها بعض الميزات التجارية كنسبة حسم (خصم) في بعض المحلات التجارية أو ضمان السلعة المشتراة.(1/9)
وهي ثلاثة أنواع: بطاقة الحسم الفوري، وبطاقة الائتمان والحسم الآجل، وبطاقة الائتمان المتجدد.
ويمكن معرفة حكم كل نوع من هذه الأنواع فيما يأتي(3) :
النوع الأول - بطاقة الحسم الفوري (أو بطاقة السحب المباشر الرصيد) Debit Card
هي التي يكون لحاملها رصيد بالبنك، فيسحب مئة مباشرة قيمة مشترياته وأجور الخدمات المقدمة له، بناء على السندات الموقعة منه.
يدل هذا التعريف على أن هذه البطاقة تعطى لمن له رصيد دائن في حسابه، يدفع منه أثمان السلع ومقابل الخدمات في حدود رصيده الموجود، ويتم الحسم منه فوراً، ولا يحصل على ائتمان (إقراض).
وتمنح غالباً مجاناً، فلا يتحمل العميل في الغالب رسوماً لهذه البطاقة إلا إذا سحب نقوداً، أو اشترى عملة أخرى، عن طريق مؤسسة أخرى غير المؤسسة المصدرة للبطاقة، فتصدر هذه البطاقة برسم أو من غير رسم إلا في حال سحب العميل نقوداً أو شرائه عملة أخرى عن طريق مؤسسة أخرى غير المؤسسة المصدرة للبطاقة.
وتستخدم عالباً محلياً داخل الدولة أو مناطق فروع البنك المتصلة بجهاز حاسب آلي، يتبين فيه حساب العميل ورصيده.
وتتقاضى بعض المؤسسات من قابل البطاقة نسبة من أثمان المشتريات أو الخدمات(1). ويشترط لجواز إصدار بطاقة الحسم الفوري شرطان:
1ً - أن يسحب حاملها من رصيده أو وديعته.
2ً - ألا يترتب على التعامل بها فائدة ربوية.
وفائدة هذه البطاقة: هي تمكين صاحبها من الحصول على النقود، والسلع، والخدمات وغير ذلك بيسر وسهولة، دون تعرض لمخاطر حمل النقود أو السفر بها، ولكن ليس له الاستدانة بها لتحقيق مصالحه.
وقد تشمل هذا البطاقة على اتفاقية إقراض، وحينئذ تعد من أدوات الإقراض، خلافاً لقانون تنظيمها.(1/10)
وحكمها الشرعي: الجواز أو الإباحة، مادام حاملها يسحب من رصيده أو وديعته، ولا يترتب عليه أي فائدة ربوية، لأنه استيفاء من ماله، ويجوز له أيضاً أن يسحب من المصرف أكثر من رصيده إذا سمح له المصرف بذلك، ولم يشترط عليه فوائد ربوية، لأنه قرض مشروع من المصرف، ويجوز للمصرف أن يتقاضى من قابل البطاقة نسبة معينة من أثمان المبيعات.
وكل ذلك لا يترتب عليه محظور شرعي، والأصل في المعاملات الإباحة.
والفرق بينها وبين بطاقة الائتمان المتجدد (أو الإقراض) الربوية: أنه لا علاقة للبنك بالنسبة للدَّيْن، بل يحوَّل مباشرة من حامل البطاقة ليحسم من رصيده، إلى حساب التاجر دون أي إجراء آخر، أما بطاقة الإقراض فيلزم البنك بدفع المبالغ الموضحة بالسندات، المقدمة له من التاجر العميل بزيادة متفق عليها، وهي غير مشروعة.
وفي الجملة: يجوز إصدار بطاق الحسم الشهري بالشروط السابقة، لأنها لا تتضمن محظوراً شرعياً، ولا يمح عقدها بتسهيلات ائتمانية لحاملها يترتب عليها فوائد ربوية.
وتكييفها بالنسبة للبنك المصدر وعلاقته بالتاجر: أنها حوالة، والحوالة مشروعة في الإسلام بالإجماع، فهي حوالة من حامل البطاقة على البنك المودع فيه حساب العميل، فيقوم البنك بتحويل المبلغ إلى التاجر المحال، وقبول الحوالة من البنك المحال عليه واجب في رأي داود الظاهري وأحمد بن حنبل(1) .
النوع الثاني - بطاقة الائتمان والحسم الآجل (أو بطاقة الإقراض المؤقت من غير زيادة ربوية ابتداء(2) ). CHARG CARD
وهي التي يمنح فيها البنك المصدِر حامل البطاقة قرضاً في حدود معينة، بحسب درجة البطاقة: فضية أو ذهبية، ولزمن معين، يجب تسديده كاملاً في وقت محدد متفق عليه عند الإصدار، يترتب على حاملها لدى تأخير السداد زيادة مالية ربوية. وهي الصورة الأصلية لبطاقة الائتمان.(1/11)
فهي لا تشتمل على تسهيلات، أي لا يقسط المبلغ المستحق، وإنما هي طريقة ميسرة للحصول على قرض مفتوح ضمن حد أقصى، يسدد كل شهر، أي إنها أداة ائتمان في حدود سقف معين لفترة محددة، وهي أيضاً أدا وفاء.
وخصائصها ما يأتي(3) :
أ - تستعمل في تسديد أثمان السلع والخدمات والسحب النقدي في حدود مبلغ معين، ولفترة محدودة، دون تقسيط.
ب - ليس فيها تسهيلات ائتمانية متجددة لحاملها، وإنما عليه تسديد أثمان مشترياته ومقابل خدماته من بعض التجار المقبولين لدى جهة الإصدار، في فترة محددة بمجرد تسليمه الكشوف المرسلة إليه، أو خلال ميعاد قصير بحسب نوع البطاقة من مؤسسة إصدار البطاقة، فهي أداة إقراض وأداة وفاء معاً، كما تقدم.
ج - لا تفرض على حامل هذه البطاقة زيادة ربوية في الفترة المسموح بها، وإنما إذا تأخر حاملها عن السداد في الفترة المحددة، فتترتب عليه فوائد ربوية. وهذا في البنوك التجارية التقليدية، أما في المصارف الإسلامية فلا تترتب عليه فوائد ربوية.
والحاصل فعلاً: أن يتمتع حامل هذه البطاقة بأجل فعلي في الوفاء بثمن السلع ومقابل الخدمات، ولذا سميت: بطاقة الوفاء المؤجل.
د - لا يدفع حامل البطاقة لمؤسسة الإصدار أي زيادة على أثمان المشتريات والخدمات، وإنما تحصل المؤسسة على عمولة من قابل البطاقة (التاجر) على مبيعاته أو خدماته، أي لا يؤخذ شيء من حامل البطاقة.
هـ - تسدِّد المؤسسة في حدود سقف الائتمان لقابل أثمان السلع والخدمات.
و - لمؤسسة إصدار البطاقة حق شخصي ومباشر على حامل البطاقة في حدود استرداد ما دفعته عنه، أي إنها بصفة كفيل، والكفيل يرجع على المكفول له بما أدى عنه.
ز - يدفع العميل رسوم اشتراك مرة واحدة، ورسوم تجديد سنوية، وقد لا يدفع.
الفرق بين بطاقة الائتمان والحسم الآجل وبين بطاقة الائتمان المتجدد:
تختلف الأولى عن الثانية في نواح أهمها ثلاث:(1/12)
1 - تتقاضى البنوك رسوماً على إصدار هذه البطاقة وعلى التجديد، ولا تتقاضى عادة رسوماً سنوية ولا رسوماً على التجديد لبطاقة الائتمان المتجدد.
2 - عملاء البطاقة الأولى يطالبون بدفع ما عليهم كاملاً في نهاية الشهر، أما عملاء بطاقة الائتمان المتجدد، فيقدم لهم قرض بنكي، ولحامل البطاقة حق الاختيار في طريقة الدفع.
3 - في البطاقة الأولى يوجد حد أعلى للمديونية، ويلزم حاملها بالدفع في نهاية الشهر، أو في ميعاد قصير، أما في بطاقة الائتمان المتجدد فلا يوجد حد أعلى للمديونية، ويسمح لحاملها تأجيل السداد خلال فترة محددة، مع ترتيب فوائد عليه.
الحكم الشرعي لبطاقة الحسم الآجل:
حكمها على هذا النحو أنها محظورة شرعاً، لوجود التعامل الربوي فيها.
ولكن يجوز إصدار هذه البطاقة شرعاً بالشروط الآتية:
1ً - ألا يشترط على حاملها فائدة ربوية، إذا تأخر عن سداد المبلغ المستحق عليه.
2ً - ألا يتعامل بها فيما حرمته الشريعة، وإلا سحبت منه البطاقة.
3ً - في حال إيداع حامل البطاقة مبلغاً نقدياً بصفة ضمان، يجب النص على أن المؤسسة تستثمره لصالحه بطريق المضاربة، مع قسمة الربح بينه وبين المؤسسة بحسب النسبة المحددة.
النوع الثالث - بطاقة الائتمان المتجدد:
أو بطاقة الإقراض الربوي والتسديد على أقساط CREDIT CARD وهي التي تمنحها البنوك المصدرة لها لعملائها، على أن يكون لهم حق الشراء والسحب نقداً في حدود مبلغ معين، ولهم تسهيلات في دفع قرض مؤجل على أقساط وفي صيغة قرض ممتد متجدد على فترات، بفائدة محددة هي الزيادة الربوية. وهي أكثر البطاقات انتشاراً في العالم، وأشهرها: فيزا، وماستركارد.
ولها ثلاثة أنواع:
1ً - بطاقة فضية أو عادية: وهي التي لا يتجاوز فيها القرض الممنوح لحاملها حداً أعلى، كعشرة آلاف دولار مثلاً.(1/13)
2ً - بطاقة ذهبية أو ممتازة: وهي التي يتجاوز فيها القرض لحاملها الحد السابق، وقد لا يحدد فيها مبلغ معين، مثل بطاقة أمريكان إكسبريس، التي تمنح للأثرياء، مع دفع رسوم باهظة.
3ً - البطاقة البلاتينية: وهي ذات مواصفات ومزايا إضافية بحسب كفاءة العميل المالية ومدى ثقة المصرف به. وبطاقة الائتمان المتجدد تشتمل على إقراض عادي، وإقراض كبير، وتأمين ضد الحوادث، وتعويض مجانب عن فقدانها، وتخفيضات في الفنادق، واستئجار السيارات، وتقديم شيكات سياحية من دون عمولة.
وأمثلتها: الفيزا، والماستركارد، والدانيركارد، والأمريكان إكسبريس، وهي الأكثر رواجاً في عصرنا.
وخصائصها ما يأتي:
أ - هي أداة حقيقية للإقراض في حدود سقف معين متجدد على فترات، يحددها مصدر البطاقة، وهي أداة وفاء.
ب - يسدد حاملها أثمان السلع والخدمات، والسحب نقداً في حدود سقف الائتمان (الإقراض) الممنوح، وإذا لم يكن لها سقف، فهي مفتوحة مطلقاً.
ج - يمنح حاملها فترة سماح من دون فوائد لتسديد المستحقات عليه، كما يمنح له فترة محددة يؤجل فيها السداد، مع فرض فوائد عليه، إلا أنه في حالة السحب النقدي لا يمنح حاملها فترة سماح، أي إن وفاء أو تسديد القروض لا يكون فوراً، بل في خلال فترة متفق عليها، وعلى دفعات.
د - قد تمنح هذه البطاقة لمن ليس له رصيد في البنك، أو دون اعتبار لمدخولاتهم المالية.
هـ - قد لا تفرض على إصدارها رسوم سنوية، كما في بريطانيا، و تؤخذ رسوم اسمية متدنية كما في أمريك، وتعتمد البنوك في إيراداتها على الرسوم المأخوذة من التجار.
حكمها الشرعي:
يحرم التعامل بهذه البطاقة؛ لأنها تشتمل على عقد إقراض ربوي، يسدده حاملها على أقساط مؤجلة، بفوائد ربوية.
الأحكام العامة للبطاقات:
لأنواع البطاقات أحكام عامة هي ما يأتي(1):
1ً - الانضمام للمنظمات راعبة البطاقات:(1/14)
لا مانع شرعاً من انضمام البنوك الإسلامية إلى عضوية المنظمات العالمية الراعية للبطاقات(2)، بشرط اجتناب المخالفات الشرعية إن وجدت أو شرطتها تلك المنظمات.
وحينئذ يجوز لهذه المؤسسة دفع رسوم اشتراك وإصدار وتجديد خدمات بمنح الترخيص وإجراء عمليات المقاصة وغيرها لتلك المنظمات، على أن تجتنب أي فائدة ربوية، مباشرة أو غير مباشرة، كأن تتضمن الأجرة مقابل الائتمان (الإقراض). وأن يكون تعامل المصارف الإسلامية مقصوراً على بطاقة الحسم الفوري، وبطاقة الائتمان والحسم الآجل الخالية من اشتراط الفائدة، لا بطاق الائتمان المتجدد.
وتكييف هذه العملية فقهاً: أن هذه الرسوم هي مجرد أجرة يأخذها المصرف مقابل منفعة الخدمة والتسهيلات التي يقدمها، والإجارة التي هي تمليك منفعة بعوض مشروعة.
2ً - العمولة والرسوم:
للمصرف الإسلامي مُصْدِر البطاقة أخذ العمولة من قابل البطاقة بنسبة من أثمان السلع والخدمات، لأنها من قبيل أجر السمسرة والتسويق وأجر خدمة تحصيل الدين.
وللمصرف المذكور أيضاً أخض رسم عضوية ورسم تجديد، ورسم استبدال من حامل البطاقة، لأن هذه الرسوم هي مقابل السماح للعميل بجملها والاستفادة من خدماتها.
