1. أن السمسرة هي دلالة على سلعة أو منفعة مقصودةٍ لذاتها ستصل في النهاية إلى المستفيد حقيقةً لينتفع بها ، أما عملية التسويق الموجودة في هذه الشركة فهي بيع فرص تسويق على أشخاص ليبيعوها لغيرهم لتصل في النهاية إلى شخص أو أشخاص لا يجدون ما يؤمِّلونه من العقد .
2. أن السمسرة لا يشترط أن يدفع فيها السمسار شيئاً من المال إذ ليس من مصلحة صاحب السلعة أن يعرقل السمسار بوضع شرط الدفع له أو الشراء منه ، أما هذا التسويق لمن كان قاصدا له فمن شرط الدخول فيه أو الحصول على مِيزاته دفعُ مبلغ ـ ضمن ثمن البرامج ـ ليكون مسوِّقاً ، وتجديد الدفع سنويا للاستمرار في التسويق .
3. السمسار يحرص على البحث عن أكثر الناس حاجة للسلعة أما المسوِّق في هذه المعاملة فيحرص على البحث عن الأقدر على تسويق المعاملة، بِغَضِّ النظر عن حاجته .
4. السمسار لا علاقة له بما يفعله المشترون بالسلعة أما المسوِّق في هذه المعاملة فيحتاج إلى أن يستمر في تسويق السلعة حتى يكمل العدد ليحصل على العمولة .
5. في السمسرة يأخذ السمسار على قدر ما يسوِّقه من السلع ، أما في هذه المعاملة فقد يشترك اثنان في عدد من تُسوَّق لهم السلعة مباشرة أو بالتسبب ويكون بينهما من التفاوت في العمولات فرق كبير جدا بسبب ما يشترطونه من كيفية لاستحقاق العمولة ، وهذا يؤكد أن بناء شبكة التسويق الهرمي هو المقصود أصالةً لا ما يدَّعون من السلع .
وهذه الفروق الخمسة بين المعاملتين تدل على اختلاف حقيقتهما بما يمنع من إباحة معاملة بزناس قياسا على السمسرة ، لاسيما أن في معاملة بزناس أسباب واضحة للتحريم كما سبق .
6. لو فرضنا أنها سمسرة ـ وهذا غير صحيح ـ فإن الحرمة تدخلها من جهة أن هذا المسوِّق لا يمكن أن يُبيِّن لمن يعرض عليه أن هذه السلعة يوجد مثلها في غير هذه الشركة بربع المبلغ أو نصفه ، أو أنه قد لا يحتاج لبعضها ، فضلا عن أن يخبره بإمكان الاستفادة الشخصية الكاملة منها من الموقع عبر رقم المسوِّق الخاص دون التأثير عليه ودون دفع شيء ، ولا بد أن يركِّز معه على ذكر العمولة الكبيرة التي سيحصل عليها إذا اشترى وسوَّق .
7. من جعلها سمسرة وأباحها اشترط أن لا يكون في تسويقها مخادعة أو أن لا يمدحها بما ليس فيها ، وهذا غير متحقق عادة عند كثير من هؤلاء المسوِّقين لما سبق بيانه .
وبهذا التفصيل في الجواب يتبيَّن حرمة هذه المعاملة وحرمة مثيلاتها ، ونصيحتنا في هذا المقام لأصحاب هذه الشركة ومندوبيها أن يتقوا الله في البحث عن مصادر الرزق البعيدة عن الحرمة أو الشبهة ، وأن يتقوا الله في أموال إخوانهم المسلمين قبل أن لا يكون درهم ولا دينار وإنما هي الحسنات والسيئات ، وليس هناك إلا جنة أو نار .
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
حكم التعامل مع شركة (بزناس كوم)
د/ أحمد بن موسى السهلي
رئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف
مقدمة لابد منها :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فقد سأل كثير من إخواننا المسلمين عن حكم التعامل مع شركة ((بزناس كوم)) ؟ منهم : د/ فواز الزايدي ، وسطام الغامدي ، وفيصل الثبيتي ، ونبيل الشامي ، وأناس آخرون حضروا للمسجد ، وآخرون عبر الهاتف ، فقد رأيت أن تكون الإجابة محررة .
نظراً لأن هذه الشركة كغيرها من الشركات والمعاملات التجارية المعاصرة التي استحدثت في هذا العصر ، والإجابة عليها يحتاج إلى معرفة نظام هذه الشركة وطريقتها في البيع والشراء وشروطها ؛ إذاً لابد من تصورها وتكييفها فقهياً لأن الحكم على الشيء فرع تصوره – ولا سيما وقد نشأت في هذه العصور عقود تجارية هي من صياغة اليهود ، الذين يقوم اقتصادهم على الربا والتحايل على ما حرَّم الله – وكثير من المعاملات المعاصرة لا عهد لأهل الإسلام بها ؛ واليهود معلوم عنهم مكرهم ودهاؤهم وتلاعبهم بالشرائع ، وتحايلهم على ما حرّم الله ، وأصبحوا في هذا العصر – هم - رواد التجارة العالمية ومنظروها ، ولهم أساليبهم في الحيل والدعاية والإعلام واستحلال ما حرّم الله – ومن هنا يجب على طالب العلم الشرعي والعالم والمفتي للناس أن يكون على حذر من لعب اليهود وحيلهم ، وقد كثر في هذا العصر التحايل على الربا والقمار والميسر ، فحسن الظن بقادة التجارة العالمية ورطة لذا فإني أههيب بإخواننا العلماء الصالحين الذين يحسنون الظن ويستندون إلى أن الأصل في المعاملات القاعدة الشرعية الصحيحة المعروفة (الإباحة) ، هذه القاعدة استغلها كثير من عبَّاد الدينار والدرهم – الذين دعى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعاسة – نسأل الله العافية .
لذلك طلبت من الإخوة السائلين إحضار نظام الشركة لقراءته والاطلاع عليه وقد قمت – والحمد لله - بقراءة نظام شركة (بزناس كوم)، لكي أستطيع أن أكتب في المسألة فقهياً عن تصور بحسب ما يظهر لي – ثم اطلعت على ما كتبه الأخ الفاضل الدكتور/ سامي بن إبراهيم السويلم – عن تصوره وفهمه لهذه الشركة وتصويره للمسألة فجزاه الله خيراً ، فقد أفادني كثيراً حول هذه الشركات العالمية.
وقبل الإجابة عن حكم التعامل مع شركة ((بزناس كوم)) أود أن أضع بين يدي المستفتين بعض قواعد المعاملات الشرعية الجامعة لأصول ما يحل وما يحرم من المعاملات التجارية لتكون منطلقاً لمعرفة الحكم على هذه الشركة وغيرها من البيوع المستحدثة في هذا العصر .
أولاً: أن من فضل الله تعالى على أمة الإسلام – أن الحلال بيّن ، وأن الحرام بيّن ، وأن من تمام الشريعة وكمالها أن رسولها - محمد صلى الله عليه وسلم - أُعطي جوامع الكلم ، وأنه الشارح والمبيّن لما أُجمل في القرآن الكريم من أمثال قول الله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } النحل . وقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } النساء .
فقد وردت أحاديث تبين معنى التراضي ، والمراد به شرعاً وليس كل تراضي بين المتبايعين معتبر شرعاً – فالرضى المعتبر شرعاً بين المتعاملين هو الرضى المنضبط بضوابط الشرع في البيوع ، فلو تراضيا المتعاقدين على عقود محرمة لم ينفعهما رضاهما لأن العبد ليس له أن يفعل ما يشاء ، وإنما له أن يفعل ما أجازه الشارع ، فالعبد مقيد بالعبودية لله ، والتعبد بشرعه ؛ فلا يجوز له أن يخرج عن أحكام شرع الله تعالى – بحجة الرضى- .
القاعدة الثانية :(4/175)
أن هناك أصلاً جامعاً للمنهيات والمأمورات قائماً على العدل والقسط ، فالشارع لا يأمر إلا بما فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم ، ولا يحرّم عليهم إلا ما فيه ضرر وفساد عليهم في دينهم ودنياهم ، ولا يشذ عن هذا القاعدة شيء كما ذكر الله تعالى في وصف شريعته الغراء الخالدة على الزمن ، الصالحة لكل زمان ومكان فقال:{ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... (157)} الأعراف . وقال سبحانه :{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ .. (29) } وقال :{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) }
فكل ما أباحته الشريعة الإسلامية قسط وعدل ، وصلاح وخير ، ومنافع للناس ، وكل ما نهت عنه وحرمته ، ظلم وجور ، وفساد وضرر، ومن تتبع أحكام الشريعة الإسلامية يجدها لا تخرج عن هذا الأصل الأصيل ، ومن ذلك المعاملات المالية .
القاعدة الثالثة:
الأصل في المعاملات التجارية الإذن ، والإباحة والحل – فلا يمنع ولا يحرم إلا ما ورد الشرع بتحريمه ومنعه ، قال الله تعالى :{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }
وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29) } .
ومعنى (بالباطل) بالحرام كالربا والغرر والجهالة وبيعتين في بيعة ..الخ .
وهذا شامل لجميع أنواع التجارات فمتى جمعت التجارة والمعاملة المالية ، الرضى المعتبر شرعاً ، والصدق والبيان والعدل وعدم الغرر، وعدم الغش ، وعدم الخداع ، وعدم التغرير ، وتوفرت شروط البيع الصحيح التي استنبطها فقهاء الإسلام من كتاب الله تعالى الفرقان وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان ، عن تراض بين البائع والمشتري ، وكون البائع والمشتري جائز التصرف ، وكون المبيع مالاً، والمبيع ملكاً للبائع ، قادراً البائع على تسليم المبيع للمشتري ، والمشتري قادر على دفع الثمن ، والمبيع مباحاً، والثمن معلوماً، والمبيع معلوماً، لكل من البائع والمشتري ، إما بمشاهدة ورؤية ، وإما بوصف – وان لا يكون البيع معلق بشرط ، فلا بد من التنجييز في البيع – يعني : إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع .
القاعدة الرابعة :
تأكيداً لما قبله حرّم الشارع الحكيم بعض المعاملات رحمة منه بعباده لما فيها من الضرر ، فحرّم الإسلام الربا والقمار والميسر والغرر لأن في الغرر مخاطرة ؛ لكونه مجهول العاقبة – المفضية إلى النزاع والشقاق والخصام والغبن والتحسر والتألم الذي من أجله حرّم الخمر والميسر: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) } المائدة. أقول :
حرّم التغرير بالناس والتدليس والغش والخداع .
حرّم بيع الحاضر للبادي – أي لا يكون له سمساراً .
وحرّم تلقي الركبان . وحرّم بيعتان في بيعة .
القاعدة الخامسة :
أن لا يشتمل عقد البيع على ترك واجب كالبيع بعد نداء الجمعة الثاني ، أو وسيلة لفعل محرّم كبيع العنب لمن يتخذه خمراً ، وما شابه ذلك .
والخلاصة أن المعاملات المالية تدور مع المصلحة الراجحة ، وتبتعد عن المفاسد الراجحة ، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية والعز بن عبد السلام والشاطبي وابن القيم وغيرهم :(( إن الشريعة ما جاءت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل وذلك بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فهي ترجّح خير الخيرين ، وتدفع شر الشرين ، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما )).
ثانياً : وقبل الإجابة – على السؤال – أود أن أشكر الأخ الدكتور/ سامي السويلم الذي قام مشكوراً بدراسة نظام الشركة وموقف حكومات الغرب منها ، وتكيفه للموضوع – وإبدائه وجهة نظره ، ومن حقه ومن حق كل طالب علم شرعي يملك آلة الاجتهاد والاستنباط ومعرفة الأشباه والنظائر ، وأن يتبين موقف الشريعة الإسلامية فيما يجد من قضايا العصر المتشابكة في إطار قواعد الشريعة الإسلامية .
أما رأي في التعامل مع شركة ((بزناس كوم)) – بيعاً وشراء فلا يجوز ، وذلك لما يلي :
1- العقد اشتمل على غرر ، ومقامرة ، وبينه وبين (يانصيب) شبه كبير كما ظهر لي .
2- اشتمل العقد على مضمون نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الحاضر للبادي.
3- اشتمل على بيعتين في بيعة .
(( توضيح لبعض الفقرات السابقة ))
لقد حرّم الإسلام الميسر – القمار – فقال تعالى :{ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219) } البقرة.
وقال أيضاً :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) } المائدة .
هذه الآيات معناها كما قال علماء التفسير :((إن الله سبحانه وتعالى جمع هذه المحرمات الأربع : الخمر ، الميسر ، الأنصاب والأزلام في آية واحدة ، حيث قرن الميسر – القمار – بالخمر والأنصاب والأزلام – نظراً لما للميسر من إشغال للقلب والفكر عن مصالح الدين والدنيا ، وإيقاد نار العداوة والبغضاء بين أصحابه ، وقليله يدعو إلى كثيره ، ويفعل بالعقل والفكر ما يفعل الخمر ويصير صاحبه عاكف عليه عكوف شارب الخمر على خمره ؛ لأنه لا يستحي ولا يخاف كما يخاف شارب الخمر .
وقد ثبت عن الصحابة أن الميسر مذهب للعقل سالب للمال ، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :((أن مفسدة الميسر أعظم من مفسدة الربا ، لأنه يشتمل على مفسدتين مفسدة أكل المال الحرام ، ومفسدة القمار المحرم )) [مجموع الفتاوى:ج32/237].
ولم يفرق فقهاء الإسلام بين الميسر والقمار والغرر إلا في صور يسيرة – والغرر حرام كما ثبت نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ، عنه في أحاديث عدة في صحيح مسلم غيره :(( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ))(4/176)
فما هو الغرر ؟ هو ما كان عاقبته مجهولة ؛ لأنه قائم على الاحتمال والشك والتردد – وهذا البيع بيع شركة ((بزناس كوم)) عاقبته مجهولة فيسري في هذا البيع ما قاله فقهاء الإسلام عن تعريف الغرر أنه يقوم على الغنم والغرم – أي أنه متردد بين أمرين الغنم – والغرم ، وكل ما تردد بين الغنم والغرم فهو غرر محرّم عند جميع الفقهاء لنهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصريح في ذلك )) راجع إن شئت : فتاوى شيخ الإسلام ج29/22-483-491 – وفقه المعاملات للإمام ابن سيرين مقارناً بفقه الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة – لكاتب هذه الأسطر ج1/145-161 – فإن فيه خلاصة كلام أهل العلم في بحث القمار والغرر ، وراجع في بحث ((يانصيب)) ما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار عند كلامه على الميسر وراجع أيضاً فتاوى اللجنة الدائمة في المملكة السعودية ج15/200 وما بعدها .
وستجد صوراً مشابهة لشركة بزناس كوم – والفقه يا أخي المستفتي إنما هو الأشباه والنظائر ، ومعرفة القواعد الشرعية – وليس حفظ المتون فقط ، وإن كان الحفظ مطلوباً.
ثانياً : العقد في شركة بزناس كوم ، مشتمل على السمسرة المحرمة – التي هي داخلة في بيع الحاضر للبادي ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحاضر للبادي.
وذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع الحاضر للبادي – راجع إن شئت كتاب فقه المعاملات عند ابن سيرين لكاتب هذه الأسطر ج1/145-161، 202/2-9،291.
ثالثاً: يشتمل العقد في شركة ((بزناس كوم))، على بيعتين في بيعة ، وكذلك بيع وشرط – وهو شرط خارجي ليس من مقتضى العقد ، وذلك أن الشركة تشترط على المشتري للموقع – أو المنتج – أن يأتي بأشخاص – ولا تعطيه ما يسمى بالعمولة – أو السمسرة إلا إذا جاء بالعدد المطلوب ، إضافة إلى الغرر الموجود ، ومجيء الزبائن أمر مجهول ، هل يجد أشخاصاً أم لا ؟ إذاً : هو غرر وداخل في بيعتين في بيعة ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عن الغرر وعن بيعتين في بيعة )) .
إضافة إلى وجود شرط يخالف مقتضى البيع ، وهو تعليق البيع على شرط
راجع إن شئت : المغني لابن قدامة ج6/118،308،332، وكشاف القناع ج3/193،ونيل الأوطار للشوكاني ج6/288.
والخلاصة :
والذي يظهر لي أن التعامل مع هذه الشركة لا يجوز لما ذكرت سابقاً ، ولما أُأكده لاحقاً :
1- ما في هذا البيع من المقامرة والمغالبة والمخاطرة والجهالة ، فالشراء للمنتج بنية إحضار زبائن مما يدل على أن المشتري يشتري الموقع لا غرض له فيه – إلا الحصول على المكاسب من الزبائن في التنظيم الهرمي، وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة بعدم جواز شراء السلعة من أجل الجائزة ، والمشتري هنا في شركة بزناس يشتري مقابل كلّ زبون خمسة دولارات ، وفي هذا محاذير شرعية : منها أكل المال بالباطل الذي قال عنه الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ..... (29) } النساء.
ومعنى أكل المال بالباطل : أي بالحرام كالربا والغرر ، وما شابه ذلك من المكاسب غير الشرعية ، ومن سائر صنوف الحيل ، وإن ظهر في قالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة . راجع إن شئت : تفسير ابن كثير ((العمدة)) ج1/147 .
وراجع في المسألة : فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة السعودية ج15/192-193 ، لما في المسألة المدونة من الشبه بينها وبين شركة (بزناس كوم) إضافة إلى الشروط التي تنافي مقتضى العقد .
2- نصيحة محب :
إن أقل الاحتمالات أنه من الأمور المشتبهات – فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه – والمسلم مطالب بأن يكون كسبه يقوم على الطرق الشرعية الصحيحة ، وقد بيّن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ، أنه «يأتي على الناسِ زمانٌ لا يُبالي المرءُ ما أخَذَ منه أمِنَ الحلالِ أم منَ الحرام». رواه الشيخان.
فيجب عليك – أخي المستفتي – أن تتحرى الطرق الشرعية الصحيحة لكسبك ، وأن تكون حلالاً لا شبهة فيها حتى لا يسرى فيك نص الحديث السابق.
وقد كثر في هذا العصر التساهل بحجة ما يسمى بفقه التيسير وارتكب الناس من خلال – هذه النغمة الجديدة- طرقاً محرمة في البيع والشراء وأكل أموال الناس بالباطل ، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على أمته أن لا يأكلوا إلا طيباً كما كان يأكل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً. وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ. فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (32المؤمنون الآية: 15) وَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (2البقرة الآية: 271)». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ. أَشْعَثَ أَغْبَرَ. يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ. فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذالِك؟».رواه البخاري ومسلم .
فليحذر المسلمون من التجارة العالمية وشركاتها ، وليحرص المسلم على البعد عن معاملات اليهود وعدم التأثر بأخلاق اليهود في التعامل المالي وغيره ، لأن بريق المال جعل اليهود يحتالون على ما حرّم الله من قديم الزمان ، كما هو معلوم لكم في الشحوم ، وصيد السمك والربا .. الخ ، ولكونهم في هذا العصر هم قادة التجارة العالمية ومنظريها ومروجيها ، فهم يبتكرون وسائل كثيرة للتحايل على الله ، فقد رأينا في أسواق المسلمين أموراً لا عهد للتجار المسلمين بها ، ولا تمت إلى المعاملات الإسلامية بصلة ، والفقه الإسلامي لا ينشأ في أحضان الحيل اليهودية ويبدأ يبحث عن الحلول وتصيد النصوص لأسلمة المعاملات اليهودية ، فقد قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي المدينة بيوع – فحرّمها ونهى عنها ، وأقرّ ما يندرج تحت القواعد الشرعية من العدل والقسط ، ونهى عما يسبب العداوة والبغضاء .
وأخيرا – فالذي ظهر لي- أن نظام شركة ((بزناس كوم)) يقوم على الغرر والمقامرة وأكل أموال الناس بالباطل ، والبيع والشراء في الإسلام لا يقوم على التسلسل الهرمي كما هو في شركة ((بزناس كوم)) ، وكذلك الشروط التي تخالف مقتضى العقد . هذا ما ظهر لي .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلّم.
كتبه
د/ أحمد بن موسى السهلي
رئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف
والمدرس في جامع الأمير أحمد بن عبد العزيز بالطائف
Alkhalil123@hotmail.com
التكييف الفقهي لشركات التسويق الشبكي
شركة بزناس
إبراهيم أحمد الشيخ الضرير
مركز الكلم الطيب للبحوث والدراسات
أسس الشركة كل من السيد/علي الشرجي عماني الجنسية والسيد/عمران خان باكستاني, وكلاهما صاحب خبرة في التسويق الشبكي.
بدأت الشركة عملها في أكتوبر 2001
مقر الشركة الأم بسلطنة عمان
تدار عملياتها بواسطة فريق مختص بباكستان حيث توجد أجهزة الحاسب الرئيسية للاستفادة من الخبرة الباكستانية ورخص الأيدي العاملة.
يقدر عدد المشتركين بها أكثر من 110.000 مشتركاً موزعين على 50 دولة حتى الآن.
المنتج الرئيسي للشركة عبارة عن حزمة من المبيعات التجارية الخاصة بالحاسب تتكون من:
- خمسة مواقع على الإنترنت بمساحة 10 ميغابايت(المجموع 50 ميغابايت).(4/177)
- مناهج تعليمية للكمبيوتر والإنترنت.
- بريد إلكتروني بمساحة 25 ميغابايت.
- بطاقة الخصومات والمزايا.
يستفيد المشترك من كل المزايا الخمسة المذكورة مقابل 99 دولاراً أمريكياً ما يعادل 27000 ديناراً سودانياً.
بالإضافة للدخل في برنامج الفوائد وهو عبارة عن ثلاثة مكافآت تتمثل في الأتي:
1. فوائد الخطة الثنائية وهي الخطة الرئيسية.
2. خطة الدخل من الحوافز.
3. خطة الدخل من يونيفيل uni-level.
1. الخطة الثنائية:
وللدخول في شبكة الشركة والاستفادة من فوائدها الرئيسية المسماة في مصطلح الشركة بالخطة الثنائية لابد من توافر عدة شروط:
1. امتلاك مركز عمل.
2. التسويق لاثنين من الزبائن الجدد أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار.
3. تسويق 9 مبيعات وتعتبر هذه في عرف الشركة(خطوة) step وتعطي الشركة عن كل خطوة
(9 مبيعات) مبلغ 55 دولاراً تقريباً. الشرط الأساسي لاستحقاق الحافز عن كل 9 مبيعات أن تكون على الأقل ثلاث من هذه المبيعات من أحد الجهات اليمنى أو اليسرى وبصورة أخرى لابد من تحقيق ثلاثة مبيعات من جهة وستة من جهة أخرى أو أربعة من جهة وخمسة من الجهة الأخرى, فلو كانت التسعة مبيعات من جهة واحدة فإن المشترك لا يستحق شيئاً فالنمو غير متوازن للشبكة يقف
المشترك حقه في الحافز ولو بلغ عدد المشتركون تحته بالمئات.
4. يمكن للمشترك أن يشكل عدداً لا نهائياً من الخطوات وفي أي مدى زمني أسبوعي أو يومي أو على مدار الساعة ويستحق على كل خطوة 55 دولاراً.
فإن افترضنا أن شبكة المشترك تمت بصورة مثالية أي أنه بعد أن سوق لاثنين واحد عن اليمين و آخر عن اليسار ثم قام كل واحد من المشترين الجدد بالتسويق لاثنين آخرين وبنفس الطريقة فإن الشبكة سوف تنمو في شكل متوالية هندسية أساسها اثنين ومن ثم يحقق المشترك الأول التالي:
…مبيعات جديدة …مجموع المبيعات …الدخل بالدولار
1 …2 …2 …-
2 …4 …6 …-
3 …8 …14 …55
4 …16 …30 …110
5 …32 …62 …165
6 …64 …126 …440
7 …128 …254 …770
8 …256 …510 …1540
9 …512 …1022 …3135
10 …1024 …2046 …6215
11 …2048 …4094 …12485
12 …4096 …8190 …25080
مجموع المقبوضات …49.995 دولار
2. خطة الحوافز:
أما خطة الحوافز فهي إعطاء حافز مقداره خمسة دولارات عن كل مشترك جديدي يدخل الشبكة عن طريقك مباشرة بعد أول مشتركين مباشرين.
ولا يوجد حد أقصى لعدد الأشخاص الذين يمكن إدخالهم مباشرة مع الأخذ في الاعتبار في أن هؤلاء الزبائن الجدد سوف يحلون في أسفل الشبكة وتحت آخر مشترك فيها على أن يكون موقعه في أقصى يمين الشبكة أو أقصى يسار الشبكة.
في هذه الحالة يستفيد جميع المشتركين الأعلى من المشترك الجديد بدخوله في خططهم الثنائية (الخطة الرئيسية) ويحق لهم الاستفادة من مزاياها وتقاضي عمولة عنه.
3. خطة الدخل من (يونيلفل) uni-level:
- يسجل في هذه الخطة كافة الزبائن الذين اشتروا منتج الشركة( المجموعة التجارية) تلقائياً.
- الأشخاص الذين قامت الشركة بإشراكهم بطريقة مباشرة يعتبرون مستوى أول و الأشخاص الذين يشترون من المستوى الأول يعتبرون مستوى ثان لك وهكذا إلى عشرة مستويات بحد أقصى.
- يعطي المشترك دولاراً واحداً عن كل زبون في هذه الخطة بحد أقصى عشرة مستويات عن كل زبون مباشر.
- لما كان عدد الزبائن المباشرين متوقفا ًعلى النشاط المشترك فإن الخطة (يونيلفل) تمتد بامتداد زبائنك المباشرين بواقع عشرة مستويات لكل مشترك مباشر.
يتضح من السرد السابق أن كلا من بزناس و جولدكوست يشتركان في جوهر الفكرة مع بض الاختلافات غير الجوهرية في طريقة الحوافز ومقدارها وشرط توازن الشبكة المفضي لاستحقاق الحافز فبينما تشرط جولدكوست التوازن التام المتمثل في خمسة من كل جهة فإن التوازن في بزناس يتم ب3و6 من كل جانب أو 5 و4 من كل جانب مع اختلاف كل من المشتركين في نوع المنتج التجاري ومن أوجه الاختلاف غير المؤثرة في الحكم بين الشركتين الآتي:
1. أن بزناس لديها برنامج حوافز مواز لبرنامج الدخل الرئيسي حيث تعطي كل مروج لمنتجاتها 5 دولارات عن كل منتج يسوقه مباشرة ولا علاقة له بالبرنامج الرئيسي ويطلق عليه في عرف الشركة بخطة الحوافز وهو عقد جعالة لا غبار عليه حيث ألزمت الشركة نفسها 5 دولارات لكل شخص يسوق لها منتجاً.
2. يتم الاشتراك في جولدكويست مرة واحدة, أما نظام بزناس فيطالب المشترك بتجديد اشتراكه سنوياً وإلا فقد مركزه.
3. في جولدكويست شراء المنتج شرط أساسي للدخول في الشبكة مما أدخل المعاملة في حكم البيعتين في بيعة وشركة بزناس لا تشترط هذا الشرط.
4. تتفق الشركتان في أن دخل العميل لو ترك ينمو دون ضابط لأدى إلى إفلاسهما ومن ثم وضعت كل شركة في نظامها كابح حول دون نمو دخل العميل بصورة غير متناهية و مع اتفاق الشركتين في المبدأ إلا أنهما اختلفتا في الكيفية التي يكبح بها نمو دخل العميل, فبينما تجعل جولدكويست حداً زمانياً و سقفاًَ أعلى للدخل يتمثل في دورة واحدة في اليوم و هو ما يعادل 2400 دولار في خمسة أيام في الأسبوع فقط أي أن دخل العميل المشترك بمركز واحد لا يتجاوز 48000 دولار في الشهر, أما بزناس فإن الكابح يتمثل في إدخال المشتركين الذين تجاوزت خطواتهم ال20 خطوة في الشهر في سلة واحدة يتقاسمون فيما بينهم (وفق خطواتهم المتكونة) الدخل المستقطع من القاعدة للخطة الرئيسية(55دولاراً) غنماً وغرماً فإذا زادت عدد الخطوات المتشكلة قل الدخل, وإذا قلت زاد الدخل.
ومن ثم يتضح أن بزناس تتفق مع جولدكويست في جوهر المعاملة مع الاختلاف في بعض الشروط وأيضاً في بعض الحوافز غير المؤثرة في جوهر المعاملة.
أوجه الاتفاق:
1. نظام البناء الشبكي ففي كل من الشركتين يبنى على أساس متوالية هندسية أساسها اثنان لا يجوز لأي مشترك أن يسجل تحته مباشرة أكثر من اثنين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.
2. نظام الحوافز المتنامي والمتسع مع اتساع الشبكة يدفع فيه الذين في أسفل الشبكة لمن هو في أعلاها, الرابح فيه السابق والخاسر فيه اللاحق. تقول دعاية شركة بزناس( سوف تخسر الكثير إذا تأخر انضمامك إلينا بيوم واحد ...كلما انتظرت أكثر كلما خسرت أكثر ... ابدأ الآن....)
3. لا من النظامين يحفز المشترك غير المسبوق .
4. المقصد والهدف هو بناء نظام حوافز شبكي هرمي وليس تسويق المنتج.
5. مقصد وأهداف المشتركين في كلّ من الشركتين هو الدخل المتولد من الاشتراك في المرتبة الأولى وليس المنتج.
هذه النقطة والتي قبلها في حاجة إيضاح. فمن المعلوم أن شركات إنتاج البرامج الكمبيوتر (وحفظاً لحقها كمنتج) تضع حماية خاصة على برامجها تحول دون نسخها أما بزناس فد تركت برامجها التعليمية مع قيمتها العالية فقد تركتها كلأ مباحاً لكل راغب وإن لم يشترك.(4/178)
ولم تحفظ حقها إلا مقابل استغلالها من قبل شركات أخرى إما للاستفادة الشخصية فالأمر مفتوح دون أن يدفع المستفيد شيئاً وما ذلك إلا لعلم الشركة أن هدف المشتركين هو تيار الدخل في المقام الأول ولهذا لم يؤثر ترك المنتج مباحاً في سلوك المستهلكين وتكالبهم على شرائه, ومن ثم يتضح سلوك المشتركين وهدفهم من الاشتراك, فالمنتج بين أيديهم ويمكن الاستفادة منه دون قيد شروط ودون مقابل مادي فما الدافع إذا لشرائه وبذل الثمن في سلعة تكلفة استعمالها تعادل صفراً إلا إذا كانت هنالك غاية أخرى وفرصة أعظم سوف يضحي بها عند عدم الاشتراك وهي واضحة وتتمثل في فقد تيار الدخل المتدفق وهو لاشك يدخل في تقييم الفرصة البديلة وهو المبرر الأساسي لشراء المنتج.
ولا يقال أن المنتجات الأخرى من موقع على الإنترنت أو البريد الإلكتروني وهو الذي يشكل سلوك المشتركين فيؤثر في اختيارهم إذ الحاجة لهذه المواقع تكاد تكون منعدمة لمعظم المشتركين أما البريد الإلكتروني فخدمته موجودة على الإنترنت مجاناً ودون مقابل فإذا انعدمت الحاجة للمواقع لدى جمهور المشتركين مع وجود باقي الخدمات مجاناً لم يبق إلا ما قدمناه هدفاً لاشتراكهم وهو الطمع في تيار دخل متنامي.
ومن ثم يسقط المنتج عند النظر في التكييف الفقهي لشركة بزناس كما سقط في تقييم شركة جولدكويست ليبدو الحكم واحداً وهو حلقات قمار متداخلة الرابح فيه السابق في الهرم والخاسر فيه اللاحق في أسفله.
ومال المقامرة في بزناس أكثر وضوحاً حيث حددت بـ55 دولاراً مضاف إليه صافي عمولة الشركة 24 دولاراً مخصوماً منها التكاليف الحقيقية للمنتجات.
وعليه يمكن لأي شركة إذا حازت على ثقة الناس أن تدير شبكة كهذه وبنفس الشروط وضوابط الاشتراك في بزناس دون أن توسط منتجاً تصدر فقط شهادات تثبت للمشترك حقه ومركزه. ويحقق المشتركون فيها نفس الدخل وتحقق إدارة الشركة نفس الأرباح.
فالمنتجات في التسويق الشبكي أيا كانت ليست سوى طعم دس فيه مال المقامرة ليحقق للشركات المعينة عدة أهداف منها:
1. إعطاء واجهة سلعية مقبولة ليبني عليها الترخيص القانوني لمزاولة النشاط في الدولة المعينة.
2. مراعاة الحالة النفسية للمشتركين وإيهامهم بأنهم يزاولون عملاً منتجاً ومفيداً.
3. إعطاء ضمان للمشتركين في حالة فشلهم في بناء الشركة وهو أمر ضروري في لأحداث قدر من الثقة والاطمئنان لدى جمهور الراغبين في التعامل مع الشركة خاصة عند بداية العمل وقبل أن يحقق أي من المشتركين السابقين مكسباً ليمثل سابقة مقنعة ومثلاً يضرب للراغبين في الاشتراك.
فالحكم على بزناس كالحكم على جولدكويست وعلى كل سلعة سوقت بهذه الطريقة ولا يشفع لشركة بزناس عظم منتجاتها وفائدتها للفرد والأمة فالغايات لا تبرر الوسائل, وتحريم القمار بالمال مما لا يقبل الإستثناء بحال ونفع المنتج مهدر بنص القرآن قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) [سورة البقرة: 219 ].
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
شبكة المشكاة الإسلامية
بزناس وما شابهها قمار
مجمع الفقه الإسلامي بالسودان
نص بيان مجمع الفقه الإسلامي حول الحكم الشرعي في الاشتراك في شركة بزناس المحدودة وما يشابهها من شركات التسويق الشبكي:
الحمد لله والصلاة على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
التكييف الفقهي لنظام شركة بزناس المحدودة وشركات التسويق الشبكي:
بعد دراسة نظام شركة بزناس وما يشابهها من شركات التسويق الشبكي بواسطة دائرة الشؤون الاقتصادية والمالية بمجمع الفقه الإسلامي والتي خلصت للآتي:
أولاً: إن المنتج في شركات التسويق الشبكي ليس مقصوداً للمشتركين إنما المقصود الأول والدافع المباشر للاشتراك هو الدخل الذي يحصل عليه المشترك من خلال هذا النظام.
كما أن مقصود الشركة هو بناء شبكة من الأفراد ( في شكل متوالية هندسية أساسها اثنان) تتسع قاعدتها في شكل هرم، صاحب الحظ فيه هو قمة الهرم الذي تتكون تحته ثلاث طبقات، وتدفع فيه قاعدة الهرم مجموع عمولات الذين فوقهم، فالمنتَج ليس سوى واجهة سلعية مقبولة ليُبنى عليها الترخيص القانوني، حيث تمنع أكثر قوانين دول العالم برنامج التسلسل الهرمي الذي يدفع فيه المشترك رسوماً لمجرد الانضمام للبرنامج دون توسط أو سلعة يتم تدوالها.
ولما كانت الأحكام تبنى على المقاصد والمعاني لا على الألفاظ والمباني؛ فإن المنتج يسقط عند التكييف الفقهي لشركة بزناس وما يشابهها من الشركات.
وعليه فإن الأمر من الوجهة الفقهية ليس سوى تجميع اشتراكات من أفراد تديرها الشركة، ويدفع فيه الأشخاص الذين في أسفل الهرم حوافز من سبقهم في أعلى الهرم بالإضافة لعمولة الشركة التي تقول دعايتها: "سوف تخسر الكثير إذا تأخر انضمامك إلينا بيوم واحد، كلما انتظرت أكثر كلما خسرت أكثر، ابدأ الآن".
ثانياً: إن المشترك لا يمكن أن يحقق دخلاً إلا إذا تكونت تحته ثلاث طبقات، وإن المستويات الثلاثة الأخيرة في البناء الهرمي دائماً مخاطرة (معرضة للخسارة) لأنها تدفع عمولات قمة الهرم على أمل أن تتبوأ هي القمة، ولكن لا يمكنها ذلك إلا باستقطاب أعضاء جدد ليكوّنوا مستويات دنيا تحتهم، فتكون المستويات الجديدة هي المعرضة للخسارة وهكذا، فالتعرض للخسارة لازم لنمو الهرم، ولا يمكن في أي لحظة من اللحظات أن يصبح الجميع رابحاً، وإنما يربح القليل مقابل مخاطرة العدد الأكبر، وان نسبة الرابحين للمعرضين للخسارة في حدها الأدنى هي 1:9 في أي لحظة من لحظات الهرم.
ومن ثم يتضح أن الأغلبية الساحقة من المشتركين في أسفل الهرم مخاطرة أبداً بالدفع لمن فوقهم، وهم لا يدرون أتتكوّن تحتهم ثلاث طبقات فيكسبون أم لا تتكوّن فيخسرون ما دفعوه إلى الذين فوقهم. وهذا النوع من المخاطرة قمار لا شك فيه، فأصل القمار كما يقول ابن تيمية : " أن يؤخذ مال إنسان وهو على مخاطرة هل يحصل على عوضه أم لا يحصل".
هذه العملية تتكوّن في حقيقتها من حلقات مقامرة، مال المقامرة فيها مضمن في سلعة ومدسوس في ثمنها [1]. حلبات المقامرة في شركات التسويق الشبكي متداخلة في حلقات قمار غير منتهية، الرابح فيها هو السابق في الشبكة الذي يتدفق إليه تيار من الدخل يبدو غير متناه بقدر اتساع شبكته من الأفراد الذين يلونه، المخاطر فيها القاعدة المتعلقة بالأمل في الصعود ونمو شبكتها بالمزيد من الذين يلونهم ممن يحدوهم الأمل في الكسب دون عملٍ منتجٍ، فالطبقات الثلاثة الأخيرة مخاطرة أبداً بصورة مستمرة وفي أي لحظة من لحظات نمو الهرم وهذا هو معنى القمار.
الفرق بين التسويق الشبكي والسمسرة:
السمسرة في البيع والشراء عقد يحصل بموجبه السمسار على أجر مقابل توسطه في إتمام بيع سلعة أو شرائها، والتسويق الشبكي الذي تمارسه بزناس وما يشابهها من الشركات عبارة عن توسيط سلعة لبناء شبكة من العملاء في شكل متوالية هندسية يشكل كل عميل فيها قمة هرم داخل الشبكة يدفع فيه العملاء الجدد حوافز من سبقهم في البناء الشبكي.
وعليه فإن نظام بزناس والتسويق الشبكي يخالف السمسرة المعروفة فقهاً من أربعة أوجه رئيسية هي:
1- إن السمسرة لا يشترط فيها شراء السمسار سلعة ممن يسمسر له فهو مجرد وسيط بين صاحب السلعة والمشتري. أما نظام شركات التسويق الشبكي فشراء الشخص للمنتج أو امتلاكه "مركز عمل" شرطٌ في قبوله مسوِّقاً، أي أن المسوِّق يدفع أجراً ليكون مسوِّقاً وهذا عكس السمسرة.(4/179)
2- إن نظام شركة بزناس لا يسمح للفرد أن يسجل تحته مباشرة أكثر من اثنين وما زاد على الاثنين يسجل تحت آخر مشترك تحت شبكته، وهذا يعني أن هناك أفراداً في الشبكة يستفيدون من جهد الذين فوقهم ويتقاضون عمولات من الشركة عن سلع لم يكن لهم جهد في تسويقها فإذا ضمت هذه النقطة مع التي قبلها يتضح أن نظام الشركة يحرم المسوِّق غير المشترك ويعطي المشترك غير المسوِّق، ومن ثم تتضح مخالفة ما تقوم به الشركة وبُعده عن السمسرة المعروفة فالشركة تلتزم بتحفيز المشتركين بصرف النظر عن جهدهم في تسويق المنتجات في حين أن الأجر في السمسرة يكون لمن قام بالتسويق والبيع ولا يشاركه فيه من لم يبذل جهداً في تسويق السلعة.
3- إن السمسار يحصل على عمولته مقابل تسويق السلعة وبيعها لشخص أو عدد من الأشخاص ولا علاقة له بما يفعله المشترون بالسلعة فالعلاقة تنتهي بين السمسار والمشتري بمجرد الشراء أما في التسويق الشبكي فإن المسوق لا يحصل على عمولة إلا إذا سوَّق لمسوّقين آخرين، وهؤلاء بدورهم يسوّقون لمسوّقين فهو يسوّق لمن يسوّق لمن يسوّق... الخ، ولا يحصل على عمولة إلا بهذه الطريقة فليس في مصلحة أحد في الهرم أن يبيع لمن يشتري السلعة لينتفع بها أو ليستخدمها لنفسه دون أن يسوقها لغيره.
4- بناءً على أن تسويق المنتج غير مقصود في التسويق الشبكي وإنما هو مجرد ستار قانوني لتجميع اشتراكات وكسب أعضاء لبناء النظام الشبكي فإذا سقط المنتج من قصد التسويق اختل ركن من عقد السمسرة الحقيقي وهو العين موضع السمسرة.
مما تقدم يتبين أن نظام بزناس وما يشابهه من شركات التسويق الشبكي لا صلة له بعقد السمرة.
الفتوى:
بناءً على ما تقدم أصدر مجمع الفقه الإسلامي في جلسته رقم 3/24 بتاريخ 17 ربيع الآخر 1424 هـ الموافق له 17/6/2003 م الفتوى التالية:
1- إن الاشتراك في شركة بزناس وما يشابهها من شركات التسويق الشبكي لا يجوز شرعاً لأنه قمار.
2- إن نظام شركة بزناس وما يشابهها من شركات التسويق الشبكي لا صلة له بعقد السمسرة كما تزعم الشركة وكما حاولت أن توحي بذلك لأهل العلم الذين أفتوا بالجواز على أنه سمسرة من خلال الأسئلة التي وجهت لهم والتي صوّرت لهم الأمر على غير حقيقته.
وبناء على هذا يوّجه المجمع الجهات المرخِّصة بسحب تراخيص شركات التسويق الشبكي وعدم منح أي تراخيص بمزاولة مثل هذا النشاط إلا بعد الرجوع إلى مجمع الفقه الإسلامي.
والله الموفق
أ.د. أحمد خالد بابكر
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
--------------
[1] مال المقامرة في يزناس هو مبلغ الـ55 دولار من قيمة المنتج البالغة 99 دولار حيث يتم توزيع المبلغ على النحو التالي:
1- 55 دولار تخصص كحوافز للخطة الرئيسية وتمثل مال المقامرة في نظام بزناس.
2- 10 دولار تخصص كحوافز خطة اليونيلفل.
3- 5 دولا ر تخصص للمسوق المباشر.
4- 5 دولار تخصص للوكيل.
5- 24 دولار تذهب للشركة.
المصدر شبكة المشكاة الإسلامية
فتوى بزناس
الدكتور عبدالحي يوسف
السؤال :
لقد انتشرت المعاملة المعروفة باسم بزناس وقد سمعتك في احد الدروس تفتي بحرمتها ولكن القائمين على المعاملة في السودان يزعمون أنك قد أفتيتهم بجوازها!! نرجو منك بياناً واضحاً حول هذه المعاملة.
الإجابة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد.
المعاملة المعروفة باسم بزناس معاملة غير مشروعة، ولا يجوز الدخول فيها، وذلك للوجوة الآتية:
أولاً: اشتمالها على بيعتين في بيعة، وعقدين في عقد واحد، حيث تضمن العقد بيعاً للمنتج وإجارة -في الوقت نفسه- للتسويق، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
ثانياً: اشتمالها على الغرر المحرم شرعاً، حيث لا يدري المتعامل بها هل له ما أراد من ربح باشتراك غيره أم لا؟ وقد عرّف الفقهاء الغرر بأنه التردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما. والغرر مغتفر - في المعاملة- إذا كان يسيراً، أما إذا كان الغرر هو الغالب -كما في هذه الحالة- فإن المعاملة لا تباح.
ثالثاً: الاحتيال والغش ظاهر فيها إذ أنها تبيع الوهم للناس، وتتبع اسلوب التغرير، وتمنيهم بالثراء السريع، وقد علم كل منصف أن السلعة - في هذه المعاملة- ليست مقصودة لذاتها بل هي مجرد ستار، وحقيقة هذه المعاملة أنها بذل مال رجاء مال أكثر منه ففيها شبه القمار المحرم شرعاً.
رابعاً: هذه المعاملة ليست سمسرة مباحة، إذ السمسرة عقد يحصل بموجبه السمسار على أجر لقاء بيع سلعة، أما في هذه المعاملة فإن المسوّق يدفع أجراً لكي يكون مسوّقاً فشتان بينهما!!
أخيراً: انصح السائل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه أحمد والترمذي، وبقوله صلى الله عليه وسلم: البر ما اطمأنت إليه النفس والأثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد، والعلم عند الله تعالى .
المصدر شبكة المشكاة الإسلامية
==============
مسائل حديثة في فقه المعاملات
بسم الله الرحمن الرحيم
جمعها وأعدها
فهد بن محمد الحميزي
•مدخل :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ...
وبعد :
أنعم الله عز وجل على عباده بنعم كثيرة وكان منها البيع والشراء لتنعم بما أحله الله لها مما ليس بضرورة ولا حاجة ..وقد جاء في فضل البيع المبرور وكسبه ما روى رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكسب أطيب ؟ قال : " عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " رواه البزار وصححه الحاكم .
ولا بد أن يوافق هذا البيع شرع الله ليكون مبروراً ، وهذا الحديث يعتبر من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام حيث أن مسائل البيع والشراء بتعدد مشاربها وفروعها داخلة تحت هذين الصنفين , إما عملٌ باليد أو ما كان سوى ذلك شريطة أن يكون البيع فيه مشتملاً على البر .
ومع مرور الزمن وتلاحق النوازل كان لزاماً على كل مسلم إطابة مطعمه بتحري الحلال والحرام في ذلك .
وما هذا المبحث الطيف إلا محاولةً للوقوف على أهم صور المعاملات النازلة ، أو محاولة التكييف الفقهي لبعض المسائل وإرجاعها إلى أصلها ، أو قد تكون مسائل ومعاملات منتشرة بين الناس ويخفى عليهم أنها ترجع لمسألة نص عليها الفقهاء منذ القدم ويمكن أن ينزل الحكم عليها ، أو قد يكون في المسألة خلاف مشهور ينبغي التنبيه اليه وذكره.
مع ملاحظة أن الترتيب لمسائل هذا البحث غير مقصود ، ولم يراعى في ذلك أهمية المسألة أو واقعيتها ، أو مدى الحاجة إليها .
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفق كاتبه وقارئة لتحري الكسب الحلال وإطابة المطعم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد
فهد بن محمد الحميزي
Fahad442@maktoob.com
آلية بحث المسائل الفقهية النازلة
* كيف تبحث عن القضايا الفقهية المعاصرة :
1 - أولاً تبحث في الكتب القديمة لاحتمال وجود سوابق فقهية ونوازل أفتى فيها المفتون مثل :
كتب الفقهاء بلا استثناء وكذلك كتب الفتاوي لما تحتويه من نوازل وأسئلة تحاكي المجتمع نحو :
* فتاوى ابن رشد - الفتاوى الهندية - فتاوى ابن الصلاح - فتاوى النووي - فتاوى السبكي - فتاوى ابن بدران والذي تكلم فيها عن حكم الشركات المساهمة وحوالة النقد بالبريد وأحكام العملة في كتابه : العقود الياقوتية .(4/180)
* وقد تكون هناك مسألة قريبة منها فيستفاد منها ، فبعض القضايا الطبية المعاصرة استفادها بعض العلماء المعاصرين من بعض الفتاوى القريبة : كجواز أكل المضطر لقطعة لحم من جسمه ، حيث استأنس بها للوصول إلى حكم زرع الأعضاء .
2 - البحث في قرارات المجامع الفقهية والندوات الفهية المتخصصة ، مثل :
... - مجلة مجمع الفقه الإسلامي التي تصدر في جدة .
... - أعمال ندوات بيت التمويل الكويتي وبنك البركة .
... - مجلة الاقتصاد الإسلامي والتي تصدر في دبي .
... - مجلة البحوث الفقهية التي تصدر في الرياض .
... - مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي التي تصدر في جدة . وغيرها كثير .
مفاتيح البحث :
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إعلام الموقعين :
" ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به مسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد ، إلى ملهم الصواب ، ومعلم الخير وهادي القلوب أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة ، فمتى قرع هذا الباب قرع باب التوفيق "
ويقول ابن العربي عن تفسير قوله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " . . قال : ( هذه الآية من قواعد المعاملات وأساس المعاوضات ) .
الأصل في المعاملات الإباحة ، وقد نبه الإمام ابن تيمية إلى أساس فساد العقود في المعاملات وإرجاعها إلى أمرين وهما :
1 - الربا وما يؤدي إليه .
2- وما في معاناة كالغرر الفاحش . قال رحمه الله : " إن عامة ما نهي عنه في الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم : دقة وجله ، مثل أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر ، وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم : مثل بيع الغرر وبيع حبل الحبلة وبيع الطير في الهواء .
فقه المعاملات مبني على مراعاة العلل والمصالح :
فالمعاملات ليست كالعبادات توقيفية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر في حين وجدنا من الفقهاء من أجاز من البيوع ما فيه غرر لا يفضي عادة إلى النزاع .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المعدوم ، في حين وجدنا الفقهاء أجازوا عقد الاستصناع، وذلك لحاجة الناس إليه وجريان العمل به .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه بيع المرابحة للآمر بالشراء :
" ومن أقل ذلك لا يجد الفقيه المسلم المعاصر حرجاً دينياً من البحث عن العلة أو الحكمة أو الهدف من وراء النهي في الحديث : ( لا تبع ما ليس عندك ) . - رواه الترمذي في سننه وهو حسن - فقد يظهر له أن المقصود به سد الذرائع إلى التنازع ولا سيما أن السوق في المدينة في ذلك الوقت كانت محدودة ، فإذا تصورنا الآن أن الوضع مختلف وأن التاجر الآن يستطيع بواسطة الهاتف أو التلكس الاتصال بأسواق العالم . . فقد نجد أن المقصود هنا من النهي غير متحقق وأن الشيء المحذور هنا هو العجز عن التسليم ، والنزاع مأمون " .
عمر بن الخطاب كان من أفهم الصحابة في استعمال الرأي وذلك بفضل ما أوتي من نفاذ بصيرة ورجاحة عقل وجودة رأي .
فمن آرائه :
1 - منع إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة لزوال مقتضى الاستحقاق .
2 - لم يقطع يد السارق عام المجاعة لشبهة الإضطرار .
3 - حرم المعتدة تحريماً مؤبداً على من تزوجها في العدة ، لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه .
ينبغي أن نعرف أنه ستواجه الباحث والقارئ في كتب الفقه بعض الاحتمالات المبالغ فيها ومن الطرائف في التوسع في الافتراضات والتخريجات أن رجلاً عراقياً سأل عن وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست هذه البيضة عنده ، أيأكله ؟ فقال مالك : سل عما يكون ودع مالا يكون .
مسائل البحث
* المسألة الأولى : بيع العربون :
قال بعض العلماء : وأصل العربون التقديم والتسليف .
ـ الآثار الواردة فيه :
* عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان . قال الشوكاني : " الحديث منقطع " .
* أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سئل رسول الله عن العربان في البيع فأحله . قال الشوكاني : " هو مرسل " .
- منع العربون جمهور العلماء . وأجازه من الصحابة عمر وابنه عبد الله ، والإمام أحمد ، ومن المعصرين مصطفى الزرقاء .
ومن حجج المانعين :
1 - أنه أكل لأموال الناس بالباطل .
2 - وأن فيه شرط شيء للبائع بغير عوض فلم يصح .
وأجيز لعدم ثبوت النهي عن بيع العربون .
فائدة : لماذا أجازه الحنابلة ولم يجزه الجمهور :
- لأن مذهبهم في الشروط أوسع من المذاهب الأخرى .
في المملكة العربية السعودية قضايا الأحوال الشخصية والبيوع تحال إلى الشرع وممكن أن يلزم بالبيع .
وفي القانون المصري: إذا عدل البائع عن بيع السلعة رد العربون مضاعفاً .
* المسألة الثانية: حكم بيع التلجئة :
بيع التلجئة: هو أن يتظاهر أو يتواطأ شخصان على إبرام عقد صوري بينهما إما بقصد التخلص من اعتداء ظالم على بعض الملكية ،أو بإظهار مقدار بدل أكثر من البدل الحقيقي ابتغاء الشهرة و السمعة أو لتغطية إسم الشخص الذي يعمل لمصلحته باطنا (الإسم المستعار).
و من بيع التلجئة : إظهار بعض العقود الصورية تخلصا من الضرائب. والمواطئة في بيع التلجئة قد تكون في أحد ثلاثة:
1) ... أصل العقد: أن يخاف إنسان إعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فرارا منه، و مثله بيع المدين أمواله لتهريبها من وجه الدائنين.
2) ... مقدار البدل: زيادة الثمن في عقد بيع العقار لمنع الشفيع من الأخذ بالشفعة.
3) ... الشخص: تواطؤ اثنين على إخفاء وكالة سرية في عمل معين.
و قد اختلف أهل العلم في حكم بيع التلجئة على قولين :
القول الأول : أن عقد التلجئة فاسد غير صحيح ، وهذا هو قول الجمهور من الأحناف و المالكية و الحنابلة
و حجتهم :
(1) ... أن العاقدين ما قصدا البيع، فشرط الرضا غير متحقق في هذه المبايعة
(2) ... أن العبرة في العقود بالمعاني و المقاصد لا بالألفاظ، بدليل أن الشارع نهى عن الحيل المحرمة مع أن ظاهرها الجواز، لأن المقصود منها التحايل على المحرم
القول الثاني : أن عقد التلجئة صحيح و نافذ ، وهذا هو قول الشافعية
و حجتهم : أن البيع تم بأركانه و شروطه، و أتي باللفظ مع قصد و اختيار خاليا عن مقارنة مفسد
و الصحيح هو القول الأول، لقوة أدلته، لكن ينبغي أن يعلم أنه لابد لمن ادعى أن العقد كان عقد تلجئة أن يأتي ببينة على ذلك .
فائدة: الشافعية في عموم مسائل العقود يغلبون الظاهر على الباطن، أي يجعلون العبرة بما تلفظ به العاقدان لا بما قصداه، و لهذا أجازوا العينة، و بعض الحيل الربوية، و اشترطوا أن يكون البيع بصيغة قوليه ... الخ، و هذا يمر عليك كثيراً في المسائل الخلافية .
* المسألة الثالثة : بيع الوفاء :
هو أن يبيع شخص عيناً لشخص بثمن معين إلى أجل أو بالدين الذي عليه له على أنه متى رد الثمن على المشتري أو أدى دينه لزم البائع رد البيع إليه وفاءً .
ومثاله : أن يقول البائع للمشتري : بعتك هذه الدار بشرط ردها إلي متى رددت لك الثمن .
- سماه الشافعية : الرهن المعاد . وسمي في مصر ( بيع الأمانة ) وفي الشام ( بيع الإضاعة ) .
تكييفه الفقهي : هو من ناحية الصورة من الظاهر يشبه البيع بشرط خيار الشرط عند الحنابلة على الانتفاع بالقرض ، ليأخذ غلّة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقرض بالثمن .(4/181)
والصحيح : عدم جوازه لأن المقصود منه في الحقيقة إنما هو الربا بإعطائه دراهم إلى أجل ومنفعة العقار هي الفائدة .
*المسألة الرابعة : بيع المرابحة ( المواعدة ) :
حقيقته : بيع السلعة بثمنها المعلوم بين المتعاقدين بربح معلوم بينهما فيقول البائع : رأس مالي فيها / 100 / ريال ، وأبيعكها وربح / 10 / ريال . فهذا البيع بصورته الحالية جائز .
لكن هل هذه الصورة هي الموجودة في المصارف الإسلامية الآن ؟ وصورته : تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد .
ويسمى الوعد التجاري ، بدأ الدارسين يبحثون هل الوعد ملزم أم غير ملزم .
وأصل المسألة تخرج على حديث " لا تبع ماليس عندك " ، وما سلّم من الباحثين إلا الشيخين ابن باز ومحمد الأشقر
لكن هل إذا أخلف الواعد وعده هل يلزم أم لا :
المسألة فيها ثلاثة أقوال :
1 – يلزم بالوفاء .
2 – لا يلزم .
3 – التفصيل .
فإذا دخل الواعد بوعده في ورطة لزم الوفاء ، ومثاله : من قال لرجل تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفع عنك فتزوج على هذا الأساس فقد احتمل الوعد ورطة فيلزم الوفاء به .
صورتها في الصرف : لها ثلاثة صور :
1 – يقول العميل اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل بربح . ( غير ملزم ولم يذكر الربح ) .
2 – اشتروا هذه السلعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها : وسأربحكم مثلاً ألف ريال . ( الربح هنا محدد )
3 – اشتروا هذه السلعة لأنفسكم ويلتزم بشرائها بمقدار معلوم . " فهذه الصورة باطلة ومحرّمة "
وأمّا الصورتين الأولى والثانية فتصح بشروط :
1 – خلوّها من التزام بإتمام البيع .
2 - خلوّها من التزام بضمان هلاك السلعة .
3 – أن لا يقع العقد المبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها .
*المسألة الخامسة : بيع التصريف :
صورته : أن يعطي صاحب العين ( البضاعة ) للبائع لكي يبيع على التصريف ويسلمه المبلغ لكل بضاعة تم بيعها .
حكمه : علماء الحنابلة يرون عدم جواز هذا البيع في احدى الروايتين . ويقولون أن فيه شرط فاسد . وفيه حديث بريرة حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة " ابتاعيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق "
قال شيخ الإسلام : " فإن ثبوت الولاء للمعتق لا يحتاج إلى اشتراطه بل هو إذا أعتق كان الولاء له ، سواء شرط ذلك على البائع أو لم يشترط ...لكن إن كان المشترط يعلم أنه شرط محرم لا يحل اشتراطه فوجود اشتراطه كعدمه " .
فكل واحد من البائع والمشتري لا يدري ماذا سينصرف من هذه البضاعة ، فتعود المسألة إلى الجهالة ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر وهذا لا شك أنه من الغرر .
وقد يكون من بيع ما لا يملك .
قال ابن قدامة في "المغني" : (6/325)
" إذا اشترط إن نَفَقَ المبيع وإلا رده فهو شرط فاسد . وهل يفسد به البيع ؟ على روايتين ; قال القاضي : المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح . وهو قول الحسن , والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى , وأبي ثور . والثانية : البيع فاسد . وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأنه شرط فاسد , فأفسد البيع " انتهى بتصرف واختصار
ومعنى (نفق المبيع) أي إن باعه ، وهو صورة البيع على التصريف .
ولكن إذا كان لابد أن يتصرف الطرفان فليعط صاحب السلعة بضاعته إلى الطرف الآخر ليبيعها بالوكالة ، وليجعل له أجراً على وكالته فيحصل بذلك المقصود للطرفين فيكون الثاني وكيلاً عن الأول بأجرة ولا بأس بذلك
وقد سألت الشيخ د / خالد بن علي المشيقح حفظه الله عن الحكم الشرعي في بيع التصريف ، هل هو من البيوع الفاسدة ؟
فأجابني بتاريخ 7 / 1 / 1426 هـ برسالة مكتوبة عبر البريد الاكتروني نصها : ( بيع التصريف أن يقول المشتري إن ذهبت السلعة وإلا أردها عليك ، وهذا شرط باطل عند العلماء . قال النبي عليه الصلاة والسلام : "الخراج بالضمان " ومقتضى ذلك أن المشتري له خراج السلعة من الربح والنماء كالولد واللبن والصوف .. وغير ذلك فعليه الضمان من الخسارة عند عدم رواجها ونفاقها عند الناس ، والأمر في سلعة البائع سهل فيمكن للمشتري أن يشترط على البائع أن يكون وكيلاً له فيأخذ منه ويبيعها له ويعطيه ، ويتفقان أن له واحداً في المائة مثلاً ، أو له اثنين في المائة ، أو لا يحسب عليه شيئاً من المال .. ألخ ، فإذا كان المشتري وكيلاً لصاحب الشركة أو المؤسسة كصاحب البقالة مثلاً ويبيع له ثم بعد ذلك يعطيه بعض الشيء فإن هذا جائز ولا بأس به – إن شاء الله – والله أعلم ) .
*المسألة السادسة : بيع الأنموذج :
بيع الأنموذج أن يريه عينة من السلعة ويبيعه إياها على أنها من جنسها دون أن يصفها.
وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
فذهب الشافعية والحنابلة إلى تحريمه لأنه من الغرر.
وذهب الأحناف والمالكية إلى جوازه لأن ضبط الأنموذج كذكر الصفات
ومن بيع الأنموذج:عرض صورة للسلعة دون وصفها .
وعلى ذلك فيصح شراء السلع المعروضة عبر الأنترنت أو التلفزيون اكتفاء بصورتها دون الحاجة إلى وصفها.
*المسألة السابعة : بيع الوكيل لنفسه :
المعتمد عند الشافعي أن الوكيل لا يجوز أن يبيع ما وكّل به من نفسه ولنفسه قال ابن قدامة في العدة : وليس للوكيل أن يفعل إلا ما تناوله الإذن لفظاً أو عرفاً وليس له الشراء من نفسه ولا البيع لها إلا بإذن الوكيل وهناك وجه أنه يجوز له .
ولكن لو انتفت التهمة والمحاباة جاز للحاجة إليه . كما لو وكّل أحد في البيع في محل خضار . . ألخ .
ومن الصور الواقعية لهذه المسألة ما يقوم به السماسرة في بيع الأسهم، حيث يتوكل السمسار بيع الأسهم فيبيعها لنفسه
وقد اختلف العلماء في حكم شراء الوكيل من نفسه و مثله (الوصي و الولي و الناظر على الوقف) على قولين:
1- أن البيع لا يصح. وهذا قول الأحناف و الشافعية و رواية عند الحنابلة، وعلى هذا القول لا يصح البيع و لو علم الموكل و حجتهم:
1- ... أن للبيع حقوقاً متضادة مثل" الإستلام و التسليم و المطالبة بتسليم المبيع و قبض الثمن و الرد بالعيب و الخيارات" و تستحيل أن تتوفر جميعها في الشخص في زمن واحد.، و يتنافى الغرضان في بيعه نفسه، لأنه بحكم كونه بائعا يطلب زيادة الثمن،و بحكم كونه شاريا يطلب نقصانه، فلم يحز.
2- ... ولأنه تلحقه تهمة بذلك.
2- أن البيع صحيح بشرط أن تنتفي التهمة عن الوكيل بأن يعلم الموكل بذلك و يأذن به، أو يزيد الوكيل على ثمن السلعة في النداء، أي يشتريها بأحسن من ثمن مثلها أو يبيعها للموكل بأقل من ثمن مثلها. وهذا مذهب المالكية و رواية عند الحنابلة و أدلتهم:
3- ... أن الأصل في البيوع الحل و لا دليل على تحريم هذه الصورة من البيع.
4- ... لأنه قد يكون في شراء الوكيل من نفسه مصلحة للموكل، إذ قد لا تطلب السلعة بمثل الثمن الذي عرضه الوكيل.
و الراجح والله أعلم القول الثاني، و يتحقق إذن الموكل إما بالنص الصريح أو الإذن العرفي، كما لو تعارف التجار على أن الوكيل سيبيع و يشتري من نفسه فهذا إذن عرفي.
و أما ما استدل به أصحاب القول الأول فيناقش بأن التهمة تنتفي عن الوكيل إذا أذن الموكل أو زاد في ثمن السلعة، وكونه بائعا مشتريا في آن واحد ممكن لأن الذمة تتبعض في الفقه الإسلامي.
*المسألة الثامنة : السفتجة :
السفتجه : هي أن يعطي مالاً لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر .
الشيخ الدكتور / عمر المترك رجّح في كتابه الربا والمعاملات المصرفيه أن الحوالة التي في المصارف الآن هي داخلة تحت مسألة السفتجة .(4/182)
بعد أن ذكر أنه يمكن تكييفها على عدة أوجه :
1 – أنها حوالة
2 – أنها إجارة على إرسال النقود .
3 – أنها شبيهة بالسفتجة . إلا أنه تفترق عنها أن السفتجة لا يتقاض الآخذ أجراً عادة اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفرة وأما في المصرف يتقاضى أجراً يسمى عمولة من طالب التحويل .
- أما لو أحال نقوداً ريالات طالباً تسليمها له جنيهات مصرية في مصر أو ليرات في سورية فإن هذه العملية مركبة من صرف وتحويل . ومن شروط صحة الصرف : التقابض في مجلس العقد ولا تقابض في هذا الصرف وهي غير جائزة خروجاً من شبهة الربا . ولجوازه وجه عند بعض أهل العلم .
*المسألة التاسعة : الحطيطة :
الحطيطة : هي الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً .
وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً وهو رواية عن أحمد . واختار صحتها ابن القيم .
دليل الصحة : ما روي عن عباس قال : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاءه أناس منهم فقالوا : يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لهم تحل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ضعوا وتعجّلوا " .
*المسألة العاشرة : البيع والشراء عن طريق الإنترنت :
لايخلو البائع عن طريق الانترنت من إحدى حالين :
الحال الأولى : أن يكون مالكاً للسلعة أو وكيلاً في بيعها ، فيجوز الشراء منه في هذه الحال سواء أكان التسليم مؤجلاً أو حالاً ، وسواء أكان الثمن منقوداً ، أو مؤجلاً ، ولكن لايجوز أن يكون كل من التسليم والثمن مؤجلاً ، لئلا يكون من الكالئ بالكالئ .
الحال الثانية : ألايكون البائع مالكاً للسلعة ولا وكيلاً ، فيجوز الشراء منه إذا كان التسليم مؤجلاً ، بشرط أن يكون الثمن حاضراً .
وهاهنا عدة ملاحظات :
الأولى : أن الغالب فيمن يبيع عن طريق الانترنت أنه موكل إما صراحة أو عرفاً .
الثانية : أنه ينبغي أن يفرق بين طلب الشراء ، والشراء نفسه ، فطلب الشراء ليس شراء بل هو وعد ، وفرق بين الوعد والعقد ، فالوعد بالبيع يجوز ولو قبل امتلاك السلعة .
ومن العلامات التي يتبين بها طبيعة التصرف هل هو وعد أم عقد ما يلي :
1. ... أن يعطي المشتري رقم البطاقة الائتمانية للبائع ، فهذا عقد وليس بيعاً .
2. ... أن يعطي المشتري بريده الإلكتروني للبائع لإخطاره عند توفر السلعة ، فهذا وعد وليس عقداً .
الثالثة : في الشراء عن طريق الانترنت يعد تسجيل رقم البطاقة إيجاباً من المشتري ، وموافقة جهة البيع يعد قبولاً ، وهذا التكييف يشمل الشراء المباشر ، أو عن طريق المزاد أو المناقصة العلنية .
*المسألة الحادية عشرة : المسابقات التجارية :
المسابقات التجارية على نوعين :
النوع الأول:مسابقات يكون الاشتراك فيها بلا عوض.
أي أن قسيمة الاشتراك في المسابقة تبذل للمتسابقين مجانا، فهذه اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين:
القول الأول:تحريم الاشتراك فيها،وممن اختار هذا القول سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله واللجنة الدائمة للافتاء بالمملكة.
استدل أصحاب هذا القول بما يلي :
1-ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لاسبق إلا في نصل أوخف أوحافر)أخرجه الخمسة
السبق:بفتح السين والباء هو مايوضع للمتسابق من جعل.
النصل:أي السهم و الخف كناية عن الإبل و الحافر كناية عن الخيل.
2-ولأن هذه المسابقات تتضمن غرراً لأن المشترك لايعلم هل سيحصل على الجائزة أم لا.
القول الثاني:جواز الدخول في هذه المسابقات،وهذا رأي الشيخ ابن عثيمين.
استدل أصحاب هذا القول بما يلي :
أن الأصل في البيوع الحل ولا دليل على االتحريم.
وأما حديث أبي هريرة فالمراد به لاسبق أولى من السبق الكائن في هذه الأشياء المذكورة بدليل جواز الجعالة في غير الأشياء المذكورة.
وأما الغرر الذي في هذه المعاملات فهو غير مؤثر لأنه في عقد تبرع لافي عقد معاوضة وقد سبق أن من شروط الغرر أن يكون في عقد معاوضة.
ملاحظة:
ألحق بعض الفقهاء بالثلاثة المذكورة في الحديث كل ما كان معيناً على الجهاد كالبنادق والطائرات ونحو ذلك ،قالوا لأن الحكمة من التنصيص على هذه الأمور الثلاثة كونها من أدوات الجهاد فيلحق بها كل ما كان معينا على الجهاد ،بل ألحق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم المراهنات في المسائل العلمية لأن الجهاد كما يكون بالسنان يكون باللسان بدليل قول الله تعالى: (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) ومعلوم أن جهاد المنافقين بالعلم والبيان،وهذا هو الصحيح، ويؤيده الرهان الذي وقع بين أبي بكر - رضي الله عنه - وكفار قريش في انتصار الروم على الفرس.
النوع الثاني: المسابقات التي يكون الاشتراك فيها بعوض
فهذه لاخلاف بين أهل العلم على تحريمها حتى ولو كان العوض يسيراً، لأنها من الميسر، ولأن فيها غرراً ظاهراُ، لأن المشترك يدفع قيمة الاشتراك وقد يربح الجائزة فيكون غانماً، وقد لايربح شيئاُ فيكون غارماُ.
فإن كانت المسابقة لاقيمة لها بنفسها لكن الدخول فيها مشروط بشراء سلعة ونحوذلك مثل أن تكون المسابقة منشورة في جريدة أو ملصقة على منتج ومن شرط الدخول فيهاشراء ذلك المنتج ،فهنا يجوز الدخول في المسابقة حتى ولوزادت قيمة المنتج بسبب وجود المسابقة،لأن هذه المعاملة وإن تضمنت غرراً لكنه غرر غير مؤثر لأنه تابع،ومن شرط الغرر كما تقدم أن يكون مقصوداًفي العقد لاتابعاً،لكن يشترط لذلك أن يكون المشتري محتاجاًفعلاً لتلك السلعة، أما إن اشترى السلعة لأجل المسابقة وهو لايحتاج السلعة فهنا يحرم شراؤه لأن المال المبذول قصد منه الجائزة وهي غير محققة.
تنبيه:
تلجأبعض المحلات إلى تضمين مسابقاتها التجارية أسئلة علمية تمشياً مع القول الذي يرى جواز المراهنات والمسابقات مطلقاً في المسائل العلمية أي سواء كانت بعوض من أحد المتسابقين أو منهما معاوهو قول ابن تيمية كما تقدم، فهل هذا الإجراء يحلل المسألة؟
الأقرب والله أعلم أنه لايحللها لأن المقصود من هذه المسابقة في الواقع التسويق وليس التعليم.
*المسألة الثانية عشرة : عقد المضاربة :
من أفضل التعاريف وأشملها لقد المضاربة : تعريف الشيخ عبد الله الخاطر حيث قال :
المضاربة عقد يتضمن دفع مال خاص – وما في معناه – معلوم قدره ونوعه وصفته من جائز التصرف لعاقل مميز رشيد يتجر فيه بجزء مشاع معلوم من ربحه له .
- ويتميز عن الشركة من حيث أن فيها مضارباً ( شريك بعملة ) .
- ويمكن أن يتعدد أرباب المال أو المضاربون .
- مثاله :
الشركة الإسلامية للإستثمار الخليجي بالشارقة : طرحت صكوك المضاربة والقروض الإسلامية ، وهي صكوك للتداول قيمة الصك 1000 دولار لمدة خمس سنوات ( والعقدعليه بعض الملاحظات ) .
مسألة :
تأجير المحل للعامل بأن يعطي صاحب المحل مبلغاً متفقاً عليه ما حكمه :
هذا العمل محرم . إذا كان على كفالته . لأنه بمثابة الأجير فكيف يتفق معه وهو أجير عنده فهي ليست إجازة وليست مضاربة إنما مضاربة فاسدة . وفيها مخالفة لولي الأمر . ولأن فيه جهالة وغرر فما يعلم صاحب البضاعة ما بيع منها مما لم يبع وما قيمته ..
المضاربة في الأسهم :
* المضاربة في الأسهم صحيحة باعتبارها عروض تجارة بذاتها بغض النظر عما تمثله من موجودات الشركة.
* أما المضاربة بالأسهم باعتبار ما تمثله من موجودات الشركة فغير صحيح.
* وعلى القول الراجح في تكييف السهم أنه يمثل الاعتبارين السابقين ينتج من ذلك عدم جواز المضاربة بالأسهم
*المسألة الثالثة عشرة : التورق :(4/183)
تعريفه : هو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ، ثم بيعها نقداً بثمن أقل ، ليحصل على النقد ، فإن باعها إلى البائع نفسه فهي العينه ، وإن باعها إلى غيره فهو التورق .
- ... ومن مسمياته في المصارف : المرابحة والإجارة التحويلية .
- ... وكثير من الحيل الربوية ترتد بالفحص والتمحيص إلى العينة أو القرض الربوي .
- ... وفيه قولان :
1 – الجواز : وهذا رأي هيئة كبار العلماء . والمجمع الفقهي .وقال به الحنابلة بشرط أن لا يكون له في السلعة حاجة ، بأن يكون مقصود المشتري التجارة والانتفاع بالسلعة .
2- عدم الجواز . قال عمر بن عبد العزيز : التورق أخيه الربا .
3 – وهناك قول ثالث محدث ووسط بين القولين قال به توفيق يونس من المعاصرين . وهو إجازة التورق بشرط ألا يعلم الطرفان الآخران بمراده وهو لجأ إلى التورق لكونه مضطر .
- الفرق بين التورق وبين العينة :
العينة فيها طرفان ، وأما التوريق ففيه ثلاثة أطراف .
*المسألة الرابعة عشرة : التأمين التجاري:
التأمين : هو عقود المعاوضات المالية الاجتماعية المشتملة على الغرر الفاحش لأن التأمين لا يستطيع أن يعرف وقت العقد ومقدار ما يعطي أو يأخذ ، وهذا العقد يشتمل على ربا الفضل والنسيئة .
فإن الشركة إذا دفعت للتأمين أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل ، و المؤمن – بكسر الميم - ( الشركة ) يدفع ذلك للتأمين بعد مدّة فيكون بالنسيئة وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل مادفعه لها يكون ربا نسيئة فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع .
. الفرق بين التأمين التجاري والتعاوني :
لقد ذكر الفقهاء المعاصرون عدة فروق، وتكمن أبرزها فيما يلي:
الفرق الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار ، فالأقساط المقدمة من حملة الوثائق في التأمين التعاوني تأخذ صفة الهبة (التبرع).
أما التأمين التجاري فهو من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية .
الفرق الثاني: أن التعويض في التأمين التعاوني يصرف من مجموع الأقساط المتاحة.فإذا لم تكن الأقساط كافية في الوفاء بالتعويضات طلب من الأعضاء زيادة اشتراكاتهم لتعويض الفرق. وإذا لم يمكن زيادة الاشتراكات للوفاء بالتعويض لم يقع التعويض ، إذ ليس هناك التزام تعاقدي بالتعويض. أما التأمين التجاري فهناك التزام بالتعويض مقابل أقساط التأمين. ويترتب على هذا الالتزام تحمل الشركة لمخاطرة الأصل المؤمن عليه دون سائر المستأمنين. ولذا كان الهدف من العقد هو المعاوضة، ولكن هذه المعاوضة لا تسمح بربح الطرفين، بل إن ربحت الشركة خسر المستأمن وإن ربح المستأمن خسرت الشركة. فهي معاوضة تتضمن ربح أحد الطرفين مقابل خسارة الآخر ولابد وهذا أكل المال بالباطل.
الفرق الثالث: في التأمين التجاري لا تستطيع الشركة أن تعوض المستأمنين إذا تجاوزت نسبة المصابين النسبة التي قدرتها الشركة لنفسها، أما في التأمين التعاوني، فإن مجموع المستأمنين متعاونون في الوفاء بالتعويضات التي تصرف للمصابين منهم، ويتم التعويض بحسب المتاح من اشتراكات الأعضاء.
فالمستأمن في التأمين التعاوني لا ينتظر مقداراً محدداً سلفاً إذا وقع الخطر، وإنما ينتظر تضافر قرنائه بتعويضه بحسب ملاءة صندوق التأمين وقدرة الأعضاء على تعويضه. فالطمأنينة التي يشعر بها المستأمن تعاونياً نابعة من شعوره بوقوف الآخرين معه، وليس من عوض محدد بمقتضى التزام تعاقدي غير صادق في حقيقته، كما هو الحال في التأمين التجاري.
الفرق الرابع: أن التأمين التعاوني لا يقصد منه الاسترباح من الفرق بين أقساط التأمين التي يدفعها المستأمنون وتعويضات الأضرار التي تقدمها الجهة المؤمِّن لديها بل إذا حصلت زيادة في الأقساط المجبية عن التعويضات المدفوعة لترميم الأضرار ترد الزيادة إلى المستأمنين.
بينما الفائض التأميني في التأمين التجاري يكون من نصيب الشركة.
الفرق الخامس: المؤمِّنون هم المستأمنون في التأمين التعاوني، ولا تستغل أقساطهم المدفوعة لشركة التأمين التعاوني إلا بما يعود عليهم بالخير جميعاً. أما في شركة التأمين التجاري فالمؤمِّن هو عنصر خارجي بالنسبة للشركة، كما أن شركة التأمين التجاري تقوم باستغلال أموال المستأمنين فيما يعود عليها بالنفع وحدها.
الفرق السادس: شركة التأمين التعاوني هدفها هو تحقيق التعاون بين أعضائها المستأمنين، وذلك بتوزيع الأخطار فيما بينهم، أي بمعنى ما يشتكي منه أحدهم يشتكون منه جميعاً. وبمعنى آخر أنها لا ترجو ربحاً وإنما الذي ترجوه تغطية التعويضات والمصاريف الإدارية. وعلى العكس من ذلك فإن شركة التأمين التجاري هدفها الأوحد هو التجارة بالتأمين والحصول على الأرباح الطائلة على حساب المستأمنين.
الفرق السابع: في شركة التأمين التعاوني تكون العلاقة بين حملة الوثائق وشركة التأمين على الأسس التالية:
أ- يقوم المساهمون في الشركة بإدارة عمليات التأمين، من إعداد الوثائق وجمع الأقساط، ودفع التعويضات وغيرها من الأعمال الفنية، في مقابل أجرة معلومة وذلك بصفتهم القائمين بإدارة التأمين وينص على هذه الأجرة بحيث يعتبر المشترك قابلاً لها .
ب- يقوم المساهمون باستثمار( رأس المال) المقدم منهم للحصول على الترخيص بإنشاء الشركة، وكذلك لها أن تستثمر أموال التأمين المقدمة من حملة الوثائق، على أن تستحق الشركة حصة من عائد استثمار أموال التأمين بصفتهم المضارب.
ج- تمسك الشركة حسابين منفصلين، أحدهما لاستثمار رأس المال، والآخر لحسابات أموال التأمين ويكون الفائض التأميني حقاً خالصاً للمشتركين ( حملة الوثائق).
د- يتحمل المساهمون ما يتحمله المضارب من المصروفات المتعلقة باستثمار الأموال نظير حصته من ربح المضاربة، كما يتحملون جميع مصاريف إدارة التأمين نظير عمولة الإدارة المستحقة لهم
ه- يقتطع الاحتياطي القانوني من عوائد استثمار أموال المساهمين ويكون من حقوقهم وكذلك كل ما يتوجب اقتطاعه مما يتعلق برأس المال..
بينما العلاقة بين حملة الوثائق وشركة التأمين، في التامين التجاري، أن ما يدفعه حملة الوثائق من أموال تكون ملكاً للشركة ويخلط مع رأس مالها مقابل التأمين. فليس هناك حسابان منفصلان كما في التأمين التعاوني.
الفرق الثامن: المستأمنون في شركات التأمين التعاوني، يعدون شركاء مما يحق لهم الحصول على الأرباح الناتجة من عمليات استثمار أموالهم.
أما شركات التأمين التجاري فالصورة مختلفة تماماً؛ لأن المستأمنين ليسوا بالشركاء، فلا يحق لهم أي ربح من استثمار أموالهم، بل تنفرد الشركة بالحصول على كل الأرباح.
الفرق التاسع: شركات التأمين التعاوني لا تستثمر أموالها في النواحي التي يحرمها الشرع.
وعلى النقيض من ذلك فشركة التأمين التجاري لا تأبه بالحلال والحرام.
الفرق العاشر: في التأمين التعاوني لابد أن ينص في العقد على أن ما يدفعه المستأمن ما هو إلا تبرع وأنه يدفع القسط للشركة لإعانة من يحتاج إليه من المشتركين. أما في التأمين التجاري لا ترد نية التبرع أصلاً، وبالتالي لا يذكر في العقد.
*المسألة الخامسة عشرة : من صور القمار والميسر:
1 – أوراق اليانصيب والتي تشترى بمبالغ مالية محددة من أجل توقع الحظ بالفوز .
2 – المراهنة من الطرفين وجعل جُعل معيناً أو مبلغاً في حالة الربح والخسارة .
3 – الأموال التي تنفق على الشراء من متجر ليس بغرض الحاجة للشراء ولكن بقصد الدخول على سحوبات جوائز وغيرها .(4/184)
*المسألة السادسة عشرة : حكم بطاقات التخفيض :
بطاقات التخفيض على نوعين:
بطاقات تخفيض مجانية
وهي التي تمنحها بعض المحلات لبعض زبائنها مجانا، فهذه يجوز الاشتراك بها لأنها وإن كان فيها نوع من الغرر إلا أنه غرر معفو عنه لأن العقد هنا تبرع وليس معاوضة وقد سبق أن من شروط الغرر المؤثر أن يكون في عقد معاوضة.
ولكن قد يرد التحريم من جهة أخرى وذلك فيما لو كان الشخص المهدى إليه موظفا وكانت الجهة المهدية تتعامل مع الجهة التي يعمل بها، مثل أن يكون موظفا في الجمارك أو الجوازات أويكون مدرساً لصاحب المحل أو قريبه أويرجو منه صاحب المحل منفعة ونحوذلك فيحرم في هذه الحالة قبول الهدية لأنها رشوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(هدايا العمال غلول).
ملاحظة:
من النوع الأول من بطاقات التخفيض أيضاً ماإذا كان المحل يمنح البطاقة مجاناُ لمن يشتري منه بمبلغ معين ،أوأن المحل يعطي خصماً فورياً(بدون بطاقة) لمن تزيد مشترياته عن كذا وكذا،فكل هذه الصور جائزة.
بطاقات تخفيض بعوض:
وهذه البطاقات قد تكون ثلاثية الأطراف وقد تكون ثنائية، فالثنائية مثل بطاقة السامس كلوب مثلا،والثلاثية مثل بطاقة المستثمر الدولي ،وصورتها أن تقوم شركة ببيع بطاقات تخفيض يستفيد منها المستهلك بالحصول على تخفيض من عدد من المحلات والمطاعم والفنادق.
وقد اختلف العلماء المعاصرون فيها على قولين:
القول الأول :التحريم:
وهذا هو رأي اللجنة الدائمة للافتاء بالمملكة وعدد من العلماء المعاصرين منهم ابن باز وابن عثيمين وغيرهم.
استدلوا:
1-بأن فيها أكلاً للمال بالباطل لأن البائع يأخذ قيمتها بغير عوض وقد لايستفيد المشتري منها.
2-ولما فيها من الغرر فإن المشتري لايعرف تحديداً مقدار الخصم الذي سيحصله والبائع كذلك،فلو فرضنا أن البطاقة بمائة واستخدمها المشتري فحصل على خصم يبلغ 200،فيكون المشتري غانماً والبائع غارماً،اما لوكان مقدار الخصم الذي حصل عليه خلال مدة الاشتراك مثلاً 50فقطفيكون البائع غانما والمشتري غارما،وبهذا يكون العقد دائراًبين الغنم والغرم.
القول الثاني:جواز هذه البطاقات.
استدلوا بما يلي:
1-أن الأصل في المعاملات الحل فلا ينتقض هذا الأصل إلابدليل صحيح صريح.
2-وأما الغرر الذي في المعاملة فهو غير مؤثر لأنه لايسبب ضررا على أي منهما أما البائع فإنه رابح على كل حال سواء اشترى المشتري بالبطاقة أوبدونهالأن المحلات تضع هامش ربح حتى في حال استخدام البطاقة،نعم يتصور الضرر لو كان البائع يبيع السلعة على صاحب البطاقة بأقل من رأس ماله فيها لكن هذا غير واقع ،وأما المشتري فالبطاقة بيده فمتى شاء استخدمهاوهذا كما لو استأجر سيارة فقد يستعملها طيلة فترة الإجارة وقد لايستخدمها إلا للحظات معدودة ولايعد ذلك غررا،وكذلك البيت قد يستأجرها سنة فلا يحتاج للسكنى فيها إلا أياماً وقد يسكنها طيلة السنه.
والراجح والله أعلم هو القول الثاني لأن من شروط الغرر المؤثر أن يكون فيه ضرر وهذه البطاقات لاضرر فيهاوأما المال الذي أخذه البائع فهو ليس من أكل المال بالباطل لأن المشتري يأخذ عوضاُ عته نسبة الخصم المتفق عليها.والله أعلم
*المسألة السابعة عشرة : بطاقة الإئتمان :
هي البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من السلع أو الخدمات ديناً .
يدخل الربا في بطاقات الائتمان حينما يفرض مصدرها غرامات مالية على التأخير في السداد أو على تأجيل أو تقسيط المسحوبات المستخدمة على البطاقة ، وهذه الغرامات تعتبر من ربا النسيئة المحرم .
*المسألة الثامنة عشرة : بطاقة الفيزا :
قمت بسؤال الدكتور : محمد العصيمي أستاذ الاقتصاد الإسلامي المشارك كلية الشريعة، الرياض ورئيس هيئة الرقابه بمصرف الراجحي سابقاً السؤال التالي :
ما الحكم الشرعي لبطاقة الفيزا عند مصرف الراجحي وبطاقة تيسير عند البنك الأهلي مع التفصيل ، وما وجه من فرق بين الماستر كارد وبين الصراف في الحكم بالحل والحرمة، وهل ما يأخذه البنك على العملية المصرفية في دائرة المباح أفتونا مأجورينأ؟
فأجاب بقوله أخي السائل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : بطاقة فيزا الائتمانية من شركة الراجحي المصرفية جائزة، ولكني أعتقد أن الرسم الذي يؤخذ على السحب النقدي أكثر من التكلفة الفعلية التي وجهت بها الهيئة الشرعية. فلا أرى السحب النقدي بها. أما بطاقة التيسير فلا أرى جوازها البتة. وهي محض قلب للدين على العميل، وهي ربا بلا شك. والماستركارد منظمة تصدر بطاقات مثل فيزا، ولها بطاقات ائتمانية ولها غير ائتمانية. والفرق بين الائتمانية والصراف أن الأولى تقرض العميل، والثانية مربوطة بحسابه الجاري. وعليه، فما أخذه البنك على القرض فالأصل فيه التحريم، إلا ما كان حسب التكلفة الفعلية. أما الصراف فلا بأس بأخذ الرسم عليها، حيث إن البنك هو المقترض من العميل. والله أعلم.
*المسألة التاسعة عشرة : سعودي تك :
وصفها: هي بطاقة شرائية للأنترنت كأي بطاقة ماستر كارد توفر لك التسوق العالمي من خلال شبكة الإنترنت وهي بطاقة مدفوعة مسبقاً ذات اشتراك سنوي مقداره 165 ريال, ويمكن استخدامها كنقد حقيقي لأي شراء على الأنترنت.وكلما انتهت القيمة في البطاقة فما عليك إلا شحنها.
ولها حد أقصى 250 دولار, وحد أدنى 25 دولار.
تصدرها آل سرور لتقنية المعلومات.
وهي بطاقة ماستر كارد في جميع خصائصها باستثناء أنه لا يمكن استخدامها كبطاقة ملموسة في عمليات الشراء. وهي صالحة لمدة سنة.
حكمها: الحكم الشرعي لهذه البطاقة مبني على تكييفها الفقهي, فمن الواضح من العرض السابق أن هذه البطاقة ليست بطاقة ائتمانية بالمفهوم المصرفي لبطاقات الائتمان والتي تتضمن في آلية عملها ديناً من المصدر لحامل البطاقة إذ إن مشتري هذه البطاقة يقوم بدفع قيمة مشترياته بها مسبقاً قبك استخدامه لها فهي بطاقة مديونية لا دائنية.
- ... وهذ النوع انتشر ويعرف ببطاقات التخزين الالكتروني أو البطاقات سابقة الدفع.
* والتخريج لهذه البطاقة لا يخلو من أحد أمرين :
1- ... أن يكون لهذه البطاقة حكم الدين , وعلى هذا فالعلاقة بين المشتري والمصدر هي علاقة قرض ، ويترتب على هذا التخريج أنه لو باعها المصدر بثمن أقل من قيمتها المخزنة فيها فهو حرام , لأنه قرض جر منفعة للمقرض وهو المشتري وتخرّج البطاقة على عقد القرض وهذا بعيد.
2- ... أن يكون لهذه البطاقة حكم النقد وعلى هذا فالعقد بين المصدر والمشتري هو عقد صرف فيجب التقابض عند شراء البطاقة كما يجب التساوي بين القيمة المخزنة في البطاقة والقيمة التي اشتريت بها إذا كانت القيمتان بعملة واحدة ، أما إن اختلفت العملة فلا مانع من اختلاف القيمتين .
وهذا هو التخريج الصحيح , فحكم هذه البطاقة كحكم الشيك المصرفي المصدق.
- ... وعلى هذا فالبطاقة جائزة، ما لم تختلف قيمة شحن البطاقة عن القيمة المخزنة فيها إذا كانت العملة واحدة .
*المسألة العشرون : الأسهم :
السهم : هو صك يمثل نصيباً عينياً أو نقدياً في رأس مال الشركة قابل للتداول يعطي مالكه حقوقاً خاصة .
حكم بيع الأسهم :
الأسهم قسمان :
1 – أسهم مؤسسات محرمة أو مكسبها حرام . كالمصارف الربوية فهذه محرمة .
2 – أسهم في مؤسسات مباحة فهذه جائز .
- حكم الحوالة في الأسهم :(4/185)
صورته : أن تكون الأسهم ثابته في الذمة لشخص على آخر وهذا الآخر له أيضاً دين على ثالث هي أسهم تتفق مع الأسهم التي في ذمته ، فهنا يمكن لمن عليه الدين ( المحيل ) أن يحيل من له ديناً ( المحال ) بالأسهم التي له على المحال عليه.
- حكم وقف الأسهم :
يمكن أن تخرّج المسألة على وقف المشاع . وهو جائز .
- حكم الوصية بالأسهم :
الأسهم من الأموال فهي تمثل ما يستحقه المساهم من موجودات الشركة مع ما تمثله من القيمة السوقية ، بناءً على هذا يجوز أن يوصي الإنسان بأسهم يملكها بشرط أن تكون ثلث ماله أو أقل .
- رهن الأسهم :
يجوز رهن الأسهم ، ويمكن أن يباع ويستوفى منه الدين من قيمته السوقية ، العمل على هذا بين الناس.
- ... زكاة الأسهم :
يخرج المساهم زكاة أسهمه وفق الطريقة الآتية:
إن كان تملك الأسهم بقصد الاستمرار فيها بصفته شريكاً للاستفادة من عوائدها فهذا يزكى حسب مال الشركة من حيث الحلول والنصاب والمقدار ( فقد تكون شركة زراعية أو تجارية أو صناعية ).
وإن كان تملك الأسهم بقصد المتاجرة بها بيعاً وشراء فهو يزكي زكاة عروض التجارة ، ولا ينظر إلى طبيعة الشركة سواء كانت تجارية أو زراعية أو غيرها.
وإذا زكى الأسهم باعتبارها من عروض التجارة فالزكاة تكون بحسب القيمة السوقية لا الحقيقية.
* المطالب بإخراج الزكاة أساساً هم المساهمون لا الشركة.
* إذا أخرجت الشركة الزكاة فيكتفي بذلك ولا يخرجها المساهم وكذلك العكس لئلا تجب زكاتان في مال واحد.
سئل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز السؤال التالي : أملك عدداً من الأسهم في بعض الشركات السعودية المساهمة ، وأسأل عن كيفية إخراج زكاتها هل هو حسب قيمتها الحالية في السوق أم على الأرباح السنوية لأنني لم أنو بيعها ؟
فأجاب رحمه الله :
إذا كانت الأسهم للاستثمار لا للبيع فالواجب تزكية أرباحها من النقود إذا حال عليها الحول وبلغت النصاب ، أما إذا كانت الأسهم للبيع فإنها تزكى مع ربحها كلما حال الحول على الأصل حسب قيمتها حين تمام الحول ، سواء كانت أرضاً أو سيارات أو غيرهما من العروض ، وفق الله الجميع
*المسألة الواحدة والعشرون : الإيجار المنتهي بالتمليك :
نشأة عقد الإجارة المنتهية بالتمليك وتطوره :
نشأ هذا العقد عام 1846م في إنجلترا تحت اسم الهاير بيرشاس ، حيث ظهر هذا العقد أول مرة حين قام أحد تجار آلات موسيقية ببيع هذه الآلات مع تقسيط أثمانها إلى عدة أقساط ، بقصد رواج مبيعاته ، ولكي يضمن حصوله على كامل الثمن لم يلجأ إلى الصورة المعتادة لعقد البيع ، وإنما أبرم العقد في صورة إيجار مع حق المستأجر في تملك الآلة باكتمال مدة الإيجار ، والتي معها يكون البائع قد استوفى كامل الثمن المحدد لها.
ثم بعد ذلك انتشر هذا العقد وانتقل من الأفراد إلى المصانع ، وكان أول هذه المصانع تطبيقاً لهذا العقد هو مصنع سنجر لآلات الحياكة في إنجلترا ، حيث كان يقوم بتسليم منتجاته إلى عملائه في شكل عقد إيجار يتضمن إمكانية تملك الآلات المؤجرة بعد تمام سداد مبلغ معين على عدد من الأقساط ، تمثل في الحقيقة ثمناً لها.
ثم انتشر هذا العقد ، وانتشر استعماله – بصفة خاصة – من قِبل شركات السكك الحديدية التي تأسست لتمويل شراء مركبات شركات الفحم والمحاجر ، كانت هذه المؤسسات تقوم بشراء المركبات لحسابها ، ثم تسلمها لمناجم الفحم بناء على عقد البيع الإيجاري ؛ لما في هذا العقد من ضمان وحماية لحقوق المؤجر الذي كان له الحق في فسخ العقد واسترداد الأموال المسلمة للمستأجر بمجرد إخلال هذا الأخير بسداد قسط واحد من الأقساط المتفق عليها. ثم ازدادت أهمية هذا العقد بامتداده إلى شركات المقاولات وغيرها.
ثم ظهر عقد الليسنج في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1953م ، ثم ظهر في فرنسا عام 1962م ، وهذا العقد يعتبر حالة جديدة للإجارة المنتهية بالتمليك ، إلا أنه اتخذ طابعاً جديداً يتمثل في تدخل طرف ثالث بين طرفي العقد الأصليين – المؤجر والمستأجر - ، هذا الطرف الثالث هو الذي يقوم بتمويل العقد بشراء أموال معينة هي في العادة تجهيزات ومعدات صناعية وإنشائية ، ثم يقوم بتأجيرها لمن يتعاقد معهما لفترة متفق عليها بينهما ، وتكون هذه الفترة طويلة الأجل نسبياً حتى تتمكن المؤسسة المالية التي تقوم بتمويل المشروع من حصولها على المبالغ التي أنفقتها على التمويل وبنهاية الفترة المتفق عليها يكون للمستأجر المتعاقد مع المؤسسة عدة خيارات وهي :
1- ... إعادة السلعة المؤجرة له إلى المؤسسة المالكة.
2- ... تمديد مدة الإيجار لفترة أو فترات أخرى.
3- ... تملك السلعة مقابل ثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له أن دفعها كأقساط إيجار.
فالجديد في هذه الحالة ، أو في هذا العقد (الليسنج) هو أن المؤجر لا يكون مالكاً للأصل أو الأشياء المراد تأجيرها ، وإنما يقوم بشرائها خصيصاً لهذا الغرض.
بعد ذلك انتقل هذا العقد إلى الدول الإسلامية من خلال البنوك الإسلامية التي جعلت الإيجار المنتهي بالتمليك جزءاً من العمليات الأساسية التي تقوم بها ومن البنوك الإسلامية التي طبقت هذا العقد بنك ماليزيا الإسلامي.
وقام بنك مصر إيران للتنمية بالاشتراك مع هيئة التمويل الدولية ، وشركة مانوفا كتشورز ليسنج الأمريكية في تأسيس شركة متخصصة في الإيجار المنتهي بالتمليك في مصر ، وطبق هذا العقد أيضاً بيت التمويل الكويتي بدولة الكويت.
كما جعل البنك الإسلامي للتنمية عقد الإيجار المنتهي بالتمليك جزءاً من العمليات الاستثمارية التي يقوم بها ، حيث قام بتطبيق هذا العقد في عام 1397هـ ، ومنذ تطبيق عقد الإيجار المنتهي بالتمليك وحتى عام 1410هـ استفاد من هذا العقد أكثر من عشرين دولة إسلامية.
أما في المملكة العربية السعودية فقد اتجه كثير من البنوك والشركات إلى تطبيق هذا العقد في الوقت الحاضر ، وأقبل عليه كثير من أفراد المجتمع
- تكييف المسألة : تعرف المسألة باسم البيع بالتقسيط والاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن ، ثم تطور إلى إيجار مقترن بوعد البيع .
وقبل تحقق الشرط من البيع يكون المشتري مالكاً للمبيع تحت شرط واقف ولا يمنع من وقف ملكيته أن يكون قد تسلم المبيع , فالذي انتقل إليه بالتسليم هو حيازة المبيع ، أما الملكية فانتقلت إليه بالبيع موقوفة.
* والبيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط وهي مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد ولأن الأصل في البيع أن يكون باتاً .. وفيه ثلاثة أقوال :
1- ... القول ببطلان البيع والشرط.
2- ... القول بصحة البيع وبطلان الشرط.
3- ... القول بصحة البيع وصحة الشرط.
الفرق بين الإيجار المنتهي بالتمليك وبين التقسيط :
الفرق بينهما: البيع بالتقسيط تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري مباشرة، عندما أبيع عليك هذه السيارة بالتقسيط تصبح ملكًا لك، وتستطيع أن تبيعها؛ يعني مثلا لو بعت عليك سيارة بخمسين ألفا إلى أجل، واستلمتها مني، ومثلا افترض أنها مقسطة عليك على خمس سنوات، إذا استلمت هذه السيارة تستطيع في اليوم الثاني أن تبيعها أنت وتتصرف فيها، بينما في "التأجير المنتهي بالتمليك" الأمر ليس كذلك و إذا أردنا أن نصيغ بالصياغة الصحيحة نقول: "التأجير مع الوعد بالتمليك"- لا تنتقل ملكية المبيع إلى المستأجر بل تبقى ملكًا للمؤجر.
قال الشيخ عبدالله بن بية : و الخلاصة أنه لا يجوز إلا إذا أخذ بالصيغ الخمس الآتية :(4/186)
1- ... أن يكون إيجاراً حقيقياً وفيه بيع خيار عند من يجيز الخيار إلى أجل طويل.
2- ... وعد ببيع لاحق بعد الإيجار.
3- ... أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن.
4- ... أن يبيعه بيعاً باتاً على أن لا يتصرف له في المبيع حتى يفي بالثمن فيلزم الوفاء بذلك وتصير كالمرهونة.
وعد بهبة لاحقة بعقد الإيجار جار على سبب وهذه أجودها.
قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي رقم 110 (12/4)
بشأن موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك ، وصكوك التأجير
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية ، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000).
بعد اطلاعه على الأبحاث على المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك ، وصكوك التأجير) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء قرر ما يلي :
- الإيجار المنتهي بالتمليك :
أولاً : ضابط الصور الجائزة والممنوعة ما يلي :
أ- ضابط المنع : أن يرد عقدان مختلفان ، في وقت واحد على عين واحدة في زمن واحد.
ب- ضابط الجواز :
1- ... وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر زماناً ، بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة ، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة ، والخيار يوازي الوعد في الأحكام.
2- ... أن تكون الإجارة فعلية ، وليست ساترة للبيع.
3- ... أن يكون ضمان العين المؤجَرة على المالك لا على المستأجر ، وبذلك يتحمل المستأجر ما يلحق العين من غير ناشئ من تعد المستأجر أو تفريطه ، ولا يُلزم المستأجر بشيء إذا فاتت المنفعة.