3ً - رسم السحب النقدي بالبطاقة:
أ - لحامل البطاقة أن يسحب بالصراف الآلي وغيره مبلغاً نقدياً من رصيده وفي حدود رصيده أو أكثر منه بموافقة المصرف الإسلامي المصدر للبطاقة من غير فوائد ربوية.
ب - وللمصرف الإسلامي المصدر للبطاقة أن يفرض رسماً مقطوعاً متناسباً مع خدمة السحب النقدي، من غير ارتباط بمقدار المبلغ السحوب أو بنسبة منه ثابتة.
وهذه الرسوم مشروعة؛ لأن الأجرة مقطوعة، لا ترتبط بنسبة المبلغ المسحوب، التي ينطبق عليها حكم الفائدة البنكية المحظورة شرعاً.(1/15)
جـ - إذا اشترط المصرف إيداع حامل البطاقة رصيداً للسماح له باستخدامها، فليس للمصرف منع صاحب البطاقة من استثمار المبالغ المودعة في حسابه، لأنه أودعه على أساس ((المضاربة)) الشرعية.
4ً - المميزات الممنوحة من الجهة مصدرة البطاقة:
أ - يجوز منح حامل البطاقة مميزات مسموحاً بها شرعاً، كالأولوية في الحصول على الخدمات، أو تخفيض الأسعار لدى الفنادق والمطاعم وشركات الطيران ونحو ذلك.
ب - ولا يجوز إعطاء امتيازات لحامل البطاقة تحرمها الشريعة الإسلامية، كالتأمين التجاري على الحياة، أو دخول الأماكن المحظورة شرعاً، كالخمارات والمراقص ودور اللهو الماجنة، وبلاجات البحر المختلطة، أو تقديم الهدايا المحرمة ونحو ذلك من روافد القمار واليانصيب.
5ً - شراء الذهب أو الفضة أو النقود الورقية بالبطاقات:
يجوز شرعاً شراء الذهب أو الفضة أو النقود (تبادل العملات المختلفة الجنس والنوع) ببطاقة الحسم الفوري، لأن الشراء بها فيه تقابض حكمي معتبر شرعاً، بالتوقيع على قسيمة الدفع لحساب الجهة القابلة للبطاقة، ويجوز أيضاً ببطاقة الائتمان والحسم الآجل إذا دفع المصرف الإسلامي المبلغ إلى قابل البطاقة من دون أجل، على أنه وكيل للمشتري.
التكييف الشرعي لعلاقات أطراف التعاقد على البطاقات:
تنحصر العلاقة بين أطراف التعاقد على البطاقات في ثلاثة أنواع، لوجود ثلاثة أطراف: وهي:
1 - العلاقة بين مصدر البطاقة وحامل البطاقة.
2 - العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر.
3 - العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر.
علماً بأن العلاقة بين كل طرف وآخر علاقة ثنائية مستقلة، وقد تكون العلاقة ثلاثية: مُصْدِر البطاقة، وحامل البطاقة، والتاجر (قابل البطاقة أو العميل) والعقود حينئذ ثلاثة عقود منفصلة لدى استعمال البطاقة.
1 - العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها:(1/16)
هي علاقة إقراض، يتمكن بها حامل لبطاقة من سحب المبلغ بالقدر المحدد له بالاتفاقية بشرط ألا يدفع في مقابل القرض فائدة ربوية، لأن كل قرض شرط فيه زيادة، فهو حرام. أما رسم الاصدار فلا مانع منه كما تقدم، لأنه مقابل التكلفة وخدمات المواطنين.
ولمصدر البطاقة الحق في إنهاء أو فسخ العقد في أي وقت شاء، فيعود له حق ملكية البطاقة وإعادتها إليه في أي وقت يريد، وهذا موافق لأحكام الشرعية، حيث يجوز للمقرض المطالبة ببدل القرض في الحال أو في المستقبل، وهو فسخ القرض.
وعلى حامل البطاقة تسديد القدر المتفق عليه من القرض مع مصدر البطاقة في الوقت المحدد، وهذا واجب عليه شرعاً في رد بدل القرض.
ويحيل حامل البطاقة التاجر على مصدرها، لسداد ثمن السلعة أو الخدمة، وتبرأ ذمة المحيل من الدين شرعاً، ويلتزم عليه بالدين كله.
وهذا يعني أن تكييف بطاقة الائتمان بين حامل البطاقة ومصدرها هي في جانب حاملها علاقة حوالة مطلقة، وهي: أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل المحال عليه أداء الحوالة. وهي جائزة عندالحنفية(1) خلافاً لغيرهم، ويتفق الإمامية والزيدية على الراجح عندهم مع الحنفية.
وهذه الحوالة داخلة في عموم الحديث النبوي: (من أحيل على مليء فليتبع)(2) وفي رواية أحمد وابن أبي شيبة: (ومن أحيل على مليء فليحتل).
ولا فرق في مشروعية هذه الحوالة بين أن تكون على شخص واحد أو على مؤسسة أو جهة ترضى بوفاء الدين.
والواقع أن هذه العلاقة في أصلها عند مصدري البطاقة هي علاقة كفالة، أي إن مصدر البطاقة كفيل بالمال لحاملها تجاه الدائنين من التجار وغيرهم، والعلاقة بينهما علاقة ضمان.
وهذا ما جنح إليه بعضهم، وهي عقب الإصدار - قبل نشوء الدين المضمون - تعد ضماناً لما لم يجب، وهو جائز شرعاً عند الجمهور غير الشافعية(3).(1/17)
وهو اتجاه صحيح في منطق النظام الرأسمالي أو الاتجاه القانوني، لكنه شرعاً اتجاه وإن بدا في الظاهر مقبولاً، إلا أن ما يعقبه في الواقع غير سديد في شريعتنا لأن الضمان أو الكفالة عقد تبرع محض، وليست المؤسسات المصدرة للضمان صندوقاً خيرياً، وإنما تبغي الربح أو الفائدة إما عن طريق الفائدة الربوية إذا لم يسدد حامل البطاقة التزاماته وتسديده المبلغ المستحق عليه في أجل معين، وإما من التاجر حيث تأخذ منه نسبة معينة من المال المستحق له، أي من أثمان السلع أو الخدمات، المعتبر من قبيل أجر السمسرة والتسويق، وأجر خدمة تحصيل الدين، كما تستوفي رسوماً قد تكون باهظة عند إصدار البطاقة أو التجديد السنوي، وكل هذا غريب عن منطق الكفالة أو الضمان في الشريعة الإسلامية، وإن كان سداد الفواتير من مصدر البطاقة هو أداء لدين ترتب عليه، كما يترتب ذلك على الكفيل الذي ضمن المدين.
وكذلك بالنسبة لحامل البطاقة لا يصلح توصيف هذه العلاقة بأنها وكالة على أجر، لأن حامل البطاقة لا يصدر منه هذا التوكيل بالمعنى المجرد للوكالة، ولا يدفع أجراً لمصدر البطاقة على وفاء الدين بالتوكيل، لكن معنى الوكالة واضح حينما يسدد المصرف عن وكيله المبلغ المطلوب إذا كان المبلغ مغطى من العميل ويفي بتسديد المبلغ المسحوب.
فترجح لدي أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها في الفقه الإسلامي هي بالنسبة لحاملها علاقة حوالة، والحوالة وإن كانت عقد تبرع أيضاً كالكفالة، لكنها تتضمن في حقيقتها علاقة دائنية ومديونية إما قديمة وهي الحوالة المقيدة، وهي تنطبق على حالة الدين المغطى، أو السحب من حساب حامل البطاقة، وإما ناشئة في حال الحوالة المطلقة، ولا تمنع هذه الحوالة عادة من وجود مكاسب أو تحقيق مصالح من ورائها، كأجور تحصيل الدين، على عكس الكفالة التي هي تبرع محض وعقد إرفاق وتعاون، وتنبني في الأصل على دوافع المروءة والشهامة، ولا يؤخذ على التبرعات مقابل.(1/18)
2- العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر
هذه علاقة تجارية محضة، قائمة على أساس الوكالة بأجر، حيث يعدّ البنك المصدر للبطاقة وكيلاً للتاجر في قبض استحقاقات قيمة المبيعات من حاملي البطاقات وضمها إلى حسابه، كما أنه وكيل عنه في السحب من رصيده، فيما هو مستحق عليه من بضاعة مرتجعة، وهذا هو الواضح من العلاقة.
وقد أجاز الفقهاء بالاتفاق الوكالة بأجر وبغير أجر، والوكالة بأجر لها حكم الإجارات، وبغير أجر هي معروف من الوكيل(1).
ويستحق مصدر البطاقة عمولة يأخذها من التاجر مقابل إرسال العملاء للشراء، وترويج السلعة وتسويقها، وتحقيق الشهرة للمحل التجاري أو الفندق ونحوها، وتحصيل لقيمة البضائع، وكل تلك الأعمال تتطلب تكاليف إدارية ومكتبية.
وهذه العمولة التي يشترطها البنك المُصْدِر للبطاقة على التاجر: هي حسم (خصم) من قيمة المبيعات، وليست زيادة، فلا ربا فيها، كما أنها ليست من قبيل ((ضع وتعجل)) أي إسقاط شيء من الدين بسبب تعجيل التسديد، لأن تسديد البنك الضامن المصدر للبطاقة فوري، لدى تسليم سندات البيع الصحيحة(1).
وإذا كانت العلاقة قائمة على أساس الوكالة، وليس على أساس اتفاقية القرض أو الدائنية والمديونية، فهي علاقة مباحة شرعاً وقانوناً.
والقائل بأن العلاقة علاقة ضمان أو كفالة من مصدر البطاقة للتاجر، احتاج أن يسوغ ذلك على أساس الكفالة التي ينتقل فيها الدين إلى ذمة الكفيل عند بعض الفقهاء كالظاهرية، وليس للدائن مطالبة الأصيل، أي إن الكفالة بمعنى الحوالة، وهذا تحول للعقد في الواقع(2). وفي رأي مقارب لهذا أن البنك الذي يصدر البطاقة نيابة عن الشركة العالمية للبطاقات، يكفل عميله في أداء ما عليه مع حق الرجوع، وهذه الكفالة من قبيل التبرعات، فلا يؤخذ عليها مقابل(3).
3- العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر(1/19)
هي علاقة بيع وشراء للسلع والبضائع وتقديم المواد الاستهلاكية في المطاعم، أو علاقة إجارة واستئجار في الفنادق، ويحيل حامل البطاقة التاجر على مُصْدِر البطاقة لاستيفاء الثمن أو الأجرة، ولا تكون محظورة شرعاً.
وإنما الحظر أو المنع في بطاقة الائتمان والحسم الآجل وبطاقة الائتمان المتجدد، بسبب وجود الربا أو اشتراط دفع الفائدة الربوية في القروض، أو بسبب ارتكاب المخالفات والمحظورات الشرعية.
وأما بطاقة السحب المباشر من الرصيد (أو الحسم الفوري، أو القيد المباشر على الحساب المصرفي) فليست معدودة في بطاقات الإقراض، ولا تطبق عليها أحكام القرض المقررة في الفقه الإسلامي، ومنها قاعدة: ((كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا)) إلا إذا سحب حامل هذه البطاقة من غير بنكه قرضاً ليستوفى من بنكه، ويسجل عليه عمولة على أنه قرض، فيعد حينئذ من باب الإقراض، وتسري عليه أحكام القرض حلاً وحرمة.
وحيث لا تعد العلاقة في هذه البطاقة علاقة إقراض، فلا تمنع الزيادة المضافة إلى قيمة الشراء، أو سحب عملات أجنبية من قبيل الزيادة الربوية، لأنه لا يوجد إقراض ممنوع، فلا توجد زيادة ربوية، وإنما يكون ذلك من قبيل التبرع أو القرض الحسن المحض، وتكون هذه البطاقة مباحة شرعاً.
السحب على المكشوف
السحب على المكشوف أو السحب غير المغطى: هو أن يسحب حامل البطاقة مبلغاً من المال من ودائع البنك دون أن يكون حساب العميل مغطى من قبله، حيث لا يوجد في حسابه ما يفي بتسديد المبلغ المسحوب، مع إضافة فائدة مصرفية بنسبة 15-18% حسب كفاءة العميل المالية.
وهذا ممنوع شرعاً، لأنه ربا حرام وتمويل بفائدة، يدخل تحت ما يسمى بربا النسيئة أو ربا الجاهلية، وهو حرام بالإجماع، لأنه زيادة لأجل الأجل(1).(1/20)
لكن يجوز لحامل البطاقة أن يسحب أكثر من رصيده في البنك إذا سمح له بذلك، ولم تشترط عليه فوائد ربوية على المبالغ المسحوبة، لأنه يعد قرضاً مشروعاً. ولا إشكال في إباحة السحب من الرصيد الذي يغطي المبلغ المسحوب وزيادة؛ لأنه استيفاء من ماله.
وليس للبنك أن يمنع العميل من استثمار المبالغ المودعة في حسابه، على أساس المضاربة المشروعة، فإن منعه من ذلك لم يجز، لأنه يعد من مشتملات قاعدة: ((كل قرض جر نفعاً فهو ربا)).
وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 108 (2/12) أي في الدورة الثانية عشرة بالرياض على ما ذكر، في أربع فقرات موجزها:
أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولا التعامل بها إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين. ويتفرع على ذلك أمران:
أ- جواز أخذ مصدر البطاقة من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب- جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر النقدي.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد منها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة.
وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة، لأنها من الربا المحرم شرعاً.
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة.