4- ... إذا اشتمل العقد على تأمين العين المؤجَرة فيجب أن يكون التأمين تعاونياً إسلامياً ، لا تجارياً ، ويتحمله المالك المؤجِر ، وليس المستأجر.
5- ... يجب أن تطبق على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة ، وأحكام البيع عند تملك العين.
6- ... تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجِر ، لا على المستأجر طول مدة الإجارة.
ثانياً : من صور عقد الممنوعة :
عقد إجارة ينتهي بتمليك العين المؤجَرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة دون إبرام عقد جديد ، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعاً تلقائياً.
إجارة عين لشخص بأجر معلومة ، ولمدة معلومة ، مع عقد بيع له معلق على سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة ، أو مضافة إلى وقت في المستقبل.
عقد إجارة حقيقي ، واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجَر ، ويكون مؤجلاً إلى أجل طويل محدد هو آخر مدة عقد الإيجار.
وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من هيئات علمية ، ومنها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
ثالثاً : من صور العقد الجائزة :
1- ... عقد إجارة يمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجَرة مقابل أجرة معلومة ، في مدة معلومة ، واقترن به عقد هبة العين للمستأجر معلقاً على سداد كامل الأجرة وذلك بعقد مستقل ، أو وعد بالهبة بعد سداد كامل الأجرة – وذلك وفق ما جاء في قرار المجمع بالنسبة للهبة رقم 13/1/3 في دورته الثالثة.
2- ... عقد إيجار مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الأجرة – وذلك وفق قرار المجمع رقم 44 (6/5) في دورته الخامسة.
3- ... عقد إجارة يمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجَرة مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة ،
واقترن به وعد ببيع العين المؤجَرة للمستأجر بعد سداد كامل الأجرة بثمن يتفق عليه الطرفان.
4- ... عقد إيجار يمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجَرة مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة ، ويعطي المؤجِر للمستأجر حق الخيار في تمليك العين المؤجَرة في أي وقت يشاء ، على أن يتم البيع في وقته بعقد جديد بسعر السوق – وذلك وفق قرار المجمع السابق رقم 44 (6/5) ، أو حسب الاتفاق في وقته.
رابعاً : هناك صور من عقود التأجبر المنتهي بالتمليك محل الخلاف ، وتحتاج إلى دراسة تُعرض في دورة قادمة – إن شاء الله تعالى –.
- صحكوك التأجير :
يوصي المجمع بتأجيل موضوع صكوك التأجير لمزيد من البحث والدراسة ليطرح في دورة لاحقة.والله سبحانه وتعالى أعلم
قرار مجلس هيئة كبار العلماء في موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك
فرار رقم [198] وتاريخ 6/11/1420هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء درس موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك في دوراته التاسعة والأربعين ، والخمسين ، والحادية والخمسين ، بناء على استفتاءات متعددة وردت إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ، واطلع على البحوث المعدة في الموضوع من قِبل عدد من الباحثين ، وفي دورته الثانية والخمسين المنعقدة في مدينة الرياض ابتداء من تاريخ 29/10/1420هـ ، استأنف دراسة هذا الموضوع ، وبعد البحث والمناقشة رأى المجلس بالأكثرية أن هذا العقد غير جائز شرعاً لما يأتي :
أولاً : أنه جامع بين عقدين على عين واحدة غير مستقر على أحدهما وهما مختلفان في الحكم متنافيان فيه ، فالبيع يوجب انتقال العين بمنافعها إلى المشتري ، وحينئذٍ لا يصح عقد الإجارة على المبيع ؛ لأنه ملك للمشتري ، والإجارة توجب انتقال منافع العين فقط إلى المستأجر ، والمبيع مضمون على المشتري بعينه ومنافعه ، فتلفه عليه عيناً ومنفعة ، فلا يرجع بشيء منهما على البائع ، والعين المستأجرة من ضمان مؤجرها ، فتلفها عليه عيناً ومنفعة ، إلا أن يحصل من المستأجر تعدٍ أو تفريط.
ثانياً : أن الأجرة تقدر سنوياً أو شهرياً بمقدار مقسط يستوفي به قيمة المعقود عليه ، يعده البائع أجرة من اجل أن يتوثق بحقه حيث لا يمكن للمشتري بيعه ، مثال ذلك : إذا كانت قيمة العين التي وقع عليها العقد خمسين ألف ريال ، وأجرتها شهرياً ألف ريال حسب المعتاد جعلت الأجرة ألفين ، وهي في الحقيقة قسط من الثمن حتى تبلغ القيمة المقدرة ، فإن أعسر بالقسط الأخير مثلاً سحبت منه بناء على أنه استوفى المنفعة ، ولا يخفى ما في هذا من الظلم والإلجاء إلى الاستدانة إيفاء القسط الأخير.
ثالثاً : إن هذا العقد وأمثاله أدى إلى تساهل الفقراء في الديون حتى أصبح ذمم كثير منهم مشغولة منهكة ، وربما يؤدي إلى إفلاس بعض الدائنين ؛ لضياع حقوقهم في ذمم الفقراء.
ويرى المجلس أن يسلك المتعاقدان طريقاً صحيحاً وهو أن يبيع الشيء ويرهنه على ثمنه ، ويحتاط لنفسه بالاحتفاظ بوثيقة العقد واستمارة السيارة ، ونحو ذلك.
ويلاحظ أن هذا القرار لم يفصل في الصور، وإنما اعتبر صورة واحدة، بينما أتى بعده قرار المجمع الفقهي، وذكر صورًا للجواز وصورًا للمنع، وذكر ضابط الجواز، وضابط المنع، ولهذا تميز قرار المجمع الفقهي بشموله وبدقته.
ولهذا فإن قرار المجمع الفقهي يعد أفضل من قرار هيئة كبار العلماء، أو بعبارة أدق، قرار المجمع الفقهي أشمل من قرار هيئة كبار العلماء، ويعتبر قرار هيئة كبار العلماء من ضمن ما تضمنه قرار المجمع الفقهي،
*المسألة الثانية والعشرون : الاستدانة من أجل بناء مسجد وترميمه :(4/187)
هل يجوز دفع الزكاة لمن استدان من أجل بناء مسجد أو ترميمه :
أكثر العلماء على أنها مثل الاستدانة لمصلحة نفسه ، يقضى عليه دينه لكن بشرط : ألا يكون المسجد الذي بني فيه إسراف مبالغ فيه فإنه في هذا الحال يقاس على من أسرف على نفسه وأولاده وأغرق نفسه بالديون إلا إن تاب عن هذا الإسراف .
ولأنه لو فتح الباب لأدى إلى حرمان كثير من الفقراء من حقّهم المشروع .
يقول ابن حجر : إذا لم يكن في مكان ما مسجد والحاجة ماسّة إليه ولم يتهيأ له من يتبرع في إنشاءه ، واستدان أحدهم من أجل بناءه بناءُ أقر ب إلى البساطة ومتفقاً مع روح التشريع ففي هذه الحالة يكون لهذا القول اعتباره بأن يجوز أخذ الزكاة لسداد الدين .
*المسألة الثالثة والعشرون :
هل يجوز بيع الإيصالات التي يقدمها بعض المعامل للعمال قبل قبض ما احتوته من حوائج ؟
مثاله :
ما يباع من صكوك نقدية للأمر بالشراء لبضاعة موجودة في المحل كما يعمله بعض المحسنين في رمضان من وجود صك بقيمة مائة ريال مثلاً .
يقول النووي رحمه الله : قد اختلف العلماء في ذلك والأصح عند أصحابنا وغيرهم جواز ذلك .
وقد يسأل سائل فيقول هذه الصكوك أوراق لا قيمة لها فكيف يجوز بيعها : فيقال : إن المشتري لهذه الأوراق يعلم أنها ليست لها قيمة ، ويعلم أنها مجرد إشعار بتخصيص حاملها كمية معلومة من الرزق أو المتاع . فهي إعلام بأن لصاحبها ملك مستقر عند من خصّه بها . فهو يشتري الملك وليس الورقة وليس هو من قبيل بيع الشيء قبل استلامه الوارد النهي عنه .
*المسألة الرابعة والعشرون : حكم استثمار أموال الزكاة في التجارات والصناعات:
أهمية المسألة : أن بعض الباحثين وطلاب العلم أفتى بجواز استثمار أموال الزكاة بل استحباب ذلك.
- ... والنصوص تدل على أن الزكاة واجبة على الفور وليست على التراخي لأنها عبادة مخصوصة بالحول.
وقد ذهب بعض العلماء أن هذه الزكوات يجوز استثمارها في التجارات والصناعات للقائمين على جمعها سواء كانوا حكومات أو هيئات خيرية .
وهذا قول محدث لم يقل به أحد من العلماء السابقين وهو خطأ لأسباب منها:
1- ... أنه تبديل لصورة العبادة وتغيير لأحكامها وابتداع فيها.
2- ... أن استثمارها تصرف لم يأذن به الله ولا رسوله.
3- ... أن استثمارها هو تصرف يعرضها للخسارة أو الربح , ففي حال الخسارة من يضمن ضياع أمول الزكاة وفي حال الربح لمن يكون الربح .
4- ... القول بجواز ذلك يفتح الباب على مصراعيه لأن يبادر الأغنياء في استثمار زكاتهم بأنفسهم وهذا سيؤدي في النهاية إلى حبس أموال الزكاة عن مصارفها وتعطيلها سنوات في أيدي مخرجيها ,وإعطاء الأغنياء لأنفسهم الحق في الأخذ من ريعها.
لكن يتبادر لنا سؤال مهم ، ماذا عن الصدقات التي للجمعيات الخيرية والحلقات هل يجوز استثمارها, وهل يضمن الخسارة فيما لو خسر وهل ينظر في ذلك للمصالح المرسلة ؟ أرجو أن ينبري لهذه المسألة من يطيل النفس فيها ويحررها فهي نازلة تحتاج لمزيد اهتمام .
*المسألة الخامسة والعشرون : بيع الإستصناع :
هو شراء شيء من صانع يطلب إليه صنعه ، فهذا الشيء ليس جاهزاً للبيع بل يصنعه حسب الطلب . ويجوز فيه تأجيل الثمن خلافاً للسلم ( على قول ) .
و الاستصناع من حيث عدم ذكر الأجل ، وعدم اشتراط تعجيل الثمن لا يجيزه إلا الحنفية .
- ويرى أبو حنيفة أن الاستصناع عقد غير لازم ، وهذا لا يسلم له .
- ويمكن معاملة الثمن في الاستصناع معاملة الثمن في السلم ، فإن عجل كان أرخص وإن أجل كان أغلى .
باختصار هو ( تأجيل البدلين في البيع ) .
لكن هل يجوز للدائن تغريم مدينه المماطل أو مطالبته بالتعويض ؟
- الذي أفتى به الشيخ / مصطفى الزرقاء بجواز الحكم على المدين المماطل بالتعويض على الدائن ويرى أن المتعاقدين لهما الاتفاق مسبقاً على تقدير الضرر .
*المسألة السادسة والعشرون : قول ( البضاعة لا ترد ولا تستبدل ) :
أفتت اللجنة الدائمة بأنه لا يجوز ذكر هذه العبارة في المتاجر لأنه شرط غير صحيح لما فيه من الضرر والتعمية.
وإن شرط البائع إرجاعها واستبدالها فقط دون رد المال فهذا إيضاً شرط باطل لا يجوز العمل به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
صحيفة المراجع
1- الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، اختارها الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي ، أشرف على تصحيحه الشيخ عبد الرحمن حسن محمود ، الناشر المؤسسة السعيدية في الرياض
2- الروض المربع بشرح زاد المستقنع ، للشيخ منصور بن يونس البهوتي ، مراجعة وتحقيق وتعليق محمد عبد الرحمن عوض ، الناشر دار الكتاب العربي في لبنان ، الطبعة الثانية 1406ه
3- العقود الشائعة والمسماة ، للدكتور جاك الحكيم ، الناشر دار الفكر في لبنان ، طُبع عام 1970م
4 - مجلة مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي
5- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، وساعده ابنه محمد ، الناشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، طُبع عام 1415هـ
6- المغني ، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي ، تحقيق الدكتور عبد الله ابن عبد المحسن التركي ، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو ، الناشر مطبعة هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان في القاهرة ، الطبعة الثانية 1412هـ
7- الربا والمعاملات المصرفية . للدكتور : عمر المترك ( رسالة جامعية ).
8- بحث بعنوان الإجارة المنتهية بالتمليك في الفقه الإسلامي . للباحث : فهد بن علي الحسون .
9- بعض المواقع الرسمية والموثوقة على الشبكة العنكبوتية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
================
صنم الحرية
فهد بن سعد أبا حسين
* تهافت الحرية عند الغرب ودعاة التغريب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .... وبعد :
لقد كان من أخطر أسلحتهم . سلاح تغيير المصطلحات .
وإدخال المصطلحات التي تحمل حقاً وباطلاً . وإشاعتها ونشرها بين المسلمين .
فأدخلوا مصطلح الحرية . ونادوا إلى شعار الحرية .
طالما دندنت حوله وسائل الإعلام .. ولطالما سطرته الجرائد والمجلات .
فجعلوا الحرية الغربية من الثوابت التي لا تتغير .. ولا يجوز المساس بها .
وجعلوا حريتهم المزعومة من التقدم والتطور والحضارة .
لقد نادى دعاة التغريب لشعار الحرية .. وكأننا لا نفهم بأن رفعهم لشعار الحرية إنما هو سلمٌ يمررون عليه الفكر الغربي إلى عقول المسلمين .
وكأن المسلمين في سجن بسبب الإسلام ينتظرون فيه الفكر الغربي الكافر حتى يحرر عقولهم بشعاراتهم المزيفة .
(( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ))
فماذا يريدون بشعار الحرية ؟
إن دعاة التغريب يريدون بشعار الحرية حصر الدين في زاوية معينة ..
يريدون بمصطلح الحرية .. و " حرية الرأي " أن يتخطوا أحكام الشريعة !
وأن يتجاوزوا من يحكِّم بالشريعة .
نادوا لشعار الحرية لكي يمزقوا عقيدة المسلمين ودينهم .. لكي يدمروا قيمهم حتى يبقى المسلمون بلا هوية !
وهل تحطم هذه القيم إلا بمثل هذه الشعارات فسلوا دعاة التغريب والحرية المزعومة !
قولوا لهم : ما الفرق بين الحرية والانحلال من القيم ؟؟؟
وقبل أن ندخل في هذا الموضوع لابد أن نحذر جميعاً علماء ودعاة وأفراد.
لابد أن نحذر من أن تنقلنا هذه المصطلحات إلى ساحةٍ خارج ساحة الكتاب والسنة.(4/188)
لنحذر من أن نجعل هذا المصطلح ( شعار الحرية ) هو الثوابت التي لا تتغير . وهو الدليل الذي يقف أمام الكتاب والسنة .
ولذلك لقد استطاع دعاة التغريب أن يزرعوا في عقول البعض ، مصطلح الحرية ومصطلح التطور ليكون دليلاً ثابتاً مواجهاً للكتاب والسنة ، وهذه من أخطر المراحل في حرب دعاة التغريب للإسلام .
فإن الكتاب والسنة هي الثوابت التي لا تتغير وهو النهر الذي لا ينضب .. وهو الحبل الذي من تمسك به نجا ومن تركه هلك .
أما شعاراتهم التي رفعوها ، فهي داخلة تحت قول الله جل وعلا : (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )).
فهم يقاتلونكم بأسلحتهم وأقلامهم ، وكلماتهم وشعاراتهم .
(( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم .. )).
إنهم يريدون أن يطفئوا النور العظيم في قلوب المسلمين إنهم يريدون نزع الكتاب والسنة من قلوبهم واستبدالها بتلك الشعارات .
(( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءاً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا )).
والعجب أنهم يقولون نريد حرية مثل حرية الغرب ؟ ولا يقول ذلك إلا صاحب القلب المعلب بأفكار الغرب ؟
وإلا فمن قال أن هناك حرية عند الغرب ؟
من قال ذلك ؟
ألا يوجد في الغرب أنظمة تقيد الناس !
ألا يوجد نظام للسير هناك .
ألم يتدخلوا في الشؤون الخاصة بالإنسان .
أي حرية تلك الحرية التي يزعمون .
أي حرية تلك الحرية .. التي تمنع المسلم من أن يتزوج امرأة ثانية مع أنها راضية ؟؟
لماذا تتدخل الدولة الغربية لتقييد هذه الحرية !!
في الوقت الذي يباح فيه لهذا الشخص معاشرة نساءٍ أخريات . خارج إطار الزوجية .
مادام ذلك يتم برضاهن ، وحتى لو كان مخالفاً لدينه .
المسلم عندهم له أن يعتقد ، ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية تطبيق ما يعتقده .
الحرية التي ينادون إليها منعت حرية المسلمات من ارتداء الحجاب الشرعي في فرنسا ..
ومنعت الذبح الشرعي في أكثر من دولة غربية ، وصودرت كتب إسلامية وغير إسلامية من بعض المكتبات هناك .
أهذه الحرية التي نرى لها الدعايات .
ونسمع من أبناء جلدتنا من ينظِّر لها ؟.
أي عقول هذه العقول التي تسخر بعقول الناس وتستهجن عقولهم باسم الحرية !!!
لقد اختلفت دول الغرب في كثير من القضايا . هل هي من الحرية أم لا .
بل إن الحرية تختلف من شخص لآخر .
فما يراه الإنسان حرية لا يراه الآخر حرية .
فالحرية إذا نسبية .. في كل بلد لها نسبة معينة ، بحسب توجه ذلك البلد .
فالذي يقول بأنه يوجد في بلدٍ ما حريةٌ مطلقة فهو غالط .
فدعاة التغريب إنما رفعوا شعار الحرية حتى ينقلوك من سماحة ويسر الإسلام إلى سجن حرية دعاة التغريب والغرب .
دعاة التغريب ينادون إلى الحرية بالمفهوم الغربي ينادون إلى أن تكون التقييدات تقييدات غربية لا إسلامية .
إنهم ينادون إلى حرية الغرب الأنانية .
حرية تجعل الفرد يعيش بلا مجتمع .. تجعل الفرد يعيش لوحده .. فلا يلتفت إلى المجتمع بعين الرحمة والشفقة والتعاون .
حريةٌ فيها تعدي على الآخرين .. فإن لم يكن فيها تعدي على الآخرين صارت حرية على حساب الآخرين .
يا دعاة الحرية الغربية ... إذا دخل أحدٌ بيت مسلم بلا استئذان فهل له ذلك ؟
وهل لصاحب البيت إخراجه من البيت .
ومن الحر هنا ! صاحب البيت أم هذا الداخل ؟
وهل يوجد قانون يحمي هذا الحق ؟
وهل هذا القانون من البشر أو من رب البشر !
يا دعاة الحرية الغربية :
هل ينبغي أن يحترم الجميع حق القاذف في حرية التعبير ؟
أم يحترم حق المقذوف في عدم الإيذاء بالتعبير !
هل يحترم حق الطاعنين في التعبير الحر عن آرائهم !
أم يحترم حق المطعونين ، فيعيشوا بلا إيذاء في أوطانهم !
يا دعاة الحرية ! أين عقولكم !
هل ترون وضع قيود على التعبير المستفز ؟
هل ترون وضع القيود على التعبير الباعث لانتشار الكراهية والأحقاد بين المجتمع أم لا ؟
أسئلة فمن يجيب عنها ؟
يقول باكنيون :
إن البالغين كافة . يجب أن يصبحوا أحرار بحيث يمارسون التعبير عن كل الآراء !
حتى ولو كانت أغراضها غير أخلاقية ، بل حتى من أجل الدعوة إلى تدمير الحرية . أهـ.
كتاب تسامح الغرب مع المسلمين ص126
إن هذه الكلمة من باكنيون تبين لنا ، أن مجتمعه لا يمكن بتاتاً أن يحترم الرأي الآخر .. ولا الفكر الآخر .. ولا التعبير من الآخر .
إن وجود الحرية المطلقة التي يريدونها .. ويحاولون تصورها وتصويرها لنا . تعني عدم وجود نظام يحكم الفرد والمجتمع ، فيكون المجتمع كالبهائم .
يكون مجتمع كالغابة .. يأكل فيها القوي الضعيف .
هل يتصور أن بلداً ليس فيه نظام للبيع والشراء .. ليس فيه نظام للعلاج ... ليس فيه نظام لحق التملك .. هل يعقل أن سائق سيارة يأتي ويخالف الطريق السريع .
أي فوضى هذه الحرية ..
إذا عرفتم ذلك عرفتم جيداً كيف وضع الغرب القيود وسماها باسم الحرية !
فعاشت تلك الشعوب الغربية مصدقة لهذا الشعار فصارت تلك الشعوب لا تنقصهم الحرية المطلقة للتعبير فقط بل وتنقصهم الحرية المطلقة للتفكير أيضاً .
* التوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع في الإسلام
وقبل أن نتحدث عن الحرية في الإسلام لابد أن نعلم أن القضية عندنا هي قضية دين وتسليم لله رب العالمين.
فالله جل وعلا لم يترك مناهج إصلاح البشر للبشر بشكل مطلق . بل تولى ذلك سبحانه بنفسه فأرسل الرسل.. وأنزل الكتب (( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ، فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً)).
فالله جل وعلا ما خلقك عبثاً .. ولم يتركك هملاً وإنما خلقك لغاية عظيمة .. تفرح بهذه الغاية إذا حققتها .. (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )).
يا عبد الله .. إن هذه السماء لم تخلق باطلاً وهذه الأرض لم تخلق عبثاً (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار )).
لقد دعا دعاة التغريب إلى شعار الحرية .. شعار التفلت شعار اللاحدود شعار التمرد على التعاليم وفرحوا بذلك كثيراً .
أما نحن فقد رفعنا شعار العبودية لله رب العالمين وفرحنا أن لم نسجد إلا لله ولم نركع إلا لله ولم نعبد إلا الله .. فالفرق بيننا وبين دعاة التغريب وحرية التمرد على الخالق هو أننا لم ولن نعبد عقولنا .. ولم نعبد أهواءنا (( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )).
جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ..
وحينما يحقق المؤمن العبودية لله ... فإنه يتحرر من المخلوقين .
وكلما عظمت هذه العبودية وارتفعت في نفس المسلم .. كلما ازداد تحرره من المخلوقين فيتحرر بدنه من عبادة المخلوقين ويتحرر قلبه من رق المخلوقين .. من رق هواه .. بل يتحرر من استعباد الدنيا له ..
فثوابتنا هي : تحقيق العبودية لله رب العالمين .
أما عند دعاة التغريب فالحرية والتحرر من كل القيود وإشباع الشهوات .
إن الحرية التي يدعون إليها اقتصرت على تلبية الغرائز الدنيا في الإنسان ، دون أدنى اعتبار للقيم العليا التي من أجلها كرم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر ، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا ً .
إنهم يعيشون منفلتين من كل القيود ؟
يعيشون بلا رادع من دين أو أسرة أو مجتمع أو دولة ؟
(( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ))(4/189)
إن دعاة التغريب الذين يدعون إلى هذه الحرية . يعيشون في عبادة لا شعائر لها يعيشون في عبادة غير واضحة المعالم .. يسيرون هوجاء في طرق مظلمة .. يبحثون عن سعادة مفقودة ... وغاية غير موجودة .
إنهم يعبدون أنفسهم وأهواءهم .
ائتمروا بأمر أهوائهم .. وانتهوا عما نهتهم عنه أهواؤهم (( أفرأيت من اتخذ إله هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون)).
إنها تلك الحياة التي تفلتت فيها النفس من كل المعايير الثابتة .
إنها تلك الحياة التي تخضع فيها النفس لهواها . وتتعبد لشهواتها .
ولذلك كانت أغيظ كلمة ينفر منها دعاة التغريب هي كلمة ( الثوابت ) و ( العقيدة ).
لأن سجيتهم إتباع الأهواء .
لقد كان أصحاب هذا الفكر الغربي ردة فعل للفكر الشيوعي .
لقد سقط الشعار الشيوعي الذي جعل الفرد وعمل الفرد ليس له وإنما للمجتمع .
وفي المقابل تهافتت الحرية الغربية .. حرية الفرد التي تأمر وتجرح فرداً آخر .. حرية الفرد على حساب المجتمع ولم تبقى الحياة الحقيقية .. والحياة المتوازنة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع إلا في الإسلام .
لقد جاءت الشريعة بمنهج متوازن لا يقيد طاقات الفرد ... حتى يحقق مصلحته ومصلحة المجتمع.
ولم تطلق الشريعة للفرد نزواته وشهواته المنحرفة لتؤذي حياة المجتمع .. أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد ..
جاءت الضوابط للحرية في الإسلام .. حتى يحمى هذا الإنسان وحتى يحمى المجتمع من الإنسان.
(( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )).
جاء الإسلام ليحافظ على الإنسان ..
ليحافظ على عقله وملكه وعرضه .. بل ليطالبه على أن يحافظ على هذه الأمور .. قال صلى الله عليه وسلم : (( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد )) . رواه أحمد .
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من قتل دون مظلمته فهو شهيد )) .
(( وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقاً من حقوقه فقال صلى الله عليه وسلم : دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً )).
انظر إلى نظرة الإسلام في معاملات الفرد المالية ، إن الإسلام يهدف إلى صلاح الفرد والمجتمع معاً في توازن دون أن يطغى أحدهما على الآخر .
فهو لا يريد بناء مجتمع بلا فرد . ولا بناء فرد يطغى على المجتمع .
لقد أقر الإسلام حرية التملك للفرد . وحرية التملك الجماعية في توازن واعتدال .
أما الأنظمة الاقتصادية المعاصرة .
فإما أن تميل إلى إيثار مصلحة الجماعة وإهدار حقوق الأفراد أو جعلها تبعاً . كما في النظام الشيوعي .
وإما أن تطلق للفرد التصرف والحرية ، ويتاح له أن يسعى ما يستطيع لتحصيل المنفعة الذاتية كما في النظام الرأسمالي .
أما الإسلام فإذا لم يمكن الجمع بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة يؤثر الإسلام مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد .
ولذلك قعد العلماء بقاعدة : " يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام " .
جاء الإسلام فأقر الملكية للفرد .. وأن له حق التملك فاندفع الناس إلى زيادة الإنتاج .
حتى إذا بلغ الإضرار بالمجتمع جاء التقييد لهذا الفرد .
فأنت لك حق التملك .. وحرية التملك .. ولذلك أمر الله بحراسة الأموال .. وحافظة الشريعة على حرية التملك بما شرع الله من الحدود .
كقطع يد السارق وغير ذلك .
ولكن هذا التملك يكون من الحلال الطيب .. لا يكون على حساب الآخرين فلا يخدع الأيتام وتؤخذ أموالهم .
ولا يستغل فقر الفقير وحاجة المحتاج فترابي معهم وتأكل أموالهم بالربا.
ولا القمار الذي يسبب العداوة بين المجتمع .. والتفكك بين أفراد المجتمع ... فلا تأكل أموال الناس بالباطل .. (( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )).
لك الحرية في مسكنك .. لكن لابد من احترام الجيران .. فلا تؤذيهم ولا تزعجهم ولا تطلع على عوراتهم . وليس من حقك أن تُضِرَّ بجارك بأي شيء تفعله .
أما تلك الحرية التي تجعل الفرد يعيش لوحده .. ويؤذي الآخرين .. أو يعيش على حساب الآخرين فالإسلام لا يعرف هذه الحرية التي تقيد الآخرين .
بل إن الإسلام يحارب هذا المفهوم من الحرية .
فنحن لا نريد حرية الغرب الزائفة .. وإنما نريد حرية الإسلام .
لقد انتشر عند الغرب شرب الخمر .. فتلفت العقول حتى قال قائلهم في إحدى مؤتمراتهم : إن نصف حوادث السيارات هناك . بسبب شرب الخمور .
وظهر الزنا عندهم .. فانتشرت عندهم الأمراض المستعصية التي عجزوا عن علاجها وكان من أعظم تلك الأمراض مرض الإيدز . الذي كان بسبب حرية الشهوات التي دعوا إليها .
وظهر الربا في بلاد الغرب فظهرت الطبقية بين الناس واستضعف الفقير .. واسترق هذا الفقير بالربا بلا رحمة ولا شفقة ولا بأدنى نظرة من ذلك الفرد للمجتمع .
حتى صار حال هؤلاء الأنانيين كما قال سقراط : لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى ، يفضلون معه أن يلقوا بثرواتهم في البحر عن أن يعينوا بشيء منها المحتاجين . أهـ .
المدخل إلى فقه المعاملات ص84.
أما الإسلام فقد أنهى هذه القضايا كلها وحرم الربا والزنا والخمر والسرقة .
الفرد والمجتمع في توازن دقيق وحياة سعيدة .. (( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )).
* رسالة إلى من يرى حرية التعبير بالرأي :
تذكر:
أن الكلمة أمرها عظيم .. وستحاسب عليها (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )).
قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ :(( وهل يكب الناس على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )).
تذكر أن الكلمة إما أن تكون كلمة طيبة أو كلمة خبيثة (( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ... )) الآية.
(( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ... )) الآية .
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ، ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة )) رواه أحمد .
فاحذر أن يكون رأيك وكلمتك في مواجهة الإسلام ودعاته .
تذكر أن الإسلام أمر بالقول الحسن (( وقولوا للناس حسناً )) قال صلى الله عليه وسلم : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )).
ونهاك عن الكلمة السيئة (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )).
تذكر أن الله جل وعلا قد قال : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ))
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله لا باسم حرية التعبير عن الرأي ولا غيره .
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله كونوا محترمين له مبجلين موقرين له .
قال ابن عباس رضي الله عنه : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة كونوا تبعاً له في جميع الأمور
إنه منهج التلقي للكتاب والسنة .
إنه منهج العمل بالكتاب والسنة .
الذي انبثق من تقوى الله جل وعلا .
ثم تذكر أن الله ختم هذه الآية بقوله (( إن الله سميع عليم )).
سائلاً المولى جل وعلا أن يهدينا سُبُل الرشاد .
وأن ينور بصائرنا ويرزقنا علماً وهدىً وتوفيقاً .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
================
هل ساهم بعض أهل العلم في انهيار سوق الأسهم السعودي
هيثم بن جواد الحداد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،(4/190)
فإن الانهيار الأخير في سوق الأسهم السعودي لم يكن حدثا غريبا على "طبيعة سوق الاسهم"، دع عنك أنه كان حدثًا متوقعًا وبشكل كبير جدًا لكل مراقب لتلك الأرقام الفلكية التي وصل إليها حجم التداول وقيمته في الشهور التي سبقت ذلك الإنهيار ..
أما أنه لم يكن حدثاً غريبًا فإن أي دارس في مجال الأسهم لا بد وأن يكون قد قرأ عن انهيارات الأسهم العالمية بدا بيوم الاثنين الأسود عام 1987 ومرورا بسوق المناخ في الكويت سنة 1982 ثم انهيارات الاسهم العالمية في أواخر القرن الميلادي الماضي.
أما أنه كان حدثًا متوقعًا فذلك راجع لعدة أسباب منها تلك الطبيعة التاريخية "لهذا السوق"، ومنها -بل من أهمها - مساهمة هذا السوق الرئيسية في انتاج أو صناعة نوع جديد من الأموال، يمكن تسميتها بالأموال الرقمية، فلم يكتف النظام الاقتصادي الربوي الرأس مالي بتلك الطريقة القديمة التقليدية في ما اصطلح على تسميتها "صناعة النقود"، أو "creation of money" حتى أطل بطريقة جديدة، هي أنكى من سابقتها في صناعة المال الوهمي، إذ إنها - أي الصناعة - ضنت على الناس حتى بقيمة الورق الذي تطبع عليه العملات الورقية، فاكتفت بأصفار رقمية تصنعها الدوائر الكهربائية التي تشكل العنصر الأساسي في شاشات تداول الأسهم في البورصات العالمية والمحلية ...
حجم التداول وصل مؤخرا إلى أرقام لم يكن يعرفها الإنسان إلا من خلال معادلات رياضية نظرية بحته، كالترليون مثلا، هذه الأرقام لا تعكس في الواقع قيمة لأي سلعة حقيقة تمثل الغطاء الفعلي لها، وإنما هي مجرد "أرقام" عائمة، سرعان ما تتهاوى عند أي ضربة مالية لانعدام الغطاء الحقيقي لها.
هذا "الغطاء الحقيقي" كان موضع إصرار من شريعتنا المعجزة، وفقهائنا الأوائل، حيث شدد الشارع الحكيم على "التقابض"، والتعامل يدًا بيد لا سيما عند التعامل بنوعين رئيسيين مما يحتاجه البشر في حياتهم أولها الأثمان - كالذهب والفضة وما يقوم مقامهما- التي تعتبر وسائط البيع والشراء وتقويم الأشياء، فحديث عبادة بن الصامت عن النبي e أس في هذا؛ (الذهب بالذهب و الفضة بالفضة و البر بالبر و الشعير بالشعير و التمر بالتمر و الملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) وثانيها المكيل أو الموزون من الأقوات، أو لتقل طعام البشر والحيوان...
فالمبادلة بين الأثمان عمدة الحركة الاقتصادية في أي مجتمع من المجتمعات، فضبطها بضوابط من الخالق تجعل من هذا التعامل حركة اقتصادية تساهم في نماء المجتمع من خلال توزيع عادل للثروة التي قسمها الشارع بين البشر، وتمنع من احتكاره في أيدي الأغنياء، كما تمنع صناعة النقود المشار إليها سالفا، فكانت قيود الشريعة فيه وفيما يقوم مقامه لا سيما إذا تم التبادل المباشر بينهما من أدق القيود وأشدها.
وزيادة في إحكام الطوق على من تسول له نفسه الالتفات على تلك القيود، نهت الشريعة عن بيع ما لم يحوزه الإنسان، ونهته عن بيع ما لم يقبضه، ونهته عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاع المشتري كما جرى فيه صاع البائع، كل ذلك بإعجاز تشريعي، لا يلمسه إلا من تأمل في مشكلات العالم الاقتصادية، وصورها، وجذورها، وأسبابها.
-2-
لكن العجب لا ينقضي بعد -وقد عرفنا هذا كله - يوم أن نرى انتشار التساهل في هذه الضوابط بحجة الحاجة لذلك نظرًا لتعقد أمور الاقتصاد المعاصرة وتعذر التعامل مع "حرفية" نصوص الشريعة الواردة في أحكام البيع والشراء، لقد استشرى هذا التساهل، حتى فقد الاقتصاد الإسلامي تميزه، وسعيه لتحقيق أهداف لا يمكن تحققها إلا بالعودة إلى تلك الضوابط بدون أي التفاف "مشروع" عليها، حتى لو أدى ذلك إلى التعامل الحرفي مع بعض تلك النصوص.
وفي خضم هذه الضغوط المتزايدة على فقه البيوع والربا المعاصر انحنت بعض الفتاوى في هذا المجال لتلك الضغوط لتتخذ منهجًا خطيرًا للغاية، لا يدرك خطورته إلى المراقب لحال الاقتصاد الإسلامي الآن وما يمر به من أزمات سواء على مستوى المجتمع؛ ومن أمثلتها ما حدث في سوق الأسهم السعودي، أو على مستوى الأفراد؛ كتلك المديونيات الهائلة التي يتحملها كثير من الأشخاص بسبب دخولهم في "قروض"، أو شراء بالآجل، حتى ولو كان متوافقا مع "الشريعة الإسلامية".
هذا المنهج يكمن في اتكاء فقه الاقتصاد الإسلامي المعاصر على ثلاثة أسس:
1- تفتيت المعاملة الاقتصادية موضوع البحث، لعدة عمليات مستقلة، والنظر إلى كل عملية مستقلة بمعزل عن النتيجة النهائية لتلك المعاملة بمجملها، فمثلا التعامل بالأسهم في سوق الأسهم، بدل أن ينظر إليه كحركة اقتصادية متكاملة، نظر إلى كل عملية من عملياته على حدة، فما هو إلا مجرد بيع وشراء، والبيع والشراء مباح في الشريعة، والسهم ما هو إلا جزء شائع في ممتلكات الشركة، وبيع جزء شائع في الملك جائز لتعذر التعيين، وقبض المنقولات بنقلها، أما ما لا ينقل كجزء من مصنع، أو من شركة فيحصل بتخليته، وما أبيح للفرد يباح للجماعة ..
2- تتبع الأيسر والأسهل من أقوال الفقهاء بصرف النظر عن علة كل قول ومأخذه، و فالقبض مثلا لم يشترطه المالكية وبعض الفقهاء الآخرين إلا في الطعام، وبيع الوفاء أباحه الحنفية، أجازه بعض العلماء، والشرط الجزائي حتى لو كان ماليا أباحه طائفة م الفقهاء، وهكذا ...
3- التعامل الحرفي مع نصوص الفقهاء، وفتاوى المجامع الفقهية، وإغفال النظر عن مآل تلك المعاملة لا سيما مع تكررها واتخاذها منهجًا اقتصاديًا تسير عليه المجتمعات، فالوعد ملزم قضاء، والعربون جائز، وهامش الجدية -وهو مبلغ مقدم يدفعه المريد للبيع والشراء لصاحب السلعة أو الممول من أجل إظهار جديته في المعاملة المراد تنفيذها - جائز، وبيعتان في بيعه مباح في أصله، وشرط وبيع مباح في أصله كذلك، وهكذا..
إن العمل بأي واحد من تلك الأسس على حدة، يمكن أن يؤدي إلى مخالفات عديدة إذا ما نظر إلى النتيجة المترتبه عليه - أو مآله -، فكيف حينما يعمل بها كلها مجتمعة !!
لقد رأينا معاملات اقتصادية كثيرة، لا تختلف عن الربا المحرم إلا اختلافات شكلية يسيرة بالإضافة إلى الاسم، ومع ذلك أجازتها الهيئات الشرعية لتلك البنوك، ولعلي أضرب لذلك مثلا بالقروض التي تقدمها بعض البنوك الإسلامية.
يأتي العميل إلى البنك الإسلامي طالبا قرضًا، فيجيبه بأنه لا يقدم قروض أبدًا -فالقرض عملية غير نفعية، أو هو عملية خيرية، وليس عملية ربحية، وهو خلاف الأصل في المعاملات البنكية والتجارية - لكن عوضًا عن القرض، فإن البنك يقوم بعملية استثمار أو تمويل مباح، حيث يقوم ببيع العميل أطنانًا من الحديد أو غيره من المعادن - بخلاف الذهب والفضة حتى تكون المعاملة شرعية !- بسعر آجل، ثم بعد ذلك يقوم العميل بتوكيل البنك ببيع تلك الأطنان من الحديد في السوق العالمية، وفعلا يبيع البنك - أو شركة عاملة له - تلك البضائع في السوق العالمية بالنقد، ويأخذ هذا النقد ويسلمه للعميل ...
تستغرق هذه العملية بضعة أيام أو أسبوعا واحدًا ما بين طلب العميل، وحصوله على النقد، وحينما يحصل على النقد فإن البنك يقول له، هذا ليس قرضًا، ولكنه قيمة البضاعة التي بعناك إياها بالآجل، ثم بعناها عنك بالعاجل ! وعليك الآن أن تسدد لنا على أقساط قيمة تلك البضاعة، علما أن مجموع الأقساط - طبعًا - سيكون أكبر من القيمة التي حصل عليها العميل..(4/191)
يجري ذلك كله، ولم ير العميل بضاعة في حياته، ولا رأى أطنان الحديد تلك، ولا سبق أن باع واشترى في السوق العالمية، بل إنه قد قبض النقود ولما يقتنع أبدًا بصحة ما قاله له البنك "الإسلامي" من أن تلك النقود ليست قرضًا يرده بزيادة، لم يقتنع بذلك لأن المعاملة كلها من أولها لآخرها تمامًا مثل معاملة القرض الربوي من البنك التجاري، مع اختلاف يسير في المدة الزمنية وكمية الأوراق التي يوقعها..
هذه الطريقة هي إحدى أشهر طرق القروض "الشرعية" التي تقدمها البنوك الإسلامية.
وحينما جرى النقاش مع بعض المسؤولين في تلك البنوك عن شرعية هذه المعاملة، أجاب بقوله: وما الخطأ في تلك المعاملة! البيع من البنك للعميل بالآجل صحيح، وتوكيل العميل للبنك بقبض البضائع صحيح، وبعض أهل العلم لم يشترط قبض البضائع من غير الأطعمة، ثم توكيله أيضا للبنك حتى يقوم ببيعها بالنيابة عنه صحيح فأين الخطأ في ذلك !
وهكذا فُتّت أكثر المعاملات الربوية المعاصرة، وغيرت تغييرات طفيفة في الشكليات وما يسمى بالعمل الورقي والمكتبي، وأصبحت المعاملة شرعية مائة بالمائة...
وهكذا عُطّلت مقاصد الشريعة الجزئية في باب البيوع، بل أتى الاقتصاد الإسلامي المعاصر بشكله الحالي بنقيض تلك المقاصد، الأمر الذي أدى وسيؤدي إلى انهيارات في الأسواق المالية بشتى صورها.
-3-
لقد كان بعض أهل العلم بعيدي النظر، يوم "تحجروا" في نظرتهم تجاه بعض تلك المعاملات المالية، وتجرأ كثير منهم الآن للبوح ببعض ما كان يكن في نفسه من رفض لشرعية تلك المعاملات، بل إن بعض أهل العلم ممن عرف عنه تساهله في تلك المعاملات، عاد ليقول الآن بأن الرأي القائل بعدم جواز التعامل في الأسهم بالطريقة الحالية قول وجيه، وقرأت مقالته تلك وأنا في حالة من الدهشة الممزوجة بالغضب، لكنه زال حينما وجدت أحد المعلقين على تلك المقالة معلقا على تلك المقالة بطريقة عامية بقوله :"ومن ورط الناس في تلك التعاملات يا شيخ فلان؟" نعم من أوقعهم في ورطة تلك التعاملات؟ ألم تساهم تلك الفتاوى في تشجيع الناس – ولو بصورة غير مباشرة - للدخول في تلك التعاملات؟.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تلك الفتاوى والتي أقبل عليها الناس، وأقبلت عليها القنوات الفضائية ومواقع الانترنت فنشرتها، ساهمت في إضعاف أو حتى إخماد الصوت الرافض لهذا النهج الاقتصادي، فقليل هم الذين سمعوا قول بعض أهل العلم الذي يمنع من بيع وشراء الأسهم في سوق الأسهم، وقليل هم أولئك الذين تأملوا في أسباب ذلك المنع، والتي منها المشابهة الكبيرة بين عمليات شراء الأسهم وبيعها بعمليات المقامرة المحرمة، فالمتاجر بالأسهم يشتري الأسهم التي يظن أن قيمتها سترتفع، ويراقب شاشة الأسهم، وما أن ترتفع إلا وقام ببيعها مباشرة حتى ولو كان بين عملية البيع والشراء دقائق، هذا مع العلم بأن ارتفاع وانخفاض الأسهم عدا رهين عوامل غير رئيسية التأثير فيما لو كان السهم سلعة حقيقة تمثل جزءًا شائعًا من ممتلكات الشركة – كما يقال عادة – فالتضاعف أو الانخفاض الفلكي للقيمة السوقية للسهم، لمجرد سمعة، أو شائعة، أو توقعات كبار المستثمرين، أو نحو ذلك مما يقرب السهم من سهم القمار، الذي ليس له قيمة حقيقية.
ولا يمكن أن يقارن هذا الارتفاع والانخفاض بما يحدث لبعض السلع الحقيقية التي يزداد الطلب عليها، لأن حدوث ذلك لتلك السلع إنما هو حدوث مؤقت طارئ محدود ومرتبط ارتباطًا وثيقًا بحاجة الناس إلى تلك السلعة، ثم إن العلماء قد تحدثوا عما يجب علي ولي الأمر تجاه هذا الارتفاع في قيمة بعض السلع التي يحتاجها الناس، فلا يمكن مقارنة هذا بتلك الارتفاعات الفلكية التي تحصل في سوق الأسهم، والتي أصبحت السمة الغالبة على طبيعة تلك الأسهم.
لقد كان الشيخ الدكتور الصديق الضرير موفقًا وثاقب النظر يوم أن ذهب إلى القوم بأن بيع الأسهم وشرائها يجوز إذا كان بينة تملك ما يصدق عليه السهم وهو الحصة الشائعة من ممتلكات الشركة، ويمنع من هذا البيع والشراء إذا كان من أجل المتاجرة بالسهم بالطريقة التي نشاهدها في أسواق الأسهم.
في النصف الثاني من العقد المنصرم استشرى بين أصحاب الدخل المحدود من الطبقة المثقفة في الخليج العربي، وبالذات في السعودية المتاجرة بالأسهم العالمية، مثل مايكروسوفت، وانتل، وجي إي، وغيرها، جرى بحث مع بعض الباحثين وطلبة العلم، في حكم هذه المتاجرة، وعرضت ورقة تشير إلى أن هذا النوع إنما هو أقرب إلى المقامرة منه إلى المتاجرة المشروعة، ناهيك أن ينبغي علينا أن نعيد النظر في تكييف الأسهم من الناحية الفقهية، فهل هي ورقة مالية جديدة قائمة بذاتها بعد أن يبدأ التعامل بها في السوق، أم أنها صك إثبات تَملّك حامله لجزء مشاع من الشركة؟ وكان الميل في البحث المعروض إلى أنها ورقة مالية قائمة بذاتها ومستقلة، فجاءت النصيحة من بعض الأخوة أن لا تنشر هذه الآراء، أو التساؤلات، لأنها ستثير السخرية من قبل الجميع...أما الآن – ولست أدري هل هو بعد فوات الأوان أم لا - فإن الكثير تجرء على التصريح بذلك ..
لكن بالرغم من هذا كله، فأنه لا يستبعد أن تكون هذه الهزة الاقتصادية مجرد حدث عابر، ستسارع ذاكرتنا للفه في طي النسيان، كما طوى النسيان ما يسمى بالاثنين الأسود، ومناخ الكويت وغيرها، ولن يلبث المتعاملون في الأسهم، وطائفة من المشايخ، وطلبة العلم، إلا ويعيدوا الكرة من جديد، وهكذا دواليك..
-4-
هذا، ويبدوا للباحث أن أحد أهم أسباب مشكلات ممارسات الاقتصاد الإسلامي الآن عدم التمييز بين مجرد جواز المعاملة، وبين اتخاذ هذه المعاملة نهجًا اقتصاديًا متبعًا، وشتان بين مجرد الإباحة، والسنة، وهذا وإن كان لا يصدق في بعض الأمثلة، إلا أنه يصدق في أمثلة كثيرة جدًا، ولذا فلا يجوز أن تتخذ مجرد الإباحة دليلا على جواز شيوع معاملة من المعاملات، أو فعل من الأفعال، فلو ذهب إنسان إلى أن صلاة الجماعة في المسجد غير واجبة، وتخلف عن الحضور في المسجد ليصلي جماعة مع أهل بيته، فربما توجه الكفّ عن إنكار هذا الاجتهاد عليه، لكن لو أصبح هذا ديدن أهل قرية أو مدينة من المدن، لتعطلت المساجد، وتعطلت شعيرة من أهم شعائر الإسلام!! فوجب الإنكار حينئذ.
وفي المعاملات الاقتصادية، فإن بيع المرابحة للآمر بالشراء جائز عند الجمهور، لكن البنوك الإسلامية اتخذته أصلا ووسيلة للتمويل، فأصبح سنة متبعة، وليس مجرد معاملة جائزة، فنتج عن ذلك صور كثيرة من التمويل، وثيقة الشبه بالربا المحرم، ففي التمويل العقاري مثلا، يقوم البنك بتفويض المشتري ليشتري المنزل الذي يريده بالنيابة عن البنك مرابحة، فيقوم المشتري بشراء المنزل من أجل البنك، ويقوم بدفع القيمة التي أخذها من البنك كوكيل في الشراء للمالك، وحالما يوقع هذا العقد، يقوم بإجراء عقد آخر يتم من خلاله شراء المنزل من البنك بالتقسيط، بصرف النظر عن تولى هذا العميل طرفي العقد أم لا، المهم أن المنزل ينتقل من المالك الأصلي إلى ملك البنك لمدة ثوان معدودات، ثم ينتقل مرة أخرى بمعاملة أخرى إلى ملك العميل من خلال شرائه له بالتقسيط، والصورة الكلية للمعاملة تظهر وكأن البنك أقرض العميل مالا ليشتري به منزلا، على أن يرد العميل هذا المال بالتقسيط مع زيادة ...(4/192)
وفي إحدى جلسات المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والتي انعقدت في مدينة الرياض قبل عدة سنوات، قال أحد المتخصصين في الاقتصاد في معرض مناقشته لبعض المسائل المطروحة للبحث: ونحن متفقون على التقليل من المرابحة ما أمكن!.
ولعل هذا السبب هو الذي حدا بمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلام إصدار قرار يتراجع فيه عما صدر عنه سابقًا بخصوص التورق، فإساءة استخدام هذه العملية، جعلها حيلة على الربا.. وهنا قد لا نتحدث عن مجرد إساءة استخدام المباح، ولكننا نتحدث عن الدروج على المباح لجعله أصلا وسنة متبعة، حتى وإن كان في أصله مباحًا ..
ويشرح الشيخ الدكتور تقي عثماني - وهو من أعمدة الاقتصاد الإسلامي المعاصر - هذه القاعدة الشرعية -حكم الفرد ليس حكم الكل، والإباحة ليست سنة - بمثال رائع، يقول لو أن رجلا يسير بسيارته في طريق طويل ثم اعترضته إشارة مرورية، وبجانبها محطة وقود، فاتخذ من محطة الوقود وسيلة لتجاوز الإشارة الضوئية، فإن فعله هذا جائز ولا يتضمن أي مخالفة قانونية، لكن لو أصبح كل من أراد التوقف عند تلك الإشارة الضوئية يتخذ هذا الطريق بديلا عن الطريق الأصلي أو لو أصبح هو الطريق الأصلي للمرور وتجاوز إشارة المرور، لأدى ذلك إلى فوضى في السير، واضطراب في عمل محطة الوقود، ونحو ذلك من المفاسد المترتبة على الأخذ بمباح من الفعل.
ذكرني مثال الشيخ تقي هذا بمثال القشة، فقد مر أحد السلف مع ابن له صغير بحائط، فأخذ منه الطفل عودًا من قش، فنهاه أبوه عن ذلك، فقال الابن مستغربًا إنها مجرد قشة لا تؤثر في الحائط شيئًا، فأجاب الأب قائلا: فكيف لو أن كل واحد أخذ قشة من الحائط !
-5-
وقد يثور سؤال تلقائي هنا، وهل المطلوب أن نحرم تلك المعاملات، أو نمنع منها؟ والجواب أن على أهل العلم أن يبينوا للناس حقيقة تلك المعاملة وأنها لو جازت مرة أو مرتين فلا يجوز بحال أن تتخذ وسيلة اقتصادية، فلا بد أن يشفعوا القول بالجواز، بيان الفرق بين هذا الجواز وبين النهج الاقتصادي الأمثل، وأن القول بجواز حالة أو حالتين، لا يعني أبدا سنية العمل بهذه المعاملة، واتخاذها نهجا وطريقا.
بل لم لا نقول بأن اللجان الشرعية عليها أن لا تصدر فتوى مكتوبة بجواز معاملة من المعاملات إلا إذا كانت تلك المعاملة مما يسوغ استخدامه نهجًا اقتصاديًا لذلك المجتمع، وعليهم الكف عن إصدار الفتاوى التي تبين مجرد جواز تلك المعاملة، إلا يفعلوا ذلك فإنهم يساهمون في تدمير اقتصاد المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام والشريعة الإسلامية، فضلا عن أنهم يساهمون في إدخال ما ليس من الدين فيه.
-6-
وبعد ذلك، فإننا نخلص إلى أن ثمت معالم منهج آخذ في التشكل من خلال ممارسات المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي خلال العقد أو العقدين الماضيين، إنه نهج غريب شاذ على طبيعة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، إنه نهج الحرفية المقيتة في النظرة إلى المعاملات المالية، فإنه ينظر إلى المعاملة في أصغر صورها وأدقه، بصرف النظر عن مآل تلك المعاملة، أو مآل هذه المعاملة إذا ما اتخذت منهجا اقتصاديًا، وهذا النهج أهمل بالكلية الآثار السلبية القاتلة للمتاجرة بالأسهم بهذه الطريقة على أي اقتصاد وطني ، و قصر نظره على مجرد جواز بيع السهم أو شرائه، واجتهد في وضع قائمة بالأسهم النقية، وأخرى بالأسهم المحرمة، وثالثة بالأسهم المختلطة، وما وجدناه انبس ببنت شفة ولا التفت هو، ولا لفت نظرنا - حتى مع القول بجواز الاتجار بالأسهم النقية أن كان يوجد منها شيء - إلى حقائق غائبة عن المتجرين في هذا السوق، والتي منها:
- توقف الناس عن الاستثمار الحقيقي، والذي يتمثل في الإنتاج الصناعي وما يتبعه من خدمات، فخسرت بعض دول الخليج المصدرة للنفط وهي في أعلى مستويات دخلها فرصة ذهبية، ما أثمنها لو استغلت - لكنها ما زال المجال مفتوحا بحمد الله تعالى - في المضي قدما نحو الولوج إلى العالم الصناعي،،لتكون من الدول المتقدمة..
- إسراف الناس في القروض بجميع أنواعها، البنكية المحرمة، و"الإسلامية"، وعمليات التورق، والقروض العائلية، وتحمل الناس نتيجة لهذا الإسراف في الاقتراض ديونًا باهظة لا ينوؤون بحملها، الأمر الذي عرض عشرات الآلاف منهم للسجن والملاحقة، ومن قبل ومن بعد للسجن النفسي الذي يكون غالبًا أسوء من السجن الحقيقي، فشلت حركة المجتمع بسبب هذه الأغلال والآصار.
- تحول المجتمع إلى مجتمع مسعور بسعار المال، الذي هو أس الشهوات ومبدؤها، والدنيا فتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح حديث الناس، مثقفيهم، وعامتهم، ونسائهم، ورجالهم، صغارهم، وكبارهم، عن الأسهم، وارتفاعها وانخفاضها، حتى ولجت فيه عجائز البدو، فضلا عن أشياخهم، ولست أعجب يوم أن حدثتني إحدى القريبات وهي أمّ لثمان، وجدة لأكثر، عن أنها تبدأ يومها بفتح شاشة الكمبيوتر، لمتابعة الأسهم، ارتفاعها وانخفاضها وحركتها ومؤشراتها، وكأنها أرقام سحب تنتظر أن تظفر برقم فائز، وأن شئت فقل إنما هي شاشة مقامرة ..ولسنا نعجب بعد هذا كله يوم أن أعلنت إحدى حملات الحج أنها ستوفر خدمة فريدة من نوعها، حيث توفر للحجاج "وفد الله" شاشات متابعة الأسهم خلال أيام منى، حتى ترتفع أسهم إيمانهم، وأسهم طمأنينتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- هذا، وكأني بالأسهم وقد أصبحت "أفيونا" جديدًا للشعوب، حتى يخدرها عن الفضائل، والبحث عن المعالي، ولقد قال لي يوما قائل ألا يمكن أن تكون سوق الأسهم هذه، مجرد سياسة تمارس ضد الشعوب لتخديرها عن المطالبة بحقوق لها أخرى..
حقا، إنه محزن أن يكون بعض أهل العلم جسرًا يعبر الفساد من خلاله، الأمر الذي يوجب وقفة صادقة وحازمة من الجميع تجاه هذا الخطر، والأخطار الشبيهة به ..
... تمت المقالة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
===============
فتنة مسايرة الواقع
الشيخ عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله ـ عز وجل ـ لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه ـ عز وجل ـ في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله ـ عز وجل ـ وعصمه. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا منهم.
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27].
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن هذه الآية: "تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم"(1).(4/193)
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه ـ تبارك وتعالى ـ: (( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء: 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه ـ تعالى ـ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار ـ عياذاً بالله تعالى ـ؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم ـ عليهم السلام ـ عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك ـ بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله ـ عز وجل ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ قولهم: ((مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)) [المؤمنون: 24].
وقال ـ تعالى ـ عن قوم هود: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [الأعراف: 70]، وقال ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم صالح: ((قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [ هود: 62].
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ عن قوم فرعون: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش:
((وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...)) [البقرة: 170] والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟
نعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه،
وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(2).
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فكذلك صاحب الهوى ـ إذا ضل قلبه وأُشرب حبه ـ لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه"(3).
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: "لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا"(4). قال الشارح في تحفة الأحوذي: "الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان".
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله ـ عز وجل ـ وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"(5).
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم"(6).
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية
إن الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله ـ تعالى ـ فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله ـ بادئ ذي بدء ـ حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.(4/194)
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه ـ والله ـ هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله ـ تعالى ـ في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله ـ عز وجل ـ. وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله ـ عز وجل ـ وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: "وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا ـ بكل أسف ـ من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من
أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها.
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله ـ مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ـ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(7).
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه(8).
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر ـ وما أبرئ نفسي ـ.
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ـ ومن سنوات عديدة ـ كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
* ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين السائقين؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين، وكل هذا ـ ويا للأسف ـ بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!!
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله ـ عز وجل ـ من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله ـ عز وجل ـ فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول ـ والعياذ بالله تعالى ـ إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.(4/195)
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: "هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!"(9).
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً"(10) ويقول أيضاً: "إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها"(11).
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك"(12).
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله ـ عز وجل ـ ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها ـ بزعمهم ـ مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله ـ عز وجل ـ نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: ((وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)) [الإسراء: 73 - 75].
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها:
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله،
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!(13).(4/196)
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول(14) ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ـ ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله ـ عز وجل ـ باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: "هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري"(15).
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: "لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات ـ لو أخذ بها ـ لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها ـ بزعمهم ـ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: "إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
5 - أحكام أهل الذمة:
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!"(16).
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: "إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى".
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني:
هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ـ ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ـ ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
ـ التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر(17).
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله ـ عز وجل ـ الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله ـ عز وجل ـ يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله ـ عز وجل ـ لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ(18):"وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)) [النساء: 66 - 68] وقال ـ تعالى ـ: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) [العنكبوت: 69] وقال ـ تعالى ـ: ((والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)) [محمد: 4 - 6]، وقال ـ تعالى ـ: ((ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى)) [الروم: 10]، وقال ـ تعالى ـ: ((كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) [المائدة: 15، 16]، وقال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ)) [الحديد: 28]، وقال ـ تعالى ـ: ((وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)) [الأعراف: 154].
وما أجمل ما قاله سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ في النقل السابق حيث قال: "ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ـ ولو يسيراً ـ لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء".
الآثار الدعوية:(4/197)
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا
بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة:
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله ـ عز وجل ـ وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: (($ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء: 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله ـ عز وجل ـ وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال ـ عز وجل ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) [النساء: 66] فذكر ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: "فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق" (19).
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله ـ عز وجل ـ لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله ـ تعالى ـ. وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
البيان - عدد 147
-----------------
الهوامش:
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار).
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار).
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18)الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.نقلاً عن موقع العصرانيو
==============
ضوابط المصلحة الدعويّة
د.مسفر بن علي القحطاني
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1/2)
شاع استخدام مصطلح "المصلحة الدعوية" في كثير من الأوساط الدعوية كدليل احتجاج وتأصيل, واستخدم أيضاً كدليل إدانة ضدها من بعض التيارات المضادة للصحوة كاتهام بتسييس الدين وأدلجته. ونظراً لأهمية هذا الموضوع والحاجة لإزالة اللبس والخلط حول هذا المفهوم ومستلزماته الشرعية؛ أحببت أن أسلط الضوء على بعض تلك المسائل الأصولية وأجلي الموقف حول صحة الإستدلال بها في قضايا الدعوة والإصلاح.
فالمصلحة عند الأصوليين لها تعريفات مختلفة اللفظ متقاربة المعنى والمدلول، فقد قال الإمام الغزالي -رحمه الله- في تعريفها: »هي جلب المنفعة ودفع المضرة« (1) ، وقال الإمام الفتوحي -رحمه الله-هي: »إثبات العلّة بالمناسبة« (2)أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد قال في بيانها: »هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة« (3)
فالمصلحة الشرعية هي ما تضمنته أحكام الشريعة من جلبٍ للمنافع ودفعٍ للمضار في العاجل والآجل، وهذا النوع من المصالح قد جاء النص مقرراً لها بعينها أو نوعها؛ كالأمر بجميع أنواع المعروف والنهي عن جميع أنواع المنكر وككتابة القرآن الكريم صيانة له من الضياع وكتعليم القراءة والكتابة وغيرها مما تضمّنته النصوص الشرعية من مصالح ومنافع، فالمصلحة هنا أصل ثابت ودليل قائم تُبنى عليه الأحكام، وذلك لاعتبار النص لها وشهوده عليها.
أما إذا كانت المصلحة مرسلة، وهي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشرع ولم يردْ في الشرع نصٌ على اعتبارها بعينها أو بنوعها، ولا على استبعادها(4)
فهذا النوع من المصالح المرسلة معتبر في حقيقته ضمن مقاصد الشريعة، وجمهور العلماء قد اعتبروا حجية المصلحة المرسلة، وإن أنكرها بعضهم، كما هو منسوب للشافعية والحنفية إلا أن كتبهم واجتهاداتهم قائمة في كثير منها على اعتبار المصلحة المرسلة(5).
فإنها وإن لم ينص دليل خاص على اعتبارها، لكن الاستقراء التام لنصوص الشرع يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها، ودرء المفاسد وإلغائها أوتخفيفها.
يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: »والشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم« (6) .
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : » الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها« (7) .
والصحابة -رضي الله عنهم- جروا في اجتهادهم على رعاية المصالح وبناء الأحكام عليها، فمن ذلك: جمْع صحف القرآن في مصحف واحد، وجمْع المسلمين على مصحف واحد، وتضمين الصُنّاع، وقتل الجماعة بالواحد، وتعريف الإبل الضالة، ومنع صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم وغير ذلك.
يقول الآمدي -رحمه الله- : » فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها « (8)
وبذلك تبقى الشريعة مرنة صالحة للناس لا تقف بهم وسط الطريق بل تحكم أفعالهم وترفع الحرج عنهم والله -عز وجل- قد جعلها رحمة للعالمين.(4/198)
والدعوة إلى الله -عز وجل- نوع من أحكام الإسلام؛ أمر الله -عز وجل- بها وحث عليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فأحكامها ووسائلها راجعة إلى قواعد الشرع وأدلته وأحكامه.
وبناء على ما تقدم نعرف أن المصلحة الدعوية إذا لم يشهد لها الشارع باعتبار أو بإلغاء فهي من قبيل المصلحة المرسلة شرعاً.واعتبارها حجة؛ أمر مقرر عند العلماء، وذلك لقيام الشريعة كلها على جلب المصالح ودفع المضار.
فما يراه الدعاة من أمور الدعوة وقضاياها فيه مصلحة كان حكمه الاعتبار وما رأوا فيه مفسدة كان حكمه الإلغاء والرد. ولكن العلماء خشيةً منهم في دخول الهوى وحظوظ النفس في اعتبار المصلحة أو إلغائها بالنسبة للعلماء أو الدعاة وخصوصاً ما يحدث ويستجد من أمور قد يختلط على الناظر تقدير المصلحة على وجهها الصحيح قرّروا في ذلك ضوابط لا بد منها في الأخذ بالمصلحة، واعتبارها دليلاً يُحتج به في النوازل والحوادث والمستجدات، وعند تغير الظروف والأحوال والأزمنة.
وهذه بعض الضوابط الشرعية في المصلحة الدعوية :-
أولاً: اندراجها ضمن مقاصد الشريعة.
فالمصلحة التي لم ينصّ عليها لا بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثلاث مراحل بحسب الأهمية، وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات (9) .
فكل حكم تشريعي في الإسلام لا يخرج عن هذه المقاصد نُص عيه أو لم ينص عليه؛ بمعنى دلت عليه الأدلة الأخرى ومنها المصلحة المرسلة وذلك لاندراجها تحت نوع من تلك المقاصد الشرعية المعتبرة .
ثانياً : أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة .
ويدل على ذلك عقلاً : أن المصلحة ليست بذاتها دليل مستقل بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها، أو تعارضه، وقد أثبتنا حجّيتها عن طريقه، وذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهو باطل.
وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى: { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ( } وقوله تعالى(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ( ( ) وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ }
فاعتبار المصلحة ورد الكتاب والسنة من تحكيم الهوى وهو منازعة لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا تعتبر المصالح الموهومة غير المستندة إلى نص، وفيها معارضة للكتاب والسنة مثل مصلحة إيجاب الصيام في كفارة الجماع بدل عتق الرقبة في حق الغني، كما أفتى بذلك القاضي يحيى بن يحيى الليثي ـ رحمه الله ـ لوالي الأندلس في عصره.
ومثال ذلك: تحليل الربا باعتباره مصلحة اقتصادية مهمة، وإباحة الزنا وبيع الخمور تشجيعاً للسياحة واستقطاب الأموال.
ومثاله أيضاً: من ذهب إلى القول بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في البلاد الكافرة.
ومثاله أيضاً إلقاء الرخص الشرعية لعدم الحاجة إليها في عصرنا الحاضر كالقصر والفطر في السفر، أو التسوية بين البنت والابن في الميراث بدعوى المصلحة، وغيرها من الأمثلة الكثيرة(12)
وقد خالف في ذلك الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ كما اشتهر عنه, حيث نادى بجواز تقديم المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتها لهما(13)
وهذا القول لا شك أنه يؤدي إلى تعطيل الشريعة بنظرٍ اجتهاديٍ عقليٍ محض يجعل المجتهد أو الناظر في النصوص يقبل ما شاء منها، ويرد ما شاء بزعم أنها تخالف المصلحة التي يراها من خلال ظنه وهواه، فالمصلحة إذا عارضت النص والإجماع تعتبر ملغاة ولا يعتد بها، ولذلك قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- ضمن حديثه عن المصلحة المرسلة: »ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد« (14) .
فالمصلحة إذا خالفت ما هو منصوص عليه أو مجمع عليه فهي فاسدة غير معتبرة .
ثالثاً: أن تكون المصلحة يقينية:
بمعنى أن يعلم المجتهد أو الناظر في اعتبارها قطعيّة وجودها لا أن يظن أو يتوهم أويشك وجود المصلحة المبحوثة في المسألة، ثم يحكم باعتبارها من خلال هذا الظن غير المعتبر في الشرع.
وقد ذكر الإمام الغزالي -رحمه الله- هذا الشرط وذكره من خلال أمثلة من ذلك؛ ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم فقد قال رحمه الله : »لا يحل رمي الترس - أي هذا المسلم الذي تترسوا به - إذ لا ضرورة فبنا غُنية فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها ، لأنها ليست قطعية بل ظنية« (15)، وقال في صدد منع قطع المضطر قطعة من فخذه ليأكلها إلى أن يجد الطعام: »لكن ربما يكون القطع سبباً ظاهراً في الهلاك يمنع منه؛ لأنه ليس فيه تعيين الخلاص فلا تكون المصلحة قطعيّة« (16)
أما إذا كان الظن بوجود المصلحة ظناً راجحاً ناشئاً عن الاجتهاد فإنه يُنزّل منزلة اليقين؛ لأن غلبة الظن معتبرة شرعاً إذا عدم القطع(17)
ويكفي للتدليل على اعتبار الظن الغالب في المصلحة ما اعترض به الغزالي -رحمه الله- على نفسه حيث قال: » بأن استئصال الكفار للمسلمين أمر مظنون فكيف نجيز قتل الترس بهذا المظنون؟ وأجاب:» إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كلياً، وعظم الخطر منه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه« (18)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله- : "كَذِب الظنون نادر وصدقها غالب - أي في المصالح والمفاسد - وكذلك يُبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسده على ظنون غالبة متفاوتة في القوة و الضعف والتوسط بينهما، على قدر حرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة« (19) .
رابعاً: أن تكون المصلحة كلية.
بمعنى ألاّ تقتصر على فئة وتضر أخرى، وهذا الشرط ذكره الغزالي -رحمه الله- كذلك وضرب له أمثلة منها: »إذا كان جماعة في مخمصة، ولو أكلوا واحداً منهم بالقرعة لنجوا« وقال: » لا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، ومثلها لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحداً منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، وقال: إنها ليست مصلحة كلية؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور« (20) .
ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن تعمَّ الأمة جمعاء، بل المراد أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة لا ينبغي أن يُنظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم ممن هم شهود على هذه المصلحة، وهذا ما أكّده الإمام الزركشي -رحمه الله- في بيانه لمعنى مثال الغزالي -رحمه الله- حيث قال: » وصورة الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليها الكفار، لا جميع العالم . وهذا واضح « (21)
فالمصلحة الكلية هنا لا تنفي اعتبار المصلحة الجزئية؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فلا يُنظر حينئذٍ إلى المصلحة الجزئية في مقابل الكلية.(22)
خامساً: عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها.
وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما يُقدّم، ولا شك أن الذي يُقدّم هو الأهم والأولى في الاعتبار، وميزان الأهمية يرجع إلى ثلاثة أمور؛ كما ذكرها د.البوطي:(4/199)
أولاً: النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد. فالضروريات لا تُقدم عليها الحاجيات أو التحسينيات، كما لا تُقدم التحسينيات على الحاجيات، وهكذا فإن كانت المصالح في درجة الأهمية في سلم المقاصد واحدة؛ ينظر حينئذٍ في:
الثاني: وهو من حيث مقدار شمولها، فالمصلحة العامة تُقدم على المصلحة الخاصة فإن كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر:
ثالثاً: مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه. فتُقدم الأكيدة على الظنية كما بينا سابقاً(23)
وهناك بعض المعايير المعتبرة أيضاً في تقديم بعض المصالح على بعض عند التعارض منها:
ا- أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" متفق عليه (24)
ب- أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة، مثل مصلحة العلم أولى من مصلحة العبادة.
ج- أن المصلحة الأطول نفعاً تُقدّم على المصلحة المحدودة، مثل تقديم الصدقة الجارية على غيرها(25)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله- : »والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزَّة لا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب« (26) .
ويزيد ابن القيم -رحمه الله- هذه القاعدة توضيحاً بقوله: »فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خاصة أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها، فهذه أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع؛ فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له، وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه، فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلها بحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان. فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة« (27) .
وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحياناً باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة، ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة، والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر.
يقول الشنقيطي -رحمه الله- : »والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ غاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال« (28) .
(2/2)
ذُكر في الجزء الأول من المقال أهم الضوابط الشرعية للعمل بالمصلحة المرسلة سواء كان العمل بها في مجال الدعوة والإصلاح أو غيره ذلك , وأحب أن أقرر بعد التمهيد السابق بذكر بعض التنبيهات والإشارات في التطبيقات الدعوية للمصلحة في واقعنا المعاصر، أوجزها فيما يلي:
أولاً : إن اعتبار الأخذ بالمصلحة وبناء الأحكام عليها وجعلها ذريعة لمواقف ومنطلقات تقوم عليها الدعوة ينبغي أن يحتاط له ولا يكون مدخلاً لنوازع النفس والهوى أو باباً مفتوحاً للأدعياء وأنصاف العلماء، أو نوعاً من الإقرار بالمصالح الضعيفة أو الموهومة نتيجة لضغط الواقع ، أو بحجة فقة التيسير ، أو توسعاً في الانفتاح على المجتمعات والرقي في سلم الحضارات .
ومن وسائل الاحتياط والاهتمام في الأخذ بالمصلحة في قضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أن تكون منطلقة من أهل الاجتهاد من العلماء والباحثين من أهل الفقه والعلم لسعة اطلاعهم وشمول معرفتهم لأحكام الشريعة، وكلما كان النظر والاستدلال من خلال اجتهاد جماعي لا فردي كان أكثر دقة وأقرب إلى الصواب وأقل احتمالاً في الخطأ.
يقول د. عبد المجيد الشرفي في أهمية الاجتهاد الجماعي : »أنه ضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة… ولكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها ، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى وأكثر إصابة للحق « (29) .
وكان هذا النهج في النظر هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا نزل بهم أمر وأرادوا الحكم فيه؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك إذا أعياه أن يجد حكم مسألة ما في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . (30)
ثانياً: إن النظر في المصلحة ينبغي أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها من دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان من دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص من دون اعتبار بقية الناس وخصوصاً في الفتاوى والأنظمة العامة مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة أو الوقوع في محظور ، مع اعتبار الأولى من المصالح فالأولى بتقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعاً والأطول بقاءً على غيرها من المصالح المرجوحة الأخرى.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن المجتهد : »لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجاب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه… فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جارٍ على مقاصد الشرع«(31).
ومن أمثلة اعتبارات المآلات والذرائع في الشرع : قوله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ …) (32) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الألْبَابِ ) (33) .
ومنها: النهي عن بيع العينة لأنها ذريعة للربا، وعدم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين كي لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبرهيم لأن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر، ونهيه للصحابة عن إخراج الأعرابي الذي بال في المسجد لما يتريب على ذلك من ضرر عليه وأذى في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة والغلو فيها حتى لا يحدث للإنسان ملل أو إفراط في الغلو المحظور. (34)
وللإمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه -رحمه الله- : » والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام:
1- أن تكون وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر مفضٍ إلى مفسدة السكر ، والزنا مفضٍ إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه.
2- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، كعقد النكاح بقصد التحليل أو عقد البيع بقصد الربا، وهذا ممنوع .
3- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، مثل الصلاة في أوقات النهي ، وسب آلهة المشركين ، وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة. وهذا ممنوع .
4- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها، والصلاة ذات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند سلطان جائر ، وهذا مشروع في الجملة . « (35)(4/200)
ثالثاً : إن قاعدة النظر في المآلات قاعدة معتبرة شرعاً كما بينا ذلك وأكده الإمام الشاطبي -حمه الله- بقوله : »النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة « (36) .
واعتبار المآلات في النظر والاجتهاد أمر مهم للمجتهد يجعل نظره ممتداً إلى ما يؤول إليه حكمه أو ما يتوقع أن يحدث من المكلف أو ما ينتج عنه في المستقبل ليراعي ذلك كله في اجتهاده (37)
ولاشك أن هذه النظرة الاسستشرافية للمستقبل كما يحتاجها المجتهد والمفتي وأهل القضاء؛ فإن الداعية أحوج ما يكون إليها وهو يقرر أحكام الله -عز وجل- في الأرض ويضع الخطط الإصلاحيه والأهداف والوسائل الدعوية لتنزيلها على مختلف أنواع المكلفين وأصناف المجتمعات وأحوال البيئات والأزمنة.
وكل ذلك يتطلب أن يتجاوز الدعاة واقعهم القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون لهم دراسات مستقبلية يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيّره، ثم وضع برامجهم الإصلاحية مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجاً آمناً من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان.
وليس في ذلك ادعاءٌ للغيب أو تجاوز للشرع؛ وحاش للدعاة أن يدّعوه؛ بل إن ذلك معتبر ضمن ما ذكرناه من قاعدة اعتبار المآلات، والنواميس التي وضعها الله -عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله -عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف الدعاة نظام هذه النواميس والسنن وساروا ضمن قانونها العام فإنهم لن يعدموا خيراً ، إذ قد بذلوا ما في جهدهم من أسبابٍ تحقق لهم العزة والنصر بإذن الله .
وإذا كان واقع الدعوة المعاصرة مع ثقل ما تحمله على كاهلها من واجبات وأعباء لا تعطي لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر . فإننا نجد كثيراً من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتماماً بالغاً جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة المستقبل (38) ؛إلى غيرها من مؤسسات الاستشراف الكثيرة في الغرب والشرق الأسيوي في حين يفتقد عالمنا العربي والإسلامي إلى مثلها وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكلات المتجذرة التي تستلزم حلولاً بعيدة وعلاجات طويلة الأمد .
رابعاً : إن اعتبار حجيّة المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجوا بناءً عليها أحكاماً شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين والأنظمة ، كقوانين العمل والعمال وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة، وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم كتعاطي المخدرات والاتجار فيها ، إلى غيرها من الأنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم يرد بشأنها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا قررنا اعتبار المصلحة المرسلة في تنظيم شؤون المجتمع وإلزام الناس بها فما الذي يمنع من اعتبار المصلحة في تنظيم شؤون الدعوة وتنظيم أمور الدعاة وفق أنظمة وقوانين ولوائح لها قوة التطبيق والإلزام .
خامساً : يمارس بعض الدعاة إلى الله نوعاً من التلفيق الاجتهادي المذموم بغية الوصول إلى الهدف المطلوب والسيطرة المنشودة ومدّ النفوذ والعلو على كل موجه؛ تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة وإن كانت وسائلها ممنوعة؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت، والعبرة بإيجاد مصلحتهم المتوهمة ولو خالفت نصوص الشرع وقواعده الكلية .
إن هذا المبدأ الميكافيلي الذي سيطر على مناهج بعض الدعوات المغرضة حقق لهم انتصارات هامشية وامتداداً سرابياً بين الناس، ولكن على حساب المبادئ الشرعية والثوابت الخلقية في الإسلام .
يظهر هذا الانتهاك في عدة صور عملية واقعية كالطعن والثلب في العقائد والأعراض وتصيد الأخطاء والزلات لكل داعية يخالف منهجهم وتشويه المناهج الأخرى من أجل التصدر والاعتلاء على الساحة الدعوية.
وقد ترى تقلب المبادئ والمناهج بين الأخذ بالعزائم والتشدد في العقائد والعبادات وامتحان الناس بها وأخذ خواصهم بالرخص الملفقة وإسرارهم بها، يقول عمر بن عبد العزيز منبهاً على خطورة هذا المنهج البدعي الذي ظهر في زمانه : (( من جعل دينه للخصومات أكثر التنقل )) (39) كما نجد السعي الدؤوب في تبرير كل اجتهاد نَحَوْه مهما كان انحرافه وليّ أعناق الفتاوى فضلاً عن نصوص الشرع لتوافق أهواءهم وطموحاتهم الحزبية.
إن دعوة قامت على هذا الجرف الهار لا تلبث أن تنهار وتذهب ريحها ويتفرق جمعها (( إن الله لا يصلح عمل المفسدين )) (40) وسنن الحق سبحانه في أمثالهم جارية والزمن كفيل بإثبات الحق وإظهاره .
فالمصالح الدعوية إن لم تقم على ربانية صادقة مخلصة وتمييز للثوابت عن المتغيرات والمتغيرات عن الثوابت بفقه دقيق وتأصيل عميق، وإلا كانت بداية انحراف وزيغ وفتنة للدعاة تذكيها مع الأيام حركات فاتنة في صفقات غابنة لا مربح لأحد إلا أعداء الدعوة ودعاة السوء والفتنة.
-------------------------------------------------------
(1) المستصفى 2/139
(2) شرح الكوكب المنير 4/432
(3) مجموع الفتاوى 11/ 342
(4) انظر : الاستصلاح والمصلحة المرسلة د. الزرقا ص 39 ، السياسة الشرعية د. القرضاوي ص82 .
(5) انظر : إرشاد الفحول 3/808و809 ، الوجيز د. زيدان ص240، رفع الحرج د. الباحسين ص270، وفي ذلك يقول الإمام القرافي رحمه الله :‘‘ وهي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ؛ ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك " تنقيح الفصول ص446
(6) انظر : الموافقات 2/9 .
(7) إعلام الموقعين 3/13 .
(8) الأحكام للآمدي 4/32 .
(9) انظر المستصفى 1/141، شرح تنقيح الفصول ص446، البحر المحيط6/78-79،تقريب الوصول ص412، شرح الكوكب المنير4/432، ضوابط المصلحة للبوطي ص110 ومابعدها.
(10) المائدة 49 .
(11) النساء 59 .
(12) المائدة 44 .
(13) انظر : الاجتهاد المعاصر د. القرضاوي ص 68-72، ضوابط المصلحة للبوطي ص120 .
المسلم المعاصر العدد 13 بعنوان :( النص والمصلحة بين التطابق والتعارض ) .
(14) المصلحة المرسلة ص10 .
(15) المستصفى 1/ 296 .
(16) المرجع السابق 1/ 297 .
(17) انظر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام مادة ( 1004 ) .
(18) المستصفى 1/300 .
(19) مختصر الفوائد في أحكام المقاصد ص 133و 134 .
(20) المرجع السابق 1/296، وانظر أيضاً : إرشاد الفحول ص243 ، رفع الحرج للباحسين ص 265 .
(21) البحر المحيط 6/ 80 . ومثال الغزالي الذي أشار إليه الزركشي مسألة تترس الكفار بأسرى من المسلمين وهذا المثال يجري في هذا الضابط أيضاً لأن المصلحة ليست كلية بل تضرر بها أولئك الأسرى من المسلمين . انظر : ضوابط المصلحة للبوطي ص 341 ، نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص 454 ، رفع الحرج للباحسين ص 264 .
(22) انظر : مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص 141و142 .
(23) انظر: ضوابط المصلحة للبوطي ص217 وما بعدها .
(24) رواه البخاري في كتاب التهجد باب من نام عن السحر رقم(1132) ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب في صلاة الليل رقم (741 )
(25) انظر: مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص141و142، قواعد الأحكام 1/66 طبعة دار الكتب العلمية .
(26) قواعد الأحكام ص47 تحقيق الخنّ .
(27) مفتاح دار السعادة 2/14 مكتبة محمد علي صبيح .(4/201)
(28) المصالح المرسلة للشنقيطي ص 21 نقلاً عن معالم أصول الفقه للجيزاني ص245 .
(29) الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي د. عبد المجيد الشرفي ص118 .
(30) انظر : الفكر السامي للحجوي 1/286 .
(31) الموافقات 5/177 .
(32) الأنعام : 108
(33) البقرة :179
(34) انظر: الموافقات 5/180و181 .
(35) إعلام الموقعين 3/109 بتصرف .
(36) الموافقات 5/177 .
(37) انظر : الموافقات 5/177و233 ، الأشباه والنظائرللسيوطي ص322-325 ، نظرية المصلحة في الفه الإسلامي د. حسين حامد حسان ص193-199 .
(38) انظر : مدخل إلى التنمية المتكاملة د. عبد الكريم بكار ص 155 .
(39) الشرح والإبانة ص 143 نقلاً عن مناهج أهل الأهواء للعقل ص 90 .
(40) يونس: 81 .
=============
هوس الأسهم
سلمان بن يحي المالكي
الخطبة الأولى
فإن الله جل وعلا خلق المال وقسمه بين عباده ، وأضح لهم أنه زينتهم في دنياهم فقال " المالُ والبنونَ زينةُ الحياة الدنيا " وذكّرهم بالآخرة فقال " والباقياتُ الصالحاتُ خير عند ربك ثوابا وخيرٌ أملا " وجعل قيامه بينهم من أهم مصالحهم ، فلا تقومُ الحياة إلا به فقال " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " وجعل حُبَّه غريزةً في نفوسهم فقال " وتحبون المال حبا جما " وأمر بأخذه من حلِّه وإنفاقه في حله ، وأوجب على الخلق أداءَ حقوقه وواجباته فقال " وفي أموالهم حق معلوم " وأمر بالتوسط في إنفاقه فقال " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " وبيّن أن كنز المال من أسباب عذاب الآخرة فقال " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " وكل مال أوديت زكاته فليس بكنز ، وجعل العقوبة بقطع اليد زجرا وتغليظا لمن سرقه من صاحبه فقال " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " وأمر الرسل بالأكل من الطيبات فقال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا " وحرم علينا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل فقال " يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وأمر بوجوب الأمانة بحفظه وأدائه فقال " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "
عباد الله :
لقد كان المال محترما في الشريعة ولا زال ، والله سبحانه يريد أن تُتناول الأموال بين العباد ليستفيدوا منها ، ولذلك لم يجعلْ الفيءَ في أيدي الأغنياءِ يوزعوه كيف ما شاءوا ، بل جعل له مصارفَ تُصرف فيه " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيل كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم " [ أي كي لا يبقى بين الأغنياء يتصرفون فيه بمحض إرادتهم وآرائهم وشهواتهم فلا يصرفون منه شيئا لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ]
أيها المسلمون :
لقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المال الحلال الذي يعين صاحبه على الحق فقال " نعم المالُ الصالح للرجل الصالح " وقال " لا حسد إلا في اثنين , رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق " وجه النبي صلى الله عليه وسلم أحد صحابته بتوجيه نبوي رشيد فقال " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " فهذا المالُ يورّثُه المسلمُ لورثته بعد موته ليرتاح ضميرُه وتطمئن نفسُه وينتفع به أهلُه ، وقد كان أبو بكرٍ من أتجر قريش ، ولما قُتل عثمانُ رضي الله عنه بلغت غلّتُ نخله مائةُ ألف ، وكان عبد الرحمنِ بنِ عوف يقول " يا حبذا المالُ أصون به عرضي وأتقربُ به إلى ربي " فلما مات كانت الفؤوس تتكسر على الذهب والفضة التي خلّفها لأهله وكان له أربع نسوة ، نصيب كل واحدة منهن : أربعمائة ألف درهم ..
عباد الله :
المال فتنة ، وقد مدح الله رجالا لا يلتهون به عن ذكره فقال " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامٍ الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، ليجزيهم الله أحسنَ ما عملوا ويزيدَهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب " وهذا المال وإن كان من أسباب السعادةِ في الدنيا فقد يكون شقاءً على صاحبه إذا صرفه عن ذكر الله وأورده المحرمات وجعله أشِرا بطِرا مختالا فخورا ، وهذا من كبراء اليونان صاحبُ جزرٍ وأساطيل ، وطائراتٍ ومليارات ، حماماته من الذهب ، كان يتباهى بمالهِ وثروته ، فمات وقد بنى لنفسه قبرا كالقصر ، فكان يقول لأصدقائه وأصحابه : إذا ما مت فإنه يجب عليكم أن تأتوا وتشربوا عند قبري الخمر حتى أخرج وأشرب معكم ، فمات لكن في طائرته المحترقة التي هوت به من السماء ولم يدخل ذلك القبر الذي بناه ، فآلت تركته إلى ابنته التي ماتت منتحرة في السابعة والثلاثينَ من عمرها ، فآلت التركة بعد ذلك إلى حفيدته التي ماتت في حادثٍ أليم ، ليكون الوريث بعد ذلك للمال كلبها ..
عباد الله :
إن حاجة الأمة اليوم للمال عظيمة ، لتكون قويةً ولتصون نفسها عن ذلِّ أعدائها ، فأنتم ترون ما تفعله المؤسسات الدولية العالمية الماليةِ والتي يسيطر على كبار اليهود ، كيف يفعلون بالدول والشعوب الفقيرة من الإقراضات التي لها فوائد مركبة ، لا يمكن أن تسدّد حتى قيام الساعة ، لأنها لا تزال في ازدياد ..
عباد الله :(4/202)
لقد جاءت طفرةٌ في عالم الأسهم هبّت رياحها على هذه البلاد ، وتُوِّجَ العام الذهبي قبلَ المنصرمِ ألف وأربعمائةٍ وخمسٍ وعشرين للهجرة النبوية بارتفاعٍ في الأسهم لم يسبِق له مثيل ، وبلغتِ القيمةُ السوقيةُ بخاناتِ تِلِرْيون بعد ما تجاوزت المليارات ، ودخل في هذا السوقِ من الناس الكثرةُ الكاثرة ، ولكنَّ هذا السوقَ فيه تلوّثٌ كبير وغش وتدليس وخداعٌ وإشاعات وأكاذيبٌ وخيانةٌ للأماناتِ وكشفٌ للأسرارِ واحتكارُ أشياء لا يجوزُ احتكارها وحركاتٌ غيرُ محسوبةٍ وتسريبٌ للمعلوماتِ مقابلَ أموالٍ ، لقد دخلت حمّى المضاربة فاجتاحت المجتمع ، حتى صارت حديثَ البيوتِ والرجالِ والنساءِ وطبقاتِ المجتمع من الأغنياء ومتوسطي الدخلِ وحتى الفقراء ، وصارت الشاشاتُ فتنةً للناس ، وأصبحَ التشاؤم في اللون الأحمر والتفاؤل في اللون الأخضر ، ويشهد المجتمعُ ظاهرةَ التعلّقِ المحموم بهذه الأسهم والاهتمامِ الشديد بها ، حتى طغت على أداءِ الحقوق وأشغلت الناس عن متابعةِ أحوال إخوانهم المسلمين ، وصار بيعُ المدخارتِ والممتلكاتِ والتهادي بالأسهم ، وأخذِ القروض بأي طريقةٍ ، وسرتَ المجالسُ بالحديث في التفاخرِ بامتلاك الملايينِ بسبب اللَهَاثِ خلفَ هذه المضاربات ، مؤشراتٌ عجيبة ، كمياتُ تداولٍ ضخمة ، قِيَمٌ سوقيةٌ رهيبة ، وهكذا .. بلغت قصصُ التحوُّلِ الفجائي إلى الثروةِ أمرا متنَاقَلا عبر الألسن ، وازدحمتْ صالاتُ التداولِ ، وصار الناس يعملون من خلال أماكنِ العمل في هذه الأسهم ، وأجريت دراسةٌ أحصت عدد الساعات المهدرة من الأعمال بثمانمائةِ ألف ساعةٍ يوميا بسبب الأسهم لخروجهم من الأعمال أو عكوفهم على الشاشات في وقت العمل ، وبعضُهم قام بتركيب خطوطِ هواتفَ خاصة في مقرِّ عمله لكي يعمل من خلالها ، وعندما يُعلَنُ الاكتتاب يزدحمُ الناس بتدافع وفوضى ، وتنشبُ المعاركُ في خطوط الانتظار وبين الموظفين والمراجعين ، وبين المراجعين أنفسِهم ، حتى وصلت القضيةُ إلى حدِّ كسرِ زجاجٍ أو اقتلاع بابٍ ، ويسقطُ أحدهم مغمى عليه ، فلا يتجرأ شخص لإنقاذه ، لأن الجميع يخشى فواتَ دورِه في الصف ، وتحولت المجالسُ والمقاهي والمنتدياتُ والمكالماتُ إلى بورصاتٍ للبيع والشراء ، طمعا في الثراء السريع ، واتجه بعض الناس للاقتراض بالربا المحرم الذي لعن الله صاحبه ، وبعضُهم دخل في عملياتِ تورُّقٍ ضخمة ، من أجل أن يحصُل على سيولةٍ ليتاجر بها في سوق الأسهم ، وصار النزاع بين الأزواج والزوجاتِ على حقِّ الزوجة الذي قضى عليه الزوج ، فاكتتب باسم زوجته وباع واشترى وهي لا تدري ، ثم حصل النزاع بين الزوجين على أسماء الأولاد ، من الذي له الحقُّ أن يكتتب بأسمائهم .؟ وهكذا رُهنت بيوتٌ وبيعت أماكنُ السكن من أجل الحصول على الأموال التي يتاجرون بها في هذا السوق ، وباع أناس مصالحَ معيشتهم ، وأغلقوا أبوابَ أرزاق عددٍ من العاملين فيها " والله يرزق من يشاء " حتى رُعاة الماشيةِ باعوا قُطعانهم ، وصار أحدهم يقول : لماذا أُتعب نفسي وأدخلُ في دواماتِ الكد والكدح والمشكلات مع العمال والسوق وأنا أستطيع من خلال ضغط الأزرار على هذه الشاشة أن أكسبَ أضعاف أضعاف ما أجنيه من وراء هذه الماشية ، ولم يفكر أولئك القوم أن هذه الحركاتِ اليسيرة عبر الشاشاتِ لا تبني شيئا في المجتمع ، إنها ليست عملياتُ تصنيع ولا زراعة ، وليس فيها تنميةٌ للمجتمع ، وليس فيها مما يفيد المجتمعََ شيءٌ على الإطلاق ، إنها نظرةٌ فرديةٌ فقط ، فالمساهِم ينظُرُ لذاته بغضّ النظر عن مصلحة المجتمع ، طفرة عجيبة أُصيبت بها الأسواق ، وصارت مكرَّرَاتُ الأرباحِ إلى مستوياتٍ لم يسبق لها مثيل ، وإذا كان مكرَّرُ الربحِ هو سعرُ السهم زائدِ العائدِ السنوي للسهمِ ، فتأمل في الوضع غيرِ الطبيعي على الإطلاقِ الذي يصلُ فيه مكرّرُ ربحُ شركةٍ من الشركات شبهِ المغلقة إلى تسعةِ آلاف ، وهذا الربح لم يحدث في البورصات اليابانية والأمريكية والعالمية على الإطلاق ، وهذا الكلام مهمٌ في تبيُّنِ حكمِ بعضِ أنواع الممارسات من هذه الجهات ، فإذا كانت الشركة شبهُ مقفلةٍ وأنشطتها في الحدود الدنيا ولا يكاد يوجد عندها شيء تبيعه ، ولا يكاد يوجد لها أرباح ، بل إنها في خسائر ، وربما لم يصبحْ لديها إلا ستة موظفين ، فكيف وبأي عقل وبأي منطق وبأي مقياسٍ يُصبح سعرُ سهما قريبا من ألف وقيمةُ السهم الحقيقية لا تتجاوزُ الستين ريالا ، ومعنى الكلام عباد الله : أن الناس يضاربون في الأوهام فيبيعون ويشترون في الأوهام ، وهذه الأنواعُ من الشركات التعاملُ بأسْهُما ضربٌ من الميسر والقمار ، وقد بان عوارها في الانهيار الذي حصل في السوق ، فهذا الارتفاع الذي لا يوجد له أيُّ مبرّرٍ في ارتفاعه ، فلا يوجد لها ميزانية أو أرباحٌ سنوية أو نصفُ سنويةٍ أو ربعُ سنوية تبرّر هذا الارتفاع ، إذا : هي مبنية على المخادعة والغش والتحايل ، وتغشى الأسهم عبادَ الله محرمات كثيرة ، ومن ذلك : نشرُ الشائعاتِ غيرُ الصحيحة ، من أجل التأثير على سعر السهم ، وتسريبُ الأخبارِ لأناسٍ معينين لقاءَ مبالغَ مالية
، وكذلك العروضُ والطلباتُ الوهمية التي تسبقُ افتتاحَ السوقِ بدقيقةٍ أو دقيقتين للتأثيرِ على السهم ، وهذا غشٌ وتدليس محرم ، وكذا العروضُ الضخمة التي يضعها المضاربُ في السهم ليوحي للمساهمين أنه سينزِل بينما هو يشتري في الحقيقةِ وعكسُه أيضا ، والتزويرُ للأعلى وللأسفل بينما المضارب يشتري ويبيعُ لنفسه ، وقد كُشفت حيلٌ عجيبة في هذا الباب ، وهذه الألاعيبُ هي في الحقيقة إضرارٌ بالمسلمين تسبب الخسائر الحادة في أموالهم ، والذي لا يعرف عن الأسهم وأحوالها شيئا هو الضحية الخاسر ، وقد دخل في هذا السوقِ من الجهلة من لا يعرف فيها نظاما ولا قاعدة ، ولا يكاد يعرف إلا الألوان ، وقد أجريت إحصاءات تَبيَّن من خلالها أن ثلاثة وسبعين بالمائة لا يعرفون سوى الأحمر والأخضر ..
عباد الله :
لا بد من إيجادِ حلولٍ لهذه المشكلات في التضخمِ التي تحصُل في السوق ، وهذه الحلول تكمن في صرِف الأموال إلى الاكتتاب بدل المضاربة ، لأن الاكتتاب هو إنشاءُ وإقامةُ شركاتٍ فيها نفع للناس ، وصرفُ السيولة في المشاريعِ الجديدة تخدمُ البنية التحتيةِ والفوقيةِ للمجتمع المسلم ، كما أنه ينبغي إيقافُ الشركاتِ الخاسرةِ حتى تعيدَ ترتيب أوراقها ، وكذلك إقامةُ وتشجيعُ شركاتٍ جديدة فيها نفعٌ للناس ليكتتبوا فيها وينتفعوا بالمساهمة من ورائها ، سواءٌ في الأرباح أو ببيعِ أسهما إذا صار وقتُ التداولِ بعد الاكتتاب ..
أيها المسلمون :(4/203)
عندما تكون هناك فئة تلعبُ بالسوق ، ترفعُ الأسعار وتخفِضها باتفاقات خفية ، أليس هذا محرم شرعا .؟ إنه حرام ولا شك ، والمكاسب من وراء هذه الألاعيب حرام ، واللذين يقومون بها إنما يأكلون المال السحتَ الذي يوردهم النار ، وتسمع من يقول : إن التجارة شطارة ، ويا سبحان الله ، أتكمن الشطارة في إيقاع الآخرين في الخسائرِ والتغريرِ بهم وخداعِهم ، وقد صدقوا إذْ قالوا : إن التجارة شطارة ، فإن الشاطر في اللغة هو اللئيم الخبيث قاطعُ الطريق ، إن هذا التلاعب الذي شهده السوق في الأسابيع الماضية سبّب انهياراتٍ مالية ، وتخضم مالي كبير بغير مبرر ، وإن استغلال الغفلة التي يتصف بها بعض المساهمين ليست من الإسلام والمروءة في شيء ، ولذلك تكلم المتقولون في هذا الجانب بعلم وبغير علم ، وصار كثيرونَ خبراءَ في السوق يُدْلون بآرائهم ويكتبون في المنتدياتِ ويرسلون عبر الجوالاتِ ويعلّقون في الجرائد والصحف ، وكثيرون سمّاعون لهم ممن يجهلون حقائقَ الأمور ، وبناء على أقوالهم يبيعون ويشترون ، وعصاباتٌ تغدوا وتروح في سخط الله جل وعلا ، والنتيجة ضحايا من المسلمين ، لا شك أن مثل هذا الوضع مخزي ومردي ومهلك ، وهذه النتائج التي رأيناها في الشاشات من الخسائر هي نتيجةُ خلو البركة بسبب هذه الألاعيب ، إنها ليست خسائر طبيعيةٌ لكي نقول لأولئك المساهمين : ارضوا بالقضاء والقدر وهذا هو حال التجارة ، ربحٌ وخسارة ، ولا شك .. فإنه يجب الرضا بالقضاءِ والقدر في جميع الحالات ، ولكن أن يكون من وراء هذا تلاعبٌ واحتيالٌ ونصبٌ وخديعةٌ وإضرارٌ بأموال المسلمين ثم يقال : هذه تجارة ، كلا والله ، وهؤلاء اللذين اقترضوا بالربا ثم دخلوا في هذه المساهمات ، فقد ابتلاهم الله وعاقبهم بهذه الخسائر الفادحة ، لأنه لما انهار السوق ، أرادوا الخروج بأي طريقة كانت فما استطاعوا ما اهتدوا إلى ذلك سبيلا ، لأن الطلب على الشراء صفر ، والعرضَ هائل ، وهو يرى أرباحه تتآكل على الشاشة واللونُ الأحمر يستمر ويستمر ، ليصل التآكلُ إلى رأس المال ، ثم بعد ذلك يُطرد من السوقِ شرَّ طِرْدة ، وعليه حينها فإنه ولابد من تسديد الربا بالإضافة إلى المبلغ الأصلي الذي أثقل كاهله به ، وعندما يعطي البنك ما يسمى بالتسهيل المالي مقابلَ مبلغٍ معين يودعه هذا المضاربُ في البنك فيقول له مثلا : تودع مائة ألف لتضارب بها وأزيدك عليها مائة ألف ، فإذا بدأ يخسر في أسهمه إلى المائة الألف التي أخذها من البنك طرده البنك وباع أسهمه رغما عنه حتى يضمن البنك حقه ، ولا بد من تسديد البنك بعد ذلك ، وأصبح أناس بين عشية وضحاها ضحايا ركبتهم أنواع من الهموم والغموم والديون ، ولذلك صار من أحسن المشاريع علاجا لمن أصبح ضحية هذا الانهيار: العيادات النفسية ، فقام سوق الجلطاتِ وأمراضُ الضغطِ والسكري ومراجعةُ المستشفيات وسياراتُ الإسعاف وحالاتُ الهلوسة ، وأصبح من الناس من يكلم نفسه كالمجنون ، وهذا الذي يصلي أمام الشاشات إدمانا لها ، وثلاثة عشرة جلطة أصابت ثلاثة عشر شخصا ، وازدهر سوق المستشفيات وعلت الناس النوباتُ والسكتات القلبية ، وكل ذلك بسبب الأسهم وصدق الله " إن الإنسان خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا " إنه أمر ظاهر في سوق الأسهم اليوم ، هم وغم ونكد ، وضيق صدر وهلع ، وتسمع الأخبار العجيبة من أحوال الناس وما آلت إليه أمورهم ، ثم سوءٌ عجيب حصل في العلاقات الزوجية بسبب تتبع البورصة بحسب حال الألوان ، فاصطبغت الحياة بألوان المؤشرات وانعكست تلك الألوان على الأمزجة والعقول والنفوس فحصل الطلاق والفرقةُ وهدمُ البيوت وتشتت الأبناء وعانت الأمهات وتفرقت الأسرة ، فأي حال هذه التي ألقى بها هؤلاء أنفسَهم فيها ، طيشان العقولِ عند نزول المؤشرات وهذه التأثيرات النفسية البالغة على النفوس والأرواح ، إنها كارثة خطيرة تجتاح المجتمع ، لا بد أن يتصدى لها أهل العلم والأخصائيون والاجتماعيون وعقلاءُ المجتمع ، فالمسألة ليست بهذه السهولة ، لأنها تحتاج إلى تأملات واستيضاح ،
عباد الله :
مهما ارتفع المؤشر فلا بد أن يهبط ، وهذا هو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم " حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه " [ رواه البخاري ] احفظوا هذا الحديث جيدا " حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه " وهذا أمر ثابت عند الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمور الدنيا إلا وضعه الله وحطّه وطرحه ، وذلك لهوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة فيها وحتى يتعلم الناس أنها لا تدوم .
اللهم إنا نسألك العفو والعافية ، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فا ستغفروه إنه غفور رحيم .
الخطبة الثانية
إن هذا السوق المليء بالخديعة والتلاعب والتدليس والكذب والحيل هو في حقيقة الأمر سوق ملوثة ، والتلويث أصلا واقع في كثير من الشركات المحرمة لحرمتها بالإضافة إلى تلاعب مساهميها بين فينة وأخرى فيها ، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تتضح عباد الله : الحكمة في مثل هذه الأمور ، وإن من الحكمة انتهاز فرصةِ الاكتتاب في الشركات المباحة التي ينصّ على حلّها العلماء ومن لهم رسوخ علمي في هذا المجال ، فإن مثلَ هذا التصرفِّ فيه انتهازُ للفرص واستثمارٌ في تلك الشركات ، لكن أن يبعَ بعضُ الناس البيوت والسيارات وتبيعُ بعض النساء ما لديها من ذهب ومجوهرات لأن من النساء من شملتها حمى الأسهم ، فيبقى المسلمُ بلا بيت يأوي فيه قد كان يوما من الأيام يملكه ، ويتحمل عناء ومشقة بلا مركب قد كان يوما من الأيام يركبه ، ويبيعُ أمورا من حاجاته المعيشيةِ الأساسية التي هي من صلب الحياة اليومية ليدخل في سوق يضارب فيه وهذه حال اضطرابه وانهياره فهذا ليس من الحكمة في شيء ، ومن الناس من يقترض بالحرام ليدخل في السوق الملوث ، والدخولُ في تجارةٍ كهذه بأموال حرام ، لا يبارك الله فيها ، ولذلك خسر الكثير من هؤلاء في هذا الانهيار فلا ربحوا من جهة المضاربة ولا استفادوا من هذا القرض ، عباد الله :
كان من القواعد العمرية التي سنّها أمير المؤمنين عمرُ رضي الله عنه في حياته : أن لا يدخلَ في السوق إلا من يفقه ، وعلى هذا فإنه ولا بد من تعلم الأحكام التي تتعلق بالأسهم لمن يريد الدخولَ في سوقها ، وهذه طائفة منها :
أولا : المساهِمُ في أي شركةٍ يملِكُ حصّةً شائعةً في كلِّ موجوداتِ الشركة ، وشهادةُ السهم وثيقةٌ تُثبتُ حقه في تلك الحِصّة .
ثانيا : شراءُ أسهمِ الشركات التي تُمِارس نشاطا محرما كالربا وإنتاجُ المحرمات والمتاجرةِ بها حرام قطعا.
ثالثا : شراءُ أسهمِ الشركاتِ التي تمارسُ الأنشطةَ المباحةَ كالزراعة والصناعة والخدمات المباحةِ هي حلال من جهة الأصل .
رابعا : الشركاتُ التي لها أصلٌ مباحٌ ، لكنها تتعامل في بعض الأوضاع بالحرام كالاقتراض بالربا وهي ما يسمى بالشركات المختلطة فأكثر العلماءِ الثقاتِ المعاصرين وفتاوى المجاميع الفقهية على تحريمها .(4/204)
خامسا : المساهمُ يملك حصةً شائعة في موجوداتِ الشركة ، ولذلك فإنه شريكٌ في جميعِ ما يحدث في هذه الشركة ، ومن ذلك المال المختلط بالربا ، فعندما يشتري سهما في شركة ، وتقترض الشركةُ في الربا ، فقد صار للمساهِمِ نصيبٌ من المال المأخوذِ بالربا ، ولذلك يجب نُصح مجالسِ إداراتِ الشركاتِ لأن بقاءَ المساهمينَ دون أن يبدوا أيَّ حِراك في هذه العملياتِ المحرمة ، هو غفلةٌ وتقاعدٌ وتركٌ للأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر ، وهذا كسل وتدمير للدين ، فأين حركةُ المساهمين ونصحُهم لمجالسِ الإدارات لأن مجلسَ الإدارةِ هو الذي يقومُ بالنيابة عنهم في هذه القرارات .
ساداسا : من اشترى أسهُما من مصرِفٍ يتعاملُ بالربا أو شركةٍ تتعامل بالحرام ، فيجب عليه أن يتوبَ إلى الله بالندمِ على ما فات والعزمْ على عدم العودة ، كما يجبُ عليه أن يتخلّص من الأسهم مباشرةً ويخرج من الشركة المحرمة التي هو شريك ومساهم فيها .
سابعا : من كان عنده أسهمٌ في شركةٍ اكتشف أنها محرمةٌ ، ولم يكن يعلمُ بالتحريم من قبل ، فإنه يجب عليه الانسحابُ منها مباشرةً ، وله ما حصل من الأرباح ، لأنه لم يكن يعلم الحقيقةَ من قبل ، فما استلمه من ربح في الفترةِ السابقة التي لم يكن يعلم فيها بالحكم فهو له .
ثامنا : من اقترض بالربا ليدخلََ في المساهامات فإنه يجب عليه أن يتوب إلى الله ويبيعَ الأسهم فورا لتسديدِ القرض الذي اقترضه حالا ، لأنه لا يجوز للمسلم أن يَمضي في العقدِ المحرمِ لأنه عقدٌ باطل ، والواجب عليه إعادتُه فورا إلى الجهةِ التي اقترض منها .
تاسعا : من كان يعلمُ أن هناك محرما في معاملاتِ الشركة ثم اختلط بحلال فيها وتاب إلى الله عز وجل ، فإنه يتخلص من نسبة الحرام وينسحب .
عاشرا : المالُ المحرم الذي حصل عليه ينفقه في بعض وجوه الخير كتعبيد الطرق وحفر الآبار التي ينفع بها المسلمين ، ولا يتصدق منه ولا يعطي منه للزكاة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، ولا يحِلُّ له أن يأخذَ منه شيئا ولا يعطيه نفقةً لأقاربٍ يجب عليه أن يُنفق عليهم كالزوجة والأبناء ، فليس إعطاؤهم منه من التخلص الشرعي منه في شيء .
الحادي عشر : التخلصُ من الأرباح المحرمةِ يكونُ بناءً على ما يخرج في الميزانية من الشركة ، فلا بد أن ينظر في ميزانيةِ الشركة حتى يتخلص من المال .
الثاني عشر : للشركات التي فيها حرام ، لا فرق فيها بين المضاربِ والمستثمر ، فالذي أخذ أسهمها ليبقيها عنده ، والذي اشترى أسهمها ليتاجر فيها ويضارب بها ، كلاهما في الحكم سواء ، فالتحريم فيهما سواء ، لأنه لا فرق في الشرع بين أن يبقي السهم عند المساهم سنوات أو يبقيه ساعات ، لأن المساهم سيبقى شريكا في هذه الشركة المحرمة ما دام مشتركا فيها . الثالث عشر : الأسهم التي تسمى ممتازة وتُميز أصحابها بأن يحصُلوا على ربحٍ أكثر من الآخرين ، أو أن يُبدأَ بتعويضِهم عند تصفيةِ الشركة ونحوِ ذلك ، فهذه أسهمٌ محرمة لا يجوز شراؤها ، وأما الأسهم الممتازةُ التي تُعطِي بعضَ المساهمين القدامى الحقَّ في الاكتتاب قبل غيرهم من غير المساهمين عند إرادةِ زيادة رأسِ المال ، فليس فيها محذورٌ شرعي ولا بأس بهذا العمل الرابع عشر : من أحكام الأسهم أنه يجوز إقراضُ السهم وعلى المقترضِ ردُّ مثله سواءٌ ارتفع السعر أم هبط ، فإذا اقترض شخصٌ عشرة أسهم من شركةٍ معينة فإنه يردها عشرة كما أخذها .
الخامس عشر : يجوز رهن الأسهم ، وعند الحاجةِ إلى أخذ الحق تُباع هذه الأسهم ويُستوفى الدينُ ويُردُّ الباقي إلى صاحب الأسهم .
السادس عشر : يجوز شراء الأسهم عن طريق التقسيط ما دامت الشركات مباحة والمعاملات فيها مباحة ، وله أن يبيع ما اشترى من أسهم متى ما أراد لأن الشراء الأول انتهى بتملكه للأسهم وعليه دين وهو ثمنها ، فيجوز بيعها ما دام قد امتلكها في أي وقت يشاء ولو كانت الأقساط لم تنته بعد .
السابع عشر : يجوز قيامُ جهات مالية بتنظيم عمليات الاكتتاب في الأسهم والشركات المباحة مقابل أجرة معينة .
الثامن عشر : أجاز بعض العلماء المعاصرين أن يدخل صاحبُ الاسم الذي ليس معه سيولةٌ مالية مع آخر معه سيولة مالية في اكتتاب ويكون الربح بينهما عند بيع السهم على حسب النسبة التي اتفقا عليها ، أما بيع الأسماء من الشخص الذي ليس معه سيولة لشخص معه سيولة فهذا محرم .
التاسع عشر : لا بد من القيام بزكاة الأسهم ، وعندما يتاجر المسلم فيها فإنها تصبح من عروض التجارة فلا ينسى حق الله فيها ، فتؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية كل حول والله أعلم .. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ... اللهم طيب أرزاقنا واجعلها حلالا يا أرحم الراحمين ، اللهم دلنا على الخير واستعملنا فيه وجنبنا الشر وابعدنا عنه اللهم اجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين أمنوا ...
===============
الهدية وأحكامها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
للهدية عظيم الأثر في استجلاب المحبة وإثبات المودة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب.
* وهي دليل على الحب وصفاء القلوب ، وفيها إشعار بالتقدير والاحيرام ، ولذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، قبلها من المسلم والكافر ، وقبلها من المرأة كما قبلها من الرجل ، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي وعلى قبول الهدايا .
* فكم من ضغينة ذهبت بسسبب هدية !!
* وكم من مشكلة دفعت بسبب هدية !!
* وكم من صداقة ومحبة جلبت بسبب هدية !!
* وها هي جملة نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، باب قبول الهدية ومجازاة من أهدى إليك ، والحث على الإهداء والهدية من الكافر ومن المسلم وللكافر والمسلم ، والموانع التي قد تتدخل لمنع الهدية ولمنع قبولها أو كراهيتها وكراهية قبولها . وبالله التوفيق .
* أخرج البخاري رحمه الله تعالى ( /2585 / وقد أعله بعض العلماء بالإرسال وهو الصواب لكن انظر إلى الشواهد التي ذكرناها في هذا الباب) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان سول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها .(ومعنى يثيب عليها : أي يجازي المهدي بهدية أيضا ) .
* وفي الصحيحين (البخاري:2576 ومسلم :1077) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه : أهدية أم صدقة ؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه : (كلوا ) ولم يأكل وإن قيل : هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم .
* وكان الأنصار يهدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين (البخاري:2567)
من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة : ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت : يا خالة ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فسقينا. (منائح : النوق أو الشياه )
* وأخرج الإمام أحمد(في المسند :4/189 ، وله شاهد يصح به قصة إسلام سلمان عند أحمد:5/441) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة .(4/205)
* وفي (سنن أبي داود:4235 وابن ماجه:3644) بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي ، قالت : فأخذه رسول الله بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة أبي العاص بنت ابنته زينب فقال ( تحلي بهذا يا بنية ) .
الحث على الهدية ولو بالقليل
* وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإهداء ولو بالقليل فقال عليه الصلاة والسلام : ( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ).
أخرجه البخاري :2566 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
{ لجارتها : وقد تطلق الجارة على الضرة أحيانا ، وهي هنا عامة فالمراد جارة المنزل والمراد الضرة أيضا ، والله أعلم } .والفرسن هو موضع الحافر ، والمراد أن النبيصلى الله عليه وسلم حث المرأة على الإهداء لجارتها والجود بما تيسر عندها ، وإن كان هذا المهدى قليلا فهو خير من العدم ، وهو دليل على المودة ، وفي الحديث أيضا حث للمهدى إليها على قبول الهدية وإن قلت الهدية فهي دليل على تقدير المهدية للمهدى إليها .
* وروي أيضا عن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تهادوا تحابوا).
أخرجه البخاري في الأدب المفرد/594/ ومن المعلوم أن الأدب المفرد للبخاري غير صحيح البخاري ، والحديث إسناده حسن لشواهده.
الحث على قبول الهدية
وأخرج( البخاري في الأدب المفرد: 157)بإسناد صحيح عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين). أخرجه أحمد في المسند :1/404 وأبو يعلى:9/284 وابن شيبة في المصنف :6/555 . ذكر فريق من العلماء أن القاضي يحرم عليه قبول الهدية ، خاصة ممن يقضي بينهم أو ممن يظن أنه سيقضي بينهم أو ممن يشفع عنده في الأقضية .
قبول النبي قليل الهدية وكثيرها
* وكان عليه الصلاة والسلام يقبل القليل كما يقبل الكثير .
ففي الصحيح (البخاري:2568) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت ).
والكراع من الدابة ما دون الكعب .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ( فتح الباري :5/236) : وخص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها ، والكراع لا قيمة له .
إذا رددت الهدية فبين سبب ردها جبرا للخاطر
( إذا كان الخاطر يجبر بذلك ، أما إذا كان الخاطر يكسر ببيان سبب الرد فلا تبين والله أعلم )
* وكان إذا رد هدية علل سبب الرد جبرا لخاطر المهدي .
ففي الصحيحين ( البخاري:2573 ومسلم 1193) من حديثالصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال : ( أماإنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) .
* قال الحافظ البن حجر رحمه الله : وفيه أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية .
قبول الهدية من النساء
(محل ذلك إذا أمنت الفتنة كما سيأتي التنبه عليه إن شاء الله تعالى )
* وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية من النساء كذلك .
ففي الصحيحين ( البخاري: 2575 ومسلم ص 1544) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : أهديت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطا وسمنا وأضبا فأكل صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن وترك الأضب تقذرا .
قلت : وفيه من الفقه أن المهدي إذا أهدى هدية ورد منها شيء لعلة فلا يحزن ويلتمس العذر لمن رد الهدية أو جزاء منها ما دامت العلة واضحة .
* وأخرج الإمام أحمد (المسند:4/189) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: كانت أختي تبعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فيقبلها .
لا ترجع في هبتك
وشيء سيئ أن تهدي ثم تعود في هديتك وترجع في هبتك فأولى لك أن لا تهدي أصلا أفضل من أن تهدي وترجع في هديتك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه ) . { البخاري:2589 ومسلم:1622 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا } .
إياك أن تهدي ثم تمن
وكذلك لا تهدي ثم تمن على من أهديت له ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : ( قول ومعروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى) .
{البقرة:263،264} .
فلا تعطي الأعطيات وهب الهبات وتقدم الصدقات ثم تتبع ذلك بالمن فالمن يبطل ثواب الصدقات وثواب الهدايا قضلا عما يدخر للمنان من العذاب .
* قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار ، قال أبو ذر : خابوا وخسروا ، من هم يارسول الله ؟ قال : ( المسبل والمنان والنفق سلعته بالحلف الكاذب ) .اخرجه مسلم :106 من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا .
* وفي رواية أخرى عند مسلم أيضا : ( المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه ) .
الهدية من أحد الزوجين للآخر
* وللهدية من أحد الزوجين للآخر أثر طيب في توطيد أواصر المحبة وتنمية مشاعر الود ، ومن ثم قال الله تبارك وتعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) . {النساء:4}.
أي : إن طيبت المرأة نفسها وأعطت زوجها من صداقها فلا حرج على الزوج في قبوله والأكل منه ، فليأكله هنيئا مريئا .
وبالنظر إلى الآية الكريمة ، نرى _ والله أعلم _ أن الزوجة إذا أهدت إلى الزوج تهدي إليه شيئا من الصداق ، ليس كل الصداق ، وذلك حتى تبقى لنفسها شيئا تتصرف فيه عند احتياجاتها الخاصة ، والله أعلم .
وكذلك للهدية من الزوج لزوجته عظيم الأثر في جلب مودتها ودفع الوساوس عنها وإثبات محبتها ، وهي دليل على التراحم وخاصة إذا صحبت بالكلمات الطيبة والعبارات المريحة والابتسامات الصادقة .
وإذا كان عندك هدية واحدة فلمن تهديها ؟
تهديها للأقرب فالأقرب ، قرابة النسب وقرابة الجوار ؛ فها هي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لها وليدة ( أي : أمة من الإماء ) فأعتقتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (أما إنك أعطيتيها أخوالك كان أعظم لأجرك) . { البخاري :2592 ومسلم :999 }.
فمع انها أعتقت الأمة فهي _ بلا شك إن شاء الله _ مأجورة لعتقها الرقبة ولكن هنا فاق أجر الهدية أجر العتق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولو وصلت بها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك ) .
فالهدية في بعض الأحيان تفوق الصدقة في الأجر ، وذلك إذا وقعت موقعها في التأليف والوصل وابتغاء الأجر والثواب .
* وأخرج البخاري: 2595 من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال : ( إلى أقربهما منك بابا ) .
* فيستفاد من هذين الحديثين أن القريب يقدم على الغريب وأن الأقارب إذا استووا في درجة القرابة قدم الأقرب بابا ، وهذا كله إذا كان هؤلاء محل احتياج ، والله أعلم .
قبول الهدية من المشركين والإهداء لهم
( ومحل ذلك إذا لم تكن رشوة عن الدين أو للإقرار على الباطل )
* وقبل نبينا صلى الله عليه وسلم الهدية من المشركين .
ففي الصحيح ( البخاري:3161 ومسلم :1392 ) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ، وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا .(4/206)
وفي الصحيحين ( البخاري:2617 ومسلم :2190 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .) كذلك أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها .
* وأهدي أكيدر دومة الجندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة . ( البخاري معلقا:2616 ومسلم متصلا من حديث أنس رضي الله عنه .) .
* وانظر ترجمة مارية رضي الله عنها ( أم إبراهيم عليه السلام وسرية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإصابة ) فقد ذكر هناك أن المقوقس أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
* وأيضا فإن إبراهيم الخليل عليه السلام لما دخلت زوجته سارة على الجبار الكافر ورد الله يده وكبته الله أهداها هذا الكافر هاجر رضي الله عنها.
(البخاري :2635 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هاجر إبراهيم بسارة فأعطوها آجر فرجعت فقالت : أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة ؟! والحديث مطول في مواطن أخر من الصحيح.
* وكذلك فالإهداء للمشركين جائز ، قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) . {الممتحنة:8 ـ9}.
* وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي يكر رضي الله عنها ، قالت : قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال : ( نعم صلي أمك ) . أخرجه البخاري:2620 ـ5978 وهناك قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين .. .. ) .{الممتحنة:8 ـ 9} وأخرجه مسلم:3/41 .
* وأهدي عمر حلة لأخ له مشرك بمكة قبل أن يسلم أخوه (انظرالبخاري:2619) .
* لكن إذا كان هذا الكافر سيتقوى بهذه الهدية على المسلمين ويؤذيهم ويتمرد عليهم ويتجبر فحينئذ لا يهدي إليه و لا كرامة.
* وأخرج الترمذي :1943 وأبو داود:5152 والبخاري في الأدب المفرد:105 بإسناد صحيح من طريق مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبت له شاة في أهله فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ أهديتم لجارنا اليهودي ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .
وهناك هدايا لا ترد :
منها : الطيب؛ ففي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب . (البخاري:2582).
* وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الريح ) . أخرجه مسلم:2253 من حديث أبي هريرة رضي الله مرفوعا .
موانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية
فهذه النصوص التي قدمناه نصوص تحث عل الإهداء وقبول الهدية ، ولكن قد تأتي موانع تمنع من الإهداء من قبول الهدية .
ألا ترى أن ملكة سبأ أهدت لسليمان عليه السلام هدية فردها سليمان ، مع أن إبراهيم عليه السلام قبل هاجر لما أهديت إلى زوجته ، وقد قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الهدية ، فلما قبل نبينا الهدية وردها سليمان عليه السلام ؟!
ردها سليمان عليه السلام لما كانت رشوة عن الدين ، فالمرأة أرسلت الهدية إلى سليمان كي يقرها على عبادنها للشمس ويسكت عنها، ولم يكن لسليمان ذلك ، وخاصة أنه في مركز قوة واستغناء فمن ثم ردها لما كانت رشوة عن الدين .
قال الله تعالى : ( وإني مرسلة بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنت بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنه منها وهم صاغرون ) {النمل:35 ـ37 }.
فإذا كانت الهدية بمثابة الرشوة لإيطال الحق وإثبات الباطل فلا تقبل حينئذ.
* وكذلك إذا كانت الهدية للأمراء والوزراء والمسئولين ( كالقضاة والشرط ونحوهم .. ) كي يعطوك شيئا ليس لك من حقك أو يتجاوزوا لك عنشيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه فحينئذ يحرم عليك الأهداء ويحرم عليهم قبول الهدية ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظا شديدا في الزجر في هذا الباب ففي الصحيحين (البخاري:2597 ومسلم :1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن التبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي . قال: ( فهلا جلس في بيت أبيه ـ أو بيت أمه ـ فينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ـ ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه ـ اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت . ثلاثا ) .
* ومن ثم روى البخاري معلقا (مع الفتح:5/260 ،قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وصله ابن سعد بقصة فيه ، فروى من طريق فرات بن مسلم قال : اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلميجد في بيته شيئا يشتري به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدبر بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق فقلت له في ذلك :لا حاجة لي فيه ، فقلت : ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ؟ فقال : إنها لأةلئك هدية ، وهي للعمال بعدهم رشوة)
عن عمربن عبد العزيز : كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة .
* وأخرج عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح لغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : السحت الرشوة في الدين . قال سفيان : يعني الحكم. (المصنف:14664 ) ،وانظر السنن الكبرى للبيهقي(10/139).
* وأخرج أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ) .
أخرجه أبو داود(3580 ) والترمذي(مع التحفة4/567 )وابن ماجه(2/755 ) .قال كثير من أهل العلم : إن الراشي هو معطي الرشوة والمرتشي هو آخذها والرائش هو الذي يسعى بينهما ، وقالوا : الرشوة ما يعطى لإبطال حق او لإحقاق باطل ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلما فلا بأس به .
انظر ما ذكره المباركفوري في (تحفة الأحوذي) وكذلك شمس الحق العظيم أبادي في (عون المعبود) ، وكذلك الخطابي في ( معالم السنن ) وغيرهم.
* وكذلك إذا كانت الهدية شيئا مسروقا أو شيئا محروا فلا تقبل لما في ذلك من أكل الحرام والمعاونة على الإثم والعدوان .
وفي مسند الإمام أحمد أن المغيرة بن شعبة صحب قوما من المشركين فوجد منهم غفلة فقتلهم وأخذ اموالهم فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها . (المسند:4/246 من طريق أبي معاوية ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن المغيرة ابن شعبة . وفي رواية أبي معاوية عن هشام مقال ، لكن للحديث شاهد في البخاري ففبه{2731،2732} .. وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أم الإسلام فأقبل وأما لمال فلست منه في شيء ).
* وكذلك إذا كانت الهدية إنما أهداها صاحبها لأخذ أكثر منها وإن لم يأخذ أكثر منها يتسخط ، فإذا عرف من عادته هذا فللك ـ والله أعلم ـ أن تتوقف في قبول هديته .(4/207)
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( واآتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) . {الروم:39}.وهذا في مثل هذا الموطن ، في رجل يهدي وينتظر من المهدي إليه أضعاف ما يقدمه له .
* أو إن كان المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك ن وأنت لا تريد أن تتحمل دينا شرعيا ولا عرفا ، فللك في مثل هذه الحالة أن تتوقف مع اعتذار لطيف للمهدي ، اعتذار لا يكسر له خاطر ولا يشوش عليه فكرا.
* وكذلك إذا كان المهدي منان يمن بهديته ويتحدث بها فلك في مثل هذه الحال أن تتوقف .
وكل هذا يقدر بقدره والأصل استحباب الهدية واستحباب قبولها والإثابة عليها .
* وكذلك يكره لك أن تهدي هدية لشخص سفيه يستعملها في معصية الله عز وجل وفي الفساد في الأرض ، فإن الله تعالى يقول : ( والله لا يحب الفساد ) . {البقرة:205} ، ويقول سبحانه : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) {النساء:5} .
* وكذلك فأثناء هديتك انتبه هل ستصلح في باب وتفسد في باب آخر أم أن الهدية كلها خير ، فقد تهدي لابن من أبنائك دون الآخرين فتسبب مفسدة وضغينة بين الأولاد.
قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما : أعطاني أبي عطية ، فقالت عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية ، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله . قال: ( أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ ) قال :لا . قال: ( فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) .قال:فرجع فرد عطيته. أخرجه البخاري:2587 ومسلم :1623 .
وأخرج عبد الرزاق(المصنف14650) بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية ولا عارة ركوب دابة .
وأخرج أيضا(المصنف14651 وهو صحيح أيضا ، وأخرجه البيهقي 5/350) من طريق سالم بن ابي الجعد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إنه كان لنا جار سماك فأقرضته خمسين درهما ، وكان يبعث إلي من سمكه ، فقال ابن عباس : حاسبه ، فإن كان فضلا فرد عليه ، وإن كان كفافا فقاصصه .
وأخرج أيضا(عبدالرزاق في المصنف14649 ) بإسنلد صحيح عن إبراهيم عن علقمة قال : إذا نزلت على رجل لك عليه دين فأكلت عليه فأحسبه له ما أكلت عنده ، إلا أن إبراهيم كان يقول : إلا أن يكون معروفا كانا يتعاطيانه قبل ذلك .
وثم جملة آثار أخر في هذا الباب ، وفي أسانيد كثير منها مقال . (انظر في المصنف :عبد الرزاق{5/142} وفي السنن الكبرى:للبيهقي {5/349} .
قلت: لكن إذا أقرضت رجلا مبلغا من المال ورده إليك مع الزيادة ( بدون اشترط منك) وكانت نفسه طيبة بذلك فلا مانع من قبوله ، وذلك لما في الصحيحن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن (يعني: جمل له سن معين ) من الإبل فجاءه يتقاضاه فقال: (أعطوه ) فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها (وفي رواية أخرى : لانجد إلا سنا أفضل من سنه) ، فقال : ( أعطوه ) ، فقال : أوفيتني أوفى الله بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن خياركم أحسنكم قضاء ). البخاري:2393ومسلم :1601 .
* وفي الصحيحين أيضا من حديث جابر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وكان لي عليه دين فقضاني وزادني ) .البخاري :2394 ومسلم ص 1222و1223.
* وأيضا ينبغي أن يتحفظ الشخص ويتورع عن الهدية أن كانت تقوم مقام الربا فقد يقترض شخص من شخص مالا ويحل وقت السداد ولا يطيق المدين السداد ؛ فيسلك مسلك الإهداء لصاحب المال حتى يسكته وحتى يصبر عليه فحينئذ من الورع ترك الهدايا ، نعم إنه يجوز قبولها ما لم يشترط لكن الأورع ترك الهدية إذا كانت بهذه المثابة .
وفي هذا الباب أذكر ما أخرجه البخاري :3814 رحمه الله من طريق أبي بردة قال : أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال : ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا وتدخل بيت ؟ ثم قال: إنك في أرض الربا بها فاش ، إذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا .
* وكما أسلفنا فيجوز أن تهدي المرأة للرجل وأن يهدي الرجل للمرأة ومحل ذلك ـ كما هو معلوم ـ عند أمن الفتنة ، أما إذا كانت هدية المرأة للرجل أو الرجل للمرأة يتأتى من ورائها فتنة ، وتقع المرأة في قلب الرجل ويقع في قلبها ويحدث من وراء ذلك المحرم ، فحينئذ تمنع الهدية لا لكونها حراما ، ولكن سدا للذريعة الموصلة إلى الحرام فالله لا يحب الفساد.
* ولا ينبغي أن تحرج أحدا وتحمله على الإهداء لك ، فإنك إن فعلت أوشكت أن لا يبارك لك في هذا الشيء المهدى ولكن إن أهدي إليك أو أخذت الشيء بغير مسألة و لا إشراف نفس بورك لك فيه ، ولتحرص على أن تكون نفس المهدي طيبة وهو يهدي إليك ، وانظر إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ، وانظر إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطيب نفس المعطي .
أخرج البخاري : (2607 ـ 2608 )من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وفد هوزان مسلمين . فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم : ( معي من ترون ، وأحب الحديث إلى أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي وإما المال ، وقد كنت استأنيت ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ـ فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا : فإنا نختار سبينا . فقام في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين .وإني أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل) . فقال الناس : طيبنا يا رسول الله لهم . فقال لهم : ( آنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤهم ) . ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا و أذنوا .
* وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه كالذي يأكل ولا يشبع ) .
الحديث أخرجه البخاري (1472)ومسلم (1035) من حديث حكيم ابن حزام رضي الله عنه ولفظه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ثم قال : ( يا حكيم ، إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه ، كالذي يأكل و لا يشبع . اليد العليا خير من اليد السفلى ) .قال حكيم : فقلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا . فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه . ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا . فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي .
* وفي صحيح مسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : ( إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعيطته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل و لا يشبع ) .(4/208)
* وفيه أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه كذلك : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته شيئا و أنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته ) .
* وإذا أهدى رجل هدية لرجل من أجل مصلحة ما أو من أجل أن يهدي إليه في موطن مشابه فلم يثب منها فله أن يرجع في هبته .
* قال عمر رضي الله عنه : من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة ، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بها مالم يثب منها . ( ابن أبي شيبة{المصنف6/472} ) بإسناد صحيح .
* وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : هو أحق بها ما لم يرض منها . ( أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف{6/474}).
وفي رواية عنه أيضا : من وهب لوجه الثواب فلا بأس أن يرد .
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف {6/475} .
* وصح عن سعيد بن المسيب أن قال : من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثبه .( أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف{6/ 475}. ويظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه يدخل في هذا مايسميه العامة ( النقوط) للعروسين أو أحدهما ، فالناس يهدونه وينتظرون رده لهم في مناسبات مشابهة ، والله أعلم .
من كتاب فقه المعاملات بين المؤمنين والمؤمنات للشيخ مصطفى العدوي
نقله أخوكم الفودري
==============
منهج المسلم في التغيير كما يراه الشيخ الألباني رحمه الله
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
.::. واجب المسلمين أمام مصيبة العالم الإسلامي .::.
نعلم يا شيخنا في هذه الأيام أن الإسلام محارب في جميع الأرض، وبعدم اهتمام من الحكومات فماذا علينا نحن في هذا الأمر ؟، وهل نأثم بجلوسنا بعدم عمل أي شيء ؟
المجيب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا و أنتم مسلمون}. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً}. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، و كل محدثة بدعة، وكل بدعه ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال كأنه من حيث ظاهره وألفاظه ،أقل مما يقصد لافظه؛ حيث يقول: نقعد، ولا نعمل أي شيء ! فهو يعني في أي شيء ـ ليس أي شيء مطلقاً ـ وإنما يعني شيئاً معيناً. لأنه لا أحدٌ إطلاقاً يقول: بأن المسلم عليه أن يعيش كما تعيش الأنعام لا يعمل أي شيء ـ لأنه خُلق لشيء عظيم جداً؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك فلا يتبادر إلى ذهن أحد من مثل هذا السؤال أنه يقصد ألا يعمل أي شيء، وإنما يقصد ألا يعمل شيئاً يناسب هذا الواقع الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب ،هذا هو الظاهر من مقصود السائل و ليس بملفوظ السائل.
وعلى ذلك نجيب: إن وضع المسلمين اليوم لا يختلف كثيراً و لا قليلاً عما كان عليه وضع الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، وأعني به العهد المكي. أقول لا يختلف وضع الدعوة الإسلامية اليوم لا في قليل و لا في كثير عمّا كانت عليه الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، ألا وهو العهد المكي، وكلنا يعلم أن القائم على الدعوة يومئذ ،هو نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أعني بهذه الكلمة أن الدعوة كانت محاربة؛ من القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أنفسهم، كما في القرآن الكريم ،ثم لما بدأت الدعوة تنتشر، وتتسع دائرتها بين القبائل العربية حتى أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة -طبعاً نحن الآن نأتي برؤوس أقلام لأن التاريخ الإسلامي الأول والسيرة النبوية الأولى معروفة عند كثير من الحاضرين -لأنني أقصد - بهذا الإيجاز و الاختصار -، الوصول إلى المقصود من الإجابة على ذلك السؤال.
ولذلك فإنني أقول: بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتبعه بعض أصحابه إلى المدينة، وبدأ عليه الصلاة والسلام يضع النواة لإقامة الدولة المسلمة - هناك في المدينة المنورة - بدأت أيضاً عداوةُ جديدة بين هذه الدعوة الجديدة -أيضاً في المدينة - حيث اقتربت الدعوة من عقر دار النصارى وهي سورية يومئذِ؛ - التي كان فيها هرقل ملك الروم -،فصار هناك عداء جديد للدعوة ليس فقط من العرب في الجزيرة العربية؛ بل ومن النصارى أيضاً في شمال الجزيرة العربية -أي في سورية - ثم أيضاً ظهر عدوُ آخر ألا وهو فارس، فصارت الدعوة الإسلامية محاربة من كل الجهات؛ من المشركين في الجزيرة العربية، ومن النصارى و اليهود في بعض أطرافها، ثم من قبل فارس؛ التي كان العداء بينها و بين النصارى شديداً كما هو معلوم من قولة تبارك و تعالى: {ألم غلبت الروم، في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين } [1]. الشاهد هنا: لا نستغربنَّ وضع الدعوة الإسلامية الآن، من حيث إنها تُحارب من كل جانب. فمن هذه الحيثية كانت الدعوة الإسلامية في منطلقها الأول أيضاً كذاك محاربة من كل الجهات. وحينئذٍ يأتي السؤال والجواب.
ما هو العمل ؟ ماذا عمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الذين كان عددهم يومئذٍ قليلاََ بالنسبة لعدد المسلمين اليوم - حيث صار عدداََ كثيراََ وكثيراََ جداََ ؟
هنا يبدأ الجواب: هل حارب المسلمون العرب المعادين لهم -أي قومهم -في أول الدعوة ؟ هل حارب المسلمون النصارى في أول الأمر ؟ هل حاربوا فارس في أول الأمر ؟
الجواب : لا، لا كل ذلك الجواب لا.
إذاََ ماذا فعل المسلمون ؟
نحن الآن يجب أن نفعل ما فعل المسلمون الأولون تماماََ. لأن ما يصيبنا هو الذي أصابهم، وما عالجوا به مصيبتهم هو الذي يجب علينا أن نعالج به مصيبتنا، وأظن أن هذه المقدمة توحي للحاضرين جميعاً بالجواب إشارةً وستتأيد هذه الإشارة بصريح العبارة.
فأقول: يبدو من هذا التسلسل التاريخي و المنطقي في آنِ واحدِ أن الله عز وجل إنما نصر المؤمنين الأولين؛ الذين كان عددهم قليلاً جداً بالنسبة للكافرين والمشركين جميعاً من كل مذاهبهم ومللهم، إنما نصرهم الله تبارك وتعالى بإيمانهم.
إذاً ما كان العلاج أو الدواء يومئذٍ لذلك العداء الشديد الذي كان يحيط بالدعوة هو نفس الدواء ونفس العلاج الذي ينبغي على المسلمين اليوم أن يتعاطوه؛ لتحقيق ثمرة هذه المعالجة كما تحققت ثمرة تلك المعالجة الأولى، والأمر كما يقال: التاريخ يعيد نفسه؛ بل خير من هذا القول أن نقول إن الله عز وجل في عباده وفي كونه الذي خلقه ونظّمه وأحسن تنظيمه له في ذلك كله- سنن لا تتغير ولا تتبدل ( سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )(4/209)
هذه السنن لابد للمسلم أن يلاحظها، وأن يرعاها حق رعايتها. وبخاصةٍ ما كان فيها من السنن الشرعية. هنالك سنن شرعية وهنالك سنن كونية. وقد يقال اليوم- في العصر الحاضر- سنن طبيعية، هذه السنن الكونية الطبيعية يشترك في معرفتها المسلم و الكافر، و الصالح والطالح بمعنى؛ ما الذي يقوّم حياة الإنسان البدنية ؟ الطعام والشراب والهواء النقي و نحو ذلك. فإذا الإنسان لم يأكل ،لم يشرب، لم يتنفس الهواء النقي، فمعنى ذلك أنه عرَّض نفسه للموت موتاً مادياً. هل يمكن أن يعيش إذا ما خرج عن اتخاذه هذه السنن الكونية ؟
الجواب لا: (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ) هذا -كما قلت آنفاً -يعرفه معرفة تجريبية كل إنسان؛ لا فرق بين المسلم و الكافر والصالح والطالح. لكن الذي يهمنا الآن أن نعرف أن هناك سنناً شرعية يجب أن نعلم أن هناك سنناً شرعية، من اتخذها وصل الى أهدافها و جنى منها ثمراتها، ومن لم يتخذها فسوف لن يصل إلى الغايات التى وُضعت تلك السنن الشرعية لها؛ تماماً - كما قلنا - بالنسبة للسنن الكونية إذا تبنَّاها الإنسان و طبقها، و صل إلى أهدافها.
كذلك السنن الشرعية إذا أخذها المسلم؛ تحققت الغاية التي وضع الله تلك السنن من أجلها - من أجل تحقيقها - و إلا فلا. أظن هذا الكلام مفهوم و لكن يحتاج إلى شئٍ من التوضيح، وهنا بيت القصيد وهنا يبدأ الجواب عن ذاك السؤال الهام. كلنا يقرأ آية من آيات الله عز وجل بل إن هذه الآية قد يُزيّن بها صدور بعض المجالس أو جدر بعض البيوت وهي قوله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم } [2] -لافتات - توضح وتكتب بخط ذهبي جميل رُقعي أو فارسي 000إلى آخره، وتوضع على الجدار، مع الأسف الشديد هذه الآية أصبحت الجدر مزينة بها، أما قلوب المسلمين فهي خاوية على روشها، لا نكاد نشعر ما هو الهدف الذي ترمي إليه هذه الآية {إن تنصروا الله ينصركم} ولذلك أصبح وضع العالم الإسلامي اليوم في بلبلة وقلقلة لا يكاد يجد لها مخرجاً، مع أن المخرج مذكور في كثير من الآيات، وهذه الآية من تلك الآيات، إذا ما ذكّرنا المسلمين بهذه الآية فأظن أن الأمر لا يحتاج إلى كبير شرح وبيان وإنما هو فقط التذكير و { الذكرى تنفع المؤمنين}.
كلنا يعلم -إن شاء الله - أن قوله تبارك وتعالى {إن تنصروا الله} شرطٌ، جوابه {ينصرْكم} إن تأكل إن تشرب إن إن... الجواب تحيا، إن لم تأكل إن لم تشرب، ماذا؟ تموت ؟.
كذلك تماماً المعنى في الآية {إن تنصروا الله ينصركم} المفهوم - وكما يقول الأصوليون - : مفهوم المخالفة، إن لم تنصروا الله لم ينصركم؛ هذا هو واقع المسلمين اليوم.
توضيح هذه الآية جاءت في السنة في عديد من النصوص الشرعية، وبخاصةٍ منها الأحاديث النبوية. {إن تنصروا الله} معلوم بداهة أن الله لا يعني أن ننصره على عدوه بجيوشنا وأساطيلنا وقواتنا المادية؛ لا ! إن الله عز وجل غالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى أن ينصره أحد نصراً مادياً - هذا أمر معروف بدهياً - لذلك كان معنى {إن تنصروا الله} أي إن تتبعوا أحكام الله، فذلك نصركم لله تبارك وتعالى.
والآن هل المسلمون قد قاموا بهذا الشرط ؟ قد قاموا بهذا الواجب -أولاً ؟ ثم هو شرط لتحقيق نصر الله للمسلمين - ثانياً -؟
الجواب: عند كل واحدٍ منكم، ما قام المسلمون بنصر الله عز وجل. وأريد أن أذكر هنا كلمةً؛ أيضاً من باب التذكير وليس من باب التعليم، على الأقل بالنسبة لبعض الحاضرين. إن عامة المسلمين اليوم قد انصرفوا عن معرفتهم، أو عن تعرفهم على دينهم ،- عن تعلمهم لأحكام دينهم -، فأكثرهم لا يعلمون الإسلام، وكثيرٌ أو الأكثرون منهم، إذا ما عرفوا من الإسلام شيئاً، عرفوه ليس إسلاماً حقيقياً؛ عرفوه إسلاماً منحرفاً عمّا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. لذلك فنصر الله الموعود به من نصر الله يقوم على معرفة الإسلام أولاً معرفةً صحيحة، كما جاء في القرآن والسنة، ثم على العمل به - ثانياً -، وإلا كانت المعرفة وبالاً على صاحبها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [3]. إذاً نحن بحاجة إلى تعلم الإسلام ،وإلى العمل بالإسلام.
فالذي أريد أن أذكّر به - كما قلت آنفاً - هو أن عادة جماهير المسلمين اليوم أن يصبّوا اللوم كل اللوم بسبب ما ران على المسلمين قاطبةً من ذلٍ وهوان على الحكام، أن يصبوا اللوم كل اللوم على حكامهم الذين لا ينتصرون لدينهم، وهم - مع الأسف - كذلك؛ لا ينتصرون لدينهم، لا ينتصرون للمسلمين الُمَذلّين من كبار الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، هكذا العُرفُ القائم اليوم بين المسلمين ! صب اللوم كل اللوم على الحكام، ومع ذلك ! أن المحكومين كأنهم لا يشملهم اللوم الذي يوجهونه إلى الحاكمين ! والحقيقة أن هذا اللوم ينصب على جميع الأمة حكّامًا، و محكومين. و ليس هذا فقط بل هناك طائفة من أولئك اللائمين للحكام المسلمين بسبب عدم قيامهم بتطبيق أحكام دينهم، و هم محقون في هذا اللوم ،ولكن! قد خالفوا قولة تعالى {إن تنصروا الله}. أعني نفس المسلمين اللائمين للحاكمين حينما يخصونهم باللوم قد خالفوا أحكام الإسلام؛ حينما يسلكون سبيل تغيير هذا الوضع المحزن المحيط بالمسلمين بالطريقة التى تخالف طريقة الرسول صلى الله عليه و على آله و سلم. حيث إنهم يعلنون تكفير حكام المسلمين- هذا أولاً - ! ثم يعلنون وجوب الخروج عليهم -!
ثانياً - ! فتقع هنا فتنة عمياء صماء بكماء بيد المسلمين أنفسهم؛ حيث ينشق المسلمون بعضهم على بعض فمنهم هؤلاء الذين أشرت إليهم الذين يظنون أن تغيير هذا الوضع الذليل المصيب للمسلمين إنما تغييره بالخروج على الحاكمين، ثم لا يقف الأمر عند هذه المشكلة، وإنما تتسع وتتسع حتى يصبح الخلاف بين هؤلاء المسلمين أنفسهم ! ويصبح الحاكم في معزلٍ عن هذا الخلاف.
بدأ الخلاف من غلوّ بعض الإسلاميين في معالجة هذا الواقع الأليم أنه لابد من محاربة الحكام المسلمين لإصلاح الوضع !، وإذا بالأمر ينقلب إلى أن هؤلاء المسلمين يتخاصمون مع المسلمين الآخرين الذين يرون أن معالجة الواقع الأليم ليس هو بالخروج على الحاكمين، وإن كان كثيرون منهم يستحقون الخروج عليهم ! بسبب أنهم لا يحكمون بما أنزل الله؛ ولكن هل يكون العلاج -كما يزعم هؤلاء الناس - هل يكون إزالة الذي أصاب المسلمين من الكفار أن نبدأ بمحاكمة الحاكمين في بلاد الإسلام من المسلمين ؟- ولو أن بعضهم نعتبرهم مسلمين جغرافيين كما يقال في العصر الحاضر - هنا نحن نقول: أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتملْ ما هكذا يا سعدُ تُورَد ُالإبلْ.
مما لا شك فيه أن موقف أعداء الإسلام أصآلةً وهم اليهود والنصارى والملاحدة من خارج بلاد الإسلام؛ هم أشد بلا شك ضرراً من بعض هؤلاء الحكام الذين لا يتجاوبون مع رغبات المسلمين أن يحكموهم بما أنزل الله فماذا يستطيع هؤلاء المسلمون ؟ وأعني طرفاً أو جانباً منهم وهم الذين يعلنون وجوب محاربة الحاكمين من المسلمين، ماذا يستطيع أن يفعل هؤلاء لو كان الخروج على الحكام واجباً قبل البدء بإصلاح نفوسنا نحن ؟!.(4/210)
كما هو العلاج الذي بدأ به الرسول عليه السلام، إن هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إطلاقاً؛ والواقع أكبر دليل على ذلك، مع أن العلاج الذي يتبعونه –وهو أن يبدؤوا بمحاربة الحكام المسلمين! –لا يثمر الثمرة المرجوة لأن العلة - كما قلت آنفاً - ليست في الحاكمين فقط؛ بل و في المحكومين أيضاً، فعليهم جميعاً أن يصلحوا أنفسهم و الإصلاح هذا له بحث آخر قد تكلمنا عليه مراراً و تكراراً و قد نتكلم قريباً إن شاء الله عنه. المهم الآن المسلمون كلهم متفقون على أن و ضعهم أمر لا يحسدون عليه و لا يغبطون عليه ؛بل هو من الذل و الهوان بحيث لا يعرفه الإسلام، فمن أين نبدأ ؟ هل يكون البدأ بمحاربة الحاكمين المسلمين ؟! أو يكون البدأ بمحاربة الكفار أجمعين من كل البلاد ؟! أم يكون البدأ بمحاربة النفس الأمارة بالسوء ؟ من هنا يجب البدأ، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله و سلم إنما بدأ بإصلاح نفوس أفراد المسلمين المدعوّين في أول دعوة الإسلام – كما ذكرنا في أول هذا الكلام- بدأت الدعوة في مكة ثم انتقلت إلى المدينة ثم بدأت المناوشة بين الكفار و المسلمين، ثم بين المسلمين و الروم، ثم بين المسلمين و فارس.. و هكذا - !
كما قلنا آنفاً - التاريخ يعيد نفسه0فالآن المسلمون عليهم أن ينصروا الله لمعالجة هذا الواقع الأليم، وليس بأن يُعالجوا جانباً لا يثمر الثمرة المرجوة فيها، لو استطاعوا القيام بها ! ما هو هذا الجانب ؟ محاربة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ! هذا أولاً – كما قلت آنفاً لابد من وقفة قصيرة – غير مستطاع اليوم، أن يُحارب الحكام؛ وذلك لأن هؤلاء الحكام لو كانوا كفاراً كاليهود والنصارى؛ فهل المسلمون اليوم يستطيعون محاربة اليهود والنصارى ؟
الجواب: لا، الأمر تماماً كما كان المسلمون الأولون في العهد المكي، كانوا مستضعفين، أذلاء، محاربين، معذبين، مُقَتَّلِين لماذا ؟! لأنهم كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، إلا إيمانهم الذي حلّ في صدورهم، بسبب إتباعهم لدعوة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ هذا الإتباع مع الصبر على الأذى هو الذي أثمر الثمرة المرجوة؛ التي نحن ننشدها اليوم، فما هو السبيل للوصول إلى هذه الثمرة ؟ نفس السبيل الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الكرام، إذاً اليوم لا يستطيع المسلمون محاربة الكفار على اختلاف ضلالاتهم، فماذا عليهم ؟ عليهم أن يُؤمنوا بالله ورسوله حقاً، ولكن المسلمين اليوم كما قال رب العالمين {ولكن أكثرهم لا يعلمون}. المسلمون اليوم اسماً وليسوا مسلمين حقاً ! أظنكم تشعرون معي بالمقصود من هذا النفي.
ولكني أذكركم بقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولائك هم العادون} [4] أي الباغون الظالمون. فإذا أخذنا هذه الخصال فقط، ولم نتعد هذه الآيات المتضمنة لهذه الخصال إلى آيات أخرى؛ التي فيها ذكر لبعض الصفات والخصال التي لم تُذكر في هذه الآيات، وهي كلها تدور حول العمل بالإسلام. فمن تحققت فيه هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات المتلوه آنفاً وفي آيات أخرى؛ أولئك هم الذين قال الله عز وجل في حقهم {أولئك هم المؤمنون حقا} [5].
فهل نحن مؤمنون حقاً ؟!
الجواب: لا، إذاً يا إخواننا لا تضطربوا!
فنحن المصلين اليوم؛ - هذه الخصلة - {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} هل نحن خاشعون في صلاتنا ؟ أنا ما أتكلم عن فرد، اثنين، خمسة، عشرة، مائة، مائتين، ألف، ألفين.
لا. أتكلم [6] عن المسلمين على الأقل الذين يتساءلون، ما هو الحل لما أصاب المسلمين ؟ لا أعني أولئك المسلمين اللاهين الفاسقين الذين لا تهمهم آخرتهم، وإنما تهمهم شهواتهم و بطونهم لا. أنا أتكلم عن المسلمين المصلين.
فهل هؤلاء المصلون قد اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في أول سورة المؤمنين ؟ الجواب: كجماعة، كأمة : لا.
إذاً: ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكَها إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ
فلابد من اتخاذ الأسباب؛ التي هي من تمام السنن الشرعية بعد السنن الكونية؛ حتى يرفع ربنا عز وجل هذا الذل الذي ران علينا جميعاً.
أنا ذكرت هذه الأوصاف من صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، لكن هناك في الأحاديث النبوية التي نذكّر بها إخواننا دائماً، ما يُذكّر بحال المسلمين اليوم؛ وأنهم لو تذكروا هذا الحديث كان من العار عليهم أن يتساءلوا لماذا أصابنا هذا الذل ؟! لأنهم قد غفلوا عن مخالفتهم لشريعة الله،
من تلك الأحاديث قوله عليه الصلاة و السلام: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم " [7]. هذا الحديث تكلمت عليه كثيراً وكثيراً جداً وبمناسبات عديدة. وإنما أنا أقف فقط عند قوله "إذا تبايعتم بالعينة".العينة : نوع من الأعمال الربوية؛ - ولا أريد أيضاً أن أدخل فيها بالذات -. فهل منكم من يجهل تعامل المسلمين بأنواع من الربا، وهذه البنوك الربوية قائمة على ساق وقدم في كل بلاد الإسلام ومعترف فيها بكل الأنظمة القائمة في بلاد الإسلام. وأعود لأقول ليس فقط من الحكام؛ بل و من المحكومين لأن هؤلاء المحكومين هم الذين يتعاملون مع هذه البنوك و هم الذين إذا نُوقشوا، و قيل لهم: أنتم تعلمون أن الربا حرام و أن الأمر كما قال عليه السلام: "درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله عز وجل من ستٍ وثلاثين زنية " [8] لماذا يا أخي تتعامل بالربا ؟! "بيقلك شو بدّنا نساوي – بدنا نعيش" [9] !!، إذاً العلاقة ما لها علاقة بالحكام لها علاقة بالحكام والمحكومين. المحكومون هم في حقيقة أمرهم يليق بهم مثل هؤلاء الحكام، وكما يق!
ولون "دود الخل منّه وفيه - دود الخل منّه وفيه" [10]. هؤلاء الحكام ما نزلوا علينا من المريخ !! وإنما نبعوا منّا وفينا فإذا أردنا صلاح أوضاعنا فلا يكون ذلك بأن نعلن الحرب الشعواء على حكّامنا وأن ننسى أنفسنا؛ والمشكلة منّا وفينا؛ حيث المشكلة القائمة في العالم الإسلامي.
لذلك نحن ننصح المسلمين أن يعودوا الى دينهم. وأن يطبقوا ما عرفوه من دينهم {ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله} [11]. كل المشاكل القائمة اليوم والتي يتحمس بعض الشباب ويقول ما العمل ؟! سواءٌ قلنا ما هو بجانبنا من المصيبة التي حلت بالعالم الإسلامي والعالم العربي ! وهي احتلال اليهود لفلسطين، أو قلنا محاربة الصليبين للمسلمين بإرتيريا وفي الصومال، في البوسنة والهرسك في في... إلى آخر البلاد المعروفة اليوم. هذه المشاكل كلها لا يمكن أن تعالج بالعاطفة وإنما تعالج بالعلم والعمل. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } [12]، {وقل اعملوا} الآن نقف عند هذه النقطة. العمل للإسلام اليوم في الساحة الإسلامية، له صور كثيرة وكثيرة جداً، وفي جماعات وأحزاب متعددة، والحقيقة أن هذه الأحزاب من مشكلة العالم الإسلامي التي تكّبر المشكلة أكثر مما يراها بعضهم. بعضهم يرى أن،المشكلة احتلال اليهود لفلسطين – أن المشكلة ما ذكرناه آنفاً، محاربة الكفار لكثير من البلاد الإسلامية وأهلها –
لا....!(4/211)
نحن نقول: المشكلة أكبر وهي تفرق المسلمين. المسلمون أنفسهم متفرقون شيعاً وأحزاباً خلاف قول الله تبارك وتعالى: {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون} [13]. الآن الجماعات الإسلامية مختلفون في طريقة معالجة المشكلة التي يشكو منها كل الجماعات الإسلامية، وهي الذل الذي ران على المسلمين، وكيف السبيل إلى الخلاص منه ؟
هناك طرق:
الطريقة الأولى: هي الطريقة المثلى التي لا ثاني لها، وهي التي ندعو إليها دائماً وأبداً. وهي فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقهُ وتربية المسلمين على هذا الإسلام المصفّى، تلك هي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما ذكرنا ونذكر أبداً. فرسول الله بدأ بأصحابه أن هداهم إلى الإيمان بالله ورسوله- أن علمهم بأحكام الإسلام-، وكانوا يشكون إليه ما يصيبهم من ظلم المشركين وتعذيبهم إياهم، كان يأمرهم بالصبر، يأمرهم بالصبر ! وأن هذه سنة الله في خلقه أن يُحارب الحق بالباطل وأن يُحارب المؤمنون [14] بالمشركين وهكذا، فالطريقة الأولى لمعالجة هذا الأمر الواقع هي العلم النافع والعمل الصالح. هناك حركات ودعوات أخرى، كلها تلتقي على خلاف الطريقة الأولى والمثلى والتي لا ثاني لها وهي اتركوا الإسلام الآن جانباً ! من حيث وجوب فهمه ! ومن حيث وجوب العمل به ! الأمر الأن أهم من هذا الأمر ! وهو أن نجتمع وأن نتوحد على محاربة الكفار !! سبحان الله، كيف يمكن محاربة الكفار بدون سلاح ؟! كل إنسان عنده ذرّة عقل أنه إذا لم يكن لديه سلاح مادي فهو لا يستطيع أن يحارب عدوه المسلّح، ليس بسلاح مادي بل بأسلحةِ مادية !. ف!
إذا أراد أن يحارب عدوه - هذا -المسلح وهو غير مسلح ماذا يقال له ؟ حاربه دون أن تتسلح ؟! أم تسلح ثم حاربه ؟
لا خلاف في هذه المسآله أن الجواب: تسلح ثم حارب، هذا من الناحية المادية، لكن من الناحية المعنوية الأمر أهم بكثير من هذا، إذا أردنا أن نحارب الكفار؛ فسوف لا يمكننا أن نحارب الكفار بأن ندع الإسلام جانباً؛ لأن هذا خلاف ما أمر الله عز وجل ورسوله المؤمنين في مثل آيات كثيرة منها قوله تعالى {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [15]. {إن الإنسان لفي خسر}. نحن بلا شك الآن في خسر. لماذا ؟! لأننا لم نأخذ بما ذكر الله عز وجل من الاستثناء حين قال: {إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. نحن الآن نقول آمنا بالله ورسوله، ولكن ! حينما ندعو المسلمين المتحزبين المتجمعين المتكتلين على خلاف دعوة الحق – الرجوع إلى الكتاب والسنة – يقولون هذا ندعه الآن جانباً! الأمر أهم !. هو محاربة الكفار !، فنقول: بسلاح أم بدون سلاح ؟ !. لابد من سلا حين، السلاح الأول: السلاح المعنوي، وهم يقولون الآن دعوا هذا السلاح المعنوي جانباً ! وخذوا بالسلاح المادي ! ثمّ، لا سلاح مادي !! لأن هذا غير مستطاع بالنسبة للأوضاع التي نُح!
كم بها الآن؛ ليس فقط من الكفار المحيطين بنا من كل جانب؛ بل ومن بعض الحكام الذين يحكموننا ! فنحن لا نستطيع اليوم رغم أنوفنا أن نأخذ بالاستعداد بالسلاح المادي – هذا لا نستطيعه –. فنقول : نريد نحارب بالسلاح المادي ! وهذا لا سبيل إليه، والسلاح المعنوي الذي هو بأيدينا – {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [16] – العلم ثم العمل في حدود ما نستطيع، هذا نقول بكل بساطة متناهية دعوا هذا جانباً ! هذا مستطاع ونؤمر بتركه جانباً ! وذلك غير مستطاع. فنقول : يجب أن نحارب !! وبماذا نحارب ؟! خسرنا السلاحين معاً؛ السلاح المعنوي العلمي نقول نؤجله ! لأنه ليس هذا وقته وزمانه !! السلاح المادي لا نستطيعه فبقينا خراباً يباباً ضعفاء في السلاحين المعنوي والمادي. إذا رجعنا إلى العهد الأول الأنور؛ وهو عهد الرسول عليه السلام الأول، هل كان عنده سلاح مادي ؟ الجواب، لا بماذا إذاً كان مفتاح النصر ؟ آلسلاح المادي أم السلاح المعنوي ؟ لاشك أنه السلاح المعنوي، وبه بدأت الدعوة في مثل تلك الآية {فاعلم أنه لا إله إلا الله} إذاً العلم- قبل كل شئ – إذاً بالإسلام قبل كل شئ ثم تطبيق هذا الإسلام في حدود ما نستطيع. نستطيع أن نعرف !
العقيدة الإسلامية - الصحيحة طبعاً – نستطيع أن نعرف العبادات الإسلامية، نستطيع أن نعرف الأحكام الإسلامية، نستطيع أن نعرف السلوك الإسلامي ، هذه الأشياء كلها مع أنها مستطاعة فجماهير المسلمين بأحزابهم وتكتلاتهم هم معرضون عنها؛ ثم نرفع أصواتنا عاليةً نريد الجهاد ! أين الجهاد ؟! مادام السلاح الأول مفقود والسلاح الثاني غير موجود بأيدينا ؟!!
نحن لو وجدنا اليوم جماعة من المسلمين متكتلين حقاً على الإسلام الصحيح وطبقوه تطبيقاً صحيحاً، لكن لا سلاح مادي عندهم؛ هؤلاء يأتيهم أمره تعالى في الآية المعروفة: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةً، ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [17] لو كان عندنا السلاح الأول المعنوي؛ فنحن مخاطبون بهذا الإعداد المادي. فهل نحارب إذا لم يكن عندنا إعداد مادي ؟! الجواب : لا.لأننا لم نحقق هذه الآية التي تأمرنا بالإعداد المادي؛ فما بالنا، كيف نستطيع أن نحارب ونحن مفلسون من السلاحين المعنوي والمادي ؟ !. المادي الآن لا نستطيعه، المعنوي نستطيعه؛ إذاً {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [18]. {فاتقوا لله ما استطعتم} [19] فالذي نستطيعه الآن هو العلم النافع والعمل الصالح.
لعلي أطلت في هذا الجواب أكثر من اللازم، لكني أنا ألخص الآن فأقول:
ليست مشكلة المسلمين في فلسطين فقط - يا إخواننا-، لأنه مع الأسف الشديد من جملة الانحراف التي تصيب المسلمين اليوم؛ أنهم يخالفون علمهم عملاً ! حينما نتكلم عن الإسلام وعن الوطن الإسلامي، نقول: كل البلاد الإسلامية هي وطن لكل مسلم؛ ما في فرق بين عربي وعجمي، ما في فرق بين حجازي وأردني ومصري ....و إلى آخره، لكن هذه الفروق العملية موجودة، هذه الفروق عمليه موجودة ! ليس فقط سياسياً؛ هذا غير مستغرب أبداً، لكن موجودة حتى عند الإسلاميين !
مثلاً تجد بعض الدعاة الإسلاميين يهتمون بفلسطين؛ ثم لا يهمهم ما يصيب المسلمين الآخرين في البلاد الأخرى.
مثلاً: حينما كانت الحرب قائمة بين المسلمين الأفغان وبين السوفييت وأذنابهم من الشيوعيين، لماذا ؟!
لأن هؤلاء مثلاً ليسوا سوريين ! مصرين ! أو ما شابه ذلك. إذاً المشكلة الآن ليست محصورة في فلسطين فقط؛ بل تعدت إلى بلاد إسلامية كثيرة فكيف نعالج هذه المشكلة العامة ؟ بالقوتين المعنوية والمادية، بماذا نبدأ ؟
نبدأ قبل كل شيء بالأهم فالأهم وبخاصة إذا كان الأهم ميسوراً؛ وهو السلاح المعنوي – فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً ثم السلاح المادي إذا كان ميسوراً. اليوم - مع الأسف الشديد –؛ الذي وقع في أفغانستان.... الأسلحة التي حارب المسلمون – الأسلحة المادية – التي حارب المسلمون بها الشيوعيين هل كانت أسلحة إسلامية ؟ الجواب: لا.(4/212)
كانت أسلحة غربية، إذا نحن الآن من ناحية السلاح المادي مستعبدون؛ لو أردنا أن نحارب وكنا أقوياء من حيث القوة المعنوية، إذا أردنا أن نحارب بالسلاح المادي فنحن بحاجة إلى أن نستورد هذا السلاح؛ إما بالثمن وإما بالمنحة أو شيء مقابل شيء ! كما تعلمون السياسة الغربية اليوم على حدّ المثل العامّي: "حكّلّي لحكّلّك"! يعني أي دوله الآن حتى بالثمن لا تبيعك السلاح إلا مقابل تنازلات. تتنازل أنت أيها الشعب المسلم مقابل السلاح الذي تدفع ثمنه أيضاً فإذاً يا إخواننا الأمر ليس كما نتصور عبارة عن حماسات وحرارات الشباب وثورات كرغوة الصابون تثور ثم تخور في أرضها لا أثر لها إطلاقاً !. أخيراً أٌقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله..} إلى آخر الآية.
لكن أكرر أن العمل لا ينفع إلا إذا كان مقروناً بالعلم النافع؛ والعلم النافع إنما هو قال الله قال رسول الله كما قال إبن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسولهُ*** قال الصحابةُ ليس بالتمويهِ
ما العلمُ نصبَكَ للخلاف سفاهةً*** بين الرسولِ وبين قولِ سفيهِ
كلا ولا جحد الصفات ونفيها*** حذرا من التعطيل التشويهِ
مصيبة العالم الإسلامي مصيبة أخطر - وقد يستنكر بعضكم هذا الذي أقوله !-مصيبة العالم الإسلامي اليوم أخطر من احتلال اليهود لفلسطين ! مصيبة العالم الإسلامي اليوم أنهم ضلوا سواء السبيل. أنهم ما عرفوا الإسلام الذي به تتحقق سعادة الدنيا والآخرة معاً. وإذا عاش المسلمون في بعض الظروف أذلاء مضطهدين من الكفار والمشركين وقتّلوا وصلّبوا ثم ماتوا فلا شك أنهم ماتوا سعداء ولو عاشوا في الدنيا أذلاء مضطهدين. أما من عاش عزيزاً في الدنيا وهو بعيد عن فهم الإسلام كما أراد الله عز وجل ورسوله فهو سيموت شقياً وإن عاش سعيداً في الظاهر.
إذاً بارك الله فيكم: العلاج هو فرّوا الى الله ! العلاج فرّوا الى الله ! فرّوا الى الله تعني أفهموا ما قال الله وقال رسول الله واعملوا بما قال الله وما قال رسول الله. وبهذا أنهي هذا الجواب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
-------------------------
[1] الآية رقم 1-3 من سورة الروم.
[2] الآية رقم 7 من سورة محمد.
[3] الآية رقم 3 من سورة الصف.
[4] الآيات رقم 1-7 من سورة المؤمنون.
[5] الآية رقم 4 وكذا رقم 74 كلتاهما من سورة الأنفال.
[6] في الأصل: بتكلم باللهجة العامية حسب عادة الشيخ أحياناً في الفتاوى والمحاضرات وما أثبتناه هو المعهود لغةً.
[7] أخرجه أبو داود في سننه رقم 3462 وأحمد في مسنده رقم 5007، 5562 و الطبراني في مسند الشاميين رقم 2417 وغيرهم كلهم من حديث ابن عمر مرفوعاً.
[8] أخرجه أحمد في مسنده رقم 22007، 22008 والدارقطني في سننه 3/16 وغيرهما عن عبد الله بن حنظلة.
[9] باللهجة السورية العامية.
[10] مثل عامي شُهِر في بعض بلاد الشام.
[11] الآية رقم 5 من سورة الروم.
[12] الآية رقم 105 من سورة التوبة.
[13] الآية رقم 32 من سورة الروم.
[14] في الأصل بالياء والصحيح ما أثبتناه لكونه نائباً عن الفاعل.
[15] سورة العصر.
[16] الآية رقم 19 من سورة محمد.
[17] الآية رقم 60 من سورة الأنفال.
[18] الآية رقم 286 سورة البقرة.
[19] الآية رقم 16سورة التغابن.
==============
بيع العُربُون في ضوء الشريعة الإسلامية
أبوحسام الدين الطرفاوي
حقوق الطبع محفوظة
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)([آل عمران آية: (102)]
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )[النساء آية: (1)]
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)([الأحزاب آية: (71،70)]
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد e وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فإن الله تبارك وتعالى قد فصل لنا في كتابه كل شئ ، ما يكون فيه نفعنا شرعه لنا علينا ، وما يكون فيه ضرر علينا حرمه علينا ، وقد قال سبحانه : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)(الأنعام: من الآية119)
وقال سبحانه في مجال البيع : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: من الآية275)
فكل أنواع البيوع مباحة ما عدا ما ذكر في كتابه وفي السنة الصحيحة من بيوع حرمت علينا .
وهناك أنواع من البيوع قد اشتبهت على الناس ، فمن العلماء من أجازها ، ومن العلماء من حرمها ، ووقع تفصيل عند بعض العلماء .
من هذه البيوع (بيع العربون) ومن أجل ذلك أردت أن اجمع ما قيل فيه مع توضيح وجهة الحرمة والحل في هذا البيع .وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون عملي هذا خاصا لوجهه ، وأن ينفع به المسلمين ، وأن يجعله الله تبارك وتعالى في ميزان حسناتي إنه على كل شئ قدير . وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم
أبوحسام الدين الطرفاوي
سيف النصر علي عيسى
المنيا ـ سمالوط ـ طرفا
هاتف : 0867741213
بريد الكتروني : saefnaser@yahoo.com
* معنى بيع العربون
أولاً : لغة
قال ابن منظور :
وعَرَّبَ ، وعَرْبَنَ ، وهو عُرْبانٌ ، وعُرْبُون ، وعَرَبُون ؛ وقيل ؛ سُمي بذلك ، لأَن فيه إِعْراباً لعَقْدِ البيع أَي إِصلاحاً وإِزالةَ فسادٍ لئلا يملكُه غيرُه باشترائه . أ ـ هـ(1)
ثانيا : تعريفه في الاصطلاح :
وله صورتان :
الصورة الأولى :
أن يشتري الرجل السلعة ويدفع لصاحبها شيئا من ثمنها فإن مضى البيع حسب من ثمنها ، وإن لم يمضى البيع رد إليه ما دفعه .
والصورة الثانية :
" هو أَن يَشْتَري الرجل السِّلْعة َ، ويَدْفَعَ إِلى صاحبها شيئاً على أَنه إِن أَمْضَى البيعَ حُسِبَ من الثمن ، وإِن لم يُمْضِ البيعَ كان لصاحِبِ السِّلْعةِ ، ولم يَرْتَجِعْه المشتري." (2)
وهذا التعريف معناه موحدا عند عامة الفقهاء وإن اختلفت عباراتهم .
ويسمى أيضا بيع العربان
* ما ورد في السنة من بيع العربون
الحديث الأول :
ـ قال أبو بكر بن أبي شيبة في( مصنفه ) :
(23195) ـ حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن اسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل العربان في البيع .
1 ـ محمد بن يشر : ثقة
2 ـ هشام بن سعد :
قال يحيى : ليس بشيء ، وقال مرة : فيه ضعف ، وقال مرة : ليس بذاك القوي
وقال أحمد : ليس هو محكم الحديث
وقال النسائي : ضعيف ، وقال مرة ليس بالقوي
وقال ابن عدي : مع ضعفه يكتب حديثه
وأما أبو داود فقال : هو أثبت الناس في زيد بن أسلم
وقال الحاكم : أخرج له مسلم في الشواهد
وقال أبو حاتم : هو وابن إسحاق عندي واحد (3)(4/213)
وقال الحافظ في التقريب :
(7294 ) هشام بن سعد المدني أبو عباد أو أبو سعيد : صدوق له أوهام ورمي بالتشيع .
وقال الذهبي في (الكاشف) :
(5964) هشام بن سعد عن زيد بن أسلم ونافع والمقبري ، وعنه بن وهب والقعنبي وابن مهدي
قال أبو حاتم : لا يحتج به
وقال أحمد : لم يكن بالحافظ
قلت : حسن الحديث . أ ـ هـ
والخلاصة في الراوي أنه حسن الحديث إن كانت روايته عن زيد بن أسلم ، وضعيف في الباقي . والله أعلم .
3 ـ زيد بن أسلم :
وهو ثقة عالم ، من كبار التابعين وكان كثير الإرسال . إلا أنه أخذ عليه تفسيره للقرآن برأيه .
وهذا الحديث من مراسيله
وقد ذكر الحديث أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (23200 ) قال : حدثنا الفاء بن سليمان عن زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل العربان في البيع .
ولم أجد للفاء بن سليمان ترجمة ، ولعله اسم مصحف . والله أعلم
وقد ذكره عبد الرزاق في مصنفه : عن الأسلمي عن زيد بن أسلم به .
والأسلمي هو : ابراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي :
قال مالك أن أنس ويحيى بن سعيد وابن معين : هو كذاب
وكان يحيى بن سعيد يقول : ما أشهد على أحد أنه كذاب إلا على إبراهيم بن أبي يحيى ، ومهدي بن هلال فإني أشهد أنهما كذابان .
وقال مالك بن أنس : ليس بثقة ولا في دينه
وقال أحمد بن حنبل والبخاري : قد ترك الناس حديثه
وكذلك قال النسائي وعلي بن الجنيد والأزدي : هو متروك . أ ـ هـ(4)
فالخلاصة : هو ضعف الحديث مرفوعا . وحسن إلى زيد بن أسلم .
الحديث الثاني :
قال ابن ماجة في سننه :
(2192) : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ الرُّخَامِيُّ ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ كَاتِبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : الْعُرْبَانُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ دَابَّةً بِمِائَةِ دِينَارٍ فَيُعْطِيَهُ دِينَارَيْنِ عُرْبُونًا فَيَقُولُ إِنْ لَمْ أَشْتَرِ الدَّابَّةَ فَالدِّينَارَانِ لَكَ .
وَقِيلَ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَيَقُولَ إِنْ أَخَذْتُهُ وَإِلا فَالدِّرْهَمُ لَكَ .(5)
رجال السند بعد مالك بن أنس:
1 ـ عبد الله بن عامر الأسلمي
قال أحمد وأبو زرعة وأبو عاصم والنسائي : ضعيف
وقال أبو حاتم أيضا : متروك
وقال الدوري عن يحيى بن معين ليس بشيء ضعيف
وقال البخاري : يتكلمون في حفظه
وقال بن عدي : عزيز الحديث لا يتابع في بعض حديثه وهو ممن يكتب حديثه . أ ـ هـ (6)
2 ـ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
وهو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص .
وهي سلسلة قد حسن كثير من أهل العلم حديثها .
فالحديث ضعيف .
قال الحافظ بن حجر في (تلخيص الحبير :3/17) :
وفيه راو لم يسم ، وسمي في رواية لابن ماجة : عبد الله بن عامر الأسلمي ، وقيل هو بن لهيعة ؛ وهما ضعيفان .
ورواه الدارقطني والخطيب في الرواة عن مالك من طريق الهيثم بن اليمان عنه ، عن عمرو بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب .
وعمرو بن الحارث : ثقة .
والهيثم : ضعفه الأزدي ، وقال أبو حاتم : صدوق .
وذكر الدارقطني أنه تفرد بقوله : عن عمرو بن الحارث
قال بن عدي : يقال إن مالكا سمع هذا الحديث من بن لهيعة .
ورواه البيهقي : من طريق عاصم بن عبد العزيز عن الحارث بن عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب . أ ـ هـ
وبهذا أن كلا الحديثين الذين وردا في حل بيع العربون وحرمته لا تقوم بهما حجة ، لا في الإباحة ولا في التحريم .
* حكم بيع العربون
بالنسبة للصورة الأولى :
فلم يقع فيها خلاف بين أهل العلم في ذلك :
قال أبو عمر بن عبد البر في (التمهيد : 19 /11) :
قال مالك في الرجل يبتاع ثوبا من رجل ، فيعطيه عربانا على أن يشتريه ، فإن رضيه أخذه ، وإن سخطه رده ، وأخذ عربانه ! إنه لا بأس به .
قال أبو عمر : لا أعلم في هذا خلافا . أ ـ هـ
حكم الصورة الثانية :
وهي عدم رد العربون إذا نكس المشتري .
أختلف العلماء من لدن الصحابة رضي الله عنهم وإلى يومنا هذا في حكم بيع العربون .
القول الأول : من أجاز بيع العربون
1 ـ من الصحابة :
ـ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قال بن عبد البر في كتابه (الاستذكار : 19/11) :
وحديث نافع بن عبد الرحمن ؛ رواه سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن فروخ ، عن نافع بن عبد الحارث ـ عامل عمر على مكة ـ أنه اشترى من صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم ، واشترط عليه نافع إن رضي عمر ، فالبيع له ، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم .أ ـ هـ
وقد أخرجه أيضا ابن أبي شيبة في (المصنف : 5/7) من نفس الطريق .
وقد ذكر القصة البخاري في صحيحه معلقة فقال :
بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ . أ ـ هـ
هكذا جزم البخاري ، وعبد الرحمن بن فروخ لم يروي عنه غير عمرو بن دينار .
ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب :
قال ابن أبي شيبة في مصنفه (5/7) :
(23199) ـ حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : كنا نتبايع بالثياب بين يدي عبد الله بن عمر من اقتدى اقتدى بدرهم فلا يأمرنا ولا ينهانا .(7)
2 ـ من التابعيين
ـ محمد بن سيرين :
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5/7) :
(23198) ـ حدثنا يزيد ، عن هشام ، عن ابن سيرين : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل العربون الملاح أو غيره فيقول إن جئت به إلى كذا وكذا وإلا فهو لك .
وأخرجه أيضا :
(23202) ـ حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا هشام وابن عون عن ابن سيرين قالا : كان يقول في الرجل يستأجر الدار والسفينة ، فيقول إن جئت إلى كذا وكذا وإلا فهو لك ، قال فإن لم يجئه فهو له .
وهو صحيح
ـ مجاهد بن جبر
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5/7) :
(23197) ـ حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان لا يُرى بالعربون بأسا .
ورجاله ثقات
ـ وقد قدمنا عن زيد بن أسلم ونافع بن الحارث ذلك .
3 ـ العلماء والأئمة
ـ مذهب الإمام أحمد بن حنبل
الصحيح من مذهبه صحة بيع العربون وجوازه .
قال الإمام أحمد : لا بأس ببيع العربون لأن عمر فعله وأجاز هذا البيع
قال المرداوي في (الإنصاف : 4/357) :
الصحيح من المذهب : أن بيع العربون صحيح ، وعليه أكثر الأصحاب ، ونص عليه ، وجزم به في الوجيز وغيره ، وقدمه في المحرر والتلخيص والشرح والفروع والمستوعب وغيرهم .
وهو من مفردات المذهب .
وعند أبي الخطاب : لا يصح ، وهو رواية عن أحمد .
قال المصنف : وهو القياس ، وأطلقهما في الخلاصة والرعايتين ، لكن قال في الرعاية الكبرى : المنصوص الصحة في العقد طاعة قوله : وهو أن يشتري شيئا ويعطي البائع درهما ويقول إن أخذته وإلا فالدرهم لك .(4/214)
الصحيح من المذهب أن هذه صفة بيع العربون ، ذكره الأصحاب ، وسواء وقت أو لم يوقت ، جزم به في المغني والشرح والمستوعب وغيرهم وقدمه في الفروع
وقيل العربون : أن يقول إن أخذت المبيع وجئت بالباقي وقت كذا وإلا فهو لك جزم به في الرعايتين . أ ـ هـ
وقال ابن قدامة في (المغني : 4/160) :
والعربون في البيع هو : أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما ، أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن ، وإن لم يأخذها فذلك للبائع .
يقال : عربون وأربون وعربان وأربان .
قال أحمد : لا بأس به ، وفعله عمر رضي الله عنه ، وعن ابن عمر أنه أجازه .
وقال ابن سيرين : لا بأس به
وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا
وقال أحمد هذا في معناه .
واختار أبو الخطاب : أنه لا يصح ، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، ويروي ذلك عن ابن عباس ، والحسن لأن النبي r نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجة .
ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض ؛ فلم يصح ، كما لو شرطه لأجنبي
ولأنه بمنزلة الخيار المجهول ، فإنه اشترط إن له رد المبيع ذلك مدة فلم يصح ، كما لو قال : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما
وهذا هو القياس ، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا .
وكذا قال الأثرم : قلت لأحمد : تذهب إليه ؟
قال : أي شيء ؟!! أقول هذا عمر رضي الله عنه
وضعف الحديث المروي
روى هذا القصة الأثرم بإسناده .
فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما ؛ وقال : لا تبع هذه السلعة لغيري وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن !! صح . أ ـ هـ
ـ قرار المجمع الفقهي الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان ، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21-27 يونيو 1993م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع : "بيع العربون".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي :
1- المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع.
ويجري مجرى البيع الإجارة ، لأنها بيع المنافع. ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المراجعة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2- يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء. أ ـ هـ
ـ من فتاوي الدكتور حسين عفانة
يقول السائل : إنه صاحب محجر ، واتفق مع شخص أن يبيعه حجارة للبناء ، وأخذ منه مبلغاً من المال كعربون ، ثم إن الشخص الآخر اتفق مع صاحب محجر آخر لتوريد الحجر ، وجاء يطالبه بالعربون ، فهل يحل له أن يأخذ العربون ؟
الجواب :
إن بيع العربون هو أن يبيع الإنسان الشيء ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما على أساس أن المشتري إذا قام بتنفيذ عقده احتسب العربون من الثمن ، وإن نكل كان العربون للبائع ، (المدخل الفقهي 1/495) . وقد اختلف فيه الفقهاء ، فجمهور الفقهاء على أنه غير صحيح ، لما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان ) رواه أحمد والنسائي وأبو داود ومالك ، وهذا الحديث ضعيف . قال الحافظ ابن حجر: " وفيه راوٍ لم يسمَّ ، وسمي في رواية لابن ماجة ضعيفة عبد الله بن عامر الأسلمي وقيل هو ابن لهيعة وهما ضعيفان " (التلخيص الحبير3/17 ) ، وضعف الحديث الشيخ الألباني في (تخريجه للمشكاة 2/866 ) . وأجاز الحنابلة بيع العربون وروي القول بصحة بيع العربون عن عمر وابنه عبد الله، وقال به محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب ، وقد ضعف الإمام أحمد الحديث الوارد في النهي عن بيع العربون ، واحتج لصحته بما ورد عن نافع بن عبد الحارث " أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر كان البيع نافذاً وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم "، قال الأثرم : قلت لأحمد : " تذهب إليه ؟ قال : أي شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه ، وضعّف الحديث المروي " (المغني 4/176 ) . واحتجوا على صحته بما رواه عبد الرزاق في المصنف ، عن زيد ابن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سئل عن بيع العربان فأحله ) ، ولكنه مرسل وفيه ضعيف كما قال الشوكاني في( نيل الأوطار 5/173 ). والقول بصحة بيع العربون هو أرجح القولين في المسألة لما في ذلك من تحقيق مصالح العباد وخاصة أنه لم يثبت النهي عن بيع العربون عن الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن المعلوم أن طريقة العربون ، هي وثيقة الارتباط العامة في التعامل التجاري في العصور الحديثة ، وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها ، وهي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار . وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط ، عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال : " قال رجل لكرّيه : أرحل ركابك فان لم أرحل معك في يوم كذا ، فلك مائة درهم ، فلم يخرج فقال شريح : من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه " المدخل الفقهي ( 1/495 –496) ، والكرّي هو المكاري الذي يؤجر الدواب للسفر ، وأرحل ركابك ، أي شدّ على دوابك رحالها استعداداً للسفر. وبناءً على ما تقدم ، يجوز أخذ العربون إن تراجع المشتري عن الصفقة . وإن كنت أفضل أن يعاد العربون لصاحبه خروجاً من الخلاف ورحمة بالناس . ***** (8)
القول الثاني : من قال بتحريم بيع العربون
وهم جماهير أهل العلم
مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
ـ مذهب مالك
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه (التمهيد : 24/178 ،179) :
قال مالك : وذلك في ما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة ، أو يتكارى الدابة ، ثم يقول للذي اشتراه منه ، أو تكارى منه : أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك ، أو أقل على أني إن أخذت السلعة ، أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة ، أو من كراء الدابة ، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء
قال أبو عمر : على قول مالك هذا جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين منهم الشافعي والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث ؛ لأنه من بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض ولا هبة ؛ وذلك باطل ، وبيع العربان منسوخ عندهم إذا وقع قبل القبض وبعده ، وترد السلعة إذا كانت قائمة ، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها ، وعلى كل حال يرد ما أخذ عربانا والبيع . أ ـ هـ
وقال القرطبي في تفسيره (5/150) :(4/215)
ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ، وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكترى منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة ، وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك ، فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين ؛ لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة ، وذلك باطل بإجماع .(9)
وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده ، وترد السلعة إن كانت قائمة ، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضتها ، وقد روى عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا ، وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمر : هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح ؛ وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ، وهذا ومثله ليس حجة ، ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ، وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع ، وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره . أ ـ هـ
ـ مذهب الأحناف وأهل الرأي
جاء في كتاب (فتاوى السفدي (10) : 1/467 ،473) في ذكر أنواع البيوع الفاسدة :
والثاني والعشرون : بيع العربان ، ويقال : الإربان :
وهو أن يشتري الرجل السلعة ، فيدفع إلى البائع دراهم على أنه إن اخذ السلعة كانت تلك الدراهم من الثمن ، وان لم يأخذ فيسترد الدراهم . أ ـ هـ
ـ مذهب الشافعية :
قال الإمام النووي في (المجموع شرح المهذب : 9/317) بعد تعريفه اللغوي للعربون :
وهو أن يشتري شيئاً ويعطي البائع درهماً أو دراهم ويقول إن تم البيع بيننا فهو من الثمن ، وإلا فهو هبة لك ، قال أصحابنا : إن قال هذا الشرط في نفس العقد فالبيع باطل ، وإن قاله قبله ولم يتلفظا به حالة العقد فهو بيع صحيح ، هذا مذهبنا ، وقد ذكر المصنف المسألة في «التنبيه» ولم يذكرها في «المهذب» فرع في مذاهب العلماء في بيع العربون قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه إن كان الشرط في نفس العقد ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس ، والحسن ومالك وأبي حنيفة ، قال : وهو يشبه قول الشافعي ، قال : وروينا عن ابن عمر وابن سيرين جوازه ، قال : وقد روينا عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى داراً بمكة من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ، فإن رضي عمر فالبيع له وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة ، قال ابن المنذر : وذكر حصول بن حنبل حديث عمر فقال : أي شيء أقدر أقول ؟ هذا ما ذكره ابن المنذر ، وقال الخطابي : اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للحديث ، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ، وأكل المال بالباطل ، وأبطله أيضاً أصحاب الرأي ، وعن عمر وابن عمر جوازه ، ومال إليه أحمد بن حنبل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .أ ـ هـ
* القول الراجح في بيع العربون
مما سبق ذكره يتبين الآتي :
1 ـ كل من الفريقين اعتمد على حديث لا تقوم به الحجة لضعفهما
2 ـ أن الفريق المجيز معه من الصحابة عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، ومن التابعين ما ذكرنا .
والفريق الثاني : ليس معه من الصحابة من يقول بالمنع .
فهنا يقدم قول الصحابي على أي قول آخر ما دام فقد الدليل في المسألة .
3 ـ فمن هنا الراجح هو جواز بيع العربون .
الأدلة على جواز بيع العربون :
1 ـ قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: من الآية275)
وهذه الآية عموم في كل أنواع البيع إلا ما خرج بدليل صريح من الكتاب أو السنة ولا نجد دليلا صحيحا في حرمة بيع العربون ، فبقي البيع على أصله ، أي هو مباح لذاته .
2 ـ حديث زيد بن أسلم المرسل ، وهو كما قدمنا ؛ أنه مرسل حسن إلى زيد بن أسلم .
حكم العمل بالمرسل :
اختلف أهل العلم في جواز العمل بالحديث المرسل على النحو التالي :
ـ مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد : الاحتجاج بالمرسل والعمل به .
ـ مذهب جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء : عدم الاحتجاج به .
ـ مذهب الشافعي : الاحتجاج به بشروط :
أ ـ أن يروى من طريق آخر مسند ، ولو ضعيف
ب ـ أو أن يكون له مرسل آخر
ج ـ أو يكون عمل به صحابي أو تابعي
د ـ أو بعمل أهل العصر الذي ذكر فيه
هـ ـ أو يعضده قياس قوي
و ـ أو لم يكن في بابه سواه
قال النووي في (شرح مسلم : 1/30) :
مذهب الشافعي والمحدثين أو جمهورهم وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل ومذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء أنه يحتج به ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى والجواب ما يعضده احتج به وذلك بأن يروى أيضا مسندا أو مرسلا من جهة أخرى أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء . أ ـ هـ
ـ وقال السخاوي في (التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن ص 14 ) :
واعلم أن المرسل حجة عند أبي حنيفة ومالك ومن وافقهما ، كذا إن اعتضد عند الشافعي ، والجمهور بمجيء آخر أخذ مرسله العلم عن شيوخ الأول ، ومسند ولو كان ضعيفا ، وبإسناد رواته نفسه له من باب أولى ، إن لم يترجح مرسله بقرينة ، أو قول صحابي أو تبعا التابعين ، فمن يليهم مما قد يعبر عنه بانتشار لم يخالف ، أو يعمل أهل العصر ، أو كثيرين ، أو بقياس ، أو لم يكن في بابه سواه ، وكان المرسل مع كونه من كبار التابعين لا يسند إلا عن ثقة ، ولا يخالف الحفاظ فيما يأتي به ممن الشروط اجتماع الثلاثة فيه دون العواضد الأٌوَل ، فوجود واحد منها يكفي . أ ـ هـ
ومما ذكر يتبين أن مرسل زيد بن أسلم يتوفر فيه عمل الصحابة والتابعين والإمام أحمد ، مع وجود الأصل العام وهو حل البيع ، وعدم صحة دليل المنع .
3 ـ روى أبو داود (3594) والترمذي (1352) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ ) (11)
وهذا الحديث أصل في المعاملات بين الناس بشرط أن لا يحل الشرط حراما أو يحرم حلالا .
وبيع العربون من الشروط التي رضيها المسلمون كجزاء نكث البيع
قال ابن القيم في ( أعلام الموقعين : 3/389) فيما يجوز من الشروط :
وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن فروخ ، عن نافع بن عبد الحارث عامل عمر على مكة أنه اشترى من صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم ، واشترط عليه نافع إن رضى عمر فالبيع له ، وان لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم .
ومن ههنا قال الإمام احمد : لا بأس ببيع العربون ؛ لأن عمر فعله ، وأجاز هذا البيع طاعة فيه : مجاهد ومحمد بن سيرين وزيد بن اسلم ونافع ابن عبد الحارث .
وقال أبو عمر : وكان زيد بن اسلم يقول أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر الإمام أحمد إن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نبطي حزمة حطب ، واشترط عليه حملها إلى قصر سعد ، واشترى عبد الله ابن مسعود جارية من امرأته وشرطت عليه أنه إن باعها فهي لها بالثمن .
وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع طاعة ، ذكره الإمام احمد ، وأفتى به .
والمقصود : أن للشروط عند الشارع شأنا ليس عند كثير من الفقهاء ؛ فإنهم يلغون شروطا الشارع ويفسدون بها العقد مفسدة تقتضي فساده ، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود ، وما لا يقبله فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل .
فالصواب : الضابط الشرعي الذي دل عليه النص : أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل ، وما لم يخالفه حكمه فهو لازم .(4/216)
يوضحه إن الالتزام بالشروط ، كالالتزام بالنذر ، والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه ؛ بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله ، والالتزام به أوفي من الالتزام بالنذر . أ ـ هـ
4 ـ أن بيع العربون فيه من الفوائد ما يمنع احتكار السلعة على المشتري ، فلو عدل المشتري عن شراء السلعة وكسد سوقها وقعت الخسارة على صاحبها ، والمشتري ليس عليه شئ .
5 ـ يعمد كثير من التجار سواء تجار الفواكه أو الخضر إلى حجز السلعة بعربون ما ، ثم ينظر في السوق فإن كانت السلعة رائجة ورابحة اشتراها ، وإن كانت كاسدة تركها وقد مر عليها أيام ، وهذا إهدار لوقت صاحب السلعة وضياع فرص عرضت عليه بسبب حجزها . فبيع العربون يمنع المشتري من الإضرار بالغير .
6 ـ في كثير من الأحيان ما يخفض ثمن السلعة بعد أيام من بيعها ؛ وبهذا يضطر التاجر إلى المساومة عليها من جديد ونقض البيع الأول ، وإلا ترك السلعة ، وبذلك يعرض صاحبها لخسارة محققة . فبيع العربون يمنع مثل التلاعب من التجار .
7 ـ العربون إن أخذه صاحب السلعة بعد نكس التاجر من حقه كشرط جزائي وقع عليه ، وليس من أكل أموال بغير عوض كم يظن البعض .
8 ـ قال الدكتور ماجد أبورخية في كتابه (حكم العربون في الإسلام ص23 ، 24) :
والذي يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن التعامل بالعربون بيعا وإجارة جائز ، وأن ما ذهب إليه الحنابلة أولى بالأخذ والاعتبار ، وإن كنت أرى أن الأولى هو قيام آخذ العربون برده إذا نكل الطرف الآخر ، لأن الرد إقالة عثرة ، وقد حبب إلينا الشارع الحكيم إقالة العثرات ، فقد ورد ٍعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ (12)
ولأن في رد العربون إلى الناكل خروج من الخلاف وأخذ بالاحتياط وهو أسلم لدين المسلم .
وقد ذهبت إلى اختيار هذا الرأي للأسباب الأتية :
1 ـ لأن أدلة المانعين ليست قوية ، وليست كافية في إثبات الحرمة ، وبالتالي فإن حظر التعامل بالعربون ليس ثابتا .
2 ـ ولأن الوقائع التي ذكرها الحنابلة مستدلين بها على جواز العربون هي وقائع يمكن الاستدلال بها لمذهبهم لوجود الشبه القوي بينهما وبين البيع أو الإجارة بالعربون .
3 ـ من المعروف أن العربون هو وثيقة ارتباط بين الطرفين ـ البائع والمشتري ، والمؤجر والمستأجر ـ والبائع إنما يلجأ لأخذ العربون من أجل حفظ حقه حتى لا يقع ضحية الغرر الناتج عن نكول المشتري عن الشراء ، والأمر الذي يؤدي إلى تفويت الفرص على البائع وإلحاق الضرر به ، وقد يؤدي إلى كساد الشئ المبيع فيما لو فات موسمه إذا كان المبيع موسميا .
واعتقد أن قواعد الشريعة لا تمنع احتياط الإنسان لنفسه في مثل هذه المسائل ، وإن اشتراط البائع لنفسه ـ وخاصة في مثل أيامنا هذه التي فسدت فيها الذمم وخربت فيها الضمائر ، وكثرت فيها أنواع النصب والاحتيال ، وساءت فيها المعاملة ـ أمر يقره الشرع ولا يأباه ، وقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : مقاطع الحقوق عند الشروط .(13)
ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال : المسلمون عند شروطهم .
4 ـ إن هذا النوع من التعامل قد شاع بين الناس وجرى عليه العرف ، والمعروف عند الفقهاء أن العرف معتبر ، وإن في اعتباره رفعا للحرج .
يقول أستاذنا مصطفى الزرقا : (14)
إن النظر في نصوص الفقهاء ينبئ بأن العرف العملي في ميدان الأفعال العادية والمعاملات المدنية له السلطان المطلق والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييد آثار العقود وتحديد الالتزامات على وفق المتعارف ، وذلك في كل موطن لا يصادم فيه العرف نصا تشريعيا ، فالعرف عندئذ يعتبر مرجعا ومنبعا للأحكام ، ودليلا شرعيا عليها حيث لا دليل سواه من النصوص التشريعية الأساسية ، فقد قال الإمام السرخسي في "المبسوط " : والثابت بالعرف كالثابت بالنص .(15)
* مناقشة أدلة المانعين :
استدل المانعون لبيع العربون بالآتي :
1 ـ حديث : نهى النبي r عن بيع العربون
وقد ذكرنا ضعفه فلا تقوم به حجة ولا استدلال .
2 ـ قال المانعون : هو محرم لأن فيه شرط فاسد
قلنا : الشرط الفاسد في المعاملات هو : ما أحل حراما وحرم حلالا
وشرط العربون ليس فيه ذلك ، وإنما هو شرط جزائي على المشترى جزاء نكوله عن الشراء وتعريض سلعة البائع للكساد أو الخسارة ، وحتى لا يطمع الناس في أموال بعضهم البعض نتيجة الطمع في الربح على حساب الغير .
3 ـ قالوا : أن بيع العربون فيه تغرير بالمشتري والغرر محرم .
قلنا : الغرر هو أن يبيع له شئ غير معلوم الموصفات أو القدر
قال القرطبي في تفسره (4/392) في معنى الغرر :
وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول . أ ـ هـ
وبيع العربون ليس فيه شئ من الجهالة ؛ إنما هو بيع معلوم بسعر معلوم على سلعة معلومة .
وإذا اتفق البيعان على البيع ثم نكس المشتري وقد كسدت السلعة ، فما هو الضمان ؟!
فببيع العربون يمنع وقوع الغرر من المشتري ، ويضمن لصاحب السلعة حقه .
* جملة فتاوى في بيع العربون (16)
الفتوى الأولى :
المصدر: مجموعة فتاوى الهيئة الشرعية شركة الراجحي المصرفية للاستثمار قرار رقم ( 99 ) السؤال :
ما حكم استلام دفعة مقدمة من العميل بعد الموافقة على طلبه لشراء سيارة ففي حال تخلفه عن إجراءات إتمام بيعها عليه هل يجوز أن تباع علي عميل آخر ؟ وما حكم هذه الدفعة التي قدمها هل ترد عليه أم هي ملك للشركة ؟
الجواب :
إن كلمة ( الموافقة ) على بيع السيارة للعميل فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل ليتضح الحكم في ذلك فإن كانت الموافقة المشار إليها في السؤال تعني أنه قد تم التفاوض بين الشركة وبين العميل على شراء السيارة بمعرفة السعر وطريقة الدفع وسائر الإجراءات التي تتبع لعقد البيع ولم يصدر الإيجاب والقبول
فهذه الصورة ليست بيعا وليس المبلغ الذي دفعه العميل عند مفاوضته مع الشركة في الشراء عربونا فللشركة الحق في أن تبيع السيارة على عميل آخر ويبقى المبلغ الذي دفعه في ذمة الشركة له حق طلبه متى شاء
أما إن كانت الموافقة الواردة في السؤال تعني أن العميل قد اشترى السيارة من الشركة بصدور الإيجاب من الشركة والقبول من المشتري وبقي إجراءات توثيق البيع فقط فلا يخلو الأمر بالنسبة للدفعة التي قدمها العميل إما أن تكون عربونا لها حكم العربون في ضياعها على المشترى في حال عدوله عن الشراء في مدة خيار يجري الاتفاق على تحديدها بين الطرفين أو لا يتفق على اعتبارها عربونا فتعتبر جزءا مقدما من الثمن والبيع منجز بلا خيار
فإن كانت عربونا وكان بين الطرفين مدة خيار فللشركة بعد انتهاء مدة الخيار فسخ البيع والتصرف في المبيع من سيارة أو غيرها والعربون لها لقاء حجزها المبيع ثم عدوله عن الشراء بتخلفه عن إقرار إنفاذه في مدة الخيار
وأما إذا لم يكن بين المشترى والشركة خيار لمدة معينة وأن البيع قد تم منجزا فإن المبيع يبقى للمشترى والدفعة التي دفعها جزء من الثمن وللشركة أن تطالب بإتمام إجراءات توثيق البيع وفي حال تهربه فللشركة الحق أن ترفع القضية للمحكمة الشرعية لتحكم فيها بما يقتضيه الوجه الشرعي نحو مطالبتها بثمن المبيع وتسلم المشتري ما اشتراه(4/217)
وخروجا من هذا الإشكال فإن الهيئة توصي الشركة في حال بيعها على العميل أن تطلب منه دفعة مقدمة هي عربون وأن تعين مدة معلومة تتم فيها إجراءات توثيق البيع وتشترط أنه في حال تخلفه عن الحضور لإتمام الإجراءات في المدة المحددة فإن العربون يضيع على المشتري وينفسخ البيع وتتصرف الشركة في المبيع بما تراه
الفتوى الثانية
المصدر: كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية الأجزاء ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) بيت التمويل الكويتي فتوى رقم ( 4 ) السؤال
ما الحكم فيما لو أراد بيت التمويل أن يشتري محصولا زراعيا أو معدنا خلاف الذهب والفضة أو أية مادة أولية موجودة بالفعل عند البائع وحدد مدة قصوى لاستلام هذه البضاعة على أن له الحق في استلامها في أية لحظة من هذه المدة. وقد دفع إلى البائع مبلغا كعربون على أن يدفع الباقي عند الاستلام فهل هذا التصرف صحيح ؟ وهل يجوز لبيت التمويل الكويتي أن يبيع هذه البضاعة.. ومتى ؟
الجواب :
إن هذا الشراء صحيح وهو ما يسمى بالشراء بالعربون ويجوز لبيت التمويل بعد استلام هذه البضاعة إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة: وبعد أن تكون في حيازته أن يبيعها لمن يشاء أما قبل استلام البضاعة فلا يجوز بيعها
الفتوى الثالثة
المصدر: كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية الأجزاء ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) بيت التمويل الكويتي فتوى رقم ( 5 ) السؤال:
ما مدى جواز قيامنا بشراء سلعة معينة بناء على وعد من أحد العملاء على أن يشتريها منا إذا ملكناها بثمن آجل أكثر من ثمن الشراء ؟ - هل يجوز أخذ العربون من هذا العميل ؟ - وفي حالة تخلفه عن الشراء منا بعد شرائنا للسلعة هل يجوز لنا مصادرة العربون المدفوع ؟
الجواب :
أولا: عن مواعدة أحد العملاء بأن نشتري سلعة معينة ثم نبيعها له بثمن مؤجل زائد عن الثمن الذي اشتريت به أقول وبالله التوفيق: إن النصوص العامة للشريعة توجب على المسلمين الوفاء بعقودهم وعهودهم إلا أن يحلوا حراما أو يحرموا حلالا والوفاء بهذا الوعد عند جميع الأئمة واجب تدينا وإن كان غير ملزم قضاء عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأما مالك فعنه روايات ثلاث هي:
( 1 ) أنه لا يجب الوفاء بالوعد
( 2 ) أنه يجب الوفاء به مطلقا
( 3 ) أنه إن ترتب على الوعد إلزام الموعود بشيء لولا الوعد ما فعله وجب الوفاء به والصورة المسئول عنها من الوجه الأخير وهذا ما أطمئن إليه لأن الوفاء بالوعد من أخلاق المؤمنين والخلف من أخلاق المنافقين وعليه فهذا الوعد ملزم للطرفين
ثانيا وثالثا: أخذ العربون من هذا العميل جائز شرعا وإذا أخلف وعده جاز مصادرة العربون إذا اشترط ذلك في العقد
الفتوى الرابعة
المصدر: كتاب - الفتاوى الإسلامية في الاقتصاد - الأهرام الاقتصادي فتوى رقم ( 65 ) السؤال :
في بيع جمل فيه الخيار للمشترى في دفع الثمن بعد مدة معينة وهى خمس سنوات على أن يدفع عربونا للبائع ثم إذا اختار رد المبيع ترك العربون الذي دفعه ثم باع المشترى جزءا من العين المبيعة لآخر وأخذ منه عربونا على شرط أن له الخيار في فسخ البيع ورد العربون إذا هو لم يتمم عقده مع البائع الأول هل تصح الشفعة لمن له حق طلبها من المشترى الثاني لو كان البيع صحيحا لازما وهل يجب على طالب الشفعة أن يطلبها بمجرد سماعه بعقد هذا البيع مع بقاء شرط الخيار للبائع فإذا لم يطلب الشفعة سقط حقه فيها أو لا يلزم طلب الشفعة إلا بعد سقوط الخيار ولزوم البيع ويكون حقه في طلب الشفعة محفوظا باقيا إلى أن يصير البيع لازما ؟
الجواب
شرط الخيار في مدة الخمس سنوات في دفع الثمن وإمضاء البيع أو رد المبيع وترك العربون مما يفسد البيع فيكون البيع الأول فاسدا ولما كان البيع الثاني قد شرط فيه المشترى الأول أن له الخيار في إنقاذه إن أمضى العقد الأول الذي شرط لنفسه الخيار فيه مدة خمس سنوات وعدم إنفاذه إن لم يمضه فهذا العقد يكون فاسدا أيضا وعقد البيع إذا كان فاسدا لا يكسب حق الشفعة لمن له الحق لو كان البيع صحيحا ولا يثبت حق الشفعة إلا إذا زال الفساد ووجد ما يقتضى لزوم العقد وامتناع التفاسخ وعلى هذا فإذا كان الحال في هذه الواقعة أن الفساد قد زال ولم يبق خيار للبائع الثاني في فسخ العقد جاز طلب الشفعة بعد سقوط خيار البائع ولا يجوز قبلها ولا شك أن حق الشفيع في طلب الشفعة يبقى محفوظا له إلى أن يلزم للبيع ويبطل الخيار فيه .