ولا تعارض هذه الفقرة ما تقدم في البحث، لأن ما سبق تصريح بمفهوم هذه العبارة مع شيء من التوسع، لأن المهم حدوث الدفع الفوري من غير تأجيل، ولو من البنك، ولأن الشرط الشرعي للتعامل بالبطاقة في شراء الذهب أو الفضة أو العملات هو التقابض، وقد تحقق سواء بالأصالة أم بالوكالة.(1/21)
البدائل الشرعية لبطاقة الائتمان CREDIT CARD
من الممكن الاعتماد على بدائل شرعية لبطاقات الائتمان الشائعة والصادرة من البنوك التجارية التقليدية، بحيث يعدّل نظام البطاقات ويجرد من المحظورات الشرعية، وأهمها تجنب الفوائد البنكية.
إلا أن تداول هذه البطاقات المعدلة ربما يحتاج لحلول عملية وتمكين من التداول العملي، وهو ما يزال محل إشكال، ومن هذه الحلول: بطاقة الخصم الشهري، وبطاقة المرابحة.
1- بطاقة الحسم (الخصم) الشهري CHARGE CARD
وهي البطاقة التي تصدرها المصارف الإسلامية على أن يتم تحديد سقف السحوبات بالبطاقة بمقدار الراتب الشهري في بعض المصارف، وبنسة 80% من الراتب في المصارف الأخرى، بضمان الراتب أو أي ضمان آخر لدى المصرف، على ألا يستوفي المصرف أي فائدة بنكية على ذلك.
وتكييف هذه البطاقة أنها تقوم على أساس الوكالة إذا كان حساب العميل يفي بجميع المبلغ الذي تم سحبه عن طريق بطاقة الائتمان، والوكالة بأجر مشروعة في الإسلام كما تقدم.
أما إذا كان حساب العميل لا يفي بالمبلغ، فإن المصرف يقوم بتسديده على أساس القرض الحسن الذي يقدمه المصرف لعميله، بضمان الراتب الشهري أو أي ضمان آخر يراه مناسباً وكافياً، وهذا مشروع ومندوب إليه.
وعليه فإن المصارف الإسلامية تقوم بهذه الخدمة مجردة من المنافع، وبعيدة عن شائبة الربا، أو ما يؤدي إليه، وهو المطلوب شرعاً، لأن الفوائد المفروضة على التمويل نوع من أنواع الربا المحرم، باعتباره قرضاً بفائدة، وكل قرض جر نفعاً فهو ربا(1). وهذه طريقة قابلة للتطبيق بسهولة.
2- بطاقة المرابحة(1/22)
وهي البطاقة القائمة على البيوع، وهي أن حامل البطاقة يشتري ما يشاء من السلع، بالنيابة عن المصرف الذي يسدد القيمة في الحال، ويتملك الشيء المشتري، ويقبضه عنه وكيله، ثم يبيعه إلى وكيله مرابحة، حتى يكون البيع لمملوك مقبوض. وهذه صورة المرابحة للآمر بالشراء، وقد أقر مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه المعاملة بشرط التملك والقبض.
لكن اللجوء إلى هذه المرابحة صعب التطبيق ويتعذر عملياً، لأن حامل البطاقة يتنقل ببطاقته في البلدان المختلفة والدول، ويصعب عليه في كل صفقة الاتفاق مع المصرف في بلد معين، كما أن هذه العملية تتوقف على جعل المواعدة على الشراء ملزمة للطرفين قضاء، قياساً على الوعد الملزم ديانة، وهو محل نظر وتوقف من أكثر العلماء، ولأن حامل البطاقة يحتاج لأداء خدمات في المطاعم والفنادق لا توفرها له هذه البطاقة.
حكم بطاقات الائتمان التي تصدرها بعض البنوك الإسلامية
يوجد الآن أنموذجان لبطاقات الائتمان التي تصدرها بعض البنوك الإسلامية وهما(2):
الأول - فيزا التمويل التي أصدرها بيت التمويل الكويتي بهذا الاسم:
أجرت هيئة الفتوى والرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي تعديلات شرعية على بطاقة الائتمان السائدة، واشترطت شروطاً فيها، أهمها: إلغاء فوائد التأخير، وربطت البطاقات بحساب العملاء، وتسدد التزامات الشراء من حساب حامل البطاقات إما مسبقاً أو عند وصول الفواتير، وإذا انكشف الحساب أشعر العميل بضرورة توفير رصيد لتلك المديونية.
وهذه الضوابط تجعل هذه الفيزا شبيهة ببطاقة الحسم الفوري، حيث تسدد الديون من حساب حامل البطاقة باستثناء ميزة التأمين على الحياة، حيث لم يصلوا إلى حل لهذه المسألة.
وقد اشتملت عمليات هذه البطاقة على وكالة بأجر، وكفالة مجاناً، وقرض يسير أحياناً بغير فائدة.(1/23)
النموذج الثاني - فيزا الراجحي التي أصدرتها شركة الراجحي المصرفية للاستثمار: فقد أقرت الهيئة الشرعية هذه البطاقة بعد حذف بند: فوائد التأخير، ويكون سداد الفواتير من الحساب الجاري للعميل، فإن لم يوجد فيه ما يكفي يحسم (يخصم) من التأمين النقدي، على أن يلتزم بتوفير مبلغ التأمين المقرر عليه في الحال. وليس لحامل البطاقة حق التسهيلات على السلف أو السحب على المكشوف.
وأقرت الهيئة هذه الضوابط بشرط ألا يترتب على إصدار البطاقة من شركة الراجحي أخذ أو إعطاء أي فائدة محرمة بشكل ظاهر أو مستتر، سواء تم ذلك مع عملائها أو مع شركة فيزا العالمية أو أي شركة وسيطة بين شركة الراجحي وشركة فيزا العالمية أو غيرها من أطراف المعاملة.
وجعلت الهيئة سعر تحويل العملات الأجنبية بحسب السعر المعلن من قبل شركة الراجحي في ذلك اليوم للمتعاملين بالبطاقة.
ومتعت الهيئة تقاضي عمولة على السحب النقدي وأجازت الرسوم المتعلقة بإصدار البطاقة والرسوم السنوية وسداد الفواتير، مع حسم جزء من مبالغها على أصحاب البضائع والخدمات.
هذان النموذجان يعدان بديلين إسلاميين صالحين عن البطاقات الأخرى في البنوك التجارية التقليدية، على أن يكون أجل استخدام البطاقة هو الأجل المأذون به عادة.
ويوجد أنموذج ثالث للمؤسسة العربية المصرفية في البحرين مشابهة لما ذكر، وهو محل تجربة الآن.
الخاتمة
العقود القائمة بين مصدر البطاقة وحاملها هي عقدان: عقد إقراضي، وعقد وكالة، حيث يخوِّل مصدر البطاقة بموجب العقد الأول حاملها التصرف في حدود مبلغ محدد له، وأما بموجب العقد الثاني فيفوض حامل البطاقة البنك المُصدِر لها السحب من رصيده، لقضاء دينه وتسديد حقوق التجار وغيرهم نيابة عنه كافة المستحقات والعمولات للبنك نفسه ولغيره.
والعقود الحادثة بين مصدر البطاقة والتاجر: عقدان أيضاً:(1/24)
1- عقد ضمان مالي: يلتزم به البنك المصدر للبطاقة للتاجر دفع قيمة مبيعاته وأجوره، والضمان يصح أو يفسد بحسب الأصل المترتب عليه.
2- وعقد وكالة: حين يلتزم البنك بتحصيل مستحقات التاجر من حاملي البطاقة، ووضعها في حسابه، بعد اقتطاع أو حسم عمولته.
والعقود الواقعة بين حامل البطاقة والتاجر: إما بيع وإما إجارة وإما غير ذلك من العقود المالية التي قد يرتبط بها حامل البطاقة مع المحلات التجارية والمالية.
وبناء عليه، تكون بطاقة الائتمان والحسم المؤجل، وبطاقة الائتمان المتجدد غير الإسلامية محظورة شرعاً، مادامت مشتملة على فوائد ربوية، وتحكمها علاقة الإقراض، لأن الأولى فيها إقراض بزيادة ربوية، وتسدد على أقساط، والثانية إقراض مؤقت خالٍ من الربا ابتداء، وفيه شروط مفسدة للعقد، والضمان فاسد لفساد العقد المبني عليه، ومن المفسدات: عدم بيان نسبة الزيادات والعمولات الدورية قصداً.
ومن المعلوم أن بطاقات الإقراض بجميع أنواعها تدرّ أرباحاً طائلة على البنوك الربوية التقليدية، فتكون لها الأفضلية، وفيها إغراءات بسيطة أو جانبية توقع العملاء، ومنهم المسلمون، في مصيدة الإثم والحرام.
ويحسن بيان حكم ضمان البنك المصدر بطاقة الائتمان ديون عملائه: وهو أن يجوز للبنك المصدر ضمان سقوف الائتمان لعملائه إذا تناسبت حصة البنك في شركة الائتمان مع سقوف ائتمان عملائه، لأن ذلك من قبيل ضمان البنك لشريكه أو عملاء شريكه، مثلاً: إذا أصدر البنك ألف بطاقة، سقف كل منها ألف دينار، أي إن مجموع سقوف الائتمان لعملائه تبلغ مليون دينار، ثم أسهم البنك في الشركة بمليون دينار، علماً بأن حصص البنوك في شركة الائتمان متغيرة تبعاً لتغير عدد سقوف ائتمان البطاقات التي يصدرها كل بنك لعملائه، فهذا لا مانع منه لحصول التناسب بين ملكية كل بنك في شركة الائتمان، ومقدار الضمان الذي تحمله عن سقوف عملائه.
ملخص البحث(1/25)
الائتمان: هو عملية مبادلة ذي قيمة أو كمية من النقود في الحاضر، مقابل وعد بالدفع في المستقبل.
وبطاقة الائتمان: هي بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله تمكّنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة، عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم بائع السلع أو الخدمات بالتالي بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف مُصْدِر البطاقة، فيسدِّد قيمتها له، ويقدّم المصرف للعميل كشفاً شهرياً بإجمالي القيمة لتسديدها أو لحسمها (لخصمها) من حسابه الجاري لطرفه.
وقد أصبح لبطاقة الائتمان أهمية ملموسة حيث صارت لحامليها أداة لحماية النقود من أنواع الاعتداء عليها، وضمنت لأصحاب الحقوق أداء مستحقاتهم، وأصبحت هي الأداة المفضلة على النقود ذاتها في المعاملات المحلية والخارجية، وكانت سبباً في زيادة المبيعات في المحلات التجارية.
وليس لها محاذير عملية، إلا بالنسبة للمسلم الذي يتورط بأداء الفوائد البنكية إذا تأخر عن سداد المبالغ المستحقة عليه من حسابه، لكنه إذا احتاج للبطاقة كان قبوله بشرط الفائدة في معرض الإلغاء شرعاً، والشرط الفاسد في المعاوضات المالية عند الحنابلة لا يفسدها، وإنما يبطل الشرط فقط، ويبقى العقد صحيحاً.
وأنواع بطاقات الائتمان ثلاثة
1- بطاقة الحسم الفوري
وهي التي يكون لحاملها رصيد بالبنك، فيسحب منه مباشرة قيمة مشترياته وأجور الخدمات المقدمة له، بناء على السندات الموقعة منه. وهي جائزة شرعاً، لأن الأصل في العقود الإباحة، ولا تشتمل على محظور شرعي، والعقد من العميل عقد حوالة.
2- بطاقة الائتمان والحسم الآجل(1/26)
وهي التي يمنح فيها البنك المصدر حامل البطاقة قرضاً في حدود معينة بحسب درجة البطاقة فضية أو ذهبية، ولزمن معين، يجب تسديده كلاملاً في وقت محدد متفق عليه عند الإصدار، يترتب على حاملها لدى تأخير السداد زيادة مالية ربوية، وهي الصورة الأصلية لبطاقة الائتمان. وهي أداة إقراض وأداة وفاء معاً. وحكمها على هذا النحو: أنها ممنوعة شرعاً، لوجود التعامل الربوي فيها. ولكن يجوز قبولها وإصدارها شرعاً إذا لم يشترط على حاملها فائدة ربوية، إذا تأخر عن سداد المبلغ المستحق عليه، وبشرط ألا يتعامل بها فيما حرمته الشريعة.
3- بطاقة الائتمان المتجدد
وهي التي تمنحها البنوك المصدرة لها لعملائها. على أن يكون لهم حق الشراء والسحب نقداً في حدود مبلغ معين، ولهم تسهيلات في دفع قرض مؤجل على أقساط، وفي صيغة قرض ممتد متجدد على فترات، بفائدة محددة هي الزيادة الربوية. وهي أكثر البطاقات انتشاراً في العالم، وأشهرها: فيزا وماستر كارد.
وحكمها: تحريم التعامل بها، لاشتمالها على عقد إقراض ربوي، يسدده حاملها على أقساط مؤجلة بفوائد ربوية.
التكييف الشرعي لعلاقة أطراف التعاقد على البطاقات
توجد علاقات ثنائية مستقلة بين كل طرفين من أطراف التعامل بهذه البطاقات، وقد تصير العلاقة ثلاثية بين مُصْدِر البطاقة، وحاملها، والتاجر (قابل البطاقة).
أما العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها: فهي علاقة إقراض، وفي جانب حاملها علاقة حوالة مطلقة، وفي جانب المصرف حينما يسدد عن العميل المبلغ المطلوب من حسابه (أي حساب العميل) هي وكالة على أجر.(1/27)
وأما العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر: فهي علاقة تجارية محضة، قائمة على أساس الوكالة بأجر، ويستحق مصدر البطاقة عمولة يأخذها من التاجر مقابل إرسال العملاء للشراء، وترويج السلعة وتسويقها، وتحقق الشهرة للمحل التجاري أو المطعم أوالفندق ونحوهما، وتحصيل لقيمة البضائع، وتحسم (تخصم) هذه العمولة من قيمة المبيعات، لا بالزيادة على الأثمان، فلا تكون ربا والعلاقة قائمة على أنها عقد ضمان مالي وعقد وكالة.