* بيع العربون والمرابحة
أولا : معنى المرابحة
المرابحة من الربح : وهو الزيادة في المال عن طريق البيع ويقال : أَعطاه مالاً مُرابَحة ، أَي على الربح بينهما ، وبعتُ الشيء مُرَابَحَةً.
قال ابن قدامة في (المغني : 4/129) :
معنى بيع المرابحة : هو البيع برأس المال وربح معلوم .
ويشترط علمهما برأس المال ، فيقول رأس مالي فيه ، أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة ؛ فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة . أ ـ هـ
فبيع المرابحة هو : أن يدفع رجل لآخر مالا على أن يتجر فيه ويقسم الربح بينهما على حسب ما اتفقا عليه من غير تحديد للربح .
فلا يقول له مثلا : خذ هذه النقود واتجر فيها على أن تعطيني على كل مائة كذا . فهذا هو الربا .
ثانيا : فتاوى معاصرة تتعلق بالمرابحة والعربون(17)
الفتوى الأولى
المصدر: كتاب الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية الجزء الأول إدارة التطوير والبحوث مجموعة دلة البركة فتوى رقم ( 6 ) السؤال :
نرجو إفتاءنا هل يجوز طلب تأمين نقدي لفتح اعتماد مستندي لعملية المرابحة ؟
الجواب:
إن التأمين النقدي المشار إليه هو في الواقع ( عربون ) ولا علاقة له بفتح الاعتماد المستندي للتمويل بالمرابحة لأن فتح الاعتماد في هذه الحال يكون على مسئولية البنك لأنه يشتري لنفسه قبل أن يبيع للعميل وكل ما يتعلق بفتح الاعتماد وعمولته وضمانه هو من مسئوليات البنك لكن يحق للبنك عند الدخول في مواعدة مع العميل على شراء البضاعة التي سيتملكها البنك أن يأخذ عربونا لضمان الجدية وتنفيذ التزام الواعد تجاه البنك وقد أقر ذلك مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني الكويت 1983 التوصية رقم 9 ونصها يرى المؤتمر أن أخذ العربون في عمليات المرابحة وغيرها جائز بشرط أن لا يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء النكول هذا وإذا كان التأمين في صورة وديعة فإن ربحها يكون لصالح العميل لأن المبلغ قبل استحقاق البنك له بالنكول يعتبر ملكه للعميل فربحه له
الفتوى الثانية
المصدر: كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية الأجزاء ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) بيت التمويل الكويتي فتوى رقم ( 5 ) السؤال:
ما مدى جواز قيامنا بشراء سلعة معينة بناء على وعد من أحد العملاء على أن يشتريها منا إذا ملكناها بثمن آجل أكثر من ثمن الشراء ؟ هل يجوز أخذ العربون من هذا العميل ؟ وفي حالة تخلفه عن الشراء منا بعد شرائنا للسلعة هل يجوز لنا مصادرة العربون المدفوع ؟
الجواب:
أولا: عن مواعدة أحد العملاء بأن نشتري سلعة معينة ثم نبيعها له بثمن مؤجل زائد عن الثمن الذي اشتريت به أقول وبالله التوفيق: إن النصوص العامة للشريعة توجب على المسلمين الوفاء بعقودهم وعهودهم إلا أن يحلوا حراما أو يحرموا حلالا والوفاء بهذا الوعد عند جميع الأئمة واجب تدينا وإن كان غير ملزم قضاء عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأما مالك فعنه روايات ثلاث هي:
( 1 ) أنه لا يجب الوفاء بالوعد
( 2 ) أنه يجب الوفاء به مطلقا(4/218)
( 3 ) أنه إن ترتب على الوعد إلزام الموعود بشيء لولا الوعد ما فعله وجب الوفاء به والصورة المسئول عنها من الوجه الأخير وهذا ما أطمئن إليه لأن الوفاء بالوعد من أخلاق المؤمنين والخلف من أخلاق المنافقين وعليه فهذا الوعد ملزم للطرفين
ثانيا وثالثا: أخذ العربون من هذا العميل جائز شرعا وإذا أخلف وعده جاز مصادرة العربون إذا اشترط ذلك في العقد
الفتوى الثالثة
المصدر: كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية الأجزاء ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) بيت التمويل الكويتي فتوى رقم ( 321 ) السؤال:
من خلال التعامل والزيارات التي أقوم بها بصفتي مسئولا عن المرابحة بفرع السالمية تقدم الكثير من أصحاب المحلات وشركات السيارات المستعملة يشكون عدم جدية العميل الذي يريد شراء سيارة منهم لا يدفع العربون لهم لحجز السيارة له لحين إنهاء إجراءات بيت التمويل للقيام بالشراء وحيث إن بيت التمويل قد منع دفع العربون لهذه المكاتب والشركات وأخطر بعدم شرعية ذلك حيث إن العميل يقوم بالشراء من بيت التمويل وليس من مكتب السيارات
لذا نقترح أن يقوم مكتب السيارات بتحصيل هذا العربون لصالح بيت التمويل على أن يحتسب من مقدم شراء السيارة عند التعاقد وبذلك نكون قد حققنا لأصحاب السيارات ضمان حجز السيارات بناء على رغبة العملاء في الشراء ونكون قد تلافينا عدم شرعية دفع العربون لمكاتب السيارات ونكون أيضا قد ضمنا جدية المشتري في الشراء وعدم تعطيل بيع السيارة لدى المكتب حيث لا يقوم العملاء بمراجعة هذه المكاتب عند عدم دفعهم للعربون ويظل المكتب منتظرا لأمر الشراء من بيت التمويل في الوقت الذي لم يتقدم العميل بالعرض إلى بيت التمويل الكويتي أيضا ؟
الجواب :
تداولت الهيئة في السؤال وتبين أن مكاتب السيارات المستعملة يتركون فترة أربعة أيام تقريبا تظل السيارة محجوزة مبدئيا باسم العميل مما يسبب ضياع بعض الفرص عليهم ومع أن أخذ العربون في المرابحات جائز شرعا ولا علاقة له بفكرة الإلزام أو عدمها لكن تم التعامل على عدم أخذه لإبعاد صورة الإلزام التي اختار بيت التمويل عدم الأخذ بها في المرابحات الداخلية
وللسبب نفسه لا ترى الهيئة أخذ العربون من قبل تلك المكاتب ولو كان لصالح بيت التمويل الكويتي خشية توهم تمام البيع بين المكتب وبين العميل ويظن أن دور بيت التمويل هو دفع الثمن فقط لقاء الربح ومع جواز أخذ العربون من العميل من المرابحة سواء قام بأخذه موظف بيت التمويل أو وكيله ( مكاتب شركات السيارات المستعملة ) فإننا نرى عدم أخذه سدا للذريعة وإبعادا للشبهات عن تصرفات بيت التمويل ويلجأ إلى تحديد المخاطر بإعطاء العميل مدة قصيرة يحق للمكتب البيع لغيره إذا لم يراجع خلالها والله أعلم
الفتوى الرابعة
المصدر: توصيات وقرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني فتوى رقم ( 7 ) السؤال:
العربون في عمليات المرابحة
الجواب :
الفتوى : يرى المؤتمر أن أخذ العربون في عمليات المرابحة وغيرها جائز بشرط أن لا يحق للمصرف أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء النكول .
* فتاوى في بيع العربون والذهب (18)
المصدر: كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية الأجزاء ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) بيت التمويل الكويتي فتوى رقم ( 126 ) السؤال :
يجرى العمل في الأسواق العالمية للمعادن أنه إذا رغب تاجر في شراء معدن معين يتحدد له سعر معين ومدة معينة يلتزم البائع ببيع هذا المعدن خلالها بنفس السعر للمشترى ويدفع المشتري مقدما للبائع مبلغا معينا وفي مقابل ذلك يتعهد البائع تجاه المشتري في أن يحصل الأخير على هذا العرض للمدة المتفق عليها فإذا تم شراء المشترى للمعدن في خلال هذه الفترة فإنه يشترى المعدن بنفس السعر الذي تم الاتفاق عليه مسبقا أما إذا انتهت المدة المحددة ولم يشتر المشتري هذا المعدن فإنه يخسر المبلغ الذي دفعه للبائع مقدما ويصبح البائع في حل من التزامه. فهل يجوز شرعا القيام بمثل هذا العمل ؟
الجواب :
إن ما يجرى عليه العمل في الأسواق العالمية بالنسبة لبيع المعادن بصورة شاملة للذهب والفضة هو بيع المعدوم لعدم وجود محل البيع.. فإن كان محل البيع معدنا من الذهب أو الفضة فلا يجوز دخول الأجل في الصفقة مطلقا لا من جانب المبيع ولا من جانب الثمن لأنه لا بد من التقابض عند التعاقد
وإن كان محل البيع غير الذهب والفضة من المعادن فلا بد من تطبيق شروط عقد السلم بقبض جميع الثمن وتحديد أجل لتسليم البضاعة. فإذا حل الأجل يلزم البائع بتسليم البضاعة كلها للمشتري مما عنده أو من السوق بالسعر المبين في العقد وبالمواصفات المتفق عليها
أما إذا كان المعدن المبيع موجودا بالفعل عند البائع وتم العقد فلا يجوز تأجيل البدلين ( المبيع والثمن ) لئلا يكون من قبيل بيع الكالئ بالكالئ وإن كان ما تم بين البائع والمشتري مجرد عرض أسعار يلتزم به البائع لمدة محددة فهذا إيجاب ملزم عند المالكية
ويجوز تقديم عربون من المشترى على أنه إن أتم الصفقة احتسب من الثمن وإن لم يعقد الصفقة ترك العربون للبائع فهذا جائز بشرط وجود البضاعة التي هي محل الصفقة والأولى للبائع أن لا يتقاضى من العربون إلا بقدر ما لحقه من ضرر عدم الشراء طبقا لتوصيات المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي .
هذا ما يسر الله لي جمعه في هذه المادة ، فإن وفقت فهذا من فضل الله عليَّ وكرمه ، وإن أخفقت في شئ فمن نفسي والشيطان ورحم الله امرأ أهدى إلي َ عيوبي وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم .
================
حيل وذرائع ( المفسدين ) .. للطعن في ثوابت ( الدين )
المارقال
إن الحال التي عليها هذا المجتمع المبارك من تمسك بالإسلام ، ورفضٍ لكل ما يناقضه ، جعل جماعة ( التخريب والإفساد ) الفكرية بكافة تصنيفاتها تتحرك فوق صفيحٍ ساخنٍ لا تقرُّ أقدامهم فيه على أسلوبٍ ومنهج واضح ، فحرارة الغيرة الظاهرة على الإسلام في هذا المجتمع تجعلك لا ترى شيئاً يتقلب ويتغير وينقلب رأساً على عقب وبطناً على ظهر كمثل أطروحات أولئك المفسدين.
لقد ركب القوم في سبيل تمرير أفكار الضرار كل مركب ، وساروا مع كل طريق ، وسايروا كل سائر ، وجمعوا بين السهل والجبل ، والشرق والغرب ، واليمين والشمال ، فعلوا ذلك - بذكاء وغباء - ليفعلوا فعلتهم في هذا المجتمع.
لقد تعلم القوم جيدا أن المسلم قد يستهين بالمحرمات ، ويتساهل بالواجبات ، لكن هذا التساهل والتجاوز لا يمكن أن يؤدي به إلى رفضٍ لدينه ، أو قبولٍ لرؤى وأفكار تصادم هويته ، فالشهوة لا تنقلب لشبهة ، والهوى لا يضرب الهوية ، فالمسلم قد يشرب الخمر ، لكنه لا يقول عنه بأنه حلال ، والمرأة قد تتساهل في نزع الحجاب ، لكنها لا تراه حرية وتطورا ، فأعمل المفسدون الحيل ، وركبوا الذرائع ، وفكروا وقدروا فكانت تلك الذرائع والحيل الكثيرة التي في ظاهرها تمسك بالشرع ، وفي باطنها سلخ لقيم الدين ، ومسخ لأحكامه.
كنت - ولا زلت - أتابع باهتمام أطروحات القوم في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة ، فأعجب من اتفاقهم في الهدف ، مع افتراقهم في الفكر ، وأعجب أكثر حين أجد اتفاقهم على الحيل والذرائع التي يسلكونها في سبيل الوصول لمآربهم ، أفتواصوا به !
الذريعة الأولى :
أن الخلاف في فهم النص لا في ذات النص، وأن الحقيقة نسبية لا يصح لأحد أن يحتكرها ، وأن الخلاف إنما هو مع الاجتهاد الفقهي لا مع الفقه ، ومع الرؤية المتطرفة لا مع حقيقة الدين .(4/219)
وهذه أم خبائث هذه الذرائع ، فهم يتوهمون أنهم يخالفون فهماً خاطئاً للنص ولا يخالفون ذات النص.
ويتجلى أمر هذه الذريعة في نقاط محددة :
1- أنك تجد هذه الرؤية - التي لا يرونها تعارض النص - مقررة في نفوسهم من قديم ، وكانوا في وقت من الأوقات يطرحونها على أنها الخيار الصحيح ولو عارضت الدين ، فالدين ليس حكما في شؤون الحياة ، فلما تشربت عقولهم وقلوبهم هذا المبدأ المصادم جاؤوا بعد هذا ليقولوا للناس نحن لا نعارض الدين بل نعارض فهما متشددا للدين!؟
2- أن وجود الاختلاف في الفهم لا يعني تسويغ هذا الفهم ، فمجرد وجود فهم آخر لا يعني أنه فهم مقبول ، فضلاً عن أن يكون صحيحا .
3- وعلى درج هذه الذريعة : فكل المسائل والأحكام ، بل والعقائد والأصول الشرعية قد وقع فيها اختلاف في تفسيرها؛ بدءاً من الشهادتين وأركان الإسلام وجميع العقائد بلا استثناء ، فهل يقول القوم بأن الخلاف فيها سائغ لأنه فهم للنص!وهذا إلزام لا محيد لهم عنه ، فسفسطة هذا ( فهمي وفهمك ) ، لا يمكن أن تسلم لهم إلا إذا قبلوا كل فهم مهما كان ، وعليه : فأي شخص يرغب في مخالفة أي أمر من الأمور الشرعية ما عليه سوى أن يقول هذا فهمي، ولا بد أن تحترموا تفسيري للنص ، وأذكر أني قلت لأحدهم قديماً : أعطني أي شيء تراه أنت أنه من الإسلام؟ ، وكنت سألزمه بوجود فهم آخر له ، وقد فطن لما أريد فكان جوابه : أن الإسلام هو بحسب ما يراه كل شخص في نفسه !!
فأي شيء تراه وتظنه الإسلام فهو هو الإسلام ، وما عليه المرابي - مثلا - إلا أن يتصور أن الربا جائز في الإسلام ليكون فعله مباحاً وصحيحاً..!!
4- بل ويلزمهم أن لا يقروا بالصحة والحقيقة لدين الإسلام ، بل يكون الإسلام تفسيراً واحداً للدين ، لا يمكن لأهله أن يقطعوا بصجته ، إذ الحقيقة ليس ملكاً لهم ، وهذه النظرة السفسطائية وإن كانوا يختلفون في الأخذ بلوازمها إلا أنها أوجدت شكاً وضفعاً لديهم في الأخذ بأحكام الدين - من مقلٍ ومستكثر - ، لأن الخوف من احتكار الحقيقة وهمٌ رماهم في متاهاتٍ سحيقة من الظلمات والشكوك .
5- وهذه الذريعة تصح وتكون صحيحة ومقبولة لو كانت في المسائل الاجتهادية التي لا نص ظاهر فيها ، حيث لا يمكن القطع بصحة فهمٍ على آخر ، وأما أن يؤتى بهذه السفسطة في مسألة أجمع عليها العلماء ، أو جاء النص ظاهراً وجلياً فيها ، فلا معنى له سوى عدم إرادة الامتثال.
6- ثم إن هذه الطريقة في التعامل مع النصوص لا نجدها تشهر إلا في وجه النصوص الشرعية ، فلا نجد أحدا مثلا يبتدع رأياً جديداً في الديمقراطية مثلاً ويقول هذا فهمي لها ، ولا يجوز أن تحتكروا الحقيقة ، فلكل فهمه! ، وقل مثل هذا في الأنظمة الإدارية والسياسية لا نجد أحدا يقرر مثل هذه السفسطة ، بل لو قالها شخص لضرب به مثلا في الغباء والبلاهة ، حاشا النصوص والأحكام الشرعية ، فهي حمى مستباح ، فكل من يملك قلماً ويكتب شيئاً فواجبنا أن نتقبله ونحترمه ، ونجل فكره وفهمه !
الذريعة الثانية :
أن الخلاف ليس مع أحكام الشريعة ، بل هي أحكام صحيحة ومقبولة ، وإنما الخلاف مع من يستغلها لمنهج سياسي ، أو أيدلوجية فكرية ، أو تطرف ديني، وهو خلاف مع الصحوة في الدرجة الأولى والأخيرة.
ونطهر هذه الحيلة بمجموعة من المطهرات :
1- أن هذا تجاوز عن بحث المسائل الشرعية إلى الدخول في المقاصد والنيات، بحيث أصبح كل حكم شرعي يُدعى إليه يرمى به لأن صاحبه يقصد ويقصد ، حتى الأحكام الشرعية التي لا يمكن أن يفهم منها مقصد سياسي أو فكري كالأمر بإعفاء اللحى مثلا ، أو تحريم سماع الغناء يأتي المفسدون فيرمونها لأن لها أهدافاً أيدلوجية!
2- ثم إن كانت هذه المفاهيم صحيحة ولا ينازعون فيها ، فلم لا نرى ذكرها ولو تلميحا في كتاباتهم وأطروحاتهم؟
3- وإن كان الحكم صحيحاً كما تقولون فما المانع من الدعوة إليه وترسيخه في الأفهام؟
فكيف يكون الحكم صحيحاً ، فإذا سُعي إلى ترسيخه في الناس أصبح أمراً أيدلوجياً تجب محاربته؟
أم أن الدين شيء باطن لا يظهره إلا مؤدلج..!!
وخذوا هذا المثال ، وبالمثال كما يقال يتضح المقال
يقول احدهم قبل أيام في احد وسائل الإعلام : أن لا مشكلة لديه مع مفهوم ( الكافر هو الشقي ) ، وأن هذا مفهوم صحيح لكن الإشكالية هي في اختطاف هذا المفهوم واستغلاله في مناهج التعليم
طيب ..
إن كان المفهوم كما تقول صحيح ، فلم لا نرى له وجود في جميع مقالاتك وكتاباتك المتناثرة التي جاوزت المئات..!؟
وإن كان مفهوما صحيحا فما الذي يغيظك من الدعوة الى هذا المفهوم الصحيح ، وترسيخه في الناس ؟؟
وما المانع من إدخال هذا المفهوم الصحيح في مناهج التعليم ؟؟
وما العيب في استغلال المناسبات لأجل ترسيخ المفاهيم الصحيحة؟؟
وهل سيشمئز الدكتور حين يجد في المناهج عبارات تربي على الحب والتسامح وتقبل الخلاف ، أم أنه سيقول أن المفهوم صحيح ولكن العبارة في موقع غير مناسب..؟
وهل سيقبل الدكتور لو جاءه شخص فأنكر وجود عبارات تدعو للتسامح في المناهج ، وأنكر كل دعوة إلى التسامح والتعدد بحجة أنها عبارات مؤدلجة وغير نزيهة !
4- ثم ما ماهية المنهج السياسي والفكري والأيدلوجي الذي يتهم به من يدعو الى تطبيق الاحكام الشرعية ..؟؟
هل المراد به مثلا الخروج على المجتمع وسفك دماء أبنائه ؟
وهل يفهم هذا من الدعوة للأحكام الشرعية إلا من في قلب مرض من الشريعة ؟
أم المراد به تطبيق هذه الأحكام في جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية ؟
أم ماذا ؟
في ظني أن القوم سيستمرون في استجرار هذه الاسطوانة من غير أن يوضحوا مرادهم منها ، لأنه لا يظهر مراد يستقيم لهم إلا أنه رفض للحكم الشرعي واشمئزاز منه ، بحيث يظهر لنا احترامه وحبه الباطني للحكم ، ويحاربه ويستميت في مواجهته علنا وظاهرا.
5- ثم إن الواقع أن الخلاف مع الليبراليين وبقية المفسدين ليس في مسائل إجرائية ،أو مصلحية بينهم وبين الصحوة ، بل واقع الأمر أن الخلاف في منهجية التعامل مع النص ، وفي قبول الرؤى المصادمة للنص ، وفي مسائل حاسمة لا يختلف أحد أنها من صميم الشرع ، فمحاولة خداع الناس ، ودس رؤوسهم في التراب وإيهامهم أنه صراع مع أشخاص لا مع دين ، هو أسلوب ماكر لكنه مكشوف ، يصل إلى حد الطرافة عند بعضهم حين يرى المعركة مع الحركيين المسيسين للدين وليس مع العلماء والمشايخ الفضلاء ، مع أنه يعلم علم اليقين أن هؤلاء المشايخ الذين يريد أن يتمسح بهم هم أول من ينكر أطروحاتهم وتشغيباتهم.
الذريعة الثالثة :
التمسك بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية .
وهي ذريعة جديدة لم يتفطن لها القوم في مجتمعنا إلا من قريب ، وهو لا يعدو استغلال وامتطاء للتمرير والتبرير ، ولعلنا نقرب المجهر قليلا على طريقة القوم في التعامل مع المقاصد الشرعية لتظهر الصورة الحقيقية لهذا الاستغلال المكشوف :
1- إن المقاصد يراد بها الأصول والكليات العامة ، والتي من أجلها شرعت الفروع والجزئيات ،
وعليه : فلا قيمة للمقاصد إلا من خلال معرفة الفروع والجزئيات ، ومن يريد الأخذ بالمقاصد من غير أخذ للفروع والجزئيات فهو كمن يريد أن يعيش في بناء من غير أساساته وقواعده !(4/220)
2- ثم إن كثيرا من المقاصد العامة مما يتفق عليها جميع الناس - مسلمهم وكافرهم - فالعدل والرحمة والمساواة والتيسير هي أمور لا يختلف عليها أحد ، ومن يريد أن يأخذ بالمقاصد الشرعية من غير التفات لفروعها المقررة لها هو في الحقيقة لم يأخذ من الإسلام بشيء ، لأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عميقاً حين قال : من استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلا من غير التزام بالشرع فهو كافر،
وعليه : فمن يظن أن الإسلام جاء في باب من الأبواب بأصول عامة كالعدل وترك للناس أن يضعوا لها التفاصيل كما يريدون؛ فهو مغرقٌ في الوهم من حيث لا يشعر ، لأن الإسلام لو جاء كما يقول بمثل هذا فهو في الحقيقة لم يأت بشيء ، ولكان حكم الإسلام - وحاشاه - فضلة وتأكيدا يمكن الاستغناء عنه بغيره .
وعلى طريقة أولئك المتلاعبين يمكن نقض كل الأحكام الشرعية بلا استثناء من خلال التمسك بالمقاصد الشرعية ، بل حتى التوحيد الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ، يمكن أن نجعله أمرا مباحا من خلال المقاصد الشرعية .
وإلا فما الذي يمنع قائلاً أن يقول : الزنا حلال لأن فيه تيسير ومن مقاصد الشريعة التيسير..!
والمرأة كالرجل في الإرث لأن من مقاصد الشريعة العدل والمساواة!
والكافر إذا مات على كفره فهو من أهل الجنة لأن من مقاصد الشريعة الرحمة !
والخلاف في المقاصد لا حد ولا حصر له ، فهي مصطلحات مطاطة يقدر المفسدون أن يضعوا في عباءتها ما يشاءون من كافة الانحرافات والتوجهات.
3- والغرابة تكمن أن التمسك بروح الإسلام ، ومقاصده لنسف فروعه وجزئياته ، هذه الطريقة العرجاء لا توجد إلا مع النصوص الشرعية ، ولو أن أحداً من الناس طبق هذه الطريقة على نظام إداري مثلا لضُرب على أم دماغه ، فروح النظام ليس ذريعة لإلغاء تفاصيل النظام ، وإلا لغدت البلاد فوضى .
أقف عند هذه الذرائع الثلاث ، لأن أقل الجمع ثلاثة ، وإلا فالذرائع والحيل يطول حصرها وتتبعها ، غير أن جماعها وصولٌ إلى رؤى منحرفة ، وأفكار مشبوهة من خلال التمسح بالدين ، وإظهار التمسك به ، فتتعدد الأسباب والفساد واحد.
والله المسئول أن يحمي مجتمعنا من شرهم وشررهم.
المارقال
14 / 4 /1427هـ
===============
أين الخلل وما العمل
( مجموعة مقالات )
4 - السقوط في التبرير
م. عبد اللطيف البريجاوي
هذا خلل من نوع آخر وقع فيه المسلمون وازدادوا بسبب ذلك تخبطا فوق تخبطهم .إنه السقوط في التبرير وعدم الجرأة على مراجعة الأخطاء وهذه صفة لا زمت بني إسرائيل في كثير من تصرفاتهم فقال الله عنهم في سورة الأعراف " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " (163) الأعراف
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " ... وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت, فاتخذوا الحياض; فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها, فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء, فيأخذونها يوم الأحد ..".
فطريقة الاعتداء كانت هي عبارة عن تبرير لهم واقتنعوا وأقنعوا أنفسهم بهذا التبرير فكان جزاؤهم أن مسخهم الله قردة وخنازير قال تعالى :
" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" (65) البقرة
إنها عقوبة من الله لم يعاقب بها قوم غيرهم وذلك لأنهم اعتدوا وبرروا لأنفسهم ما نهاهم الله عنه
إن هذه الصفة لم تقتصر على بني إسرائيل فقط بل و يا للأسف الشديد تعدت هذه الصفة وغيرها إلى كثير من المسلمين فوقعوا بها
إن سقوط المسلمين في عقلية التبرير جعل كثيرا من الأخطاء تتراكب وتتواكب لتشكل حملا ثقيلا على صدر الأمة لا يزاح إلا بالاقتناع الكامل بضرورة الجرأة على مراجعة أخطاء الماضي ونفي عقلية التبرير والخروج من هذا الكبرياء المزيف .
لقد كان من ميزة الأخيار في هذه الأمة الأخذ بالأمر دون التبرير والسقوط فيه
فالصحابة رضوان الله عليه كانت ميزاتهم كثيرة ومن هذه الميزات أنهم لم يبرروا لأنفسهم خطأ ارتكبوه بل كانوا يسارعون إلى تصويب الخطأ وفق الخيارات الصحيحة
فمن ذلك مثلا قصة كعب بن مالك ورفيقاه الذين لم يبرروا لأنفسهم ما ارتكبوه من تقصير في عدم خروجهم إلى غزوة تبوك مع النبي عليه السلام كما فعل غيرهم من المنافقين بل واجهوا الخطأ واعترفوا به وسعوا إلى إزالته بالطرق الشرعية حتى تاب الله عليهم وكانت النتيجة لهذه الجرأة قرآنا يذكر قصتهم وتوبة الله عليهم إلى يوم الدين
ويوم وقف السلطان عبد الحميد رحمه الله رافضا كل الرفض أن يسمح لليهود بالدخول إلى فلسطين ( ومن كان يمنعه وهو خليفة المسلمين وكانت الضغوطات الأجنبية على أوجها والضعف في بلاده يستفحل) فكان بإمكانه أن يوافق متذرعا بتبريرات مختلفة لكنه وقف وقفة البطل الأوحد في ساحات الوغى ولم يسمح لعقلية التبرير أن تدخل إلى خلافته ودفع بذلك ما دفعه ! والحياة مواقف !!.
لكن الكثير من المسلمين اليوم وقعوا في عقلية التبرير ولم يقتصر الأمر على الأفراد بل تعداه إلى الشعوب والدول
فعلى صعيد الأفراد مثلا ترى كثيرا من الناس يتذرعون لأتفه الأسباب ويتحججون بضائقة مادية ( حقيقية أو وهمية ) ليمدوا أ يدهم إلى الربا والرشوة بحجة عدم القدرة على الإنفاق ويبررون لأنفسهم ما حرمه الله
وعلى صعيد الدول ترى الكثير من الدول الإسلامية تبرر لنفسها بطريقة أو بأخرى التعامل مع ألد أعداء المسلمين بحجة المصالح واختلال ميزان القوى وغير ذلك
إن عقلية التبرير من أخطر ما يصاب به العقل المسلم من مرض فهي عقلية المصلحة وعقلية المنافع الآنية لا تأبه بالضوابط ولا بالقيم
ومن أهم الأسئلة التي يمكن أن تطرح على بساط البحث لماذا يقع الإنسان عموما والمسلم خصوصا في عقلية التبرير ؟؟
الحقيقة أن هناك أسبابا كثيرة منها :
1- الكبر : وهو من أول الأسباب وأهمها التي تجعل عقلية التبرير تتسرب إلى عقل الإنسان المسلم فهو يرى نفسه أنه أكبر من أن يتراجع عن خطأ ارتكبه وأن الحق في جانبه وأنه لا يقول إلا حقا وأن غيره دائما على خطأ وقد عرف النبي عليه السلام الكبر فقال : "الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ " أبو داود قال النووي : بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا ( وغمط الناس ) : أي استحقارهم وتعييبهم " .
2 - حب الدنيا : وهو من الأسباب المهمة في عقلية التبرير فالذين لم يذهبوا مع رسول الله إلى غزوة تبوك جعلوا يتذرعون الحجج الواهية لأنفسهم وللناس لتبرير هذا التقصير لكن كعبا وضح ذلك قائلا " .. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه .."
فكان حب الدنيا سببا مهما من أسباب السقوط في هذه العقلية .
3 - الجهل : وهو آفة في كل الحالات والأوقات فمن لا يعرف الخير من الشر والحق من الباطل تلتبس عليه الأمور ويدخل في حيزات كبيرة من عقلية التبرير .
إن عقلية التبرير من أخطر ما يصيب الأفراد والدول والشعوب وإن بني اسرائيل لما سقطوا في عقلية التبرير مسخهم الله إلى قردة وخنازير
والمسلمون لما سقطوا في هذه العقلية عوقبوا بعقوبة المسخ ولكن ليس إلى قردة وخنازير تكرمة لهذه الأمة ولكنها عقوبة المسخ بين الأمم حتى أصبحوا أمة ممزقة لا سيادة لها ,لا يهاب لها جانب ولا تستشار في أمر من أمورها .(4/221)
ومن المهم أن نؤكد على نقطة بالغة الأهمية وهي أن عقلية التبرير ليست هي عقلية الاستراتيجية الإسلامية التي تختار الأنسب من بين كل الاحتمالات بل هي تلك العقلية التي تفعل الخطأ عيانا وجهارا ثم تأبى أن تعود عنه متذرعة بحجج واهية وأسباب بالية وللحديث بقية والله ولي التوفيق
=============
الزكاة وفوائدها
فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة ، وقد دل على وجوبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين ، فمن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله تعالى قال الله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير } [ آل عمران : 180 ].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول أنا مالُك أنا كنزك "0 الشجاع : ذكر الحيات، والأقرع : الذي تمعط فروة رأسه لكثرة سُمه .
وقال تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } [ التوبة : 34، 35] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أٌعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار " 0
وللزكاة فوائد دينية وخلقية واجتماعية كثيرة ، نذكر منها ما يأتي :
فمن فوائدها الدينية :
1- أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأٌخراه 0
2- أنها تُقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه ، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات 0
3- ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم ، قال الله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ سورة البقرة : 276 ] وقال تعالى : { وما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [ الروم :39 ] 0 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادل تمرة - من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " رواه البخاري ومسلم .
4- أن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " .
والمراد بالصدقة هنا : الزكاة وصدقة التطوع جميعاً 0
ومن فوائدها الخلقية :
1- أنها تلحق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء .
2- أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين ، والراحمون يرحمهم الله
3- أنه من المشاهد أن بذل النفس المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه 0
4- إن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح كما قال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] 0
ومن فوائدها الاجتماعية :
1- أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد .
2- أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم ، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهادُ في سبيل الله كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
3- أن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين ، فإن الفقراء إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها ، لا بقليل ولا بكثير ، فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً ، ولم يدفعوا لهم حاجة ، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام .
4- أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نقصت صدقة من مال " . أي : إن نقصت الصدقة المال عدديا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله .
5- أن له فيها توسعة وبسطاً للأموال فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس ، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها .
فهذه الفوائد كلها في الزكاة تدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع . وسبحان الله العليم الحكيم .
والزكاة تجب في أموال مخصوصة منها : الذهب والفضة بشرط بلوغ النصاب ، وهو في الذهب أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه ، وفي الفضة ستة وخمسون ريالاً سعودياً من الفضة أو ما يعادلها من الأوراق النقدية ، والواجب فيها ربع العشر ، ولا فرق بين أن يكون الذهب والفضة نقوداً أم تبراً أم حلياً ، وعلى هذا فتجب الزكاة في حلي المرأة من الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً ، ولو كانت تلبسه او تعيره ، لعموم الأدلة الموجبة لزكاة الذهب والفضة بدون تفصيل ، ولأنه وردت أحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحلي وإن كان يلبس ، مثل ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال : " أتعطين زكاة هذا ؟ " قالت : لا . قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار ؟ " فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله " . قال في بلوغ المرام : رواه الثلاثة وإسناده قوي ولأنه أحوط وما كان أحوط فهو أولى .
ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة : عروض التجارة ، وهي كل ما أٌعد للتجارة من عقارات وسيارات ومواشي وأقمشة وغيرها من أصناف المال ، والواجب فيها ربع العشر ، فيقومها على رأس الحول بما تساوي ويخرج ربع عشره ، سواء كان أقل مما اشتراها به أم أكثر أم مساوياً 0 فأما ما أعده لحاجته أو تأجيره من العقارات والسيارات والمعدات ونحوها فلا زكاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " - أهل الزكاة هم الجهات التي تصرف إليها الزكاة ، وقد تولى الله تعالى بيانها بنفسه فقال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } [ التوبة : 60 ] 0
فهؤلاء ثمانية أصناف :
الأول : الفقراء وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئا قليلاً دون النصف ، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة .(4/222)
الثاني : المساكين وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة فيكمل لهم نفقة السنة 00 وإذا كان الرجل ليس عنده نقود ولكن عنده مورد آخر من حرفة أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته فإنه لا يعطى من الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
الثالث : العاملون عليها وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها ، وتصريفها إلى مستحقيها ، وحفظها ، ونحو ذلك من الولاية عليها ، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء .
الرابع : المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة ، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم ، فيكونوا دعاة للإسلام وقدوة صالحة ، وإن كان الإنسان ضعيف الإسلام ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين بل هو من عامة الناس ، فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه ؟
يرى بعض العلماء أنه يُعطى لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن ، وها هو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه ، فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً ، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به.
الخامس : الرقاب ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ، ومعاونة المكاتبين وفك الأسرى من المسلمين .
السادس : الغارمون وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم ، فهؤلاء يعطون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أم كثيرة 000 وإن كانوا أغنياء من جهة القوت ، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته ، إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه ، فإنه يُعطى من الزكاة ما يوفي به دينه ، ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة .
واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً أو ولداً ، فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه؟ والصحيح الجواز .
ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقه وإن لم يعلم المدين بذلك ، إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء .
السابع : في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم ، ويشترى من الزكاة آلات للجهاد في سبيل الله .
ومن سبيل الله : العلمٌ الشرعي ، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكتب وغيرها ، إلا أن يكون له مال يمكنه من تحصيل ذلك به .
الثامن : ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطى من الزكاة ما يوصله لبلده .
فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه ، وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة والله عليم حكيم .
ولا يجوز صرفها في غيرها كبناء المساجد وإصلاح الطرق ، لأن الله ذكر مستحقيها على سبيل الحصر ، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصور فيه .
وإذا تأملنا هذه الجهات عرفنا أن منهم من يحتاج إلى الزكاة بنفسه ومنهم من يحتاج المسلمون إليه ، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة ، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافئ بقدر الإمكان ، وأن الإسلام لم يهمل الأموال ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال ، ولم يترك للنفوس الجشعة الشحيحة الحرية في شُحها وهواها ، بل هو أعظم موجه للخير ومصلح للأمم .
والحمد لله رب العالمين .
===============
هكذا كنا ..... هكذا أصبحنا
د. نهى قاطرجي
إذا كانت قراءة تاريخ الأمم والشعوب مفيدة من أجل الاطلاع على أخبارهم وأخذ العبر منها، على اعتبار المثل المعروف "التاريخ يعيد نفسه"، فإن قراءة التاريخ الإسلامي تفيد في استرجاع أسباب القوة المطلوبة لقيادة العالم من جديد، وهذا يتطلب كما هو معروف امتلاك الشروط الموضوعية التي وضعها الله عز وجل في اطار سنن ونواميس ثابتة لا تتغير .
ومما يؤكد على أن الإسلام هو المؤهل لهذه المهمة أمران: الأول صراع الحضارات التي ركّزت عليه الدول الغربية مدركة من خلاله أن الإسلام بما يمثله من تكامل ورقي هو العدو الوحيد لها، والثاني الفساد والعدوان على الناس وعلى الأموال والأعراض التي انتهجته تلك الدول مطبقة بذلك لسُنة الأفول التي جعلها الله عقاباً للمخالفين ، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" .
هذا وقد أكّد كثير من المفكرين القدامى والمحدثين على حقيقة هذه السنن، فقال ابن خلدون في هذا المجال: "العدوان على الناس في أموالهم وحَرُمِهِم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم ... يفضي إلى الخلل والفساد دفعة واحدة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتفاض" .
وقال المفكر الغربي "برتراند رسل" : إن بقاء السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون .
من هنا فإن إجراء مقارنة بسيطة بين ماضي المسلمين وحاضرهم أمر ضروري من أجل ادراك سنن الله عز وجل في النصر، والخلاص من الثقافة الانهزامية التي تتهم الإسلام بالنقص والتخلف، بينما الحقيقة كما قال المفكر "محمد أسد" أن الإسلام كان وسيبقى كاملاً بنفسه، إلا أن ما نحتاج إليه فعلاً، "هو إصلاح موقفنا من الدين، لمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا وبكلمة واحدة، معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام، ولكي نصل إلى احياء أسلامي فإننا لا نحتاج إلى أن نبحث عن مبادئ جديدة في السلوك نأتي بها من الخارج، إننا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ القديمة المهجورة فنطبقها من جديد" .
ومن الاختلافات التي يمكن تسجيلها بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ما يلي :
1- التمسك بالوحي الإلهي: الذي عنى به المسلمون الأوائل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، إن كان ما ورد في القرآن الكريم أو في سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، والتي بذل المسلمون من أجل حفظها من التحريف والتدليس الغالي والرخيص من المال والوقت والجهد، وأوجدوا لأجلها العلوم الشرعية مثل علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، كل هذا تطبيقاً لشرع الله عز وجل الذي أورد في محكم تنزيله : " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ".
وهذه الوحدة في مصادر الشريعة لم تعجب بعض المستغربين من أبناء المسلمين اليوم الذين دعوا إلى الفصل بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فتقبلوا الأول على أن يتعاملوا مع نصوصه معاملة تاريخية، ورفضوا الآخر بحجة ضعف الأحاديث والتشكيك بالرجال، يقول "جمال البنا" في هذا المجال: إن النهوض بالإسلام يكون بالعودة "إلى القرآن الكريم مباشرة، دون تقيّد بتفسيرات المفسِّرين، وضبط السُنة بمعايير من القرآن إذ ثبت أن السند لا يمكن أن يكون معياراً لأنه جزء من عملية الوضع التى فشت فى الحديث فلم يبق إلا الاحتكام إلى القرآن. ولما كانت السُنة مبينة للقرآن، فمن البديهى أنها تلتزم
بالقرآن. وأخيراً عدم الالتزام بالأحكام الفقهية التى وضعها أئمة المذاهب الأربعة أو غيرهم" .
من هنا كانت الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي أرادوا من وراءه إعادة قراءة النصوص القرآنية قراءة جديدة بعيدة عن أدوات الاجتهاد وهي العلم بالكتاب والسنة واللغة العربية والإجماع الذي يمثل هوية الإسلام والمقاصد الشرعية من حفظ للنفس والعقل والدين والعرض والمال .(4/223)
وكان من أهم الاجتهادات المعاصرة التي خرجوا بها: إشاعة الفكر العلماني الذي لا يتعارض مع الدين ،بزعمهم، بل يتعارض مع تسييس الدين، لأن الإسلام لم يرد للأنبياء أن يكونوا ملوكاً أو مؤسسي دول وإنما أرادوهم دعاة، دورهم التبليغ ، وجردهم من كل سلطة .
وكان منها أيضاً اعطاء المرأة حريتها المزعومة، ومنع التعدد الزوجات، ورفض الحجاب، وإباحة الربا، ووقف عقوبات الجلد والصلب وقطع الأيدين .
2- الاعتزاز بالتاريخ القيادي: الذي يشهد على تفوق المسلمين عسكرياً، ويشهد على ذلك انتصاراتهم وفتوحاتهم التي وصلت إلى الحدود الفرنسية، وكان من أبرز هذه الانتصارات، انتصارهم على البريطانيين في الشام وعلى القوط النصارى في الأندلس، وعلى الصليبيين في فلسطين والتي انتهت باستعادة الأقصى على يد صلاح الدين .
أما اليوم فلقد كان من نتائج اتفاق الأمم كلها على تقسيم التركة العثمانية وتفتيت المسلمين إلى دويلات صغيرة مستعمرة، أن نسي المسلمون تاريخهم ورجالهم، وافتخروا بدور المستعمرين وبطولاتهم، حتى أن أحدهم أشاد بالمستعمر الفرنسي "نابليون" لمصر والحملة الفرنسية عليها التي أيقظتها وجعلتها ترى نفسها في مرآة الغرب .
وكان من نتائجه أيضاً وجود جيل من المسلمين المشككين بصلاحية الإسلام للحكم، فاعتبر أحدهم أن "صلاحية الغرب للحكم والقيادة، وتوجيه ركب الحضارة حقيقة لا ينبغي أن نكابر فيها، أو نتجاهلها، وأن انتصار الغرب على الشرق حكم القدر، وناموس الكون، وتدرج التاريخ، لا فائدة من مواجهته ومقاومته،أو مقارعته بالحجة والبرهان ، أو بالسيف والسنان، ولا بد لنا من الخضوع أمامه وقبوله على علاته، إذا كان له علات " .
كما نصح الآخر بعدم مقاومة الاستعمار الأمريكي، ووصف هذه المقاومة بأفضل وصفة للانتحار الجماعي وغير ذلك من الطروحات الانهزامية .
3- بناء الحضارة الإسلامية: التي قدّمت للمجتمع البشري المآثر والانجازات والعلوم، وهذا باعتراف كثير من المفكرين والعلماء الغربيين المنصفين أمثال المستشرقة "زنعريد هونكه" التي ألّفت كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب"، و"جوستاف لوبون" مؤلف كتاب "حضارة العرب" و"ول ديورت" مؤلف "قصة الحضارة" الذي قال: "إن "روجر بيكون" و"وينلو"
وغيرهما من الأوروبيين بعد ثلاثماية عام يعتمدون بحوث ابن الهيثم لاختراع المجهر المراقب"، وقال أيضاً:"وأكبر ظننا أننا لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكون" .
هذه الحضارة العريقة التي حاول الأوروبيون طمسها وسرقوا منها مئات الكتب العلمية العربية من العصور الوسطى بعد ترجمتها إلى لغاتهم، ونسبوها إلى علمائهم أو المترجمين منهم، كشف حقيقتها" الدكتور فؤاد سزكين خبير التراث العربي والإسلامي المعروف عن أكثر من مئة سرقة كتاب علمي عربي مهم وأرجعها إلى المؤلفين الحقيقيين من المسلمين".
وفي العودة للأسباب التي ساهمت في نجاح المسلمين قديماً في بناء الحضارة الإسلامية نجدها في كونهم ربطوها بالعقيدة الإسلامية، فإذا دققنا النظر وتعمقنا في دراسة هذه الحضارة وجدنا شيئاً واحداً يهيمن عليها الوصول إلى الله ونيل رضاه، وما وظيفة الإنسان الأولى والأخيرة في هذه الحياة إلا تحقيق هذا الهدف .
بينما نجد مسلمو اليوم، إلا من رُحِم، يربطون أسباب الحضارة بناطحات السحاب وبالاختراعات التكنولجية والأقمار الصناعية ويروها أيضاً في حرية مزعومة، وفي أجساد عارية وثروات طائلة .
إن الاختلاف بين نظرة القدامى والمحدثين إلى الحضارة تعود لاختلافهم في مقاييس هذه الحضارة، فمقياسها في الإسلام "روح وقلب ومقياسها في الغرب حديد وصلب، ومقياسها في الإسلام مدى ايمان الفرد والجماعة وكيفية جهادها للرسالة التي تحملها، والدعوة التي تحضنها، ومقياسها في الغرب مدى مادية الفرد والجماعة ومستوى غناها ومنطقة نفوذها وسيطرتها وصلاحية اختلالها واستغلالها، مقياسها في الإسلام الإيثار وإنكار الذات ومقاييسها في الغرب الإثرة وتعبد الذات، ومقايسها ف الإسلام البر والمساواة ومقياسها في الغرب الأنانية واللامبالاة".
أخيراً كثيرة جداً هي الفروقات بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ولا يمكن لأحد الادعاء بأنه يمكن حصرها في عجالة، إلا أن من أبرز هذه الفروقات وأهمها :
- تمسك المسلمون القدامى بفضيلة الجهاد التي عرفوا فيها عزهم وعز أمتهم بينما صار الجهاد اليوم فريضة غائبة أو ممنوعة أو مؤقتة إلى حين تحقيق المكاسب السياسية والمادية .
- تكاتف المسلمين وتعاونهم حتى كانوا كالبنيان المرصوص، وكان ما يجمعهم هو أخوة الإسلام التي دعمها الرسول صلى الله عليه وسلم وفضّلها على أخوة الدم وكان يقول " إنما المؤمنون اخوة" ، بينما نجد أن الرابط بين كثير من المسلمين اليوم هو أخوة الوطن والقومية والمذهبية .
- أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر الذي فهمه المسلمون الأوائل قوام الدين، والذي تركه مسلمو اليوم تحت حجة الحرية الشخصية وترك التدخل بشؤون الآخرين حتى حدث ما حذر منه الإمام الغزالي عندما قال: إن قوام الدين بقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو طوى بساط الدين واهمل علمه لتعطلت النبوة ، ولاضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت
الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد" .
إن ما ينقص المسلم اليوم من أجل الاستفادة من تجارب الماضي وإحياء الإسلام من جديد أن يرفع رأسه عالياً كما قال "محمد أسد"، وعليه أن "يتحقق أنه متميز، وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك ، ويجب عليه أن يكدّ ليحتفظ بهذا الفارق، على أنه صفة غالية، وأن يعلم هذا الفارق على الناس بشجاعة بدلاً من أن يعتذر منه، بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخرى" .
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
رسالة إلى كل تاجر: ... 2
فقه التنمية في الإسلام ... 15
إعصار جونو ... 31
الاكتتاب في شركة المساهمة ... 38
قصة أصحاب السبت ... 48
ضرورة تنمية ثروات المسلمين ... 83
الكسب الطيِّب ... 90
حكم الاكتتاب في شركة سبكيم ... 97
جواز الاكتتاب في جبل عمر ... 100
كاتب يستحل ربا البنوك ... 101
التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون (1/2) ... 103
تأملات في بطاقات الصرف الآلي ... 157
احفظ الله ؛ يحفظك ! ... 161
مناقشة هادئة للقول بجواز ينساب ... 177
هل خسرت في الأسهم ؟ ... 184
جمعية الموظفين مالها وما عليها1-2 ... 199
فتاوى الأسهم والبنوك ... 204
المساهمة في الشركات ... 305
تداول .. ولكن ؟ ... 308
المكاسب الخبيثة ... 317
الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي ... 324
حكم تداول أسهم شركة الصحراء ... 330
أفحكمَ الجاهلية يبغون ... 340
المساهمة في شركات أصل نشاطها مباح ... 347
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب ... 355
فتن ووهن وغثائية وذل حتى ترجعوا إلى دينكم ... 375
وأما بداية الفتن فهي مخالفة شرع الله ... 378
معالم في طريق المستثمر المسلم ... 386
حكم تداول أسهم الشركات التي في مرحلة التأسيس ... 409
الظاهرية الجدد ؟!! .. ... 450
توجيهات لمضاربي المساهمات ... 464
تنبهوا قبل الهلاك يا مسلمون ... 475
زكاة الأسهم والسندات ... 481
الحصانة الشرعية ودورها في تشكيل الشَّخصيَّة الإسلاميَّة ... 484
المضاربة في سوق الأسهم العالمية ... 517(4/224)
الحسابات الجارية حقيقتها - تكييفها ... 519
انهيار الأسهم ... 552
المشروع التغريبي إذ يحمله الصحويون ؟! ... 559
الاستثمار في صناديق الأسهم في البنوك ... 574
وقفات مع زلزال أسيا ... 576
الاستثمار في الأسهم ... 581
الجولة القادمة ... 630
فقه النوازل في العبادات ... 653
الصيرفة الإسلامية ... 725
فتاوى مهمة لموظفي الأمة ... 758
إلقاء الضوء على حكم التعامل مع شركة ( بزناس ) ومثيلاتها ... 830
مسائل حديثة في فقه المعاملات ... 888
صنم الحرية ... 932
هل ساهم بعض أهل العلم في انهيار سوق الأسهم السعودي ... 945
فتنة مسايرة الواقع ... 958
ضوابط المصلحة الدعويّة ... 980
هوس الأسهم ... 999
الهدية وأحكامها ... 1013
منهج المسلم في التغيير كما يراه الشيخ الألباني رحمه الله ... 1032
بيع العُربُون في ضوء الشريعة الإسلامية ... 1051
حيل وذرائع ( المفسدين ) .. للطعن في ثوابت ( الدين ) ... 1085
أين الخلل وما العمل ... 1093
الزكاة وفوائدها ... 1097
هكذا كنا ..... هكذا أصبحنا ... 1104(4/225)
المفصل في أحكام الربا (5)
الباب الخامس
فتاوى وبحوث معاصرة حول الربا وأحكامه
(4)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية 1/2
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل
7/1/1426
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله _صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً_ أما بعد:
فعملاً بواجب النصح لله - عز وجل -ولكتابه ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ أتوجه ببعض الوصايا إلى المسلمين في كل مكان، والدافع إلى توجيهها ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من محنة عصيبة وخطر داهم من قبل أعداء الملة والمسلمين بقيادة طاغوت العصر المتغطرس أمريكا وحلفائها، والذين رموا الأمة المسلمة عن قوس واحدة يريدون بها الشر ومزيداً من التفتت والتفرق والنيل من دينها ودعاتها وثرواتها وتغريبها وإقصاء ما بقي فيها من شرائع الدين وشعائره، وهذا تأويل قوله _صلى الله عليه وسلم_: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ. قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
معاشر المسلمين:
لقد اقتضت حكمة الله - عز وجل -أن يوجد الصراع بين الحق والباطل على هذه الأرض منذ أن أُهبط آدم _عليه السلام_ وإبليس اللعين إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، وقد جعل الله ـ - عز وجل - ـ لهذا الصراع والمدافعة سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" (فاطر: من الآية43). ولا تظهر هذه السنن إلا لمن تدبر كتاب الله - عز وجل -واهتدى بنوره وهداه "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (صّ: 29)، ومن سنن الله - عز وجل -في إهلاكه للأمم أو نجاتهم في هذا الصراع؛ ما قصه الله _تعالى_ علينا في كتابه الكريم من إهلاكه للأمم الكافرة وإنجائه لأنبيائه وأوليائه الصالحين، حيث يلفت الله - عز وجل -أنظار المؤمنين إلى سننه - عز وجل -في الإهلاك والإنجاء، بقوله _تعالى_: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (آل عمران: 137). ومن ذلك قوله _تعالى_ بعد أن قص علينا قصص بعض أنبيائه في سورة هود "فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود: 116، 117)، وقوله _- عز وجل -_: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53).
يقول الإمام ابن كثير _رحمه الله تعالى_: "يخبر _تعالى_ عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه _تعالى_ لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه" ا.هـ. ويقول الإمام ابن القيم _رحمه الله تعالى_ أيضاً عند هذه الآية: "فأخبر الله _تعالى_ أنه لا يغير النعمة التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيّر غُّير عليه جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، فإن غيّر المعصية بالطاعة غيّر الله العقوبة بالعافية، والذل بالعز وقال _تعالى_: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ" (الرعد: من الآية11).
... فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، وما حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة". وقد قال _تعالى_: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" [الشورى: 30]) ا.هـ (الجواب الكافي ص 105).
نحن على خطر وشيك ولا ينقذنا منه إلا أن نفر من معصية الله إلى طاعته، ومن أسباب سخطه إلى أسباب رضاه فلا نجاة لنا منه إلا إليه _سبحانه_
وقال في موطن آخر: " ومن عقوباتها - أي: المعاصي - أنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فتزيل الحاصل وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته، ولا استجلب مفقدوها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله _سبحانه_ لكل شيء سبباً وآفة، سبباً يجلبه، وآفة تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله، كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا الأمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه، فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا فالحكم لله العلي الكبير" ا.هـ (الجواب الكافي ص:145 )
أيها المسلمون:
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا طاعته، وسننه _سبحانه_ في المعرضين عن طاعته معروفة ومطردة، قال _تعالى_: "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" (القمر:51)، وقال _سبحانه_: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ" (القمر:43)، فما أهون الخلق على الله - عز وجل-إذا بارزوه بالمعصية. عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فٌرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض. فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله - عز وجل -إذا أضاعوا أمره: بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
أيها المسلمون:
إن الأمة تمر بنازلة عظيمة وأيام عصيبة، فهي على ضعفها وذلها ومهانتها، قد سلط الله _سبحانه_ عليها أعداءها من اليهود والصليبيين والمنافقين وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم وطائراتهم وأساطيلهم. فهم من كل حدب ينسلون، وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم يريدونها في دينها وثرواتها وتمزيق ما بقي من وحدتها "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (يوسف: من الآية21)، "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (آل عمران: من الآية117).(5/1)
وإن الناظر إلى هذه الأحداث الجسيمة والنوازل العظيمة التي أحاطت بالمسلمين اليوم لا يستغرب حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يعتصم بكتاب الله - عز وجل -وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله - عز وجل -التي لا تتبدل؛ والتي أشرنا إلى بعضها فيما سبق. ويكفي أن ننظر إلى أحوالنا ومدى قربها وبعدها عن الله - عز وجل -لندرك أن سنة الله - عز وجل -في من أعرض عن طاعته وأمره قد انعقدت أسبابها علينا، إلا أن يرحمنا الله _عز وجل _، ويرزقنا التوبة والإنابة والاستكانة والتضرع إليه _سبحانه_.
يا معشر المسلمين:
إن الخطب جد خطير، وإن عقاب الله - عز وجل -لا يستدفع إلا بتوبة وإنابة، فالبدار البدار، فإن أسباب العقوبة قد انعقدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد رفع الله - عز وجل -العذاب عن أمة رأت بوادره بتوبتها وإيمانها ورجوعها إلى طاعة الله - عز وجل - قال الله _تعالى_: "فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" (يونس: 98).
إن أحوال الأمة وما حل فيه من معاصي الله _تعالى_ ومساخطه لتنذر بالخطر، فلقد ضل كثير من الناس عن أصل هذا الدين وأساسه المتين ألا وهو التوحيد والموالاة والمعاداة فيه، وأصبح الكفرة المحاربون يجوسون خلال الديار وتقدم لهم المعونات والتسهيلات لحرب المسلمين وأوذي أولياء الله ودعاته المصلحون مع أن في ذلك إيذاناً بالحرب من الله القوي العزيز، حيث جاء في الحديث القدسي "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وضرب الشرك الأكبر من دعاء الأموات والسحر والشعوذة بأطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأبعد شرع الله _تعالى_ وحكمت قوانين البشر، وتساهل كثير من الناس بشأن الصلاة والزكاة وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ووقع بعض المسلمين في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، وظلم العباد وفشا الربا الخبيث في معاملات كثيرة بين المسلمين، ووقع بعض المسلمين في تعاطي المسكرات والمخدرات، وكثر الغش في المعاملات، ووجد بين المسؤولين من يبخس الناس حقوقهم ويأكل أموالهم بالباطل و يتعاطى الرشوة والتي لعن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الساعي فيها ودافعها وآخذها _ وكثر الفجور في الخصومات والزور في الشهادات، وبعض النساء يتساهلن بالحجاب، ويتبرجن بزينة الثياب، وانتشر الزنا والخبث وكثرة وسائله الخبيثة الماكرة من قنوات ومجلات خليعة تدعو إلى الفاحشة وتحببها في النفوس وتزينها، وامتلأت بيوت المسلمين من الفضائيات التي تنشر العفن والفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولما سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش _رضي الله عنها_ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال لها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "نعم إذا كثر الخبث" رواه البخاري، وما أصدق ما قاله ابن القيم _رحمه الله تعالى_ على واقعنا اليوم وهو يصف زمانه، فكيف لو رأى زماننا؟!!. قال _رحمه الله تعالى_: "لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى عليها الصغير، وهرم عليها الكبير. فلم يروها منكراً، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى والمنكر مقام المعروف والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور. اقشعرت الأرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" [الفوائد ص 49].
أيها المسلمون:
لقد ضرب الله - عز وجل - لنا في كتابه الكريم أمثالاً عظيمة لنتدبرها ونعقلها. قال الله _تعالى_: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" (العنكبوت: 43). ولنستمع إلى هذا المثل الذي ضربه الله - عز وجل -لمن كفر بأنعم الله - عز وجل -وعاقبة من وقع في معاصيه ولنتدبره حق التدبر، قال الله - عز وجل -: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" (النحل: 112). فهذا المثل وإن كان في أهل مكة الذين أشركوا بالله وكفروا نعمة الله _تعالى_؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا إنذار وتحذير للأمم التي تعيش في رغد من العيش وأمن وسكينة؛ أنها إن كفرت بنعمة الله _تعالى_ وقابلتها بالمعصية والإعراض فإن الله - عز وجل - يسلبها نعمة الأمن والمعيشة، ويذيقها مكان ذلك الجوع والخوف، وخطر الابتلاء بالجوع والخوف ليس في ذاتهما فحسب، ولكن الخطر الحقيقي يكمن فيما يجرانه على الناس من تنازلات رهيبة في الدين والأعراض. فكم من تارك لدينه ومرخص لعرضه دافعه إلى ذلك الجوع والخوف _عياذاً بالله_.
وهذه سنة إلهية إذا انعقدت أسبابها وقعت بالناس ولات حين مناص. وإن في التاريخ لعبراً، ويكفي أن نتذكر ما حل بالمسلمين في بغداد سنة 656 هـ، حينما اجتاح المغول التتر عاصمة السلام في ذلك الوقت وما جرى في هذا الهجوم من حوادث مريعة يقشعر لها جلد القارئ بعد هذه القرون، فكيف بمن عاناها واصطلى بحرها!! وقارنوا أحوالنا اليوم بحال المسلمين في ذلك الزمان، أعني زمن دخول التتر إلى بغداد، فهل نحن اليوم أحسن حالاً منهم، حتى ننجو من خطر الأعداء الذين أحاطوا بنا من كل جانب؟؟ والجواب البدهي: لا والله ، لسنا بأحسن حالاً منهم، فواقعنا المعاصر لا يقارن في سوئه بذلك العصر، ومع ذلك سلط الله عليهم الكفرة المتوحشون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض، وأفسدوا الحرث والنسل "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (العنكبوت: من الآية40).
فيا أيها المسلمون بعامة:
نحن على خطر وشيك ولا ينقذنا منه إلا أن نفر من معصية الله إلى طاعته، ومن أسباب سخطه إلى أسباب رضاه فلا نجاة لنا منه إلا إليه _سبحانه_.
أيها الأب والراعي المهمل لبيته ورعيته:
اتق الله - عز وجل - ولا نؤتى من قبلك، تب إلى الله وأقلع عن مجاهرة لله - عز وجل - بمعاصيك، واعلم أن وجود أجهزة اللهو والفساد من التلفاز والقنوات الفضائية والمجلات الخليعة هي من المعاصي العظيمة التي تسخط رب العالمين، فبادر إلى التوبة منها وإخراجها من بيتك غير مأسوف عليها رجاء ثواب الله _تعالى_ وخوف عقابه، مر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، وكن قدوتهم في ذلك، وحث أبناءك على أدائها في جماعة وتفقدهم عليها.(5/2)
اتق الله في نسائك ومحارمك وأحسن إليهن بكل وجوه الإحسان، ومن أعظم ذلك الإحسان إليهن في تربيتهن وتأديبهن والحيلولة بينهن وبين ما حرم الله - عز وجل - عليهن من السفور والتبرج والاختلاط المحرم بالأجانب من خدم وسائقين وأقارب من غير المحارم، وكذا إبعادهن عما يفسد دينهن وأخلاقهن من أفلام سيئة وأغاني ماجنة وصواحب فاسقات.
أيها الآباء المربون:
ربوا أبناءكم وطلابكم على الجد والاجتهاد وأعدوهم للجهاد في سبيل الله _تعالى_، واربطوهم بالأهداف العالية النبيلة ولا تعلقوهم بالتوافه من الأمور والأهداف الدنيوية الهابطة والحياة المترفة. أليس من المؤسف ألا يوجد في جو المنزل والمدرسة – إلا من رحم الله _تعالى_ من يقول للناشئة: إن أمتكم تنتظركم، وإن لكم دوراً في نشر الخير والعلم والدعوة إلى التوحيد وهداية الناس _بإذن الله تعالى_، والجهاد في سبيله - عز وجل -، والذود عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا مما ينبغي أن يقال لأبنائنا فلا تقصروا في هذا الواجب فالخطب جسيم، والخطر عظيم، فالأمة تحتاجكم في كل وقت واليوم هي في أشد الحاجة إليكم فلا تخيبوا آمالها.
فأنت أيها الأب الكريم، وأنت أيها المدرس الناصح اللبيب، وأنتم يا من ولاكم الله مسؤولية التربية ومناهجها اتقوا الله في أبناء المسلمين وأدوا الواجب الذي عليكم؛ اغرسوا في قلوب أبناء الأمة كل معاني التوحيد من التوكل على الله - عز وجل - والتعلق به _سبحانه_ وموالاة المؤمنين وبغض الكافرين، واستثمروا هذه النازلة في تقوية عقيدة الولاء والبراء وبيان خطر أعداء الله وأهدافهم الحقيقية؛ يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_: " إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه، مثل تعليم الوضوء والصلاة؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة الصلاة؛ ولا صحة لإسلامه أيضاً إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله " ا.هـ
معاشر الآباء والمربين:
اغرسوا في قلوب الناشئة الشجاعة والإقدام، والجرأة على الأعداء، واغرسوا في قلوبهم حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فالأمة التي تربت على الجهاد يخاف منها الأعداء وتصبح أمة قوية قاهرة ظاهرة، وكونوا قدوة صالحة لهم في كل ما توجهونهم إليه من الفضائل. علقوا أبناء الأمة بتاريخهم المشرق: تاريخ الصحابة الأبطال المجاهدين الذين رفعوا رأس الأمة، علموهم سيرة نبينا الكريم محمد _صلى الله عليه وسلم_ أعظم قائد عرفه التاريخ وأعظم شخصية عرفتها الأمم المسلمة والكافرة، والذي غير الله به مجرى التاريخ وأنقذ به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور.
يا علماء الأمة ودعاتها:
إن أمتنا الإسلامية تمر هذه الأيام بساعات حاسمة ونوازل شديدة ومحن عظيمة لها ما بعدها، إن الأمة تنطلق من كلمتكم ومواقفكم التي تبينون فيها الحق للناس، فأنتم معقد الأمل فيها بعد الله - عز وجل -، وأنتم الذين ينير الله بكم الطريق للناس إذا ادلهمت الخطوب، وأنتم الذين أخذ الله عليكم الميثاق لتبينن الحق للناس ولا تكتمونه، فمن للأمة في هذه الفتن والنوازل والأزمات ومن لها إذا اختلطت عليها الأمور وكثر التلبيس والتدليس من قبل أعدائها من الكفار والمنافقين. إنه لا ملجأ لها بعد الله إلا إليكم، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتركوا الأمة في حيرتها ولا تسلموها لأعدائها يسيرونها وفق أهوائهم، وإن الله سائلكم عن علمكم فيما عملتم به "لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (الأنفال: من الآية27)
يا علماءنا الأجلاء:
إن الأمة تحتاج إلى سماع قولكم فيمن يظاهر الكفار ويناصرهم بنفسه أو سلاحه أو ماله أو رأيه أو يسهل عليهم أي أمر يعينهم على قتال المسلمين. إن الأمة محتاجة إلى سماع ما كنتم تقولونه لطلابكم في شرح كتب التوحيد والإيمان وما يناقضه، فإذا سكتم في مثل هذه النوازل عن بيان أصل الدين وما يهدمه فمن يبينه للناس؟ (حقاً إن أمانة العلم عظيمة وخطيرة).
كما أن الأمة تنتظر بيانكم في كشف أهداف الصليبيين الحاقدين على الإسلام وأهله، وأنهم كما قال الله - عز وجل - عنهم: "وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" (البقرة: من الآية217).
فالكفار لا تكفيهم التنازلات مهما كثرت إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم. فلا تتركوا أمة الإسلام للإعلام المضلل الفاسد الذي يبعد الناس عن حقيقة الكفار في حربهم ويحاول حصرها في أهداف اقتصادية أو يردد ما يقوله الغرب الكافر بأنهم يهدفون إلى حرب الإرهاب وتخليص المنطقة من أسلحة الدمار الشامل!!.
يا دعاة الأمة من علماء ومتعلمين:
إن عليكم مسؤولية عظيمة في تثبيت الأمة _بإذن الله تعالى_ في مثل هذه الظروف، وإحيائها من سباتها واستثمار هذه الأحداث الكبيرة في إيقاظها وتقوية إيمانها وتوحيدها وولائها وبرائها والقضاء على اليأس والإحباط الذي قد يتسرب إلى بعض النفوس في مثل هذه الظروف، والتأكيد على أن النجاة من الفتن وتحقيق الأمن يكمن في قوة التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك قال الله _تعالى_: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (الأنعام: 82). كما يكمن في قوة التوكل على الله _تعالى_ وإحسان الظن به _سبحانه_ "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق: من الآية3)، و "إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ" (هود: من الآية49).
يا دعاة الأمة والإصلاح:
"فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ" (الأنفال: من الآية1)، "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" (الأنفال: من الآية46)، واعلموا أن من أخطر الأدواء وأفتك الأمراض التفرق وبخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة التي رمانا فيها الأعداء عن قوس واحدة، فما أشد فرح عدونا بخلافنا.
إنه لا يجوز بحال أن نوجه حرابنا وخصامنا إلى بعض والعدو يسن سلاحه علينا جميعاً، فالدعاة جميعاً مستهدفون من الغرب الكافر وأذنابه، ومن العجب أن دعاة أهل السنة يتفقون في مواطن كثيرة والخلاف بينهم قليل ومع ذلك يوقف الشيطان كثيراً منهم عند نقاط الخلاف وينسيهم مواطن الاتفاق، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وهو كثير وأهمه الاتفاق على وجود الخطر وضرورة مواجهته وما اختلفنا عليه من مسائل الاجتهادية فليناصح بعضنا بعضا فيها.
معاشر المصلحين:
إنكم تمثلون – بإذن الله تعالى – صمام الأمان لهذه الأمة، فبكم وبأمثالكم يدفع الله العقاب والعذاب عن العباد، قال الله _تعالى_: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود: 117).(5/3)
فكثفوا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتربية الناس على الإيمان ونشر الخير ومحاربة الفساد ودعوة الناس إلى التوبة الصادقة، وكونوا على يقظة تامة في مثل هذه الظروف مما يحيكه أعداء الأمة من الكفار وأوليائهم المنافقين في انتهازهم لأوقات الفتن وانشغال الناس ليمرروا وينفذوا مخططاتهم الفاسدة في مجتمعات المسلمين وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة وسبل إفسادها، فهذه عادة المنافقين في كل زمان ومكان، وإنما ينجم نفاقهم ويظهر ويفتضح خبثهم أيام الفتن والنوازل والمحن، فكونوا على حذر واقطعوا عليهم الطريق، وافضحوهم وعرفوهم للناس حتى لا ينخدعوا بهم، فالمنافقون في كل زمان ومكان أولياء للكفار وبخاصة اليهود والنصارى، قال الله _تعالى_: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الحشر:11).
أيها المسلمون:
إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم خير وبركة على الأمة، فبهم يفتح الله الخير والبركات على الناس وبهم يدفع الله الشرور عن الأمة، وبهم يرهب الله الأعداء.
ألا ما أشرف مهنتهم وما أكثر خيرهم وأثرهم على الناس، فما أجدر الأمة أن تحبهم وتدعو لهم وتتعاون معهم على البر والتقوى وتكون معهم على أعدائهم وشانئيهم.
معاشر المسلمين:
إن أيام الفتن والنوازل مظنة لمزلة الأقدام وضلال الأفهام وتحير العقول، وإن من أعظم ما يتسلح به أمام هذه الفتن:
1- دعاء الله - عز وجل - والتضرع إليه: قال الله _تعالى_: "فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" (الأنعام: من الآية43).
فالدعاء سلاح عظيم تسلح به الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_ وأتباعهم من الصالحين، فلنجهد فيه للنفس.
للمسلمين وعلى الكافرين، وليحث الناس عليه وبخاصة كبار السن من الصالحين
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" رواه البخاري.
2- العلم بالشرع والبصيرة في الدين: فبالعلم تدفع الشبهات ويزول اللبس، ولا يتعرض العبد لخداع المضللين، فإن لم يكن لدى المسلم علم يكفي فالمتعين عليه سؤال العلماء الربانيين الذين يجمعون بين
العلم والتقوى والوعي بسبيل المجرمين، فبهم تدفع الشبهات ويميز الله بهم الحق من الباطل.
3- الاجتهاد في العبادات: ففي ذلك تثبيت للعبد وتوفيق له إلى الصواب والحفظ من الفتن بخلاف الغافل المقصر فإنه يخشى عليه أن تزل قدمه. قال الله - عز وجل -: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً" (النساء: 66-68).
وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "احفظ الله يحفظك"، كما أن للعبادة وقت الفتن شأناً وفضلاً، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا" رواه مسلم . وقال _صلى الله عليه وسلم_: "عبادة في الهرج كهجرة إلي" رواه مسلم وأحمد ولفظه عنده "العبادة في الفتنة كهجرة إلي" قال ابن رجب _رحمه الله تعالى_ في شرحه لهذا الحديث في لطائف المعارف (وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتنة يتبعون أهواءهم فلا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" ا هـ.
4- الحذر الحذر من العجلة والتسرع أيام الفتن، ولزوم التؤدة في جميع الأمور، فالتؤدة خير كلها إلا في أمور الآخرة؛ وتتأكد في النوازل والفتن، فكم هم الذين أقروا بندمهم على تسرعهم وتعجلهم في أمر كان لهم فيه أناة ولكن حين لا ينفع الندم، ومما يعين على التؤدة والأناة كثرة المشاورة لأهل العلم الناصحين وأهل الوعي والتجربة، وعدم الانفراد بالرأي في اتخاذ الموقف، ومما له علاقة بالعجلة أيام الفتن تطبيق أحاديث الفتن الواردة في آخر الزمان على واقع قائم أو نازلة تحل بالمسلمين فإنه يحلو لبعض الناس المتعجلين مراجعة أحاديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الفتن وتنزيلها على واقع قائم وهذا خطأ وتعجل لا يحمد عقباه، كمثل ظن بعضهم أن المهدي هو رجل من هذا الزمان سموه وعينوه ورتبوا على ذلك أفعالاً وأحكاما وكما فسر بعضهم قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إن الفتنة في آخر الزمان تكون من تحت رجل من أهل بيتي" بأنه فلان بن فلان أو القول بأن تفسير حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ "يكون بينكم وبين الروم صلح آمن..." إلى آخر ما جاء في الحديث من أخبار وأحداث هو ما يحصل في زماننا وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع وبث ذلك في المسلمين قبل حصول موجبات القطع واليقين به ليس من منهج أهل السنة والجماعة فإن السلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزل على واقع حاضر، وإنما يظهر صدق النبي _صلى الله عليه وسلم_ بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها. وأهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديثها محذرين منها مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو الاقتراب منها، وشبيه بالعجلة في تفسير أحاديث الفتن العجلة في تأويل الرؤى والتعلق بها والانطلاق منها في اتخاذ المواقف والقيام بأعمال خطيرة بناء على الرؤى وهذا قد يكون من كيد الشيطان ومكره، فالصادق من الرؤى يستبشر به ولا يعول عليه.
أيها الإعلاميون في بلدان المسلمين:
إن أمتكم تمر بظروف عصيبة وحاسمة وإن المسؤولية عليكم عظيمة والأمانة جسيمة "لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (الأنفال: من الآية27) .
لقد أنعم الله عليكم بنعمة القلم والبيان، فاشكروا الله على ذلك وسخروا ذلك في بيان الحق للناس وتحذيرهم من الباطل، ولا تلبسوا على الناس الحقائق ولا تضللوهم بتقليد الإعلام الكافر وترديد ما يقول ويلبس؛ إنكم إن فعلتم ذلك فقد كفرتم نعمة الله عليكم وعصيتم أمر ربكم وخنتم أماناتكم وأمتكم وتحملتم وزر من ضل بسببكم من غير أن ينقص ذلك من أوزار الضالين شيئاً.
تجنبوا النفاق والكذب وقلب الحقائق، فإن الله سائلكم ومحاسبكم عن ذلك كله "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً" (الكهف: 49).(5/4)
وأنتم يا من ابتلاكم الله بتوجيه الإعلام المرئي من تلفاز وبث فضائي إلى الأمة.. إن الأمة تشكوكم إلى بارئها - عز وجل - وتعج إلى الله _تعالى_ مما صنعتم في إفساد الدين والأعراض والأخلاق. فهل أنتم منتهون؟ وهل أنتم مدركون لعظيم جرمكم؟ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وانتبهوا لعظيم ما تجرونه من الفساد على أمتكم. إن عدونا يحيط بنا من كل جانب، فهل يليق بنا والحالة هذه أن نلهو ونلعب و نرقص ونغني؟؟ فاتقوا الله في دينكم وأمتكم "وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (البقرة: 281).
هذا ما يسر الله لي كتابته في هذا البحث فما كان فيه من صواب فمن الله وحده وبتوفيقه وله علي المن والفضل، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن يكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقه طرفة عين .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية 2/2
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل
11/1/1426
ارسل تعليقك …
تعليقات سابقة …
ارسل الصفحة …
الى مشرف النافذة …
طباعة …
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قال الله _تعالى_: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (آل عمران:137).
"فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" (فاطر: من الآية43).
والآيات من كتاب الله _عز وجل_ في ذكر مثل هذه السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_ مع أقوامهم، وإنه لمن الواجب على دعاة الحق و المجاهدين في سبيل الله _تعالى_ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله _عز وجل_ وما تضمن من الهدى والنور ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدي الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_ في الدعوة إلى الله _عز وجل_، الذين هم أعرف الناس بالله _سبحانه_، وبأسمائه وصفاته، وبالتالي فهم أعرف بسننه _سبحانه_ وعاداته وأيامه وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها،وما ضل من ضل إلا بسبب الإعراض عن كتاب الله _عز وجل_ وما فيه من الهدي والنور، يقول الدكتور محمد السلمي _حفظه الله_:
"التاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق" ا.هـ.(منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص 60).
وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله _عز وجل_ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها في العراق وفلسطين وأفغانستان، والشيشان وما صاحبها من فتن ومواقف ، وسأقتصر على ذكر ثلاث من هذه السنن التي رأيت أن لها مساساً بهذه الأحداث المعاصرة:
السنة الأولى: سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل.
السنة الثانية: سنة الابتلاء والتمحيص.
السنة الثالثة: سنة الإملاء والاستدراج.
السنة الأولى: سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل:
يقول الله _عز وجل_: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: من الآية251).
ويقول _تبارك وتعالى_: " وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: من الآية40).
وعن عياض بن حمار المُجاشِعي؛ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلى بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت:رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغرك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" الحديث(1).
ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على أنه منذ أن اجتالت الشياطين بني آدم عن دينهم وظهر الشرك والكفر وظهر تحريم الحلال وتحليل الحرام والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سنة إلهية لا تتخلف ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى رحمة الله وفضله، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين؛ ولذلك ختم الله _عز وجل_ آية المدافعة في سورة البقرة، بقوله _سبحانه_: "وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: من الآية251). حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق فالله _تعالى_ يقول: " بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الأنبياء:18).
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة – أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد – إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله _عز وجل_ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.(5/5)
يقول سيد قطب _رحمه الله تعالى_: "إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده – مهما عظمت وشقت – أقل وأهون من تكاليف التبعية للطواغيت! إن تكاليف التبعية للطواغيت فاحشة مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته. (فهذه الإنسانية) لا توجد والإنسان عبد للإنسان وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس – في حكم الطواغيت – أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج، كما يكلفهم أولادهم؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها، فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر – كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه في حكم الطواغيت من دون الله، إنما يعيش في وهم أو يفقد الإحساس بالواقع!) ا.هـ(2).
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشبه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله _عز وجل_ على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_: "والجهاد: منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه"(3).
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة، وذلك من قبل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين؛ فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.
وكما هو مقرر عند أهل العلم أن جهاد الكفار يصبح متعيناً على أهل كل بلد عند ما يغزون في عقر دارهم، ويجب على كل قادر أن ينفر لصد العدوان وقتال الكفار حتى يجلوا عن أرض المسلمين، والجهاد في هذه البلدان يكون بالنفس والمال ولا يشترط له شرط كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ بقوله: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء : أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(4).
ويجب على بقية بلدان المسلمين أن ينصروا إخوانهم في بلدانهم المغزوة بأن يمدوهم بالمال والسلاح والبيان والدعاء، وإذا لم يكف المقاتلون في البلد المعتدى عليه في صد العدوان وجب على البلاد المجاورة لهم أن تمدهم بالرجال والمال حتى يكتفوا كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ حيث يقول: "وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذا بلاد المسلمين كلها منزلة البلدة الواحدة"(5).
كما يجب على من كان من المسلمين ذا خبرة عسكرية في صنف من فنون القتال أن ينفر لنصرة إخوانه في البلدان المغزوة؛ قال الله _تعالى_: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (التوبة:38- 41).
هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصاداً وثقافياً، وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير، فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
فقد تقرر فيما سبق من الكلام إن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة و المسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله _عز وجل_ ورسوله والجهاد في سبيله _تعالى_، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله _تعالى_: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24).
هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال ولكن ما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة، والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟(5/6)
فلقد قال الله _عز وجل_ آمراً نبيه محمدا _صلى الله عليه وسلم_ في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال؛ وذلك في سورة الفرقان حيث يقول الله _عز وجل_: "فلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" (الفرقان:52).
وقد مر بنا كلا م شيخ الإسلام _رحمه الله تعالى_: "والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكن" ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسب علمه وقدرته؛ يقول ابن القيم _رحمه الله تعالى_: "ولله _سبحانه_ على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها: فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله _صلى الله عليه وسلم_، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المُتحزِّن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتذبل وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل"(6).
السنة الثانية: سنة الابتلاء والتمحيص:
قال الله _عز وجل_: " الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون ولقد فتنا الذين من قبلهم ليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين َ" (العنكبوت:1،2)
وقال _تعالى_: " وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (آل عمران: من الآية154) وقال _سبحانه وتعالى_: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم" (آل عمران:179).
يقول الإمام ابن كثير _رحمه الله تعالى_ عن الآية الأخيرة: "أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر"(7).
ويقول سيد قطب _رحمه الله تعالى_: "ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله _سبحانه_ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله _سبحانه_ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة!"(8).
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم - وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وما صاحب ذلك من التداعيات أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين - أقول: بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أنه هذه السنة الربانية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها _سبحانه وتعالى_ لتؤتي أكلها الذي أراده الله _عز وجل_ منها؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم، فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وقبل هذا التمحيص والتمييز فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله _عز وجل_ عباده المؤمنين لن تتحقق. هكذا أراد الله _عز وجل_ وحكم في سننه التي لا تتبدل: أن محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي _رحمه الله تعالى_: أيها أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله _عز وجل_ أن قال: "لا يمكن حتى يبتلى"، ولعله فهم ذلك من قوله _تعالى_: "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141).
وللتدليل والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل: أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السنة - أعني سنة الابتلاء والتمحيص - في خضم هذه الفتن المتلاطمة ولم يكن لهذه المواقف أن تعرف ويعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السنة وبداية الابتلاء فكيف يكون الحال في آخر الأمر نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن، وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها أو المبادرة بالخروج منها لمن وقع فيها.
الموقف الأول: موقف المنافقين والمرجفين:(5/7)
النفاق داء عضال في الأمة، ولقد عانت الأمة في تاريخها الطويل ما عانت من الخيانات ومظاهرة الكافرين وكشف عورات المسلمين لأعدائهم، ومن عادتهم أنهم لا يظهرون إلا في أيام المحن الكبيرة والنوازل العظيمة التي تمر بالمسلمين حيث يظهر الله عوارهم ويكشف أسرارهم، وهذا من رحمة الله _عز وجل_ وحكمته في حصول الابتلاءات، ومن ذلك ما كان منهم يوم الأحزاب يوم أن أحاط المشركون وحلفاؤهم بالمدينة، ونقضت اليهود عهدها مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً وعند ذلك نجم المنافقون والمرجفون والمعوقون ممن كانوا مندسين في الصف المسلم، ويكفينا في وصف حال المنافقين في هذه الغزوة قول الله _عز وجل_: " وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً" (الأحزاب:12، 13، 14).
إلى قوله _تعالى_:" قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً" (الأحزاب:18).
وها نحن في هذا الزمان نشاهد فريقاً منهم يقفون نفس الموقف الذي وقفه إخوانهم يوم الأحزاب؛ وذلك عند ما رأى منافقوا زماننا ما أحاط بالمسلمين من النوازل، ورأوا إخوانهم من الصليبيين يحيطون ببلدان المسلمين فظهر نفاقهم وبدا للناس ما كانوا يخفون من قبل، وأصبحنا نسمع منهم الإرجاف وترديد ما يقوله الكفرة الغزاة عن المجاهدين والدعاة الصادقين، وراحوا يحرضون عليهم ويشمتون بما يصيبهم من المحن والمصائب، وصاروا يبثون في الأمة اليأس من مقاومة الغزاة، يحسنون الكفرة الغزاة في عيون المسلمين، ويستبشرون بمجيئهم ويساندونهم في تنفيذ مخططاتهم لغزو العقيدة والأخلاق ، قال الله _تعالى_ في وصف سلفهم من المنافقين الأولين: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الحشر:11)
وقال _سبحانه وتعالى_ عن شماتتهم بالمؤمنين وإشاعة اليأس والإرجاف وإساءة الظن بالله _عز وجل_ ووعده: " بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" (الفتح:12).
ولم يعد خافياً على أحد ما يطرحونه في وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله _عز وجل_ أو من الناس، وذلك في ما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله _عز وجل_ وحكم رسوله _صلى الله عليه وسلم_، والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود التدليل على أن سنة الله _عز وجل_ في الابتلاء والتمحيص أنها تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين كما فضح الله _عز وجل_ إخوانهم وسلفهم في عزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزة تبوك التي أنزل الله _عز وجل_ فيها سورة كاملة هي سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة لسنة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم فإنهم يشكلون خطراً وتضليلاً للأمة، أما إذا عرفوا وفضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل ويتهيئون لنصر الله _عز وجل_ وتأييده.
الموقف الثاني: موقف اليائسين والمحبطين والخائفين:
لما كشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى من الكفرة والمنافقة شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر سيطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات فشكت في ظهور هذا الدين واهتز يقينها بوعد الله _تعالى_ بنصرة دينه، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم ويخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء. وفئة أخرى لم يساورها الشك في دين الله _تعالى_: بنصرة أوليائه، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافؤهم مع عدوهم وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئاً، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم، والحل عند هؤلاء: الاستسلام للواقع وانتظار معجزة ربانية من الله _عز وجل_ كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم _عليه الصلاة والسلام_!! ولا يخفى ما في هذه التصور من الانحراف والشطط، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة والجهاد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء.
وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتعرف لو لا سنة الابتلاء والتمحيص وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلهم أن يراجعوا أنفسهم ويقلعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السنة، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها؛ قال الله _تعالى_ في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139).
وقال _سبحانه وتعالى_ في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره _عز وجل_: " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران:146، 147، 148)(5/8)
وقال _سبحانه وتعالى_ في وصف أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ لما تحزبت عليهم الأحزاب: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً" (الأحزاب:22).
الموقف الثالث: موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط:
وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة: الأصولية، وتارة: المتشددين، وتارة: الإرهابيين، والخطير في الأمر في هذه المواقف أنها تغطى بشبه شرعية، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا مواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع ولا ملتزمة بمقاصده؛ كاستدلالهم مثلاً بالضرورة وأحكامها، وقواعد التيسير ورفع الحرج، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصله لكنها فاسدة في تطبيقها(9).
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالمعتدلة أو الوسطية. وهذه المواقف ما كانت لتعرف لولا سنة الابتلاء التي تمحص وتميز الصفوف ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقاً، لكنه _سبحانه_ يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص، وصدق الله العظيم: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" (آل عمران: من الآية179).
وقد أخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غربياً بين الناس ووصفه بأنه كالقابض على الجمر وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولوا العزم من المؤمنين الصابرين؛ قال _صلى الله عليه وسلم_: "إن الإسلام بدأ غربياً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء " قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس"(10).
وقال _صلى الله عليه وسلم_: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر".
ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيراً من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة والتي يحاول أصحابها أن يتشبثوا في الاقتناع بها بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة ، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب بل تعدتها إلى أصول العقيدة وأركانها، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودها، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه؛ والمقصود أن سنة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف ولله _عز وجل_ الحكمة في ذلك؛ لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها كما أن فيها خيراً أيضاً لغيرهم حتى يحذروها ويحذروا منها.
الموقف الرابع: موقف المتعجلين المغيرين بالقوة:
وهذا الموقف يقابل الموقف السابق، فبينما ينحي الموقف السابق إلى التنازل عن بعض الثوابت والتعلق ببعض الشبهات و الشذوذات، يذهب أصحاب هذا الموقف إلى الطرف المقابل حيث لم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات توجه للمسلمين في دينهم وأعراضهم وعقولهم ورأوا أن الموقف إزاء مثل هذه الابتلاءات هو المواجهة المسلحة دون أن ينظروا إلى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة ، ودون أن ينظروا إلى واقعية المصالح التي يسعى لتحقيقها فنشأ من جراء ذلك أضرار عظيمة عليهم وعلى الدعوة وأهلها في المحيط الذي تدور فيه هذه المواجهات.
وهنا أود التنبيه إلى أنه ليس المعنى في هذه المواقف تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين وديارهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها ممن يقوم بجهاد الدفع عن ديار المسلمين المحتلة، وإنما المعني هنا أولئك الذين يرون المواجهة المسلحة في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك، مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجهٍ مع إخوانهم المسلمين، فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً، كما هو حاصل في الجزائر وما قد حصل في مصر وسوريا أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في العراق وأفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس والوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار.
والذي حملني على هذا التنبيه ما نسمعه – ويا للأسف – من بعض الفتاوى المتسرعة والتي مفادها أن القتال ضد الغزاة الكفرة في العراق هو قتال فتنة وتعجل وافتئات على الأمة وهذا من صور الابتلاء الذي يتعرض له المسلمون في هذه الأزمنة.
السنة الثالثة: سنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين:
قال _تعالى_: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178).
وقال _تعالى_: " وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" (الأعراف:182، 183).
وهذه السنة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات؛ وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق؛ وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكبر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان أمريكا؛ حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: "من أشد منا قوة" وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله _عز وجل_ ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم أمريكا وحلفائها هم الآن يعيشون سنة الإملاء والاستدراج والتي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم قال _تعالى_: " وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً" (الكهف:59).
والله _عز وجل_ لا يستجيب لعجلة المستعجلين بل له الحكمة البالغة والسنة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله _تعالى_ لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
يقول صاحب الظلال _رحمه الله تعالى_ في هذه الآية السابقة الذكر من سورة آل عمران:(5/9)
"وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله - _سبحانه_ - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!!
وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وها هو ذا الله _سبحانه وتعالى_ يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن؛ إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه؛ إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة، وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178).
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء! "وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ".
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير، فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين).
ويقول في موطن آخر:
"وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله ولكن الناس إنما يستعجلون؛ إنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق!"
ومن حكمة الله _عز وجل_ في سنة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم، وقد بدت بوادر المحق في الأمريكان الكفرة وحلفائهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم، ولكن الله _عز وجل_ بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته _سبحانه_ في القوم الكافرين، كما أن من حكمته _سبحانه_ في إملاء الكافرين وظلمهم وتسلطهم على المسلمين تحقيق للسنة التي سبق الحديث عنها ألا وهي سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين .
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سنة الابتلاء أكلها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحصاً عندئذ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها فيحق القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم _عز وجل_ في الأرض ويخلفون الأرض بعد محق الكافرين.
قال _تعالى_: " وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141).
فذكر الله _سبحانه_ التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قيل تهيأ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم إن الله _عز وجل_ حكيم عليم وما كان _سبحانه_ ليحابي أحداً في سننه ولله _عز وجل_ الحكمة في وضع السنتين سنة الابتلاء وسنة الإملاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران؛ قال _تعالى_: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178)
"مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (آل عمران:179).
ولعل من الحكمة - والله أعلم - أن يعلمنا الله _عز وجل_ أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان وأن إحداهما تهيئ للأخرى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، الهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء،
اللهم ارحم عبادك الموحدين والطف بهم في العراق وفي كل مكان؛ اللهم احقن دماءهم واحفظ لهم دينهم وأعراضهم.
اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم اشف صدورنا وأقر أعيننا بنصرة دينك وأوليائك وخذلان أعدائك؛ اللهم قاتل أمريكا وحلفاءها الذين يكذبون رسلك ويعادون أولياءك ويصدون عن سبيلك، وأنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
_______________
(1) رواه مسلم ( 2865).
(2) في ظلال القرآن 3/ 1319 بتصرف يسير.
(3) الاختيارات الفقهية: ص 447.
(4) الاختيارات الفقهية ص 309، 310.
(5) الاختيارات الفقهية ص 448.
(6) إعلام الموقعين 2/176.
(7) تفسير ابن كثير عند الآية ( 179) من سورة أل عمران.
(8) في ظلال القرآن 1/525.
(9) للرد على هذه الشبهات : انظر كتاب ( فاستقم كما أمرت ) للمؤلف.
(10) تحفة الأحوذي ( 2361 ) 6/539 وقال الترمذي: حديث غريب وقال الأرناؤوط في جامع الأصول له شواهد يرتقي بها.
==============
حرب الأمس واليوم
سلمان بن فهد العودة 26/1/1424
29/03/2003
دعونا نمنح أنفسنا فرصة الفرح بالضرر الفادح الذي لحق بقوات الغزو الأمريكي للعراق ، وبالمقاومة الصلبة التي فاجأتهم حيث استقبلوا بالرصاص بدل الزهور ، دون أن نؤجل هذا الفرح طمعاً بنصر أوسع ننتظره ، وهو في علم الغيب .
أخافُ على نفسي وأرجو مفازها … …
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي … …
ومن أين والغاياتُ بعد المذاهبِ؟
ودعونا نفرح مرةً أخرى بعدم تحول الشعب العراقي إلى قطيع من اللاجئين يستجدي لقمة العيش من أيادي الهيئات الدولية والخيرية ، بل ثبت وتمسك بحقه وحقله .(5/10)
ليس من المستبعد أن تكون آلة الحرب الضخمة ، وحمم النار التي تصب على العراق بلا حساب قادرةً على حسم النتيجة الأولية لهذه الحرب لصالح الطرف الأقوى ، وعلى اضطرار فئات من هذا الشعب إلى الرحيل نحو المجهول .
لكن هانحن نرى الشعب الفلسطيني مثلاً يقاوم ببسالة وضراوة وصبر وإصرار بعد هذه الحقب الطويلة من الاستعمار ، مع الأخذ بالاعتبار الفارق بين استيطان يهودي مكشوف ، وسيطرة أمريكية محتملة على العراق .
إن الاندفاع الأمريكي نحو التوسع والسيطرة قوي جداً ، وليس هو استثناء من الاندفاعات الإمبراطورية التاريخية ، غير أنه مسرف في حسن ظنه بنفسه ، وإظهار براءته وسلامة أهدافه ونبل مقاصده ، وهو مسرف أيضاً في الاستخفاف بالقوى التي لا تتفق مع رؤيته للأمور .
ولعل هذا وذاك هما المسؤولان عن سؤ التقدير الذي وقعت فيه القوات الغازية التي يسمونها خداعاً وتضليلاً بـ"قوات التحالف" .
تقفز إلى ذهني وأنا أشاهد الموقف الآية الكريمة التي نزلت بشأن غزوة بدر "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ"[الأنفال:48] والشيطان لم يكن مريداً للتغرير بالكافرين وهزيمتهم ، ولا وقوعهم في قبضة المؤمنين ، ولكن الرغبة العمياء لا تمنح الإنسان فرصةً التأمل والنظر وحسن التقدير .
والظن أن قوى المعارضة المندفعة مع الركب الاستعماري ذات أثر في الصورة المرتسمة عن الداخل العراقي ، والتي ظنت أن الحرب نزهة صحراوية لن تتجاوز بضعة أيام ، بل يمكن تجنبها من خلال ضربات نوعية سريعة تعطي الشعب فرصةً للانتفاض والانقضاض .
إن الشعب العراقي اليوم يعيش تحت وطأة ظلم جديد ، وغزو فاجر ، يتحدث عن تحريره وحقوقه ، ويبشره بالديموقراطية القادمة عبر الصاروخ والدبابة ، ويحاول تحويله إلى أرتال من الجياع والمرضى والمصابين ليمن عليه بعد ذلك بالمساعدات الإنسانية التي تستقطع من أرصدة بلده ، بينما تذهب ثرواته وخيراته إلى جيب المعتدي !
وهذا سر من أسرار قوته ، فإن المظلوم منصور ولو بعد حين "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا"[الإسراء:33]
وحين أذن الله تعالى بالقتال علل ذلك بقوله :" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"[الحج :33] الآيات .
وفي المسند أن عمر رضي الله عنه سأل رجلاً ممن أنت فقال : من عنزة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( حي من هاهنا مبغي عليهم منصورون ) .
ولعل هذا من أسباب اختلاف الصورة اليوم عما كانت عليه أثناء حرب الخليج الثانية ، حين احتلال العراق الكويت ، حيث كان معتدياً ظالماً ، فانكسر انكساراً سريعاً ، ولم يفلح في أي مقاومة ، بينما هو اليوم معتدى عليه في أرضه ، ومقصود بالتدمير والقضاء على قدراته الحاضرة والمستقبلية ، فهذا عزز موقفه في الدفاع والمقاومة .
ومن تأمل سير الأحداث واستقرأ سنن الله فيها رأى العجب في لطائف الحكم الربانية ، وكيف يجري الله تعالى القدر وفق علمه وحكمته وعدله ، وإن كان هذا المعنى قد يغيب عمن يشهد اللحظة الحاضرة ويندمج فيها ، فتستغرقه عن رؤية ما قبلها ، أو توقّع ما بعدها .
وكان جديراً بمن عانى مرارة الظلم أن يكون أبعد الناس عنه ، وأشدهم نفوراً منه، وأعظمهم خوفاً من عاقبته وشؤمه ، ولهذا يقال في مأثور الحكمة : (( من أعان ظالماً سلط عليه )) !
إن من الخطأ الانسياق في هذه الحرب تحت مسوغات خاصة ذاتية ، بينما أهدافها الحقيقية تتجاوز العراق ونزع أسلحته ، بل وتغيير نظامه إلى إعادة صياغة المنطقة ، ورسم خريطتها وفق رؤية أمريكية إسرائيلية .
وهذه الحرب تأسيس خطير لمبدأ التدخل المباشر في شؤون الدول ، وخوض المعارك بهدف تغيير الأنظمة ، فضلاً عما قد يتمخض عنها من انكسار حاد في النظام والوجود العربي والإسلامي .
وتمهيد للتطبيع الكامل وصفقة السلام المذلة ، وفق "خارطة الطريق" أو غيرها مما تتفتق عنه قرائح الليكوديين !
وربما كانت العراق حلقةً في سلسلة ممتدة ترمي إلى القضاء على جميع ألوان الاستقلال في الإرادة والقرار ، أو العمل والتخطيط ، أو التصنيع وامتلاك القوة في المنطقة الإسلامية كلها ، وزحزحة كل مشروع يشكل خطراً حالياً أو مستقبلياً على الوجود الغربي والتفوق الإسرائيلي في المنطقة .
قد تتمكن الآلة المتفوقة من حسم المعركة في نهاية المطاف ، وإقامة الأنموذج الذي تنشده ليكون قدوةً لجيرانه ، ومنطلقاً لحروب أخرى تشن هنا وهناك ...
ولكن تظل السنة قائمة " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251]
فصاحب الحق أطول نفساً وأمد صبراً ، وأقدر على التضحية والفداء ، وهو إذا مات يورث الأحفاد الوصية بمحاسبة المعتدي والانتصاف منه .
فإذا رأيت جريمة الجاني وما اجترحت يداه
فانثر على قبري وقبر أبيك شيئاً من دماه !
وما زالت ذكريات المقاومة الباسلة للاستعمار ماثلة في الأذهان ، أو ظاهرة للعيان ، في العراق والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها ، وما الاحتلال الجديد عنه ببعيد .
قل للفرنسيس إذا جئته … …
مقالة من ناصح بر فصيح
دار ابن لقمان على حالها … …
والقيد باق..والطواشي صبيح
"وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ"
============
ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة (1/2)
الدكتور / مسفر بن علي القحطاني أستاذ الفقه وأصوله في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن 18/2/1424
20/04/2003
إن للنظر والاجتهاد في أحكام النوازل المقام الأسمى في الإسلام لما له من موصول الوشائج بأصوله وفروعه الحظ الأوفى والقدح المعلى ،وهو الميدان الفسيح الذي يستوعب ما جدّ من شؤون الحياة والأحياء ، وتعرف من خلاله أحكام الشرع في الوقائع والمستجدات الدينية والدنيوية .
ولا يخفى على أهل العلم والإصلاح ما وقع خلال الأسابيع الماضية من عدوان غاشم على العراق استهدف أرضه ومقدراته وانتهك حقوق شعبه وحرماته ، فكانت نازلة عظيمة أصيبت بها الأمة العربية و الإسلامية في فؤادها وتأثر لها العالم أجمع ، ولعلها بداية السيل الغربي العرم على بلادنا ومقدساتنا وثقافاتنا الإسلامية.
عندها علت صيحات الغيورين محذّرةً من هذه الفتنة ومرشدةً للمخرج الشرعي منها ، فخرج على إثرها عدد من الفتاوى الشرعية للجان وهيئات علمية وكذا لأفراد من أهل العلم ؛ بيّنت أحكام بعض النوازل التي وقعت في الحرب ؛ كحكم جهاد الغزاة من الأمريكان والبريطانيين ، والتعاون مع البعثيين في ذلك ، وحكم مناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين في هذه الأزمة ، وهل يجوز لجيوش المسلمين المشاركة في هذه الحرب بتقديم العون والدعم مهما كان لأولئك المعتدين إلى غيرها من المسائل الواقعة والمتوقعة الحدوث خلال الأيام القادمة .(5/11)
وقد أدى خروج بعض هذه الفتاوى في الساحة الإسلامية إلى شيءٍ من التباين والاختلاف في أحكامها ، والتنافر والتباعد بين أعلامها ، إضافة للحيرة والاضطراب التي اعترت كثير من المسلمين من جراء هذا الاختلاف ، في حين أننا في أمس الحاجة في هذه الأزمات للتقارب والائتلاف و التعاون وجمع الكلمة على الحق . ومن أجل هذا المقصد العظيم أحببت أن أشارك إخواني الباحثين وطلبة العلم الناصحين بتوضيح أهم ضوابط النظر والاجتهاد في مثل هذه النوازل ، وذكر الملامح الهامة لاجتهادٍ أمثل يستند على نصوص الشرع ويتوافق مع مقاصده الكلية وقواعده العامة.
ومن أجل ذلك قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مطالب :
المطلب الأول :مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة .
المطلب الثاني:الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة .
المطلب الثالث:الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد أثناء بحث النازلة .
هذا والله أسأل أن يجد القارئ في هذا التأصيل لفقه النوازل ما ينتفع به طلبة العلم والباحثين ويرأب الصدع الذي حدث بين بعضهم من جرّاء أحداث الأزمة الراهنة ، ولا أزعم أخواني القراء الإحاطة والإستقصاء وإنما هي محاولة متواضعة أفتح فيها المجال لأهل العلم والفضل لإشباع هذا الجانب المهم من التأصيل ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، كما أود التنبيه أني قد استعنت في بحثي هذا بدراستي الموسعة حول هذا الموضوع في رسالتي للدكتوراه والتي كانت بعنوان :(منهج استنباط الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة ، دراسة تأصيلية تطبيقية) والتي سوف تنزل المكتبات قريباً إن شاء الله.
المطلب الأول :مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة
برزت في العصر الحاضر مناهج في النظر فيما استجد حدوثه من نوازل وواقعات وبرز لكل منهج منها علماء ومفتون وجهات تبني اجتهادها في النوازل من خلال رؤية هذه المناهج وطرقها في النظر .
وهذه المناهج المعاصرة في الفتيا والاجتهاد ليست وليدة هذا العصر بل هي امتداد لوجهات نظر قديمة واجتهادات علماء وأئمة سلكوا هذه المناهج وأسسوا طرقها .
فلن يكون مقصود بحثنا تأريخ هذه المناهج ورموزها إلا بقدر ما يوضح مناهج الفتوى والنظر في عصرنا الحاضر إذ هي الوعاء لكل ما يجدَ وينزل بالناس من أحكام وواقعات معاصرة .
ويمكن إجمال أبرز هذه المناهج المعاصرة في النظر في أحكام النوازل إلى ثلاثة مناهج، هي كالتالي: -
أولاً : منهج التضييق والتشديد .
من المقرر شرعاً أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة ، فاستقراء أدلة الشريعة قاضٍ بأن الله عز وجل جعل هذا الدين رحمة للناس ، ويسراً، والرسول صلى الله عليه وسلم أصل بعثته الرأفة والرحمة بالناس ورفع الآصار والأغلال التي كانت واقعة على من قبلنا من الأمم ، يقول الله تعالى :[لَقَدْ جَاءكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ](1).
ويقول عز وجل : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] (2)
، ويقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ))(3)
ومن أبرز أوصافه عليه الصلاة والسلام ما قاله ربه عز وجل : [وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ](4).
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يترك بعض الأفعال والأوامر ، خشيه أن يشق على أمته كما قال عليه الصلاة والسلام:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ))(5)
ونظائره من السنة كثير ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه بالتيسير أيضاً على الناس وعدم حملهم على الشدة والضيق ، فقد قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ لما بعثهما إلى اليمن : (( يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا ))(6).
إن منهج التضييق و التشدد من الغلو المذموم انتهاجه في أمر الناس سواءً كان إفتاءً أو تعليماً أو تربية أو غير ذلك ، وقد يهون الأمر إذا كان في خاصة نفسه دون إلزام الناس به ، ولكن الأمر يختلف عندما يُتجاوز ذلك إلى الأمر به ، والإلزام به،ويمكن إبراز بعض ملامح هذا المنهج في أمر الإفتاء بما يلي :-
أ-التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء :
تقوم حقيقة التعصب على اعتقاد المتعصب أنه قبض على الحق النهائي – في الأمور الاجتهادية – الذي لا جدال ولا مراء فيه ،فيؤدي إلى انغلاقٍ في النظر وحسن ظنٍ بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس ، مما يولد منهجاً متشدداً يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء و المذاهب؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة .
يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم))(7).
مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :-
(( وإذا نزلت بالمسلم نازلة يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(8).ولا يختلف الحال والأثر إذا كان التعصب لآراء وأقوال طائفة أو إمام معين لا يُخرَج عن اجتهادهم وافقوا الحق أو خالفوه .
والناظر في أحوال الناس المعاصرة وما أصابها من تغيّر وتطور لم يسبق له مجتمع من قبل مع ما فيه من تشابك وتعقيد ، يتأكد لديه أهمية معاودة النظر في كثير من المسائل الفقهية التي بنيت على التعليل بالمناسبة أو قامت على دليل المصلحة أو العرف السائد ؛ كنوازل المعاملات المعاصرة من أنواع البيوع والسلم والضمانات والحوالات وغيرها ، أو كنوازل الأزمات والحروب كالتي تمر بالأمة هذه الأوقات ،وقد يكون التمسك بنصوص بعض الفقهاء وشروطهم التي ليس فيها نصٌ صريح أو إجماع من التضييق والتشدد الذي ينافي يسر وسماحة الإسلام ، وخصوصاً إن احتاج الناس لمثل هذه القضايا أو المعاملات التي قد تدخل في كثير من الأحيان في باب الضرورة أو الحاجة الملحة .
ومن ذلك ما نراه في مجتمعنا المعاصر من شدة الحاجة لمعرفة بعض أحكام المعاملات المعاصرة التي تنزل بحياة الناس ، ولهم فيها حاجة ماسة ، أو مرتبطة بمعاشهم الخاص من غير انفكاك ، والأصل الشرعي فيها الحل ، وقد يطرأ على تلك المعاملات ما يخلّ بعقودها مما قد يقربها نحو المنع والتحريم ، فيعمد الفقيه لتغليب جهة الحرمة والمنع في أمثال تلك العقود التي تشعبت في حياة الناس ، مع أن الأصل في العقود الجواز والصحة(9)، والأصل في المنافع الإباحة (10).(5/12)
فيصبح حال أولئك الناس إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها ، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في معاملاتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسَّع الفقهاء على الناس في أمثال تلك العقود وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك العقود النازلة .(11)
ومن الأمثلة في هذا المجال أيضاً ما يقع في الآونة الأخيرة أيام الحج من تزايد مطرد لأعداد الحجاج وما ينجم عنه من تزاحم عنيف ومضايقة شديدة أدت إلى تغير اجتهاد كثير من العلماء المفتين في كثير من المسائل ، ومخالفة المشهور من المذاهب تخفيفاً على الناس من الضيق والحرج ، وكم سيحصل للناس من شدة وكرب لو تمسك أولئك العلماء بأقوال أئمتهم أو أفتوا بها دون اعتبار لتغير الأحوال والظروف واختلاف الأزمنة والمجتمعات .
فرمي الجمار في أيام التشريق يبدأ من زوال الشمس حتى الغروب ، وعلى رأي الجمهور لا يجزئ الرمي بعد المغرب .(12)
ومع ذلك اختار كثير من المحققين وجهات الإفتاء جواز الرمي ليلاً مراعاة للسعة والتيسير على الحجاج من الشدَّة والزحام .(13)
ولعل الداعي يتأكد لمعاودة النظر في حكم الرمي قبل الزوال وخصوصاً للمتعجل في اليوم الثاني من أيام التشريق ؛ لما ترتب على الرمي بعد الزوال في السنوات الماضية من ضيق وحرج شديد ، ولا يخفى أن القاعدة في أعمال الحج كما أنها قائمة على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة أيضاً على رفع الحرج والتيسير . وقد أفتى بالجواز بعض الأئمة من التابعين وهو مذهب الأحناف (14).
ب - التمسك بظاهر النصوص فقط .
إن تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها ، ولكن الانحراف يحصل بالتمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها .ومما يدل على وجود هذا الاتجاه ما ذكره د . صالح المزيد بقوله:(( وقد ظهر في عصرنا من يقول : يكفي الشخص لكي يجتهد في أمور الشرع يقتني مصحفاً مع سنن أبي داود، وقاموس لغوي ))(15).
وهذا النوع من المتطفلين لم يشموا رائحة الفقه فضلاً أن يجتهدوا فيه ، وقد سماهم د . القرضاوي ( بالظاهرية الجدد ) ـ مع فارق التشبيه في نظري ـ حيث قال عنهم : ((المدرسة النصية الحرفية ، وهم الذين أسميهم (الظاهرية الجدد) وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث ، ولم يتمرسوا الفقه وأصوله ، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال))(16).
وهؤلاء أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة التحريم دون مراعاة لخطورة هذه الكلمة ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سنداً للتحريم وحملاً للناس على أشد مجاري التكليف ، والله عز وجل قد حذر من ذلك حيث قال سبحانه : [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ](17).
فكم من المعاملات المباحة حرمت وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأُخرج أقوام من الملَّة زاعمين في ذلك كله مخالفة القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة ؛ وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين .
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته ..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه ))(18).
وهذا التحذير من إصدار أحكام الله تعالى قاطعة في النوازل والواقعات من دون علم راسخ لا شك أنه يفضي إلى إعنات الناس والتشديد عليهم بما ينافي سماحة الشريعة ورحمتها بالخلق .
وقد وقع في العصور الأخيرة من كفّر المجتمعات والحكومات حتى جعلوا فعل المعاصي سبباً للخروج عن الإسلام ، ومن أولئك القوم ؛ ما قاله ماهر بكري أحد أعضاء التكفير والهجرة : (( إن كلمة عاصي هي اسم من أسماء الكافر وتساوي كلمة كافر تماماً ، ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء ، إنه ليس في دين الله أن يسمى المرء في آنٍ واحد مسلماً وكافراً (19)!!؟
وكما حدث من بعض طلبة العلم في الأزمة الأخيرة في العراق من التكفير والإخراج من الملة لكل من ظاهر الكفار فقط ؛دون التفريق بين التولي و الموالاة أو دون النظر في حال المعين وما قد يشوبه من إكراه أو تأويل أو غير ذلك
إن هذا المنهج القائم على النظر الظاهر للنصوص دون معرفة دلالاتها أعنت الأمة وأوقع المسلمين في الشدة والحرج ولعله امتداد للخوارج في تشديدهم وتضييقهم على أنفسهم والناس ، أو الظاهرية في شذوذهم نحو بعض الأفهام الغريبة والآراء العجيبة .
ج ـ الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف .
دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :-
(( فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه ، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به ))(20).
ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه ؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً،والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا ، فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده،لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة.(21)وقد يحصل لبعض متفقهة العصر الحاضر المبالغة في رفض الاقتباس من الأمم الأخرى فيما توصلت إليه من أنظمة وعلوم ومعارف ومخترعات ؛ معتبرين ذلك من الإحداث في الدين والمخالفة لهدي سيد المرسلين (22).
والناظر في كثير من النوازل المعاصرة في مجال الاقتصاد والطب يرى أنها في غالبها قادمة من الدول الكافرة وأن تعميم الحكم بالرفض بناءً على مصدره ومنشأه تحجر وتضييق . ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلَق المفتي فيه على الناس الحكم وشدّد من غير دليل وحجة ؛ لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال ، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وإن كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح
الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة (23).
ومن ملامح منهج التضييق والتشدد في الفتوى في النوازل:
الأخذ بالاحتياط عند كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سدّاً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمرٍ فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها ، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف .
فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه (24).(5/13)
وكذلك تحريم كافة أنواع التصوير الفوتغرافي والتلفزيوني مع شدة الحاجة إليه في أوقاتنا المعاصرة (25)إلى غيرها من المسائل التي أثبت جمهور العلماء جوازها بالضوابط والشروط الصالحة لذلك .
ويجب التنبيه ـ في هذا المقام ـ على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب ، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى وضع الحرج عليهم(26).
وقاعدة : استحباب الخروج من الخلاف (27)؛ ليست على إطلاقها بل اشترط العلماء في استحباب العمل بها شروطاً هي كالتالي :-
أ ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في محذور شرعي من ترك سنة ثابتة أو اقتحام مكروه أو ترك للعمل بقاعدة مقررة .
ب ـ أن لا يكون دليل المخالف معلوم الضعف فهذا الخلاف لا يلتفت إليه .
ج ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر .
د ـ أن لا يكون العامل بالقاعدة مجتهداً ؛ فإن كان مجتهداً لم يجز له الاحتياط في المسائل التي يستطيع الاجتهاد فيها
بل ينبغي عليه أن يفتي الناس بما ترجح عنده من الأدلة والبراهين (28).
يقول د . الباحسين في بيان بعض آثار العمل بالاحتياط في كل خلاف حصل:
((ووجه الشبه في معارضة هذه القاعدة لرفع الحرج ، هو أنه إذا كان وجوب الاحتياط يعني وجوب الإتيان بجميع محتملات التكليف ، أو اجتنابها عند الشك بها ، فإن في ذلك تكثيراً للأفعال التي سيأتي بها المكلف أو سيجتنبها ، وفي هذه الزيادة في الأفعال ما لا يتلاءم مع إرادة التخفيف والتيسير ورفع الحرج ، بل قال بعض العلماء : إنه لو بنى المكلف يوماً واحداً على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره مما خرج من موارد الأدلة القطعية لوجد من نفسه حرجاً عظيماً ، فكيف لو بنى ذلك جميع أوقاته ، وأمر عامة المكلفين حتى النساء وأهل القرى والبوادي فإن ذلك مما يؤدي إلى حصول الخلل في نظام أحوال العباد ، والإضرار بأمور المعايش))(30) .
ثانياً : منهج المبالغة في التساهل والتيسير
ظهر ضمن مناهج النظر في النوازل المعاصرة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير ، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية ، والأنانية على الغيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه .
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم(31).
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين ؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع .
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات أوالتنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان .
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون ، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية ؛ وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين :
الكيفية الأولى : أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر …
الكيفية الثانية : أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة))(32).
فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصداً مُهِّماً في النظر والاجتهاد .
ولعل من الدوافع لهذا الاتجاه الاجتهادي ؛أن أصحاب هذه المدرسة يريدون إضفاء الشرعية على هذا الواقع ، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية، تعطيه سنداً للبقاء . وقد يكون مهمتهم تبرير، أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة .
ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصاً مقتنعاً لا يبتغي زلفى إلى أحد ، ولا مكافأة من ذي سلطان ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته .
ومنهم من يفعل ذلك ، رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو مَن وراءهم من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار ، أو حباً للظهور والشهرة على طريقة :
خالف تعرف ، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب أو الخوف والطمع التي تحرك كثيراً من البشر ، وإن حملوا ألقاب أهل العلم وألبسوا لبوس أهل الدين .
ولا يخفى على أحد ما لهذا التيار الاجتهادي من آثار سيئة على الدين وحتى على تلك المجتمعات التي هم فيها،فهم قد أزالوا من خلال بعض الفتاوى الفوارق بين المجتمعات المسلمة والكافرة بحجة مراعاة التغير في الأحوال والظروف عما كانت عليه في القرون الأولى(33).
ويمكن أن نبرز أهم ملامح هذا الاتجاه فيما يلي :-
ا - الإفراط بالعمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص :
إن المصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل (34).
فالمصلحة عند العلماء ما كانت ملائمة لمقاصد الشريعة لا تعارض نصاً أو إجماعاً مع تحققها يقينياً أو غالباً وعموم نفعها في الواقع ، أما لو خالفت ذلك فلا اعتبار بها عند عامة الفقهاء والأصوليين إلا ما حُكِي
عن الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ أنه نادى بضرورة تقديم دليل المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتهما له.(35)
وواقع الإفتاء المعاصر جنح فيه بعض الفقهاء والمفتين إلى المبالغة في العمل بالمصلحة ولو خالفت الدليل المعتبر ومن ذلك ما قاله بعض المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز تولي المرأة للمناصب العالية : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس في مكة سورة النمل وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الفلاح والأمان بحكمتها وذكائها ، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي …ـ إلى أن قال ـ هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس ))(36) .
ولا شك في معارضة هذا الكلام لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ))(37).
ومن ذلك أيضاً ما أفتى به فضيلة المفتي السابق بجمهورية مصر العربية على جواز الفوائد المصرفية مع معلومية الربا فيها ، ومخالفته للنصوص والإجماع المحرم للربا قليله وكثيره (38).(5/14)
وظهر في الآونة الأخيرة بعض الفتاوى التي أباحت بيع الخمر من أجل مصلحة
البلاد في استقطاب السياحة ، وإباحة الإفطار في رمضان من أجل ألا تتعطل مصلحة الأعمال في البلاد ، وإباحة التعامل بالربا من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها ، والجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع لما في ذلك من تهذيبٍ للأخلاق وتخفيفٍ للميل الجنسي بينهما !! ؟(39) .
وبعضها جوزت التسوية بين الأبناء والبنات في الميراث(40) ، بل وبعضها جوزت أن تمثل المرأة وتظهر في الإعلام بحجة التكييف مع تطورات العصر بفقه جديد وفهم جديد(41).
وكل هذه وغيرها خرجت بدعوى العمل بالمصلحة ومواكب الشريعة لمستجدات الحياة .
ب – تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب :
الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس في العمل بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ))(42).
أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي ، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص ، فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه ، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : (( إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تفتح عليكم ))(43) .
فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله .
وقد حكى بعض المعاصرين خلافاً بين العلماء في تجويز الأخذ برخص العلماء لمن كان مفتياً أو ناظراً في النوازل (44).
ولعل حكاية الخلاف ليست صحيحة على إطلاقها وذلك للأسباب التالية :-
1- أن الخلاف الذي ذكروه في جواز تتبع الرخص أخذوه بناءً على الخلاف في مسألة الجواز للعامي أن يتخير في تقليده من شاء ممن بلغ درجة الاجتهاد ، وأنه لا فرق بين مفضول وأفضل ، ومع ذلك فإنهم وإن اختلفوا في هذه المسألة إلا أنهم اتفقوا على أنه إن بان لهم الأرجح من المجتهدين فيلزمهم تقليده ولا يجوز لهم أن يتتبعوا في ذلك رخص العلماء وزللهم والعمل بها دون حاجه أو ضابط (45).
فلا يصح أن يُحكى خلافٌ للعلماء في مسألة تخريجاً على مسألة أخرى تخالفها في المعنى والمضمون ، ولا تلازم بينها وذلك أن الخلاف في حق العامي ، أما المجتهد المفتي فلا يجوز له أن يفتي إلا بما توصل إليه اجتهاده ونظره (46).
2- أن بعض العلماء جوّز الترخص في الأخذ بأقوال أي العلماء شاء وهذا إنما هو في حق العوام ـ كما ذكرنا ـ كذلك أن يكون في حالات الاضطرار وأن لا يكون غرضه الهوى والشهوة ، يقول الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص ، وقال في فتاوٍله أخرى ؛ وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ ، أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقّط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك ))(47).
فالعلماء لا يجوزون تتبع الرخص إلا في حالات خاصة يبرّرها حاجة وحال السائل لذلك لا أن يكون منهجاً للإفتاء يتبعه المفتي مع كل سائل أوفي كل نازلة بالهوى والتشهي (48).
3 –أن هناك من العلماء من حكى الإجماع على حرمة تتبع الرخص حتى لو كان عامياً ومن أولئك الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ(49)وابن الصلاح ـ رحمه الله ـ(50)وكذلك ابن عبد البر حيث قال رحمه الله:((لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً))(51).
وقد أفاض الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في الآثار السيئة التي تنجم عن العمل بتلقّط الرخص وتتبعها من المذاهب وخطر هذا المنهج في الفتيا(52).
والتساهل المفرط ليس من سيما العلماء الأخيار وقد جعل ابن السمعاني ـ رحمه الله ـ من شروط العلماء أهل الاجتهاد : الكف عن الترخيص والتساهل ، ثم صنف ـ رحمه الله ـ المتساهلين نوعين :
1- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز .
2 - أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول(53).
والملاحظ أن منهج التساهل القائم على تتبع الرخص يفضي إلى اتباع الهوى وانخرام نظام الشريعة (( فإذا عرض العامي نازلته على المفتي ، فهو قائل له : أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت )(54) أو سأبحث لك عن قولٍ لأهل العلم يصلح لك ، وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( لو أن رجلاً عمل بكل رخصه ؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً ))(55).
ويروى عن إسماعيل القاضي ـ رحمه الله ـ أنه قال : (( دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت : مصنف هذا زنديق ،فقال: لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ))(56).
ولعل واقعنا المعاصر يشهد جوانب من تساهل بعض الفقهاء في التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص كما هو حاصل عند من يضع القوانين والأنظمة أو يحتج بأسلمة القانون بناءً على هذا النوع من التلفيق ، أما حالات الضرورة في الأخذ بهذا المنهج فإنها تقدر بقدرها .
ج – التحايل الفقهي على أوامر الشرع .
وهو من ملامح مدرسة التساهل والغلو في التيسير ؛ وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ))(57). وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويزه (58) وفي ذلك يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ : (( لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين ))(59).
وقد حكى أبو الوليد الباجي ـ رحمه الله ـ عن أحد أهل زمانه أخبره أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وكان غائباً ، فلما حضروا قالوا : لم نعلم أنها لك ، وأفتوه بالرواية الأخرى ، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز (60).
وقد فصَّل الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ القول في الحيل الممنوعة على المفتي وما هو مشروع له حيث قال :
(( لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه ، فإن تتبع ذلك فسق وحُرِمَ استفتاؤه ، فإن حَسُن قصده في حيلةٍ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة ، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك ، بل استحب ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربةً واحدة . وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ، ثم يشتري بالدراهم تمراً آخر ، فيخلص من الربا .(5/15)
فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم والله الموفق للصواب ))(61).
وقد وقع كثير من الفقهاء المعاصرين في الإفتاء بجواز كثير من المعاملات المحرمة تحايلاً على أوامر الشرع ؛ كصور بيع العينة المعاصرة ومعاملات الربا المصرفية ، أو التحايل على إسقاط الزكاة أو الإبراء من الديون الواجبة ، أو ما يحصل في بعض البلدان من تجويز الأنكحة العرفية تحايلاً على الزنا ، أو تحليل المرأة لزوجها بعد مباينته لها بالطلاق ،وكل ذلك وغيره من التحايل المذموم في الشرع (62).
ثالثاً : المنهج الوسطي المعتدل في النظر والإفتاء
الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ : (( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .
والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ؛فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين ؛ خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين …فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً ؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة ))(63).
ولعل ما ذكرناه من ملامح للمناهج الأخرى المتشددة والمتساهلة كان من أجل أن يتبين لنا من خلالها المنهج المعتدل ؛ وذلك أن الأشياء قد تعرف بضدها وتتمايز بنقائضها.
وقد أجاز بعض العلماء للمفتي أن يتشدد في الفتوى على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها ، وأن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو غيره ، ليكون مآل الفتوى : أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط (64).
ولذلك ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي أو واقع النازلة فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا ، وما أحسن ما قاله الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ:((إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشدد فيحسنه كل أحد))(65). والظاهر أنه يعني تتبع مقصد الشارع بالأصل
الميسور المستند إلى الدليل الشرعي.
ولاشك أن هذا الاتجاه هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال ، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع ، وخصوصاً في هذا العصر .
فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل ، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى ، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط ، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود ، وهو الاجتهاد الشرعي الصحيح وهو الذي يدعو إليه أئمة العلم المصلحون(66).
وسيأتي مزيد بيان لبعض الآداب والضوابط المكملة لأصحاب هذا الاتجاه المعتدل من أجل الوصول إلى أدق النتائج وتحقيق الصواب والتوفيق من الله عز وجل ؛ وهو موضوع المطلبين القادمين – بإذن الله ـ .
المطلب الثاني : الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة. (1) سورة التوبة ، آية : 128 . (2) سورة الأنبياء ، آية : 107 .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق،باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بنية ، رقمه ( 1478 )2/ 1104. (4) سورة الأعراف ، آية : 157 . (5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة ، باب السواك يوم الجمعة 2 / 5 . وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة ، باب السواك ، 1 / 220 ، رقمه ( 1732 ) .(6) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باب وما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه 4 / 79 . وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد ، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3 / 1358 رقمه (1732 ) .(7) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 45 . (8) انظر : تحرير النزاع في المسألة : المجموع 1 / 90 , 91 ؛ شرح المحلى على جمع الجوامع 2 / 393 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 432 ؛ المسودة ص 465 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 574 ؛ الوصول إلى علم ألأصول لابن برهان 2 / 369 .
(9) مجموع الفتاوى 20 / 208 , 209 ، (10) انظر : تهذيب الفروق 4 / 120 ؛ الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4 / 581 .
(11) انظر : البحر المحيط 1 / 215 ؛ القواعد للحصني 1 / 478 ؛ الإبهاج 3 / 177 ؛ نهاية السول 4 / 352 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 133 ، ويدل على هذه القاعدة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الحلال ما أحا الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )) رواه الترمذي في كتاب اللباس ، باب ما جاء في لبس الفراء 4 / 220 . ورواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة ، باب أكل الجبن والسمن ، 2 / 1117 .(12) انظر : الفكر السامي 1 / 215 .
(13) انظر : الكافي لابن عبد البر 1 / 355 تحقيق د . محمد بن محمد ولد مايك ، الناشر المحقق 1399 هـ ؛ مغني المحتاج للشربيني 2 / 377 ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1415 هـ ؛ المبدع لابن مفلح 3 / 250 طبعة المكتب الإسلامي 1400هـ ؛ الإقناع للحجاوي 1 / 390 طبعة دار المعرفة
(14) انظر : بدائع الصنائع 2 / 137 ، المكتبة العالمية ببيروت ؛ الشرح الممتع على زاد المستنقع لابن عثيمين 7 / 385 مؤسسة إمام للنشر الطبعة الأولى 1416هـ ؛ فتاوى الحج والعمرة والزيارة ؛ جمع محمد المسند ص 110 ، دار الوطن الطبعة الأولى .(15) انظر : بدائع الصنائع 2 / 138 ؛ المبسوط للسرخسي 4 / 68 دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1414هـ ؛ المغني 3 / 328؛ رسالة في فقه الحج والعمرة د . عبد الرحمن النفيسة ص 22-25 ضمن العدد (33) من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة . (16) فقه الأئمة الأربعة بين الزاهدين فيه والمتعصبين له ص 66 . (17) الاجتهاد المعاصر ص 88 .(18) سورة النحل ، آية : 116 .(19) إعلام الموقعين 4 / 134 . (20) نقلاً من كتاب الغلو في الدين د . عبد الرحمن اللويحق ص 273 ، مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1413هـ .
(21) إعلام الموقعين 3 / 109 . (22)انظر : شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 448-449 ؛ الفروق للقرافي 2 / 33 ؛ مقاصد الشريعة الإسلامية د . اليوبي ص574-584
(23)انظر : السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها د . القرضاوي ص 231 ، مكتبة وهبة بمصر ، الطبعة الأولى 1419هـ . (24)انظر : شرح تنقيح الفصول ص 449 ، إعلام الموقعين 3 / 109 .
(25)انظر : مركز المرأة في الحياة الإسلامية د .القرضاوي ص 130 – 150 ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة 1418هـ ؛ المرأة ماذا بعد السقوط ، تأليف : بدرية العزاز ص 199- 216 ، مكتبة المنار الإسلامية بالكويت .(26) انظر : الاجتهاد المعاصر للقرضاوي ص 88 .
(27)انظر : الموافقات 1 / 184- 194 ؛ العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي تأليف : منيب محمود شاكر ص 118 ، دار النفائس بالرياض ، الطبعة الأولى 1418هـ .(5/16)
(28)انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 257 ؛ الفروق للقرافي 4 / 210 .
(29) انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 258 ؛ العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي ص 254-257 ؛ رفع الحرج د . صالح بن حميد ص 337-348 ، دار الاستقامة الطبعة الثانية 1412هـ ؛ رفع الحرج د . يعقوب الباحسين ص 115-130 ، دار النشر الدولي بالرياض ، الطبعة الثانية 1416هـ .
(30) رفع الحرج ص 115 , 116 >(31) انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب د . القرضاوي ص 111 . (32) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 92 , 93 .
(33) انظر : بعضاً من هذه الفتاوى من كتاب تغليظ الملام على المتسرعين في الفتيا وتغيير الأحكام للشيخ حمود التويجري ص 58 - 88 ، دار الاعتصام بالرياض ، الطبعة الأولى 1413هـ ؛ الاجتهاد المعاصر للقرضاوي ص 62-88 ؛ الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 125 . (34) انظر : ضوابط المصلحة د . البوطي ص 110 . (35) انظر : المستصفى 2 / 293 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 432 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 446 ؛ البحر المحيط 6 / 78 , 79 ؛ تقريب الوصول ص 412 ؛ إرشاد الفحول ص 242 ؛ ضوابط المصلحة ص 187 ؛ الاستصلاح والمصلحة للزرقا ص 75 ؛ السياسة الشرعية للقرضاوي ص 245-261 ؛ نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص 525-552 .(36) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 47 , 50 .
(37)أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب المغازي ، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر ، رقمه( 4073 ). (38) انظر : ردّ د . السالوس في كتابه : الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة 1 / 330 -356 دار الثقافة بقطر الطبعة الأولى 1416هـ ويتضمن الكتاب الرد على من أجاز الفوائد الربوية مثل د . عبد المنعم نمر و د. . الفنجري وغيرهم .
(39) انظر : رفع الحرج لابن حميد ص 312 و 313 ؛ تزييف الوعي لفهمي هويدي ص 79 ، دار الشروق ، الطبعة الثالثة 1420 هـ فقد نقل عن د . محمد فرحات عدم ملائمة حد السرقة وتحريم الربا للواقع والمصلحة . من خلال كتابه ( المجتمع والشريعة والقانون ) ص 78 و88 .
(40) انظر . السياسة الشرعية د . القرضاوي ص 253 ؛ الاجتهاد المعاصر ص 70 82 .
(41) انظر : مقال د . سعيد الغامدي في مجلة المجتمع العدد (1321 ) في مناقشة د . القرضاوي حول تمثيل المرأة . (42) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 / 162 وقال :" رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني" وانظر صحيح الجامع للألباني 1 / 383 رقم ( 1885 ) .
(43) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 186 من حديث معاذ وقال : " رواه الطبراني في الثلاثة وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو متروك الحديث " وذكر له شواهد لا تخلو من ضعف ، ورواه البيهقي في الشعب 2 /3 / 347 ، وهذا الحديث له شواهد مرفوعة وموقوفة يقوى بها إلى الحسن لغيره . انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 980 ، الفقيه والمتفقه 2 / 26 ، حلية الأولياء 4 / 196 .
(44). انظر : المستدرك من الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبه الزحيلي 9 / 41 طبعة دار الفكر الطبعة الأولى 1417هـ ؛ بحث د . سعد العنزي بعنوان ( التلفيق في الفتوى ) ص 274- 305 ، مجلة الشريعة والدراسات الإسلاميةالعدد ( 38 ) 1420هـ ؛ بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، العدد الثامن 1 / 41 - 565 ، ومن هذه البحوث التي تناولت مسألتنا : بحث د . وهبه الزحيلي و د . عبد الله محمد عبد الله والشيخ خليل الميس ، والشيخ محمد رفيع العثماني ، ود . حمد الكبيسي والشيخ مجاهد القاسمي ، ود . حمداتي شبيهنا ماء العينين وغيرهم . وقد ذهب بعضهم إلى جواز التلفيق وتتبع الرخص ونسبوا القول بالجواز للإمام القرافي وأكثر أصحاب الشافعي والراجح عند الحنفية وأنه اختيار ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت .
(45) انظر : المستصفى 2 / 390 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 432 ؛ فواتح الرحموت 2 / 404 ؛ البحر المحيط 6 / 325 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 571,577 ؛ روضة الناظر 3 / 1024 ؛ الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 230 ؛ إرشاد الفحول ص 271 , 272 .(46) انظر : الموافقات ( الحاشية ) 5 / 98 ، الاجتهاد والتقليد د . الدسوقي ص 233 . (47) البحر المحيط 6 / 326 .(48) انظر : الموافقات 5 / 99 ، أدب المفتي والمستفتي ص 125 , 126 .(49) مراتب الإجماع ص 58 .(50) أدب المفتي والمستفتي ص 125(51) جامع بيان العلم وفضله ؛ انظر : شرح الكوكب المنير 4 / 578 ؛ فواتح الرحموت 2/ 406 ؛حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 442 .(52) انظر : الموافقات 5 / 79 - 105 .
(53) تهذيب الفروق 2 / 117 .(54) الموافقات 5 / 97 .
(55) البحر المحيط 6 / 325 ؛ إرشاد الفحول ص 272 .(56) إرشاد الفحول ص 272 .(57) أورده الحافظ ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود وقال فيه : رواه ابن بطة وغيره بإسناد حسن ، وقال أيضاً : وإسناده مما يصححه الترمذي . انظر : عون المعبود 9 / 244 .
(58) انظر : أدب المفتى والمستفتي ص 111 ؛ المجموع 1 / 81 ؛ تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 51 ؛ الموافقات 5 / 91 ؛ إعلام الموقعين 4 / 175 ؛ حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 442 .
(59) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 250 .(60) انظر : تبصرة الحكام 1 / 64 .
(61) إعلام الموقعين 4 / 170 , 171 .
(62) انظر : الفتاوى الكبرى 3 / 430 وما بعدها ؛ الموافقات 3 / 108 - 116 ، 5 / 187 .
(63) الموافقات 5/276-278 .(64) انظر : الموافقات 2 / 286 ؛ أدب المفتي والمستفتي ص 111,112 ؛ المجموع 1 / 51 .(65) جامع بيان العلم وفضله 1 / 784 .
(66) انظر : الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 59 ؛ الاجتهاد المعاصر ص 91 ؛ الاجتهاد في الإسلام د . القرضاوي ص 178 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب د . القرضاوي ص 111 ؛ أحكام الفتوى والاستفتاء د . عبد الحميد مهيوب ص 112 - 115؛ دار الكتاب الجامعي بمصر 1404هـ ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 232 .
==============
ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة(1/2)
د.مسفر بن علي القحطاني 19/2/1424
21/04/2003
المطلب الثاني : الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة
يتعلق بالنظر في النوازل شروط جمة منها العلم والعدالة ؛ فشرط العلم يدخل فيه الإخبار بالحكم الشرعي على الوجه الأكمل بعد معرفة الواقعة من جميع جوانبها .
وشرط العدالة يدخل فيه عدم التساهل في الفتوى بالشرع والمحاباة فيها ، مع مراعاة وجه الحق في كل ذلك والنظر إلى مشكلات الناس برحمة ويسر الشرع ، وحمل أفعالهم على الوسط في أحكامه .
إلى غيرها من الشروط التي ذكرها أهل العلم فيمن يتصدى للنظر والإفتاء ، وهي كالتكملة والتتمة لما ينبغي أن يكون عليه الناظر من العدالة والعلم (1).
إلا أن خطة النظر والاجتهاد والإفتاء في النوازل والواقعات قد أصابتها عوارض أخرجتها عن النهج الذي قرره أهل العلم من مبادئ وأسس للنظر ، وهذا النوع من الخلل إما أن يكون من جهة الزيغ في إصدار الأحكام ، أو في كيفية النظر في تناول هذه المستجدات ، وإما من جهة انحراف الناظر وعدم إخلاصه وتقواه في فتواه واجتهاده ؛ مما جعل بعض الأئمة والعلماء يتذمرون ويشتكون من ذلك في كل عصر يخرج فيه أهل النظر والاجتهاد عن الطريق السوي .(5/17)
وقد حصل ما يدل على ذلك في عهد مبكر يشهد عليه الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حيث قال : (( ما شيء أشد عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة:(2) خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون ،ثم حينئذٍ يفتون فيها وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يُفتح لهم من العلم ))(3).
ويتضح لنا من كلام الإمام مالك ـ رحمه الله ـ المنهجية المثلى التي كان السلف رحمهم الله يتبعونها عند نظرهم واجتهادهم في الأحكام والواقعات من عدم التسرع في الفتوى أو التقصير في بحثها ، والنظر فيها ، أو قلة التحري والتشاور في أمرها ، مما يؤدي إلى انخرامٍ ظاهرٍ في نظام النظر والاجتهاد و الفتيا أو تسيبٍ واعتسافٍ في احترام هذا المقام العالي من الشريعة (4). ومن أجل هذه الأهمية في المحافظة على هذا المقام والتأكيد على ما يحتاجه الفقيه من ضوابط وشروط للنظر لا سيما في النوازل المعاصرة التي يكثر فيها زلل الأقدام وانحراف الأفهام وذلك بما تميز به عصرنا من صراعات ثقافية وتيارات فكرية بالإضافة إلى كثرة المؤثرات النفسية والاجتماعية والسياسية مما يجعلها في عصرنا أشد من أي عصر مضى ، ويزداد أمر الانحراف في الاجتهاد والنظر خطراً تبعاً لاتساع دائرة انتشار هذه الاجتهادات والفتاوى بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من طبع ونشر وإذاعة وتلفزة .
إن الضوابط والآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل وخصوصاً ما كان منها معاصراً ، منها ما يحتاجه قبل الحكم في النازلة وهذا النوع من الضوابط يكون ضرورياً لإعطاء المجتهد أهلية كاملة وعدة كافية يتسنى بها الخوض للنظر والاجتهاد في حكمها ، وهناك ضوابط أخرى يحتاجها الناظر أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة ، ينتج من خلال هذه الضوابط أقرب الأحكام للصواب وأوفقها للحق ؛ بإذن الله :
وسيكون البحث في هذا المطلب حول أهم الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم في النازلة ؛ على النحو التالي :
أولاً : التأكد من وقوعها
الأصل في المسائل النازلة وقوعها وحدوثها في واقع الأمر ، وعندها ينبغي أن ينظر المجتهد في التحقق من وقوعها والتأكد من حدوثها ، ومن ثمَّ استنباط حكمها الشرعي ، وقد يحصل أن يُسأل الفقيه المجتهد عن مسألة لم تقع تكلفاً من السائل وتعمقاً منه في تخيلات وتوقعات لا تفيد صاحبها ولا تنفع عالماً أو متعلماً ، وذلك لبعد وقوعها واستحالة حدوثها .
ولا يخفى أن التوغل في باب الاجتهاد إنما هو للحاجة التي تنزل بالمكلف يحتاج فيها إلى معرفة حكم الشرع وإلا وقع في الحرج والعنت أو الخوض في مسائل الشريعة بغير علم أو هدى ، أما إذا كان باب الاجتهاد مفتوحاً من غير حاجة وقعت ودون حادثة نزلت،فلا شك في كراهية النظر في مسائل لم تنزل أو يستبعد وقوعها(5).ويؤيد ذلك ما جاء عن سلفنا الصالح من كراهية السؤال عمَّا لم يقع وامتناعهم عن الإفتاء ، فيها وبعضهم ذهب إلى التشديد في ذلك والنهي عنه (6).
ويروى عن الصحابة في ذلك آثار كثيرة منها :-
- أن رجلاً جاء إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن شيء ؛ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما : (( لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يلعن من سأل عما لم يكن ))(7).
- وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه إذا سأله إنسان عن شيء قال : (( آلله ! أكان هذا ؟ فإن قال : نعم ، نظر وإلا لم يتكلم ))(8).
- وعن مسروق قال : كنت أمشي مع أبي بن كعب رضي الله عنه فقال : فتىً : ما تقول يا عماه في كذا وكذا ؛ قال : يا بن أخي ! أكان هذا ؟ قال : لا ، قال : فاعفنا حتى يكون ))(9).
- ويروى عن عبد الملك بن مروان ـ رحمه الله ـ أنه سأل ابن شهاب ـ رحمه الله ـ، فقال له ابن شهاب : أكان هذا بأمير المؤمنين ؟ قال : لا ، قال : فدعه ، فإنه إذا كان ، أتى الله عز وجل له بفرج ))(10).
فهذه الآثار وغيرها كثير ؛ تبين حرص الصحابة والتابعين على عدم الخوض في مسائل لم تقع سواءً بالسؤال عنها أو بالجواب فيها ؛ لأن النظر فيها لا ينفع كما
هو معلوم عن الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيهم ابن عباس رضي الله عنهما : (( ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن ، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ))(11).
ويوضح ابن القيم ـ رحمه الله ـ مقصد ابن عباس بقوله : ( ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة ) (( المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها في السنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها ، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به ، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه ، فأجابهم ، وقد قال الله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ](12) ))(13).
فعلى المجتهد أو المفتي في النوازل أن يتأكد من وقوع النازلة ولا ينظر في المسائل الغريبة والنادرة أو المستبعدة الحصول ، ولكن إذا كانت المسألة ولو لم تقع منصوصاً عليها ، أو كان حصولها متوقعاً عقلاً فتستحب الإجابة عنها ، والبحث فيها ؛ من أجل البيان والتوضيح ومعرفة حكمها إذا نزلت .
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعد أن حكى امتناع السلف عن الإجابة في ما لم يقع : (( والحق التفصيل ، فإذا كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها وإن لم يكن فيها نص ولا أثر ؛ فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها .
وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد ، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم ولا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ، ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى والله أعلم ))(14).
ثانياً : أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها
بينا فيما سبق أهمية مراعاة المجتهد وتأكده من وقوع النازلة وترك النظر عما لم يقع أو يستبعد وقوعه عقلاً وذلك حتى لا ينشغل أهل الاجتهاد عما هو واقع فعلاً أو ما لا نفع فيه ولا فائدة .(5/18)
وإذا قررنا مبدأ النظر في الوقائع الحادثة للناس والمجتمعات ؛ فللمجتهد بعد ذلك أن يعرف ما يسوغ النظر فيه من المسائل وما لا يسوغ ؛ وهذا الضابط لا ينفك عن الذي قبله ، وذلك لان المجتهد قد يترك الاجتهاد في بعض المسائل التي لا يسوغ فيها النظر لأن حكمها كحكم ما لم يقع من المسائل لعدم الفائدة والنفع من ورائها فالضابط الذي ينبغي أن يراعيه المجتهد الناظر ألا يشغل نفسه وغيره من أهل العلم إلا بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم .
أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدال أو التعالم والتفاصح أو امتحان المفتي وتعجيزه أو الخوض فيما لا يحسنه أهل العلم والنظر ، أو نحو ذلك فهذه مما ينبغي للناظر أن لا يلقي لها بالاً ؛ لأنها تضر ولا تنفع وتهدم ولا تبني وقد تفرق ولا تجمع .
وقد ورد النهي عن ذلك كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : (( نهى عن الغلوطات ))(15).
وجاء عن معاوية رضي الله عنه : أنهم ذكروا المسائل عنده ، فقال : (( أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل ))(16).
قال الخطابي ـ رحمه الله ـ في هذا المعني : (( أنه نهي أن يُعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا و يسقط رأيهم فيها ، وفيه كراهية التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به ))(17).
فشداد المسائل وصعابها مما لا نفع فيه ولا فائدة إلا إعنات المسئول لاشك أنه مذموم شرعاً ينبغي أن يحذر الفقيه أو الناظر من الانسياق الملهي خلف هذه المسائل والانشغال بها عما هو أهم وأعظم ، كذلك ينبغي للناظر أن لا يقحم نفسه ويجتهد في المسائل التي ورد بها النص إذ القاعدة فيها : (( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ))(18).
والمقصود بهذه القاعدة – على وجه الإجمال – ما قاله الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ أن (( المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي(19) يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي ))(20).
ويمكن من خلال النقاط التالية إبراز ما يسوغ للمجتهد أن ينظر فيه من النوازل بإجمالٍ :-
1-أن تكون هذه المسألة المجتهد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍ قاطعٍ أو مجمع عليها .
2- أن يكون النص الوارد في هذه المسألة – إن ورد فيها نصٌ – محتملاً قابلاً للتأويل .
3- أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحدٍ منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر(21).
4- أن لا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل أصول العقيدة والتوحيد أو في المتشابه من القرآن والسنة .
5- أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع أو مما يمكن وقوعها في الغالب والحاجة إليها ماسة(22).
ثالثاً : فهم النازلة فهماً دقيقاً :
إن فقه النوازل المعاصرة من أدق مسالك الفقه وأعوصها حيث إن الناظر فيها يطرق موضوعات لم تطرق من قبل ولم يرد فيها عن السلف قول ، بل هي قضايا مستجدة، يغلب على معظمها طابع العصر الحديث المتميز بابتكار حلولٍ علمية لمشكلات متنوعة قديمة وحديثة واستحداث وسائل جديدة لم تكن تخطر ببال البشر يوماً من الدهر والله أعلم .
من هذا المنطلق كان لا بد للفقيه المجتهد من فهم النازلة فهماً دقيقاً وتصورها تصوراً صحيحاً قبل البدء في بحث حكمها ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكم أُتِي الباحث أو العالم من جهة جهله بحقيقة الأمر الذي يتحدث فيه ؟ فالناس في واقعهم يعيشون أمراً ، والباحث يتصور أمراً آخر ويحكم عليه .
فلابد حينئذ من تفهم المسألة من جميع جوانبها والتعرف على جميع أبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك مما له تأثير في الحكم فيها(23).
ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ما يؤكد ضرورة الفهم الدقيق للواقعة حيث جاء فيه : (( أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، فافهم إذا أُدليَ إليك ؛ فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له…ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ))(24).
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ معلقاً وشارحاً هذا الكتاب بقوله : (( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر ؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً … ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا ، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله ))(25).
ومما ينبغي أن يتفطن له المفتي أو الناظر التبيّن من مقصود السائل أو المستفتي وطلب المزيد من الإيضاح والاستفصال منه ؛ وذلك حين لا يفهم المفتي صورة النازلة كما يجب ، من أجل التعرف السليم على الحكم الشرعي الذي تندرج تحته تلك النازلة أو حين يكون الأمر يدعو إلى التفصيل والإيضاح .
وقد ضرب ابن القيم ـ رحمه الله ـ عدَّة أمثلةٍ في هذا المجال فمن ذلك :
(( - إذا سُئِلَ عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا ، ففعله ؛ لم يجز له أن يفتي بحنثه حتى يستفصله ؛ هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا ؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختاراً في يمينه أم لا ؟ وإذا كان مختاراً فهل استثنى عقيب يمينه أم لا ؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالماً ذاكراً مختاراً أم كان ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً؟ وإذا كان عالماً مختاراً فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله مخصصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه ؟ فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله ))(26).
فالمقصود أن يتنبه المفتي والناظر على وجوب الفهم الكامل للنازلة والاستفصال عند وجود الاحتمال لأن المسائل النازلة ترد في قوالب متنوعة وكثيرة فإن لم يتفطن لذلك المجتهد أو المفتي هلك وأهلك(27).
والمتأمل في بعض فقهاء العصر يجد بعضهم يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة مثل التأمين بأنواعه وأعمال البنوك والأسهم والسندات وأصناف الشركات ، فيحرم ويحلل ، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبراً ويدرسها جيداً ومهما يكن علمه بالنصوص عظيماً ومعرفته بالأدلة واسعة ، فإن هذا لا يغني ما لم يؤيد ذلك معرفة تامة بالواقعة المسئول عنها وفهمه لحقيقتها الراهنة (28).
رابعاً : التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص :
بيّنا في الضابط السابق أهمية فهم النازلة فهماً دقيقاً واضحاً كافياً يجعل الناظر متصوراً حقيقة المسألة تصوراً صحيحاً يحسن بعدها أن يحكم بما يراه الحق فيها وقد يحتاج الفقيه أن يستفصل من السائل عند ورود الاحتمال إذا دعى إلى ذلك المقام .
ومما ينبغي أيضاً للناظر أن يراعيه هنا زيادة التثبت والتحري للمسألة وعدم الاستعجال في الحكم عليها والتأني في نظره لها فقد يطرأ ما يغير واقع المسألة أو يصل إليه علم ينافي حقيقتها وما يلزم منها ، فإذا أفتى أو حكم من خلال نظرٍ قاصرٍ أو قلة بحثٍ وتثبتٍ وتروٍ فقد يخطئ الصواب ويقع في محذور يزل فيه خلق
كثير((29).(5/19)
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد التثبت والتحري في الفتيا والاجتهاد ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أفتى بفتيا غير ثبت ، فإنما إثمه على من أفتاه ))(30).وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : (( أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار )) (31)
، و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله : (( من أجاب الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون ))(32).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسأَل عن المسألة فيتفكر فيها شهراً ، ثم يقول: (( اللهم إن كان صواباً فمن عندك ، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود ))(33).
وجاء عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أنه قال : (( إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن ))(34) . وقال أيضاً : (( ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي ))(35).
ولاشك في دلالة هذه الأحاديث والآثار على أهمية التثبت في الفتوى وعدم الاستعجال في إجابة كل أحدٍ دون تروٍ ونظرٍ ، فالمفتي في النوازل إذا وضع نصب عينيه أهمية خطته وشرفها اتخذ الإخلاص والتثبت شعاره ضمن النجاح في القيام بمسئوليته الجسيمة (36).
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( حقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدّته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه , ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب ))(37).
ومما ينبغي أن يراعيه الناظر في النوازل من التثبت والتحري استشارة أهل الاختصاص ، وخصوصاً في النوازل المعاصرة المتعلقة بأبواب الطب والاقتصاد والفلك وغير ذلك ، والرجوع إلى علمهم في مثل تلك التخصصات عملاً بقوله تعالى :[ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ](38).
فإن كانت النازلة متعلقة بالطب مثلاً ، وجب الرجوع إلى أهل الطب وسؤالهم والاستيضاح منهم ، وإن كانت النازلة متعلقة بالاقتصاد والمال فيُرجَعُ حينئذٍ لأصحاب الاختصاص في الاقتصاد أو للمراجع المختصة في ذلك الشأن ، فالذي لا يعرف حقيقة النقود الورقية المعاصرة أفتى بأنها لا زكاة فيها ، أو أن الربا لا يجري فيها اعتماداً على أنها ليست ذهباً أو فضة(39).
كما أن الذي لا يعرف مجريات ما يسمى ( بأطفال الأنابيب ) لا يستطيع أن يعطي فتوى صحيحة فيها بالحِلِّ أو الحرمة إلا إذا وضحت له حالات هذه العملية
وفروضها ، فيستطيع حينئذٍ أن يعطي الحكم المناسب لكل حالة (40).
ولعل في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستشارة ضمانٌ للمفتي من القول بلا علم وخصوصاً فيما ينزل من مسائل معاصرة ، والاجتهاد الجماعي في وقتنا الحاضر المتمثل بالمجامع الفقهية وهيئات الإفتاء ومراكز البحث العلمي تحقق الدور المنشود الذي ينبغي للمفتي أو المجتهد مراعاته والالتزام به لتتسع دائرة العلم وتزداد حلقة المشورة من أجل الحيطة والكفاية في البحث والنظر .
يقول الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ معلقاً على أهمية ذلك : (( ثم يذكر المسألة ـ أي المفتي ـ لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب ، ويسأل كل واحد منهم عما عنده ، فإن في ذلك بركة واقتداء بالسلف الصالح ، وقد قال الله تبارك وتعالى : [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ ](41) ، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأشياء وأمر بالمشاورة ، وكانت الصحابة تشاور في الفتاوى والأحكام ))(42).
خامساً : الالتجاء إلى الله عز وجل وسؤاله الإعانة والتوفيق
وهذا الضابط من أهم الآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل ليوفق للصواب ويفتح عليه بالجواب ، وما ذلك إلا من عند الله العليم الحكيم ، القائل في كتابه الكريم ؛ يحكي عن الملائكة : [ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ](43).
وقد استحب بعض العلماء للمفتي أن يقرأ هذه الآية وكذلك قوله تعالى : [ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي](44)وغيرها من الأدعية والأوراد لأن من ثابر على تحقيق هذه الصلة الملتجئة بالله كان حرياً بالتوفيق في نظره وفتواه (45).
وما أروع ما قاله الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤكداً هذا النوع من الأدب للمفتي : (( ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة ، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق ، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه ، فإذا وجد في قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة ، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها ، فإن ظفر بذلك أخبر به وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله ، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده ، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ لك النور أو تكاد ولا بد أن تضعفه ، وشهدتُ شيخ الإسلام ـ ابن تيمية ـ قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعب عليه ، فرّ منها إلى التوبة والاستغفار و الاستغاثة بالله واللجوء إليه ، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته ، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مداً ، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ .. ))(46)
ولعل من أشد المزالق التي يقع بها بعض المفتين ضعف الصلة بالله عز وجل وقلة الورع ، مما قد يؤدي إلى سلوك هذا الصنف من المفتين إلى إرضاء أهوائهم أو أهواء غيرهم ممن ترجى عطاياه وتخشى رزاياه ، أو قد يكون باتباع أهواء العامة والجري وراء إرضائهم بالتساهل أو بالتشديد ، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق .
والله عز وجل قد حذر من ذلك حيث قال : [ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ](47).
وكذلك قوله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله : [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ](48) ، إلى غيرها من الآيات والأحاديث .
وصدق الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ حيث قال : (( ما من الناس أعز من فقيه ورع)) (49) . ويعلل الإمام الشاطبي عزّة وندرة هذا النوع من الفقهاء ؛ بأن أفعاله قد طابقت أقواله فيقول ـ رحمه الله ـ : (( فوعظه أبلغ وقوله أنفع وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ، لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه واستنارت كليته به، وصار كلامه خارجاً من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ،ومن كان بهذه الصفة فهو من الذين قال الله فيهم : [ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] (50) ، بخلاف من لم يكن كذلك،فإنه وإن كان عدلاً وصادقاً وفاضلاً لا يبلغ كلامه من القلوب هذا المبلغ،حسبما حققته التجربة العادية))(51).(5/20)
فما أحوج الفقيه المفتي في عصرنا الحاضر إلى تقوية الصلة بالله والافتقار إليه حتى يكون في حمى الإيمان بالله مستعلياً وعن الخلق مستغنياً وبالحق والصواب موفقاً ـ بإذن الله ـ (52).
فهذه بعض الضوابط التي ينبغي للناظر والمجتهد في النوازل مراعاتها قبل البحث في حكم النازلة .
والحقيقة أن هناك ضوابط وآداب أخرى كثيرة ذكرها أهل العلم ـ ربما يندرج بعضها فيما ذكرنا ـ لعل من أهمها مناسبة للمقام في هذا المطلب ما قاله الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال
1-أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية ؛ لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور .
2-أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .
3-أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته .
4-الكفاية وإلا مضغه الناس .
5-معرفة الناس )) (53) ، وقد وفّى وكفى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيانها وشرحها بالدليل والبرهان في كتابه القيم إعلام الموقعين (54).(1) انظر : التفصيل في شروط الاجتهاد في النوازل في كتب الأصول .
(2) يحتمل أن يكون علقمة بن وقاص الليثي المدني ، وذكر مسلم وابن عبد البر أنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن منده في عداد الصحابة وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : " ثقة ثبت ، أخطأ من زعم أن له صحبه " التقريب ( 4701 ) ، انظر : تهذيب التهذيب 7 / 240 .
ويحتمل أن يكون علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود رضي الله عنه وكان أشبه الناس به سمتاً وهدياً .وكان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ويستفتونه ، توفي عام 62 هـ . وذكر مالكٍ له في الصحابة تجوّز .
انظر ترجمته : تهذيب التهذيب 7 / 237 ، صفة الصفوة 3 / 27 .
(3) ترتيب المدارك 1 / 179 .
(4) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 386-428 ؛ جامع بيان العلم وفضله 1 / 501- 529،559 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 44-55 ؛ تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا الشيخ حمود التويجري ص 6-47 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 218و219 .
(5) انظر : المحصول للرازي 2 / 493 ؛ نهاية السول ( الحاشية ) 4 / 579 ؛ البحر المحيط 6 / 198 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 430 ؛ تقريب الوصول لابن جزي ص 422 ؛ كشف الأسرار للبخاري 4 / 26 .
(6) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 1065-1069؛ أدب المفتي والمستفتي ص 109؛ إعلام الموقعين 4 / 170 ؛ جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 241 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 52-54 ؛ تغليظ الملام للشيخ حمود التويجري ص 23-25 .
(7) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 50 ؛ الفقيه والمتفقه 2 / 12 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 1067 .
(8) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 50 ؛ الفقيه والمتفقه 2 / 13 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 1068 .
(9) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 56، الفقيه والمتفقه 2 / 14 ، جامع بيان العلم وفضله 2 / 1065
(10) جامع بيان العلم وفضله 2 / 1067 .
(11) أخرجه الدارمي في سننه في المقدمة ، باب كراهية الفتيا رقمه ( 125 ) 1 / 51 .
وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 1062 .
(12) سورة المائدة : الآيتان : 101 , 102 .
(13) إعلام الموقعين 1 / 56 و 57 .
(14) المرجع السابق 4 / 170 .
(15) رواه أبو داود في سننه كتاب العلم ، باب التوقي في الفتيا ، رقمه ( 3656 ) 4 / 243 ؛ والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 20 رقم 635 . والغلوطات أو الأغلوطات هي : شداد المسائل وفيل : دقيقها ، وقيل ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف . انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 20 و 21 .
(16) أخرجه الطبراني في الكبير 19 / 368 رقمه ( 865 ) .
(17) معالم السنن للخطابي .
(18) انظر : شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 147 ، دار القلم ، الطبعة الثانية 1409 هـ ؛ المدخل الفقهي العام مصطفى الزرقا 2 / 1008 ؛ الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية د . البورنو ص 328 .
(19) المقصود بالعلمي : " ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها " البحر المحيط 6 / 227 .
(20) البحر المحيط 6 / 227 .
(21) انظر : الموافقات 5 / 114 – 118 .
(22) انظر : الرسالة ص 560 ، الفصول في الأصول للجصاص 4 / 13 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 844-891 ؛ الفقيه والمتفقه 1 / 504 ؛ الموافقات 5 / 114-118 ؛ إعلام الموقعين 1 / 54-56 ، 2 / 199 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 584-588 ؛ جامع العلوم والحكم 1/ 241 – 252 ؛ البحر المحيط 6/227 ؛ الأحكام في تميز الفتاوى عن الأحكام ص 192 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 55 ؛ إرشاد الفحول ص 253 ؛ الاجتهاد فيما لا نص فيه 1 / 16 , 17 ؛ تغليظ الملام للشيخ التويجري ص 28 , 29 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 120 .
(23) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 848 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 72 ,73 ؛ ضوابط الدراسات الفقهية للعودة 89-92 .
(24) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى رقم ( 20324 ) 10 / 15 طبعة الباز ، وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 1 / 67 وقال : " هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول ".
(25) إعلام الموقعين 1 / 69 .
(26) المرجع السابق 4 / 146 .
(27) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 387 , 388 ؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 236 , 237 ؛ إعلام الموقعين 4 / 143-149 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 223 ؛ مجموع الفوائد واقتناص الأوابد تأليف : الشيخ ابن سعدي ص 128 , 129 ، دار ابن الجوزي ، الطبعة الأولى 1418هـ .
(28) انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 74 .
(29) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 390 ؛ الموافقات 5 / 323 ,324 ؛ الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 236 ,237 ؛ المفتي في الشريعة الإسلامية د . الربيعة ص 31 .
(30) رواه الإمام أحمد في مستده 1 / 321 ، والبيهقي في سننه 10 / 112 – 116 ، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 328 قال محققه وإسناده حسن لغيره ، وصححه الحكام في المستدرك 1 / 183 رقم ( 61 ) ووافقه الذهبي ، وبنحوه أخرجه أبو داود في سننه كتاب العلم ، باب التوقي في الفتيا رقمه ( 3649 ) 4 / 243 .
(31) أخرجه الدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1 / 69 .
(32) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 416 ، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 1124 .
(33) إعلام الموقعين 1 / 64 .
(34) ترتيب المدارك 1 / 178 .
(35) المرجع السابق .
(36) انظر : فتاوى الإمام الشاطبي د . أبو الأجفان ص 83 .
(37) إعلام الموقعين 1 / 9 .
(38) سورة الأنبياء ، آية : 7 .
(39) انظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية د . القرضاوي ص 176 .
(40) انظر : بحث المدخل إلى فقه النوازل د . ابو البصل ص 130 ضمن مجلة أبحاث اليرموك العدد (1) عام 1997م .
(41) سورة آل عمران : آية : 159 .
(42) الفقيه والمتفقه 2 / 390 ، انظر أيضاً : إعلام الموقعين 4 / 197 ؛ أدب المفتي والمستفتي ص 138 .
(43) سورة البقرة ، آية 32 .
(44) سورة طه ، الآيات : 25 – 28 .
(45) انظر : أدب المفتي والمستفتي ص 140 , 141 ؛ المجموع 1 / 86 .
(46) إعلام الموقعين 4 / 131 , 132 .
(47) سورة الجاثية ، الآيات : 18 , 19 .
(48) سورة المائدة ، آية : 49 .
(49) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 340 .
(50) سورة فاطر ، آية 28 .
(51) الموافقات 5 / 299 .(5/21)
(52)انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 75-77 ؛ المفتي في الشريعة الإسلامية د . الربيعة ص 27 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 220 - 222 ؛ أصول الفتوى د . الحكمي ص 48 ' 49 .
(53) إعلام الموقعين 4 / 152 .
(54) المرجع السابق 4 / 152 , 160 .
=============
الحرب الصليبية الثالثة أمريكية
د.عبد العزيز القارئ 27/1/1424
30/03/2003
أمريكا تهاجم الإسلام؛ لقد أعلنتها حرباً صليبية؛ هكذا بكل وضوح ووقاحة، إذن هاهي الحرب الصليبية الثالثة قد بدأت.
كان الهجوم الصليبي الأول على يد الأوربيين، وسقط ( بيت المقدس ) في أيديهم سنة 402هـ، وقسَّموا الشام إلى إمارات صليبية استمرت قرابة مائتي عام وحرر صلاح الدين ( بيت المقدس ) وطرد الصليبيين من معظم الشام عام (583)هـ.
وكان الهجوم الصليبي الثاني على يد الأوروبيين أيضاً، بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت سنة (1337)هـ، تقاسموا العالم الإسلامي في حملة سميت بـ "الاستعمار" وسقطت الشام وشمال أفريقيا بيد " الفرنسيين " وليبيا بيد " البريطانيين " والعراق ومصر وشرق الجزيرة العربية وجنوبها بيد " الإنجليز " وكذلك الهند وإيران، واحتل الهولنديون أندونيسيا، وهكذا تكالبوا على العرب وعلى العالم الإسلامي تَكَالُبَ الأَكَلَةِ على قَصْعَتها.
والآن ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هو الرئيس الأمريكي المتعجرف يعلن الحرب الصليبية الثالثة على الإسلام، وبعد احتلال أفغانستان، يريدون الآن احتلال العراق، وبقية المنطقة، وربما الوصول إلى قلب العالم الإسلامي واحتلاله، وأما التمكين لليهود في فلسطين وفي المنطقة فهو الهدف الأكبر، ولذا فالحرب الصليبية هذه المرة أمريكية يهودية ؛ وفيها أمور هامة نلفت إليها انتباه المسلمين:
( أولاً ):يجب أن نوقن بأن عاقبة هذه الحرب الصليبية اليهودية الجديدة ستكون للإسلام، لقد جرب الأوربيون مرتين وفشلوا في القضاء على الإسلام، ولم يستطيعوا الاستمرار طويلاً في احتلال العالم الإسلامي، كان في كل مرة ينتفض ولو بعد حين ويقذف بهم بعيداً، وأنا موقن أن هجومهم هذه المرة سينتهي بعد سلسلة من الحروب والكوارث بالقضاء على اليهود وسقوط دولتهم والقضاء على أمريكا والصليبيين جميعاً..
لقد علَّمَنَا القرآن وبينت لنا السنة النبوية أن الصراع الأبدي المستمر حتى نهاية العالم هو بين الإسلام من جهة وبين اليهودية والنصرانية من الجهة الأخرى، وأنه مستمر دُولةً حتى تسقط في النهاية إحدى الجبهتين، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نهاية هذا الصراع ستكون بانتصار المسلمين وظهور الإسلام على الدين كله، والقضاء على اليهود، وكسر الصليب..
والمؤمن إذا قرأ نصوص السنة الواردة في هذا الموضوع يفهم كل ما يجري الآن، ولا ينبغي أن يقول مثل ضعفاء الإيمان: نلجأ إلى الغيبيات لنبرر عجزنا ونهرب من واقعنا. بل المسلم صحيح الإيمان يؤمن بالغيب، وبما أخبر الصادق الأمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهو قد أخبر بكل ما هو كائن بين يدي الساعة من الأمور الهامة، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه (1).
ونحن نلجأ إلى القرآن وإلى ما أخبرت به السنة النبوية لنُقَوِّيَ إيماننا، ونُثَبِّتَ ضُعَفَاءَنا، ونَفْهَمَ واقعنا..
السنة النبوية أخبرت بكل الوقائع الكبرى في حياة الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة ؛ حتى هجوم المغول الذي عصف بالخلافة العباسية، ودمر الأخضر واليابس أخبرت به السنة (2)..
ولو كان المسلمون يقرؤون ويفقهون كلام ربهم وسنة نبيهم لتسلَّحوا بأول سلاح للمقاومة وهو الوعي، والفهم الصحيح لما يجري، ولتسلحوا بأقوى سلاح وهو الإيمان الثابت القوي واليقين الصادق بأن هذا الدين ظاهر على الدين كله، وأن الله غالب على أمره.
ثم لا ننسى أننا نعيش في عصر يُعَدُّ الربع الأخير من الزمان، وهذا الربع الأخير بدأ ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وينتهي بقيام الساعة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( بُعِثت أنا والساعة كهاتين - يعني أصبعيه )(3) يشير صلى الله عليه وسلم إلى شدة قربها، وعند التأمل تجد أننا اليوم في الربع الأخير من الربع الأخير، لأن أشراط الساعة الصغرى قد تحققت سائرها ؛ ولم يبق إلا أشراطها الكبرى، حيث تقع الملاحم الكبرى التي تنتهي بالقضاء على اليهود والنصارى، وبظهور الإسلام على أعدائه.
( ثانياً ):ينبغي ألا نغترّ بهذه البشائر الواردة في السنة، وألا نتَّكِل عليها ونتواكل بسببها؛ فقد لا نكون نحن هذا الجيل المقصودين بها، وينبغي ألا نزكي أنفسنا فقد نُبتلَى بتسليط العدو علينا، حسب ذنوبنا، وحالنا وحال قلوبنا، وحال قياداتنا وحكامنا؛ وقد نكون نحن وقودَ المعركة، والذي سيجني ثمار النصر غيرنا، مسلمون آخرون يُوَفُّون بشروط النصر، وقد نشهد نحن بشائر النصر وبوادره بعد ابتلاء شديد وحوادث جِسَام..
نقول هذا لننبه المسلمين إلى سنن الله التي لا تتبدل، منها أنه لابد من التطهير قبل النصر، وأن النصر لا ينزل على الكسالى والغافلين..
ومن سنن الله العجيبة أنه يحمي بنفسه قلبَ العالم الإسلامي وهو الحرمان المقدسان مكة والمدينة، فلا يقتحمهما الأعداء، وفي الملاحم الأخيرة يحاول المسيخُ الدجال اقتحامهما وهو يهودي فلا يستطيع، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المدينة النبوية تحميها منه الملائكة يجدهم على أنقابها شاهري السيوف وأنقابُها يعني مداخلها(4).
ولكن الأعجب من هذا أنه لا حصانة لهاتين المدينتين المقدستين من الظّلمة والمنافقين من حكام المسلمين؛ فلقد ابتُلِيتا بشرورهم في مراحل التاريخ السابقة، ووقائع الحرة بالمدينة النبوية، وهدم الحجاج للكعبة بالمنجنيق، ثم غزو القرامطة لمكة، أشهرُ من أن تُذكر..
لكن تَأمَّل: لم يقتحم مكة يوماً من الأيام عدو كافرٌ يهوديٌ أو نصرانيٌ أو مجوسيٌ، أو غير ذلك؛ ولما حاول " أبرهة " الحبشيُّ النصرانيُّ حَمَى الله بيته منه بأضعف خلقه ( الأبابيل ) طيور صغار جاءت من جهة البحر ؛ ولكن تَقَحَّمَ مكة ( القرمطي ) الرافضي المنافق وقتل الحجاج في المسجد الحرام، هذا نوعٌ من البلاء لم تُمنع منه المدينتان؛ إذْ أن أهلها مثل باقي المسلمين، إذا كثُرت ذنوبهم وأساءوا الأدب مع هذا الجوار المقدس فإنهم يُعاقبون ويطهَّرون بأنواع من البلايا والفتن، ليس منها ظهور العدو الكافر من اليهود والنصارى وغيرهم ؛ لأن في هذا ذهاب الإسلام، واستئصال هذه الأمة، وهذا ممنوع.
( ثالثاً ):التاريخ يعيد نفسه، ويكرر عظاته ودروسه الجِسَام، ولكنّ أكثر الناس لا يفقهون، بل لا يقرؤون، لو كنا نقرأ التاريخ ونستفيد من تجاربه ودروسه إذن لكان حالنا أحسن مما هو عليه الآن، الحوادث الكبرى تتكرر، والعلل والآفات تتكرر، وأسباب الدمار والانهيار هي نفسها..
في القرون الثلاثة الخامس والسادس والسابع هبَّت على الأمة عواصفُ هائلة كادت تقتلعها من جذورها: بدأت بهجوم الصليبيين على جناحها الغربي الذي انتهى باحتلالهم لـ( بيت المقدس)، ثم هجوم المغول على جناحها الشرقي الذي انتهى بتدمير بغداد وإسقاط الخلافة العباسية، أعظم خلافة بعد (الراشدين ).(5/22)
والعجيب المؤلم أنه في كلا هذين الهجومين الخطيرين كان ( الروافض ) من داخل الأمة يمثِّلون (الطابور الخامس)، فكانوا يراسلون الصليبيين يحرّضونهم على مهاجمة الشام، وكان ( ابن العلقمي ) الوزير الرافضي لآخر خليفة عباسي يراسل المغول، يدلهم على عورات المسلمين، ويحرّضهم على مهاجمة بغداد، واليوم والجيوش الصليبية الأمريكية واليهودية الصهيونية تُطوِّق الأمة من الشرق والغرب والشمال والجنوب فإن المسلمين ينبغي ألا يأمنوا غدرَ الروافض وغوائلهم.
عند هجوم الصليبيين، وكذلك عند هجوم المغول كانت الحالة السياسية في غاية من التردي، الحكام من أمراء وسلاطين متفرقون متناحرون وعاجزون أمام العدو الغازي، حتى بلغ الخبث بالخليفة الفاطمي في مصر - وهو رافضي - أن راسل الصليبيين يحرضهم على غزو الشام نكاية بالسلاجقة الذين كانوا يحكمونها وهم سنيون..
والآن تفرج على حال حكامنا : متفرقون متناحرون، متفقون على ألا يتفقوا ويكيد بعضهم لبعض، ويتسابقون للغدر بأشقائهم وشعوبهم؛ ولتقديم خدماتهم للعدو الذي يتربص بهم جميعاً.
ولكن الأمل أن يهدي الله أحدهم أو بعضهم فيقذف الله في قلبه الإيمان وإرادة المقاومة والجهاد ؛ حينئذ تبدأ نهاية العدو..
فإن تولوا جميعاً وتمادوا في الاستسلام للعدو، فالأمل أن يبعث الله للأمة قيادة جديدة إيمانية، قيادة إنقاذ وجهاد وعزة..
كما حدث دائماً في المرات السابقة من تاريخ هذه الأمة..
رغم الكوارث والأزمات الكبرى التي كانت تحل بهذه الأمة، إلا أن هناك ومضات مشرقة كانت تتخلل هذه الدياجير، تتمثل في سلاطين وملوك صالحين مجاهدين يغيث الله بهم الأمة كلما اشتدت أزماتها، تختلف هذه الومضات من حيث المدة وعظم الأثر، فالذين وقفوا في وجه المد الرافضي من بويهيين وفاطميين هم ملوك ( السلاجقة ) السنيون، وكان من أشهرهم السلطان المجاهد ( ألب أرسلان ) الذي أوقف زحف الصليبيين من الشمال في معركة (ملاذكرد ) وهذه المعركة فتحت بوابة آسيا الصغرى ( تركيا الآن ) أمام العثمانيين بعد ذلك، وكان من بركات (السلاجقة) السلطان عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين زنكي الشهيد، اللذان مهدا الطريق للملك الصالح والسلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي الذي طرد الصليبيين بعد ذلك وحرر ( بيت المقدس )، وعندما هبت عاصفة المغول وأحرقت الأخضر واليابس، وتملَّك الفزع سائر الأمراء والسلاطين، قيض الله ذلك الملك الصالح المجاهد ( سيف الدين قطز ) المملوكي فأوقف زحف المغول وكسر شوكتهم وهزمهم ومرّغ أنوفهم الفَطْسَاء في تراب ( عين جالوت ) سنة 658
ومن يقرأ سيرة هؤلاء الملوك الصالحين والسلاطين المجاهدين يجد منهجاً واضحاً للنهوض بالأمة، ولإنقاذها عند الأزمات الكبرى، ويرى بركة الجهاد وأثره العظيم في إنقاذ هذه الأمة، ويعلم أنه ببركة هذه الومضات حفظ الله هذه الأمة من الفناء.. وأهم منها - كما أشرنا في موضع آخر - حفظ الله هذه الأمة ببركة العلم والعلماء..
( رابعاً ) : الصراع المتوقع مع الغزو الصليبي الأمريكي سيكون شاملاً، لأن العدو أعلن أنه يستهدف كل شيء، حتى المدارس والجامعات، وطريقة حياة الناس، ودينهم ومعتقداتهم..
من أجل هذا سنشهد في الفترة المقبلة ( إسلاماً أمريكياً ) بدأ يروج له البعض منذ الآن..
وسنشهد محاولات للترويج للطريقة الأمريكية في الحياة، وهي لمن كان جاهلاً بها تمثلها نماذج معلنة واضحة : سياسيون بارزون، وشركات كبرى في اللصوصية والكذب، وآخرون بارزون في التحلل الأخلاقي..
سيعمل بعض المنافقين عندنا على إلغاء شريعة الجهاد، وستحل محلها أحاديث السلام، وأحلام التنمية والحياة الرغيدة، وسيعمل البعض على إلغاء عقيدة ( الولاء والبراء ) وسيحل محلها مصطلحات جديدة: احترام الرأي الآخر، التعددية الفكرية والثقافية، تكامل الحضارات، الحوار بين الحضارات، التسامح والمحبة بين بني البشر..
حتى الأسماء الجغرافية ستتغير، فبدلاً من العالم الإسلامي أو العرب ستُسمّى المنطقةُ ( الشرق الأوسط )، وستبدأ المشاريع الشرق الأوسطية بمشاركة اليهود الصهاينة، بل قل تحت هيمنتهم.
وستنشط مشاريع السياحة؛ حتى تتقاطر وفود الصهاينة وجواسيس ( الموساد ) و ( السي آي إيه) ليكملوا المهمة فيفسدوا ما لم تتمكن الجيوش من إفساده ؛ والعجيب أنهم عندنا يتحدثون منذ الآن عن السياحة الدينية لليهود والنصارى، كأنه لا تكفينا أعظم سياحةٍ دينية وهي ( الحج والعمرة ) إنهما أعظم استثمار ديني واقتصادي، وليتنا نستطيع إدارتهما على المستوى المطلوب، والعجيب أنهم منذ الآن يرممون الآثار المتعلقة باليهود والنصارى بينما يهدمون الآثار الإسلامية بما فيها المساجد النبوية في مكة والمدينة(5) في تناقض لا يفهمه عاقل ولا يقبله مسلم..
ستشهد المنطقة حُمّى من المشاريع الاقتصادية والاستثمار الأجنبي حتى تكتمل الحلقة بالسيطرة الاقتصادية..
يتحدثون عن الاستثمار الأجنبي بينما الأموال السعودية الهاربة المستثمرة في أمريكا وحدها تقارب (الترليون )، وهو رقم لا أعرف كيف أعده..
وستبلغ الوقاحة بالأمريكان والمتأمركين أن ينشروا في ربوعنا الجامعات ( الأمريكية )، وها هو أحد المنافقين المتأمركين من أبناء جلدتنا يعلن عن نواياه في مشروع إنشاء ( جامعة أمريكية ) في جدة (6).
أي أن المعركة ستكون شاملة، أهونها الجانب العسكري.. لذلك فإن الأمل بعد لطف الله في العلماء الربانيين، علماء الصحوة، فهم فقط الذين يستطيعون مقاومة غزو شامل بهذا المستوى إذا وَحَّدوا جهودهم..
ونكاد نجزم أن الأمريكان بشراستهم وعجرفتهم وغرورهم سيكفوننا مؤونة إيقاظ العرب والمسلمين لمواجهتهم، وتنبيههم لخطرهم، وسوف يتسببون بسياساتهم المتهورة الحمقاء في إذكاء روح العداوة ضدهم في نفوس المسلمين، بل في إشعال نار المقاومة المسلحة..
(خامساً) : الهجوم العسكري الأمريكي الصهيوني على العراق يوشك أن يبدأ، وربما يكون قد بدأ فعلا عند نشر هذه المقالة، وحينئذ فالسؤال الذي يعتلج في فؤاد كل مؤمن، وربما نطق به لسانه:
ما العمل ؟ ما هو واجبي ؟ هل أبقى متفرجا ؟؟
أول واجب على الجميع أن يلتفوا حول العلماء، أعني العلماء الربانيين الذين يقولون الحق لا يخافون لومة لائم، علماء الصحوة الذين هم محل الثقة في صدقهم، وفي قدرتهم على القول والعمل، فقد يكون هناك علماء فيهم صدق وخير، ولكن لا قدرة لهم على قول الحق، ولا قدرة لهم على الحركة بسبب الخوف، أو لأسباب أخرى...
هذا الواجب الذي هو الالتفاف حول العلماء الربانيين، والرجوع إليهم، ورد الأمر إليهم هو مدلول قوله تعالى:
(وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مَنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [83/النساء].
تنبه إلى أن الآية تتحدث عن أمور الأمن، وأمور الخوف، ونحن الآن في خوف، في أزمة من أزمات الحرب، حرب شرسة على الإسلام والمسلمين، فلا ملجأ بعد الله إلا العلماء الذين هم ولاةُ أَمْرِ هذه الأمة، وأهْلُ حَلِّهَا وَعَقْدِهَا، حتى الأمراء والحكام يجب أن يرجعوا إليهم (7)..(5/23)
ومما يدل على أن العلماء هم في الحقيقة ولاة الأمر، قوله في الآية (لَعَلِمَهُ) والعلم شأن العلماء، والذين يستنبطون الحكم من العلماء هم الراسخون في العلم، هؤلاء هم أهل الاستنباط، فإن الاستنباط هو استخراج المعاني الخفية بجهد ومشقة، من قولهم : نبط الماء من البئر. أي استخرجه بمشقةٍ..
فالمقصود أن الرجوعَ إلى العلماء، وردَّ الأمر إليهم، وتَلَقِّي التوجيه والحكم منهم، والالتفافَ حولهم، هذا هو أول واجب على الجميع بنص الآية.. وبنص الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (العلماء ورثة الأنبياء) فالأنبياء الذين هم القادة، استخلفوا على هذه القيادة من أتباعهم العلماء.. فلا يجوز لمن يريد أن يستبرئ لدينه أن يتلقَّى من غيرهم العلمَ والحكمَ، والقولَ والعملَ.
والواجب الثاني على كل مسلم: ألاَّ يُعِينَ العدوَّ في حربه على المسلمين بأيّ شيء، ولا حتى بشطر كلمة، لا يَسْلَمُ له دينُهُ بغير ذلك، ولو أُمِرَ بإعانةِ العدوِّ على المسلمين فلا يجوز له أن يفعل، وليتذكر قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق)، حتى لو كان يخاف على نفسه إن عَصَى الأوامر فإنه لا يجوز له أن ينفِّذ مثلَ هذه الأوامر، هذا باتفاق الفقهاء أَنَّ الْمُكْرَهَ إذا أُكْرِهَ على قَتْلِ غيره من المسلمين لم يَحِلَّ له ذلك. وما سوى هذين الواجبين، فإن عليه أن ينتظر ما يتفق عليه العلماء الربانيّون، فإذا لم يتفقوا على شيءٍ، فليكن حِلْسَ بيته وليكفَّ سيفَه، والله المستعان، عليه توكلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير.
المقالة التالية
(الجهاد حياة 1-3)(1) متفق عليه / وانظر مختصر أبي داود للمنذري [ 6/130 ].
(2) البخاري في الجهاد / انظر الفتح [ 6/104، 604-610 ].
(3) رواه البخاري في الرقائق [ 8/131، 132 / الحلبي ].
(4)متفق عليه : [ البخاري / 3/53، ومسلم 2/1005 ].
(5) هدمت حتى الآن من المساجد النبوية بالمدينة : المساجد السبعة، ومسجد الفضيخ، وقبله هدم مسجد ثنية الوداع.. في بادرة لا نظن أن المقصود بها حماية العقيدة لسببين : أحدهما أن المساجد لا تمثل تهديداً للعقيدة، والآخر أن هذه المساجد لها مئات السنين وبعضها منذ عهد الصحابة كالمساجد السبعة، ولم تهدد العقيدة ولم يطلب أحد من العلماء هدمها.
هناك فرق بين الآثار المخالفة للعقيدة كالبناء على القبور - بناء المساجد على القبور وأشد منها بناء الأضرحة والقباب - وبين الآثار التي لا مخالفة فيها كالتي ذكرنا، ولنا بحث في ذلك قد ينشر قريباً.
(6) في جريدة المدينة بتاريخ 27/11/1423هـ.
(7)سبق أن أشرنا إلى هذا المعنى.
=============
الجذور الاقتصادية للحرب على العراق
د. سامي السويلم * 29/1/1424
01/04/2003
تنوعت آراء المحللين حول الدوافع الحقيقية وراء الحرب الأمريكية على العراق، فهناك من يعزوها لنفوذ الدهليز (اللوبي) الصهيوني على الإدارة الأمريكية، وأن الحرب تخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى، وهناك من يفسرها بتثبيت الوجود الأمريكي في الخليج رداً على تفجيرات 11 سبتمبر التي نفذها مجموعة ينتمي معظمهم لأبناء المنطقة، وهناك من يرى أن السيطرة على منابع النفط هي المحرك الأول للحرب.
والأقرب أن دوافع الحرب هي خليط من كل ما سبق، ويبعد أن يكون قرار بمثل هذه الخطورة نابعاً من سبب أحادي لا يوجد ما يكفي للتعويض عن جوانبه السلبية.
وما نريد أن نلقي عليه الضوء هنا هو أن الدافع الاقتصادي وراء الحرب أكبر من مجرد الحصول على مصدر إضافي للثروة، وأن مثل هذه الحرب كانت ستقع بشكل أو بآخر، عاجلاً أو آجلاً، حتى لو لم توجد الدوافع الأخرى.
التخطيط المسبق
من المهم الإشارة إلى أن التخطيط لحرب العراق قد بدأ قبل أحداث سبتمبر بسنوات، حيث طرح أولاً في عام 1996م، ثم تبلور في عام 1998م من خلال ما سمي "مشروع القرن الأمريكي الجديد" لحماية المصالح الأمريكية. وقدّم هذا المشروع -للرئيس كلينتون- آنذاك عددٌ من المستشارين الذين يتبوأون اليوم مناصب قيادية في إدارة الرئيس بوش، مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول ولفوويتز وغيرهم. (انظر ما نقلته صحيفة الوطن السعودية 21/2/2003م عن صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، والجزيرة 20/3/2003م عن دير شبيجل الألمانية).
هذا التخطيط يعني أن دوافع الحرب كانت قائمة قبل ذلك بوقت كافٍ، مما دفع بهؤلاء إلى إعداد هذه الدراسات والمشاريع لتقديمها للإدارة الأمريكية، وكانت المسألة مسألة توقيت، ولم يكن هناك -فيما يبدو- أنسب من أحداث 11 سبتمبر لتحويل هذه المشاريع إلى واقع ملموس.
الداء المزمن
يعاني الاقتصاد الأمريكي منذ مدة طويلة من مشكلتين جوهريتين تهددان استقراره وازدهاره على المدى الطويل، وتضاعف إحداهما حدة الأخرى. الأولى هي المديونية المفرطة، والثانية هي تدهور التركيبة السكانية للمجتمع الأمريكي.
المديونية
أما المديونية، فإن الولايات المتحدة كانت - إلى ما قبل تولي الرئيس ريجان الرئاسة في 1980م- تعد أكبر دولة دائنة في العالم، ثم بفضل سياسات ريجان التوسعية، أصبحت في 1985م أكبر دولة مدينة في العالم، بل وفي التاريخ أيضاً. وقد بلغ حجم المديونية في عام 1993م أربعة تريليون دولار أمريكي، وبلغ حجم الفوائد المدفوعة نحو 290 مليار دولار سنوياً. مما حدا بعدد من المحللين إطلاق تحذيرات بشأن الملاءة الائتمانية للحكومة الأمريكية وقدرتها على الوفاء بديونها. وصدر آنذاك كتاب هاري فيجي المعروف: "إفلاس 1995"، الذي حذر فيه من أنه إذا استمرت معدلات نمو الدين، وما يترتب عليه من الفوائد، على ما هي عليه، فسوف تتجاوز الفوائدُ المستحقة إيراداتِ الحكومة من الضرائب، ومن ثم تصبح الحكومة الأمريكية مهددة بالإفلاس. بطبيعة الحال لم تفلس الحكومة الأمريكية في 1995م، ولكن استفحال المديونية وتزايد معدلات العجز في الميزانية أدى إلى نشوب خلاف بين الرئيس كلينتون -آنذاك- وبين الكونجرس حول إقرار الميزانية، وأدى هذا الخلاف إلى إعلان مؤسسة "موديز" المختصة بالتقييم الائتماني أنها ستراجع التصنيف الائتماني لفئة من سندات الخزينة الأمريكية تبلغ قيمتها 387 مليار دولار، وكان ذلك بمثابة صدمة للأسواق المالية.
اليوم تبلغ ديون الحكومة الفدرالية المعلنة أكثر من 6 تريليون دولار، في حين يقدر الخبراء أن الديون غير المعلنة (التي تقترضها الحكومة من صندوق الضمان الاجتماعي ونحوه) قد تصل إلى مقدار مماثل. وتتراوح الفوائد التي تدفعها الحكومة من الميزانية بين 170-220 مليار دولار سنوياً. أما العجز التجاري فيبلغ نحو 500 مليار دولار سنويا، في حين يبلغ إجمالي مديونية الاقتصاد الأمريكي (القطاع العام والخاص عدا القطاع المالي) أكثر من 19 تريليون دولار (هذه الأرقام مستخلصة من إحصائيات البنك الاحتياطي الفيدرالي).(5/24)
والمؤشرات تدل على أن المديونية الأمريكية في ازدياد. وباتفاق الخبراء، فإن هذا النمو لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. فالديون تجعل الاقتصاد مكبلاً بقيود الفوائد المستحقة سنوياً، ولا مفر للتخلص من هذه القيود التي تنمو وتزيد مع الزمن سوى البحث عن موارد جديدة. ولا شك أن أهم وأخطر الموارد اليوم هو النفط، وإذا كان العراق يرقد على ثاني أكبر مخزون من النفط في العالم، وكان النظام العراقي يُعد خارجاً عن القانون لأسباب شتى، فالنتيجة الطبيعية هي توجه الأطماع إلى هذا المخزون، وتحويله لإنقاذ الدولة الأقوى في العالم من الإفلاس، بدلاً من بقائه بيد نظام منبوذ دولياً. ولذلك لم يكن غريباً أن يتزامن تحذير المحللين من تهديد الإفلاس الذي تواجهه الحكومة الأمريكية، وإعلان موديز لمراجعة الملاءة المالية لسندات الخزينة، مع ظهور الخطة الداعية إلى احتلال العراق والتحكم في موارده النفطية. لكن إدارة الرئيس كلينتون لم تكن ترغب في تحمل الأعباء السلبية لهذا القرار، خاصة في غياب الفرصة الملائمة محلياً ودولياً، ولذلك أخرت الموضوع ليكون من نصيب الإدارة التي تليها.
التركيب السكاني
لو لم يكن الاقتصاد الأمريكي يعاني إلا من المديونية لكفاه، لكن هناك مشكلة أخرى من شأنها أن تسبب كارثة للاقتصاد الأمريكي ما لم يتم علاجها بشكل فعال، لكن مع غرق الاقتصاد في المديونية، يتعذر العلاج ومن ثم تتضاعف الكارثة.
هذه المشكلة باختصار هي تزايد نسبة كبار السن والمتقاعدين في المجتمع الأمريكي، وفي المجتمعات الغربية عموماً، وهي نتيجة طبيعية لتناقص معدلات المواليد من جهة، ونقص معدلات الوفيات المبكرة من جهة أخرى. وتناقص معدلات المواليد بدوره نشأ من تدهور وضع الأسرة في الغرب، وشيوع العلاقات غير الشرعية وانفراط القيم الأخلاقية.
ومع تزايد نسبة كبار السن وتناقص نسبة الشباب والقادرين على العمل، يتزايد عبء الضمان الاجتماعي الذي يوفر التقاعد لكبار السن، من خلال مساهمات العاملين عبر ما يسمى (ضريبة الضمان الاجتماعي) وذلك أن الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة مبني على إعطاء المتقاعدين مستحقاتهم من خلال ضريبة الضمان الاجتماعي التي تفرض على العاملين. فكلما كانت نسبة المتقاعدين إلى العاملين أقل، كلما كانت التعويضات المتاحة للمتقاعدين أوفر، والعكس بالعكس. والحاصل هو أن هذه النسبة تتناقص مع الزمن، حيث يتوقع أن تبلغ نسبة نمو شريحة المتقاعدين (الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً) 90% خلال العقود الثلاثة القادمة، لتصل إلى 69 مليوناً، بينما تنمو شريحة العاملين (ممن هم دون 65 عاماً) بمعدل 15% فقط، لتصل إلى 195 مليوناً. وبذلك يتوقع أن تكون نسبة المتقاعدين إلى العاملين في 2030م 2:1 بحيث يكون لكل متقاعد عاملان اثنان فقط. في حين كانت هذه النسبة أول ما أنشئ الضمان الاجتماعي قبل نحو 70 عاماً تبلغ 50:1 ، أي خمسين عاملاً لكل متقاعد.
وسيترتب على ذلك أن تصبح الميزانية اللازمة للضمان الاجتماعي تعادل 15% من الدخل المحلي للاقتصاد الأمريكي، أو ما يعادل تقريباً 2.5-3 تريليون دولار سنوياً (بناء على ما جاء في تقرير لجنة الكونجرس للميزانية المعد في 2001م).
ولكن واقع الأمر أن صندوق الضمان الاجتماعي يعاني من مشكلتين: أولاهما أن معدل الإنفاق على المتقاعدين سيتجاوز مقدار الضريبة المأخوذة من العاملين بحلول عام 2018م. واعتباراً من ذلك الوقت سيحتاج صندوق الضمان الاجتماعي إلى مصادر خارجية لتمويل العجز. ونظراً لأن الصندوق حكومي بطبيعة الحال، فستكون الحكومة هي المسؤولة عن سد العجز.
المشكلة الثانية: أن الفائض الذي تراكم لدى صندوق الضمان خلال العقود الماضية قد اقترضته الحكومة لتمويل نفقاتها الأخرى. وهذا يعني أن عبء الضمان الاجتماعي على الحكومة صار مضاعفاً: فهي بحاجة لسداد الديون الماضية لتغطية عجز الصندوق، كما أنها ملزمة بتغطية ما يزيد عن ذلك من مصاريف الضمان.
وهذا يعني أنه يجب على الحكومة الأمريكية أن تستعد لتوفير هذه المبالغ الطائلة لهذه الشريحة الكبيرة من المجتمع.
والوسائل المتاحة للحكومة لذلك لا تخرج عن ثلاثة:
- الاقتراض،
- الضريبة،
- زيادة إصدار النقود.
أما الاقتراض فهو خيار متعذر بسبب المديونية العالية التي تستهلك فوائدها خمس الميزانية حالياً، وأي توسع في الاقتراض من شأنه أن يهدد ثقة المستثمرين في السندات الأمريكية، ويعرض من ثم الدولار إلى الانهيار. أما الضريبة فقد تزايدت ضريبة الضمان الاجتماعي عبر السنين إلى حد أن زيادتها أكثر مما سبق ستصبح ضارة بالاقتصاد، وقد لا تفي بالمبالغ المطلوبة.
أما إصدار النقود فسيؤدي إلى تدهور قيمة الدولار، ومن ثم إلى تهديد الاقتصاد الأمريكي أكثر من ذي قبل.
وإذا لم تنجح الحكومة الأمريكية في سد عجز الضمان الاجتماعي فيصبح المجتمع الأمريكي مهدداً بنقص حاد في دخول شريحة كبيرة من أعضائه. ونظراً للثقل الانتخابي لهذه الشريحة فليس من مصلحة أي حكومة أن تتجاهلها، ولكن الحال أنه لا توجد موارد لحل المشكلة. "كيفما نظرت إلى الأمر"، يقول الاقتصادي الأمريكي المعروف (بول كروجمان): "تجد المستقبل مخيفاً".
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة فلا بد من بحث عن حل خارج الإطار المعتاد، وهذا يقود إلى محاولة تأمين مصادر خارجية للثروة، وأبرز هذه المصادر وأهمها هو الطاقة. ومرة أخرى نجد المؤشرات تتجه نحو آبار النفط؛ لمواجهة النُذُر التي تهدد الاقتصاد الأمريكي.
الحرب
إن إقدام الإدارة الأمريكية على احتلال منابع النفط ليس قراراً ارتجالياً. وبالرغم مما يتسم به القرار من الكبرياء والغطرسة والاستعلاء والرغبة في استكثار المال والتحكم في الثروة، إلا أنه في الحقيقة ينبع مما هو أعمق وأبعد من ذلك: إنه محاولة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من الانهيار تحت وطأة الديون والفوائد الربوية المتراكمة عليه، وتحت وطأة اختلال التركيبة السكانية، وتزايد نسبة المعتمدين على الضمان الاجتماعي.
وعبر التاريخ نشبت العديد من الحروب التي دفعت إليها أغلال الديون وآصار الربا، وهاهو التاريخ اليوم يعيد نفسه. ولقد صدق الله تعالى إذ يقول: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، ومن مظاهر إعلان الحرب على الله وآثاره: نشوب الحروب بين الدول لتوفير المصادر اللازمة لسداد الديون أو مجرد التخفيف منها.
ويتضح مما سبق العلاقة الوثيقة لليهود بهذه الحرب، فمن جهة فإن اليهود هم الذين تبنوا النظام الربوي السائد اليوم، والذي يتمثل بأجلى صوره في الولايات المتحدة، فأغرقوها بالديون ليجمعوا أكبر قدر ممكن من الثروة من خلال الفوائد الربوية المترتبة عليها، فأصبحت أمريكا عاجزة عن الوفاء إلا من خلال الاستيلاء على مصادر ثروة خارجية. ومن جهة يطمح اليهود إلى بناء "إسرائيل الكبرى" التي تمتد من الفرات إلى النيل، ويشكل العراق جزءاً مهماً من هذا الكيان. فاليهود ورطوا الاقتصاد الأمريكي، في هذه المعضلة، ثم هاهم أولاء يوجهونه للخروج منها من خلال التورط في معضلة جديدة هي الحرب. وصدق الله فيهم إذ يقول: {ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين}.
نظرة استشرافية(5/25)
بالرغم من كل ما يكيده اليهود الصهاينة واليمين المسيحي للمسلمين، فإن الله تعالى راد كيدهم في نحرهم، وجاعل عاقبة مكرهم خسارة عليهم: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}. فمآل ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية أقرب إلى أن يكون وبالاً على الاقتصاد الأمريكي من أن يكون إنقاذاً له من الكوارث التي تهدده.
فمن جهة ستكلف هذه الحرب ما لا يقل عن 75مليار دولار من النفقات المباشرة، أما النفقات غير المباشرة -سواء أثناء الحرب أو بعدها- فقد تصل إلى 300 مليار دولار، كما أن نشوب الحرب ساهم في استمرار حالة الكساد التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي منذ العام 2001م.