وأما العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر: فهي علاقة بيع وشراء للسلع والبضائع وتقديم خدمات، ثم يحيل حامل البطاقة التاجر على مصدر البطاقة لاستيفاء الثمن أو الأجرة، وليس ذلك محظوراً شرعاً، فالعلاقة علاقة بيع أو إجارة ونحوها.
وإنما الحظر في بطاقة الائتمان والحسم الآجل، وبطاقة الائتمان المتجدد بسبب وجود الربا أو اشتراط دفع الفائدة الربوية في القروض، أو بسبب ارتكاب المخالفات والمحظورات الشرعية.
وأما بطاقة السحب المباشر من الرصيد (الحسم الفوري) فلا تعد في بطاقات الإقراض، ولا تشتمل على فوائد أو منافع ممنوعة، إلا إذا سحب حامل هذه البطاقة من غير بنكه قرضاً ليستوفى من بنكه، ويسجل عليه عمولة على أنه قرض، وتكون العلاقة حينئذ علاقة إقراض، والعقد من العميل حوالة.
وهذا هو السحب على المكشوف أو السحب غير المغطى: وهو أن يسحب حامل البطاقة مبلغاً من المال من ودائع البنك دون أن يكون حساب العميل مغطى من قبله، حيث لا يوجد في حسابه ما يفي بتسديد المبلغ المسحوب، مع إضافة فائدة مصرفية بنسبة 15-18% حسب كفاءة العميل المالية. وهو لاشك حرام لاشتماله على الربا.
ومن البدائل الشرعية لبطاقة الائتمان السائدة: بطاقة الحسم الشهري بمقدار الراتب الشهري في بعض المصارف، وبنسة 80% من الراتب في ا لمصارف الأخرى، وبطاقة المرابحة، وكلتا البطاقتين لا إشكال فيهما، لكن الأولى عملية، والثانية غير عملية.(1/28)
وهناك نموذجان لبطاقات الائتمان في بعض البنوك الإسلامية وهما:
1- بطاقة فيزا التمويل التي أصدرها بيت التمويل.
2- وفيزا الراجحي. وكلاهما من البطاقات المعدلة شرعاً، لحذف الفائدة الربوية، وسحب ما يسدد عنه من حساب العميل، فإن نقصه المبلغ أنذر حتى يسدد النقص في الحال.
مشروع القرار
يجوز للبنك الإسلامي إصدار بطاقة الحسم الفوري ما دام حاملها يسحب من رصيده، ولا يترتب على التعامل بها فائدة ربوية، لأن إصدارها بطاقة الحسم الفوري لا يترتب عليه محظور شرعي والأصل في المعاملات الإباحة، والأصل عدم جواز بطاقة الائتمان والحسم الآجل، وبطاقة الائتمان المتجدد لاشتمالها على قروض ربوية، والربا حرام أخذاً وعطاء، لكن يجوز للبنوك الإسلامية إصدارهما إذا أزيلت منهما المحظورات الشرعية ومنها الربا أو الفائدة البنكية، واستعمال البطاقة في المحرّمات والمنكرات شرعاً، والتسهيلات الائتمانية لحاملها التي يترتب عليها فوائد ربوية، والشروط المنافية لمقتضى العقد شرعاً.
ويمكن اعتماد بعض النماذج للبطاقات التي أصدرتها بعض المصارف الإسلامية مثل: فيزا التمويل وفيزا الراجحي وفيزا المؤسسة العربية المصرفية في البحرين، لخلوها من المحظورات والمخالفات الشرعية، ووجود القرض اليسير فيها بغير فائدة ربوية.
أ – د: وهبة الزحيلي
عميد كلية الشريعة ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه سابقاً
| فتاوى | محاضرات | قوائم البريد |صور وأحداث |
| مساعدة| مؤلفات | سيرة ذاتية | كلمة الشهر | أريد أن أستفتي| المقدمة|
| موقع فرات | موقع دار الفكر |
---
التحذير من المساهمة في البنوك الربوية
والإيداع فيها بفائدة والاقتراض منها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم لسلوك صراطه المستقيم، وجنبنا جميعا طريق المغضوب عليهم والضالين. آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:(1/29)
فقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف المحلية والأجنبية، وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها مقابل فوائد ربوية صريحة معلنة، كما تقوم بعض الصحف بنشر فتاوى لبعض الناس تجيز التعامل مع البنوك الربوية بفوائد محددة وهذا أمر خطير؛ لأن فيه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة لأمره، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ومن المعلوم من الدين بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الفوائد المعينة التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم، أو إيداعهم في البنوك الربوية حرام سحت، وهي من الربا الذي حرمه الله ورسوله، ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة، ويغضب الرب عز وجل، ويسبب عدم قبول العمل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك رواه مسلم.
وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه(1/30)
واعلم يا عبد الله - وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه - أن الربا كبيرة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها مغلظا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وقال تعالى : وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وقال تعالى:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ فما أعظم جريمة من حارب الله ورسوله، نسأل الله العافية من ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(1/31)
اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات متفق على صحته، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة، وأن من تعامل به وتعاطاه فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب وقد أصبح محاربا لله ولرسوله، فنصيحتي لكل مسلم يريد الله والدار الآخرة: أن يتقي الله سبحانه وتعالى في نفسه وماله، وأن يكتفي بما أباحه الله ورسوله، وأن يكف عما حرمه الله ورسوله، ففيما أباح الله كفاية وغنى عما حرم، وعلى المسلم الناصح لنفسه الذي يريد لها الخير والنجاة من عذاب الله والفوز برضاه ورحمته أن يبتعد عن الاشتراك في البنوك الربوية، أو الإيداع فيها بفوائد أو الاقتراض منها بفوائد؛ لأن المساهمة فيها أو الإيداع فيها بفوائد، أو الاقتراض منها بفوائد كل ذلك من المعاملات الربوية، ومن التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فاتق الله يا عبد الله، وانج بنفسك، ولا تغتر بكثرة البنوك الربوية، ولا بكثرة انتشار معاملاتها في كل مكان، ولا بكثرة المتعاملين معها؛ فإن ذلك ليس دليلا على إباحتها، وإنما هو دليل على كثرة الإعراض عن أمر الله ومخالفة شرعه، والله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومع الأسف الشديد أن كثيرا من الناس لما أنعم الله عليهم ووسع عليهم من فضله وأغناهم بكثرة المال أصبحوا لا يهتمون(1/32)
بالعمل بأحكام الإسلام والاستغناء بما أباح الله لهم عما حرم عليهم، وإنما يهتمون بما يدر عليهم المال من أي طريق كان، حلالا كان أم حراما؛ وما ذلك إلا لضعف إيمانهم وقلة خوفهم من ربهم عز وجل وغلبة حب الدنيا على قلوبهم، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية من كل ما يخالف شرعه المطهر.
وهذا الواقع المؤلم لحال كثير من المسلمين مؤذن بحلول غضب الله ونقمته، وقد قال سبحانه محذرا ومنذرا من شؤم المعاصي والذنوب: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وإني أوجه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحلية خاصة، وفي صحف البلاد الإسلامية عامة أن يظهروا صحافتهم من نشر كل ما يخالف شرع الله المطهر في أي مجال من مجالات الحياة، كما أوصي الجهات المسئولة بالتأكيد على رؤساء الصحف بأن لا ينشروا شيئا فيه مخالفة لدين الله وشرعه، ولا شك أن هذا أمر واجب عليهم وسيسألون عنه أمام الله إذا قصروا فيه، كما أوصي إخواني المسلمين عامة أن يتقوا الله تبارك وتعالى، ويتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكتفوا بما أحله الله، ويحذروا ما حرمه الله، ولا يغتروا بما قد يكتب أو ينشر من فتاوى أو مقالات تجيز المساهمة في البنوك الربوية أو الإيداع فيها بفوائد أو تقلل من سوء عاقبة ذلك؛ لأن هذه الفتاوى والمقالات لم تبن على أدلة شرعية لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي آراء الرجال وتأولاتهم، نسأل الله لنا ولهم الهداية والعافية من مضللات الفتن.(1/33)
والله المسؤول أن يوفق المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة للعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شرع الله في جميع شئونهم الخاصة والعامة، وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يجنب الجميع طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
آفاق على خط التجديد
( نحو إنسان عربي جديد )
ضمن فعاليات الملتقى العربي الأول للتنمية الإنسانية والذي كان تحت عنوان " نحو إقامة مجتمع المعرفة " بتاريخ 8-9 ديسمبر 2004 ، قدم الأستاذ عيسى الشارقي "رئيس جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية" ورقة بحثية وكان هذا مجمل ما قدم فيها..
تمهيد :
الأساتذة الكرام، واضعي التقرير، قد طلبوا من الناصحين، في الفصل التاسع، النظر لتقريرهم بعين الناقد، وآثروها على عين المادح ، صدقاً منهم في طلب الأصوب والأفضل ، وإخلاصاً منهم لخدمة هذه الأمة ، ولهذا فلنمشِ مع التقرير هذا الممشى ، مقدرين لواضعيه، ما أسهموا من خلاله، في تطوير طريقة تفكيرنا لقضايانا ، وما أسهموا به من نفائس التشخيص والعلاج لقضايا أمتنا العظيمة .
ولقد ركزت هذه الورقة بداية، على ضرورة الانطلاق من هويتنا الخاصة، ورسالتنا التي نحملها للعالم، فالأمة العربيّة الإسلامية ليست كسواها من الأمم، فهي أمة ترى في نفسها أنها خير أمة أخرجت للناس، ولديها رسالة تبلغها. هذه هي الأرضية التي تؤمن بها جماهير هذه الأمة ، ومن الواجب أن ننطلق بالأمة مما تؤمن به، وتراه رسالة لها،لأن ذلك سيكون أدعى لانطلاقها واستجابتها .(1/34)
ثم عرضت الورقة إلى الأزمة العميقة التي تعيشها هذه الأمة، والتي أفقدتها القدرة على متابعة الأمم عوضاً عن قيادتها وريادتها، ومن ثم يتبين لنا أهمية التجديد في هذه الأمة، وإعادة تأهيلها وتأهيل إنسانها.
ثم استعرضت بعض القضايا، التي وجدنا أن التقرير إما أغفلها كلياً، أو أغفل جانباً أساسياً فيها، وركز على جانب آخر ، كما نجده في التركيز على جانب القدرة المادية غالبا ، وذلك لما في غياب هذه القدرات من تأثير واضح ومباشر على تخلف قدرة أمتنا على المنافسة والتقدم، ولكننا نرى أن الاهتمام بهذا الجانبٌ وحده، لا يسد الخلل ، بل هو ليس بأهمية الجوانب المعنوية والأخلاقية والتربوية، التي لم نجد لها في التقرير ما يناسب أهميتها البالغة .
وبعد أن بينا سبل تجديد الفكر الديني، والذي هو الجذر الأساس لخصوصية أمتنا وحضارتنا ، وبعد موافقة التقرير في جوهرته الثمينة، من إعلائه لمنزلة الحرية، وضرورتها كمفتاح للتقدم والتطور ، ذكرنا أن هذه الحرية لا ينبغي قصرها على الحريات العامة للمجتمع ، وإنما ينبغي أن تتعمق لتشمل أولاً : الفكر والقول والعمل على المستوى الاجتماعي العام، ثم ثانياً أن يكون ذلك تمهيداً لخلق الإنسان العربي المسلم الحر فكراً وقولاً وعملاً، والذي هو الجوهرة الثمينة في الحرية ، وبه يظهر المفهوم الخاص للحرية في أمتنا، والتي هي الانطلاق في خصوص الفضائل والكمالات، والقدرة على التحكم في الذات . ومن هنا فرّعنا منها فرعاً رأيناه مناقضاً للحرية في المجتمع والإنسان، وهي ظاهرة المذهبيّة، التي ترسخت في أمتنا، حتى صارت من البديهيات عند أهلها، صغاراً كباراً، علماء وعوام ، فدعونا إلى نبذ هذه المذهبية، على مستوى العلماء أولاً، والعامة ثانياً ، وبدون هذه النبذ لن نتمكن من التحرر والحرية .(1/35)
ولما وجدنا أن التقرير يركز في جهة إصلاح مناهج التعليم، ونشر التعلم الراقي النوعية، على جوانبه العلمية والتقنية والفنون والأدب، ويغفل النواحي الأهم، وهي التربوية الأخلاقية والنفسانية وقواعد اللياقة ، فقد توسعنا بعض الشيء في ذلك، وذكرنا أهمية أخذ هذه الأمور بطريقة منهجية، ووسائل تدريب عملية، بدلاً من تركها بلا نسق ولا نظام ممنهج .
ثم تعرضنا إلى مشكلة لم نلتفت لتصريح التقرير بها ،وهي ضعف حجية العلم التجريبي والرياضي في أمتنا ، فهي لا تراه بمستوى حجية النص، حال تنظيم حياتها وتشريعاتها، مع أنه حق، والله يحق الحق، فطالبنا برفع منزلة العلم التجريبي لمستوى الحجية والوثوق، في حل المشكلات ووضع النظم والتشريعات .
ولما كانت اللغة هي مفتاح علمية الفكر، فقد طالبنا بإعادة العلمية للغة العربية، ليس على مستوى ما طالب به التقرير، من موائمة العربية للعلوم، وزمان الشبكة الدولية للاتصال ، فهذه مهمة، ولكنها ليست المعضلة الأكبر ، بل المعضلة هي ما غيبه مفهوم
الترادف من خصوصيات الألفاظ في لغتنا، وبالتالي فقدنا الدقة العلمية التي يمكن أن نلحظها في تراثنا العظيم، وتأثرت طريقة تفكيرنا بذلك.