ومن جهة أخرى فإن هذه الحرب ستجعل الولايات المتحدة دولة تعيش حالة من المواجهة مع الدول الأخرى، خاصة روسيا وأوروبا، وهو أمر قد يُحيي من جديد عهد الحرب الباردة. وهذه الحرب ستكلف الإدارة الأمريكية مبالغ طائلة لمدد طويلة، على غرار ما كبدته الحرب الباردة إبان الثمانينيات للاقتصاد الأمريكي، ويكفي أن نعلم أن تحوُّل الولايات المتحدة من أكبر دولة دائنة، إلى أكبر دولة مدينة كان نتيجة لسباق التسلح الذي بدأه ريجان -آنذاك- (1980-1988)، وكان المقصود منه هو استنزاف الاقتصاد السوفييتي إلى حد الانهيار، وقد حصل هذا بالفعل حيث انهار جدار برلين في 1990م وتفكك الاتحاد السوفييتي، تماماً كما كانت تهدف الإدارة الأمريكية. لكن ماذا كان الثمن الذي دفعته؟ إنه أكثر من 6 تريليون دولار من الديون تدفع عليها فوائد نحو 200 مليار دولار سنوياً، وهذا يعني أن الولايات المتحدة لن يكون بمقدورها الدخول في حرب باردة جديدة أو سباق تسلح آخر، إذ ليس بوسعها أن تقترض مثل هذا المبلغ مرة أخرى، ولا يبعد أن تكون هذه الحرب الباردة- إذا انطلقت- سبباً لتزعزع الولايات المتحدة وتصدعها، على غرار ما حصل للاتحاد السوفييتي من قبل {جزاءً وفاقاً}.
ومن جهة ثالثة فإن الولايات المتحدة ستصبح مهددة أمنياً أكثر من ذي قبل، وستكون من ثم أقل جذباً للمستثمرين. وإذا علمنا أن نسبة كبيرة من السندات الأمريكية يملكها أجانب، فإن تراجع هؤلاء عن شراء السندات الأمريكية سيؤدي إلى تناقص قيمتها ومن ثم تدهور قيمة الدولار، وهذا من شأنه أن يهدد قدرة الخزينة الأمريكية على الوفاء، ومن ثم يهدد منزلة الدولار كونه عملة رئيسية عالمية. جميع هذه المتغيرات تصب في خانة إضعاف الاقتصاد الأمريكي وتراجعه، أكثر مما لو لم تدخل الحكومة الأمريكية هذه الحرب.
فالحاصل أن محاولة إنقاذ الاقتصاد الأمريكي من خلال الاستيلاء على مقدرات الشعوب الأخرى بالقوة، أقرب إلى أن يفاقم من مشكلاته ويضاعف من حدتها منه إلى أن يعالجها أو يقضي عليها، وهذه نتيجة طبيعية للظلم والبغي والطغيان.
واجبنا
قديماً أمر الله تعالى المسلمين أن يتعظوا بما جرى لبني قريظة، بقوله {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. فاعتبروا يا أولي الأبصار}. والمنطق نفسه يوجب علينا أن نعتبر بما يجري الآن، فتدهور الاقتصاد الأمريكي نشأ من مشكلتين جوهريتين: الديون الربوية، والانحراف الأخلاقي. فإذا أرادت دولة ما أن تبني مجتمعها بناء متيناً، فعليها أن تتحصن بقوة ضد هذين المرضين: الربا والزنا. والمسلمون أولى الناس بذلك، فهم يملكون الإطار الفكري والعقائدي اللازم لبناء مجتمع متماسك أخلاقياً واقتصادياً، كما أن الشريعة الإسلامية نظمت العلاقات الاجتماعية والتصرفات المالية بشكل محكم ليس له مثيل في أي نظام تشريعي آخر. وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذين الأمرين خصوصاً، بقوله: "ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقوبة" رواه أحمد وأبو يعلى (صحيح الجامع 5634).
لقد كانت الديون والانحرافات الأخلاقية عبر التاريخ مؤشراً لانهيار الدول والحضارات، ونحن نملك بحمد الله المبادئ والوسائل الكفيلة بتجنب الانهيار، فهل نحن على قدر المسؤولية؟* مستشار اقتصادي
==============
أولويات المرحلة القادمة !
التحرير 15/2/1424
17/04/2003
تتطلب المرحلة الحاضرة والمستقبلية العمل الجاد للحفاظ على هوية المجتمع، وعقيدته، ووحدته، وتعاونه، ووضوح الرؤية الصحيحة لمجريات الأحداث القائمة، والنظرة بعين البصيرة استشرافاً للمستقبل القريب، وقد أجرى موقع )الإسلام اليوم) ـ في هذا الشأن ـ حلقة حوار لوضع رؤية مستقبلية وعملية للتعامل مع الأحداث والمتغيرات التي باتت تسابق سرعة الضوء.
وكان من ضمن أهداف هذه الحلقة تقديم أفكار وموضوعات مقترحة للمرحلة القادمة، يمكن أن يستفيد منها طلبة العلم والدعاة والخطباء من جهة، وتحدد معالم المستقبل لغيرهم من جهة، ويسر (موقع الإسلام) اليوم أن يضع بين يدي قرائه الكرام خلاصةً لنتائج هذا الحوار .
عناوين مختصرة ؛ لنبدأ بها
تم توجيه هذا السؤال في البدء على عدد من العلماء والمهتمين بمتابعة المستجدات، ومنهم: فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة، وفضيلة الشيخ إبراهيم الدويش، وفضيلة الشيخ سعود الفنيسان، وفضيلة الشيخ عبدالوهاب بن ناصر الطريري، وفضيلة الدكتور عوض القرني، والدكتور خالد العجمي، والدكتور عبدالله الصبيح .
حرصنا أن تكون إجاباتهم عناوين مختصرة وواضحة، ومقسمة إلى قسمين، أولهما: وصايا للدعاة وطلاب العلم، وثانيهما: موضوعات مهمة للطرح في هذا الوقت على مستوى الخاصة والعامّة؛ لتكون لها الأولوية في الطرح، وتكوين الوعي العام.
أولاً: وصايا للدعاة، وطلاب العلم:
01 المشاركة الجادة في مؤسسات المجتمع الرسمية منها ، وغير الرسمية؛ للقرب من الناس، والإسهام في الإصلاح والتأثير، ومن ذلك وسائل الإعلام المرئي منها، والمقروء والمسموع.
02 طرح الإصلاحات المطلوبة من الدولة باعتدال، ووضوح، ولغة صادقة؛ اتباعاً لهدي القرآن والسنة في ذلك، فإن هذه الأزمة كشفت عن ثغرات هائلة تتطلب جدية الإصلاح.
03 تنوع الطرح، وتعدده ضمن إطار القواعد الشرعية.
04 قبول سماع الرأي المخالف، ما دام في دائرة الاجتهاد، ولم يخالف أمراً عَقَدياً، أو مُجمعاً عليه.
05 دعوة الطوائف المخالفة لأهل السنة، مع المحافظة على عدم تأجيج النزعة الطائفية؛ تفويتاً لفرصة العدو في استثمار الخلاف الطائفي والمذهبي.
06 محاورة جميع شرائح المجتمع، واكتشاف المساحة الواسعة من المتفق عليه واستثمارها، والتعاون مع الجميع في القدر المشترك، مع الدعوة والمناصحة في مساحة الاختلاف بالطريقة المناسبة للإصلاح .
7. دعوة المبهورين بالأنموذج الغربي، وبيان تهافته في الميدان العملي، وإدارة الحوار حول ذلك.
8. العناية بالمرأة: دعوةً، وتعليماً، وتفقيهاً، والتركيز على ذلك، فهي مستهدفة في هذه المرحلة، وذلك بطرح برامج تستوعب المرأة في المجتمع، بنشاطات متنوعة، تناسب جميع شرائح المجتمع.
09 بث المعاني العقدية الكبيرة في نفوس الدعاة، وطلاب العلم؛ بل وعامة الناس أيضاً، مثل: الإيمان، التوكل، اليقين، حسن الظن بالله، والثقة به، عدم القلق والتوتر إزاء الأحداث، الارتباط بالله - عز وجل - ، والاعتراف بالخطأ والمسؤولية، وليس إلقاؤها على الآخرين.
010 التواصي بحفظ أمن المجتمعات المسلمة؛ فكرياً واجتماعياً واقتصادياً، والتعاون على ذلك بكل الوسائل الممكنة شرعاً.
011 الاجتهاد في حماية المؤسسات الشرعية، والتعليمية، والإغاثية، وغيرها، وعدم العمل على زعزعتها أو تقليصها.(5/26)
012 محاولة تحويل جهود الأفراد - ما أمكن- إلى أعمال مؤسسية تقوم على الدراسة والتشاور؛ لتحقق مكاسب أوسع.
013 الجد في بناء علاقات وثيقة بين العاملين في مجال الدعوة والإصلاح، وتقوية التعاون، وتعميق التواصل بينهم، وتدارس المستجدات بحيوية وشفافية وجدية وعدم تباطؤ.
14. تعميق التلاحم بين فئات المجتمع العملية والإدارية، والعامة والخاصة، والتعاون بينهم فيما يخدم الإسلام والمسلمين، وكل ما فيه مصلحة البلاد والعباد.
015عدم احتقار النفس بأي جهد يقوم به الداعية، فهو على ثغر.
016 محاورة كل من له فكرة غالية، أو رأي مؤثر في الأمة وشبابها، محاورة علمية مؤصلة؛ لتوصل إلى الأهداف المرجوة.
017 بث الثقة في العلماء الربانيين، والرجوع إليهم في الأزمات والنوازل.
018 بث معاني الأخوة بين أفراد المجتمع، واستيعاب أسباب الخلاف، ومحاصرة مظاهر القطيعة والتنافر، والحرص على التماسك الداخلي بكل ما يستطاع من الوسائل المناسبة، وتفويت الفرصة على كل عدو يستثمر الفرقة.
019 الاهتمام بالشباب الجاد، ومحاورتهم، والجلوس معهم في موضوعات جادة من خلال جلساتهم، ورحلاتهم…، وغيرها.
020 إظهار التفاؤل والبشائر وعدم اليأس، مع الوقوف على الداء، ومعالجته بالأساليب المناسبة، ويدخل في ذلك أهمية إظهار نقاط الضعف عند العدو، ومواضع الخلل.
021 الحرص على عدم مخالفة الجماعة، مهما كان رأي المخالف عنده راجحاً، ورأي غيره مرجوحاً، فالاتفاق على المرجوح - ما دام ضمن الضوابط الشرعية- أولى من الاختلاف.
022 كتابة مشاريع إصلاحية جادة، مجتمعة ومتفرقة، تقدم للحكومات بالأساليب المناسبة؛ أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر.
ثانياً: موضوعات مهمة للطرح في هذا الوقت على مستوى الخاصة والعامة:
01 الإيمان بالله وتعميقه، وعوامل زيادته، وأثره.
02 التوكل على الله مفهومه، وأهميته، وواقع الناس تجاهه.
03 التفاؤل، والتشاؤم، وأثرهما.
04 الدعاء، وأثره في حل المعضلات ونصر الأمة.
05 مواقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الأزمات والمهمات.
06 مصادر التلقي بين الإفراط والتفريط.
07 الاجتماع وتوحيد الكلمة، وأثر ذلك، والفرقة وأثرها.
08 مفهوم الجهاد، وأنواعه، ووسائله، ويدخل فيه إعداد العدة.
09 الصدق مع الله - تعالى- وأثره.
010 المخرَج من الفتن.
011 الإشاعات، وأثرها في خلخلة الصف.
012 العلماء: مكانتهم، وأهمية الرجوع إليهم، والثقة بهم.
013 الإرجاف، وأساليب المرجفين والمنافقين.
014 المصالح والمفاسد العامة، وضوابطها.
015 الخلاف بين أهل العلم، والتعامل معه.
016 تربية النفوس على الجد والجهاد.
017 الأمن، والمحافظة عليه وأثره، وخطورة الفوضى.
018 الإيجابية في التعامل مع الأحداث.
019 النصر، والهزيمة، المفهوم والعوامل.
020 الاعتصام بالكتاب و السنة؛ مفهوماً وتطبيقاً.
021 "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ".
022 الواجب والمؤمل في مثل هذه الأوقات على الشباب..
023 المرأة: واجبها، وما يراد لها.
024 الأعداء، ووسائلهم، ومخططاتهم ضد الإسلام وأهله.
025 البيت المسلم، والمحافظة على تماسكه.
026 المكتسبات الشرعية، والمحافظة عليها.
واستكمالا للرؤية قمنا أيضاً باستكتاب عدد من الشخصيات العلمية والثقافية وسألناهم -أيضاً- عن "أولويات المرحلة القادمة" من وجهة نظرهم، وقد قاموا مشكورين بالتفاعل مع هذه القضية ويسرنا ان ننشر إجاباتهم بين إيديكم، مصنفة حسب موضوعها...
الرجوع إلى الله هو خط البداية
لا يمكن أن نتحدث عن أولويات المرحلة القادمة دون أن نبدأ بهذه القضية التي أجمع المشاركون على أهميتها، وضرورة التأكيد عليها، يقول فضيلة الشيخ الدكتور رياض المسيميري: ضرورة العودة الصادقة إلى الله تعالى على مستوى الدول والشعوب، فقد جُرّبت جميع المذاهب والمناهج الأرضية؛ فلم يفلح منها شيء في تحقيق إنجاز يُذكر سواء في المجال العسكري، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، ويمكن أن تتحقق العودة إلى الله بإسهام الدول، والشعوب، والعلماء، والدعاة في نشر الوعي الديني، وبعث السُنّن المحمدية، وتخليص الدين بما علق به من الخرافة والبدعة.
ويؤكد فضيلة الشيخ محمد الدحيم على أهمية ربط الناس بربهم وخالقهم؛ حتى يعلموا أن النصر من عند الله، وأن الأمر له يؤتي وينزع، ويعز ويذل، وأن الخير فيما يختاره جل جلاله. مع الأخذ بعين الاعتبار أن يكون هذا الربط ليس ردة فعل تصرّفٍ تغلب فيه العواطف، وتُلغى فيه العقول، وليكن هذا الربط حافزاً لإعداد القوة، والتهيئة للنصر .
ويُفصِّل هذا المعنى فضيلة الشيخ الدكتور حمد الحيدري ببعض التوجيهات، منها:
- الفرار إلى الله تعالى والصدق في ذلك، فإن من تقرب منه -تعالى- ذراعاً تقرب إليه - سبحانه- باعاً ومن أتاه يمشي أتاه -سبحانه- هرولة، وهو الغني سبحانه .
-التعرف على الله تعالى في الرخاء بشكر نعمه، وكثرة دعائه، وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً:"تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة"
-كثرة الدعاء، والإلحاح فيه، وعدم اليأس أو الاستعجال؛ فيكثر المسلم من الدعاء لنفسه، ولمجتمعه ، ولأمته، ويلح في ذلك، وفي الحديث:"لا يرد القدر إلا الدعاء".
-الإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطريقة الشرعية التي لا تفسد القلوب؛ بل تؤلفها وتحبب إليها الخير وأهله، فالإصلاح سبب للنجاة "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" وأول ما يبدأ به الإنسان إصلاح نفسه، وأهل بيته.
-كثرة الاستغفار الصادق، قال الله تعالى:"وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
-كثرة الصدقة والإحسان إلى عباد الله، فإن الصدقة تطفئ الخطيئة، والخطيئة سبب كل مصيبة، والإحسان إلى العباد سبب لرحمة الله "والراحمون يرحمهم الرحمن".
ويواصل فضيلته: وقبل ذلك وبعده، التنبه إلى السبب الحقيقي لما يحصل من تسلط على المسلمين، وذلة واقعة بهم، ثم طلب الأسباب الحقيقية للتخلص من هذا الواقع المرير، والسبب الحقيقي قد وضحه الله -تعالى- بقوله:"وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"،وقوله تعالى: "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"
تفعيل دور العلماء والدعاة
من ضمن القضايا التي أكد عليها المشاركون "ضرورة تفعيل دور العلماء والدعاة في هذه الأزمة"، ففي ذات السياق يتوجه فضيلة الشيخ الدكتور أحمد أبا بطين إلى علماء الأمة، ويحمّلهم مسؤولية المشاركة في وضع الحلول لهذه الأزمة، والالتفات حولهم، ومطالبتهم بعقد جلسات طارئة لاستصدار قرارات تنطلق من رؤية شرعية، يوضح فيها كيفية التعامل مع هذه الأحداث وقت الفتن.
ويرى الشيخ هاني الجبير ألا يُكتفى بتصريحات وفتاوى وأقوال العلماء والمفكرين منفردة؛ بل لا بد من وجود فتاوى وتوجيهات جماعية تتسم بالسرعة، والمبادرة مع التعقل في الطرح.
ويؤكد الشيخ علي الألمعي على ضرورة اتصال الدعاة بالشخصيات المعتبرة في الدولة؛ لإيصال فكرة "أننا جميعاً أمام عدو مشترك، فيجب التعاون للوقوف في وجهة، وصده عن مخططاته التي أصبح يرددها علناً دون مواربة ولا استحياء، قال تعالى: "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزل عليكم من خير من ربكم" الآية.(5/27)
والتأكيد على العلماء بأن يكون لهم دور واضح ومعلن فيما يجري، وتذكيرهم بما عليه الناس من المعاناة ومن فقدان الثقة، وأنه لا بد لهم من بيان مشترك؛ يسمعه العدو، وينتفع به الناس فيجبر الكسر ويعيد للناس الأمل، قال تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" الآية.
يرى فضيلة الشيخ أحمد الخضيري: "ضرورة قيام العلماء- وبخاصة من أحيلت إليهم أمور إفتاء الناس- بواجبهم في بيان الموقف الشرعي للمسلم من هذه الأحداث؛ حتى لا تضطرب أفكار الناس، فيتجهوا إلى الأخذ بفتاوى شاذة، أو آراء متعجلة يطالعونها في وسائل الإعلام المختلفة، وينشأ عن ذلك ابتعادهم عن الاتصال بكبار العلماء وأهل الحل والعقد ، وإذا ابتعد الناس عن أهل العلم التمسوا البديل في بعض الفتاوى التي لا يُطمأن إليها، أو إلى من أصدرها ، وبخاصة مع ازدياد مساحة حرية الكلمة عما كانت عليه سابقا . كما أن في بيان أهل العلم وتوضيحهم هذه الأحكام لعامة الناس وطلبة العلم ما يعزز الثقة بهم ويقوي الارتباط معهم ويساعد في القضاء على ما قد يحدثه الشيطان في النفوس من الظنون السيئة.
العلاقة الإيجابية المتبادلة بين العلماء والشباب
ربما شعر الجميع من خلال توالي الأزمات بالانجذاب الطبيعي بين هاتين الشريحتين ... العلماء والشباب، واختلفت مستويات هذا التفاعل مداً وجزراً. في هذا الصدد يؤكد فضيله الشيخ أحمد الخضيري: إن على العلماء أن ينزلوا إلى الشباب، ويصبروا على محاورتهم والسماع منهم، وليعلموا أن حال الناس في السنوات الأخيرة اختلف كثيرًا عما كان عليه قبل سنوات معدودة؛ من حيث انتشار وسائل الإعلام في كل مكان –تقريبًا-، فأصبح يتوفر للمرء سماع ومطالعة كثير من الآراء والاجتهادات المتنوعة، بخيرها وشرها، فيقتضي هذا من أهل العلم أن يواجهوا هذا السيل العارم بالبيان والتوجيه في النوازل التي تهم الأمة عبر وسائل الإعلام المتاحة ، وبخاصة مع ازدياد مساحة حرية الكلمة عما كانت عليه سابقا.
وفي هذا السياق يؤكد فضيلة الدكتور حمد الحيدري: على الحرص على جمع الكلمة، واحتواء الشباب، والأخذ بزمام المبادرة في ذلك؛ لئلا يكون الشباب مرتعاً خصباً للجماعات المنحرفة التي تستميلهم بإرضاء العواطف وتغذيتها، ولأن كبار العلماء عندهم ما يشغلهم من الأمور الكبار؛ فأقترح على كبار الدعاة -ممن هم محل الثقة والقبول عند الجميع- أن يتولوا هم هذا الأمور ويكونوا حلقة وصل بين الشباب وكبار العلماء؛ فيكون فزع الشباب وتوجههم إليهم، وهم يبلغون عنهم وإليهم.
ويرى فضيلة الشيخ عمر المقبل ضرورة فتح أهل العلم –من علماء وطلبة علم- أبوابهم للشباب والاستماع لأصواتهم –مهما كانت توجهاتهم- وفتح باب الحوار معهم، وإبداء وجهات النظر، مدعمة بالأدلة الشرعية، والعلل المرعية، ومقاصد الشريعة العامة.
ويقول: إن من الملاحظ أن كثيراً من الاحتقان -الذي يعيشه كثير من الشباب- هو بسبب تلقيهم عبر وسائل كثيرة من الإنترنت، أو المجالس الخاصة أو غيرها، ومن ثم عدم مقدرتهم على فهم وجهة النظر الشرعية، أو على الأقل وجهة النظر الأخرى، التي قد تخالف ذلك الرأي المطروح، إن كثيراً من الشباب يجلس أحدهم أمام الإنترنت؛ فيبحر في عباب هذا البحر الخضم، عبر مواقع كثيرة، فيستقبل؛ لكنه لا يرسل! وأحسب أن مثل هذه المجالس لو فتحت أمام هؤلاء الشباب، لكانت فرصة لبدء الإرسال عندهم، فهل من تواصٍ بين طلاب العلم بهذا؟، إن أقل ما يُطالب به في هذه الفترة بالذات، أن يوجد في كل بلد مجموعة من طلاب العلم، يفتحون أبوابهم؛ لاستقبال الشباب، وسماع ما لديهم، بل وأرى أن تكون هذه المجالس مفتوحة أمام أطياف المجتمع كلها ليرتادها شباب الصحوة، وعامة الناس، ومن على ظاهرهم بعض المخالفات الشرعية؛ ليكون لأهل العلم دورهم الذي يليق بهم في توجيه سفينة المجتمع، حتى ترسو على شاطئ النجاة -بإذن الله تعالى-، ومن جرب هذه المجالس، سواء بفتحها أو بحضورها ومدى استفادة الشباب منها؛ أدرك تعطشهم إلى مثلها، فكم استرشدها من شاب! وكم استنار بها من جاهل!.
نشر الوعي بأبعاد القضية
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله وكيل الشيخ يرى ضرورة نشر الوعي بحقيقة الأهداف الأمريكية، وقد لا يجد الباحث قرارات صادرة بهذه الأهداف لكن الأمر المتواتر -الذي لا يُشك فيه- أن القرارات لا تُتخَذ إلا بعد سيل من الدعاية الإعلامية، والدراسات البحثية؛ لتهيئة النفوس لتقبٌّل القرارات، وقد يُظن أن نشر مثل هذه الأهداف يوهن من عزيمة الفرد المسلم، وربما يُبتلى بالإحباط واليأس؛ لكن حقيقة الأمر أن المعرفة بأهداف العدو تُولِّد حالة التحفز والاحتياط عند المسلم، وهنا تأتي الحاجة إلى البرامج التي تحول المعلومات من وسيلة للإحباط إلى وسيلة للتفاعل الحي، فنحن أمام عدو شرس، منتهك لكل الأعراف والقوانين، يعيش حالة من الغرور، عزّزها في نفسه ضعفُنا وهوانُنا وعجزُنا من اتخاذ مشاريع الدفاع عن النفس.
وفي هذا السياق يؤكد الشيخ أحمد الخضيري على أهمية العناية في هذا الوقت بفضح خطط الأعداء من النصارى، وبيان ارتباطهم مع اليهود والمنافقين ، وكشف الوجه القبيح لهؤلاء الأعداء، الذين يتسترون بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية، وهم أول من يكفُر بها إذا تعارضت مع مصالحهم وأطماعهم ،وتجلية هذا الأمر يكشف الغفلة عن كثير ممن خُدِع بثقافة هؤلاء الأعداء، فاتخذهم الأعداء بوقا وأداة لهم في تضليل المسلمين .
ويؤكد ذلك الشيخ محمد الدحيم بضرورة رفع الوعي، وفك الغموض حول هذه الحملة بجرأة كافية تتلاءم مع الحدث، وليس هذا خاص بعلماء الشريعة؛ بل هو مسؤولية الشرعي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وهذه المنظومات يكمَّل بعضها البعض؛ لتخرج برؤية متكاملة متناسقة.
ويربط الشيخ علي الألمعي "قضية الوعي بالأحداث ومخططات الأعداء" بالمنظار الشرعي حول الأحداث، وذلك ببيان عداوة اليهود والنصارى، وظلم وطغيان الغرب في الجملة، ثم تذكيرهم بعقيدة الولاء والبراء، وبسنن الله الكونية والشرعية، وتنيبه الخطباء، والأساتذة والمعلمين، والكتّاب إلى ضرورة التحدث في الوضع القائم بمنهجية واضحة، مع البعد عن التهويش والفوضى التي لا فائدة منها، ويجب التذكير بالثوابت التي يجب ألا تتغير، وإظهار الحق وقواعده الثابتة، وبيان الباطل وأساليبه، وضلوع اليهود في العالم، ودورهم في التخريب والفساد وإيقاد الفتن والحروب، فهم عبر التاريخ كله لا يعيشون إلا على هذا النمط، كما قال تعالى: " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين".
الاهتمام بالدراسات المستقبلة
الأزمات تتكرر، والتاريخ يعيد نفسه، والحاجة إلى إعادة أسلوب تجاوبنا مع الأحداث؛ بحيث نتجاوز وصفها بأنها (ردود أفعال) إلى أن تصبح استباقية تستوعب الواقع، وتستشرف المستقبل، في هذا السياق يدعو الشيخ أحمد الخضيري إلى أخذ الأهبة والاستعداد لما يتوقع أن تؤول إليه الأمور في المستقبل في المنطقة ، وهذه الدعوة تكون عامة لولاة الأمر، وللمجتمع وأفراده كل فيما يخصه، بحسب ما أمر الله –تعالى- وأرشد إليه؛ لتتوافر أسباب الجهاد. والاستعدادُ يشمل جوانب كثيرة منها: الجانب العسكري، والاقتصادي، والعلمي، والتقني، والاجتماعي...، وغير ذلك. ولا ينبغي أن تُسكرنا الغفلة، وتلهينا حياة الترف عما يراد بنا.(5/28)
ويرى د.رياض المسيميري ضرورة صياغة البرامج السياسية والاقتصادية والتربوية الفاعلة، المرتكزة على شريعة الإسلام، والكفيلة بتحقيق مصالح الأمة في هذه المجالات المهمة، ووأد كافة الخيارات المخالفة لأحكام الدين الحنيف.
ويذكّر الشيخ يوسف القاسم بضرورة تقديم البحوث والدراسات العلمية في شتى الميادين، حتى يرتفع الجهل عن الأمة، وحتى نرتقي بالفكر إلى الحد الذي يجعلنا في مستوى المواجهة .
ويرى د.حمد الحيدري ضرورة إعادة النظر في معالجة بعض الأمور، والاستنارة في ذلك بسنن الله التي لا تتخلف، فإنها كما جرت في قوم سابقين ستجري فيمن بعدهم، إذا وجدت أسبابها، وهذه السنن تستفاد من كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ثم من وقائع التاريخ. وأكاد أجزم أن الدول لم تستفد منها شيئاً؛ لأن أكثر المستشارين لا يبالون بها، أو لا يدركونها بالرؤية الشرعية.
وفي نفس السياق يرى الشيخ محمد الدحيم ضرورة متابعة الحدث أولا بأول، ومن مصادر عدة، وإعداد دراسات مستقبلية توقعية- غير قطعية- لكل مرحلة؛ حتى لا نفاجأ بما لم نفكر فيه، وهذا لن يكون سهلاً ما لم نتواجد مع الحدث أينما حصل.
ولأن التاريخ يتكرر، ويمكن أن نستفيد منه لفهم كثير من دورات التاريخ التي تتغير في ظاهرها، وليس في حقيقتها. يؤكد الشيخ هاني الجبير على أهمية دراسة التاريخ، وخصوصا مرحلتي: الهجمة المغولية، وزمن ملوك الطوائف بالأندلس المفقود، حيث صارت كل مدينة دولة لها توجهاتها ومصالحها التي تهمها أكثر من أي شيء!.. حتى استعان بعضهم على بعض بالنصارى الذين وجدوا طريقا مُعبّداً، ودرباً سالكاً؛ لابتلاع هذه الدول!! الغارقة في لهوها..إن في كل صورة وموقف دروساً كثيرة، وعبراً عديدة، وجوانب يمكننا من خلال تأملها أن نستجلي وسائل الإصلاح.
الإصلاح الداخلي
لقد لاحظ الجميع اللغة التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لدغدغة مشاعر العراقيين في الداخل، وذلك بالعزف على وتر العلاقة المتردية بين الحكومة والشعب.
في هذا الصدد يوجه فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن علوش المدخلي نصيحةً للحكومات الإسلامية -بصفة عامة-، وحكومات المنطقة - بصفة خاصة - أن تسعى لتحقيق التلاحم مع شعوبها، مما يعمق الانتماء للبلد، ويسد الثغرات والفجوات، ويسد كافة الطرق على أعداء الأمة المتربصين.
أمّا كيف يتم ذلك؟؛ فيرى الشيخ حسن أحمد القطوي وجوب تقديم القضايا الكبرى والمصيرية على الأمور الآنية والمحدودة، فإن قوى الشر في العالم بعمومها -والغربية منها على وجه الخصوص- قد قررت إعادة احتلال بلاد العروبة والإسلام، بحجة أن هذه البلاد تمتلك ما لا تستحقه من الثروات الهائلة، أو أنها لم تحسن استخدام ما تملك من تلك الثروات، وقد رأت قوى الغرب - في الحقيقة- أن هناك بوادر تنبئ عن امتلاك الأمة العربية والإسلامية لبعض الإمكانات التي يمكن بها مقاومة قوى الشر الغربية، فأعلنت خوفها من أن تؤول تلك الإمكانات إلى أيد الصادقين، فاعتبرت ذلك مما يهدد كيانها، ويعرض مصالحها (الانتهازية) للخطر.
وينبه الشيخ عمر المقبل إلى ضرورة توعية الجمهور –وخاصة الشباب- بأهمية توحيد الصف أمام العدو المتربص المتفق عليه، ولا يعني –بالضرورة- الاتحاد في الآراء في المسائل الاجتهادية، فهذا لم يحصل لخيار هذه الأمة في عهد نبيها –صلى الله عليه وسلم-، بل المقصود الاجتماع على ما اجتمع عليه السلف، من معرفة ما لا يجوز الاختلاف فيه، وما يجوز الاختلاف فيه، ولكنه لا يبيح التفرق.
ويطالب د.عبد الله وكيل الشيخ الحكومات بتوسيع هامش الحرية للشعوب؛ للتعبير عن مشاعرها، حيث تمتلئ مشاعر المسلمين بكم هائل من الغضب على هذا العدو الذي ينتهك حرية المسلمين، الذين يربط بينهم إخاء الإيمان "إنما المؤمنون إخوة " هذه المشاعر لا بد أن يسمح لها بالظهور، قولاً وفعلاً لا يؤديان إلى الغرر والنيل من مصالح المسلمين، ومن عدم التوفيق تجاهل هذه المشاعر أو مصادرتها حتى تنقلب إلى أعمال ارتجالية، تغيب عنها الرؤية المصلحية الشرعية، والتعبير عن هذه المشاعر لا يتخذ صورة واحدة؛ بل تتنوع صوره إلى مالا نهاية. فسلوك هذه المسالك يخفف من الاحتقان من ناحية، ويوجد الرعب في نفوس العدو من ناحية أخرى، وكم هي فتنة شديدة أن لا يعرف هؤلاء المعتدون حجم الكراهية لهم في نفوسنا، فيُغريهم ذلك بالاستمرار في عدوانهم، ولا ينبغي الاعتذار هنا بأن التعبير عن هذه المشاعر الإيمانية يقترن بأنواع من التخريب والتدمير، لأنه بالوعي المستمر، والتعامل الحسن، والتدريب على الانضباط تتلاشى هذه السلبيات، أو تخف إلى حد كبير، وبكل المقاييس فالبديل المتمثل في مصادرة التعبير، وتكميم الأفواه أعظم ضرراً، وأفدح خطراً، وقد تقرر شرعاً احتمال أقل الضررين لدفع أعظمهما.
الدعوة للجهاد العام
يؤكد د. رياض المسيميري على ضرورة إحياء فريضة الجهاد، بوصفها ذروة سنام الإسلام، وسببٌ رئيسي لرفع الذلة والصغار عن الأمة، وبناء هاجس الرهبة في قلوب الأعداء؛ لوأد كل مخطط ماكر لغزو ديار الإسلام.
ويقول إننا لو تأملنا قوله تعالى : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" لأدركنا حتمية الجهاد، وضرورة إعداد العدة لمواجهة هذه الحقيقة الأبدية، وذلك القدر المحتوم.
ويؤكد د.محمد الخضيري على أن ضرورة الاستعداد للجهاد حقيقة. فما دامت قوات الصليب تمركزت واحتلت بلاد المسلمين؛ فقد تَحقّق ما يسميه الفقهاء "الجهاد العيني".
ويرى الشيخ ناصر بن محمد آل طالب ضرورة (تديين الحرب) بأن تذكي الجذوة الدينية في النفوس، فإن هذا بالإضافة إلى أنه الواجب الشرعي؛ فهو أثخن في العدو، وجبر له على إعادة حساباته في مطامعه الأخرى، وضرورة إعداد الأمة ثقافياً وعسكرياً، وإحسان التصرف في الميزانية العسكرية للدول الإسلامية في محاولة لإعادة بعض هيبة الأمة المفقودة.
أما الشيخ يوسف القاسم فيدعو إلى توظيف الطاقات نحو الإنتاج المثمر، والمشاركة الفعالة في المشروعات النافعة، التي يتحقق بها نشر الخير، والدعوة إلى الله على أوسع نطاق، وذلك من خلال الاستفادة بكل ما هو متاح من وسائل تقنية متطورة، وكذلك شغل الأوقات، وشحنها بالواجبات، ومراعاة الأولويات؛ بتقديم الأهم فالمهم، فليس المندوب كالواجب، وليس المكروه كالمحرم..، وهكذا...
ويوسع الشيخ حسن القطوي دائرة الجهاد ومجالاته فيرى الانطلاق لمقاومة الزحف الغربي، بجبهاته المختلفة: الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، من واقع هوية أمتنا الإسلامية ومقوماتها الذاتية، وألا ننطلق في مقاومتنا لهذا الزحف من خلال محاكاتنا لما تفرزه لنا تلك القوى، فإن هذه المحاكاة لن توصلنا إلا إلى مزيد من التهويل والتضخيم؛ لما تستند إليه قوى الشر الغربية من خطط وإمكانات، فتولَّد لدينا الإحباط واليأس والاستسلام، ثم يؤكد على اعتماد أساس بناء الذات؛ للتحصن من كل محاولات الاختراق، والقدرة على مقاومة آليات التبعية، وامتلاك الوعي الصادق بحجم ما نعانيه من قصور؛ بهدف إصلاحها بعزيمة لا تثنيها قوى الشر عن سلوك أفق الحوار الحضاري بما تمليه ثقافتنا الدينية وتعاليم الإسلام " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" [هود 112 – 113].(5/29)
ويحمَّل الشيخ عمر المقبل أهل العلم مسؤولية التواصل مع الجهات المسؤولة - كل في تخصصه (الشرعي، الاقتصادي، السياسي، المؤرخ...إلخ)- وبيان الخطط الحقيقية لهذه الحملة، وما يترتب على الانصياع لما تمليه الإدارة الأمريكية من الآثار السيئة على جميع الأصعدة: السياسية، والأمنية والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.
ويدعود.عبد الله وكيل الشيخ إلى البدء الجاد والفوري ببرامج القوة العسكرية والاقتصادية والتعليمية والإدارية، فلن تنتفع المنطقة بكثرة التسويفات لبرامج الإصلاح، ولقد عاشت المنطقة في عام 1991م ذلاً ليس بعده ذل، إذ عجزت كافة الدول العربية -بل الإسلامية- عن إحقاق الحق في اعتداء العراق على الكويت، وتم استدعاء القوات الأجنبية لتحقيق هذا الغرض، وقد اُعتُذِر عن هذا الاستدعاء حينها بضعف الإمكانات عن القيام بالواجب، وقَبِل الناس هذا الأمر على مضض لعلها سحابة صيف تنقشع قريباً، وتبدأ الإرادة الإدارية بالنهوض بالأمة، لكننا وللأسف الشديد بعد اثني عشر عاماً نعيش عيش الضعف، بل ضعفاً أكثر تجلى في المحافل والمؤتمرات، فهل ستؤجل إلى سنوات أخرى، بعد أن تلتهم القوات المعتدية دول المنطقة دولة بعد أخرى؟! إن القواسم المشتركة بين دول الخليج أكثر من أن تُحصى، بل إن الفوارق تكاد أن تتلاشى، ولكن الفرقة والخصام والموالاة للقوى المعتدية من أهم أسباب التشفي، وقد أوجب الله علينا الاتحاد، والاعتصام بحبله المتين، فقال عز من قائل " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، ولعل من أهم أسباب هذه الفرقة أيضاً: الانفراد بالرأي في المنطقة لدى الإدارة السياسية، ولو كان لأهل الحل والعقد، وأهل الرأي والمشورة فاعلية حقيقية -من خلال مؤسسات فاعلة في صنع قرارات الأمة- لما وصل الحال إلى ما نحن عليه.
ويؤكد د.رياض المسيميري على ضرورة الاهتمام بشرائح المجتمع، وشؤون المرأة والطفل على وجه الخصوص، وصياغة السياسات والبرامج الكفيلة بصيانتها من الطرح العابث، والمساومة الفكرية، والأخلاقيات الهدامة.
ويوجه د. الشريف حاتم العوني النظر إلى الاهتمام بالإعلام ووسائله؛ فيقول: "لقد عرف الناس كلهم ما للإعلام من أثر سحري في عقول الناس ونفوسهم، فلقد شاهدنا جميعاً كيف تتغير الحقائق، وكيف تزول الثوابت، وكيف تتبدل العقائد والمبادئ في قلوب الناس بعد ذلك الإعلام الموجه لتلك الأغراض، لقد أصبحنا نخشى على من حولنا أن يأتي يوم يصبح فيه الرجل مؤمنا، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، وأن يكون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، كما أخبرنا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أخبار المستقبل والغيب"، إنه ليجب على الناس أن يعرفوا حقيقة ذلك الإعلام الموجه من أعدائنا، ومن يقع تحت تسلطهم، وأنه لم يكن ولن يكون إلا في صالح الأعداء، وإلا هل نتصور أن عدونا سيُفوّت فرصة استثمار هذه العصا السحرية في تدجيننا، وبث روح التبعية له، والهزيمة النفسية أمامه؟!
ويدعو الشيخ يوسف القاسم إلى أكثر من ذلك، فهو يدعو إلى مقارعة الأعداء بالمثل، من خلال تقديم الإعلام الإسلامي المنافس، والتحليل الإعلامي السليم، فمن المعيب أن تعيش وسائل إعلام الأمة -في كثير من مواقعها- تبعية قاتلة، لا يرجى منها تحصين فكر، ولا حفظ دين.
الشعور بالنجاح يدفع إلى مزيد منه
د.أحمد أبابطين يرى ضرورة تحقيق الاطمئنان والأمن النفسي والاجتماعي للأمة، ويفسر ذلك الشيخ أحمد الخضيري؛ بنشر الفأل الحسن بين المسلمين، والبعد عن حالة الإحباط والقنوط التي ربما تصيب من يتابع الأخبار الدامية في العالم الإسلامي فيستبطئ النصر، أو يقع في اليأس التام، ويتم علاج هذه الحالة بعناية أهل العلم؛ بذكر النصوص الدالة على تكفّل الله تعالى بنصر دينه وإعزازه في آخر الزمان، وأن الله تعالى وعد نبيه أنه لن يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها ويقضي عليها ، والتنبيه على أن المحن تحمل منحًا، ويستفيد المسلمون منها دروسا وعبرًا، ويحصل فيها التمييز بين المؤمنين والمنافقين , ويضرب لذلك بعض الأمثلة من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (كما في غزوة الخندق)، وسير الصحابة -رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم .
ويؤكد الشيخ يوسف بن محمد القاسم على أهمية الثقة بنصر الله عز وجل، مع الأخذ بأسباب النصر، وأن الأعداء مهما أوتوا من قوة، فإن الله عز وجل قادر على إهلاكهم ومحقهم "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ...".
ويحذر د. الشريف حاتم العوني من تلبيس إبليس وتلاعبه بابن آدم؛ أن يُطمَّعه فيما لا يستطيع بلوغه ولا يقدر على تحصيله، ويعظم في نفسه ما يشق عليه غاية المشقة، وفي المقابل تجد هذا العدو الماكر يزهده فيما يقدر عليه، ويحقر في نفسه ما يستطيع القيام به، فينتج عن ذلك العجز الكامل، والقعود عن كل شيء؛ فلا يصل الإنسان إلى ما لا يقدر عليه، وينقطع دون ما يشق عليه، ويترك ما يقدر عليه ويفرط فيما يسهل القيام به، فإذا به في النهاية أسير تلاعب الشيطان، سجين هذه الحيلة الواضحة!.
الضيوف المشاركين في إعداد هذه الورقة:
م…الاسم…الوظيفة
1…الشيخ د.أحمد أبا بطين…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض
2…الشيخ د.أحمد الخضيري…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض
3…الشيخ حسن القطوي…مدرس بجامعة الإيمان بصنعاء
4…الشيخ د.حمد الحيدري…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض
5…الشيخ د.رياض المسيميري…عضو هيئة التدريس جامعة الإمام بالرياض
6…الشيخ د.الشريف حاتم العوني…عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
7…الشيخ د.عبد الرحمن المدخلي…عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بجيزان
8…الشيخ د.عبدالله وكيل الشيخ…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض
9…الشيخ د.علي الألمعي…عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد بأبها
10…الشيخ عمر المقبل…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالقصيم
11…د.محمد الخضيري…عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالقصيم
12…الشيخ ناصر آل طالب…القاضي بالمحكمة الكبرى بعرعر
13…الشيخ هاني الجبير…القاضي بمحكمة جدة
14…الشيخ يوسف القاسم…المحاضر بالمعهد العالي للقضاء
==============
المخالفات الشرعية في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانية
إعداد :خالد بن إبراهيم الدعيجي 11/9/1424
05/11/2003
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: ففي ظل تنامي السوق المالية، وتطور شبكة الاتصالات الدولية، أدى ذلك إلى تنافس المصارف التجارية بجلب أكبر عدد من العملاء؛ لتوفير قدر أعلى من الربح: فقامت بتقديم خدمات مصرفية، وتسهيلات لعملائها،فأنشأت في ساحة التعامل المصرفي مجموعة من :" عقود الائتمان" منها:
1-بيع المرابحة للآمر بالشراء.
2-بيع الأجل.
3-الاستصناع.
4-بطاقات الائتمان.
وأوسع هذه العقود انتشاراً هي بطاقات الائتمان، إذ يصدرها نحو:"200" مائتي بنك في العالم في أكثر من "163" دولة، مستخدمة في أكثر من (12000000) محل تجاري في العالم، وللسحب والتمويل فيما يقرب من :"500000" مؤسسة مالية، وجهاز صرف إلكتروني، من خلال شبكات الصرف الدولية(1).(5/30)
وهذه البطاقات نشأت وتطورت في دول لا تحكم شرع الله في معاملاتها، وكانت في بنوك قائمة على الربا غير مراعية الشرعية الإسلامية، فداخل بعضها من الأوصاف، والشروط، ما يعلم قطعاً بحرمة بعضها، وبالتالي تلقفها المسلمون على ما فيها من مخالفات شرعية، وأعظمها القرض بفائدة المجمع على تحريمه.(2)
ولكن بتوفيق من الله، قامت جهود مخلصة في هيئات شرعية لدى البنوك الإسلامية، بتنقيح وتهذيب هذا النوع من البطاقات، حتى صيرتها بطاقات إسلامية .
وتتالت الهيئات الشرعية في البنوك بدراسة هذا النوع من البطاقات، ومحاولة أسلمتها، وتأصيلها، وتخريجها على ضوابط المعاملات وقواعدها، وذلك إما بإضافة شروط أو إلغائها، أو بتركيبها بعقدين أو أكثر حتى لا تقع فيما حرمه الله من الربا.
ومن ذلك ما قامت به الهيئتان الشرعيتان لدى البنكين الأهلي والسعودي الأمريكي، فقد قامتا بإصدار قرار بشرعية بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين التابعتين للبنكين، وأنهما متوافقتان مع الشريعة الإسلامية.
ولكن بعد التأمل في كيفية عمل هاتين البطاقتين، تبين للباحث أنهما تتضمنان مخالفات لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأسباب سوف أذكرها خلال البحث.
وهذه الورقات :هي بيان لبعض المخالفات الشرعية التي تضمنتها بطاقتا الخير والتيسير الائتمانية، ينتظم عقدها في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية في عمل البطاقتين.
علماً أني لن أتطرق في هذا البحث إلى بعض المسائل وهي :
1-التورق المصرفي.
2-البيع الفضولي.
3- التوكيل بالبيع والشراء، أي أن يتولى الوكيل طرفي العقد .
للأسباب التالية:
1-إن العمل الآن على جواز هذه المعاملات، وإن كان يوجد فيها خلاف قوي.
2-لعدم إطالة البحث، والخروج به عن مقصوده .
3-إن مسألة التورق المصرفي مثلاً من المسائل الشائكة، ولهذا سوف تُبحث في الدورة القادمة لمجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي، فمن الأولى عدم الاستعجال في بحثها؛ لأنه سيصدر فيها قرار من المجمع الفقهي.
وأخيراً:
فقد بذلت في هذا البحث جهدي وهو جهد المقل، فما أصبت فيه فمن الله تعالى وله الحمد والثناء، وما أخطأت فيه فمن نفسي وأستغفر الله.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وان يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على خاتم رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين
قال الفقهاء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقبل أن نبدأ بالحكم على البطاقتين لابد من تصوير عملهما، ومن ثم بيان حكمهما.
أولاً: تصوير عمل بطاقة تيسير الأهلي:
جاء في شروط وأحكام بطاقة تيسير الأهلي:
( ميعاد الاستحقاق:تستحق كافة الالتزامات المترتبة على حامل البطاقة نتيجة إصدار البطاقة أو استعمالها في تاريخ إصدار البنك لكشف الحساب، وبحيث يقوم حامل البطاقة بسداد قيمة الرصيد (كاملاً أو يلتزم بسداد الحد الأدنى الواجب دفعه 5% من كامل المبلغ المستحق أو مبلغ 250 ريالاً أيهما أكثر) إلى البنك خلال 20 يوماً من تاريخ إصدار كشف الحساب وبالتالي تنشيط حد التيسير للمبلغ المتبقي.
وفي حالة عدم تسديد المبلغ كاملاً أو الحد الأدنى على الأقل يقوم البنك ببيع سلعة معينة يملكها البنك قيمتها تقارب المديونية ويبيعها على العميل بيعاً فضولياً ويقسط الثمن على 24قسطاً، وفي حالة عدم اعتراض العميل بعد إبلاغه بهذا التصرف خلال عشرين يوماً من تاريخ الكشف اللاحق يعتبر هذا إجازة منه بذلك.) أ.هـ
التوضيح:
مما لا يخفى أن هدف البطاقة الائتمانية هو إقراض حاملها، وذلك إما بالسحب الفوري من مكائن الصرف، أو من خلال ضمانه لدى التجار، حيث إن البنك يدفع عنه مستحقاته لدى التجار ومن ثم يطالبه فيما بعد بالسداد، وغالباً تحدد المدة بشهر أو تزيد قليلاً.
فإذا شغلت ذمة حامل البطاقة بالدين نتيجة استعمالها إما بالقرض أو الشراء، فإن مصدر البطاقة( البنك الأهلي) يتيح له السداد من خلال طريقين:
الطريق الأول: إما بالتسديد النقدي لكامل المبلغ.
الطريق الثاني: إذا لم يسدد كامل المبلغ، وحل الأجل، يقوم المصرف بعملية التورق، وذلك ببيع سلعة معينة يمتلكها البنك … الخ. كما هو مبين سابقاً.
ولتوضيح الصورة أكثر، جاء في التعريفات في نفس الاتفاقية ما يلي:
التيسير: هو صيغة تمويل معتمدة من هيئة الرقابة الشرعية تتيح الحصول على النقد على سبيل التورق.
حد التيسير الائتماني: هو مبلغ التمويل الشخصي الائتماني المعتمد من البنك الأهلي التجاري(البنك) لحامل البطاقة بناء على طلبه ليكون الطريقة الثانية (بجانب التسديد النقدي) لسداد حساب البطاقة الائتمانية الذي ينتج عن استخدام البطاقة من قبل حاملها "حامل البطاقة".
استعمالات حد التيسير الائتماني: يستخدم حد التيسير الائتماني لسداد حساب البطاقة الائتمانية فقط ويتم استخدامه لهذا الغرض بتفويض من حامل البطاقة.
استخدام حد التيسير الائتماني: هو أمر حامل البطاقة البنك بشراء سلعة/سلع وإعادة بيعها لتسديد جزء أو كل دين البطاقة الائتمانية وبالتالي سداد ثمن تلك السلع على 24 قسطاً شهرياً.
ثانياً: تصوير عمل بطاقة الخير التابعة للبنك السعودي الأمريكي
جاء في اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية، الذي يصدرها البنك السعودي الأمريكي:
( في حالة عدم دفع كامل المديونية المطلوبة من عضو البطاقة فسوف يقوم سامبا بوقف البطاقة وفي حالة استمرار عدم الدفع يقوم سامبا بإلغاء البطاقة ولن يتم إصدار بطاقة بديلة إلا بعد سداد كامل المبلغ مع أن سامبا يتيح لعضو البطاقة فرصة لسداد المديونية عن طريق دخوله مع سامبا في عملية تورق تجنباً لإلغاء البطاقة.)
وجاء في نفس الاتفاقية:
( في حالة رغبة العميل في تغطية مديونية البطاقة عن طريق التورق تكون مدة البيع بالتقسيط 15 شهراً بمعدل ربح 16.30% على كامل المدة، وإذا كان المبلغ المتبقي على العميل أقل من خمسمائة ريال فلن يلبي البنك طلبه لتنفيذ عملية التورق.)
وجاء في الاتفاقية:
( نموذج وكالة)
أوكل السادة/ مكتب عبد العزيز القاسم للاستشارات الشرعية والنظامية في شراء سلع من إدارة الائتمان الشخصي لدى البنك السعودي الأمريكي (سامبا) بالتقسيط بغرض تنفيذ عمليات التورق في حال وجود رصيد مدين على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق أو بعده من كل شهر وذلك حسب سجلات البنك.
كما أنني أوكل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا ببيع السلع التي اشتريتها وذلك لطرف آخر حسب السعر السائد وقت البيع مع حق توكيل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا لطرف آخر لإتمام عملية الوكالة واستخدام المبالغ المتحصلة لتسوية الرصيد المدين على بطاقة الخير الائتمانية. ويعتبر هذا التوكيل غير قابل للنقض طالما كانت اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية سارية المفعول.)
وجاء في نشرة تعريفية لبطاقة الخير ما يلي:
(بطاقة الخير هي البطاقة الائتمانية الجديدة، الأولى والوحيدة المجازة من هيئة الرقابة الشرعية لدى سامبا والتي تستخدم في أي مكان حول العالم.
تتم عبر تنفيذ عملية التورق والتي من خلالها يقوم العميل بشراء سلع مملوكة من قبل البنك "معادن" بالأجل بسعر معين ويفوض البنك ببيع هذه السلع "معادن" حسب سعر السوق إلى طرف ثالث.(5/31)
المبلغ الناتج من عملية بيع السلع"معادن" سوف يتم استخدامه لتسوية الرصيد القائم على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق من كل شهر.)
وجاء فيها:
(متى يكون العميل مؤهلاً لتنفيذ عملية التورق؟
يجب على العميل على الأقل أن يقوم بتسديد الحد الأدنى المستحق على بطاقته في يوم تاريخ الاستحقاق، في حال عدم قيام العميل بسداد أي مبلغ فلن يتم تنفيذ عملية تورق. ويجب أن يكون المبلغ المتبقي بعد سداد الحد الأدنى يساوي خمسمائة ريال سعودي أو أكثر.)
التوضيح:
من الشروط المتفق عليها بين البنك المصدر وحامل البطاقة: أنه متى حل وقت السداد ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية تورق بسلع مملوكة للبنك، ومن ثم يسدد الدين المستحق على البطاقة، وينشأ دين آخر على حامل البطاقة بسبب عملية التورق ولكن يقوم بتسديده خلال (15) عشر شهراً.
أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي الخير والتيسير:
أما وجه الشبه:
فإن كل من البطاقتين تتيح لحاملهما سداد الدين -الذي أستحق بسبب استعمالهما – عن طريق إجراء عملية تورق، وذلك ببيع سلع مملوكة للبنكين على حامل البطاقة، ومن ثم يتولى البنكان بيع هذه السلع لمصلحة العميل على طرف ثالث، وتؤخذ القيمة ويسدد بها الدين الأول، وينشأ بعد ذلك دين جديد على حامل البطاقة يسدده خلال مدة معينة.
أما أوجه الاختلاف فكما يلي:
أولاً: تختلفان في عملية إجراء التورق:
ففي بطاقة التيسير عن طريق البيع الفضولي، حيث يتولى البنك إجراء عمليتي الشراء لحامل البطاقة والبيع لطرف ثالث لأجل مصلحة حامل البطاقة، ويعتبر التصرف نافذاً خلال عشرين يوماً إذا لم يعترض حامل البطاقة
أما بطاقة الخير فعن طريق التوكيل لطرف ثالث بشراء السلع، ومن ثم توكيل إدارة الائتمان الشخصي ـ وهو تابع للبنك الأمريكي ـ ببيعها لطرف آخر.
ثانياً: معدل الربح في بيع التورق
ففي بطاقة الخير : معدل الربح 16.15% وهو أكثر بكثير من معدلات الربح العالمية في بيع الأجل والمرابحة، بل إنه يشبه إلى حد ما معدلات الفائدة على بطاقات الائتمان الربوية العالمية، حيث أنها تحتسب أكثر فائدة ربا على مستعمليها مقارنة بمعدلات الفوائد الربوية الأخرى.
أما بطاقة الخير فلم يذكر بشأن معدلات الربح شيئاً.
ثالثاً: مدة الأجل في سداد عملية التورق.
ففي بطاقة التيسير (24) شهراً، أما في بطاقة الخير (15) شهراً.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية لعمل البطاقتين
من خلال الوصف السابق لعمل البطاقتين، يتضح للباحث أن فيهما مخالفات شرعية جلية، يمكن إيضاحها كالتالي:
المخالفة الأولى: أنهما من قلب الدين المجمع على تحريمه.
فسداد الدين في هاتين البطاقتين يتم عن طريق قلب الدين.
وقلب الدين: هو زيادة الدين في ذمة المدين بأي طريق كان.
قال شيخ الإسلام:" وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسرا : لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها ; بل يجب إنظاره وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره"(3).
وجاء في مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى (4):( وحرم قلب دين ) مؤجل على معسر لأجل ( آخر اتفاقا ) قال الشيخ تقي الدين : ويحرم على صاحب الدين أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين , ومتى قال رب الدين : إما أن تقلب الدين , وإما أن تقوم معي إلى عند الحاكم , وخاف أن يحبسه الحاكم ; لعدم ثبوت إعساره عنده , وهو معسر , فقلب على هذا الوجه , كانت هذه المعاملة حراما غير لازمة باتفاق المسلمين , فإن الغريم مكره عليها بغير حق , ومن نسب جواز القلب على المعسر بحيلة من الحيل إلى مذهب بعض الأئمة فقد أخطأ في ذلك وغلط.
وقال الشيخ السعدي – رحمه الله - : " أعظم أنواع الربا قلب الدين على المدينين، سواء فعل ذلك صريحاً أو تحيلاً؛ فإنه لا يخفى على رب العالمين، فمن حل دينه على غريمه، ألزم بالوفاء، إن كان من المقتدرين، ووجب على صاحب الحق إنظاره إن كان من المعسرين"(5).
وقد اصطلح الحنابلة على تسمية هذه المعاملة بقلب الدين، بينما المالكية يسمونها : فسخ الدين بالدين.
قال الإمام القيرواني:" ولا يجوز فسخ دين في دين، مثل أن يكون شيء في ذمته، فتفسخه في شيء آخر لا تتعجله" (6) وقال: " وكان فسخ الدين أشد في الحرمة؛ لأنه من ربا الجاهلية"(7).
بل عده المالكية من أشد صور بيع الكالئ بالكالئ الذي هو محرم بالإجماع(8).
وقلب الدين له طريقان:
الطريقة الأولى:قلب الدين صراحة، وذلك بقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ويقول المدين: أنظرني أزدك. وهذا هو ربا الجاهلية.
الطريقة الثانية: قلب الدين بالحيلة، وهذا ما يتفنن به أكلة الربا، فيعمدون إلى معاملات ظاهرها الصحة؛ لأجل قلب الدين على المدين، ولهذه الطريقة عدة صور:
1-منها: أن يكون في ذمة شخص لآخر دراهم مؤجلة فيحل أجلها وليس عنده ما يوفيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفيني فيدينه فيوفيه، وهذا من الربا بل هو مما قال الله فيه : :(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [آل عمران:130] وهذه الصورة من أعمال الجاهلية حيث كان يقول أحدهم للمدين إذا حل الدين : إما أن توفي وإما أن تربي. إلا أنهم في الجاهلية يضيفون الربا إلى الدين صراحة من غير عمل حيلة وهؤلاء يضيفون الربا إلى الدين بالحيلة(9).
2-ومنها: أن يكون لشخص على آخر دين فإذا حل قال له: إما أن توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني ويكون بين الدائن الأول والثاني اتفاق مسبق في أن كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه ثم يعيد الدين عليه مرة أخرى ليوفي الدائن الجديد.أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه ويكون بين الدائن الأول والمقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين. فإذا أوفى الدائن الأول قلب عليه الدين ثم أوفى المقرض ما أقترض منه، وهذه حيلة لقلب الدين بطريق ثلاثية(10).
3-ومنها: إذا حل الدين على المدين مثلاً(مائة ) ولا وفاء عنده، وأراد أن يدينه أيضاً مائة، جعل فائدة المائة الجديدة مضاعفة، فإن كانت فائدة المائة الأولى 2%، جعل فائدة المائة الثانية 4%، مراعاة للمائة الحالة، والمدين يلتزم بذلك لاضطراره(11).
4- ومنها: أن يكون للرجل دين على آخر، فيحل أجل الدين، وليس عند المدين ما يوفي به دينه، فيحتال الدائن ويعطي المدين المعسر نقوداً على أنها رأس مال سلم، لمبيع موصوف مؤجل في الذمة، ثم إن الدائن يستوفي بهذه النقود عن دينه السابق (12).وجاء في الدرر السنية: ومنها – أي المعاملات الربوية - : قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم، ولم يقدر على الوفاء أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحاً، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه؛ والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه(13).
وقد حرر هذه المسألة الموفق رحمه الله وقال : إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلماً في طعام إلى أجل، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وعن ابن عمر أنه قال: لا يصلح ذلك. وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن ديناً كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع(14).(5/32)
5-ومنها: من له دين على شخص قد حل أجله فطالبه به فوجده معسرا بجميعه , ووجد عنده سلعة لا تفي به فأخذها منه في جميع الدين , ثم باعها له بأكثر من الدين , فهذا لا يجوز أيضا ; لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تعد لغوا , وكأنه فسخ ما في ذمة المدين في أكثر منه ابتداء فهو ربا الجاهلية(15).
6-ومنها: ما جاء في الموطأ : ( قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل قال مالك هذا بيع لا يصلح , ولم يزل أهل العلم ينهون عنه قال مالك , وإنما كره ذلك ; لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه , ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة , ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه فهذا مكروه , ولا يصلح , وهو أيضا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه الدين إما أن تقضي , وإما أن تربي فإن قضى أخذوا , وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل ) . أهـ. قال الباجي : وهذا على ما قال ; لأن من كان له على رجل مائة دينار إلى أجل فاشترى منه عند الأجل سلعة تساوي مائة دينار بمائة وخمسين فقضاه دينه الأول , وإنما قضاه ثمن سلعته , وزاد خمسين دينارا في دينه لتأخيره به عن أجله فهذا يشبه ما تضمنه حديث زيد بن أسلم من بيوع الجاهلية في زيادتهم في الديون عند انقضاء أجلها ليؤخروا بها , ويدخله أيضا بيع وسلف ; لأنه إنما ابتاع منه هذه السلعة بمائة معجلة وخمسين مؤجلة ليؤخره بالمائة التي حلت له عليه , ووجوه الفساد في هذا كثيرة جدا(16).
7-ومنها : ما جاء في فتاوى شيخ الإسلام : " وسئل عن رجل له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر فاشترى له بضاعة من صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه . فهل تصح هذه المعاملة ؟ فأجاب : لا تجوز هذه المعاملة ; بل إن كان الغريم معسرا فله أن ينتظره . وأما المعاملة التي يزاد فيها الدين والأجل فهي معاملة ربوية وإن أدخلا بينهما صاحب الحانوت . والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله لا يطالب بالزيادة التي لم يقبضها "(17).
فإذا تقرر أن ما يجري عمله في بطاقتي الخير والتيسير إنما هو من قلب الدين المجمع على تحريمه، فإن من تعامل بها فإنه سيقع لازماً بمخالفتين عظيمتين،:
أحدهما: الوقوع في ربا الجاهلية.
الثاني: التحايل على الربا.
وإليك إيضاح ذلك .
المخالفة الثانية :أنهما داخلتان في ربا الجاهلية" إما أن تقضي وإما أن تربي".
إن أسوأ أنواع الربا وأشدها تحريماً هو ربا الجاهلية الذي يزيد فيه الدين لأجل تأخير الوفاء، فإذا حل الأجل قال الدائن:أتقضي أم تربي؟ ويقول المدين: أنظرني أزدك. وهذا هو الذي نزل فيه قوله تعال :يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [ آل عمران:130].(18) وقوله جل شأنه: ( أضعافاً مضاعفة ) بيان لما يؤول إليه حال الربا من تضاعف الدين في ذمة المدين وما يترتب عليه من الظلم الفادح وأكل المال بغير حق. والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الربا تحريماً قطعياً لا يتطرق إليه أدنى شك.
وجه الشبه بين ربا الجاهلية و عمل البطاقتين:
أن ما يحدث في بطاقتي الائتمان المشار إليهما هو من هذا الباب، فالبنك المصدر للبطاقة يخير العميل بين وفاء دينه الذي حل أجله وبين تأخير الوفاء مع زيادة الدين في ذمته من خلال التورق، ثم إذا حل أجل الدين الجديد تكرر الأمر مرة أخرى، فينمو الدين ويتضاعف في ذمة المدين، وهذا عين ربا الجاهلية. ولا يؤثر في هذه الحقيقة كونها تتم من خلال سلع أو بضائع غير مقصودة لأي من الطرفين؛ فإن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالصور والمباني. والله شرع البيع والشراء لتحقيق مصلحة الطرفين، لا للاحتيال به على الربا.
ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام مالك:( قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل قال مالك هذا بيع لا يصلح , ولم يزل أهل العلم ينهون عنه قال مالك , وإنما كُره ذلك ; لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه , ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة , ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه فهذا مكروه , ولا يصلح , وهو أيضا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه الدين إما أن تقضي , وإما أن تربي فإن قضى أخذوا , وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل ) . أهـ.
فالإمام مالك -رحمه الله – جعل هذه المعاملة التي فيها قلب للدين شبيهة بربا الجاهلية إما أن تقضي وإما أن تربي، و أما قول الإمام مالك " وإنما كُره ذلك" ليس المراد به الكراهة التي يحدها الأصوليون : ما نهي عنه نهياً غير جازم، أو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، بل المراد بالكراهة عند السلف التحريم، خلافاً للمتأخرين فإنهم اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم(19).
المخالفة الثالثة: أن فيهما تحايلاً على الربا.
من خلال ما سبق، تبين للباحث أن عمل البطاقتين ما هو إلا تحايل على الربا، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاحتيال على ما حرمه الله تعالى بقوله:" لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"(20).
وقال صلى الله عليه وسلم:"قاتل الله اليهود،حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها"(21).
وحقيقة الحيلة المحرمة أنها توسل بعمل مشروع لتحقيق غاية محرمة، فالبيع مشروع لكن التوسل به الزيادة الدين في ذمة المدين مقابل تأخير الوفاء توسل لغاية ونتيجة محرمة، فيكون البيع في هذه الحالة حيلة محرمة
قال الموفق:" ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة" (22)، وقال:" الحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله"(23).(5/33)
وقال ابن القيم رحمه الله :" النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله : { إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى } فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية , ولهذا لا يكون عمل إلا بنية , ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال , وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا , ولا يعصمه من ذلك صورة البيع …وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه ; فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله , ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له , لا في عقل ولا في شرع ; ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه , ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله , ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه , ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين , ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله , ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع . وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك , فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك .
قال الخطابي : في هذا في الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرم ; فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه .
إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين : أحدهما : أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحما , وصار ودكا , كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك ; فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال , ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما , وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ; فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة , لا في شرع ولا في عقل ولا عرف , بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها , فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص ; فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله . هذا لا يأتي به شرع ; فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه، فيا لله العجب , أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع ؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله هو من أكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ؟ ويا لله , كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له ؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله .
ويا لله العجب , أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عودا من حطب أدخلوه محللا للربا , ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر , وأنها ليست مقصودة بوجه , وأن دخولها كخروجها – تهاونوا بها , ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول , ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة , بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة , وكل هذا وقع من أرباب الحيل , وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا : أي سلعة اتفق حضورها حصل بهذا التحليل."(24)
المخالفة الرابعة: أنهما داخلتان في حديث " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع".
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع،ولا ربح ما لم يضمن،ولا بيع ما ليس عندك"(25)
قال ابن القيم – رحمه الله - :" وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك."(26)
ووجه الشبه بين هذا التفسير للحديث وعمل البطاقتين:
أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها: هي علاقة مقرض يتمثل في مصدر البطاقة، ومقترض هو حامل البطاقة.
فحامل البطاقة إما أن يشتري سلعاً ومن ثم يقوم البنك بالسداد، ويكون هذا المبلغ ديناً في ذمة حامل البطاقة، أو أنه يسحب مبلغاً نقدياً من مكائن الصرف، وفي كلا الحالتين تكون ذمة حامل البطاقة مشغولة للبنك المصدر لها، ويحدد له يوماً يقوم بسداد الدين فيه.
وعند الرجوع إلى اتفاقية عمل البطاقتين نجد أن البنك السعودي الأمريكي وضع من ضمن الاتفاقية أنه متى حل سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه سوف يجري عملية تورق بالوكالة.
وأما البنك الأهلي فقد قرر في الاتفاقية أنه متى حل الدين فإنه سيجري عملية التورق من خلال التصرف الفضولي.
وفي كلا الحالتين: نجد أن البنكين اشترطا في عملية الإقراض أنه متى حل موعد سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية التورق، فهنا اجتمع في هذه المعاملة سلف وبيع.
المخالفة الخامسة: أنهما داخلتان في حديث " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة. وفي لفظ " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"(27).
قال الإمام الخطابي – رحمه الله - في بيان معنى الحديث:" كأن يسلفه ديناراً في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهر. فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مرتبين" معالم السنن (2/104)
وتوضيح ذلك: أن المراد به قلب الدين على المعسر في صورة بيع الدين المؤجل على المدين إلى أجل آخر بزيادة عليه.
ووجه الشبه بين هذا التفسير وعمل البطاقتين كالتالي:
ففي عمل البطاقتين لما حل الأجل وكان صاحب البطاقة مديناً للبنك بريالات، وليس عنده ما يوفيه، فكأنه باع هذا الدين بدين آخر إلى أجل مع زيادة، ولكن أدخلا بينهما سلعة عن طريق التورق. فاجتمع في المعاملة بيعان، فإما أن يأخذان بالبيع الأول وهو الدين الأقل، وإما أن يتمان البيع الثاني، فيقعان في النهي وهو الربا.
وهذا التفسير للحديث لا يمنع التفسير المشهور عن شيخ الإسلام وابن القيم بأن المراد بالحديث بيع العينة، من وجهين:
الأول: أن في كلا الصورتين تحايل على الربا.(5/34)
الثاني: إن من القواعد المقررة عند أهل العلم: أنه إذا احتمل اللفظ أكثر من معنى وليس بينهما تعارض فإنه يحمل عليهما.
فكل معاملتين ظاهرهما الصحة وباطنهما التحايل على أكل الربا فهما داخلتان في النهي الذي في الحديث، فيشمل الحديث بيع العينة وقلب الدين وغيرها من المعاملات.
وأخيراً:
هذه بعض المخالفات على هاتين البطاقتين، وأحسب أن هذا البحث ما هو إلا بداية لبحوث أخرى من العلماء وطلاب العلم المهتمين بهذه المعاملات، وإني أدعو الباحثين إلى تجلية هذا الأمر وزيادة بحثه، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم.
فوالله لو ترك هذا الأمر ومر مرور الكرام فلن يكون ربا في البنوك، وسينتهي الربا إلى غير رجعة بالتحايل عليه، وسيصعب رد الناس عنه إذا انغمسوا فيه.
ونحن بأمس الحاجة إلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه، فالأمة تعيش في عصر تكالب عليها أعداء الله من كل جانب، والنصر لا يأتي إلا من عند الله، وكيف ندعو الله النصر؛ ونحن نحاربه بأكل الربا .
كما أدعو القائمين على الهيئات الشرعية الذين أجازوا مثل هذه المعاملات أن يبينوا لنا مسلك إباحتهم لهذه المعاملة بالأدلة الصريحة الصحيحة، حتى تظهر للعيان حجج الطرفين ومسلك كل فريق.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وان يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على خاتم رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) بطاقات الائتمان، للشيخ بكر أبو زيد ص 11
(2)انظر: الإجماع لابن المنذر ص 95، المغني (6/436) ط هجر.
(3) مجموع الفتاوى (29/419)
(4) (3/62)
(5) الفتاوى السعدية (ص 353).
(6) الفواكه الدواني 2/101.
(7) المصدر السابق.
(8)انظر: شرح حدود ابن عرفه ص253، الفواكه الدواني 2/101.
(9)رسالة المداينة للشيخ محمد العثيمين رحمه الله (ص 14-15).
(10)الفتاوى السعدية (ص 350)، رسالة المداينة (ص 15-16).
(11)الفتاوى السعدية (ص 352).
(12) نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب، للشيخ عبد الله البسام (3/86).
(13) الدرر السنية في الأجوبة الحنبلية (6/117). وهي فتوى لأبناء الشيخ محمد وهم:حسين وإبراهيم وعبدالله وعلي.
(14) المغني (6/410)، الإنصاف (4/34).
(15) الفواكه الدواني (2/102).
(16) المنتقى شرح الموطأ (5/66)6
(17)مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/439)
(18) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن ) (7/204).
(19) إعلام الموقعين (2/75-81).
(20) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقواه شيخ الإسلام في بيان الدليل ص55، ط المكتب الإسلامي.
(21) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام ( الحديث رقم 2236)، وأخرجه في كتاب التفسير، باب :" وعلى
الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" (الحديث رقم 4633)، وأخرجه أيضاً في كتاب
المغازي، باب:51، (الحديث رقم 4296)، ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، (الحديث رقم 4024).
(22) المغني (6/116).
(23) المغني (6/154).
(24) إعلام الموقعين 4/522-527).
(25) أخرجه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، (الحديث رقم 3504)، والترمذي في كتاب: البيع
باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، (الحديث رقم 1234)، والنسائي في كتاب:البيوع، باب :شرطان في بيع، ( الحديث
رقم (4644)، وأحمد في المسند (حديث رقم 6633). والحديث صححه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 6/177، وحسنه الألباني في إرواء الغليل 5/146-148.
(26) التعليق عل سنن أبي داود، (عون المعبود 9/402).
(27) أخرجه الترمذي في كتاب :البيوع ، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، (الحديث رقم 1231)،والنسائي في كتاب :البيوع
باب: بيعتين في بيعة،(الحديث رقم 4646)، وأحمد في المسند (حديث رقم 9795)، وحسنه الألباني إرواء الغليل (5/149.
============
الحرب على الله ورسوله
د. سامي بن إبراهيم السويلم 23/9/1424
17/11/2003
أثارت موجة التفجيرات الأخيرة في الرياض كثيراً من التساؤلات: ما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟.
إذا رجعنا إلى القرآن العظيم؛ فلن يكون عسيراً أن نمسك بخيوط المشكلة.
إن مجتمعنا -ولله الحمد- يدين بالتوحيد، ولا توجد دعوة تناقض هذا المبدأ، ظاهراً على الأقل. وإذا كان كذلك فلننظر في الانحرافات الأخرى، وأيها يمكن أن يؤدي إلى هذا الوضع.
إن الاضطراب وانعدام الأمن قرين الحرب، فما هي المعصية التي توعدها الله تعالى بالحرب؟.
لن نجد صعوبة في الجواب عن هذا السؤال، إذ ليس في القرآن ذنب توعد الله أهله بالحرب سوى ذنب واحد: الربا. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: "إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أر شيئاً أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب." (الجامع لأحكام القرآن 3/364).
لقد تطاولت قلاع الربا في بلادنا، واستفحلت الديون الربوية، حتى صار الاقتصاد بأكمله رهناً للمرابين. وتجاوزت الديون الحكومية 600 مليار ريال، تدفع عليها فوائد سنوية تتجاوز 30 مليار ريال. ولمن تذهب هذه الفوائد؟ لا نحتاج إلى قدر كبير من الفطنة لندرك أنها تذهب للمتخمين بالمال الذين لم يجدوا أفضل من إقراضه بربا. إن 30 مليار سنوياً كفيلة بحل معظم المشكلات التي يعاني منها المجتمع، لكنها بدلاً من ذلك تذهب لجيوب المرابين الذين لا يزيدون الاقتصاد إلا وهناً وضعفاً. فالربا حيثما كان وأينما وجد، نزيف في الاقتصاد ونذير شؤم على البلاد.
والربا لا ينشأ من فراغ، بل هو نتيجة للإسراف والتبذير والإنفاق غير المشروع. ولهذا وصف الله -تعالى- المبذرين بأنهم (إخوان الشياطين)، ووصف المرابين بأنهم (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). فالتبذير والربا متلازمان، ولهذا كان كلاهما قرين الشيطان.
والربا بدوره لا يؤدي إلا إلى مزيد من التبذير والإسراف. فتتضاعف المشكلة، وتتفاقم البطالة، وتزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وترتفع حدة التوتر بين فئات المجتمع بشكل مخيف. ولا أمل في الخروج من هذه الدوامة إلا بالعودة الصادقة إلى الله، والحد من مظاهر الإسراف، واستئصال الربا من جذوره.
ما هو أسوأ من الربا
إذا كان الربا هو شر الذنوب؛ لأن الله تعالى آذن أهله بالحرب، فما هو الأسوأ من الربا؟
إنه التحايل على الربا والتلاعب بأحكام الشرع ليظهر الربا المحرم بمظهر البيوع المشروعة. إن اليهود قد أكلوا الربا صراحة، ومع ذلك لم يعاقبهم الله على ذلك في الدنيا بعقوبة عاجلة. لكنهم لما احتالوا على صيد الحيتان يوم السبت مُسخوا قردة، كما قال تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). لماذا يمسخون على الاحتيال على صيد الحيتان، ولا يمسخون على أكل الربا؟، مع أن الصيد أهون بكثير من الربا؟ لأن التحايل على شرع الله أعظم إثماً وأشد جرماً من المعصية المجردة. فالتحايل على المعصية استحلالٌ لها، والاستحلال أشد بمراحل من الوقوع في الذنب دون استحلال.(5/35)
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" [رواه ابن بطة بإسناد جيد]. فهذا نصٌ صريح أن التحايل على المحرمات استحلالٌ لها.
ويدل على ذلك أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" [رواه مسلم]. وذكر في الحديث الآخر: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف" ثم قال: "فَيُبَيّيتَهم الله ويضع العلَم ويمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة" [رواه بهذا اللفظ ابن ماجه بإسناد حسن]. فدل مجموع الحديثين على أن استحلال الخمر كان بتسميتها إياها بغير اسمها، وهذا من التحايل بلا ريب، كما يقول شيخ الإسلام [بيان الدليل في إبطال التحليل: ص63].
فهذا يدل أيضاً على أن التحايل على المحرمات تعجل عقوبته في الدنيا، وأنه أشد وأسوأ من الوقوع في المحرم بلا تحايل. ولهذا قال أيوب السختياني رحمه الله: "يتلاعبون بالله تلاعب الصبيان. لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي".
فإذا كان الربا سبباً للحرب على الله ورسوله، فما ظنك بالتحايل عليه، أليس أولى بالحرب والنكال المعجل في الدنيا قبل الآخرة؟
واليوم نشاهد ملء السمع والبصر تعاملات ألبست لباس الشرعية وأخرجت في صورة البيوع الجائزة، وهي في حقيقتها نقود حاضرة بنقود مؤجلة في الذمة أكثر منها. فهي في الصورة بيع وفي الحقيقة ربا النسيئة المحرم بالنص والإجماع. بل بلغ الأمر إلى حد الاحتيال على أسوأ أنواع الربا، وهو ربا الجاهلية، الذي نتيجته زيادة الدين مقابل تأخير الوفاء، أو "أنظرني أزدك." فلم يقتصر التحايل على الفائدة البسيطة، بل تجاوزه إلى الفائدة المركبة، التي تمنعها كثير من الأنظمة الوضعية ابتداء، ولا تقبل التحايل عليها بشكل من الأشكال، حتى قال بعض الغربيين: "إن المسلمين يتحايلون على دينهم بما لا يمكن أن نحتال به على قضاتنا." فإذا بلغ بنا الأمر إلى هذا المستوى، فما ظننا بالله؟ أننتظر من الله النصر والتأييد؟ أم نتخوف العقوبة والنكال والحرب في الدنيا قبل الآخرة؟
إن الله تعالى ليس بحاجة لنا حتى نقبل عليه بهذه الحيل والتلفيقات، ودين الله تعالى أعز من أن نتلاعب بأحكامه وشرائعه تلاعب الصبيان. فإذا أردنا لبلادنا السلم والأمن والرخاء، فلننبذ الخداع جانباً، ولنرجع إلى الله رجعة صادقة.
والله تعالى لا يسلط على قوم الخوف بعد الأمن، والهزيمة بعد النصر، إلا بذنوبهم. وليس بعد الأنبياء أكرم على الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لما أصيبوا يوم أحُد تساءلوا: من أين جاءت الهزيمة؟ فرد الله عليهم بقوله: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم). فالعلاج يبدأ من عندنا وأسبابه بأيدينا، فإن فرّطنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا
===============
النقود: أثمان أم سلع؟
د. يوسف بن أحمد القاسم 26/3/1427
24/04/2006
قبل أكثر من ستة قرون، صرخ أحد علماء القرن الثامن الهجري صرخة اهتز لها جبل قاسيون بالشام، ووجد لها صدى في أنحائه، إلا أنها لم تجد لها صدى في بني قومه، فوقع ما لم يكن بالحسبان، وحل ما حذر منه عالم ذلك الزمان، ثم هاهو التاريخ يعيد نفسه، فحل بنا ما حل بهم !! فمن هو يا ترى ذلك الإمام ؟
وما هي تلك الصرخة التي اهتز لها قلمه، وعبر عنها بنانه ؟
وما هي نتيجة تجاهل تلك الصرخة ؟
وكيف أعاد التاريخ نفسه ؟
أما الإمام، فهو: العلامة ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) وأما الصرخة، فهي: إنكاره على بني قومه اتخاذهم النقود سلعاً، يتاجرون بها، ويعدونها للربح، فكانت النتيجة المؤسفة ؛ حيث عم الضرر، ووقع الظلم .هذا ملخص ما جرى، وأدع الحديث للإمام ابن القيم، فهو حي بيننا بكتبه, شاهد عدل بعلمه وفقهه,إذ يقول في كتابه إعلام الموقعين(3/401) : " الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض, فتفسد معاملات الناس, ويقع الخلف, ويشتد الضرر, كما رأيت من فساد معاملاتهم, والضرر اللاحق بهم، حين اتخذوا الفلوس سلعة تعد للربح, فعم الضرر, وحصل الظلم... فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوسل بها إلى السلع"أهـ
وقال في الطرق الحكمية(صـ350) : " ويمنع من جعل النقود متجراً ؛ فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها، ولا يتجر فيها "أهـ
وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وكأن ابن القيم يعيش واقعنا الحاضر، أو كأنه ينظر إليه من ستر رقيق ! ولذا، فإنه يستحق شهادة دكتوراه فخرية في المال والاقتصاد، وإن كنت أشك في حفاوته بها لو كان حياً .
نعم,أعاد التاريخ نفسه؛لأننا اليوم نرى ونسمع كثيراًعن تذبذب أسعار العملات,وما نتج عنه من تضخم في النقود وضعف قوتها الشرائية, كما هو مشاهد في بعض بلاد الشرق والغرب، وهذا له أسبابه السياسية, والأمنية، والاقتصادية ومن أبرزها العبث بهذا النقد الذي استخدم في غير ما صنع له, وهذا ماحذر منه العلامة ابن القيم آنفاً, وألمح إليه الفقيه الشافعي أبو حامد الغزالي(ت505هـ) في إحياء علوم الدين(4/91) والفقيه الحنفي ابن عابدين(ت1252هـ) في مجموعة رسائله(صـ57) حيث قال:" رأينا الدراهم والدنانير ثمناً للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمناً لها.. فليست النقود مقصودة لذاتها, بل وسيلة إلى المقصود"أهـ
وأصرح من هذا ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا, حيث قال في تفسير المنار(3/108):"وثم وجد أمر آخر لتحريم الربا من دون البيع، وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال, فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس, وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال "أهـ
وبهذا نقف على إحدى الحكم التي حرم لأجلها الشارع الربا، وهي أن المرابي يشتغل بالنقد عن المشاريع الإنتاجية، فيقل المعروض من السلع والخدمات, وبالتالي يزيد الطلب عليها, ومع كثرة النقد يقع التضخم، وهو ما عبر عنه بعض الاقتصاديين :( نقود كثيرة، تطارد سلعاً قليلة ) .
ومن هذا الوجه- وغيره- ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى المنع من المتاجرة بالعملات -لا بيعها وشراؤها للحاجة- ومن المضاربة بفروق الأسعار في سوق المال؛ ومن هؤلاء الفقهاء الدكتور محمد الشباني,كما في بحثيه( الربا والأدوات النقدية المعاصرة,والمضاربة بالأسهم والمشتبهات من المكاسب) وعلل ما ذهب إليه بأدلة, ومقاصد شرعية, جديرة بالنظر والتأمل، ومنها : أنه عد من المفاسد التي يؤدي إليها هذا النوع من التعامل، الضرر على الاقتصاد ككل؛ حيث يتوجه المال المدخر إلى المضاربة فيه، بحيث يصبح دولة بين المضاربين في الأسهم، يتحرك في دائرة واحدة لا يتعداها إلى غيرها ... الخ .(5/36)
وقد أشار إلى هذا المحذور وما يؤدي إليه من كساد,الشيخ أبوحامد الغزالي في إحياء علوم الدين(4/45) حيث قال:" إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة الربا من تحصيل درهم زائد نقداً أو آجلاً خف عليه اكتساب المعيشة,فلا يكد ويتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات,والحرف, والصناعة, والإعمار"أهـ
وبنظرة خاطفة إلى واقعنا منذ أربعة أشهر أو أكثر، نجد أن أموالنا أصبحت تصب في فوهة السوق حين غلت القيمة السوقية لبعض الشركات غلاء غير مسبوق, واقتصرت المضاربة على فروق الأسعار بعيداً عن الواقع الاقتصادي للشركات المساهمة، فأصبحت السلع هي النقود في الحقيقة,حتى ظهرت مقدمات الكساد في سوق العقارات, والسيارات ,...الخ، ولمس كثير من الناس ارتفاع قيمة إيجار الدور والمنازل ؛ لقلة المعروض, وأصبح هذا حديث الناس، كل هذا في فترة زمنية محدودة ! فما الظن لو استمر الحال سنة أو أكثر !!
ثم ألا يكفي هذا حافزاً- على الأقل-لإعادة النظر في حكم اتخاذ النقود سلعاً, وما تفضي إليه هذه المعاملات من مفاسد وأخطار على الفرد والمجتمع ؟ أم نحتاج إلى جنائز ومرضى ومفلسين أكثر عدداً، حتى تتحقق لدينا القناعة بذلك ؟!!
============
الرأسمالية بأبشع صورها
د. يوسف بن أحمد القاسم 25/3/1427
23/04/2006
لا يخفى أن من أبرز سمات الرأسمالية الغربية أنها تزيد الغني غنى، وتزيد الفقير فقراً . والسؤال الذي يطرح نفسه، هو : ما الفرق بين الربا الذي تمارسه البنوك الغربية والشرقية, والذي يجعل العميل مديناً حياً وميتاً، فيولد وهو مدين، ويعيش وهو مدين، ويموت وهو مدين !! ما الفرق بين ذلك الربا الجاهلي والمعاصر، وبين هذا الربا المقنن الذي تجريه بعض البنوك والمصارف باسم: (التورق المنظم) ؟! وما الفرق بين المواطن الذي ابتزه الغني أو البنك بالربا، وبين هذا المواطن الذي ابتزه المصرف أو البنك بالتورق المصرفي السيء الصيت، حتى ركبته الديون وورثها صاغراً عن صاغر ؟!!
في الواقع أن الفرق بينهما كالفرق بين من يلغ في الحرام باسم الزنا، وبين من يقنن الزنا ويلغ فيه باسم المتعة !! ولا فرق، بل هذا الأخير أشد حرمة من الأول ؛ لأنه استحل محارم الله بأدنى الحيل، وهي من أبرز صفات اليهود الذين حين حرمت عليهم الشحوم، أذابوها، ثم باعوها، فأكلوا ثمنها ! وحين حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت عمدوا إلى البحر فحفروا حوله الحياض، وشرّعوا منه إليها الأنهار، ثم فتحوا تلك الأنهار عشية الجمعة، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلم تقدر على الخروج لبعد عمق الحياض وقلة مائها، فلما جاء يوم الأحد أخذوها، فأنكر الله ذلك عليهم بقوله :( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) .
وهكذا الحال فيمن أكل الربا وأموال الناس بالباطل على سبيل المكر والخديعة والاحتيال، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل، فقال : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) . وهذا بخلاف من وقع في الذنب وهو مقر بخطيئته، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالخطيئة، وبأنه مذنب عاص، مع انكسار قلبه من ذل المعصية، وازدرائه على نفسه، ورجائه لمغفرة ربه، وعد نفسه من المذنبين، فلعل ما يقوم بنفسه من هذه المعاني يفضي به إلى الخير، والإقلاع عن هذه المعصية .
وهنا يرد تساؤل عن التورق المنظم، ما هو ؟ وما موقف العلماء منه قديماً وحديثاً ؟ وما أثر هذه المعاملة وأشباهها على اقتصادنا المعاصر ؟
والجواب : أن التورق المنظم، هو : أن يتولى المصرف البنك أو المصرف ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل، ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري، ثم يسلمه للمتورق . ثم إن البنك أو المصرف قد يكون مالكاً للسلعة ابتداء، وقد لا يكون مالكاً لها، فيسبقه مرابحة للآمر بالشراء . وبالنظر إلى واقع هذه المعاملة، نجد أنها غالباً ما تكون من العقود الصورية لا الحقيقية، حيث يقصد من ورائها دفع النقد لتحصيل نقد أكثر منه مؤجلاً، وأنها كما قال ابن عباس رضي الله عنه : ( دراهم بدراهم بينهما حريرة !! ) وهذا التورق المنظم ليس من العقود الحديثة، كما يظن البعض، بل جاء عن السلف بعض الآثار الدالة على وقوعه والنهي عنه، كما في مصنف عبدالرزاق ( 8/294) وابن أبي شيبة (7/275) . ولأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم، لذا فقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في أواخر سنة (1424هـ) بتحريم التورق المنظم، وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية . وقد أفتى بموجب هذا القرار جمع كبير من علمائنا المعاصرين، بل ومن خبرائنا في مجال الإقتصاد الإسلامي، وصرحوا بأن هذا النوع من العقود قد نتج عنه تراجع للأهداف الحقيقية التي لأجلها أنشئت المصارف الإسلامية، وعلى رأس قائمتها دعم التنمية، والإسهام في النشاط الحقيقي للإقتصاد في البلد، وذلك من خلال المشاركة,والاستصناع ,والإجارة, ونحوها من العقود التنموية الحقيقية، حتى تم اختزال ذلك كله في بيع النقد بالنقد باسم التورق، تحقيقاً للأرباح بأقل وقت ممكن، ودون مخاطرة أو مشقة، ولو كان ذلك على حساب ديننا, وأخلاقنا, واقتصادنا !! حتى أصبح المال دولة بين الأغنياء منا، ولذا أصبحوا يمارسون الرأسمالية في بلادنا بأبشع صورها
==============
المضاربة بالأسهم: متاجرة، أم مقامرة؟
د. يوسف بن أحمد القاسم (*) 13/2/1427
13/03/2006
حدثني من أثق به: أن مساهماً في إحدى الشركات المتردية أو النطيحة، قد بلغه خبر مفاجئ لم يصدقه من أول وهلة، وهو أن الشركة التي ساهم فيها منذ سنين بطريق(الخطأ!!) قد أفاقت من سباتها، وسادت بين الشركات بعد ترديها في ظلمات ثلاث، فارتفع مؤشر قيمتها السوقية ـ بين عشية وضحاها ـ من (150) ريالاً إلى (2600) ريال، ودون سابق إنذار!! وكأن دعوة صالحة في آخر الليل قد وافقت ساعة استجابة، فانتشلتها من بين الركام، ومن الحضيض إلى القمة، فما كان من أخينا المساهم الذي لم يسدد باقي القيمة الاسمية لأسهمه ـ لعدم قناعته المسبقة بجدواها الربحي ـ لم يكن منه إلا أن امتطى سيارته، متجهاً إلى المقر العام لتلك الشركة، وحين وصل إلى المقر كانت المفاجأة الأخرى، وهي أن هذه الشركة المجدولة في قائمة الشركات المتداولة لا يديرها إلا موظف واحد، من جنسية عربية، ومن قارة أفريقية، وهذا وحده هو المدير، وهو المسؤول، وهو موظف الصادر والوارد...الخ.
وحين سأله أخونا عن باقي الموظفين، أفاده الموظف المسؤول بأن الباقي هم أعضاء مجلس الإدارة، الذين يجتمعون مرة ـ أو أكثر ـ في كل عام!
وأما واقع نشاطها، فحدث ولا حرج، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
سدَّد المساهم باقي القيمة الاسمية لأسهمه، ثم قفل راجعاً، وهو عاجز عن حل هذه المعادلة؛ إذ كيف تبلغ القيمة السوقية لأسهم هذه الشركة أكثر من ألفي ريال، وهي بهذه الحال من الضعف والخور، وقلة ذات اليد.!! فما كان جوابه لنفسه إلا أن قال: ربما كان بفعل خارج عن العادة وقانون الطبيعة، كعصا موسى الذي انقلب إلى حية، أو كالحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً.(5/37)
فأجابته نفسه اللوامة: بأن هناك فارقاً بين واقع هذا الحجر، وواقع تلك الشركة، والفارق بينهما هو الفارق بين الحقيقة والخيال (أو السراب)، فالحجر قد أصبح بقدرة الله تعالى اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم، ولهذا قال الله تعالى عقب ذلك: " كلوا واشربوا من رزق الله".
وأما الواقع الآخر، فهو أشبه بسراب (بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) وأنى للظمآن أن يروى من السراب!! وبذلك انتهت فصول القصة، ولكن لم تقف آثارها عند هذا الحد.
فذلك السراب وإن وجده بعض المضاربين شيئاًَ، إلا أنه قد وجده كثيرون لا شيء، وجدوه كذلك وجرَّبوه. ولذا ترى هؤلاء العارفين بالسراب، يصفون أسهم هذه الشركة ـ وأمثالها ـ مما لا تتفق قيمتها السوقية، مع واقع ربحها وقوة استثمارها، بأن هذه الأسهم لها بطن من دون أرجل! حيث قد وصلت أسعارها إلى أرقام فلكية من دون سند اقتصادي حقيقي, حتى قرأت لغير واحد من خبراء المال والاقتصاد، من يصف المضاربة بهذه الأسهم بأنه ضرب من القمار! فهل هي قمار حقاً؟ أم هي مجرد مخاطرة؟ وهل كل مخاطرة قمار، أم لا؟ وإذا لم تكن قماراً، فهل يتجه القول بتحريمها لأنها نوع من أنواع الغرر، أو لما تشتمل عليه من المفاسد الراجحة؟
هذه التساؤلات أضعها بين يدي أهل العلم والبصيرة ليمعنوا النظر في هذه المسألة الشائكة، والتي أصبحت محل جدل وخلاف بين المعاصرين، وما هذا البحث المتواضع إلا مساهمة في إثراء هذا الموضوع, ولو بإثارة تساؤل ليس إلا، فأقول:
قبل الدخول في الموضوع، أنبه هنا بأن مقصودي من المضاربة: المتاجرة، كما هو المفهوم الشائع، لا المضاربة المصطلح عليها بين الفقهاء.
ثم إنه لا ريب أن الأصل في المعاملات الحل، ولهذا فإن الذي يطالب بالدليل، هو مدعي التحريم، لا العكس، وهذا أمر معلوم لدى أهل العلم، ومقرر في كتبهم.
وتعليقاً على التساؤل أقول:
لا يخفى على كل مراقب للسوق ـ ولمؤشر الشركات المساهمة تحديداً ـ أن القيمة السوقية لأسهم العديد من الشركات يرتفع ويهوي في غمضه عين، وربما يستمر هذا الارتفاع أو الانخفاض الحاد لفترة أسبوع، أو أقل أو أكثر، وبعد هذه المدة قد يصبح المضارب ثرياً في لمحة بصر، وقد يكون الواقع عكسياً فينحدر إلى مستوى تحت خط الفقر، لا سيما إن كان حاصلا على مال المضاربة بطريق القرض، ونحو ذلك، ولهذا حذر كثير من الاقتصاديين من المجازفة في الدخول بكل ما يملكه المضارب، لئلا تقع الكارثة. وهنا أقول: هل هذه المخاطرة قمار، كما سماها بعض الكتَّاب المهتمين بالسوق السعودية؟
الواقع أن المخاطرة أعم من القمار، فكل قمار مخاطرة، وليس كل مخاطرة قماراً.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول المخاطرة والقمار، فإنه اعتبر المخاطرة من المظاهر الطبيعية في المعاملات، ومن ثَمَّ فهي جائزة شرعاً، واعتبرها في موضع آخر من القمار المحرم، والحقيقة أن هذا الاختلاف في كلامه إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد؛ لأنه يمكن الجمع بين كلامه في الموضعين، فأما الموضع الأول الذي صرح فيه بالجواز، فهو في مختصر الفتاوى المصرية (ص532) حيث قال: "أما المخاطرة، فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، بل قد عُلِم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة" ثم قال في (ص533)" "وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلاً يرجو أن يربح فيها، ويخاف أن يخسر، فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، والتاجر مخاطر" أهـ.
وأما الموضع الثاني الذي صرح فيه بالمنع، فهو في كتابه العقود (ص229) حيث قال:"فإذا قيل: فهل يصح بيع المعدوم، والمجهول، والذي لا يقدر على تسليمه؟ قيل: إن كان في شيء من هذه البيوع أكل مال بالباطل لم يصح، وإلا جازت، وإذا كان فيها معنى القمار، ففيها أكل مال بالباطل، وإذا كان فيها أخذ أحدهما المال بيقين، والآخر (على خطر) بالأخذ والفوات، فهو مقامر، فهذا هو الأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو المعقول الذي تبين به أن الله أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وشرع للعباد ما يصلحهم في المعاش والمعاد. فإذا باعه ثمر الشجر سنين، فهذا قمار؛ لأن البائع يأخذ الثمن، والمشتري (على الخطر)، وكذلك بيع الحمل، وحبل الحبلة، ونحو ذلك" أ هـ
وهذا الكلام النفيس، يمكن الجمع بينه وبين الذي قبله، بأن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أجاز مطلق المخاطرة، كما في الموضع الأول، ولم يجز المخاطرة المطلقة، كما في الموضع الثاني، ووجه ذلك: أن كل معاملة لا تخلو من مخاطرة، وهذا ما لا يمكن منعه؛ لأنه مما يشق التحرز منه، ولأن يؤدي إلى المنع من كثير من المعاملات الجائزة، ويمكن ضبط هذه المخاطرة الجائزة بما كان الغالب فيها السلامة، كما يفهم هذا من كلام شيخ الإسلام حيث قال بعد كلامه الآنف الذكر ما نصه: "وإذا أكراه عقاره سنين جاز ذلك، ولم يكن هذا مقامرة؛ لأن العادة جارية بسلامة المنافع، ولا يمكنه أن يؤجر إلا هكذا، ولا مخاطرة فيها، فإن سلمت العين استقرت عليه الأجرة، وإن تلفت المنافع سقط عنه من الأجرة بقدر ما تلف من المنفعة فليست الإجارة معقودة عقداً يأخذ به أحدهما مال الآخر مع بقاء الآخر على الخطر، بل لا يستحق أحدهما إلا ما يستحق الآخر بدله" أهـ . هذا بالنسبة لمطلق المخاطرة.
أما المخاطرة المطلقة، فهي التي اعتبرها مقامرة، ويمكن ضبطها بما كان الغالب فيها الخسارة أو العطب، ولهذا حرَّم الله تعالى بيع المعدوم وبيع المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وبيع حبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فالبائع يضمن الثمن، وأما المشتري فهو على خطر بالأخذ والفوات، وقد اصطلح كثير من الفقهاء على تسمية هذا النوع من البيوع غرراً، وسماه شيخ الإسلام غرراً وقماراً، كما في كتابه العقود (ص227), حيث قال: "إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يكون الغرر مبيعاً، ونهى أن يباع ما هو غرر، كبيع السنين، وحبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعلل ذلك بما فيه من المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، كما قال: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) وهذا هو القمار، وهو المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، فإنه متردد بين أن يحصل مقصوده بالبيع، وبين أن لا يحصل، مع أن ماله يؤخذ على التقديرين، فإذا لم يحصل كان قد أكل ماله بالباطل" أ هـ.
وبهذا تعلم أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرى بأن مفهوم القمار أوسع من المفهوم الذي عليه كثير من أهل العلم، وهو أن القمار: التردد بين الغنم والغرم. فهذا عنده من القمار، وكذلك المخاطرة التجارية التي يتردد فيها حظ أحد المتعاقدين بين الأخذ والفوات، فهي عنده من القمار، وهو ما يعبِّر عنه بعض الفقهاء بالغرر.
بقي أن يقال: وهل في المضاربة بالأسهم مخاطرة مطلقة, بحيث يتردد فيها حظ المشتري بين الأخذ والفوات؟
وأترك الجواب لما نشر في جريدة الرياض في عددها رقم: (13752) الصادر يوم الجمعة (18/1/1427هـ ) تحت عنوان (سوق الأسهم يفقد 80.2 مليار ريال في دقائق): "... أدى الانخفاض السريع إلى إحداث حالة ذعر وخوف لدى المتداولين من حدوث نزول تصحيحي شامل جعلهم يتدافعون على البيع... الأمر الذي جعل القيمة السوقية للسوق تنخفض( 80.2 ) مليار ريال في دقائق..."(5/38)
وكثيراً ما نقرأ مثل هذا الخبر في صحفنا المحلية، حتى إن كثيراً من المضاربين قد لا يدركه الوقت لبيع ما لديه من أسهم، بسبب الانهيار المفاجئ والسريع للأسهم، بل امتدت موجة هبوط أسعار الأسهم لتقضي على عدد من المواطنين الذين توفوا نتيجة تعرضهم لأزمات قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وأصبحنا نسمع عن تدافع بعض السعوديين نحو عيادات الأطباء، مصابين بارتفاع في ضغط الدم، وغير ذلك.
وهذا الواقع المؤسف يقودنا إلى نقطة أخرى في الموضوع وهي أنه على القول بأن المضاربة بالأسهم ليست من المخاطرة المحرمة، فما هو مدى حجم المفاسد الناتجة عن المضاربة بالأسهم على الفرد والمجتمع؟ هل هي مفاسد راجحة فيمنع منها لهذه العلة، أو هي مرجوجة مغمورة في مصالحها الراجحة فتباح؟
والجواب على هذا السؤال لابد أن يكون ملامساً للواقع، فلا يصح أن يكون الجواب نظرياً مجرداً عن حقيقة ما يجري في هذا السوق.