ثم طالبنا بضرورة أن ننصب لنا إنساناً مثالاً أعلى، نسعى نحوه في كل برامجنا، حتى لا نضل الطريق، فنظرتنا ينبغي أن تمتد للأفق البعيد، لا أن تنطلق من واقع الحال فقط، فالانطلاق من خلال نظرة " الحمار " الذي يركز ناظريه على ما بين قدميه، توجب كثرة العثرات، ولكن الانطلاق من خلال نظرة " الجمل "، الذي يرمي ببصره بعيداً، تساعد على اكتشاف معالم الطريق. ثم حاولنا أن نضع وصفا، لهذا الإنسان المثال، من خلال فضائلنا وخصوصيتنا، فجعلناه ربانياً، خارق القدرات العقلية والنفسية والروحية ، والتي نؤمن بإمكانها .(1/36)
ثم طالبنا أمتنا بتطوير الأخلاق، التي جاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لإتمامها حين قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، مؤملين أن لا ينظر القارئ الكريم لما قلناه، بعين قصير الهمة ، فإنه حينها سيرى ما ذكرناه، من الواقع المأمول خيالاً . وإننا لنهيب به، أن يسعى نحو هذا الذي يظنه خيالاً، فإنه إن لم يدركه فسيدرك بعضه، وبعضه كاف للتقدم بل وللتميز.
مأزق الإنسانية :
الحضارة الغربية اليوم، وهي تتعملق في قدراتها الماديّة، تتقزم – ويا للأسف – في اتجاهاتها المعنويّة .
فالمأزق الأخلاقي المهلك، الذي وقعت فيه وقادت العالم إليه، هو في إيهام وتوهم، أن السعادة هي في التمكن من الاستهلاك.
فالإنسان اليوم في كل بقاع الأرض، وتأثراً بالحضارة الغربية، يقيس السعادة في الغنى والثروة، والتمكين من مختلف جوانب القوة المادية، من مسكن فاخر ، ومدينة متطورة نظيفة، ومواصلات ميسرة ، وعلاج متقدم ، ورعاية في الشيخوخة ، وضمان اجتماعي ،
ووفرة في المعروض من السلع ، وقدرة على الشراء ، ثم في امتلاك القوة القادرة على الردع ، بل أكثر من ذلك القادرة على إدخال الرهبة في الآخر . وكذلك في نظام تعليمي مثمر ، ووظائف ممكنة ، وتطور علمي قادر على حل المشكلات واكتشاف الجديد .
هذا هو لباس السعادة الذي قدمته حضارة الغرب بكل اتجاهاتها للإنسانية ، وقد تقبلته الإنسانية جمعاء لم تختلف عليه ، وإنما اختلفت على حيازة أسبابه من ثروات الطبيعة ، وأسباب القوة ، وأسرار العلوم طمعاً في أن ينال كل وحد قصب السبق في أسباب السعادة وإن كانت على شقاء الآخرين .(1/37)
وحتى أمثل الناس طريقة من دعاة الإنسانية وحقوق الإنسان والسلام العالمي ، والتعاون الدولي، لم يخرجوا عن هذا الفهم للسعادة وأسبابها ، وإنما هم يدعون لتقاسم الخير، بالمقدار الذي يقضي على الفقر وينشر الصحة فيمنع الأوبئة، وإلى الحرية والديمقراطية ليعم السلام ، وللحفاظ على البيئة استدامة للتنمية ، فهم المصلحون ولكن من داخل القفص .
مهما شرقت ومهما غربت، فلن تجد فهماً آخر للسعادة غير هذا في عالم اليوم، يراه هكذا عالم رأس المال وعالم الاشتراك، والعالم النامي، والديمقراطيون والمستبدون، والليبراليون والمحافظون، لا بل والماديون والمتدينون.
أين هي السماء ؟ :
السعادة في حضارة الغرب هي نداء أرضي بحت ، شبيه بنداء كل الشعوب التي عبدت الأوثان من قبل، ولكنه نداء جبار متمكن واثق، قد أمسك بزمام الأسرار، وظن أنه قادر على كل شيء، إنه نداء أكثر قوة وأموالاً من كل ما سبق من حضارات ودعوات سماوية أو أرضية . إنه نداء وظف قدرة العلم الجبارة، فراح يكشف الأسرار كالآلهة فلا غرابة أن يعبد، انه السامري الذي يخرج من المعادن عجلاً له خوار، فلا غرابة أن تظنه الإنسانية ربها فتسجد له
الإنسانية اليوم قد تخلت عن السماء ، ونسيت أن لها رباً غير عجل السامري، فلن تجد أمة غير أمة الإسلام – والعرب هم رأسها – تدعي أنها على اتصال مع السماء : حضارة ودولة وثقافة ومدنية .أخلاقاً وسلوكاً ، روحاً ونفساً وعقلاً . وحدها أمة الإسلام يوجد فيها مثل هذا التفكير والفكر، وحدها في عالم اليوم من يوجد فيها عزف لهذه النغمة النشاز : - أن يا أيها الناس إن السعادة لا تكمن في الغنى والثروة، والمتع والتسلع، وإنما هي قبل كل شيء، في صفاء الروح ورقيها، وفي الارتباط الروحي بالسماء وفي صياغة الحضارة على نور هداه . فتش العالم إن شئت، فلن ترى لهذه الدعوة- ربط الإنسان المتحضر بالأخلاق العالية وهدي السماء- ألسناً سوى في هذه الأمة .(1/38)
العالم سيدمر نفسه :
إن العالم وهو يعيش مفهوم التسلع والاستهلاك كأساس للسعادة، لا بد وأن ينتهي به المطاف بتدمير نفسه . لأنه يوماً بعد يوم يسير نحو مزيد من الغنى والثروة والقوة والمكنة، و لكن دون أن يوازي ذلك بتطور أخلاقي يوازن الطغيان الذي تنميه القوة لا محالة (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7)
فعيون الدول الأكثر قدرة، تمتد لا محالة لثروات الأمم الأخرى، يد فعها الطمع وتغريها القوة والطغيان ، وهي إن دفعت مالاً أبخست ، وإن عورضت طغت ، ولكن التسابق نحو أسباب القوة والمكنة سيكون عالمياً ، ولن تتحمل الإنسانية تبدلاً في توزيع الثروات يتسبب فيه تغير مناخي مثلاً ، فلو قد تغير المناخ – وهو يتغير – وأصبحت صحاري قوم رياضاً ، ورياض قوم صحارى ، واختلفت الأرض في توزيع جنانها وأثقالها، إذاً لقامت الحرب العالمية الثالثة التي لن تبقي ولن تذر .
إن الأمة الإسلامية – والعرب رأسها – هي الأمة الوحيدة الباقية التي تقدر على العودة بالإنسانية نحو السماء، لتعلو عندها من قيم الروح المعنوية، ولتصل حبلها مع السماء كما فعل ذلك دائماً الأنبياء والرسل، كلما ابتعدت الإنسانية عن الله نحو الشهوات. و على أمتنا أن تعي أهمية هذا الدور وأن تستعد له، وتنهض به، وهو دور لا بد منه، ولو
تركناه استبدل الله بنا غيرنا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(محمد: من الآية38)
معضلة الأمة العربية الإسلامية :(1/39)
ولكن هل الأمة الإسلامية، والعرب رأسها، قادرة اليوم على القيام بهذا الدور ؟ بالطبع كلا . فما افترضنا من أن المسلمين هم الوحيدون في العالم، القائلون بوجوب الارتباط بحبل السماء، لا يعدو أن يكون متجاوزا عن لوازمه، ساكتا عن مقتضيات ادعائه، فالأمة الإسلامية اليوم، يتدلى لها من فوقها سبعون حبلاً وحبل، كل حزب ومذهب يظن أن حبله هو الموثوق بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، والحال أن حبلاً واحداً فقط أو لا حبل، هو مستمسك بها، والبقية في عرى منفصمة تائهة عن السماء ، ولكن الشيطان قد أوغل في ارتفاع حباله علوا لم تعد كل فرقة ترى معه عروتها . والحق المر هو أنها جميعاً ليست في العروة الوثقى وأن حبل العروة لا زال مطوياً ينتظر فواق هذه الأمة من سكرتها ليتدلى .
الأمة الإسلامية اليوم هي أسوأ من أمة إسلام القرن الرابع الهجري ، امتنا اليوم أمة جامدة محنطة تجتر القديم وتعيش فيه ، أمة تدعو للرجوع للوراء لا لتماس النور ، تؤمن بالنص دون سواه ، مع أنها غير قادرة على تمييز صحيحه من سقيمه ، ثبت عندها الثابت والمتغير ، غابت عن الفعل واكتفت بالانفعال ، بنت ولا زالت تبني حول نفسها أسواراً من العزلة ، ترفض كل جديد مغاير ، وتستريب من كل تجديد . أمة مزقتها المذاهب، يكفر بعضها بعضاً ، لها فهم جامد للقرآن ، متخلفة في مختلف النظم العلمية والثقافية والفلسفية واللغوية والاقتصادية والتعليمية والبحث العلمي ، وسائر العلوم والصناعات ، مطمئنة للاستبداد وتوارث الحقوق والأهلية . لا تصلح بهذا الحال شريكا في صناعة التقدم فضلاً عن أن تكون رائدة له.
فانظر إلى مأزق العالم في مأزق هذه الأمة ، حينما يكون المنقذ نفسه يحتضر تخلفاً ، والمنقذ يتفجر نشاطاً ، هل يستطيع هذا الأب المقعد أن يبعد ابنه الفتى الفلتان عن مهاوي التهلكة ؟(1/40)
نعلم أن العالم يسير إلى الهلاك بعيداً عن الله ، ونعلم أن دواءه عندنا ، ولكننا نعلم يقيناً أننا أعجز من أن نصف له هذا الدواء فضلاً عن أن نسقيه إياه ، ذلك أننا قد فقدنا وصفة الدواء الناجح لنا وللإنسانية، فواجبنا الأول اليوم أن نستعيد عافيتنا لنتمكن من مساعدة الإنسانية في العودة إلى طريق رشدها، فأين هو طريق العافية ياترى ؟
التجديد ضرورة :
لو كان هناك سبيل لنهضة العرب غير الإسلام لقبلنا بتجربته ، ولكننا بالفعل قد جربنا الكثير ، ابتداءً من حركات التحرر الوطني ، حين قامت في كل وطن فئة من المثقفين بل قل العسكريين الذين لبسوا أثواباً ثقافية وأيد لوجيه متنوعة من الأزياء التي خاطها الشرق أو الغرب المتقدم ، قاموا مخلصين لأمتهم – أو هكذا ينبغي أن يكون –، لأنه حتى مع هذا الإخلاص المفترض، لم تفلح، ولا فئة واحدة، أن تخلق تقدماً حقيقياً في هذه الأمة ، لم تتحرك الأمة معهم مطلقاً في مشروع حضاري نهضوي، كانت كلها مشاريع نخب ، والجماهير تتحرك بدافع الظرف الظالم القاهر ليس إلاّ، لا بدافع الاعتقاد والإيمان بالمشاريع الحضارية المطروحة ، لا على مستوى الاتجاهات الوطنية ولا القومية ولا الاشتراكية، ولا المركبة من هذا وذاك، وليس من داع لتجربة الدعوة الأمريكية الجديدة في الديمقراطية والنمو المسنود عالمياً، فمعالمه واضحة منذ البداية وكلها ألوان تقوم على السلطة والنخب والإعلام، دون أن تؤمن بها قواعد الناس ، ولم تقدر على إخراج الأمة حتى لبر العزة، الذي طالما عشقته هذه الأمة التي تظن في نفسها أنها خير أمة أخرجت للناس ، وقد بلغ بها اليأس والإحباط إلى درجة أن تصدق كل ناعق بصوت ظاهره عزة .(1/41)
لقد أيقن الكثير من المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين، بأن لا سبيل لنهضة العرب والمسلمين إلاّ بالإسلام فهو دين أعمق نفاذاً، وأوسع شمولاً، لعقل ونفس وعواطف الأمة وسلوكها، من أن ينتزع أو يغير ويستبدل به غيره. ولكن الإسلام كما وصل حاله اليوم، هو غير قادر على خلق الحضارة من جديد، نظراً للجمود والاختلاف الشديد ، والتخلف الواسع الذي هو عليه ، وعليه فلا مناص من القيام بعملية تجديد واسعة، وعميقة، وطويلة لهذه الأمة، فكراً وحضارة وسلوكاً وأخلاقاً، وهذا هو أعظم واجب اليوم . والذي بدونه سنكون قد ضيعنا أنفسنا ورسالتنا التي كلفنا الله بها ، وسنكون قد قصرنا في حق الإنسانية حيث نتركها للسامري وعجله، بعيدة عن توحيد الله، تائهة الروح .
ماذا نجدد ؟
إن التجديد كما هو ضروري فهو شديد الخطورة أيضاً ، لأنه على ضرورته ينبغي أن يكون سليماً يحافظ على المعالم الصحيحة، والمكونات السليمة لهويتنا ورسالتنا، وأما إذا امتد بالتحريف لها، فسيكون التجديد بوابة واسعة لإفساد جديد تفقد فيه الأمة ما تبقى من معالمها ومكوناتها ، أو تقتتل فيه ، أو تموت به جذور التجديد ورجاله ويفقدون الثقة في أنفسهم وتفقد الأمة الثقة بهم .
فالتجديد يحتاج إلى مخلصين صادقين أحرار، صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وسلوكهم. يحملون هموم الناس، قوامين بخدمتهم، مندمجين لا منعزلين، ليسوا من النخب المنعزلة، ولا الذين لا يلتقون الجمهور، ولا يحملون همهم. ولو كانت الرسل هكذا، لما استطاعت أن تغير شيئا.
ثم إن لهذه الأمة ثوابت على رأسها القرآن الكريم ، وأي محاولة للتجديد تقفز عليه ، وتتجاهله ستكون ضالة مضلة ، بل هو المهيمن، وهو الدليل والمرشد، وإليه يحتكم، ومنه يستنبط، وفقاً لمناهج جديدة مبدعة، تثور القرآن، وتتدبره تدبر الفاحص(1/42)
والعبادات من ثوابت هذه الأمة، خارجة عن نطاق التجديد، موقوفة على ما جاءت عليه من الرسول الأعظم ، لا يجوز تبديلها أو إلغاؤها. والأخلاق الفاضلة هي من ثوابت هذه الأمة، لا يجوز تجاهلها، ولكن من الممكن تطويرها، والإضافة إليها مما هو أسمى .
وعقائد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا نقاش عليها، والنقاش فيها مفتوح ،لأن التجديد ينبغي أن يمتد لتصحيح كل فهم خاطئ، سواءً في الثوابت أو المتغيرات، ذلك أن تصحيح فهم الثوابت لا ينفي ثبوتها، بل هو من الأولويات ، لان الثوابت المغلوطة، تولد فكراً مغلوطاً، فإذا كنا نفهم خلقاً من الأخلاق، أو فضيلة من الفضائل، على غير وجهها، فإن ذلك سيضلل سلوكنا، فنسيء من حيث نظن الإحسان ، وإذا كنا نفهم الجنة مثلا على غير وجهها، فإن ذلك سيوجه سلوكنا في الاتجاه الخاطئ، فنكون كالسائر على غير الطريق لا تزيده كثرة السير إلاّ بعداً .
والتجديد ينبغي أن يمتد، لما جمد من فهم علماء الأمة على ما سبق وأن قيل ، حتى صارت أقوال الأوائل سنة، بدعوى أنها قول خير القرون، وأنهم كانوا أدرى بالظروف الشرعية والتشريعية ، إن هذا القول قائم على فهم خاطئ لنداء القرآن ، ولخطابه فكأننا ينبغي أن نستمع القرآن من خلال أول السامعين ، والحق أن كل جيل مطلوب منه أن يقرأه وكأنه يتنزل عليه تواً، فيراه بعين عصره لا بعين القرون الأولى ، وذلك دون أن يتجاهل ذلك الزمان وظروفه، وتوجيهات مبلغه صلى الله عليه وآله ، ولكن دون أخذ أقوال السلف قوانين .(1/43)
والتجديد يطال ما خُلد من مرويات السنن، وجعل حاكماً على القرآن ، فكما في الدين ثابت ومتغير فالسنة منها ما يبين الثابت ، ومنها ما يعالج المتغير ، وهي أحوج ما يكون الحال إلى ترك متغيراتها، التي لم تعد مناسبة لما لحقها ، فما كل مروي من السنة يستحق الخلود ، لأنها قد تكون خطاباً مناسباً لظرفه، هذا إذا لم يكن فهمنا لها خاطئاً، أو تكون مكذوبة وما أكثر ما كذبوا عليه ( ص ) .
والتجديد يطال التشريعات في كثير من جزئياتها التي ملأت كتب الفقه ، فالثابت من التشريع هو ما أثبته القرآن ، والفهم فيه مفتوح ، والثابت من تشريعات السنة هو ما كان بياناً لثوابت القرآن والفهم فيه مفتوح أيضاً ، أما ما يتغير مع الزمان فينبغي أن يتغير حكمه ، فلكل حكم موضوع فإذا تغير الموضوع ولو في وجه أمكن تغير الحكم
بل وجب ذلك ضمن الأصول والثوابت .
والتجديد يجب أن يطال العادات والتقاليد والأعراف، التي تماهت مع الحكم الشرعي يومها ، ولكن تشريعها إنما كان لظرف اجتماعي ثقافي، لا لأنها مطلوب في حد ذاته ، فإذا ما وردت سنة أو حكم، في طريقة لباس، أو زواج، أو عزاء، أو طعام، أو رياضة، أو جلسة، وما شابه ذلك، فإن هذا لا يعني إلاّ أنها خيار من بين خيارات كانت متداولة، وجه الشارع لواحد منها على سبيل الإرشاد ، ولكن هذا اللباس سينقرض، وتلك العادات ستتبدل، وستأتي خيارات غيرها جديدة، ليست بدعة ولا حراماً، بل علينا أن نتخير منها ما هو مناسب لثقافتنا في أصولها ومزاجها العام .
أما النظم السياسية والإدارية والاقتصادية والتربوية وغيرها، فالجمود على ما جاءت به السنة أو فعله الأوائل، هو جهل بالمقاصد، وجمود على الموروث، فهذه الساحة الواسعة هي نبض التغيير، وتثبيتها على أمور محددة هو الموت والتخلف، ولم يجعل الإسلام لها من الضوابط إلاّ الخط العريض .
كيف السبيل ؟(1/44)
ولكن كيف السبيل لخروج أمتنا من مأزقها، أملاً في الاستعداد للمشاركة في توجيه الإنسانية، ثم ريادتها نحو الحضارة الفاضلة المتصلة بالسماء ؟ هذه نقاط نراها ضرورية، ولا ندعي الشمول وهي إلى العصف الذهني أقرب منها إلى التصنيف البحثي المتكامل
أولاً: اعتماد الحريّة كثابتة أولى:
وهي أول كل الحلول، وبدونها لن يتكامل شيء. و تشمل حرية الفكر والقول والعمل، على مستوى الإنسان المجتمع، والإنسان الفرد.
فعلى المستوى الاجتماعي، يجب رفع الحظر عن العقل أن يفكر بحرية ، وأن تزال أسوار الممنوعات ، كل الممنوعات، إلاّ ما يغادر بالإنسان عن الإنسانية، إلى البهيمية وأخلاق السباع ، كتقبيح مطلق العمل الصالح، والدعوة إلى عدم المسئولية ، و إلى مغادرة الفضائل الإنسانية المفترضة، من الأخلاق التي سما الإنسان بها، وغادر الحيوانية ، فلا حرية في إباحة الشهوات بغير ميزان ، وارتكاب السيئات من الفعل والقول بغير ضابط ، فما أردنا الخروج عن دنيا المتعة الغربية لنشرعها لأنفسنا باسم الحرية . ولا نقصد هنا الأخلاق والفضائل خصوص ما أرشد له الإسلام، بل ما تسالم عليه العقلاء من الناس مما أمر به الإسلام ، مما لا يقوم مجتمع ولا دولة ولا أسرة ولا اقتصاد بدونه، من حرمة الأعراض والدماء والأموال والعائلة،والكذب والخيانة وما سواها، فالمجتمع الحر هو المجتمع المسئول لا المنفلت .(1/45)
فللعقل أن يفكر في الوجود، والخالق والمخلوق، وعالم الغيب والشهادة، فيثبت أو ينكر، يتفق أو يخالف، لا حظر عليه ولا عقاب في الدنيا، ما دام تفكيراً جاداً هادفاً، وإن قصَّرت به الوسائل والمعطيات ، وله أن يناقش فهم العلماء في التفسير والحديث والشريعة، ويفندها أو يسندها ، يرفضها أو يقبلها، مادام مركبه البرهان وإن أخطأ، و له أن يخالف المسلمات والمشهورات، والأعراف والتقاليد الراسخة، وينقض مالا يشك في صحته المجتمع والعلماء، فلا بد من إطلاق العقل من نير الصنم، المتمثل في التقليد والإتباع. وله أن يطرح النظريات الفلسفيّة والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، دون أن يراعي أثناء بحثه مسلمات الدين، والموروث، فيتقيد بقيودها إيماناً أو خوفاً، فالمجتهد المخلص الباحث عن الحقيقة له أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب.
ثم له أن يدعو إلى ما توصل إليه فكره، بكل الوسائل التي يقدر عليها، مهما ارتقت هذه الوسائل وتنوعت، من تلفاز أو إذاعة أو صحافة أو شبكات اتصال، بحسب تطور عصره وما يتمكن منه،مطالباً باتخاذ ما توصل إليه طريقاً في العمل .
وله أن يوصل أفكاره لمراحل العمل، عبر الطرق الديمقراطية، التي تفتح المجال لسنة التدافع أن تأخذ مجراها، فمتى ما تمكنت فكرة ما من الانتشار، وقلبت قناعات الناس، فمن حقها أن تأخذ مجرى التطبيق، وبهذه المراحل الثلاث من الحرية في وجهها الاجتماعي،
ستأخذ سنة التدافع مجراها وتفعل فعلها فيسلم البناء الاجتماعي من التناحر( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ )(البقرة: من الآية251) ، ولن يصح معها إلاّ الصحيح، ولو نسبياً، وستكون كل الأفكار قابلة للتعديل أو الإلغاء والاستبدال، ومع غير ذلك قد يسود ما هو فاشل أو خاطئ أو عقيم أو قديم مشلول، دهوراً طويلة تتخلف به الأمة .(1/46)
وهكذا يمكن القيام على صناعة وتربية، إنسان حر في جوانبه الثلاثة: إنسان حر الفكر، حرٌّ في القول، حرٌّ في العمل.
فالإنسان الحر في تفكيره، هو من لا يأسره إلاّ الدليل والبرهان، يدور معه حيث ما دار، لا يتعصب لقول دون قول، ولا لمذهب دون مذهب، حتى لو خالف ما كان عليه من قناعاته ومسلماته ، والجدال المفتوح بالتي هي أحسن هو ميدان تتدرب فيه عقول الناس، على قبول الحق دون مواربة، وإن خالف رأياً أو شهوة أو رغبة ،وهذا الإنسان حر الفكر والتفكير هو رأسمال التقدم .
وبإزالة احتكار وسائل التعبير، و إزالة التهديد بالعقوبة والأذى، لكل من يقول ما يخالف مراكز القوى ، سنفتح المجال للإنسان، أن يكون حراً في قوله، لا يكتم الحق الذي رآه، ولا يتتعتع في الإدلاء بشهادة، لفكرة أو ضدها، فنضمن أن يعبر كل إنسان عما يراه حقاً، ونساهم في خلق الركيزة الثانية من ركائز الإنسان الحر:حرية القول .
وحينما نسمح بحرية العمل للجميع، وفق ما بلغته قناعاتهم، عبر الأنظمة الاجتماعية الديمقراطية المتاحة، فإننا نساعد في خلق الناحية الثالثة للإنسان الحر، الذي لا يخالف فعله قوله ، والذي يلزم نفسه قبل الآخرين بما يقول،أملا في أن نصل يوما إلى الإنسان الحر، الذي يفكر مسئولا، ويقول مسئولا، ويفعل مسئولا.
هذا التعاضد بين حرية الفكر والقول والعمل، على المستويين الاجتماعي والفردي، يشكلان جدلية لن تظهر ثمارها في الإنسان سريعا، ولكنها المفتاح الضروري لبداية صحيحة، فبدون ذلك لن نضمن تصحيح أي خطأ أو انحراف أو جهل أو ضلال.
ثانياً :نبذ المذهبية :
من الثمرات الطبيعية للحرية نبذ المذهبيّة، ولكن ونظراً لتغلغل المذهبيّة عميقاً في المجتمعات العربية والإسلامية، فإنها تستحق إبرازها كنقطة مستقلة. فالمسلمون اليوم تمزقهم المذاهب الدينية والفقهية والكلامية، عوضاً عن المذاهب السياسية والفكرية القديمة والحديثة.(1/47)
ولسنا نريد باللامذهبيّة، أن لا يكون في الأمة آراء مختلفة، وأطروحات متباينة، فهذا مطلب لايكون إلاّ مع الاستبداد والجمود،وهو علة العلل، ولكننا نريد باللامذهبية أمرين:
على مستوى العلماء والمفكرين : أن لا يقلد أحد منهم أحداً، بل يبحث كل منهم الأفكار بشكل مستقل، ناظراً لكل الآراء على صعيد واحد ، غير متقيد بمنهج آخرين، إلاّ إذا ثبت له صحة ذلك المنهج بالبرهان، غير ميال لا بعاطفة ولا بقول إلاّ للدليل والبرهان.
وإنما المذاهب آراء لرجال فلما اتبعها المقلدون صارت مذاهب ، ولو قد تحرر المفكرون والعلماء من التقليد لما أمكن لمذهب أن يصمد إلاّ قليلاً، ريثما يطوره أو يخالفه آخرون .
على مستوى العامة : أن لا يرتبط أحدٌُ من المسلمين بقبول كل ما يقوله عالم أو مذهب ، وكأنه وحدة واحدة لا تتجزأ ، فمن كان حنفي المذهب مثلاً، كيف ساغ له أن يأخذ كل أقوال أبي حنيفة ، وكأنها وحدة واحدة ؟ هل المهم في الأفكار والأعمال : الفكرة أم قائلها ؟
إن العامي لا ينبغي له أن يكون جاهلاً متبعاً للرجال في كل ما يقولون ، فإن لم يكن قادراً على صناعة القول فليكن قادراً على التخير فيه ، والتقليد إنما هو إتباع للرجال دون الأقوال والأفكار، وهذا خطأ واضح ، ولذا فعلينا كعوام أن ننتقي ما نراه صائباً من الأفكار بغض النظر عن قائلها . وبغير هذا نكون مذهبيين متعصبين .