والمتأمل للواقع، ـ كما يحكيه رأي الجريدة الاقتصادية الصادرة يوم الأربعاء (1/2/1427هـ) ـ يجده أشبه بمشهد مسرحي، حيث دفع سعار تداول الأسهم القاصي والداني للانخراط في مذبحة السوق، إذ باع راعي الغنم أغنامه، وراعي الإبل إبله، وصاحب الورشة ورشته، وصاحب البقالة بقالته (بل وباع صاحب المنزل منزله واستأجر لأهله وأولاده منزلاً أو شقة، وباع مالك السيارة سيارته، واستأجر له سيارة بأجر شهري) بادروا بذلك مدفوعين ببريق سوق منتعشة، تغريه ليل نهار بربح وفير، وحلم يلوح على البعد بالثراء أو اليسر على أقل تقدير. وكثير من هؤلاء من هجر عمله أو حقله أو حانوته، واختطف ما لديه من نقود، واستل حتى ما في جيبه، ثم ألقاه في فوهة فم السوق التي لا تشبع، وتقول: هل من مزيد؟! والنتيجة لهذا الواقع، ما يلي:
1- قيام المضاربين (البالغ عددهم مليونان تقريباً) بضخ السيولة في فوهة فم السوق، والنأي بها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، مما أدى إلى إحداث كساد في البلد لا يخفى على بصير.
2- أننا أصبحنا نقوم بعكس ما تفعله الأمم والشعوب، فعلى حين تستخدم هي أسواقها المالية من أجل توفير السيولة لتمويل المشاريع، قمنا نحن بضخ السيولة وجرفها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، كما صرح بذلك بعض خبراء الاقتصاد.
3-- أن هذه السيولة الكثيرة التي يضخها السوق، مع ما تعيشه الدولة من وفرة في الإيرادات النفطية ونحوها- بالإضافة إلى ذلك الكساد المشار إليه- ينذر بتضخم في النقد .
4- تعثر كثير من المضاربين الصغار، وهم الذين يمثلون الغالبية بين (الهوامير) مما أدى إلى انتكاسات خطيرة، كانت سبباً في تراكم الديون عليهم، وربما إلى وصولهم إلى مستوى تحت خط الفقر، وذلك في غمضة عين.
5- أن أسلوب المضاربة بالأسهم أفرز نقيض ما كان يحققه أسلوب الاستثمار بها، فالأسلوب الأول يقتصر على المضاربة على فروق الأسعار، أما الأسلوب الثاني ـ و هو الأصل ـ فهو الذي يعزِّز إنتاجية الشركة، ويعدو بها إلى مصاف الشركات المتقدمة، وحيث إن الأسلوب الأول يتحقق بدون عناء أو مشقة كان التركيز عليه، حتى أصبح تأثيره سلبياً على أسلوب الاستثمار، بل حتى أصبحت الشركات نفسها تراهن عليه، وتشغل ما لديها من سيولة فيه، بدلاً من استثمار هذه السيولة في مشاريع ترتقي بالشركة إلى الأمام.
لهذا وغيره ـ مما تشهده الأسواق المالية عموماً من تلاعب، وعدم التزام بأحكام الشريعة في تعاملاتها، ـ صرَّح بعض العلماء بتحريم المضاربة بالأسهم، لما تؤدي إليه من أضرار بالغة بالفرد والمجتمع، ومن هؤلاء العلماء الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، كما صرح في بحثه عن الاختيارات المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، في العدد السابع (1/270) حيث صرح فيه بأنه يميل إلى المنع. وهو رأي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وعلل تحريم المضاربة بها بأنها قمار محرم، كما شافه بذلك عدداً من طلابه.
وهذا الموضوع جدير بأن يعاد فيه النظر من قبل المجامع العلمية، وما يكتنف هذه المعاملات من مصالح ومفاسد، ومدى شبه هذه المضاربات بالقمار، حتى يصدر الناس عن رأي موثوق به، يدرس الموضوع من كل جوانبه، ويحدد مواقع الزلل، ويضع الحلول الشرعية المناسبة، والله تعالى أعلم، وأحكم.
(*) عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
=============
موقف العامة من خلاف المفتين
د. يوسف بن أحمد القاسم 24/12/1426
24/01/2006
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد تميز عصرنا الحاضر بالتقدم التقني في مجالات عديدة، ومنها التقدم في المجال الإعلامي، وتنوع وسائل الاتصال الحديثة، وقد كان لهذه التقنية الحديثة جوانب إيجابية كثيرة وأخرى سلبية.
ومن جوانبها الإيجابية -ولا شك- توظيف هذا الإعلام في خدمة العلم الشرعي، بأسلوب التعليم، أو الإفتاء، أو نحو ذلك مما لا يخفى، مما أدى إلى تذليل الكثير من العقبات، وتيسير العديد من الصعاب، حيث أصبح العلم يصل بكل يسر وسهولة إلى فرد الأسرة وهو في بيته، وإلى السائق وهو في سيارته، وإلى الموظف وهو في عمله، وإلى التاجر وهو في متجره، وهذا بخلاف ما كان عليه الحال في أزمنة سابقة، حيث كان المستفتي يرحل -أحياناً- من أجل مسألة، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي (ت 462هـ) في الفقيه والمتفقه (2/375) حيث قال: "أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محله وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة" أهـ.
وبكل حال، فإن البرامج المشار إليها، مع ما فيها من فوائد جمة، ومصالح راجحة، إلا أنها كانت سبباً في بث العديد من الفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة، مما أدى إلى وقوع اللبس لدى العامة، حتى كثر سؤالهم عن موقف المستفتي من هذا الخلاف، هل يأخذ برأي الجمهور، أم بالرأي الأشد؛ لأنه الأحوط، أم بالرأي الأخف؛ لأنه الأيسر،...أم ماذا؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل، أمهِّدُ له بالتنبيهات الآتية:
التنبيه الأول: أنه يجب على العامي أن يستفتي من يثق به ممن يغلب على ظنه أنه من أهل العلم والدين، كما أشار إلى ذلك ربنا عز وجل إذ يقول: (فاسألوا أهل الذكر...) أي: أهل العلم. ولهذا قال ابن سيرين -رحمه الله-: "إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذه".
قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/376): "وإذا قصد أهل محله للاستفتاء، فعليه أن يسأل من يثق بدينه، ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم، ليقصده ويؤم نحوه، فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله". أهـ.(5/39)
وبناء عليه، فإنه لا يصح أن يستفتي العالم إذا كان فاسقاً، ولا العابد إن كان جاهلاً ولو كان إماماً لمسجد أو جامع، ولا أن يستفتي طالب العلم في بابٍ لا يحسنه، فلا يُسأل -مثلاً- في باب المعاملات المالية المعاصرة من لا يحسن فهمها، أولا يدرك واقعها، أو لا يحيط بتفاصيلها المؤثرة في الحكم، ولو كان عالماً شهيراً، يقصده العامة لشهرته لا لعلمه، كما حذر من ذلك العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين (6/119) حيث قال: "وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة أجهل منهم إليهم، وتعج منهم الحقوق إلى الله تعالى عجيجاً، وتضج الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل، فتيا، أو قضاء، أو تدريس، استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه، هذا حكم دين الإسلام" أهـ.
وهذا الكلام القيم من ابن القيم -رحمه الله- يجرنا إلى التنبيه الثاني وهو: أنه لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا علم المستفتي أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه لو كان خصماً قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" متفق عليه.
فالمفتي والقاضي في هذا سواء، ولهذا لا ينبغي للمستفتي أن يعمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن لها نفسه، ولم يسكن لها قلبه، ولو كان هذا المفتي ممن يتصدر للفتوى، كما يدل لذلك الحديث الذي حسنه النووي في أربعينه (ص47) عن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "... استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد في مسنده (4/227)، والدارمي في سننه (2/246)، وبنحو هذا صرح العلامة ابن القيم في الإعلام (6/192-193) وإذا كان هذا في زمانه، فكيف في زماننا الذي كثر فيه المفتون الذين يجرون وراء رخص الفقهاء بحجة المصلحة، أو التيسير على الناس..!! ثم قال كلاماً نفيساً، ما نصه: "ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها..." أهـ.
وكلامه القيم هذا -رحمه الله- يجرنا إلى التنبيه الثالث.
وهو: أنه لا يجوز للعامي أن يتتبع رخص الفقهاء، لا رخص الشارع، ففرق بين الأخذ برخصة الله تعالى، وبين تتبع رخص خلقه.
فالأول: مندوب إليه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وأما الثاني: فهو محرم بإجماع أهل العلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن عبد البر فيما حكاه عنه ابن النجار في شرح الكوكب المنير (4/578) حيث نقل عنه أنه قال: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً" أهـ. وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (لو أن رجلاً عمل بكل رخصة كان فاسقاً" وقال الإمام الغزالي -رحمه الله- في المستصفى (2/391): (لا يجوز للمستفتي أن يأخذ بمذهبٍ بمجرد التشهي، أو أن ينتقي في كل مسألة أطيبها عنده" أهـ.
وحكى الزركشي في البحر المحيط (6/325) عن النووي أنه سئل: (هل يجوز أن يُقلَّد غير المذهب في رخصةٍ لضرورةٍ ونحوها) فأجاب: (يجوز أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقط الرخص، ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك" أهـ.
ومن جليل ما نقل في سدّ ذريعة الترخص، ما رواه الإمام البيهقي في سننه الكبرى (10/211) بإسناده عن إسماعيل القاضي (ت282هـ) أنه قال: (دخلت على المعتضد (ت289هـ) فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنَف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر -أي النبيذ- لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب).
ومما تؤخذ منه العبرة في هذا الباب، ما قاله الإمام ابن الجوزي (ت597هـ) عن نفسه في كتابه الوعظي صيد الخاطر (2/304) ما نصه: "ترخصتُ في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طردٍ عن الباب، وبعد، وظلمة تكاثفت فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابُك من وجهين:
أحدهما: أنكِ تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتيت لم تفتِ بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادكِ هو ما ترضينه لغيركِ في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لكِ الفرح بما وجدتِ من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورُ في قلبك ما أثرَّ مثل هذا عندك. قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدِّري ما تركتِ جائزاً بالإجماع، وعُدِّي هجره ورعاً، وقد سلمتِ) أهـ.
فإذا تقرر: أنه لا يجوز تتبع الرخص، ولا تلقط الزلل، فما هو موقف العامي إزاء خلاف المفتين؟
في هذه المسألة خلاف قديم، حكاه غير واحد من أهل العلم، ومنهم ابن الصلاح (ت643هـ) في أدب المفتي والمستفتي (ص164)، حيث عدَّ في المسألة خمسة أوجه عن أصحابه الشافعية، وتابعه ابن حمدان الحنبلي (ت695هـ) في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص80)، واعتبرها خمسة مذاهب، ورجح ما رجحه ابن الصلاح -بالتفصيل الذي ذكره وبالعبارة نفسها- دون أدنى إشارة إلى ذلك! وهذه الأقوال هي:
الأول: أنه يأخذ بأغلظها، فيأخذ بالحظر دون الإباحة، لأنه الأحوط، ولأن الحق ثقيل، وهذا محكي عن أهل الظاهر، وأقوى ما استدلوا به حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين، وفيه (إن الحلال بيَّن، وإن الحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه...)
الثاني: أنه يأخذ بأخفها، لأنه الأيسر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بالحنيفية السمحة، وما خيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، كما ثبت بذلك الحديث، وفي التنزيل: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وهذا القول وجه عند الشافعية.
الثالث: يسأل مفتياً آخر، فيعمل بفتوى من يوافقه، وحاصل هذا أنه يأخذ برأي الأكثر، وهكذا لو كان في المسألة رأيان، أحدهما قول الجمهور، فيأخذ به، لغلبة الظن بصحة هذا الرأي، كتعدد الأدلة والرواة، وهذا القول هو وجه عند الشافعية.
الرابع: يتخير، فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا القول كما في البحر المحيط (6/313) نقله المحاملي عن أكثر أصحابه من الشافعية -وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/432) واحتج له: بأن العامي ليس من أهل الاجتهاد، وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة، وقد فعل ذلك، فوجب أن يكفيه، وكذا اختار هذا القول القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد، كما في شرح الكوكب المنير (4/580) وكذا اختاره المجد كما في المسودة (ص519).(5/40)
الخامس: يجتهد في الأوثق، فيأخذ بفتوى الأعلم، الأورع، واختار هذا القول السمعاني الكبير، كما حكاه عنه ابن الصلاح في أدب المفتي (ص165) فإن استويا تخير، وهذا هو اختيار ابن قدامة في الروضة (385) واختاره الغزالي في المستصفى (2/391) وصححه النووي في روضة الطالبين (11/105) وقرره من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين في كتابه الأصول من علم الأصول، كما في مجموع فتاواه ورسائله (11/82).
فإن كان أحدهما أعلم، والثاني أورع، ففي أيهمايقدَّم خلاف، والأصح عند ابن الصلاح الأول، كما في أدب المفتي (ص160).
هذا، وقد حكى هذه الأقوال الخمسة، العلامة ابن القيم في الإعلام (6/205) إلا أنه اعتبر الأخذ بقول الأعلم قولاً خامساً، والأخذ بقول الأورع قولاً سادساً، وزاد قولاً سابعاً، وهو: أنه يجب على العامي أن يتحرى، ويبحث عن الراجح بحسبه، ثم رجح هذا القول، وقال: "فيعمل، كما يعمل عند اختلاف الطريقين، أو الطبيبين، أو المشيرين" وهذا هو عين ما رجحه شيخه ابن تيمية فإنه قال في مجموع الفتاوى (33/168): "وأما تقليد المستفتي للمفتي، فالذي عليه الأئمة الأربعة، وسائر أئمة العلم: أنه ليس على أحد، ولا شرع له، التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه. ومنهم من يقول: بل يخيَّر بين المفتين إذا كان له نوع تمييز، فقد قيل: يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه فإن هذا أولى من التخيير المطلق. وقيل: لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد. والأول أشبه؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع، فله ذلك، وإن خالف قوله المذهب" أهـ. هذا، وفي المسألة أقوال أخرى حكاها الزركشي في البحر المحيط (6/313-315) وغيرُه من الأصوليين، ولكن أشهرها ما تقدم ذكره.
وبكل حال، فالأرجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو أن العامي إذا اختلفت عليه الفتوى، فإنه يجتهد حسب تمييزه، ويتقي الله حسب استطاعته، فإن ترجح له قول أحد المفتين لكونه الأعلم الأورع، أخذ بفتواه. فإن استويا في العلم والورع، أو شق عليه معرفة الأعلم منهما، ولكن ما استدل به أحدهما أقوى في الحجة وظهور الدليل مما استدل به الآخر، أخذ به، أو كانت نفسه تسكن لفتيا أحدهما، ويطمئن لها قلبه، دون فتيا الآخر، أخذ بهذا المرجح، وكذا لو ترجح له قول أحدهما، لكثرة من أفتى به من أهل العلم، أخذ به.. وهكذا. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الإعلام (6/137-138) موجهاً هذا القول (وقد نصب الله سبحانه وتعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله -سبحانه وتعالى- بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولابد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثرة له، ولابد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة..." أهـ.
وبهذا يظهر لك ضعف قول من قال: إنه يخيَّر بين القولين، وقد أنكر هذا القول ابن القيم في الإعلام (3/570) فقال: "وإن كلفنا بتقليد البعض، وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا، صار دين الله تبعاً لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا. وهو عين المحال" أهـ. وكذا أنكره الإمام الشاطبي في الموافقات (5/94-97) بكلام نفيس، أسوقه لأهميته، حيث قال ما نصه: "....وذلك أن المتخير بالقولين -مثلاً- بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكماً به، أو مفتياً، أو مقلداً عاملاً بما أفتاه به المفتي" فذكر حالة الحاكم به، ثم المفتي، ثم العامي -وهو المقصود- فقال: ( وأما إن كان عامياً، فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكَّم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب... وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي، فهو قائل له: (أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق) فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له: (في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت!) فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع. ولا ينجيه من هذا أن يقول (ما فعلت إلا بقول عالم) لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وحيلة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة..." أهـ.
ثم تكلم -رحمه الله- عن تتبع الرخص، وأنكر هذا بكلام نفيس، وكأنه يشير بذلك إلى أن القول بالتخيير هو من تتبع الرخص، أو أنه كالبوابة له.
ومثل ذلك: القول بالأخذ بأخف القولين، لأنه الأيسر... استدلالاً بحديث: "ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما..." أو بنحو هذا من الأدلة، فليس الاستدلال بهذا الحديث أو نحوه بأولى من الاستدلال بحديث الصحيحين: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..." للأخذ بأغلظ القولين.
وكلا الحديثين لا ينهض الاستدلال بهما لذلك، فلا الأول لجواز الأخذ بالأيسر، ولا الثاني لوجوب الأخذ بالأحوط، فغاية ما في الأول الندب إلى الأخذ بالأيسر فيما ثبتت إباحته، بخلاف مسألتنا، فهي فيما اختلف فيه، وغاية ما في الثاني كراهة الوقوع في الشبهات، وندب المسلم الورع إلى الابتعاد عنها، لا غير.
لهذا، وغيره فقد ردَّ الإمام الشاطبي هذا القول، وهو الأخذ بأخف القولين، وأجاب عنه بما نصه: "وهو -أي الأخذ بالأيسر- أيضاً مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفاً من الكلفة، وهي المشقة (قلت: لكنها مشقة معتادة) فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل، لزم ذلك في الطهارات، والصلوات، والزكوات، والحج، والجهاد، وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله، فإن رفع الشريعة مع فرص وضعها محال......." أهـ والله تعالى أعلم.
-===============
سوق الأسهم..على شفا انهيار
قراءة نقديّة لواقع المساهمات في السوق المحلي
د. يوسف بن أحمد القاسم * 22/11/1426
24/12/2005
ينطق واقعنا الحالي بما حدث به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمِن الحلال، أم من الحرام!!" أخرجه البخاري في صحيحه، وبوّب عليه (باب من لم يبال من حيث كسب المال)؛ فقد أصبح الحلال في نظر كثيرين هو ما حلّ في اليد أو الجيب، لا ما حلله الله تعالى، فلم يبالِ إن وقع المال في يده بسبب المساهمات الربوية، أو بسبب المضاربات والصفقات الناتجة عن طريق الغش والتدليس، أو عن طريق الكذب والتلبيس، أو نحو ذلك من الوسائل المحرمة في كسب المال؛ ولذا أصبح الواحد منا يدعو ويلحّ في الدعاء (يا ربّ يا ربّ) فلا يُستجاب له، ولو كان في سفر، أو كان أشعث أغبر!! لأن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!
وبنظرة سريعة لما يشهده سوق الأسهم المحلي، نرى كثيراً من المخالفات الشرعية، والتي نوجز الكلام في أبرزها عبر النقاط الآتية:(5/41)
نرى بعض المسلمين -وللأسف- يدخل في الربا من أوسع أبوابه، فيلغ فيه ولوغاً لا يطهره الماء ولا التراب، فتراه يستثمر في أسهم البنوك الربوية، أو يضارب فيها، أو في أسهم شركات لا تتورع عن الربا، إيداعاً واقتراضاً واستثماراً، وبأي نسبة كانت ولو كثيرة، والعاقبة أن يُمحق هذا المال، أو تُمحق بركته، كما قال سبحانه: (يمحق الله الربا)، وأما صاحبه فقد آذن بحرب من الله ورسوله، وما الظن بمن أعلن الله تعالى الحرب عليه - عياذاً بالله- هذا واقع.
وواقع ثانٍ: ممن جعل إشاعة الكذب مطيّته في تحقيق المكاسب وجني الأرباح، فترى مجموعة من المساهمين أو المضاربين في السوق يشترون أسهماً في إحدى الشركات بثمن بخس، وعلى سبيل التواطؤ، ثم يشيعون خبراً ما عبر منتديات الإنترنت وعبر رسائل الجوال، ونحو ذلك مما ينتشر معه الخبر انتشار النار في الهشيم، فيشيعون -مثلاً- بأن رأس مال تلك الشركة سيرتفع بسبب منحة، أو بأن للشركة مستحقات لدى الدولة سوف تتسلمها في القريب العاجل، أو بأنها ستوقع عقوداً معينة مع إحدى الدول،... إلخ، ويكذبون مع هذه الإشاعة مئة كذبة!! فيشيع الخبر في أوساط المضاربين، ولا سيما الصغار منهم ممن لا يعي حجم الخطر المحدق بهم، فيقبلون على شراء أسهم تلك الشركة، فترتفع قيمتها بسبب كثرة الطلب، ويبيع أولئك المشيعون للخبر ما لديهم من أسهم، ثم تهوي القيمة السوقية لتلك الأسهم، ويتضح أن هذا الارتفاع خيال لا واقع، فتقع الكارثة بسبب تلك الإشاعة الآثمة، وشعار هؤلاء المتلاعبين بالسوق المقولة السائدة "اشتر على الإشاعة وبعْ على الخبر!!" وهكذا تكون أموال الناس ألعوبة في أيدي من لا أخلاق له، ومن غش المسلمين فليس منهم. وهذا واقع ثانٍ.
وواقع ثالث: سببه الطلبات والعروض الوهمية، فهو نجش بصورة عصرية!! فترى بعض ضعاف النفوس -وللأسف- يعرض عبر شاشات التداول عروضاً وهمية من خلال بعض المحافظ التي يديرها بالوكالة، فيعرض -مثلاً- عشرة آلاف سهم بسعر معين في إحدى المحافظ، ثم يعرض من محفظة أخرى وفي بنك آخر عشرين ألف سهم بنحو ذلك السعر، وهكذا من محفظة ثالثة ورابعة...، ثم يشتري عدداً قليلاً من هذه الأسهم -كعشر المعروض مثلاً- من محافظ أخرى بالسعر المعروض، حتى يوهم من يراقب هذا التداول بأن لأسهم تلك الشركة قوة شرائية تستحق الاهتمام، وهو في الحقيقة مناقلة للأسهم بطريقة التدوير، فيقبل الأغرار من المضاربين بشراء أسهم تلك الشركة، فيبيع عليهم أسهمه بالسعر الذي خطط له، ثم تهوي القيمة السوقية مرة أخرى، فيرجع هو ويشتريها بثمن بخس، وهكذا يربح في الدخول والخروج، في البيع والشراء، وبأسلوب مبالغ في القبح والدناءة. وهذه صورة من صور النجش المحرم، والذي حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله:"ولا تناجشوا" قال الخطابي:"النجش: أن يرى الرجل السلع تُباع فيزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد بذلك ترغيب (السوام) فيها ليزيدوا في الثمن، وفيه غرر للراغب فيها..." وقال النووي: "وهذا محرم بالإجماع، والإثم مختص بالناجش إن لم يعلم به البائع". والبائع هنا في هذه الصورة هو الناجش!!
وتتجلى هذه الصورة من الكذب والتدليس في أسهم الشركات التي لا يتفق واقع الربحية في أسهمها مع واقع الشركة نفسها، أو بمعنى أوضح مع مواقع القيمة الدفترية للشركة، فربما ترى الشركة خاسرة من حيث الواقع، ومع هذا ترى المساهمين يضاربون في أسهمها بأرباح خيالية ربما تزيد في السوق على 100% أو 200% من قيمتها الحقيقية! وهذا واقع ثالث.
وواقع رابع: وهو عدم الشفافية في بثّ المعلومات المتعلقة ببعض الشركات المساهمة، بحيث لا يطلع على الأخبار المؤثرة في أسهم تلك الشركات إلا أفراد معدودون أو بعض (الهوامير) بلهجة السوق، وربما كان لأحد أعضاء مجلس إدارة بعض الشركات أثر سلبي في هذا الواقع، فربما بثّ بعض المعلومات لأحد (الهوامير) لعرض شراء الأسهم قبل ارتفاع قيمتها السوقية، وربما كان ذلك لنسبة بينهما فيشتري الأسهم بثمن بخس على حين غفلة من بقية المساهمين، ثم يبيعها بعد ذلك بسعر غالٍ بعد أن تُحقّق ارتفاعاً بسبب ظهور تلك المعلومة، لعلمهم المسبق بارتفاع سقف الأسهم لتلك الشركة، أو بدمج هذه الشركة مع أخرى... إلخ، مما يؤثر إيجاباً في قيمة تلك الأسهم... وهكذا في سلسلة طويلة من اللعب والعبث بأموال المساهمين وممتلكاتهم، والتي ربما تكون يوماً ما سبباً في انهيار الأسهم، مما ينذر بخطر -لا قدر- على أموال أولئك المساهمين.
وهنا أوجّه ثلاث رسائل:
الأولى: إلى هيئة سوق المال، بأن تقوم من سباتها، وأن تؤدي واجبها في هذا السوق، فتلاحق أصحاب الطلبات والعروض الوهمية وتعاقبهم، وتمنع أسلوب التدوير، وتحاسب أصحاب الإشاعة، وتطالب بتحقيق مبدأ الشفافية في بث المعلومات المتعلقة بجميع الشركات؛ لأن الشركة لا تخص مساهماً دون آخر، بل هي حق للجميع، كما عليها أن تراقب وتمنع كل ما من شأنه إلحاق الأذى بالمساهمين، وهنا أوجه رسالة بهذا الصدد، وهي أن صغار المساهمين يعانون تأخّر تنفيذ أوامر البيع والشراء؛ لأن البنوك والشركات تقوم بتسهيل هذه المهمة لكبار المساهمين دون صغارهم، فربما انخفضت القيمة السوقية لبعض الأسهم فلا يستطيع أولئك من بيع ما يخصهم من أسهم إلا بعد فوات الأوان، وهنا يجب تفعيل سرعة التداول بما يمكِّن الجميع من تحقيق نشاطهم على الوجه الأكمل، وبهذا يتحقق العدل بين جميع المساهمين صغاراً وكباراً.
والرسالة الثالثة: إلى أولئك المساهمين أو المضاربين بأن يتقوا الله تعالى، فيجتنبوا الحرام في مساهماتهم ومضارباتهم، وألاّ تكون هذه التجارة سبباً في انحرافات سلوكية وأخلاقية تجاه باقي المساهمين، كما لا ينبغي أن تشغلهم عن الحقوق الواجبة عليهم تجاه أهلهم وأولادهم، أوعن ذكر الله تعالى وعن الصلاة (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:36] والحقيقة أن هناك واقعاً مؤسفاً في انشغال الناس بهذه الأسهم، يصوره حال هذا الكاتب في إحدى المنتديات؛ إذ يقول بلهجته العامية: "أنا ابتعدت عن السوق، تعبت من متابعة الأسهم في فترة التداول، من الساعة الرابعة عصراً إلى الواحدة ليلاً، وثاني شيء ما تقدر تشوف أهلك ولا ربعك، كل الوقت في المكتب، وممنوع أحد يدخل عليك، والأهم الكرسي اللي تجلس عليه، تصدق -يخاطب أحد القراء في منتدى الإمارات للأوراق المالية- أنا عندي ثلاث كراسي، كل ساعة أو ثلاث ساعات أبدل الكرسي، أحسّ ظهري بينكسر...!!" وهذه الصورة الواقعية أسوقها دون تعليق.
* أستاذ مساعد بالمعهد العالي للقضاء-الرياض
================
زكاة الأسهم المتعثرة
د. يوسف بن أحمد بن عبدالرحمن القاسم 25/2/1426
04/04/2005
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد:(5/42)
فإن من أهم ما ينبغي أن تجرَّد لها الأقلام والمحابر ، وأن تستنهض لها همم الباحثين في مجال الفقه، هو استقراء المسائل النازلة ، واستنباط الأحكام الشرعية المناسبة لها من عموم أدلة الكتاب والسنة، أو من القواعد الشرعية، والمقاصد الكلية، مع محاولة استنتاج هذا الحكم من كلام أهل العلم بواسطة التخريج والقياس ، وبهذا يمكن أن نسدَّ ثغرة في هذا المجال المهم من مجالات العلم الشرعي.
هذا، وإن من المسائل النازلة في هذا العصر المتاجرة والاستثمار في الأسهم عبر الشركات المحلية وغيرها . وقد كتب في هذه النازلة العديد من الكتب والرسائل العلمية .
وفي الآونة الأخيرة قامت كثير من المساهمات عبر ما يسمى بشركات توظيف الأموال، مما أدى إلى وقوع التعثر في مساهمات عديدة، لسببٍ أو لآخر، وهنا وقع الكثير من المشكلات ، ومنها ما أشكل على كثير من المساهمين ، وهو مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم المتعثرة، وحيث لم أقف على بحث خاص بهذه المسألة ، فقد عقدت العزم - مستعيناً بالله وحده - على هذه المهمة ، ووضعت لهذا البحث المخطط الآتي:
أولاً: التمهيد، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بمفردات عنوان البحث.
المبحث الثاني: حكم زكاة الأسهم (غير المتعثرة).
ثانياً: موضوع البحث (زكاة الأسهم المتعثرة) ، وفيه فصلان:
الفصل الأول: حقيقة الأسهم المتعثرة.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: واقع الأسهم المتعثرة.
المبحث الثاني: أسباب تعثر الأسهم.
المبحث الثالث: مدى اعتبار القيمة السوقية للأسهم المتعثرة.
الفصل الثاني: حكم زكاة الأسهم المتعثرة.
وفيه تمهيد، ومبحثان:
المبحث الأول: التخريج على زكاة دين المعسر، والمماطل.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإعسار، والمماطلة.
المطلب الثاني: حكم زكاة دين المعسر، والمماطل.
المطلب الثالث: التخريج.
المبحث الثاني: التخريج على زكاة المال الضِّمار.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم المال الضِّمار.
المطلب الثاني: حكم زكاة المال الضِّمار.
المطلب الثالث: التخريج.
الخاتمة.
وبالله التوفيق.
التمهيد
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بمفردات العنوان:
أما الزكاة ، فهي في اللغة: من الزَّكاء، وهو النماء والزيادة ، يقال: زكا الزرع والأرض، تزكو، زُكُوَّاً. وسُمِّي القدر المخرج من المال زكاةً؛ لأنه سببٌ يرجى به الزكاء - يعني النماء - وزكَّى الرجل ماله تزكيةً، والزكاة اسم منه ، وإذا نسبت إلى الزكاة وجب حذف الهاء وقلب الألف واواً، فيقال (زكوي) (1).
والزكاة في الشرع: هي حقٌ يجب في المال، كما عرفها بذلك ابن قدامة في المغني (2).
وأما الأسهم ، فهي في اللغة : جمع سهم، وهو الحظ والنصيب، والشيء من مجموعة أشياء ، يقال أسهم الرجلان : إذا اقترعا، وذلك من السُهْمة. والنصيب: أن يفوز كل واحد منهما بما يصيبه، قال الله تعالى: "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" (3) ثم حمل على ذلك، فسمي السهم الواحد من السهام، كأنه نصيب من أنصباء ، وحظ من حظوظ ، وهذا هو أحد المعاني التي ذكرها ابن فارس (4) في تعريف السهم، وهو المتعلق بموضوعنا . وجاء في المعجم الوسيط (5): "ساهمه : قاسمه، أي أخذ سهماً، أي نصيباً معه، ومنه شركة المساهمة" أ.هـ .
والأسهم في الاصطلاح : هي ما يمثِّل الحصص التي يقدمها الشركاء عند المساهمة في مشروع الشركة، سواء أكانت حصصاً نقدية أم عينية، ويتكون رأس المال من هذه الأسهم .
وقيل هي: صكوك تمثِّل أنصباء عينية أو نقدية في رأس مال الشركة ، قابلة للتداول، تعطي مالكها حقوقاً خاصة (6).
وأما المتعثرة ، فهي في اللغة: من عَثَر، يَعْثُر، عِثاراً، إذا كبا ، أو سقط، ومنه العَثْرة: أي الزَلَّة، يقال: عثر به فرسه فسقط، وتعثر لسانه: تلعثم. والعواثير: جمع عاثور، وهو المكان الوعث الخشن؛ لأنه يعثر فيه . وقيل: هو الحفرة التي تحفر للأسد، واستعير هنا للورطة والخطة المهلكة . وأما العواثر، فهي جمع عاثر وهي حبالة الصائد، أو جمع عاثرة، وهي الحادثة التي تعثر بصاحبها (7).
والمتعثرة في اصطلاح الباحث: هي الأسهم التي لا يستطيع مالكها من الانتفاع بها ولا من تحصيل قيمتها .
وبهذا ندرك العلاقة الواضحة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، فالأسهم حين تعثرت، فإنها قد زَلَّت أو تأخرت عما أنشئت لأجله، كما أنها وقعت بصاحبها فلا يمكنه الانتفاع بها، وبهذا وقع في ورطة مالية، أو كأنه سقط في حفرة صيد لا يستطيع الخلاص منها .
المبحث الثاني
حكم زكاة الأسهم (غير المتعثرة)
الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي - في الأصل - واجبة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم -، وإجماع أمته، كما قاله ابن قدامة - رحمه الله - في المغني (8).
ومن الصور المالية المعاصرة: ما يسمى بالأسهم التجارية والأسهم الاستثمارية، والمتمثلة في شركات الأسهم أو الشركات المساهمة، وهي طريقة حديثة في الاستثمار والتجارة جاد بها التقدم العلمي في هذا العصر.
وقد اتفق العلماء المعاصرون على وجوب الزكاة في هذه الأسهم ، إما في أصلها، أو في ريعها . واختلفوا في كيفية زكاتها، وأرجح هذه الأقوال، وأقربها إلى الصواب، هو القول بالتفريق بين المساهمات التجارية فتأخذ حكم زكاة عروض التجارة، وبين المساهمات الاستثمارية ، والتفريق في المساهمات الاستثمارية، بين ما هو زراعي فيأخذ حكم زكاة الخارج من الأرض، وما هو حيواني فيأخذ حكم زكاة الحيوان، وهكذا … وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
مالك الأسهم لا يخلو ، إما أن يكون قصده في التملك التجارة بها بيعاً وشراءً وهي ما تسمى بالأسهم التجارية، فيشتريها اليوم ليبيعها غداً أو بعد غد، طلباً للربح في تداولها وتقليبها، فهذا تجب الزكاة عليه في جميع ما يملكه من أسهم ، سواء كانت الأسهم زراعية، أم صناعية، أم تجارية، أم حيوانية… الخ، فيزكي أسهمه بحسب قيمتها السوقية ، كل سنة .
وإما أن يكون قصد المالك للأسهم الاستثمار بها، بحيث يستفيد من عائدها السنوي، وهي ما تسمى بالأسهم الاستثمارية، فهو لا يشتري هذه الأسهم بنية بيعها ، وإنما بقصد الاستمرار في تملكها، فهذا يزكي أسهمه بحسب طبيعتها، فإن كانت أسهماً في شركة زراعية، ومجالها الاستثماري في زراعة الحبوب والثمار، فتخضع لأحكام الزكاة فيما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار مما يكال ويدخر، وإن كانت في شركة حيوانية كتربية الأنعام على سبيل الإنتاج والتسمين ، فتخضع لأحكام زكاة الحيوان ، وإن كانت في شركة تجارية تختص بتداول السلع بيعاً وشراءً كشركات الاستيراد ، فتخضع لأحكام زكاة عروض التجارة ، وإن كانت في شركة صناعية، كشركات الإسمنت والجبس والأدوية ونحوها، فتجب الزكاة في صافي أرباحها ، قياساً على زكاة ما يعد للكراء . وهذا القول المفصَّل هو الذي تجتمع به أدلة الزكاة ، وبه يرتبط الحكم بمناطه الذي أناط به الشارع وجوب الزكاة، وبه يزول التناقض والاضطراب الذي لحق ببعض الآراء المعاصرة.
وإلى هذا القول ذهب الشيخ عبدالله بن منيع (9)- حفظه الله - وغيرُه.
وفي هذه المسألة أقوالٌ أخرى ، ليس هذا التمهيد محل بسطها (10).
الفصل الأول
حقيقة الأسهم المتعثرة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: واقع الأسهم المتعثرة:(5/43)
في عصرنا الحاضر ، كثرت الشركات المساهمة وانتشرت، وتنوعت أغراضها وتعددت، وأقبل عليها الأغنياء ومتوسطوا الحال ، بل وربما محدودوا الدخل – بأموال حصلوا عليها بطريق القرض أو التقسيط – كل ذلك؛ لأجل تحصيل ما تجود به الأسهم من أرباح، دون مزيد عناء أو مشقة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهرت شركات أخرى غير مرخصة، وهي ما تسمى بشركات توظيف الأموال، تقوم بتحصيل الأموال من أربابها ، ثم تقوم بتوظيفها – أو تدعي ذلك أحياناً – في مشاريع عقارية أو غيرها، وربما أغرت الناس بأرباح مرتفعة، ليس لها مثيل في السوق المحلي، فيقبل عليها الناس زرافات ووحدانا، وغالباً ما يقع تعثر الأسهم في مثل هذا النوع من الشركات، حيث إنها لا تخضع لنظامٍ قانوني ولا محاسبي، فيكثر فيها التلاعب بأموال الناس دون رقيب، فربما تم تحصيل الأموال لغرض المساهمة في عقارٍ ما ، أو لأجل بيع وشراء سلعة ما، ثم يتم توظيفها لهذا الغرض ولأغراض أخرى، بل ربما كان بعض هذه الأموال هدفاً لأسلوب تدوير المال، أو لما يسمى بالتسويق الشبكي (11)، أو غير ذلك، ولا ينكشف الأمر إلا بعد إيقاف ضخ الأموال المساهمة إلى هذه الشركة، أو بعد تجميدها من الجهة الرسمية، وعند ذلك يظهر العجز ويقع التعثر، ولا يعلم المساهم بمقدار هذا التعثر الذي لحق بماله ، ولا بمدى إمكان الحصول على رأس المال أو لا.
ومن صور التعثر التي يكثر وقوعها في هذا العصر، ما يقوم به مجموعة من أرباب المال، من المساهمة في أرض عقارية – مثلاً – وبعد شراء العقار الخام لغرض المتاجرة فيه، يظهر خصم يدَّعي استحقاقه لهذه الأرض أو لهذا العقار، فتبدأ الخصومة في الجهة المختصة، وربما استمرت سنين عديدة، فتتعثر المساهمة، ولا يتمكن أربابها من استرجاع المال ولا جزء منه ، حتى تنتهي الخصومة ، وهكذا… في مسلسل طويل من الصور.
فإذا تعثرت هذه الأسهم، ولم يتمكن المساهم من استرداد رأس ماله ولا جزءٍ منه، مدة سنة أو أكثر، وكان هذا المال مما تجب فيه الزكاة في الأصل، فإنه يشكل على كثير من المساهمين مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم المتعثرة.
المبحث الثاني
أسباب تعثر الأسهم
مما تقدم، يتبين أن لتعثر الأسهم أسباباً عديدةً ، منها :
أولاً: توظيف الأموال في جهات مشبوهة لا يعلم بها المساهم ، كتوظيفها في مجال التسويق الهرمي، ونحو ذلك، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعثر مفاجئ ، لا يعرف سببه.
ثانياً: تجميد حسابات الشركة من قبل الجهات الرسمية، إما لأسباب غير قانونية وقعت فيها تلك الشركة، وإما لتظلم بعض المساهمين لدى الجهة المختصة ضد القائمين على تلك المساهمات بسبب تأخر صرف الأرباح، أو عدم التمكن من استرداد رأس المال، لأسباب غير معروفة لديهم.
ثالثاً: ظهور خصومة في بعض المساهمات العقارية - مثلاً - مما يستدعي إيقاف العمل في تلك المساهمة، حتى تفصل الجهة القضائية لصالح المساهمين، أو لصالح المخاصمين في ذلك العقار (محل المساهمة).
المبحث الثالث
مدى اعتبار القيمة السوقية (12)للأسهم المتعثرة
كثير من هذه الأسهم المتعثرة، يبادر أصحابها بالتخلص منها، وذلك ببيعها ولو بثمنٍ بخس، إما حاجةً لهذا المبلغ، وإما خوفاً من إفلاس الشركة، وربما أعلن عن هذه الأسهم المعروضة للبيع في أعمدة الصحف، فيبادر بعض الناس بشرائها بأقل من قيمتها المدونة في تلك العقود أو الصكوك ، طمعاً في تحصيلها من الجهة المعنيَّة والظفر بقيمة السهم التي تفوق سعر الشراء.
وهذه القيمة السوقية للأسهم المتعثرة لا اعتبار لها في الشرع ؛ لأنها مبنية على الغرر، وهو بيع ما هو مجهول العاقبة (13)، وهو – هنا – بيع ما هو مجهول القدر ، فالمشتري لهذه الأسهم لا يدري هل يحصِّل كامل قيمة السهم، أو كامل القيمة مع الأرباح، أو لا يحصل إلا بعض القيمة، أو لا يحصل شيئاً، وكذا البائع لا يدري ما يحصِّله المشتري، وقد (نهى النبي – صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر) كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (14) عن أبي هريرة – رضي الله عنه - . وهذه الصورة من البيع المجهول العاقبة، هي كبيع العبد الآبق والبعير الشارد، حيث يبيعه صاحبه بثمن بخس، ولا يدري هل يظفر به المشتري، أو لا ، فإن ظفر به غُبِن البائع، وإلا غُبِن المشتري، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في قواعده النورانية (15)، حيث قال: "والغرر هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار ، وذلك أن العبد إذا أبق ، أو الفرس أو البعير إذا شرد ، فإن صاحبه إذا باعه ، فإنما يبيعه مخاطرة ، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حَصَل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل. وإن لم يحصُل ، قال المشتري: قمرتني، وأخذتَ الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم" أهـ. وما ذكره شيخ الإسلام – رحمه الله – هو واقع بعينه في بيع مثل هذه الأسهم المتعثرة، وعلى هذا، فلا يصح القول بإخراج الزكاة وفق هذه القيمة التي لم يعتبرها الشارع، والله تعالى أعلم .
الفصل الثاني
حكم زكاة الأسهم المتعثرة
وفيه تمهيد، ومبحثان:
التمهيد:
هذه الأسهم المتعثرة تختلف من حيث كونها مرجوة الحصول، أولا، وذلك أن بعض المساهمات المتعثرة يتوقع أصحابها أن ينتهي التعثر في مدة سنتين أو أقل أو أكثر، ويرجع لهم رأس المال أو بعضه، وبعضها الآخر لا يتوقع أصحابها أن ينتهي التعثر ولا في مدة عشرين سنة للظروف المحيطة بالقضية ، وربما يقطع البعض من المساهمين بعدم إمكان الحصول على شيء من رأس المال، فالحال الأولى يمكن تخريجها على دين المعسر والمماطل، وهو ما كان مرجو الحصول ولو بعد زمن، والحال الثانية يمكن تخريجها على المال الضِّمار، وهو ما لا يرجى حصوله، كالمال المغصوب والمسروق، ونحو ذلك، وعلى هاتين الحالتين جرى تخريج هذه المسألة المعاصرة ، ولكل حالة مبحث خاص، فإلى المبحث الأول.
المبحث الأول
التخريج على زكاة دين المعسر والمماطل
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإعسار، والمماطلة:
أما الإعسار ، فهو في اللغة: من العُسْر، وهو ضد اليسر، يقال: تعسَّر الأمر، وتعاسر، واستعسر: إذا اشتد والتوى . وأعسر: إذا افتقر (16). والعُسْرة: هي الضيق وقلة ذات اليد (17).
وهو في الاصطلاح: عدم قدرة المرء على أداء ما عليه من مال (18).
وأما المماطلة ، فهي في اللغة: من المَطْل، وهو التسويف ، يقال: مطله بدينه مَطْلاً: إذا سوَّفه بوعد الوفاء مرةً بعد أخرى (19).
وهي في الاصطلاح : لا تخرج عن معناها اللغوي، فهي: إطالة المدافعة عن أداء الحق، وهي غالباً ما تطلق على مطل الموسر، القادر على قضاء الدين، بلا عذر (20).
المطلب الثاني: حكم زكاة دين المعسر، والمماطل:
اختلف العلماء في الدين إذا كان على معسر أو مماطل، هل تجب زكاته على الدائن، أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه تجب فيه الزكاة ، فيزكيه إذا قبضه لما مضى، وهذا هو مذهب الحنفية (21)، والشافعية على القول الجديد وهو المذهب (22)، والحنابلة على رواية وهي الصحيح من المذهب (23)، وهو قول الثوري ، وأبي عبيد (24).
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وهذا هو مذهب المالكية (25)، وهو قول عمر بن عبدالعزيز ، والحسن، والليث، والأوزاعي (26).(5/44)
القول الثالث: أنه لا تجب فيه الزكاة بحال، وهذا هو القول القديم للشافعية (27)، ورواية عند الحنابلة (28)، وهو قول قتادة ، وإسحاق ، وأبي ثور (29).
الأدلة :
أ – استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
(1) ما رواه ابن أبي شيبة (30)، وأبوعبيد (31)، عن علي – رضي الله عنه -: (أنه سئل عن الرجل يكون له الدين المظنون، أيزكيه؟ فقال: إن كان صادقاً فليزكه لما مضى إذا قبضه) .
(2) ما رواه أبو عبيد (32)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الدين: (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه ، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه).
(3) أن الدائن هو المالك الحقيقي للمال، فيجب عليه زكاته كما لو كان المال عند مليء باذل (33)، وكما لو كان وديعة (34).
مناقشة أدلة هذا القول:
يجاب عما استدلوا به بما يأتي :
1 – أما أثر علي – رضي الله عنه - فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا القول عن علي – رضي الله عنه - مخالف لعموم النصوص الشرعية ، الدالة على أن الزكاة لا تجب إلا على رب المال – وهو هنا من هو في ملكه – ومنها قوله تعالى : "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (35) ولذا قال ابن حزم في المحلى (36): "إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه ، فهو معدوم عنده – يعني الدائن – ومن الباطل المتيقن أن يزكي عن لا شيء ، وعما لا يملك، وعن شيء لو سرقه قطعت يده؛ لأنه في ملك غيره" أ.هـ.
الثاني: أنه جاء عن بعض الصحابة قول مخالف لهذا الرأي، حيث روي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: (ليس في الدين زكاة) (37) يعني: مطلقاً، سواء كان على مليء أو على معسر أو مماطل ، كما حكاه عنها - وعن ابن عمر أيضاً - ابن قدامة في المغني (38)، وعليه فلا يجب الأخذ بقول علي – رضي الله عنه -.
2 – وأما أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – فيجاب عنه بما أجيب به أثر علي – رضي الله عنه - ، وأيضاً فإنه ضعيف، كما في الإرواء (39).
3 – ويجاب عن القياس على المليء الباذل، وعلى الوديعة، بأنه قياس مع الفارق، فالمال الذي عند الملي، والمال المودع، هو بمنزلة ما في يده (40)، فيمكنه أخذه والتصرف فيه، وهذا بخلاف الدين الذي عند المعسر والمماطل، فربما يحاول تخليصه منه سنين، ولا يقدر على ذلك، وبهذا يتضح الفرق بين المسألتين.
ب – استدل أصحاب القول الثاني: بأن المال كان في يد الدائن أول الحول، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد (41).
مناقشة دليل هذا القول :
يجاب عنه بأن هذا المال قد انقطع حوله بانتقاله من يد الدائن إلى يد المدين، فهو كما لو خرج من يده بهبة – أو نحوها – ثم عاد إليه ، فإنه ينقطع حوله – قولاً واحداً – لخروجه عن ملكه ، فكذا هنا ، وكما لو نقص النصاب أيضاً؛ فالمانع من وجوب الزكاة إذا وُجِد في بعض الحول فإنه يمنع . وأيضاً فإن هذا المال في جميع الأعوام على حالٍ واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال (42).
ج – استدل أصحاب القول الثالث بما يأتي:
1 – أن هذا المال الواقع في يد المعسر والمماطل قد خرج من ملك الدائن إلى ملك المدين، ومن شروط وجوب الزكاة : أن يكون المال مملوكاً ملكاً تاماً لصاحبه، وعليه فلا يتوجه القول بوجوب الزكاة عليه.
2 – أن هذا المال غير مقدور على الانتفاع به، فأشبه دين المكاتب (43).
3 – أن الزكاة إنما تجب في المال النامي أو في المال الذي يمكن تنميته، والدين الذي على المعسر والمماطل غير نامٍ، فلم تجب زكاته، كعروض القُنْية (44).
الترجيح:
وبعد عرض الأقوال، والأدلة، ومناقشة أدلة القول الأول والثاني، يتبين رجحان القول الثالث وهو عدم وجوب الزكاة في دين المعسر والمماطل ؛ لقوة ما استدلوا به ، ولأن المال إذا خرج من ملك صاحبه فالأصل براءة ذمته من زكاته، فلا يقال بالوجوب إلا بدليل ظاهر، ولا دليل هنا ينقل عن البراءة، وأيضاً فإنه يلزم من القول بالوجوب ، القول بالازدواج في إيجاب الزكاة، بحيث تلزم الدائن والمدين، وهذا لازم باطل؛ لأنه يؤدي إلى إيجاب زكاتين في مالٍ واحد، وهذا القول رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (45)، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية (46)، والله تعالى أعلم .
المطلب الثالث :
التخريج :
مما تقدم يتبين أن هذه الأسهم المتعثرة إذا كانت مرجوة الحصول خلال سنين قليلة، فإنه يكون حكم زكاتها كزكاة الدين الذي على المعسر والمماطل ، وعلى القول الراجح، فإنه إذا انفك التعثر ، وعادت الأسهم إلى أربابها، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا تجب الزكاة فيها لما مضى، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
التخريج على زكاة المال الضِّمار
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم المال الضِّمار :
المال الضِمَار في اللغة: هو الغائب الذي لا يرجى عوده (47)، وأصله من الإضمار ، وهو التغيب والاختفاء ، ومنه الضمير ، وهو السر وداخل الخاطر، يقال: أضمره: إذا أخفاه (48).
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللغوي، فهو: كل مالٍ غائبٍ لا يرجى حصوله (49)، مع قيام أصل الملك ، كالمال المغصوب، والمفقود، والمسروق، والمجحود – إذا لم يكن للمالك بينة – وكالمال المودع عند من لا يعرفه إذا نسي شخصه سنين، وكالمال الذي انتزعه السلطان قهراً من صاحبه… (50)الخ .
المطلب الثاني: حكم زكاة المال الضمار:
اختلف العلماء في حكم زكاة المال الضمار، في الفترة الميؤوس فيها من عوده لصاحبه ، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا تجب فيه الزكاة بحال، وهذا هو مذهب الحنفية (51)، والقول القديم عند الشافعية (52)، ورواية عند الحنابلة (53)، وهو قول الليث (54).
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وهذا هو مذهب المالكية (55)، وهو قول عطاء، والحسن، والأوزاعي (56).
القول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة ، فيزكيه إذا قبضه لما مضى ، وهذا هو مذهب الشافعية على القول الجديد وهو الأظهر عندهم (57)، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (58)، وهو قول الثوري ، وزفر (59).
الأدلة :
أ – استدل أصحاب القول الأول بما يأتي :
1 – ظواهر النصوص الشرعية الدالة على أن الزكاة تؤخذ من المال الذي تحت يد مالكه ، ومنها قوله تعالى : "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة" (60) وهذا المال الضمار مفقود، فكيف يؤمر بإخراج زكاته .
2 – ما روي عن علي – رضي الله عنه - موقوفاً، ومرفوعاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا زكاة في مال الضمار) (61) (62).
3 – أنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعاً منه، فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب ، فإنه لا تجب فيه الزكاة على السيد (63).
4 – أن كل ما استقر في ذمة غير المالك، فإنه لا زكاة فيه ، وإلا لزم منه أن يزكى عما في ذمة الغير ، وهو خلاف القياس (64).
5 – أن الزكاة إنما تجب في المال النامي وما في حكمه ، وهذا المال الضمار ليس بنامٍ ، فلا تجب زكاته (65).
ب – استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي :(5/45)
1 – ما رواه ابن أبي شيبة (66)، عن عمرو بن ميمون قال: (أخذ الوالي في زمن عبدالملك مال رجل من أهل الرقة – يقال له أبو عائشة – عشرين ألفاً، فأدخلت في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه، فكتب إلى ميمون : ادفعوا إليهم أموالهم ، وخذوا زكاة عامه هذا، فلو أنه كان مالاً ضماراً أخذنا منه زكاة ما مضى) وفي لفظ له (67): (أن رجلاً ذهب له مال في بعض المظالم ، ووقع في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز، رفع إليه، فكتب عمر: أن ادفعوا إليه وخذوا منه زكاة ما مضى، ثم أتبعهم بعد بكتاب: أن ادفعوا إليه، ثم خذوا منه زكاة ذلك العام، فإنه كان مالاً ضماراً).
2 – واستدلوا أيضاً : بدليلهم السابق في زكاة الدين الذي على المعسر (68).
مناقشة أدلة هذا القول:
1 – أما أثر عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله – فيجاب عنه : بأنه اجتهاد منه يخالف ما تقتضيه عموم النصوص الشرعية الدالة على أن الزكاة إنما تؤخذ من الأموال التي تحت يدأربابها،والقاعدة الشرعية:أنه لا اجتهاد في مورد النص.
1 – ويجاب عن دليلهم الثاني بما أجيب به في المناقشة السابقة لهذا الدليل (69).
ج – استدل أصحاب القول الثالث:
1 – أن ملكه عليه تام، فلزمته زكاته ، كما لو أُسر أو حُبس وحيل بينه وبين ماله (70).
2 – أنه يثاب عليه ويؤجر فيه إن ذهب، فكذا تلزمه زكاته (71).
3 – واستدلوا أيضاً : بأدلتهم السابقة في زكاة الدين الذي على المعسر (72).
مناقشة أدلة هذا القول:
1 – أما قياس المال الضمار على ما لو أسر أو حبس عن ماله، فهو قياس مع الفارق، وذلك أن محل الزكاة في المال الضمار مفقود، وهو المال – محل الوجوب – فكيف يخرج زكاة مالٍ لا وجود له ؟ كما أن من شروط وجوب الزكاة الملك التام للمال، وهو غير متحقق هنا، وهذا بخلاف ما لو حبس ، فالمال موجود ومملوك ، ولكنه لم يتمكن من الانتفاع به لسبب خارجي ، كما لو مرض أو سافر فلم يتمكن من الانتفاع به حال مرضه أو سفره ، فإنه يلزمه زكاته .
2 – وأما الثواب والأجر على ذهاب المال، فإنه لا يلزم منه وجوب الزكاة؛ إذ لا تلازم بين الأمرين، فالأجر والثواب بابه واسع ، وأما الزكاة فلها شروط لا تجب إلا بتحققها .
ويجاب عن أدلتهم السابقة بما أجيب به في المناقشة السابقة لهذه الأدلة (73).
الترجيح :
وبعد عرض الأقوال ، والأدلة ، ومناقشة أدلة القول الثاني، والثالث، يتبين رجحان القول الأول، وهو عدم وجوب الزكاة في المال الضمار؛ لقوة ما استدلوا به ، ولأنه القول الذي يتفق مع أصل براءة الذمة من المال الخارج عن ملك صاحبه، ويتفق أيضاً مع مقاصد الشريعة من رفع الحرج عن المكلف ، حيث لا يكلَّف المسلم بإخراج زكاة مال ليس في ذمته، بل هو في ذمة غيره، كما ينسجم مع مقصد التيسير الذي جاءت به شريعتنا الغراء، والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث:
التخريج:
مما تقدم يتبين أن هذه الأسهم المتعثرة إذا لم تكن مرجوة الحصول، بمعنى أنه ميؤوس من تحصيلها ، فإنه يكون حكم زكاتها كزكاة المال الضمار، وعلى القول الراجح ، فإنه إذا انفك التعثر، وعادت الأسهم إلى أربابها ، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا تجب الزكاة فيها لما مضى، والله تعالى أعلم.
الخاتمة
وتشتمل على ملخص لأهم نتائج البحث، فأقول:
تلخص مما تقدم، أن تعثر الأسهم أصبح ظاهرة في واقعنا المعاصر، لأسباب كثيرة، منها: كثرة الخصومات العقارية التي تطال بعض المساهمات فتتعثر بسببها ، ومنها كثرة الشركات المساهمة التي لا تلتزم بالأنظمة المالية والمحاسبية، مع ضعف الديانة وقلة الأمانة – إلا من رحم الله – فساهم هذا الواقع في ظهور ما يمكن أن يسمى بالأسهم المتعثرة، أو بالمساهمات المتعثرة، ومع هذا الواقع فقد أشكل على كثيرين مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم، وبالنظر إلى كلام الفقهاء المتقدمين فإنه يمكن تخريج هذه المسألة على مسألة الزكاة في دين المعسر والمماطل، ومسألة الزكاة في المال الضمار، وعلى هذا ، فإنه إذا كانت هذه الأسهم المتعثرة مرجوة الحصول ، فإنها تخرج على زكاة دين المعسر والمماطل، وتبين بعد عرض الخلاف في هذه المسألة أن الراجح: هو أن الدين الذي على المعسر والمماطل لا يزكى، وإنما يستأنف به الدائن حولاً، فكذا هنا في الأسهم المتعثرة . أما إذا كانت هذه الأسهم غير مرجوة الحصول أو ميؤوس منها، فإنها تخرج على زكاة المال الضمار، وقد تبين بعد عرض الخلاف في هذه المسألة أن الراجح هو: أن المال الضمار لا يزكى ، وإنما يستأنف به مالكه حولاً، فكذا هنا في الأسهم المتعثرة ، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا يزكي لما مضى .
أما ما يثار بأن هذه الأسهم المتعثرة لها قيمة سوقية، وبالتالي فإنه يجب أن تزكى وفق هذه القيمة ، فقد تقرر في ثنايا البحث أن هذه القيمة السوقية لا اعتبار لها عند الشارع؛ لأنها مبنية على الغرر والغبن، وعليه فلا يصح هذا القول، والله تعالى هو الموفق والهادي .
فهرس المصادر والمراجع
(1) القرآن الكريم.
(2) صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1412هـ.
(3) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد بن ناصر الدين الألباني.
(4) أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة ، لمحمد بن سليمان الأشقر وآخرون، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1418هـ.
(5) الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي، لأحمد بن محمد الخليل، دار ابن الجوزي، 1424هـ.
(6) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ، دار الفكر، 1408هـ.
(7) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (مع الشرح الكبير) للمرداوي علي بن سليمان بن أحمد ، دار هجر، الطبعة الأولى، 1415هـ.
(8) الاستذكار لابن عبدالبر يوسف بن عبدالله النمري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000م .
(9) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني علاء الدين أبي بكر بن مسعود، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1402هـ.
(10) الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، دار المعرفة .
(11) روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي يحيى بن زكريا، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1405هـ.
(12) الشرح الكبير لأبي الفرج عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، دار هجر، الطبعة الأولى، 1415هـ.
(13) طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي أبي حفص عمر بن محمد، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1416هـ.
(14) الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، للصديق محمد الأمين الضرير، دار الجيل، الطبعة الثانية، 1410هـ.
(15) فتح القدير لابن الهمام محمد بن عبدالواحد السكندري، دار إحياء التراث العربي، ودار الكتب العلمية.
(16) فتوى جامعة في زكاة العقار ، لبكر بن عبدالله أبوزيد، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1421هـ.
(17) القاموس المحيط للفيروزآبادي محمد بن يعقوب، مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة، 1419هـ.
(18) القواعد النورانية الفقهية (الكلية) ، لابن تيمية أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى، 1423هـ.
(19) القوانين الفقهية لابن جزي محمد بن أحمد بن محمد الكلبي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409هـ.
(20) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لابن عبدالبر يوسف بن عبدالله بن محمد النمري، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الثالثة، 1406هـ.
(21) لسان العرب ، لابن منظور محمد بن مكرم الإفريقي، دار صادر، الطبعة الأولى.(5/46)
(22) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، العدد الثاني الصادر عام 1407هـ، والعدد الرابع، الصادر عام 1408هـ.
(23) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد افندي عبدالله بن محمد بن سليمان، دار إحياء التراث العربي.
(24) مجموع فتاوى وبحوث ، لعبدالله بن سليمان المنيع، دار العاصمة ، الطبعة الأولى، 1420هـ.
(25) مختصر الطحاوي، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدرآباد الدكن بالهند.
(26) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي أحمد بن محمد بن علي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414هـ.
(27) المصنف لابن أبي شيبة أبي بكر عبدالله بن محمد الكوفي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1409هـ.
(28) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ، لنزيه حماد، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، الطبعة الثالثة، 1415هـ.
(29) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس أبي الحسين أحمد، دار الفكر، 1399هـ.
(30) المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبدالوهاب البغدادي، دار الفكر.
(31) المغني ، لابن قدامة أبي محمد عبدالله بن أحمد بن محمد المقدسي، دار هجر، الطبعة الثانية، 1412هـ.
(32) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني محمد الخطيب، دار الفكر.
(33) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطَّاب محمد بن محمد بن عبدالرحمن المغربي، دار الفكر ، الطبعة الثالثة، 1412هـ.
(34) نصب الراية للزيلعي عبدالله بن يوسف ، دار الحديث، 1357هـ.
(35) الهداية شرح بداية المبتدي (مع فتح القدير) للمرغيناني أبي الحسن علي بن عبدالجليل الرشداني، دار إحياء التراث العربي، ودار الكتب العلمية.
(1) المصباح المنير ص254، مادة (زكى).
(2) 4/5 .
(3) سورة الصافات ، آية (141).
(4) معجم مقاييس اللغة 3/111، مادة (سهم) وانظر : المصباح المنير ص293، مادة (سهم) .
(5) 1/459 .
(6) الأسهم والسندات وأحكامها ص48 .
(7) لسان العرب 4/539-541، مادة (عثر) .
(8) 4/5 .
(9) في مجموع البحوث والفتاوى له 2/179-189، حيث قرَّر هذا القول أحسن تقرير، ومنه استفدت هذا التفصيل.
(10) ينظر : الأسهم والسندات وأحكامها ص265، وأبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/55، وبحوث زكاة الأسهم في الشركات في مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/1/705 ، وفتوى جامعة في زكاة العقار ص14.
(11) التسويق الشبكي (ويسمى الهرمي) هو نوع من التسويق يصنف من حيث المبدأ ضمن صور الغش والاحتيال التجاري ، وصورته: أن يشتري الشخص منتجات شركة ما مقابل الفرصة بأن يقنع آخرين بمثل ما قام به ، ويأخذ هو مكافأة أو عمولة مقابل ذلك ، وهكذا يقوم المشتري بمثل ما قام به المشتري الأول ، فيحصل على العمولة هو والأول أيضا ، فيكون ذلك المنتج ستاراً وهمياً لإعطاء هذه المعاملة الصفة الشرعية ، ومقصود المشتري هو العمولة لا المنتج ، ويكون حظ المشتري الأول من العمولة أكثر من الثاني والثالث ، وحظ الثاني منها أكثر من الثالث والرابع ، وهكذا في تسلسل هرمي … = ينظر لهذه النازلة (التي لم يقدم فيها بحثٌ مطبوع): حكم التعامل مع شركة بزنس كوم للدكتور سامي السويلم في موقع الإسلام اليوم ، نافذة الفتاوى.
(12) لم أخصص مبحثاً للقيمة الاسمية للأسهم المتعثرة؛ لأنه لا يمكن أن يقدم عاقل رشيد على شراء هذه الأسهم بقيمتها الاسمية، وهو لا يعلم هل يحصِّل هذه الأسهم أو لا، وإذا حصَّلها فما هو العائد؟ ولذا فإنه لو أقدم أحد الأغرار على شراء هذه الأسهم بقيمتها الاسمية ، فإنه لا يجوز بيعه؛ لما يلحقه من الغبن والغرر، حيث إن التعثر يؤدي إلى حالة من الكساد بحيث تكون قيمة السهم أقل من قيمته الاسمية بكثير.
(13) ينظر في تعريف الغرر: كتاب الغرر وأثره في العقود ص34 .
(14) صحيح مسلم، كتاب البيوع ، 3/1153 .
(15) القواعد النورانية ص223 .
(16) القاموس المحيط ص439، مادة (عسر).
(17) معجم مقاييس اللغة 4/319، مادة (عسر).
(18) معجم المصطلحات الاقتصادية ص69 .
(19) المصباح المنير ص575، القاموس المحيط ص1057، مادة (مطل).
(20) معجم المصطلحات الاقتصادية ص314 .
(21) مختصر الطحاوي ص51، وفتح القدير 2/123، مجمع الأنهر 1/194 .
(22) روضة الطالبين 2/194، مغني المحتاج 1/410 .
(23) المغني 4/270 ، الإنصاف (مع الشرح الكبير) 6/326 .
(24) حكاه عنهما ابن قدامة في المغني 4/270 .
(25) الكافي لابن عبدالبر 1/293، مواهب الجليل 2/314 .
(26) حكاه عنهم ابن قدامة في المغني 4/270.
(27) روضة الطالبين 2/194 .
(28) المغني 4/270، الإنصاف 6/327 .
(29) حكاه عنهم ابن قدامة في المغني 4/270 .
(30) مصنف ابن أبي شيبة ، كتاب الزكاة ، 2/390 .
(31) الأموال 1/528 .
(32) الأموال 1/528 .
(33) المغني 4/270 .
(34) الشرح الكبير 6/326 .
(35) سورة التوبة، آية (103).
(36) 6/101 .
(37) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، في كتاب الزكاة ، 2/390 .
(38) 4/270 .
(39) إرواء الغليل 3/254 .
(40) المغني 4/270 .
(41) المعونة 1/371 .
(42) المغني 4/271 ، الشرح الكبير 6/326 .
(43) المغني 4/270 .
(44) المغني 4/270 .
(45) كما حكاه عنه المرداوي في الإنصاف 6/328 .
(46) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 2/1/113 .
(47) المصباح المنير ص364 ، القاموس المحيط ص429، مادة (ضمر).
(48) القاموس المحيط ص429 ، مادة (ضمر) ، طلبة الطلبة ص95 .
(49) طلبة الطلبة ص95 .
(50) بدائع الصنائع 2/9 ، الكافي لابن عبدالبر - وسمى هذا المال: الثاوي - 1/293 ، معجم المصطلحات الاقتصادية ص221 ، مادة (ضمار).
(51) بدائع الصنائع 2/9 ، الهداية (مع فتح القدير) 2/121 .
(52) روضة الطالبين 2/192 ، مغني المحتاج 1/409 .
(53) المغني 4/272، الإنصاف 6/327 .
(54) حكاه عنه ابن عبدالبر في الاستذكار 3/161 .
(55) القوانين الفقهية ص104 ، مواهب الجليل 2/314، الاستذكار 3/162 . وحكى ابن عبدالبر في الكافي (1/293-294) عن الإمام مالك روايتين : الأولى: أنه يزكيه لكل سنة، والثانية لا زكاة عليه لما مضى وإن زكاه لعام واحد فحسن، ثم قال: "وقد روي عن ابن القاسم ، وأشهب، وسحنون : أنه يزكيه لما مضى من السنين، إلا أنهم يفرقون بين المضمون في ذلك وغير المضمون ، فيوجبون الزكاة في الغصوبات إذا رجعت لعام واحد ، والأمانات وما ليس بمضمون على أحد يزكى لما مضى من السنين ، وهذا أعدل أقاويل المذهب" أهـ.
(56) حكاه عنهم ابن عبدالبر في الاستذكار 3/162 .
(57) روضة الطالبين 2/192 ، مغني المحتاج 1/409 .
(58) الإنصاف 6/326 .
(59) حكاه عنهما ابن عبدالبر في الاستذكار 3/161 .
(60) سورة التوبة، آية (103) .
(61) بدائع الصنائع 2/9 .
(62) قال الحافظ ابن حجر في الدراية (1/249): "لم أجده عن علي" أهـ وقال الزيلعي في نصب الراية (2/334) : "غريب" أهـ.
(63) مغني المحتاج 1/409، المغني 4/272 .
(64) الاستذكار 3/162 .
(65) الهداية (مع فتح القدير) 2/122، مغني المحتاج 1/409 .
(66) مصنف ابن أبي شيبة ، كتاب الزكاة ، 2/420، رقم (10614) .
(67) 2/420، برقم (10615).
(68) ينظر: ص16 .
(69) ينظر: ص16 .
(70) المغني 4/272 .
(71) الاستذكار 3/162 .
(72) ينظر: ص14-15 .
(73) ينظر: ص15-16 .
==============
المساهمة في الشركات التي أعلنت توقفها عن الأنشطة المحرمة
عبد المجيد بن صالح بن عبد العزيز المنصور 4/4/1428
21/04/2007(5/47)
لحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فيحصل أحياناً من بعض الشركات أو البنوك أو غيرها من المؤسسات ذات الشخصية المعنوية أن تعزم على إيقاف التعاملات المحرمة كالإيداع والإقراض بالفوائد توبة منها إلى الله، ورجوعاً إلى الحق بإرادة جازمة، واقتناعاً منها بخطورة الربا ونحوه .
هذا الموضوع نحتاج إليه في هذا الوقت؛ لكثرة الأسئلة الواردة على طلاب العلم والمفتين عن الآثار المترتبة على إقلاع الشركات والبنوك عن التعاملات المحرمة من جواز المساهمة فيها وحكم الأنشطة المحرمة السابقة قبل التوبة.
وتزداد الحاجة إليه بعد أن بدأنا نسمع بين الفينة والأخرى احتمال توجه كثير من الشركات إلى الأسلمة الحقيقية والتوقف عن الأنشطة المحرمة.
وهذا البحث عبارة عن مشاركة متواضعة في هذا الموضوع ولا أزعم أني أوفيته حقه من كل جوانبه ولعله يكون مفتاح باب لمن أراد أن يلج بحثه بأوفى مما ذُكر فيه؟
فأقول: هل إذا تابت هذه الشركات وأقلعت عن التعاملات المحرمة يقضى لها بما سلف من الأموال المحرمة وبالتالي يجوز المساهمة فيها وتملُك أسهمها بعد إعلان توبتها أو أنه يجب عليها التخلص مما سبق من الأموال المقبوضة بالربا، ولا تملكها بالقبض والتوبة، وبالتالي لا يجوز المساهمة فيها وتَملُّك أسهمها حتى تتخلص من التعاملات المحرمة المقبوضة قبل التوبة كالربا وغيره؟
هذه المسألة يمكن تخريجها على العاصي الذي عاش مدة في مستنقع الفجور والكبائر، وقد تعامل بالحرام والمعاملات الفاسدة والباطلة دهراً من الزمن لا بجهل يعذر به ولا بتأويل سائغ، ولكن إعراضاً عن طلب العلم الواجب عليه الذي يجنبه الوقوع في هذه المعاملات مع تمكنه من العلم، أو سمع بتحريم هذه البيوع والمعاملات ولم يتركها إعراضاً لا كفراً بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيراً .
الأول: من ترك طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه حتى وقع في هذه المعاملات المحرمة غير عالم بتحريمها .
الثاني: من بلغه الخطاب بتحريمها، وعلم بالحكم الشرعي ولم يلتزم اتباعه، تعصباً لمذهبه أو اتباعاً لهواه وعصياناً لربه، وهذا هو الأكثر.
فهل يكون حال هذا إذا تاب إلى الله عز وجل ورجع وأناب، وأقر بالتحريم تصديقاً والتزاماً كحال الكافر إذا أسلم على أموال محرمة قد قبضها قبل إسلامه؛ لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام يجب ما قبله، وبالتالي لا يفسخ العقد، و يقر على أمواله التي قبضها حال فسقه، وليس عليه التخلص منها،وتكون له حلالاً طيباً، ويملكها كما في العقد الصحيح.
أو يجب عليه رد جميع ما اكتسبه من الأموال المحرمة، والتخلص منها، ويجب فسخ العقود الفاسدة المقبوضة، ولم يتملكها طوال تلك المدة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
أنه يجب عليه فسخ تلك العقود والقبوض، ولا يقر عليها، ويؤمر برد جميع ما قبضه من الأموال المحرمة من ربا وميسر ومخدرات ويانصيب ونحو ذلك، أو التخلص منها.
وعلى هذا القول يجب على الشركة رد جميع ما قبضته من الأموال المحرمة من ربا وميسر إن أمكن، وإلا تتخلص منها، ولا تقر عليها، وهذا قول في مذهب الحنابلة (1)، واختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2).
وهو قول المالكية (3) في الربا خاصة، فإنه مفسوخ أبداً فات أم لم يفت، وليس له إلا رأس ماله، أما غيره من العقود فإنه يجب فسخه ما لم يفت (4).
قال ابن عبد البر: (قال مالك: ومن البيوع ما يجوز إذا تفاوت أمره وتفاحش رده، فأما الربا فإنه لا يكون فيه إلا الرد أبداً، ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ" (5).
ثم قال: (هذا قول صحيح في النظر وصحيح من جهة الأثر فمن قاده ولم يضطرب فيه فهو الخيِّر الفقيه...) (6).
وقال: ( وقد اتفق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا ) (7).
جاء في سؤال موجهٍ إلى اللجنة الدائمة :
(س: أنا كنت أساهم في البنوك، واستفدت منها بعض الشيء، فإذا هي حرام ونويت التوبة والابتعاد عنها، فهل هذا يكفي أو لا ؟
ج: أولاً: عليك التوبة والاستغفار من ارتكاب جريمة المشاركة في هذا الأمر المحرم، والإقلاع عن ذلك، وسحب مساهمتك عسى الله أن يتوب عليك، فهو سبحانه القائل: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى" (8).
ثانياً: عليك التخلص من الأرباح التي حصلت لك بسبب هذه المساهمة بصرفها على الفقراء والمساكين) (9).
وقالت في جوابٍ لسؤال آخر:
(إذا تاب العبد من المعاملة الربوية، وهي لا تزال قائمة بينه وبين الناس، فيجب عليه استلام رأس ماله فقط، ويترك الزيادة الربوية؛ امتثالاً لقوله تعالى: "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ" (10)، وإذا استلم قيمة المعاملة الربوية مع ربحها فيجب عليه تملك رأس ماله الأصلي فقط، والربح الربوي ينفقه في وجوه البر ) (11).
واستدل أصحاب هذا القول بأربعة أدلة:
الدليل الأول:
قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ" (12).
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الآية عامة في الجاهل والعاصي والكافر إذا أسلم وغيرهم، تجب عليهم التوبة، ويذرون ما قبضوه من الربا والأموال المحرمة، وليس لهم إلا رؤوس أموالهم.
وقد يناقش: بأن المقصود بالآية هو ما لم يقبض من العقود، فإن غير المقبوض يجب إبطاله وترك ما بقي منه، وليس للعاقد إلا رأس ماله، وليس المراد هو ما قبض من العقود بجهل وتأويل ونحو ذلك، فإن هذه له بقوله تعالى: "فله ما سلف"، أي: من العقود المقبوضة حال العذر.
الدليل الثاني:
استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (13).
وجه الدلالة من الحديث: أن هذا النص عام في العبادات والمعاملات فكل ما وقع منهما على خلاف الشرع يجب رده وإبطاله، والعقود المقبوضة بهذه الحال يجب ردها وإبطالها؛ لدخولها تحت هذا الحديث.
قال الخطابي: (في هذا الحديث بيان أن كل شيء نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود، فإنه منقوض مردود؛ لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير الظاهر فينزل الكلام عليه؛ لقيام الدليل فيه) (14). قال ابن حزم (ولم يستثن -صلى الله عليه وسلم- عالماً من غير عالم، ولا مكلفاً من غير مكلف، ولا عامداً من غير عامد (15)، والعقود المحرمة ليست من أمر الدين فيجب ردها).
الدليل الثالث:
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :((من أين هذا؟)) فقال بلال : تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع؛ لمطعم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك : ((أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به)) (16) وفي رواية لمسلم : ((فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)) (17)(5/48)
قالوا: إذا أوجبنا فسخ العقود والقبوض على الجاهل المعذور فعلى العالم بالتحريم العاصي أولى وأحرى، فهو عاصٍ ظالم بترك التعلم والالتزام، ولا يلزم من العفو عن الجاهل العفو عن هذا .
ويجاب عنه:
بأن المسلم العاصي إذا تاب ليس بأشقى من الكافر، فإذا لم نوجب الفسخ على الكافر وصححنا عقوده وقبوضه فالمسلم التائب أولى .
القول الثاني:
أن تلك العقود والقبوض الفاسدة تملك بعد التوبة، ويقر عليها، ولا يجب عليه ردها، ولا فسخها والتخلص منها إلا من تاب من الحرام وكان بيده فإنه يجب عليه رده، فإن لم يعرف مالكه تصدق به عنه، أو صرفه في مصالح المسلمين، وعليه فإن تلك العقود والقبوض الفاسدة التي قبضتها الشركة تملك بعد التوبة، وتقر عليها، ولا يجب عليها ردها لأصحابها، ولا فسخها ولا التخلص منها إلا إن تابت من الحرام وكان بيدها، فإنه يجب عليها ردها إلى أصحابها إن أمكن، وإلا تتصدق به عنه، أو تصرفه في مصالح المسلمين، وهذا قول في المذهب (18)، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية (19).
واستدلوا على ذلك بأربعة أدلة:
الدليل الأول:
القياس على الكافر إذا أسلم قياساً أولوياً وبيانه:
أن هذا المسلم الذي تاب وأناب ليس بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبراً وحسداً وهوىً، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله، ولكن جحد ظلماً وعلواً كحال فرعون وأكثر أهل الكتاب والمشركين الذين لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (20)، فإذا عفي عن الكافر ما قبضه من المحرمات إذا أسلم، فالمسلم كذلك يعفى عنه إذا تاب بجامع أن كليهما رجع وأناب إلى الله وعرف الحق.
وقد يناقش: بوجود الفرق بينهما من حيث إن الكافر وقعت معاملته وهو غير مكلف، وغير مخاطب بآيات أصول الربا، بخلاف المسلم العاصي العالم، فإن معاملته وقعت في حال هو مكلف فيها.
الدليل الثاني:
أن التوبة كالإسلام (21) فإن الذي قال: ((الإسلام يهدم ما كان قبله)) (22) هو الذي قال: ((التوبة تهدم ما كان قبلها)) (23) وذلك في حديث واحد رواه مسلم في صحيحه .
فإذا عفي عن الكافر إذا أسلم أنواع المحرمات التي ارتكبها، وأبيحت له الأموال المقبوضة بالحرام، فكذلك المسلم إذا تاب إلى الله، ولا فرق، فالحديثان مخرجهما واحد، ولا يجوز تفسير أحدهما بخلاف الآخر.
ويناقش: بأن من مقتضى التوبة أن يتخلص من هذه الأموال المحرمة، ويبعدها عنه، ويعدل إلى غيرها من المكاسب (24)؛ فإن التوبة قول وفعل فالقول بإكثار الاستغفار، والفعل بالإقلاع عن هذه الأموال، والتخلص منها بالتصدق بها على المحتاجين.
الدليل الثالث:
ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه)) (25).
وجه الدلالة من الحديث: أنه إذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلاً، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، فلا يكون بذلك فاعلاً لمحرم ولا تاركاً لواجب (26).
وقد يناقش: أن هذا حديث يحكي أحوال يوم القيامة، ولا يبنى على الأحكام الأخروية، أحكاماً فقهية في الدنيا، فلا تقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والله أعلم.
الدليل الرابع:
قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف"
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الآية عامة في كل من جاءه موعظة من ربه فقد جعل الله له ما سلف، ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا : "يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم برد ما قبضوه. فدل على أنه لهم مع قوله: "فله ما سلف وأمره إلى الله" والله يقبل التوبة عن عباده (27).
ونوقش: بأن هذا مختص بالكافرين (28).
وأجيب: بأنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك، إنما قال: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف" وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى (29).
الموازنة والترجيح:
هذه المسألة من أعقد المسائل لقوة أدلة الفريقين وتضاربها في نظر الباحث، وإن كنت أميل إلى القول الثاني، وهو أن تلك العقود معفو عنها وتقر عليها و تملكها بعد التوبة، وذلك لثلاثة أمور:
أولاً: أنه إذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، فهذا المعنى موجود في التوبة عن الجهل والظلم والعصيان، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات (30).
ثانياً: أن في عدم العفو عن تلك العقود والقبوض الماضية في حال العصيان تنفيراً عظيماً عن التوبة؛ لما يلزم الداخل فيه من الآصار والأغلال الثقيلة الموضوعة على لسان هذا النبي –صلى الله عليه وسلم- عن التائبين، فإن الأمر برد جميع ما كسبه التائب من الأموال والخروج عما يحبه منها تصير التوبة في حقه عذاباً، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة وتوبته -وهو مسلم عذاب- (31)، فإن كثيراً من الفساق أصحاب رؤوس أموال هائلة، وغالبها أو كثير منها من الحرام الفاسد، وقد يكون غير متميز عن الحلال، وقد يكون له مصادر تجارة متعددة، ومطالبته بردها، والتخلص مما قبضه في غاية الصعوبة والمشقة، ولو قيل له: من شرط توبتك أن ترد كل ما كسبته بالحرام ربما نفر عن التوبة، وكان هذا القول معيناً للشيطان عليه، لكن لو قيل له: بأن الله قد غفر لك بتوبتك كل ذنوبك المتعلقة في باب العبادات وباب المعاملات، وعليك بالإقبال على الله من جديد، وترك المعاودة لمثل ما سبق لكان هذا حافزاً ومشجعاً له إلى التوبة ومحاولة تصحيح وضعه الجديد، ويكف عن المعاملة بالحرام، وقد يكون هذا قدوة لآخرين مثله إذا رأوا ذلك منه .
وبهذه الطريقة نكون قد قضينا على كثير من المعاملات الفاسدة التي ربما كانت تستمر لولا القول بالعفو عما سلف مما قبضوه.(5/49)
وكذلك يقال في الشركات والبنوك ونحوها أن في عدم العفو عن تلك العقود والقبوض قبل إعلان الشركة توقفها عن التعامل بالمحرم تنفير عظيم عن الإقلاع عن التعاملات المحرمة وتنفير عن التوبة؛ لما يلزم الشركة بعد توبتها وإعلان توقفها من الحرام من الآصار والأغلال الثقيلة الموضوعة على لسان النبي –صلى الله عليه وسلم- عن التائبين، فإن الأمر برد جميع ما كسبته الشركة من الأموال الربوية وغيرها، والخروج عما تحبه منها، تُصَيِّر التوبة وإعلان التوقف في حقها عذاباً، وكان الاستمرار على ما كانت عليه في السابق حينئذ أحب إليها من إعلان توقفها، ويضاف إلى ذلك أن التخلص منها أمر في غاية الصعوبة والمشقة، ولو قيل: من شرط توبتها أن ترد كل ما كسبته بالحرام ربما نفرت عن التوبة، وكان هذا القول معيناً للشيطان عليها، بخلاف ما لو قيل للشركة: لا يلزمك الخروج من الأموال الربوية المقبوضة في السابق، ويكون لكِ حلالاً إذا تبتِ، و أعلنتِ بصدق تصحيح وضعكِ من جديد، وتركتِ التعامل بالربا بكل أشكاله وأنواعه، فإن هذا يكون لها حافزاً إلى التوبة و الإعلان عنها، كما قد يكون حافزاً للشركات الأخرى أن تحذو حذوها.
ثالثاً: أننا بهذه الطريقة نكون قد قضينا على كثير من الشركات والبنوك المحرمة والمعاملات الفاسدة التي ربما استمرت على نشاطاتها وتعاملاتها المحرمة لولا القول بالعفو عما قبضوه مما سلف، بخلاف ما لو قيل لها: لابد لكِ – كشرط من شروط التوبة – أن تُخْرِجِي كل ما قبضتِ بالعقود الفاسدة المحرمة ما دمتِ تعلمين حرمتها وكنتِ عاصية بذلك (32)، ربما كان هذا في حقها شاقاً، وربما يترتب عليها خسائر مالية ضخمة كانت التزمتها في السابق، وبالتالي يكون هذا عائقاً لها، ومنفراً عن التوبة، فتحجم الكثير من الشركات عن التوبة بسبب هذا، وهذه نظرة ماراعاً فيها جانب المصلحة الراجحة مقابل المفسدة المرجوحة، قال ابن تيمية: ( ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق ) (33).
لكن قد يرد على هذه الحال – أعني توبة الشركات والبنوك – إشكال وهو أن توبة الشركات ونحوها عن التعامل بالحرام والفاسد غير متمكنة أو ضعيفة، فهي ليست كالأشخاص والأفراد الذين يملكون أموالهم بأنفسهم فالشركات والبنوك عبارة عن شخصية معنوية قائمة بعدد من الأشخاص، وكل عامل فيها لا يعنيه توبة الشركة من عدمها، فمن التائب فيها؟
ويجاب: بأن هذه طبيعة الشخصيات المعنوية لا يطالب فيها شخص بعينه، وإنما هي قائمة بإرادة الجميع ومتخذي القرار فيها، فإذا كانت الإرادة قائمة من الإدارة ومتخذي القرار فيها كانت هذه الإرادة – وأعني بها التوبة- مقبولة، فهي مثل توبة الفرد والشخص العادي.
ويؤيده إمكانية وجود شرائط التوبة في هذه الشركات والبنوك ونحوها المساهمة، وهي العزم على عدم العود إلى الحرام من ربا وغيره في المستقبل، والإقلاع عنه في الحال، وأن تكون صادقة لا بقصد التلاعب بعقول الناس ونحوه، والندم على ما صدر منها في السابق (34)، والعزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به (35).
وأما الأموال الربوية المقبوضة فهي محرمة لحق لله وقد عفى عنها، وليست حقاً لآدميين فيؤمروا بإرجاعها إلى أصحابها، والله أعلم.
وأخيراً أقول: أيضاً يمكن إرجاع الفتوى في هذه المسألة إلى المفتي فينظر في ذلك المصلحة، فإن رأى من الشركة القدرة والاستعداد للتخلص من الأموال الربوية المقبوضة وصدق في التوبة مهما كلفها ذلك، فإنه يفتيها بالتخلص من هذه الأموال بالتصدق بها في مصالح المسلمين بنية التخلص لا التطوع.
وإن رأى منها ضعفاً في هذا الباب وخشي نفورها من التوبة، فإنه يفتي بعدم وجوب التخلص من المقبوض الفاسد، ولا يجب رده باعتبار أن هذه الفتوى أخف المفسدتين.
فإنها-أي: الشركة- لو أفتي لها بوجوب التخلص، لم تتخلص من المقبوض بعقد فاسد ولم تعلن التوقف عن التعاملات المحرمة بخلاف ما لو أفتي لها بعدم الوجوب، فإنها لن تتخلص من المقبوض بعقد فاسد، وسوف تقلع عن التعاملات المحرمة في المستقبل بعد إعلان توبتها، والله تعالى أعلم.
ومن خلال ما سبق، فمن قال بصحة توبة الشركة، وتَملِك ما قبضته من العقود الفاسدة، فإن من لازم قولهم جواز المساهمة فيها، وأنها تملك أسهمها بعد إعلان توبتها .
ومن قال بعدم صحة توبتها إلا برد جميع الأموال المحرمة أو التخلص منها فإن من لازم قولهم تحريم المساهمة فيها وتملك أسهمها حتى تتخلص من التعاملات المحرمة المقبوضة قبل التوبة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على بينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها، والدرر السنية في الفتاوى النجدية (3/133).
(2) فتاوى اللجنة الدائمة (14/29)و(14/32)و(14/48)و(14/62).
(3) المدونة الكبرى (4/148)، ومواهب الجليل (4/381)، ومقدمات ابن رشد ص (503)، والتمهيد (5/129)، والاستذكار (19/146) و(21/139)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/355-356)، ومسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب الإمام مالك شرح العلامة الأمير على منظومة بهرام ص(49)، والفروق وحواشيه (2/164)، والمالكية أوجبوا على الجاهل التخلص منه، وبناء على ذلك فإنه من باب أولى أن يوجبوه على العالم العاصي .
(4) الفوات عند المالكية يعني أحد خمسة أشياء : الأول: تغير الذات وتلفها كالموت والعتق وهدم الدار وغرس الأرض وأكل الطعام ونماء المبيع ونقصانه . والثاني: حوالة الأسواق. والثالث: البيع. والرابع: حدوث عيب. والخامس: تعلق حق الغير كرهن السلعة . انظر القوانين الفقهية لابن جزيء ص(265) والشرح الصغير للدردير
(5) سورة البقرة، آية(279).
(6) الاستذكار (21/139).
(7) التمهيد (5/129)، والاستذكار ( 19/146) وهذا النقل لاتفاق الفقهاء في هذه المسألة فيه نظر، فإن جمهور الحنفية يرون أن المقبوض بعقد ربوي يملك وإن كان واجب الفسخ، وخالفهم شمس الدين السرخسي في هذه المسألة، فوافق الجمهور.
(8) سورة طه، آية(82).
(9) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/48).
(10) سورة البقرة، آية(279).
(11) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/51)، وانظر (13/400)و(13/429)وما بعدها.
(12) سورة البقرة، آية(278-279).
(13) رواه مسلم بهذا اللفظ من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- (كتاب الأقضية -باب نقض الأحكام الباطلة ، ورد محدثات الأمور ) رقم 3243 (9/119).
(14) عون المعبود (12/234).
(15) المحلى (8/135).
(16) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الوكالة- باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود) 2188(2/613) ومسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) 1594(3/1215)
(17) رواه مسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) (3/1215)
(18) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها.
(19) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها و(30/328) و تفسير آيات أشكلت (2/577-595).
(20) مجموع الفتاوى (22/17) بتصرف.
(21) المرجع السابق بتصرف.
(22) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان-باب كون الإسلام يهدم ما كان قبله وكذا الهجرة والحج) (1/112).
(23) المرجع السابق .
(24) انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء (14/62).
(25) صحيح مسلم (كتاب الإيمان- باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ) رقم 190 (1/177).
(26) مجموع الفتاوى (22/18) بتصرف.
(27) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(28) تفسير آيات أشكلت (2/586)(5/50)
(29) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(30) مجموع الفتاوى بتصرف (22/18).
(31) مجموع الفتاوى بتصرف (22/18-22)، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه يعرف طائفة من الصالحين من يتمنى أن يكون كافراً ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم قال: ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله، مجموع الفتاوى (22/22).
(32) هذه حال كثير من الشركات المحرمة في البلاد الإسلامية فإنها تعلم بتحريم الربا ولكن تتعامل به عصياناً وعن هوى -نسأل الله السلامة-.
(33) تفسير آيات أشكلت(2/595).
(34) انظر: شرائط التوبة في مدارج السالكين (1/182).
(35) المرجع السابق (1/305).
===============
تحريم العينة ، وجواز التورق بلا قيد ولا شرط
سليمان بن ناصر العلوان 26/3/1424
27/05/2003
كتب هذا البحث جواباً على سؤال ورد لفضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حول صورة التورق والعينة ، وحكمهما، ويسر الموقع أن ينشر البحث الذي خص فضيلة الشيخ سليمان العلوان الموقع به.
العينة : في اللغة السلف 0
وصورتها في الشرع : أن يبيع من رجل سلعة بحوزته بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعه به ، ومن ذلك أن يبيع سلعة بنقد ثم يشتريها منه بأكثر منها نسيئة 0
وهي محرمة في قول أكثر العلماء ، وهي وسيلة إلى الربا ، وموصلة إليه ، خلافاً للشافعي وأبي يوسف رحمها الله تعالى حيث أجازاها 0
قال النووي في روضة الطالبين (3/416) فصل : ليس من المناهي بيع العينة بكسر العين المهملة وبعد الياء نون ، وهو أن يبيع غيره شيئاً بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقداً 0
وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقداً ويشتري بأكثر منه إلى أجل ، سواء قبض الثمن الأول أم لا . وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا . هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب ، وأفتى الأستاذ أبو إسحق الاسفراييني ، والشيخ أبو محمد بأنه إذا صار عادة له صار البيع الثاني كالمشروط في الأول فيبطلان جميعاً 0
ونقل أيضاً في المجموع (9/261) عن الرافعي قوله - بعد كلام له سبق - لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود ، لا بما ينويه العاقدان ، ولهذا يصح بيع العينة ، ونكاح من قصد التحليل ونظائره 0
وجاء في حاشية ابن عابدين (5/273) وعن أبي يوسف العينة جائزة مأجور من عمل بها ، كذا في مختار الفتاوى الهندية .. ) 0
والصواب منع ذلك ، وتأثيم مَنْ فعلها ، وذلك لوجوه :
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيعتين في بيعة) أخرجه الإمام أحمد (2/432) والشافعي (532) والنسائي (7/295) والترمذي (1231) كلهم من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه 0
وقال الترمذي حديث حسن صحيح 0
والعينة هي المقصودة في هذا الخبر 0
2- أن الوسيلة إلى الربا حرام ، ولا يختلف العلماء في تحريم الربا ، والعينة وسيلة إليه ، وحين سئل ابن عباس عن حريرة بيعت إلى أجل ، ثم اشتريت بأقل . فقال : دراهم بدراهم ، دخلت بينهما حريرة . رواه سعيد وغيره ، وجاء نحوه عند عبد الرزاق في مصنفه . وسئل أنس عن العينة ، فقال : إن الله لا يُخْدَع هذا مما حرم الله ، ورسوله . عزاه ابن القيم لمطين في كتاب البيوع 0
3- ما جاء عند الإمام أحمد في مسنده ، من طريق الأعمش ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) 0
وهذا خبر ضعيف ، وقد جاء من غير وجه ، ولا يصح ، وذهب شيخ الإسلام ، وابن القيم ، إلى تقويته بمجموع طرقه 0
4- ما رواه علي بن الجعد في مسنده (80) ومن طريقه البيهقي في سننه (5/330) عن شعبة عن أبي إسحاق قال دخلت امرأتي على عائشة ، وأم ولد لزيد بن أرقم ، فقالت لها أم ولد زيد : إني بعت من زيد عبداً بثمانمائة نسيئة واشتريته منه بستمائة نقداً ، فقالت عائشة رضي الله عنها (أبلغي زيداً أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئسما شريت وبئس ما اشتريت) 0
قال البيهقي رحمه الله تعالى : كذا جاء به شعبة عن طريق الإرسال 0
وهذا الخبر : طُعِن فيه بعلتين :
1- جهالة العالية ، وقد رد حديثها الشافعي في الأم ، والدارقطني ، وابن حزم في المحلى 0
ورُد هذا ، بأن العالية معروفة ، فقد دخلت على عائشة ، وسمعت منها 0
قال ابن الجوزي في التحقيق - العالية - جليلة القدر ، معروفة 0
وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/558) هذا إسناد جيد ، وإن كان الشافعي قد قال : إنا لا نثبت مثله على عائشة رضي الله عنها ، وكذلك قول الدارقطني في العالية إنها مجهولة لا يحتج بها ، فيه نظر . وقد خالفه غيره ) 0
2- وعلة أخرى ، الاختلاف فيه ، فقد رواه الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن امرأة أبي السفر : أنها باعت من زيد بن أرقم .