العجب كل العجب، أننا قد نتأسى، حينما نكتشف أن قول العالم الفلاني، هو أرشد من قول عالمنا الذي نقلده، ثم لا نغير ذلك في فعلنا، ونمضي على ما قلدنا، مدعين أن واجبنا الشرعي يقتضي الإتباع !(1/48)
هذه هي المذهبية الممقوتة، لأنها مجرد عصبيّة وجهل، لتكن هناك آراء بين مختلف أصناف العلماء، ولنقرأ هذه الآراء ونحاكمها، ثم نأخذ كل جزئية نراها صائبة، دون التحيز إلى فئة دون فئة، ودون أن نتقسم أحزاباً وجماعات ومذاهب على المستوى الاجتماعي ، ثم لا نسمع إلاّ ما يقول رجال مذهبنا، ولا نحل إلاّ ما أحلوا، ولا نرى إلاّ ما رأوا . ومن أعجب ما رأيت في هذا المجال أستاذاً يناقش رسالة طالب في الدكتوراه، ينتقده لأنه رجح قول عالم يخالف مذهبه الفقهي الذي هو عليه! واعتذار الطالب بأن مجال البحث شيء والعمل شيء آخر! فماذا بقي للبحث من علميّة وجدوى عملية إذاً ؟
وينطبق هذا على كل صنوف المذاهب، وليس الفقهية منها فقط، بل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنظريات العلمية وغيرها.
ثالثاً :تصحيح نظام التربية والتعليم
لن أقف هنا طويلاً عند مناهج التعليم، فقد أبصرتها عيون الخبراء وحددوا عللها، واقترحوا علاجها، والذي يمكن تلخيصه في طغيان تلقين المعلومة على اكتشافها ، والاعتناء بالكم على حساب الكيف ، وضعف روح البحث والتعلم الذاتي، إلى آخر ما قد وصفه التربويون، وآمنت به جهات التربية، وإن قعدت بها عنه أغلالها، من العجز المالي والإداري .(1/49)
ولكني أريد أن انوه، بالعجز والقصور والتقصير، اللامحدودين في جانب التربية، إذ يمكن القول جزما ،ً أنه لا يوجد للتربية منهاج أصلاً ، وما يوجد من عظات ونصائح لا يشكل شيئا من منهج، ولو كانت ساعات التعليم عشرا،ً فإن ما للتربية منها لا يزيد على الدقيقة . وهي – التربية – متروكة للدافع الذاتي للمعلم، وهمه الشخصي بها، فلا يوجد منهج مدروس ومبرمج، ذو أهداف سلوكية مرصودة، ابتداء من أبسط قواعد السلوك واللياقة، إلى أعمق الخصال النفسية والأخلاقية، فليست هناك تربية. حتى في أبسط قواعد السلوك واللياقة، من طرق اللباس والحديث والجلوس والطعام والتعامل مع الآخر ، والتحية والاستئذان ، فلا يتلقى التلميذ منها شيئاً يذكر، وإنما هو كنبت البر، تشكله البيئة والأسرة والمجتمع،وهي ضعيفة في ذلك، حتى ليبلغ الفتى مبلغ الرجال، وهو لا يحسن من ذلك شيئاً، بل ولا يقدّر من قواعد اللياقة إلاّ ما يقدّره أبناء الشارع ، اللهم إلاّ ما تمكنت أسرته من غرسه فيه .
التلميذ طفلاً وفتى وشاباً، يسمع ويمارس أنواع السباب، وسوء الأدب، وإيذاء الآخرين، وسوقي التصرفات، وإهدار الوقت، وغياب الهدف، وعدم القدرة على التخطيط لنفسه. وضع مزرٍ على مستوى الأخلاق الاعتيادية الضرورية، فما بالك بالكمالات النفسية والعقلية، عوضاً عن كمالات الروح. الوضع التربوي مأساوي بكل معنى الكلمة . إنّ مناهجنا التعليميّة بعيدة كل البعد عن " تدريب " أبنائنا على ما يصلحهم من الأخلاق والمبادئ، والابن غير المدرب هو غوغائي لا يعرف معنى الحياة ولا يفقه أصولها.(1/50)
هل نربي أبناءنا وندربهم على قبول المنافسة؟ سواءً كانوا ينتمون إلى منبت رفيع أو منبت وضيع ؟ فنعلمهم نبذ التفرقة الطبقية وإلغاءها إلغاءً تاماً، وأن المراكز يجب أن تسلم إلى المتفوقين، وإن كانوا من أحط طبقة في المجتمع، وهل نعلمهم أن من بين من يلبسون الثياب المهلهلة اكفياء، ينجحون في المناصب التي يتولونها أكثر بكثير من الذين يلبسون الثياب الفاخرة المزركشة .
وهل نربيهم على التحلي بالأخلاق الحسنة؟ وبجمال النفس وطهارة الروح؟ لا التحلي بالزينات الثمينة الفارغة ؟ وهل ندربهم على قواعد اللياقة والسلوك المحتشم؟ وندربهم على معاملة كافة الذين يتصلون بهم معاملة لطيفة لائقة؟ وهل ندربهم على عدم التفاخر والتبجح والتباهي والتكبر؟ وعدم التظاهر بصورة سوقية؟ وندربهم على مسلك السلوك المهذب الحقيقي في الفكر والقول والفعل ؟
وهل نرسخ فيهم أن البشر سواسية أمام الله؟ سواء كانوا أغنياء أم فقراء ؟ وهل نربيهم على أن الصلاح هو المقياس الصحيح لحياة الإنسان ، والاستنارة الأخلاقية هي الطريق القويم لسلوكه ، والاستنارة الروحية هي السلم الذي يصعد على درجاته إلى السماء ؟ وأن السعادة ليست في الجاه والمنصب والغنى وإنما هي في التقوى والقناعة والتواضع؟ وأن السعي وراء المناصب والجري وراء الثروة والركض وراء الجاه تجلب التعب والقلق والهم والشقاء ولا تمت بأية صلة إلى السعادة الحقيقية؟
وهل نعلمهم وندربهم على العمل من أجل سعادة الجميع لا من أجل سعادتهم فقط ؟ و إن عليهم في الوقت الذي يسعون فيه لتثبيت أقدامهم في المجتمع، أن يسعوا لتثبيت أقدام الآخرين، ليكسبوا محبة الناس ومحبة الله. و إن اللذة الوقتية الحمقاء، لا قياس لها مع السعادة الآجلة في هذه الدنيا، ومع السعادة الأبدية في السماء الخالدة ؟(1/51)
هذه نماذج محدودة، من المنهاج الأخلاقي والسلوكي، الذي يجب تربى عليه أجيال الأمة، وأن تطور على ضوئه التربيّة، وإلاّ فإن أجيالاً من النباتات البرية غير المهذبة،
وغير القادرة على بناء أنفسها، عوضاً عن بناء الحضارة الفاضلة، ستظل تعيق الأمة وتفقرها وتزيدها عجزاً .
رابعاً : توسعة مصادر المعرفة الملزمة
المصادر المعرفية ذات الحجيّة عند المسلمين، هما القرآن والسنة بالأساس، ثم لما واجهوا معهما نقصاً لقصور في الآليات المتوفرة، وقصور في الوعي بأبعاد القرآن ومناهجه، اختط المسلمون لهم مصادر أخرى تختلف باختلاف المذاهب، كالحسن والقبح العقليين عند أصحاب المدرسة الأصولية الشيعية، وكالقياس والاستحسان والمصالح ،عند مذاهب سنية مختلفة، وظل البعض مقتصراً على الكتاب والسنة، أو بالأصح، على فهم السلف للكتاب وما رواه السلف من السنة . ثم جعلت السنة حاكمة على الكتاب بصفتها المفسرة له، على أساس أن للقرآن مراداً واحداً بينته السنة.
هذه المصادر، هي ما على المسلمين أن يلجأوا إليه، إذا ما أرادوا أن يقيموا بناءً، من دولة وحضارة، فإذا ما أردنا أن نضع تصوراً للنظام السياسي، أو الاقتصادي، فإن الكتاب والسنة بما نحن عليه من فهم السلف لهما، هما المتصدران لتفكيرنا ومنطقنا ، أو هكذا يجب أن يكون الأمر لنكون إسلاميين اصلاء، هذا هو الفهم السائد .
ومع إيماننا بعدم قصور القرآن لو ثورّت آياته، وتدبر فيها وفقاً لمناهج حية جديدة ، إلاّ إننا نريد أن نؤكد هنا على تجاهل المسلمين الأوائل، وإلى اليوم لحجيّة العلم والبرهان حجية مستقلة ، في مخالفة صريحة لما أثبته القرآن والعقل فمهما أتيت أهل الشرع بالإثباتات العلمية، التجريبية أو الإحصائية، الكاشفة عن صحة أمر أو حالة، فإنهم سيرفضون قطعاً، الاعتماد على ذلك في صياغة حكم، وأن يعطوا لهذا الحكم الشرعية . خاصة إذا ما وجد ما يخالفه في مرويات السنة أو في فهم السلف للكتاب .(1/52)
ومع أن بعض المدارس الأصولية قد توصل إلى أن حجيّة العلم ذاتية، لا تتحاج إلى مزيد من إسناد، ولكنك لا تجد تطويراً عملياً لهذه القاعدة الأصولية المتينة.
إن الله هو الحق، وكل ما يقوم عليه برهان فهو حق ، والحق أحق أن يتبع، ذكره نص أم لم يذكره ، وافقه نص أم خالفه، وإذا كان هناك تشكيك فليكن في صحة البرهان من عدمها، ولهذا فعلينا أن نوسع دائرة مصادر المعرفة لنضيف إليها العلم، بكل فروعه، من علوم الطبيعة والرياضيات و الإحصاء ، إلى علوم النفس والمجتمع، فنقيم عليها تشريعاتنا وأنظمتنا، مبتعدين بذلك عن التصورات الأيدلوجية، والانطباعية الموهمة ،مقدمين البرهان والعلم على غيره، ضمن أصولنا الثابتة وهويتنا المؤمنة . فبرلماناتنا على سبيل المثال، ينبغي أن تكون على اتصال بمراكز البحث العلمي، قبل أن تصوغ قانوناً أو نظاما،ً لا أن تشرع بحسب التصورات الأيدلوجية ،أو بحسب الظروف والأزمات، أو الميول النفسانية وأنظمتنا في التجارة والاقتصاد والصناعات والتعليم والتربية وغيرها يجب أن تتطور مع تطور العلوم محدودة فقط بالأخلاق والعدل وحدود الله المحافظة على الفطرة.
خامساً: إعادة اكتشاف اللغة العربية:
اللغة هي وجه الفكر ووعاؤه ، واللغة العربية كانت لغة محكمة رصينة علمية دقيقة، غاية الدقة في التعبير عن المعاني المختلفة ببناءات وألفاظ مختلفة . ولكنها على مستوى الاستخدام قد فقدت ذلك، حتى يمكن القول بأن أحداً لم يعد يستخدمها كما ينبغي، لا من العلماء، ولا الأدباء ولا المفكرين، لان هذا الوعي اللغوي قد ضاع من الذاكرة اللغوية ومن الفهم السائد.(1/53)
إن أعظم القاتلين لعلمية اللغة العربيّة هم الأدباء ، والشعراء خصوصا الملتزمون بالقافية ، فإن سيادة القافية والوزن على الشعر العربي، أثرى اللغة في ناحية، وأضاعها في ناحية جوهرية أخرى ، فالحاجة لتوظيف عبارات مختلفة لأداء معنى واحد تبعاً للوزن والقافية، ألغى علمية اللغة العربيّة ، وقتلها بالترادف ، فصار العقل العربي لا يميز في الاستخدام، بين الكلمات التي كانت يوماً ما تحمل فارقاً في المعنى . فالفعل والعمل هما شيء واحد، والكفر والشرك شيء واحد، والركض والجري والسعي شيء واحد، و ردّ و رجع شيء واحد، والمعروف والإحسان شيء واحد، ولو قرأت معجماً لغوياً لوجدته يفسر معاني كل الكلمات بكلمات أخرى، دون أن يرصد الفارق بينها لا معنى ولا استخداماً . و هذا ما أضاع خصوصية الكلمات ودلالاتها، خاصة ونحن إنما نستدل على أصالة الكلمات ومعانيها من الأبيات الشعرية القديمة، ظناً منا أن اللغة يومها لم تكن قد فسدت. و قد يكون هذا الكلام صحيحاً على مستوى القواعد النحوية، أما المعاني فقد ضاعت منذ زمن بعيد.
لقد أفسد هذا الوضع فهمنا للقرآن ، وبالتالي خلّط علينا الكثير من المفاهيم وحرمنا الكثير منها، والقرآن مع هذا هو الكتاب الذي ينبغي أن نستخدمه لاستعادة المعاني العلمية للألفاظ العربيّة ، فهو قد صيغ من خارج الدائرة الفاقدة للعلمية ، فنحن إلى اليوم نتعامل مع القرآن تعاملنا مع الشعر وما يحمله من ترادفات، فنفسره بمعان متكررة في مقامات مختلفة، مما أفسد علينا فهم القرآن، وبالتالي أضاعنا وأضاع الكثير من أسرار القرآن عنا.
إن إعادة اللغة العربيّة بمبانيها العلمية للعقل العربي هو أمر في غاية الصعوبة، ولكنه أيضاً في غاية الأهمية، وذلك لكي نعيد العلمية والتفكير السديد لعقولنا وثقافتنا.(1/54)
والتمكن من علمية الألفاظ، حتى تعود لنا على السليقة، لا يمكن أن يعود في جيل أو جيلين، ولكنه أمر لا بد منه، وإلاّ فسنظل لا نفهم تراثنا، وسيظل هذا التراث ضائعاً منا.
اليوم لا يوجد أديب أو لغوي، يفهم اللغة العربيّة ويستخدمها كما ينبغي، واضعاً كل كلمة في موضعها دون خلط ، ولكن لو أعدنا فرز معاجمنا، وأعدنا دراسة القرآن لغوياً على هذا الأساس، لأمكن لنا استعادة أسرار اللفظ العربي العظيم، ولأدهشنا هذا العقل في دقته وعلميته .
إن إعادة اكتشاف الشارد من اللغة العربيّة، لا يعني أنها في غير حاجة للنمو والتطور، فاللغة كائن حي،تنموا وتتطور بتطور أهلها ، ولكن ينبغي أن يكون التطور تطوراً لا تراجعاً ، فكلما كانت اللغة بسيطة التركيب، وعميقة الدلالة كانت أكثر تطوراً، ولا ينبغي التضحية بالدقة والعمق طلباً للبساطة ، ولا بالبساطة طلباً للعمق .
سادساً : نصب المثال الأعلى
نحن أمة قامت على فهم خاص للإنسان، وهو ما جاء به الإسلام من كرامة بني آدم، وخلافته لله في الأرض ، ومع الأسف فقد قبلنا أنفسنا خلفاء، دون أن نتأهل لمتطلبات الخلافة، فكأنما خلافة الله تأتي بالولادة ، وكأنما كل إنسان يولد خليفة .
إننا لو جعلنا نصب أعيننا هذه المتطلبات، واستخلصناها جيدا،ً ثم جعلناها سقفاً مطلوباً للإنسان، في مجتمعنا وحضارتنا، لنصبنا مثالاً أعلى، يهتدي على ضوئه المجتمع، تربية وتعليماً، وأخلاقاً وسلوكاً. وليس هذا مما يمكن لنا تجاوزه، فنحن أمة هكذا يجب أن نكون، وعلى هذا تعاهدنا مع الله، وهذه هي رسالتنا في الحياة: أن نكون ربانيين خلفاء لله.(1/55)
أننا لم نفهم أنفسنا كما ينبغي ، ونجهل أكثر قدراتنا الإنسانية ، لأننا قد أضعنا جواهر تكويننا، إن الإنسان في تراثنا مركب من روح ونفس وعقل وبدن ، وكلها تتمتع بقدرات جبارة فقدنا أكثرها ، فأوضح مكوناتنا هو هذا البدن، كم ياترى قد بقي لنا من قدراته المختزنة ؟ قارن بين أبداننا وبين أبدان الرياضيين أننا أمة لم تحترم حتى حق الأبدان في تشريعاتها ، فلم نفرض فقهياً على الإنسان الرياضة ، ولم نوضح بقوة حرمة الأكل الزائد ، مع أن الشرع فيه ما يشير إلى هذه المسئولية من حق الأبدان .
أما العقل، هذه الأداة الجبارة الهائلة، التي أفسدت التربية العاجزة علينا أكثر طاقاته، حتى لم يعد العبقري من الناس اليوم يستخدم أكثر من 5% نعم خمسة وليس خمسين من القدرات الممكنة للعقل كما يقول العلماء. و ليس معقولاً، أن يخلق الله لنا عقلاً بهذه القدرات الهائلة، ثم لا نجد طريقاً لتوظيفه، اللهم إلاّ 1 إلى 5%، فما كان الله عابثاً ولا مبذراً جل شأنه وتعالى عن ذلك كل العلو. ولكننا لم نجد التربية التي تمكننا من استثمار طاقاته كلها، أو أكثرها. لقد فتح الله سبحانه لنا نوافذ، لنطل منها على قدرات عقولنا، من(1/56)
خلال بعض الناس الذين نسميهم معجزات، وما ذلك إلاّ لأن جوانب ما من جوانب عقولهم، وبتقدير من الله، ظل يعمل كما أريد له ، فترى طفلاً يرسم نقشاً معقداً رآه مرة واحدة ، وترى أخر يجيب عن مسائل رياضية معقدة في ثوان معدودة ، وترى آخر يتذكر كتاباً كالقرآن الكريم آية آية، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ويجيب عن ذلك على البديهة . هذه ليست أحداث بلا سبب وإن ظلت عندنا بلا تفسير ، ولا يمكن إطلاقاً أن تكون، من غير أن يكون العقل الإنساني قادر عليها في ظرف من الظروف ، وبكيفية من الكيفيات، التي نجهلها، ونجهل طرق التواصل إليها . ولكن علينا أن نؤمن بهذه القدرات الجبارة لعقولنا، ونبحث عن وسائل التربية والتعليم، التي تتيح لنا قدراً متنامياً من التمكن منها ، وهكذا يجب أن يكون مثالنا الأعلى في قدراته العقلية ساعين نحوه بجد ،تاركين وراءنا التشكيك في قدرة العقل الإنساني على إدراك الحقائق الموضوعية غير المحسوسة.
وأما أنفسنا، فإنا كأمة، لم نسهم بشيء يذكر في دراستها ، وعلم النفس نشأ وتقدم ولا زال، عند غيرنا وزيادة على ذلك، فإننا لم نوظف هذا العلم في فهم أنفسنا وتطويرها ، من الناحية الأخلاقية أمتنا تحمل عديداً من التوجيهات العظيمة للتحكم في النفس ، ولكننا لم نكتشف أنفسنا جيدا،ً لنعرف كيف تتمكن من هذا التحكم . إن مثالنا الأعلى يجب أن يكون إنساناً حرّاً، ولن يكون حرّاً ما لم يكن قادراً على التحكم في نفسه ومسك زمامها فكراً وقولاً وعملاً.
إن :إنساننا المثال، يجب أن يكون قادراً على التفكير بحريّة، دون قيود من خارجه ولا من داخله ، فلا الخوف أو الإغراء أو العجلة أو الضغوط، تمنعه من الموضوعية ، ولا الأطماع والشهوات ، وإنساننا المنشود يقول ما علم، ويعمل به وفقاً لأفضل الظروف والوسائل المتاحة .(1/57)
إنساننا المنشود يتحكم في عواطفه ودوافعه، ويسيطر على حواسه، فلا يسمع إلاّ ما يريد، ولا يبصر إلاّ ما يريد، ولا يشم إلاّ ما يريد، دون أن تتمكن الظروف المحيطة به، من إجباره على السمع والنظر، فحواسه كلها تحت سيطرة عقله. وإنساننا لا يهرب منه عقله باللهو، فيكون إنسانين: واحد بالشعور، وآخر باللاشعور يتحكم فيه، ويأخذه من واقعه إلى عوالم الغفلة والسهو .
وأما الجوهرة الثمينة الضائعة، فهي الروح الربانية التي نفخت فينا، أو قل نفخت في أبينا ولا زالت تمتد منه إلينا. هذه الروح التي لا يمكن لنا معرفة سرها ، ولكن يمكن لنا أن نتطور بها، فهي طريق الإلهام الرباني للقفز على الخطوات العقلية الضرورية للإدراك ،وهي الطريق لإدراك الحقائق الماورائية، التي يعجز العقل عن إدراكها مهما كان قوياً ، إنها الوصلة مع الله، حيث بومضة منها نعلم من الله ما لم نكن نعلم ، وينكشف لنا من عالم الغيب ما لا قدرة لنا على كشفه، إنساننا المثال هذا، قادر على الاتصال بروحه بعوالم الغيب، كمن اتخذ عند الله عهدا " ولكم في رسول الله أسوة حسنة ".
هذا الإنسان المثال، يجب أن ننصبه هدفاً لرؤيتنا الحضارية، نسعى إليه في كل سلوك وتربية و فكر. ننصبه أنموذجاً للأجيال و نسعى نحوه: إنسان كامل القدرة العقلية، زكي النفس، متحكم في نفسه، طاهر الروح، متصل بالسماء، مثال لله، ولله المثل الأعلى، بلغت به الزكاة أن يقول للشيء كن فيكون.
سابعاً: إرساء الأخلاق وتطويرها(1/58)
نحن أمة جاء رسولها ليتمم مكارم الأخلاق، فقد كانت الإنسانية قبله تعرف الأخلاق الفاضلة المعتادة، التي يعرفها كل الناس، ويحكمون بحسنها وفضلها، من الصدق والأمانة، والشرف، ومحبة الوطن، والشجاعة والتسامح، والاحترام، والحياء والوفاء، والاجتهاد والتواضع، والصبر والتعقل، وضبط النفس، والكرم والسخاء، والشفقة والمواساة، والمشاركة الوجدانية، والعرفان بالجميل، والنية الحسنة، واحترام الكبير وحماية الصغير، والرأفة بالضعيف، وغيرها مما تعرفه الإنسانية وتتفق عليه، قبل مجيء النبي (ص) .
ولكن نبينا جاء ليتمم للإنسانية أخلاقها، فعلينا أن نرفع السقف الأخلاقي لأمتنا، ومن ثم للإنسانية معنا ، فدعانا الرسول للصفاء والسلام والهدوء، هذه الخصال النفسانية الجميلة، التي لا تتبع إلاّ من معرفة بالنفس وبالإنسان والكون والخالق، فلا تكون الأشياء كلها مدعاة للخروج عن الهدوء والسلام والصفاء النفسي، فكل شيء يجري تحت عين الله.
ودعانا للأخذ بالموضوعية المجردة، فلا يجرمنا شنآن قوم على أن لا نعدل ، وأن لا نميل عن الحق لقريب أو بعيد ، بل التمسك بالحكم والقول الموضوعي النزيه ، ودعانا للبصيرة ننظربها عواقب الأمور ، وما يتولد عن المواقف وعن الأفعال من عواقب وعن المقدمات من نتائج ، ودعانا لتحقيق أسمى حالات الوعي ، والقدرة على معرفة وغرض الوجود الإنساني ، وعلى امتلاك الحرية بأن نكون مالكين زمام أنفسنا ، ودعانا لأن نربط كل معرفة مهما كانت محددة وخاصة، بالمخطط الشمولي للحياة، إلى آخر ما يمكن لنا أن نراه من إتمام النبي لمكارم الأخلاق الإنسانية .(1/59)
ولكننا يمكن أن نطور ما تممه النبي أيضاً، فنرمي بالأخلاق في أمتنا إلى سقفها الأعلى ثم الأعلى ، فإنساننا المثال يجب أن يتحلى عوضاً عما سبق، من الأخلاق الإنسانية، والفضائل النبوية، بالقدرة على التحكم في الوعي، فتكون لديه مناعة ضد الغفلة، الناتجة عن اللهو وتنويم المجتمع، وهو مقدار متقدم من البصيرة ، فالإنسان الرباني الولي لله، يمكن أن يظل يقظاً حتى في نومه، يتحكم في نفسه كلَّ اللحظات، لا تأخذه غفلة حتى وهو نائم، إذ بإمكانه أن يوجه نفسه، إلى المكان اللائق حين ينام، فتعود وقد ازدادت علماً وطهارة، ويتمتع بمناعة ضد الكثرة السيكولوجيّة، فلا تضله الاتجاهات العامة للعواطف والمواقف، خارج عن نطاق كراهية الظلم إلى نطاق عدم القدرة عليه بل عدم وروده في الخاطر مطلقاً ، إنسان لا يكره أحداً وافقه أو خالفه، بل يحمل المحبة للجميع، يمارس أرقى الفضائل، ويتحكم مطلقاً في أهوائه، ويرى الواقع كما هو من كل جوانبه لا كما يريد.
وفي الختام ، أمتنا هي الوحيدة الباقية تدعو الإنسان للسماء ، والإنسان المبتعد عن السماء يهلك نفسه ومجتمعه وحضارته ، وإنساننا العربي والمسلم اليوم، هو في هاوية التخلف، فعلينا لكي نعود للريادة الإنسانية نحو السماء، أن نخلق الإنسان الرباني الفاضل ، والحضارة الفاضلة، وقبل ذلك علينا أن نخلق الإنسان الجسر، والحضارة الجسر، وأول مفتاح لذلك أن نطلق الحرية الحقيقية في دواخلنا
وإذا كان لنا أن نقترح بعض ما نراه مهما، من الواجبات على طريق التجديد،
فأولا: نرى أن إعداد معجم لغوي،يطور ما بدأه ابن فارس، من تبيان المعاني المخصوصة لكل لفظ في العربية،مستدركين ما فاته،مصوبين ما غاب عنه، موسعين ما جهله، جامعين ما تفرق منها في سائر المعاجم، مقارنين مع اللهجات العربية القديمة، كالسريانية والفينيقية ولهجات قبائل العرب، مهيمنين على ذلك كله بالقرآن، واستخداماته للألفاظ، فلعلنا بذلك ندرك خيرا كثيرا.(1/60)
وثانيا: لو أقمنا هيئة للعلوم الإسلامية،يتعهدها المقتدرون من أبناء هذه الأمة، تضم علماء الفكر والتفسير والفقه وغيرهم،من سائر بلدان المسلمين ، وعلى مختلف مذاهبهم، يتعاهدون بينهم ميثاق شرف، أن يقوموا لله مثنى وفرادى ومجتمعين،أن ينظروا للمسلمين في القرآن والإسلام، متجردين من المذهبية،عقلا وعاطفة،لا يكفر أحد أحدا، مهما بلغ بهم الاختلاف، محسنين لأنفسهم وطلابهم.
وثالثا: أن تتصدى مجموعة من ذوي الكفاءة والشرف والفضيلة، في وضع منهاج للتربية السلوكية اللائقة، وللتربية الأخلاقية والنفسية، للمدارس العربية كافة، مع برامج للتدريب والترويض، وفق طرق علمية حديثة، تستفيد من علوم النفس والتربية، وتبتعد عن الوعظ والإرشاد المباشر، أملا في أن تعود للشباب نظرة جمالية راشدة، يرى فيها حسن الحرية المسؤلة، وشرف الإنجاز المتميز، وقبح إتباع الهوى، وتبذير الوقت.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/61)