ورواه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن امرأته قالت : سمعت امرأة أبي السفر تقول : سألت عائشة 0
تابعه عبد الله بن الوليد ، عن الثوري 0
قال ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى (7/550) قد صح أنه مدلس - يعني : أبا إسحاق - وأن امرأة أبي إسحاق لم تسمعه من أم المؤمنين ، وذلك أنه لم يذكر عنها زوجها ، ولا ولدها : أنها سمعت سؤال المرأة لأم المؤمنين ، ولا جواب أم المؤمنين لها ، إنما في حديثها : دخلت على أم المؤمنين ، أنا ، وأم ولد لزيد بن أرقم ، فسألتها أم ولد زيد ابن أرقم - وهذا يمكن أن يكون ذلك السؤال في ذلك المجلس ، ويمكن أن يكون في غيره ثم روى أبو محمد بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق عن امرأة أبي السفر : أنها باعت من زيد بن أرقم خادماً لها بثمانمائة درهم إلى العطاء ...... فذكره 0
قال : وبما رويناها من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق عن امرأته ، قالت : سمعت امرأة أبي السفر تقول : سألت عائشة ..... فذكره . قال أبو محمد : فبين سفيان وجه الدفينة التي في هذا الحديث ، وأنها لم تسمعه امرأة أبي إسحاق من أم المؤمنين ، وإنما روته عن امرأة أبي السفر ، وهي التي باعت من زيد ، وهي أم ولد لزيد ، وهي في الجهالة أشد وأقوى من امرأة أبي إسحاق ، فصارت مجهولة عن أشد منها جهالة ونكرة ، فبطل جملة ، ولله تعالى الحمد ، وليس بين يونس ، وبين سفيان نسبة في الثقة والحفظ ، فالرواية ما روى سفيان 0
وقيل إن هذا الاختلاف غير مؤثر ، وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين بصحته ، ورد على المخالفين في ذلك ، ولم أر لأحد من أهل الحديث المتقدمين تصحيحاً له ، وقد جزم الشافعي وغيره بضعفه ، والله أعلم 0
وفي الباب غير ذلك ، فقد جاءت آثار كثيرة في تحريم العينة ، والقياس ، والنظر الصحيح يقتضي ذلك 0
وقد قال مسروق : العينة حرام . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/282) 0
وجاء عن الحسن وابن سيرين ، أنهما كرها العينة ، وما دخل الناس فيه منها . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/283) 0
وقال طاووس : من اشترى سلعة بنظرة من رجل فلا يبيعها إياه ، ومن اشترى بنقد فلا يبيعها إياه بنظرة . رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/186) 0(5/51)
وقال معمر سألت حماداً عن رجل اشترى من رجل سلعة ، هل يبيعها منه قبل أن ينقده بوضيعة ؟ قال: لا، وكرهه حتى ينقذه. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/186) 0
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في الكافي (3/325) وأما بيع العينة فمعناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة ، وهو أيضاً من باب بيع ما ليس عندك ، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كانت السلعة المبيعة في ذلك طعاماً دخله أيضاً مع ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى ، مثال ذلك أن يطلب رجل من آخر سلعة ليبيعها منه بنسيئة ، وهو يعلم أنها ليست عنده ويقول له اشترها من مالكها هذا بعشرة ، وهي علي باثني عشر أو القدرة عشر إلى أجل كذا فهذا لا يجوز لما ذكرنا ، واختلف أصحاب مالك في فسخ البيع المذكور بالعينة إذا وقع على ذلك ، فمنهم من رأى فسخه قبل الفوات ، وبعده يصلحه بالقيمة على حكم البيوع الفاسدة 0
وقال أبو محمد ابن حزم في المحلى (7/549) فإن ابتاع سلعة بثمن مسمى إلى أجل مسمى ، فإنه لا يجوز له أن يبيعها من الذي باعها منه بثمن أقل من ذلك الثمن، أو بسلعة تساوي أقل من ذلك الثمن نقداً ، أو إلى أجل أقل من ذلك الأجل أو مثله : لم يجز شيء من ذلك ، وله أن يبيعها من الذي باعها منه بثمن أكثر من ذلك الثمن نقداً ، أو إلى أجل أقل من ذلك الأجل أو مثله ، وليس له أن يبيعها من بائعها منه بثمن أكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل ، ولا بسلعة تساوي أكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل 0
وقال ابن قدامة في المغني (4/256) وجملة ذلك أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقداً لم يجز في قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي ، وبه قال أبو الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي ، وأجازه الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها . ونقل عن الإمام أحمد أنه قال : العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة ، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس . وقال : أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد ، وقال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ، ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة ، وللبيع بنسيئة جميعاً ، لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً ، ولا يكره إلا أن يكون له تجارة غيره 0
وقال في الإنصاف (4/335) ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً ، إلا أن تكون قد تغيرت صفتها 0
قال : هذه مسألة العينة ، فعلها محرم . على الصحيح من المذهب . نص عليه . وعليه الأصحاب ، وعند أبي الخطاب يحرم استحساناً ، ويجوز قياساً . وكذا قال في الترغيب : لم يجز استحساناً . وفي كلام القاضي وأصحابه : القياس صحة البيع 0
قال في الفروع : ومرادهم أن القياس خولف لدليل راجح ، فلا خلاف إذاً في المسألة . وحكى الزركشي بالصحة قولاً ، وذكر الشيخ تقي الدين أيضاً : أنه يصح البيع الأول ، إذا كان بياناً ، بلا مواطأة ، وإلا بطلا ، وأنه قول أحمد 0
وجاء في السؤال : ما صورة التورق 0
والتورق هو : شراء سلعة بثمن مؤجل بقصد بيعها على غير البائع 0
وحكم ذلك : الجواز في أصح قولي العلماء ، وهو قول إياس بن معاوية ، والإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وهي المشهورة عند الحنابلة 0
قال في كشاف القناع (3/186) ولو احتاج إنسان إلى نقد ، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين ، فلا بأس بذلك . نص عليه ، وهي مسألة التورق ) 0
ودليل الجواز :
(1) أن الأصل في العقود والمعاملات الحل حتى يقوم الدليل على تحريمها 0
(2) وبدليل العموم المستفاد من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) 0
فمن اشترى سلعة قرضاً ، سواء قصد ذاتها أو ثمنها فالآية مفيدة بجواز هذا البيع ويتأكد هذا بالأصل في حكم العقود والمعاملات ، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل 0
ولا أعلم دليلاً شرعياً يمنع هذه المعاملة ، وأما تعليل من منعها بكون المقصود منها الدراهم ، أو التحايل على الربا ، فليس فيه تحيل على الربا بوجه من الوجوه ، مع مسيس الحاجة إليها ، لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا ، وما دعت إليه الحاجة ، وليس فيه محذور شرعي ، لم يجز تحريمه على العباد 0
• وذهب عمر بن عبد العزيز ، وطائفة من أهل المدينة ، والإمام أحمد في رواية إلى التحريم ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم0
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الفتاوى (29/303) إن كان المشتري محتاجاً إلى الدراهم ، فاشتراها ليبيعها ، ويأخذ ثمنها ، فهذا يسمى التورق وإن كان المشتري غرضه أخذ الورق ، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء ، كما قال عمر بن عبد العزيز : التورق أخية الربا . وقال ابن عباس : إذا قومت بنقد ، ثم بعت بنسيئة : فتلك دراهم بدراهم ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد 0
ومعنى قول عمر بن عبد العزيز أخية الربا ، يعني : أصل الربا قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، كما في الفتاوى (29/431)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضاً ، في بيان الدليل في إبطال التحليل (119) ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل أو عامته بنسيئة لئلا يدخل في اسم العينة ، وبيع المضطر ، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه ، وأما إن باعها لغيره بيعاً بتاتاً ، ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهيته ويسمونه التورق لأن مقصوده الورق ، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ، وقال التورق أخية الربا وإياس بن معاوية يرخص فيه ، وعن الإمام أحمد فيه روايتان منصوصتان ، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر 0
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين (3/370) وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق ، وقد كرهه عمر ابن عبد العزيز وقال هو أخية الربا ، وعن أحمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر ، وهذا من فقهه رضي الله عنه قال فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر ، وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها ؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه 0
وقال أيضاً في تهذيب السنن (9/249-250 المطبوع ضمن عون المعبود) فإن قيل فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة ؟
قيل هذه مسألة (التورق) لأن المقصود منها الورق ، وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة ، وأطلق عليها اسمها 0
وقد اختلف السلف في كراهيتها ، فكان عمر بن عبدالعزيز يكرهها ، وكان يقول (التورق أخية الربا) ورخص فيها إياس بن معاوية 0(5/52)
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان ، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر وقد روى أبو داود عن علي أن النبي نهى عن المضطر ، وفي المسند عن علي قال سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك ، قال تعالى (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ويبايع المضطرون ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ... ) وذكر الحديث 0
فأحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة ، وإن باعها من غيره فهي (التورق) ومقصوده في الموضعين : الثمن فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ، ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ، ولو لم يقصده كان ربا بسهولة 0
وقال ابن مفلح في الفروع (4/126) ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما ساوى مائة بمائتين فلا بأس ، نص عليه ، هي التورق ، وعنه : يكره . وحرمه شيخنا ، نقل أبو داود إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتريه منك هو أهون ؛ فإن كان يريد بيعه فهو العينة وإن باعه منه لم يجز ، وهي العينة نص عليه 0
وفيه أدلة أخرى للذين يجيزون التورق ، والذين يحرمون ذلك0
والصواب من قولي العلماء جواز التورق ، وهذا مذهب الجمهور ، فإن الأصل في البيوع والمعاملات الحل ، ولم يأت دليل يقضي بأن التورق ربا ، أو فيه شبهة ربا ، فقد بيعت السلعة على غير المشترى منه ، فانتفت شبهة الربا الموجودة في بيع العينة ، والعجيب في المسألة أن بعض الفقهاء يجيز العينة إذا لم يكن فيه تواطأ بين البائع والمشتري ويمنع التورق ، وهذا تناقض ، وتفريق بين المتماثلين ، والله أعلم 0
هذا ونحث المسلمين ، ممن آتاهم الله بسطة في المال ، وثروة في الاقتصاد ، مواساة ومساعدة إخوانهم المعسرين ، والقيام معهم في معيشتهم ، والنظر في شؤنهم ، فالمسلمون بعضهم لبعض كالعضو الواحد ، وقد جاء الإسلام بالتكافل الاجتماعي ، وجاء الركن الثالث من أركان الإسلام ، الزكاة ، ومما رغب فيه الصدقة ، ومما حث عليه إنظار المعسر والتعاون مع المعوزين ، والتوسيع على المعسرين مما يعزز عمق الأخوة الصادقة ، وينشر المودة الخالصة ، ويبث روح الرحمة بين أفراد المجتمع ، يحسن فيها القوي على الضعيف والغني على الفقير 0
إن الإسلام ضرب القدح المعلى ، وصور المثل العليا في التكافل الاجتماعي والتضامن الإسلامي ، فجاء في الإنفاق على المحتاجين ، والبذل للمعوزين ، والعطف على الفقراء والمدينين ، ورتب على ذلك تجاوز الله تعالى عن الذنوب والآثام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، قالوا : أعملت من الخير شيئاً ؟ قال : كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال : فتجاوزوا عنه) متفق عليه من طريق زهير ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة رضي الله عنه 0
وإنظار المعسر ، من أسباب تنفيس كرب يوم القيامة،كما جاء في صحيح مسلم (1563) من طريق أيوب ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، أن أبا قتادة طلب غريماً له فتوارى عنه ، ثم وجده ، فقال : إني معسر ، فقال : آلله؟ ، قال : آلله قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر ، أو يضع عنه) 0
وإنظار المعسر ، من أسباب الاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله ، روى مسلم في صحيحه (3006) من طريق يعقوب بن مجاهد أبي حزرة ، عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار ، قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له ، معه ضمامة من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ، وعلى غلامه بردة ومعافري ، فقال له أبي : يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب ، قال : أجل كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال ، فأتيت أهله فسلمت ، فقلت ثم هو ؟ قالوا لا فخرج عليَّ ابن له جفر ، فقلت له أين أبوك ؟ قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي ، فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت ، فخرج ، فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال أنا والله أحدثك ، ثم لا أكذبك خشيت ، والله أن أحدثك فأكذبك ، وأن أعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت والله معسراً ، قال قلت آلله ، قال الله ، قلت آلله ، قال الله ، قلت آلله ، قال الله، قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده ، فقال إن وجدت قضاء فاقضني ، و إلا أنت في حل ، فأشهد بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين ، ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول (من أنظر معسراً ، أو وضع عنه ، أظله الله في ظله) 0
إن النفوس الكريمة ، مجبولة على حب من أحسن إليها ، وصنائع المعروف ساترة لعيوب صاحبه ، غافرة لزلته ، متجاوزة عن هفوته
ويُظهرُ عيبَ المرءِ في الناس بخلُه … …
ويَسترُه عنهم جميعاً سخاؤُه
تَغطَّ بأثوابِ السخاءِ فإنني … …
أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غطاؤُه
إن صاحب المعروف يستعبد قلوب الأحرار ، ويعطف قلوبهم إليه ، ويحبب الناس إليه ولو لم ينل الناس من إحسانه
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ … …
فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
من جاد بالمال مال الناس قاطبة … …
إليه والمال للإنسان فتانُ
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة … …
فلن يدوم على الأنسان إمكانُ
إن البذل والسخاء خلق كريم ، من أشرف القيم العالية ، والأخلاق الفاضلة به يتبؤ صاحبه الرتب العلية ، وينال الشرف الرفيع ، ذلك لأن الجود من أشرف المكارم وأخص الفضائل ، وأهله هم المكرمون عند الله تعالى
الجود مكرمةٌ والبخل مبغضةٌ لا يستوي البخل عند الله والجودُ
==================
قرار رقم : 64 ( 2/7) بشأن البيع بالتقسيط
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 21/10/1425
04/12/2004
مجلة المجمع (ع 6، ج1 ص 193 والعدد السابع ج 2 ص9)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7-12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992م ،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع البيع بالتقسيط، واستكمالاً للقرار 51 (2/6) بشأنه،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي :
أولاً : البيع بالتقسيط جائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل .
ثانياً : الأوراق التجارية (الشيكات-السندات لأمر-سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة .
ثالثاً : إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعاً، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم .
رابعاً : الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية . فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية .
خامساً : يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن الوفاء بأي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسراً .
سادساً : إذا اعتبر الدين حالاً لموت المدين، أو إفلاسه، أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي .(5/53)
سابعاً : ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار : ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً، أو عيناً .
والله أعلم
=============
السندات
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع (ع 6، ج2 ص 1273ع 7 ج1 ص73)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20آذار (مارس)1990م،
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة الأسواق المالية المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410 هـ / 20 - 24 /10 / 1989 م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية ، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ،
وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق ، مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند ، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً ،
قرر ما يلي :
أولاً : إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغاً مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول ، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة . ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً .
ثانياً : تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً لهذه السندات .
ثالثاً كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اُشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين ، أو لبعضهم لا على التعيين ، فضلاً عن شبهة القمار .
رابعاً : من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراءً أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين ، بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع ، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً . ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار رقم 30 (5/4) لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة .
والله أعلم
============
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 21/10/1425
04/12/2004
مجلة المجمع (ع 5ج4ص2773ع6ج1ص81 )
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها ،
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولاً : إن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان ، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال ، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها ، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت، هي طريقة محرمة شرعاً لما فيها من التعامل بالربا .
ثانياً : هناك طرق مشروعة يُستغنى بها عن الطريقة المحرمة، لتوفير المسكن بالتملك (فضلاً عن إمكانية توفيره بالإيجار)، منها :
أ- أن تقدم الدولة للراغبين في تملك مساكن، قروضاً مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة، سواء أكانت الفائدة صريحة، أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة)، على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها، وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم 13(1/3) للدورة الثالثة لهذا المجمع .
ب - أن تتولى الدولة القادرة إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك مساكن بالأجل والأقساط، بالضوابط الشرعية المبينة في القرار 51 (2/6) لهذه الدورة .
ج- أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل .
د- أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع - على أساس اعتباره لازماً - وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم .
ويوصي بما يلي :
مواصلة النظر لإيجاد طرق أخرى مشروعة توفر تملك المساكن للراغبين في ذلك .
والله الموفق.
=============
حكم شراء المنازل بقرض بنكي ربوي للمسلمين في غير بلاد الإسلام
قرارات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث 16/3/1426
25/04/2005
قرار المجلس:
نظر المجلس في القضية التي عمّت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.
وقد قُدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:
* يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
* يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.
* كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية؛ لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عددًا كبيرًا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عددًا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعًا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.
* ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك؛ لتعديل سلوكها مع المسلمين.
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسراً في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكّنه من شرائه بغير هذه الوسيلة، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات): وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: "وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" [الآية: 119]، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم" [الآية: 145]، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.(5/54)
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن، كما في قوله تعالى في سورة الحج: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الآية: 78]، وفي سورة المائدة: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" [الآية: 6].
والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنًا حقًا.
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، هي أن (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها.
والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: "والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا" [النحل: 80]، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- السكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان، وإن كان يكلف المسلم كثيرًا بما يدفعه لغير المسلم، ويظل سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرًا واحدًا، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع يصبح عرضة لأن يرمى به في الطريق.
وتملّك المسكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكّنه أن يختار المسكن قريبًا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعًا إسلاميًا صغيرًا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام. كما أن هذا يمكّن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكًا له.
وهناك إلى جانب هذه الحالة الفردية لكل مسلم، الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أُخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرفة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد وينصب طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته.
المرتكز الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني، وهو المُفْتَى به في المذهب الحنفي. وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجحها ابن تيمية - فيما ذكره بعض الحنابلة-: من جواز التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة، بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام.
ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها:
(1) أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلّق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلّق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي.
وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلّق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث، وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
(2) أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة - ومنها عقد الربا- في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًا، وخسارته ماليًا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث: (الإسلام يزيد ولا ينقص)(1)، أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث: (الإسلام يعلو ولا يُعلى) (2)، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم، سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغُرم دائماً وليس له الغُنْم، وبهذا يظل المسلم أبدًا مظلومًا ماليًا، بسبب التزامه بالإسلام! والإسلام لا يقصد أبدًا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه - في غير دار الإسلام- لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم.
وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين: الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم. والثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم.
فالجواب: أن هذا غير مسلّم، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في "السير الكبير"، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد، إذ به يتملك المنزل في النهاية.
وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك، بل أحيانًا تكون أقل.
ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرَمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارًا شهرياً أو سنويًا، ولا يملك شيئاً، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة - وربما أقل- أن يملك البيت.
فلو لم يكن هذا التعامل جائزًا على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، لكان جائزًا عند الجميع للحاجة التي تنزل أحيانًا منزلة الضرورة، في إباحة المحظور بها.
ولاسيما أن المسلم هنا، إنما يُؤكِل الربا ولا يَأكُلُه، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها، والأصل في التحريم مُنْصَبٌ على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن، إنما حرم الإيكال سدًا للذريعة، كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه، فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد.
ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله (بمعنى إعطاء الفائدة) فيجوز للحاجة، وقد نصَّ على ذلك الفقهاء، وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهة أبواب الحلال.
ومن القواعد الشهيرة هنا: أن (ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة)، والله الموفق.
القرار [2/4].(5/55)
(1) أخرجَ أبو داود رقم: (2912)، ومن طريقه: البيهقي (6/205، 254-255) بإسناده إلى عبد الله بن بُرَيْدَة: أن أخوين اختصَما إلى يحيى بن يَعْمَر: يهودي ومسلم، فوَرَّثَ المسلم منهما، وقال: حدثني أبو الأسود، أنَّ رجلاً حدَّثه، أنَّ معاذًَا حدَّثه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الإسلام يَزيد ولا يَنقص" . فوَرَّثَ المسلم. وإسنادُه إلى أبي الأسود صحيحٌ، وإنما هو منقطع بين أبي الأسود ومعاذ، لجهالة الراوي بينهما، ويشهد للمرفوع منه حديث عائذ بن عمرو التالي، وهو به حسنٌ لغيره.
(2) حديث حسن لغيره، أخرجه الروياني في "مسنده" رقم: (783)، وأبو نُعيم في (أخبار أصبهان) (1/65)، والبيهقي (6/205)، وفي إسناده مجهولان، لكن يشهد له حديث معاذ بن جبل المتقدم قبله، كما جاء كذلك بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفًا، أخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) (3/257)، وعلقه البخاري في (صحيحه) (1/454- كتاب الجنائز)، وصححه ابن حجر في "الفتح" (9/421). كما يصدِّقه والذي قبله قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) [التوبة: 33، الصف: 9].
===============
الورق النقدي
هيئة كبار العلماء 22/8/1426
26/09/2005
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه،وبعد:
فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء -بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء؛ استناداً إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة،أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد،أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة- فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين1/4/1393هـ و 17/4/1393هـ، وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسناداً، أو عروضاً، أو فلوساً،أو بدلاً عن ذهب أو فضة، أو نقداً مستقلاً بذاته،وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات. فتنتج عن ذلك العديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها:وحيث أن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحداً أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم- فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي،وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س1:هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقداً قائماً بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها،كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي،وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة،وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟
س2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها، إذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية، وما هو الحد الأدنى لها؟
س3:ما نوع غطاء العملات الورقية، وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة،وله هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقاً؟
س4:المعروف أن الورقة لا قيمة لها في ذاتها،وإنما قيمتها في الخارج عنها، فما هي مقومات هذه القيمة؟
س5:نرغب في شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلي؟
س6:هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟
س7:ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب؛ولذا سمي ديناراً أو جنيهاً رمزاً لما غطي به، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عمّا هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟
س8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعاً لم يسبق له نظير؟
وإجابة سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي.
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ- قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولاً عاماً كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال(وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي،بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها؛ولهذا كانت أثماناً..إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض،لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت)اهـ.(1)
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في[المدونة] من كتاب الصرف حيث قال:(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة)اهـ(1).
وحيث أن الورق النقدي يلقى قبولاً عاماً في التداول،ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياساً للقيم ومستودعاً للثروة، وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ: أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده،كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملاً لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهباً، بل يجوز أن يكون من أمور عدة الذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاء كليّاً أو جزيئاً لأي عملة في العالم، كما اتَّضح أن مقومات الورقة النقديه قوة وضعفاً مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية،فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية؛كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار.
(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً، إذا كان ذلك يداً بيد، يجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقاً كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر،وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يداً بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنس ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.(5/56)
ثانياً:وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثاً: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
…
…
رئيس الدورة الثالثة
…
…
محمد الأمين الشنقيطي [متوقف]
عبد الله خياط
…
عبد الله بن حميد
[متوقف]
…
عبد الرزاق عفيفي
[لي وجهة نظر أخرى في الأوراق النقدية أقدم بها بياناً إن شاء الله]
عبد العزيز بن باز
…
عبد العزيز بن صالح
…
عبد المجيد حسن
محمد الحركان
…
سليمان بن عبيد
…
إبراهيم محمد آل الشيخ
صالح بن غصون
…
راشد بن خنين
…
عبد الله بن غديان [متوقف]
محمد بن جبير
…
عبد الله بن منيع
…
صالح بن لحيدان [متوقف]
================
استفادة الهيئات الخيرية من عوائد الحسابات الربوية
قرارات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث 24/4/1426
01/06/2005
قرار المجلس:
عموم المسلمين في الغرب لا يجدون مناصًا من فتح حسابات في البنوك الربوية، ومعلوم أن هذه الحسابات تترتب عليها زيادات ربوية تلحق بحساباتهم، فيجدون أنفسهم بين خيارين: إما ترك هذه الفوائد للبنك، وفي هذا تفويت مصلحة للمسلمين، وربما كانت عونًا لمؤسسات تبشيرية، وإما أن يصرفوها في وجوه الخير العامة، وبما أن الحكم لا يتعلق بعين المال وإنما بطريقة تحصيله أو صرفه، فما كان منه حرامًا فحرمته في حق من اكتسبه بطريقة غير مشروعة، فالذي يحرم في شأن هذا المال الربوي هو أن ينتفع به الشخص لنفسه، أما بالنسبة للفقراء والجهات الخيرية فلا يكون حرامًا.
وبناء على ذلك، فإن المجلس لا يرى بأسًا من أن تسأل المؤسسة الخيرية أصحاب هذه الحسابات أن يمكنوها من تلك الأموال، كما لا يجد فرقًا في تحصيل هذه الأموال من أي جهة أخرى كالمؤسسات والبنوك وغير ذلك.
وينبغي للمؤسسة أن تتحاشى ما وسعها ذكر اسم البنك المتبرع على وجه الدعاية له، بسبب عدم مشروعية أصل عمله.
ولا مانع كذلك من أن يفتح حساب خاص تودع فيه تلك الأموال.
[الدورة السابعة]
=============
تغير قيمة العملة
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 6/11/1425
18/12/2004
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأولى 1409هـ الموافق10-15 كانون الأول (ديسمبر)1988م،
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله ،
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 21 (9/3 )في الدورة الثالثة ، بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها ،
قرر ما يلي :
- العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما ، هي بالمثل وليس بالقيمة ، لأن الديون تُقضى بأمثالها ، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة ، أيا كان مصدرها ، بمستوى الأسعار والله أعلم.
===============
قضايا العملة
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 6/11/1425
18/12/2004
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1- 6 نيسان (أبريل) 1995م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع قضايا العملة ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها :
أ- أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه : العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار .
ب - أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود) .
ج - أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام) .
د - أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير أضرار الطرفين (الدائن والمدين) .
هـ - التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها بإصدار قرار صريح في ذلك بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح .
و - التفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية .
ز - الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة .
وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص .
قرر ما يلي :
أولاً : أن تعقد الأمانة العامة للمجمع - بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية - ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه .
ثانياً : أن يشتمل جدول الندوة على :
أ - دراسة ماهية التضخم وأنواعه وجميع التصورات الفنية المتعلقة به .
ب - دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصاديا .
ج - طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ما سبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار .
ثالثاً : ترفع نتائج الندوة - مع أوراقها ومناقشاتها - إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة . والله الموفق.
==============
نظرات حول الاشتراك في القنوات الإسلامية الفضائية
عابد الثبيتي 8/4/1424
08/06/2003
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، الذي فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم .
أما بعد :
فقد شاع على ألسنة الغيورين من أبناء هذه الصحوة المباركة وخاصة مع وجود أول قناة إسلامية كرّست جهودها في تقديم إعلام خالٍ من المحاذير الشرعية، سؤال مهم هو : ما حكم الاشتراك في مثل هذه القناة ، خاصة وأنها تجري المقابلات مع بعض طلبة العلم الذين منحهم الله جمال الصورة، وعذوبة المنطق ، فينظر إليه النساء ، ويستمعن لحديثه ، وربما وقع في قلب إحداهن الميل له … وزاد من هذا الحذر ما تناقله الشباب بينهم من اتصال نساء على بعض الجمعيات التي تعنى بشئون الأسرة وتيسير الزواج مبديات رغبتهن في نكاح الشيخ الفلاني أو طالب العلم الفلاني …
والذي يتأمل هذا التخوّف يجده يظهر على صورة أسئلة تطرح بينهم ولا يجدون لها جوابا ً ، ويمكن إيجازها فيما يلي :
ما حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي ، ما حكم الاشتراك في مثل هذه القنوات والحالة هذه ، ما حكم خروج طلبة العلم ممن هم على تلك الحال في مثل هذه القنوات ؟(5/57)
ومن هنا عنّ لي أن أبحث ما ورد في شرعنا المطهر فيما يتعلق بالإجابة على هذه الأسئلة ، متوخياً الصواب قدر الإمكان، فلا أتكلّف منع شيء لم يمنعه الشرع ، ولا آذن في شيء قد منعه ، راجياً الصواب والتوفيق والسداد من ربي . وقد بذلت جهدي في تسهيل عبارته ليفهمه العامة والخاصة فإن كان ما كتبته حقاً وصواباً فهو من الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان.
فأقول مستعيناً بالله :
المسألة الأولى : حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي .
لعل من المناسب قبل الخوض في هذه المسألة أن يحرر موضع السؤال، فإن نظر المرأة للرجل الأجنبي لا يخلو من حالين :
الحال الأولى : أن يكون نظر المرأة إلى ما بين السرة والركبة من الرجل ، بمعنى أن المرأة تنظر إلى عورة الرجل ، فهذا مما جاءت الشريعة بحسم مادة وبيان حكمه، فهذا النظر حرام بالاتفاق سواءً كان هذا النظر بشهوة أو بغير شهوة.
الحال الثاني : أن يكون نظر المرأة إلى ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل، وهذا النظر إما أن يكون بشهوة أو بغير شهوة. فإن كان هذا النظر بشهوة فهو حرام أيضاً قولاً واحداً ، وإن كان بلا شهوة فهو موطن السؤال وللجواب عليه يقال : إن من يجمع النصوص المتعلقة بنظر المرأة إلى الرجل من الكتاب والسنة يجدها متقابلة متعارضة فيما يظهر ، ولهذا صار محصلة آراء العلماء قولين متقابلين .
القول الأول : أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي محرم مطلقاً سواءً كان النظر إليها بشهوة أو بغير شهوة .
واستدلوا على ذلك بدليلين :
الأول:قوله تعالى:( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )(1)فالأمر بغض البصر هنا عام في كل نظر سواءً كان بشهوة أو بغير شهوة .
الثاني : عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم. وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "احتجبا منه" ، فقلنا يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه!"(2).
القول الثاني : إن نظر المرأة للرجل جائز إذا كان بلا شهوة واستدلوا على ذلك بأدلة أشهرها ما يلي:
1ـ حديث فاطمة بنت قيس في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بالعدة في بيت ابن أم مكتوم بقوله : (اعتدّي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك…)(3).
وهذا أمر صريح لها بالسكنى عند ابن أم مكتوم، فلو كان النظر إلى الرجل حراماً لأمرها بغض بصرها عنه عقب أمره لها بالسكنى عنده ، وهذه الحادثة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة بدليل سؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها واستشارتها له في نكاح رجال خطبوها منهم معاوية بن أبي سفيان ، ومعاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح .
2ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم"(4).
وهذا الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فيه دليل على أن النظر إلى الرجال بلا شهوة غير محرم .
مناقشة القائلين بالتحريم والمنع :
ويمكن مناقشة أدلة القائلين بالمنع بأن قوله تعالى :(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عام والأحاديث التي تبيح النظر إلى الرجال خاصة ، والعام إذا خص فلا يعمل به وإنما يعمل بالدليل المخصص فلا حجة في ذلك ، ويبقى عمل الآية فيما بقي على عمومه مما أمر النساء بكف البصر عنه . وقد قال ابن سعدي في معناها : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عن النظر إلى العورات والرجال بشهوة ونحو ذلك(5).
وأمَّا حديث أم سلمة فيمكن الجواب عنه بما يلي :
1ـ أن الحديث مختلف في صحته لان فيه راوٍ مجهول، وهو نبهان مولى أم سلمة لم يوثقه إلاَّ ابن حبّان كعادته في توثيق المجاهيل،وقد ضعف هذا الحديث الألباني،(6)وشعيب الأرناؤوط(7).
2ـ على فرض صحته فلعل الأمر لهن بالاحتجاب منه لكونه أعمى فربما كان منه شيء ينكشف وهو لا يشعر به(8)، أو أنه من باب الاستحباب والندب لا الوجوب .
3ـ أن هذا الحديث على فرض صحته خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث : (هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، ألا ترى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم .. ) .
مناقشة القائلين بالجواز :
وجّه إلى الدليل الأول وهو حديث فاطمة بنت قيس بأنها يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه ، ولا يخفى بعده .
وأمّا حديث عائشة فقالوا أنها كانت وقتئذٍ صغيرة لم تبلغ بدليل قولها : "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن" . وأجيب عليه بأن الروايات الأخرى تذكر أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة ، ووفد الحبشة كان في السنة السابعة من الهجرة فيكون عمر عائشة حينئذٍ ست عشرة سنة ، فكانت بالغاً(9).
الترجيح :
الذي يظهر والله أعلم أن نظر المرأة إلى ما يظهر غالبا من الرجل الأجنبي جائز إذا كان بلا شهوة، ومن مسوغات هذا الترجيح ما يلي :
1ـ أن الآية عامة، ولا يمكن بقاؤها على عمومها لوجود المعارض الصحيح القوي الا بترك العمل بالمعارض ، أو تعسف تأويله تعسفاً متكلفاً .
2ـ قوة أدلة القائلين بالجواز وجميعها في الصحيحين أو في أحدهما ، فلا يقف في وجهها حديث أم سلمة المختلف في صحته، وعلى فرض صحته فإنه مؤول عند العلماء تأويلات مقبولة .
3ـ تناسب هذا القول مع الآية الكريمة : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) فإن النساء أمرن بحفظ فروجهن عقب الأمر بغض البصر لأنه وسيلة إليه ، فيلمس من هذا أن البصر المأمور بحفظه ما كان بشهوة قد تؤدي إلى عدم حفظ الفرج .
4ـ ما رواه البخاري أن امرأة من خثعم وضيئة جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والفضل بن عباس رديفه فطفق ينظر إليها وتنظر إليه ، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل ، فعدل وجهه عن النظر إليها(10).
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة بغض بصرها ، وإنما صرف نظر الفضل لما رأى من الريبة في نظره ، ولأنه مأمور بغض بصره عن النساء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة .
4ـ ما فهمه البخاري رحمه الله مع إمامته في الحديث والفقه، فترجم لحديث عائشة رضي الله عنها ونظرها للحبشة بقوله : باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة(11).
المسألة الثانية:حكم الاشتراك في هذه القنوات مع احتمال حصول هذه المفسدة.
وللجواب عن هذا يقال :
إن هذه القنوات تندرج تحت أحكام الوسائل في الشريعة الإسلامية ، فهي وسيلة إلى دعوة الناس ، وتعليمهم الخير في زمن تطوّر فيه إعلام الباطل ليعرض الفجور ، والخلاعة ، والشرك ، والبدعة بأنواعها على المسلمين ، وحتى أوجز الحديث عن هذا أورد ما سطره يراع ابن القيم رحمه الله تعالى في تقسيم الوسائل وبيان أحكامها ثم نصنّف هذه المسألة التي نحن بصددها وندرجها تحت قسمها التي هي منه ونعطيها حكمه .
فالأقوال والأفعال المتوصل بها إلى المفسدة ، سواءً كانت محضة أو راجحة أو مرجوحة لا تخلو من أربعة أقسام هي :
1ـ ما كانت وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة ، كالزنا المؤدي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفرش ، فهذا منعته الشريعة إما كراهةً أو تحريماً، بحسب درجاته في المفسدة .(5/58)
2ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة، مثل : عقد البيع بقصد الحصول على الربا ، وعقد النكاح بقصد التحليل، فهذا أيضاً ممنوع في الشريعة لأن للوسائل أحكام المقاصد .
3ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح ، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل : سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم ، فهذا أيضاً منعته الشريعة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد استدل ابن القيم على المنع في هذين القسمين بتسعةٍ وتسعين دليلاً .
4ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، ككلمة الحق عند سلطان جائر ونحو ذلك ، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم ، أو استحبابه ، أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة(12).
فإذا أردنا أن نوازن بين المصلحة المرجوّة من هذه القنوات الفضائية الإسلامية والمفسدة المتوقعة من وراء ذلك نقول : إن فيها من المصالح التي هي مطلوبة شرعاً ،كتعليم العقيدة الصحيحة ، ونشر العلم والفقه ، وطرح الحلول الشرعية لمشاكل الناس المعاصرة، وتوجيه الرأي العام المسلم إلى المواقف الصحيحة من المستجدات العالمية، وتكوين الشعور المسلم الممثل بالجسد الواحد وإشغال أوقات الناس على أقل الأحوال بالمباحات عن المحرمات .. وفيها من المفاسد ما يتوقع حدوثه من نظر النساء إلى الرجال بشهوة ، أو انشغال الناس بمشاهدة هذه القنوات عن بعض الأمور المهمة في حياتهم .
وبعد هذه الموازنة يظهر أن المصالح المرجوّة من مثل هذه القنوات أعظم من المفاسد المتوقعة لندرتها ، وعدم إمكانية الجزم بوقوعها ، فهي داخلة تحت القسم الرابع من أقسام الوسائل التي عدّها ابن القيم رحمه الله ، فالاشتراك فيها مباح لمن رغب في ذلك ، وقد يكون مستحباً أو واجباً إذا كان فيه صرف للناس عن مشاهدة غيرها مما يشتمل على المحرمات ، كالغناء والموسيقى ، أو صور النساء ، أو ما هو أعظم ضرراً كنشر البدع ، والطعن في الدين ونحوه . ولا يعني الحكم بإباحة الاشتراك في هذه القنوات أن يشترك كل مسلم فيها بل هي كأحد أنواع الفواكه مباح ولا يلزم من إباحته أن يأكله كل أحد ،
تنبيه :
إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها. وهنا لابد من توجيه نداء إلى القائمين على هذه القنوات الإسلامية بسدّ باب الذريعة إلى الفساد ، وذلك بعدم استضافة من يرون فيه فتنة للنساء، والاستغناء عنه بغيره من العلماء وطلبة العلم ، فإن ذلك من السياسة الشرعية المفضية إلى إصلاح المسلمين . وعلى طلبة العلم ممن يعلم أن النظر إليه قد يورث تشبب النساء به ألاّ يخرج عليهن ، والحمد لله أن القنوات الفضائية ليست السبيل الوحيد للدعوة وتبليغ الناس الخير ، فيتخير من وسائل الدعوة ما يكون أقرب إلى تحقيق المراد من الدعوة بلا مفسدة ، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يمشي بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بشاب من أهل المدينة اسمه : نصر بن حجاج دعى به فوجده شاباً حسناً ، فحلق رأسه فازداد جمالاً ، فنفاه إلى البصرة، لئلا تفتتن به النساء، مع أنه لا ذنب له في ذلك، وما كان هذا إلاّ سدّاً لباب
الذريعة، وحسماً لمادته(13) والله أعلم .
وفي الختام ..
هذا ما تيسر جمعه وتحبيره راجياً من الله التوفيق والصواب ، ثم أرجو من العلماء وطلبة العلم تصويب الخطأ ، والعفو عن الزلل ، فإنما الخير أردت..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1-سورة النور ، آية 31.
2 - أخرجه أبو داود برقم (4112) ، والترمذي برقم (2878) ، وأحمد (6/296) .
3 - أخرجه مسلم برقم (1480) .
4- أخرجه البخاري برقم (454) ، ومسلم برقم (892) .
5- تفسير السعدي (ص566) .
6- إرواء الغليل (6/211) .
7-حاشية شرح السنة للبغوي (4/24) .
8- انظر فتح الباري (9/248).
9 - رواه البخاري برقم (1513) .
10 - رواه البخاري
11-فتح الباري (9/248) .
12- إعلام الموقعين (3/136) .
13-ينظر:مجموع الفتاوى (28/370،371) ، السياسة الشرعية (1/119) ، الطرق الحكمية(1/22)
============
بين الثبات والتجديد (1/3)
سلمان بن فهد العودة 30/3/1424
31/05/2003
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لهذا الموضوع قصة وذلك أن بعض الإخوة في ولاية كاليفورنيا من الولايات المتحدة الأمريكية في مسجد النور طلبوا مني مشاركة معهم في مؤتمر أقاموه وكانوا يقترحون أن يكون العنوان ( المراجعات المنهجية في الواقع الإسلامي المعاصر ) فألقيت لهم محاضرة عبر الهاتف ثم طلب مني إخوة آخرون في الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور في ماليزيا محاضرة أيضاً في موضوع ( التجديد في الشريعة الإسلامية ) وحدثت هؤلاء وأولئك فتبين لي أن الحديث بين هذين الموضوعين فيه شيء من الاشتراك لا بد من كشفه وبيانه وبناء على ذلك جمعت شتاته في هذا المقال .
والعمل الإسلامي في هذا العصر سواءً كان عمل جماعات أو أفرادٍ أو مؤسسات أو غير ذلك يمر بمتغيرات ومراجعات منذ فترة ليست باليسيرة ، لكن وتيرة هذه المراجعات وزخمها يتزايد يوماً بعد يوم خصوصاً في ظل العولمة التي تحاول أن تجمع العالم كله تحت سلطة أممية واحدة سياسةً واقتصاداً وإعلاماً وثقافة ثم ثانياً بسبب أحداث 11 سبتمبر وما ترتب عليها من الإجراءات العسكرية والسياسية والأمنية وغيرها ، فبذلك مر العالم كله بتحولات سياسية وفكرية عميقة ، وتبعاً فإن الواقع الإسلامي هو جزء من الواقع العام يتأثر به سلباً وإيجاباً .
لقد كان بعض الإسلاميين منذفترة طويلة يحاربون ويعترضون على ما يسمى بالمشاركة السياسية أو الدخول في البرلمانات ، أو محاولة التأثير من الداخل كما يقال ، ثم بدا لهم أن هذا باب لا بد من ولوجه فأصبح الذين كانوا بالأمس يجوبون القطر محذرين من هذه المشاركة ومبينين أن فيها خطراً وأن فيها لبساً ومتخوفين من هذه التجربة صاروا يفعلون الشيء ذاته داعين إلى ترشيح فلانٍ أو فلان أو هذه القائمة أو تلك الجمعية اقتناعاً منهم بأن هذا لا بد من فعله ولابد من مزاحمة الشر بالخير ، كذلك حمل بعض الإسلاميين السلاح لمواجهة بعض الأنظمة الحاكمة في عدد من البلاد الإسلامية ربما كان أقدم هذه التجارب هي التجربة التي جرت في سوريا ، وكان من جرائها النتائج الكبيرة المعروفة ونزيف الدماء الهائل وضياع الأموال وانسداد أبواب كانت مشرعة للدعوة في وقت من الأوقات، وتلا ذلك أحداث مشابهة في أكثر من قطر إسلامي كمصر وبعد فترة طويلة من هذه التجربة ترتب على ذلك الإعلان الكبير عن أن هذه التجربة مرت بظروف صعبة واكتنفتها أخطاء عديدة وأنه لا بد من تصحيح المسار وتدارك العثار وضبط المصطلح والشعار لدى هؤلاء الأخيار .
كان ثمت آخرون من الدعاة يحملون على البث الفضائي ويحذرون منه ويتحدثون عن مخاطره وبعد ذلك وجدوا أنفسهم مضطرين ـ بعد ما أصبح هذا البث واقعاً لا سبيل إلى تجاهله ـ أن يقتحموه بدعوتهم وأن يزاحموا فيه الشر بالخير وأن يعتمدوه كوسيلة جديدة من وسائل الدعوة كما يعتمدون الإنترنت أو الكتاب أو الشريط أو الجريدة أو المجلة أو غيرها والوسائل لها حكم الغايات ، هذه مجرد نماذج وغيرها كثير تشير إلى أن هناك مايحتاج إلى تجلية وإيضاح.(5/59)
والمسلم يدعو : " اهدنا الصراط المستقيم "، و هذا الدعاء رباني عظيم في دلالته، ولحكمة الله لعباده أن يتلوه ويقرؤوه في كل صلاة بل في كل ركعة فلا تصح الصلاة إلا بهذا ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما في البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، ولأمرٍ ما شرع الله عز وجل هذا ، ولا شك أن المسلم يوقن يقيناً قطعياً أن ذلك لحكمة عظيمة ، وأن غيره لا يقوم مقامه فيه ، والهداية المطلوبة هي أربعة أنواع :
الهداية الأولى هي منح الله عباده القوى والقدرات والملكات التي بها يتوصلون إلى معرفة الخير والمصلحة وإلى معرفة الشر والمفسدة .
ومن ذلك أن الله تعالى زودهم بالحواس المعروفة من سمع وبصر ولمس وغير ذلك ومنحهم سبحانه العقول التي يحصلون بها العلم والتعلم ولهذا قال الله سبحانه : ] وعلم آدم الأسماء كلها [ أن الله جعل لآدم ثم لذريته من بعده قدرة على التعلم والفهم والإدراك لا تتحقق لغيرهم ، فربنا سبحانه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وهذا وإن كان للحيوان نصيب منه بما هداه الله إليه بفطرته فهو يعرف أين يختار المرعى وأنه يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش ويتقي بعض المخاطر حتى إنك تجد للحيوانات وللحشرات وللهوام والدواب من بديع صنع الله تعالى الشيء الذي يندهش منه العقل إلا أن الله سبحانه فضل الإنسان على غيره من ذلك بما لا يخفى .
فالهداية الأولى : هي أن الله زود الناس بالملكات التي بها يحصلون على الهداية ويعرفون الخير فيفعلونه والشر فيجتنبونه، ولهذا كان العقل مناط التكليف والسؤال والجزاء.
الهداية الثانية : الهداية العامة بأن الله بعث الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب وخاتمتها القرآن ولهذا قال تعالى : ] ولكل قوم هاد [ وقال سبحانه ] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ فبين أن الرسل هداة ، وأن القرآن الكريم والكتب السماوية قبله كانت هداية للناس ] إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور [ وهكذا بقية الكتب حتى جاء القرآن مهيمناً عليها، وهذه الهداية يسميها العلماء هداية الدلالة والإرشاد ، فالله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ فأثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الهداية بتعليمه الناس وتلاوة القرآن وبيان السنة ، يكون هدى الناس وإن كان نفى عنه نوعاً آخر] إنك لا تهدي من أحببت [ .
الهداية الثالثة : الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق للصالحين من عباد الله تبارك وتعالى أن يهديهم الله إلى صراطه المستقيم ولهذا يقول الله عز وجل : ] وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد [ ويقول سبحانه : ] أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ ويقول عز وجل : ] والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ فهذه هداية التوفيق والإلهام أن الله تعالى يأخذ بيد من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم ، ولذلك يقول بعض العلماء : إن آيات الله سبحانه وتعالى في الكون مبثوثة لا يحصيها إلا هو ، ولكن المستفيدين منها قليل فكم من ناظر في ملكوت السموات والأرض لا يتجه إلى هدى ، ولا ينصرف عن ردى ، ولكن الله يهدي من يشاء .
ومن الواضح أن هذا النوع من الهداية ـ هداية التوفيق وهداية الإلهام ـ يتجزأ ويتكون للإنسان شيئاً فشيئاً ويحصل عليه الإنسان بالتدريج ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى : ] والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ فهم لما جاهدوا في الله سبحانه وتعالى كانوا مهتدين وإلا لما جاهدوا في الله تعالى ، ولكن وعدهم الله تعالى بقوله: ] لنهدينهم سبلنا [ بمزيد من الهداية والتوفيق والعلم والمعرفة ومزيد من العمل والرحمة لم يكن لهم من قبل ، وهكذا قول الله سبحانه : ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم [ فهم أولاً آمنوا وعملوا الصالحات ، والإيمان هداية ، وعمل الصالح هداية ، ومع ذلك قال : ] يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم [ فهم آمنوا وعملوا الصالحات ، وهذه هداية ، ثم تذرعوا بها إلى هداية أكمل وأعظم منها في الدنيا وفي الآخرة بوعد الله تبارك وتعالى ، وهكذا قول الله عز وجل :] والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين [، فيتكلف العمل الصالح أولاً ثم يصبح سهلاً يسيراً عليه بالاعتياد والتمرين.
فمن أنواع الهداية الظاهرة في هذه الآية أن هدايتهم الأولى كانت تكلفاً وتصبراً ، ثم تحولت إلى جبلة وعادة وكلفةً بغير تكلف فتلقنوا هذه الأعمال ، ولهذا كان قيامهم الليل أول الأمر في عناء وجهد ، ثم تحول إلى عادة مألوفة لا يصبرون بدونها ، ولا يجدون لذتهم إلا فيها ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى :] يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ فخاطبهم بالإيمان ، ودعاهم إلى أن يتقوا الله وأن يؤمنوا برسوله ، وهذه هدايات ، فإذا فعلوا ذلك قال :] يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به [ فهذا النور هو ثمرة الهداية ثمرة التقوى ثمرة الإيمان ثمرة العمل الصالح أن يكون لهم نور يمشون فيه في الدنيا فيفرقون به بين الخطأ والصواب والحق والباطل بل يفرقون به بين الصوابات المتعددة أيها أفضل وبين الأنواع التي كلها خير أيها أخير ، ولهذا قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : " ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر ، إنما الفقيه كل الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين " وهنا قال : ] ويجعل لكم نوراً تمشون به [ وفي الآية الأخرى قال : ] إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ فهذا الفرقان يكون في قلب الإنسان وعقله ، وفي خبرته وعلمه فيفرق بين الأشياء ويختار أيها أفضل وأكمل وأنبل مما يقصر عنه فهم غيره.
الهداية الرابعة : الهداية إلى مجاورته سبحانه وتعالى في جنات عدن في جنات النعيم ، قال الله عز وجل : ] ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله [ فتمام الهداية إنما يتحقق بمصير الناس إلى جنات النعيم في جوار الرب الرحيم فهذه الهدايات الأربع يطلبها العبد يطلبها في دعائه .
وقد اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله ] اهدنا الصراط المستقيم [ .
فقال علي بن أبي طالب وأبي بن كعب رضي الله عنهما ] اهدنا [ معناها ثبتنا على الصراط المستقيم ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أرشدنا ، وروي عنه أيضاً أنه قال : وفقنا وألهمنا ، فهناك الثبات وهناك هداية الإرشاد وهناك هداية التوفيق والإلهام .
كما اختلفت عبارات المفسرين في الصراط المستقيم فقيل : هوكتاب الله تعالى ، وقيل : الإسلام ، كما قاله ابن مسعود والحسن وأبو العالية وغيرهم ، وقيل : طريق الجنة ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .(5/60)
والصواب أن ذلك كله حق ، وههنا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله (13/382) : " فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فيقول بعضهم : ] الصراط المستقيم [ كتاب الله أو اتباع كتاب الله ويقول الآخر : ] الصراط المستقيم [ هو الإسلام أو دين الإسلام ويقول الآخر : ] الصراط المستقيم [ هو السنة والجماعة ويقول الآخر : ] الصراط المستقيم [ طريق العبودية أو طريق الخوف والرجاء والحب وامتثال المأمور واجتناب المحظور أو متابعة الكتاب والسنة أو العمل بطاعة الله أو نحو هذه الأسماء والعبارات ، ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته " .
ولهذا نقول : إن الآية تدل على معانٍ كلها حق.
المعنى الأول منها : ثبتنا على الصراط المستقيم ، ولهذا روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) .
وروى الترمذي وغيره عن أنس وجماعة من الصحابة أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) فقلت : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال : ( نعم . إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء ) فالصراط المستقيم هنا هو الإسلام ، فلا يبتغ المسلم ديناً سواه ، وهو القرآن فلا يبتغ كتاباً غيره ، وهو الإيمان فلا يختار الكفر على الإيمان طائعاً راضياً، وهو السنة فلا يصرف قلبه إلى بدعة أو مخالفة أو انحراف .
إن أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة وأصول الأخلاق وأصول المحرمات والمنهيات وأصول الاعتقاد المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتي هي محل إجماع من السلف الصالح رضي الله عنهم هي من الضروريات الظاهرة، ومن قواعد الدين ومعاقده ومبانيه الثابتة المستقرة ، فالمؤمن يدعو ربه صباح مساء في قيامه وركوعه وسجوده بالثبات عليها حتى يلقاه ؛ لأن هذه الأشياء مما لا يجوز أن يكون فيها أي خلل أو اضطراب وكثير من الناس قد يقع عندهم شيء من الزلزال .
والزلزال قد يضرب منطقة معينة ، ولكن الذين يرصدون الزلزال يدركون إن توابع الزلزال قد تمتد إلى مناطق بعيدة جداً ، وإن لم يشعر الناس فيها بزلزلة قوية لكن يدركها العارفون، فهكذا بعض الناس ربما بسبب اضطرابهم في بعض الأمور يصل الزلزال عندهم إلى القواعد والمعاقد والأصول ، وهذا خطر ينبغي الانتباه له ، ويجب على المسلم أن يحاذره فإن أغلى ما يملكه المسلم وقرة عينه في الدنيا وسعادته في الآخرة وقربانه إلى ربه سبحانه وتعالى هو الإيمان بالله والتسليم لشريعته والوقوف عند حدودها .
فالمعنى الأول ثبتنا على الصراط المستقيم.
والمعنى الثاني زدنا هدى ، قال تعالى : ] والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ وقال تعالى : ] ويزيد الله الذين اهتدوا هدى [ فالهدى لا يتوصل الإنسان إليه دفعة واحدة حتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان الوحي يتجدد عنده مرة بعد مرة وكان يرتقي في مدارج الكمال زلفة بعد أخرى وكان يقول له ربه سبحانه : ] واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ واليقين هو الموت فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبد ربه ، ويصعد سلّم العبودية ، ويرتقي في مدارج الكمال حتى كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن الأغر المزني : (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة )، وعلمه ربه أنه يطلب المزيد من العلم والعمل.
فمهم للإنسان أن يطلب الزيادة من الهدى ، ومن زيادة الهدى الاطمئنان إلى ما عند ربه تبارك وتعالى ، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه عز وجل : ]رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي[ فاطمئنان القلب بالإيمان هو من زيادة الهدى ، وكذلك زيادة العلم بتفاصيل الإيمان و تفاصيل الأعمال هو من الهدى ، ولهذا قال تبارك وتعالى : ] وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ فالمؤمن جاءته آية جديدة فآمن بها وسلم وقرأها ، وكل هذا زيادة إيمان ، والمنافق كذب بها وردها وكفر فكان ذلك زيادة في نفاقه ، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ] وقل ربي زدني علماً [ وقد روى صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل فقال : رأى رجل مع أبي محبرةً فقال له : يا أبا عبدالله ، أنت قد بلغت هذا المبلغ ، وأنت إمام المسلمين ، فقال : " من المحبرة إلى المقبرة " يعني لا يزال يطلب العلم إلى أن يموت .
وحتى في مرض الموت كان السلف يتلقون العلم ويطلبونه ، وليس مقصود العلم المعرفة النظرية المجردة فقط ، وإنما العلم والإيمان ، ولهذا لما قيل للإمام أحمد ـ وهو في مرض الموت ، وكان يئن من الوجع ـ : بعض السلف كانوا يقولون : إن الأنين يكتب ، ترك الأنين رحمه الله
المعنى الثالث : اهدنا أي وفقنا للصواب فيما تختلف فيه الأنظار وتتفاوت فيه الاجتهادات، ولهذا كان من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوته في صلاة الليل ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل، وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) والحديث رواه مسلم وأحمد وأهل السنن ، وهنا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فاستغاث به، وقال : ( رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ) الذين مهمتهم تتعلق بالحياة فجبريل ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب ، وميكائيل الموكل بالقطر الذي فيه حياة الأرض ، وإسرافيل ينفخ في الصور لحياة الناس من قبورهم .
وذلك لأن المقام مقام طلب الهداية ، والهداية هي نور وحياة للقلوب وللأبدان، فناسب أن يذكر اسم هؤلاء الملائكة .
وهذا يشمل الهداية الأولى بالثبات إلا أنه يشمل هداية جديدة ، وهي طلب الهداية في مواضع الإشكال ، ولهذا قال : (لما اختلف فيه من الحق ) وكثيراً ماكان العلماء يدعون بهذا الدعاء في مواضع الاضطراب والاختلاف والمسائل الخفية.
وهنا نلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل الهداية وليس الثبات - كما في الحديث الذي قبله - .
إن هذه الهداية هي - في حقيقتها - ثبات ، ولكن قد لا تكون صورتها كذلك ، إنها ثبات على المنهج ، ومن الثبات أن يتبع المرء الهداية حيث كانت ، فالدين المحض يسأل المرء الثبات عليه بكل حال ، والرأي يطلب المرء الصواب فيه ، ولهذا نقول : إن أعظم الثوابت هو الاجتهاد ، وهو أساس المتغيرات فإن المرء إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر ؛ لأن اجتهاد المرء ينتقل من فاضل إلى أفضل أو من مفضول إلى فاضل.(5/61)
وعند البخاري وغيره عن زهدم قال : كنا عند أبي موسى الأشعري ، وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء فأتي بطعام فيه لحم دجاج ، وفي القوم رجل جالس أحمر فلم يدن من طعامه قال : ادن فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه ، قال : إني رأيته أكل شيئا فقذرته فحلفت ألا آكله ، فقال : ادن أخبرك أو أحدثك أني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان ، وهو يقسم نعماً من نعم الصدقة فاستحملناه فحلف ألا يحملنا : قال : ( ما عندي ما أحملكم عليه ) ثم أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب من إبل فقال : ( أين الأشعريون ؟ أين الأشعريون ؟ ) قال فأعطانا خمس ذود غر الذرى، فلبثنا غير بعيد، فقلت لأصحابي : نسي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه ، فوالله لئن تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يمينه لا نفلح أبداً ، فرجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا : يا رسول الله، إنا استحملناك فحلفت ألا تحملنا ، فظننا أنك نسيت يمينك ، فقال : ( إن الله هو حملكم ، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) .
فهنا تلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف على شئ ، ثم فعل غيره، وقرر في ذلك قاعدة عظيمة له ولمن يأتي بعده أنه قد يرى الشيء صواباً حتى يحلف عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يبدو له أن غيره خير منه ؛ لأنه تغيرت الأحوال والأحداث ، إذ لم يكن عنده نعم فجاءته النعم ، أولم يكن يرى هذا الشيء فأراه الله تعالى إياه فيكفر عن يمينه الأول، ثم يأتي الذي هو خير ، ولهذا قال عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى ـ والغريب أن أبا موسى طرف في الأمرين كليهما ـ ضمن هذا الخطاب : ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع فيه إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي بالباطل، ثم قال له : الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها.
يقول ابن القيم - رحمه الله - في (كتاب إعلام الموقعين): " هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الأحكام والشهادة والحاكم، والمفتي أحوج شئ إليه وإلى تأمله والفقه فيه، ثم شرح ابن القيم هذا الفقرة بالذات في قول عمر لأبي موسى :" ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه عقلك وعدت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم " يقول في كلام جميل :" يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة يعني في حكم ثم وقعت في هذه الحكومة مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته؛ فإن الاجتهاد قد يتعثر، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعاً من العمل بالثاني إذا ظهر لك أنه الحق ، فإن الحق أولى بالإيثار ؛ لأن الحق قديم سابق على الباطل، فإذا كان الاجتهاد الأول قد سبق يعني هو الأول عندك وقد تعمل به ؛ لأنك تقول : هذا أول اجتهاد ، وهو أول ما ذهبت إليه ، وأول ما نظرت فيه، فيقول لك: لا يمنعنك ذلك من أن تأخذ بالحق الجديد، فالحق قديم يعني أسبق حتى من اجتهادك الأول والرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول ، ثم نجد أن عمر- رضي الله عنه - وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كانوا يعملون بهذا النظام، فعمر نفسه - رضي الله عنه - كما عند عبدالرزاق وغيره أنه قضى في مسألة المشركة ـ وهي مسألة فرضية ـ بقضاء ثم جرت مرة أخرى فقضى فيها - عمر رضي الله عنه - بقضاء آخر ، فقيل : يا أمير المؤمنين، إنك قضيت قبل عام بغير ذلك ، فقال عمر - رضي الله عنه - : تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم ، فأخذ عمر - رضي الله عنه - باجتهاد ثم أخذ باجتهاد آخر بما ظهر له أنه الحق ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض أيضاً القضاء الأول بالقضاء الثاني فجرى أئمة الإسلام - كما يقول ابن القيم - من بعده على هذا المنوال، ومن هنا وجدنا الأئمة ينهون عن تقليدهم بل ويرفضون هم أن يقلدوا أنفسهم ، فالإمام أحمد يكون له في المسألة الواحدة سبع روايات ، وهي من القضايا التي قد يكون فيها نصوص ، ولكن توجيه النصوص على محلها والنظر، فيها واعتبار الناسخ والمنسوخ، والنظر إلى صحة الإسناد وعدمه ، وهكذا الشافعي كان له مذهب قديم في العراق ثم مذهب جديد في مصر ، وتلاميذ أبي حنيفة أصبحوا يخالفونه في نحو من ثلثي مذهبه - رضي الله عنهم أجمعين -.
وكان الشافعي يقول: إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من هدي - النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله : فنحن نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم إلى المدينة مثلاً كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء يحب موافقتهم طمعاً في إسلامهم وتأليفاً لقلوبهم ، ثم خالفهم بعد ذلك ، وأصبحت مخالفة أهل الكتاب والمشركين والوثنين شريعة قائمة أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقررها وقعد أصولها ، وهكذا نجد بعد - هؤلاء الأئمة - أن الإمام ابن تيمية ينتقل من المذهبية إلى الاجتهاد، ويكتب ويتكلم ويفتي في كثير من المسائل التي خالف فيها المذهب وخالف فيها الشيوخ يتكلم برؤية شهودية لم تكن له من قبل حتى إنه يخالف رأيه بل أكثر من هذا فتجده في موضع يتكلم عن مسألة جريان الربا في الحلي فيقول: إنها باطلة باتفاق العلماء ، ثم يقرر في آخر عمره وفي السجن في تفسير آيات أشكلت وهو كتاب مطبوع خلاف الرأي الذي قرره من قبل ، وقال : إن عليه اتفاق العلماء؛ وما ذلك إلا لأنه كبر عقله واتسع اجتهاده، وزاد نظره، و تغيرت رؤيته، وأدرك ما لم يكن يدرك من قبل ، وإلا - فهو لا شك - في المسألة الثانية أكثر احتياطاً لدينه وأكثر ورعاً وحرصاً على مصالح الناس ، ولكن أراه الله حينئذ ما لم يكن يرى من قبل، ولا يلزم من ذلك بالضرورة أن يكون الآخر صواباً، لكن المدرك هو سعة الأمر وأهمية التعبد بالاجتهاد الذي يراه الفقيه، ولا يقلد فيه نفسه ولا غيره.
ومن المهمات في هذه المسألة ضرورة فصل الدين الرباني المحض عن النقائص البشرية النفسية والعقلية فإنهما يختلطان على المرء أحياناً فتتدثر بعض الخصائص البشرية وبعض الطبائع الإنسانية بدثار التقوى حتى يلتبس الأمر على صاحبها ، وفرز هذا عن ذاك بحيث يعرف المرء ما كان ديناً محضاً صريحاً لا شوب فيه، وما كان رأياً أو أمراً اجتهادياً أو أمراً شخصياً أو نابعاً من طبيعة أو جبلة ، وهذا لا شك من أعظم علامات الإخلاص لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والنجاة من تلبس الهوى بالإنسان ، ويدخل في هذا الانتقال من الاجتهاد المرجوح إلى الاجتهاد الراجح- من الحصول على أجر واحد إلى الحصول على أجرين معاً - أجر الاجتهاد وأجر الصواب وهذا الاختلاف
والترجيح والانتقال يكون في مسائل، أذكر أربعاً - منها على سبيل العرض السريع :-(5/62)
الأولى: مسألة الوسائل وليس الغايات ، فالغايات متفقة ، دعوة الناس إلى رب العالمين وتعبيدهم - لله عز وجل - بالعمل بالكتاب والسنة وطلب الجنة طلب الرضوان ، لكن الوسائل إلى ذلك تختلف ، ولهذا نرى أن وسائل الدعوة اجتهادية وليست توقيفية ، وقد يجد للناس من الوسائل اليوم ما لم يكن عندهم من قبل، إما أنه لم يكن موجوداً، أو لم يكن مستخدما،ً أو لم تكن المصلحة الراجحة تقتضي اعتماده كوسيلة، فالوسائل تختلف من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة إلى أخرى، وهي حركة ضمن دائرة المباح الأصلي في الجملة.
الثانية: ما يتعلق بالأساليب، فأساليب الدعوة قد تختلف ، فالإنسان يستخدم الإنسان أسلوب السرية والعلنية - ونوح عليه السلام يقول { ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً} وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - سراً بمكة ثلاث سنين، ثم جهر بدعوته، كذلك التفاوت بين الشدة واللين وبين التعميم والتخصيص والتربية الفردية والخطاب الجماعي ، وهكذا كلها أساليب يطلب منها ما يحقق المقصود وما يحقق المقصود اليوم قد لا يحققه غداً، وما يحققه في بلد قد لا يحققه في بلد آخر ، ولهذا أذنت الشريعة أن يكون هذا مجال نظر واجتهاد وتوسعة.
الثالثة : ما يتعلق بالفروع وليس الأصول، فأصول الشريعة والاعتقاد من المحكمات المسلمات القطعية التي لا خلاف فيها ، لكن باب الفروع باب واسع؛ اختلف موسى وهارون وهما نبيان كما جاء في صريح القرآن، كما اختلف فيه أبو بكر وعمر حتى في حضور - النبي صلى الله عليه وسلم - في موضوع الأسرى وغيره، واختلف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، واختلف فيه الإمام النووي وابن حجر وابن تيمية وغيرهم ، واختلف فيه ابن باز وابن عثيمين، فلا غرو إذن أن يختلف الناس فيه إلى قيام الساعة وألا يكون ثمة تثريب على اختلاف الناس فيما كان من فروع الشريعة، والخلاف المقبول هنا ليس بسبب الهوى أو التشهي، أو المزاج أو الذوق؛ وإنما بسبب الاجتهاد والنظر في الأدلة والراجح والمرجوح، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ وغيره.
الرابعة : الاجتهاد في النوازل الحادثة وليس في القواعد المستقرة، والنازلة - بطبيعتها - شيء جديد
تطيش له الأفهام وتذهل العقول وتستوحش النفوس ، ولكن العبرة بما يؤول إليه الأمر ويستقر عليه الحال ، ولهذا فإن الاجتهاد في النوازل يكون مجالاً وعرضة ، ونحن نجد موسى وهارون قد اجتهدا في مسألة نازلة وهي كون بني إسرائيل عبدوا العجل، فعاملها كل منهما بطريقة على حسب ما ذكر الله تعالى في كتابه ، وإن كانوا كلهم وكل الرسل والأنبياء بعثوا بدعوة التوحيد ونبذ الأنداد والأصنام ورفض الشرك، إلا أن معالجة نازلة في هذا الباب كانت محل اختلاف فعالجها - هارون عليه السلام - بأن نهاهم عن ذلك وصبر عليهم - بينما موسى - عليه السلام - أخذ برأس أخيه يجره إليه، ونهاه عن ذلك فقال له :( لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) فمن معاني الهداية: طلب ما هو الأفضل والأتقى والأكثر صواباً والأكثر رجحاناً .
الرابع من معاني الهداية : اهدنا الصراط المستقيم، أي ألهمنا عبودية تناسب الحال التي نحن فيها فإن لكل مقام من مقامات الإنسان عبودية تخصه وتلائمه ، فهناك عبودية الإنسان في حال الصحة ، واستخدام قوته فيما يرضي الله سبحانه ، لكن عبوديته في حال المرض بالصبر والرضا والتسليم والدعاء ، وهناك عبودية الغنى بالإنفاق في سبيل الله وهي الشكر ، وهناك عبودية الفقر التي هي الرضا والتسليم ، وألا يمد عينيه أو يديه إلى ما عند الناس، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى، ويطلب الغنى منه دون غيره، وهناك عبودية القوة للفرد والجماعة والدولة والأمة بأن تصرف هذا القوة في طاعة الله ، وفي حماية الإيمان والمؤمنين ، وفي تأديب الظالمين والفاسقين والمعتدين ، وهناك عبودية الضعف التي تقتضي الصبر والمصابرة والانتظار والتفكير وإعمال العقل والحيلة، فقد يدرك الإنسان بالحيلة مالا يدركه بالوسيلة والقوة ، وكذلك التسليم لله - سبحانه وتعالى - بألا يسخط الإنسان من القضاء أو القدر، أو يخرج عن طوره أو يكفر بربه أو يشك في دينه ، وبعض الناس يقول : لماذا مكن الله الكفار وأعطاهم القوة ؟ وحرم المؤمنين ومنعهم من ذلك ؟
فهذا مما يدل على أهمية إدراك العبودية في حال الضعف ، وأنها غير العبودية في حال القوة ، ومن العبودية في حال الضعف أن يسعى الإنسان بنظره وتفكيره وتخطيطه إلى استجماع واستحضار القوة الممكنة ؛ بحيث يزول الضعف ، وإذا لم يزل عن هذا الجيل فليزل ـ على الأقل ـ عن الأجيال القادمة وأن نعرف لأجيالنا طريقاً بدأناه نحن ليكملوه هم من بعدنا، وهكذا عبودية الشباب غير عبودية الكهولة أو عبودية الشيخوخة، ولهذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( لكل عابد شرة ولكل شرة فترة ) رواه ابن حبان وأحمد والترمذي وغيرهم ، وفي لفظ ( إن لكل شيء شرة ولكل شيء فترة فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه ) وهذا لفظ الترمذي ، وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجال يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً فقال : ( تلك ضراوة الإسلام وشرته ، ولكل ضراوة شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلأم ما هو ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك ) فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طبيعة الأشياء وأن لكل شيء عبادته أو عبوديته التي تلائمه ، فالشباب - مثلاً - بطبيعتهم الحادة وحداثة التجربة لديهم يكونون - كما يقول الرازي في الفراسة ( ص 81 ): "سراع التقلب يغلب عليهم الملال، يشتهون بإفراط، ويملون بإفراط؛ لأن النفس الخالية من التصورات تكون شديدة الرغبة في تحصيلها، فإذا قضت وطرها منها مالت إلى غيرها.
ويغلب عليهم حب الكرامة، ورغبتهم في العلو والظهور فوق رغبتهم في المال.
ولديهم سرعة التصديق بما يلقي إليهم، وبساطة التصور مما يولد نوعاً من الإقدام.
أما في السن المتقدم فيغلب على المرء كثرة التعقلات والتصورات والتجارب، وكثرة التردد والشك، وقلة الجزم، والاعتدال في الولاء وفي الكراهية، والمعرفة بالعواقب".
وقريب من ذلك ما ذكره ابن رشد عن بعض أهل الفلسفة حيث قال : "فمما يتصف به الشباب : غلب الشهوات عليهم، وهم سريعو الغضب والرضا وهم محبون للكرامة، ولا يحتملون تجريحاً، ويصدقون القول سريعاً لقلة خبرتهم، ويسهل خداعهم واغترارهم؛ لأن من شأنهم التصديق من غير دليل أو بدليل ضعيف، والحياء يغلب عليهم، ثم هم يقدمون الجميل على النافع إذا أحبوا شيئاً بالغوا في حبه ، وإذا أبغضوا شيئاً بالغوا في بغضه، ويميلون إلى الهزل والمزح.
أما أخلاق الشيوخ فلا يكترثون بحمد ولا ذم ؛ لأن قصدهم الحقائق، ولا يجزمون بشيء ألبتة ويقرنون كلامهم بلعل وعسى!، ولا يحبون بشدة كما لا يبغضون بشدة ، بل أمرهم وسط بلا إسراف ، بل بما يقتضيه الحال، ويؤثرون النافع على الجميل، وهم بعد ذلك أطول صبراً وأمضى عزيمة لا يهزلون كثيراً، ولا يمزحون إلا نادراً ).(5/63)
فالمؤمن يدعو ربه أن يوفقه ويلهمه العبودية الملائمة لحاله كفرد ولحال المجموعة أو الأمة أو المجتمع ، ولهذا يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى (22/400) : "كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم ، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين ، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) فإن الصراط المستقيم أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور ، والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية وكل ذلك حق فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق.
فالإمام - رحمه الله - ذكر المعنى الأول وهو أن الهداية في كل وقت بحسبه، وأن العبد حينما يدعو ويقول : اهدنا الصراط المستقيم، فلأنه اليوم محتاج إلى الهداية المتجددة زائدة على ما كان عنده بالأمس ، وهو غداً يحتاج إلى هدايةزائدة على ما عنده اليوم ، ففي كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة هو محتاج إلى هداية جديدة تلائم مقامه وتحل المشكلة الماثلة أمامه فهذا معنى.
ثم أشار - رحمه الله - إلى أن هذه الهداية ضرورية ، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات، والموت لا بد منه - فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيدا، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما ; فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم ، وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر ؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) ( ويرزقه من حيث لا يحتسب ) وكان من المتوكلين ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره ) وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن ينصر الله ينصره الله وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون .
فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر ، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة ، فلهذا فرض على العبد ، هذا يدخل فيه سؤال الله - سبحانه وتعالى - الإلهام لمعرفة الأحوال ومعرفة المراحل وتحقيق عبوديته كل منها في وقتها ، و الإنسان لا يعرف ذلك إلا بتعليم الله تعالى له ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس:" لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ...) الحديث، فإذا أجابوا إلى شيء دعوا إلى ما فوقه وإلى ما بعده وهذا يدل على ملاحظة التدرج في دعوة الناس أفراداً وجماعات ، ومن هذا التنوع في العناية بالموضوعات المختلفة، فهناك أقوام يناسبهم أن يتحدث معهم في موضوع التربية ، وآخرون يناسبهم الحديث معهم في تفصيلات العلم في الفقه والحديث والتفسير وغيرها ، و فئة ثالثة تحتاج إلى من يحدثها في الجوانب الواقعية والمسائل والمشكلات السياسية ، وفئة رابعة تحتاج إلى من يحدثها بالانتقال إلى الأعمال والمشاريع والمؤسسات وإلى الأمور العملية ، - وهكذا بحسب ما لدى هؤلاء من الكمال ومن الإيمان ومن العلم ومن القدرة ، وبحسب ما عندهم من النقص أو الاختلال - يكون ما يقدم لهم ، ومن ذلك أيضاً أن الخطاب يقبل التنوع والتعدد ، ولهذا الله - سبحانه وتعالى - يقول : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) فالرسالة تكون بلسان القوم المبعوث إليهم، والمقصود من ذلك هو البيان ، فالمقصود من دعوة الإسلام هو البيان للناس والبيان يكون بالقول والفعل ، والقول يتنوع والفعل يتنوع بحسب حال المتحدث وحال المدعوين ، ولذلك كان خطاب الأمم ذات الحضارة والعلم المادي الدنيوي يختلف عن خطاب الأمم البسيطة الساذجة، فالدعوة في أوروبا- مثلاً - تختلف في متطلباتها واحتياجاتها و في همومها ومشكلاتها التي تواجهها - عن الدعوة في أفريقيا أو الدعوة في آسيا ، فحينما تدعو شخصاً بسيطاً ساذجاً ليس عنده أي خلفية مسبقة يختلف الأمر عما إذا دعوت شخصاً مليئاً بالشبهات والنظريات والفلسفات والأقوال السابقة ، وإذا دعوت شخصاً في الصحراء ليس كما لو دعوت شخصاً في المدينة، ثم أحوال المجتمعات وتعقيداتها وظروفها يحتمل أبعد من هذا، فالشبهات غير الشبهات والهموم والمشكلات والحلول تتفاوت من قوم إلى قوم، وكل قوم يخاطبون بحسب ما يناسبهم ، ووسائل التأثير مختلفة ونوعية الداعية الذي نحتاج إليه في أوروبا غير الداعية الذي نحتاجه في أفريقيا ، والداعية في بلاد ينتشر فيها العلم الشرعي غير الداعية في بلاد يعم فيها الجهل ، والدعوة في بلاد غنية غير الدعوة في بلاد فقيرة وهكذا
المعنى الخامس :اهدنا الصراط المستقيم من معانيها الانتقال من الحسن إلى ما هو أحسن منه ، فهناك حسن وأحسن ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ويقول : ( اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) فحتى في بعض أوامر الشريعة ثمت تخيير، فهناك تخيير في باب الكفارات ، وهناك تخيير في الحقوق فالإنسان له أن يأخذ الدية ـ وهذا حق له مشروع ، وهو حسن ـ ولكن هناك ما هو أحسن منه، وهو العفو والصفح خاصة إذا كان معه الإصلاح ، ومن ذلك الانتقال من عمل فاضل إلى عمل أفضل منه ، فقد يكون الإنسان منصرفاً إلى عبادة ، والعبادة خير وقربة إلى الله سبحانه، ولكن العبادة نفعها لازم خاص فإن انتقل إلى التعليم وإلى الدعوة فقد انتقل من عبادة إلى عبادة ، لكن العبادة الجديدة أحسن من الأولى ؛ لأن نفعها متعدٍ ، ولهذا كان الزهري ومالك وغيرهم يقولون : إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة لمن صحت نيته وما ذلك إلا لأن العلم فيه نفع للناس بخلاف العبادة فإن نفعها مقصور غالباً على صاحبها ، وهذا كما يكون للفرد يكون للجماعة ويكون للأمة ، فقد يفتح الله تعالى لقوم هم على خير خاص فيفتح الله لهم خيراً أعم وأوسع وأعظم فينبغي أن يغتنموا ذلك وأن لا يضيعوا الفرصة ، وكما قيل :
إذا هبت رياحك فاغتنمها … …
فعقبى كل عاصفة سكون
وقد يكون الشيء حسناً ويكون غيره أحسن منه في حال أخرى، وهذا يتجلى في الأخلاق والمواقف ، ولذلك قيل :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا … …
مضر كوضع السيف في موضع الندى(5/64)
المعنى السادس : أن يتجلى للمؤمن أو العالم ويثبت له ما لم يثبت لغيره ، وهذا من معاني اهدنا الصراط المستقيم ، ولذا كان الأئمة الكبار أئمة الحديث المتقدمون المحققون يقع لأحدهم ـ بسبب البحث والتحري والاطلاع على الأسانيد ومعرفة الرجال وتتبع طرق الحديث ـ من القطع واليقين والجزم بأن هذا الحديث صحيح ، بل قد يكون عنده متواتر ويحلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا ونطق به ولا يستثني ويكون محقاً في ذلك باراً راشداً ؛ لأنه تيقن ذلك يقيناً قلبياً جازماً بسبب عملية البحث الطويلة والاطلاع ومعرفة الأسانيد والمتون والطرق والرجال وغيرها فمثل هذا العالم تحقق له من اليقين في مسألةٍ ما لم يتحقق لغيره حتى من العلماء فضلاً عن عامة الناس ممن لم يصلوا إلى هذا ولم يسلكوا طريقه ، فيكون لهذا العالم هداية خاصة خصه الله تعالى بها عرف بها صحة هذا الحديث بل ثبوته بل تواتره أحياناً وأنه ضروري وقطعي ويقيني ما لم يقع لغيره ، ولا يستطيع هذا العالم أن يلزم غيره بذلك ممن لم يسلك هذا السبيل ولم يصل إلى هذه النتيجة، فهذه أنواع من الهدايات التي يطلبها المرء .
أخيراً : لماذا يقع هذا ؟
هذا التنوع الذي يحدث ويتجدد له أسباب عديدة منها:
أولاً : هناك ما هو من باب تجدد الاجتهاد الفقهي والدعوي ودفع التعصب والهوى وترك تقليد النفس ، وهذا يحتاج إلى تجرد والتزام بالنقد وتصحيح المفاهيم والتصورات والأعمال والمواقف والاجتهادات الفردية والجماعية فبسبب ذلك يقع الانتقال .
ثانياً :قد يقع ذلك بسبب تغير الظروف والبيئات وأحوال الناس ، فيكون لكل حال ما يناسبها ، الداعية كالتاجر الذي يعرض بضاعته في السوق ، لكن بضاعته ليست سلعةً من سلع الدنيا ، وإنما هي أغلى السلع وأعظمها، بضاعته الهداية والتي ثمرتها الجنة ( ألا إن سلعة غالية ألا إن سلعة الله الجنة ) والتاجر لا يستطيع أن يتحكم في الأسعار ولا في نوعية البضائع ولا في طريقة البيع ولا في الزبائن ، وإنما قصاراه أن يعرض بضاعته على الناس ، وهو إذا كان حريصاً على تسويقها ونشرها وإيصالها فسوف يتلطف ويتذرع بكل وسيلة أذنت بها الشريعة، وسوف يجدد من وسائل العرض والتقديم والتوصل إلى قلوب الناس وعقولهم والتأثير عليهم فيما يحبون مما أباحه الله تعالى ووسع فيه مما هو من التنوع المحمود .
وهاهي الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي كله تغير قراراتها وتغير سياساتها وتحالفاتها بحسب تجدد الأحوال وتغير الظروف.
وهاهي الدول العظمى والإمبراطوريات الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية ...تحاول أن تهيمن وتسيطر على معاقد الأمور في العالم كله، ومع ذلك تغير سياساتها وتحالفاتها وتغير خريطة علاقاتها الدولية ومواقفها السياسية والاقتصادية وقوانينها الداخلية إلى غير ذلك بسبب الأحداث التي طرأت.
فالوقوف والجمود على أمر معين ليس أمراً جديراً بمن يعيشون الحياة وتقلباتها .
ثالثاً : ومنه ما يكون بسبب تنوع الخبرة والدراية وإحكام التجربة المبنية على عقل الإنسان ، والتجربة لا تحصل للإنسان إلا بخوض الغمرات وقوة الملاحظة والصبر والتدبر ، وما يمنح الله سبحانه وتعالى عبيده من الفهم والإدراك ، ولهذا لما سئل علي رضي الله عنه :هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل البيت بشيء ؟
قال:"لا.والذي برأ الحبة وفلق النسمة إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله تعالى ". فالناس يتفاوتون في فهومهم سواء فهمهم لكتاب الله عز وجل أو فهمهم لمجريات الأمور ومعرفة النتائج من مقدماتها ، ولهذا يقول بشار بن برد العقيلي :
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن … …
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة … …
فإن الخوافي قوة للقوادم
وما خير كفٍ أمسك الغل أختها … …
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولاتكن … …
نؤوماً فإن الحزم ليس بنائم
وأدن على القربى المقرب نفسه … …
ولا تشهد الشورى امرءاً غير كاتم
فإنك لا تستطرد الهم بالمنى … …
ولا تبلغ العليا بغير المكارم
ويقول المتنبي في قصيدته المشهورة :
الرأي قبل شجاعة الشجعان … …
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة … …
بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه … …
بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم … …
أدنى إلى شرف من الإنسان
ولما تفاضلت النفوس ودبرت … …
أيدي الكماة عوالي المران
إن الواقع الإسلامي على جميع الصعد ليس هو الخيار الأمثل ولا الصورة الشرعية، ولذا يتحتم على المصلحين السعي في التدارك والتغيير وفق الأحكام إلى القاعدة الشرعية (ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
================
بيع التقسيط وأحكامه
سليمان بن تُركي التُركي 11/4/1424
11/06/2003
اسم الكتاب :بيع التقسيط وأحكامه
المؤلف: سليمان بن تُركي التُركي
الناشر :دار إشبيليا / السعودية
عدد الصفحات : 558
انتظمت الرسالة بعد المقدمة في تمهيد، وثلاثة فصول، وتتمة، وخاتمة.
التمهيد خصصه لدراسة مصطلحات البحث ، وجاء في مطلبين: الأول في تعريف البيع وأقسامه ،والثاني في تعريف التقسيط والأجل فيه .
أما الفصل الأول فعقده لبيان شروط بيع التقسيط ، وانتظم في تمهيد وثلاثة مباحث:
التمهيد كان حول الشروط العامة للبيع. بينما المباحث كان الأول منها في الشروط المتعلقة بأحد العاقدين،والثاني في الشروط المتعلقة بالعوض ،و الثالث في الشروط المتعلقة بالأجل .
وأما الفصل الثاني فخصصه لدراسة تأثر الثمن بالتقسيط ، وجاء في ثلاثة مباحث :
الأول حول زيادة الثمن المؤجل عن الثمن الحال في بيع التقسيط ،والثاني في الحط من الثمن لقاء تعجيل أداء الأقساط ، والأخير حول ما يترتب على تأخير أداء الأقساط .
أما الفصل الثالث فخصصه لدراسة آثار بيع التقسيط ، وجاء في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : لزوم الأجل في بيع التقسيط،والثاني في انتقال ملكية المبيع للمشتري ،بينما كان الثالث حول المواعدة وأثرها في بيع التقسيط .
وأما التتمة ، فجعلها دراسة تطبيقية لبيع التقسيط من واقع شركتين من الشركات المتعاملة بهذا البيع.
وفي نهاية البحث ذكر خاتمة أوجز فيها ما توصل إليه من نتائج ،وهي كالتالي:
أولاً: بيع التقسيط هو ( عقد على مبيع حال ، بثمن مؤجل ، يؤدَى مفرقاً على أجزاء معلومة ، في أوقات معلومة ) وبين التقسيط والتأجيل علاقة عموم وخصوص مطلق ، فكل تقسيط تأجيل ، وقد يكون التأجيل تقسيطاً وقد لا يكون ، فالتأجيل هو الأعم مطلقاً .
ثانياً:يشترط لبيع التقسيط - فوق الشروط العامة للبيع - جملة من الشروط . هي كالتالي :
الشرط الأول : أن لا يكون بيع التقسيط ذريعة إلى الربا . وأبرز الصور التي يتحقق فيها التذرع بالتقسيط إلى الربا : بيع العينة.
الشروط الثاني : أن يكون البائع مالكاً للسعلة . فلا يجوز أن يقدم البائع على بيع سلعة ليست مملوكة له ، على نية أنه إذا أتم العقد مع المشتري ، اشتراها وسلمها بعد ذلك .
أما طلب شراء السلعة من شخص ليست عنده ليقوم بتملكها ومن ثم بيعها على طالبها بربح ، فجائز إن كان المأمور يشتري لنفسه ويتملك ملكاً حقيقياً ، ومن غير إلزام للآمر بتنفيذ ما وعد به من شراء السلعة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة مقبوضة للبائع .فلا يكفي تملك البائع للسلعة التي يرغب في بيعها بالتقسيط ، بل لا بد من قبض السلعة المراد بيعها بالتقسيط القبض المعتبر لمثلها قبل التصرف فيها بالبيع ، أياً كانت تلك السلعة طعاماً أو غيره.(5/65)
الشرط الرابع : أن يكون العوضان مما لا يجري بينهما ربا النسيئة . وذلك للتلازم بين بيع التقسيط وبين الأجل الموجب لانتفاء الاشتراك في علة الربا.
الشرط الخامس : أن يكون الثمن في بيع التقسيط ديناً لا عيناً . لأن الثمن في بيع التقسيط لا يكون إلا مؤجلاً ، والأجل لا يصح دخوله إلا على الديون التي تقبل الثبوت في الذمة ، دون الأعيان.
الشرط السادس : أن تكون السلعة المبيعة حالة لا مؤجلة . لأن المبيع إذا أجل-مع أن الثمن مؤجل أصلاً - فقد تحقق كون ذلك من بيع الكالئ بالكالئ . وهو منهي عنه.
الشرط السابع : أن يكون الأجل معلوماً . فلا بد من بيان عدد الأقساط ، ووقت أداء كل قسط ، ومدة التقسيط كاملة ، يحدد هذا تحديداً منضبطاً لا يحصل معه نزاع بين الطرفين.
الشرط الثامن : أن يكون بيع التقسيط منجزاً . فلا يصح تعليق عقد البيع على أداء جميع الأقساط ، بل لا بد أن يتم البيع بصورة منجزة ، تترتب عليه جميع الآثار المترتبة على عقد البيع فور صدوره.
ثالثاً:تجوز زيادة الثمن المؤجل عن الثمن الحال في بيع التقسيط ، في قول جماهير أهل العلم من السلف والخلف ، من غير مخالف يعتد بخلافه . بل قد حكى بعض أهل العلم الإجماع على جواز أن الثمن المؤجل أزيد من الثمن الحال. ومع ذلك فقد وجد من شذ في هذه المسألة ، ورأى تحريم زيادة الثمن المؤجل عن الثمن الحال ، لاشتباه هذه الزيادة عليه بالربا . تبين من خلال البحث شذوذ هذا الرأي وضعف أدلته .
رابعاً: يجوز الحط من الدين المؤجل مقابل تعجيل الأداء . فيسوغ لمن أدى الأقساط قبل زمن حلولها أن يطالب بالحط عنه من الثمن بقدر ما زيد أصلاً مقابل تلك المدة الملغاة.
خامساً: لا يجوز إلزام البائع بقبول الأقساط المعجلة ، التي سوف يترتب على قبوله لها حط من الثمن ؛ لأن في ذلك إضرارا به ، فهو لم يقصد من البيع بالتقسيط إلا هذه المصلحة ، والأجل حق لهما فلا يستبد أحدهما بإسقاطه.
سادساً: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من أقساط ، ومع ذلك فلا يجوز فرض تعويض مالي على المدين المماطل مقابل تأخير أداء الدين.
سابعاً: يجوز اشتراط حلول بقية الأقساط بتأخر المدين الموسر في أداء بعضها .]
ثامناً:لا يجوز أن يتم العقد في بيع التقسيط على عدة آجال لكل أجل ثمنه ، كأن يتم التعاقد على بيع سيارة إلى سنة بمائة ألف ، وإلى سنتين بمائة وعشرين ، وإلى ثلاث بمائة وثلاثين . بل لا بد أن يكون الثمن والأجل واحداً باتاً من أول العقد .
تاسعاً: لا يجوز للبائع المطالبة بالثمن قبل حلول الأجل ، كما لا يعد المشتري مماطلاً لو امتنع من أداء الأقساط قبل حلولها . ولا حق للبائع في المطالبة إلا بانقضاء الأجل وبلوغ غايته ، أو باتفاق المتعاقدين على إسقاطه .
عاشراً: إذا مات المشتري بالتقسيط قبل أداء جميع الثمن فإن ديونه لا تحل بموته ، إذا وثق الورثة ذلك الدين برهن أو كفيل . فإن حل الدين لعدم توثيقه فلا بد من الحط منه بمقدار ما زيد فيه للمدة الباقية التي عجلت أقساطها .
حادي عشر: لا تحل الديون المؤجلة والأقساط المتبقية لإفلاس المشتري ، وإنما يقسم مال المفلس بين أصحاب الديون الحالة ، وتبقى الديون المؤجلة في ذمة المدين إلى وقت حلولها .
ثاني عشر:تنتقل ملكية المبيع للمشتري ، وملكية الثمن للبائع فور صدور عقد بيع التقسيط ، وبناء عليه فلا يجوز للبائع حبس السلعة لاستيفاء ثمنها المؤجل ، ولو اشترط البائع ذلك فإن العقد يكون فاسداً .
ثالث عشر: إذا أفلس المشتري وفي يده عين مال ثمنها مؤجل ، فالبائع أحق بسلعته من بقية غرماء المشتري أصحاب الديون الحالة ، فتوقف السلعة المبيعة إلى حلول الدين وانقضاء الأجل ويخير البائع- إن استمر الحجر حينئذ- بين أخذ السلعة ، أو تركها ومحاصة الغرماء . كل ذلك بشرط أن لا يكون البائع قد قبض من ثمن السلعة شيئاً ، وأن يكون المشتري حياً .
رابع عشر: يجوز للبائع اشتراط رهن المبيع على ثمنه - رهناً حيازياً أو رسمياً - ، لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة .
خامس عشر: لا يجوز اشتراط كون المواعدة السابقة لعقد البيع بالتقسيط ملزمة للطرفين ؛ لأن الإلزام بالوعد يصيره عقداً ، ولأن الإلزام السابق يجعل العقد اللاحق عن غير تراض
===============
حكم الاكتتاب في الشركة المتحدة الدولية للمواصلات (بدجت السعودية)
المجيب : الشيخ : محمد بن سعود العصيمي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد اطلعت على نشرة الاكتتاب الصادرة من الشركة المتحدة الدولية للمواصلات، المطروحة للاكتتاب العام، وحيث إن نشاط الشركة نشاط مباح وهو تأجير السيارات تأجيرا قصيرا وطويل الأجل، وبيع السيارات المستخدمة، وبعض الخدمات ذات العلاقة، إلا أن النشرة قد نصت على أن للشركة مطلوبات على البنوك تبلغ مائة وثمانية عشر مليونا منها قرض لأجل بأكثر من خمسة وثلاثين مليونا وذلك بضمان عوائد التأمين على السيارات المملوكة للشركة، وهو في العرف البنكي قرض ربوي، والباقي قرض تمويل تأجيري لم يفصح عن طبيعته. وكذلك لدى الشركة نقد لدى البنوك بقيمة تزيد على عشرين مليون ريال لم يفصح عن طبيعته، ومن البعيد أن يكون حسابا جاريا بدون فائدة ربوية، كذلك فمن ضمن مصادر الدخل الأخرى (ص28) مبلغ يزيد على أربعة عشر مليونا سمته الشركة دخل التعويض والاسترداد يفرض على العميل المستأجر للسيارات وما هو إلا تأمين تجاري بحت، ثم هناك تسهيلات قصيرة ومتوسطة الأجل بغلت رسومها أكثر من ثمانية ملايين ريال. ومع كل هذا فقد نصت نشرة الاكتتاب على أن "جميع عمليات تمويل السيارات تتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، كما تسعى الشركة مستقبليا للحفاظ على هذه التوجه" ص 28، ثم خففت النشرة من قوة العبارة السابقة في مكان آخر وقالت: "وتهدف الشركة إلى جعل جميع التسهيلات الائتمانية التي تحصل عليها والمتعلقة بالسيارات متوافقة مع الشريعة الإسلامية" ص 32. وحيث إن ما نص عليه من الالتزام بالضوابط الشرعية في تمويل السيارات طيب ومشروع وتشكر عليه الشركة، إلا أنه غير كاف في جعلها من الشركات المباحة، حيث يجب أن تلتزم بالضوابط الشرعية في القروض كلها وفي الاستثمارات كلها وهو أمر لم تنص عليه النشرة، بل الحقائق التي ذكرت أعلاه تدل على خلافه، وعليه فلا أرى جواز الاكتتاب بها.
وإني أوصي القائمين على هذه الشركة بتقوى الله عز وجل، والحرص على رضاه والتقرب إليه في كل الأمور خاصة في أمور التمويل والاستثمار. وقد وجد من التمويلات الإسلامية ما يفي بكل احتياجاتها التمويلية، خاصة أنها تقوم بنشاط يسهل على البنوك التجارية الإسلامية تغطيه بعقود شرعية بل وأن تضع لمديوينته صكوكا إسلامية متداولة قائمة على التأجير التشغيلي الحقيقي وليس الصوري. وأرجو أن يكون ذلك بديلا لما ذكرته الشركة في ملخص النظام الأساسي من إصدار السندات و الأسهم الممتازة. كما أوصيهم بالتأمين التعاوني الحقيقي والالتزام به، لا كما أشارت نشرة الاكتتاب في ص 43. وإن مما يعين الشركة على مثل ذلك التوجه الشرعي تعيين مستشار شرعي لها، خاصة أنها نصت في النشرة على سعيها للحفاظ على التوجه الإسلامي في التمويل.(5/66)
وإن الشركات المساهمة مشكورة تحتاط في أمور كثيرة من المخاطر (مثل المخاطر الائتمانية والسوقية والتسويقية ومخاطر تقلبات العملة وأسعار الفائدة وغيرها)، وهذه أمور يحمدون عليها وتدل على الحرص على تسيير أمور الشركات على الوجه اللائق من الناحية الفنية والاقتصادية. إلا أني أذكرهم ونفسي المقصرة أن حق الله أولى، وأننا يجب أن نوقر الله سبحانه وتعالى وأن نحسب حساب المخاطرة في عصيانة أشد من حسباننا للمخاطرات السابقة. فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، وهو عز وجل يغار على محارمه أن تنتهك، ولا طاقة لأحد بعقابه في الدنيا ولا في الآخرة. وإن المثلات أمامنا في كل مكان وعلى كل مستوى. فالحذر الحذر، فإن الله بالمرصاد. [مالكم لا ترجون لله وقارا].
وفق الله الجميع لكل خير، وعصمنا وإياهم من الزلل، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما حكم الاكتتاب في الشركة المتحدة الدولية للمواصلات (بدجت)؟
المجيب : د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد
فإن نشاط هذه الشركة في تأجير السيارات، وهو نشاط مباح، وقد نصت الشركة في نشرة الإصدار على أن "جميع عمليات تمويل السيارات تتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وأنها تسعى مستقبليا للحفاظ على هذه التوجه"، إلا أن على الشركة قروضاً تجارية محرمة وليست من نشاطها، فالذي يظهر هو جواز الاكتتاب فيها؛ لأن نشاطها مباح، ومعظم معاملاتها المالية كذلك، ولأن الأسهم صكوك مالية مباحة، فإذا خالطها شيء من الحرام فيتخلص منه ويبقى ما عداه على الأصل وهو الإباحة، عملاً بالقاعدة الشرعية في اختلاط الحرام اليسير المغمور بالحلال الكثير. وإثم التعامل المحرم على من باشره أو أذن به من القائمين على الشركة.
وإني أحث القائمين على هذه الشركة وغيرها من الشركات على المبادرة إلى تنقية جميع معاملاتها من العقود المحرمة أو المشبوهة؛ فإن جواز الاكتتاب للمساهمين لا يعفي القائمين عليها من إثم أي معاملة محرمة يأذنون بها ولو قلّت، فالله قد حذرنا من الربا وتوعد من تعامل به بحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله يوفقنا إلى ما يرضيه، وأن يجنبنا أسباب سخطه وعقابه. والغرض من هذه الفتوى تبيين الوضع المالي للشركة من الناحية الشرعية ولا يقصد منها التوصية بالاكتتاب من عدمه فتلك مسؤولية المستثمر. والله أعلم.
=============
دعاوى الإصلاح
محمد بن شاكر الشريف
الإصلاح كلمة جميلة سهلة الإخراج من اللسان، خفيفة الوقع على الأذن، تنشرح لسماعها الصدور، وتألفها القلوب؛ لأن الإصلاح موافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ولهذا قال نبي الله شعيب لقومه لما دعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن إنقاص المكاييل والموازين، وأمرهم بتوفيتها، قال لهم:"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " ولما كانت هذه الكلمة بهذه المنزلة، فقد ادعاها كثيرون: من يريد الإصلاح حقيقة ومن هم مقيمون على الفساد والإفساد، لكن هناك ضابطا يميز بين المدعين، إذ الإصلاح كله مضمن فيما جاء به الشرع، أو دل عليه وأرشد إليه، أو قبله، فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع فهو مفسد، وإن زعم غير ذلك، ومن رام الإصلاح من غير أن يتخذ الشرع هاديا وإماما له فهو يمشي في عماية، لا يدري أية سكة سلك، فقد يسلك سكة للإصلاح، كما قد يسلك سككا للإفساد ، ونهاية أمره التخبط والفساد ؛لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه بعض الصلاح والإصلاح في بعض الأمور، لكنها لا تستقل بإدراك الصلاح كله في الأمور جميعها، فلا مندوحة لأحد يدعو إلى الإصلاح عن الرجوع إلى الشرع، والركون إليه، والانطلاق منه، وعلى هذا فإن كل دعوة للإصلاح مهما كان حجمها، وأيا كان مطلقها أو الصائح بها، أو الجهة التي تقف خلفها، إذا لم تكن قائمة على اتباع الشرع المنزل من رب العالمين جميعهم، فهي دعوة للإفساد، ومآلها إفساد المجتمع وتخريبه، ولذا فإن شعار " الدعوة للإصلاح " لا يصلح أن يرفعه بحق إلا من اتخذ الشريعة له قائدا وهاديا ودليلا ، أما من لم يجعل الشريعة دليله وقائده وجعلها وراءه ظهريا، فإنه يقيم على الفساد وهو يظن أنه قائم على الإصلاح ، ويدعو إلى الفساد وهو يزعم أنه من دعاة الإصلاح ، وهذه هي حال المنافقين، فهم يفسدون ويزعمون أنهم مصلحون، قال الله تعالى" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" فهم قائمون على الفساد داعون للإفساد ويزعمون أن الصلاح في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وهذا شأنهم في تغيير المعاني وقلب الأفكار وانعكاس المعايير، فتراهم يدعون إلى تماسك الشعوب وعدم تفتيتها ( وخاصة الشعوب التي تدين بأكثر من دين ) والحفاظ على الوحدة الوطنية ويقولون : هذه دعوة للإصلاح، فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إقصاء الشريعة الإسلامية وتحكيم القوانين الوضعية، وهذا هو الإفساد، وتراهم يدعون إلى عدم التمييز بين طبقات المجتمع، وعدم التحيز لفئة ضد فئة أخرى، ويقولون : هذه دعوة للإصلاح، فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى المساواة التامة بين الذكر والأنثى، حتى فيما فرقت فيه النصوص القطعية، وهذا هو الإفساد، وتراهم يدعون إلى المحافظة على حقوق الإنسان وإعطائه الحرية، ويقولون : هذه دعوة للإصلاح، فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إباحية مطلقة من كل قيد حتى يأتي الرجل الرجل والمرأة المرأة وهذا هو الإفساد ، وتراهم يدعون إلى التسامح وإشاعة ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر المختلف ثقافيا ويقولون : هذه دعوة للإصلاح فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إذابة الفوارق بين المسلمين والكفار ، وإضعاف معاني الولاء والبراء إلى حد الإلغاء وهذا هو الإفساد وتراهم يدعون إلى الاستفادة من الصور المعاصرة في كيفية تنمية رأس المال مع الأمان من تقلبات الأحوال والمعاملات الاقتصادية ويقولون : هذه دعوة للإصلاح فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى التعاملات الربوية عن طريق البنوك التي يقوم أمرها على الربا، وهذا هو الإفساد، ولوظللنا نتتبع كثيرا من ألفاظهم التي يتلاعبون بها وجدناها لم تخرج عن حد الكلام الذي تكون حقيقته مخالفة لظاهره وهذا هو النفاق " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون"، فإذا أردت أن تفرق بين من تكون دعوته للإصلاح بحق، وبين من يدعو للإفساد تحت عباءة الإصلاح فانظر أين موضع الشريعة من دعوته تعرف ذلك
=============
صناعة الفتوى وفقه الأقليات [14/21]
الشيخ العلامة/ عبد الله بن بيه 19/4/1427
17/05/2006
- التأمين على الحياة
- الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التقليدي
- العناصر الأساسية للتكافل
- توريث المسلم من أقاربه غير المسلمين
- الوفاء بالعقود
- ضوابط التعامل بين الجنسين
- حكم استفادة الهيئات الخيرية من عوائد الحسابات الربوية
التأمين على الحياة
ناقش المجلس البحوث المقدمة إليه حول التأمين على الحياة، واطلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن.
وبعد المناقشة والتحاور حول جوانب هذا الموضوع، وما عليه أحوال المسلمين في أوروبا وسائر البلاد غير الإسلامية، ومع مراعاة ما يجري عليه العمل في شركات التأمين التجاري، والتأمين التعاوني في أوروبا، انتهى إلى ما يأتي:(5/67)
أولاً: تأكيد ما صدر عن المجلس في دورته السادسة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين .
ثانياً: تأكيد ما صدر عن بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري على الحياة، وجواز التأمين التعاوني إذا خلا عن الربا والمحظورات الشرعية ، وعلى ما صدر من الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي التي حضرها ثلة من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين في 1413 هـ - 1992 م وانتهت إلى إصدار الفتوى التالية :
1 - التأمين على الحياة بصورته التقليدية القائمة على المعاوضة بين الأقساط والمبالغ المستحدثة عند وقوع الخطر أو المستردة مع فوائدها عند عدم وقوعه هو من المعاملات الممنوعة شرعاً لاشتماله على الغرر، والربا، والجهالة .
2 - لا مانع شرعاً من التأمين على الحياة إذا أقيم على أساس التأمين التعاوني (التكافلي) وذلك من خلال التزام المتبرع بأقساط غير مرتجعة (1)، وتنظيم تغطية الأخطار التي تقع على المشتركين من الصندوق المخصص لهذا الغرض، وهو ما يتناوله عموم الأدلة الشرعية التي تحض على التعاون، وعلى البر والتقوى وإغاثة الملهوف ورعاية حقوق المسلمين، والمبدأ الذي لا يتعارض مع نصوص الشريعة وقواعدها العامة.
ثالثاً: ومع ما سبق فإن حالات الإلزام قانونياً ، أو وظيفياً، مسموح بها شرعاً، إضافة إلى ما سبق إثباته في قرارات الدورة السادسة.
تعليق:
قلت : لأهمية موضوع التأمين أردت أن أعلق عليه تعليقاً موجزاً، لكنه يبين باختصار حقيقة التأمين التجاري، والتأمين التكافلي، وعناصرهما، والفرق بينهما.
أولا: التأمين التقليدي يعرف بأنه : ضمان يقدمه مؤمن إلى مومن له بتعويضه عن خطر محتمل، مقابل نقود يدفعها، أو اشتراك.( لاروس الصغير الفرنسي)
ويعرفه الفرنسي هيمار : بأنه عقد بموجبه يحصل أحد المتعاقدين وهو المؤمن له في نظير مقابل يدفعه على تعهد بمبلغ يدفعه له، أو للغير إذا تحقق خطر معين، المتعاقد الآخر وهو المؤمن الذي يدخل في عهدته مجموع من هذه الأخطار يجري مقاصة فيما بينها طبقاً لقوانين الإحصاء."(الوسيط للسنهوري 7/1090)
أهم مميزات التأمين التجاري:
الانفصال الكامل لشخصية المأمن "صاحب المشروع" عن شخصية المؤمن له "مالك وثيقة التأمين".
تهدف الهيئات الممارسة للتأمين التجاري أساساً إلى تحقيق الربح، فالمال الذي يجمع من الأقساط يصبح ملكاً للمؤمن، والربح أو الخسارة عبارة عن الناتج عن زيادة الأقساط المتحصلة أو نقصها عن التكلفة الفعلية للتأمين، مع ملاحظة تحمل قسط التأمين التجاري المقدر منذ بداية العقد بجزء لمقابلة الأرباح المراد تحقيقها.
يتميز التأمين التجاري بأن الأقساط التي يدفعها المؤمن لهم ثابتة منذ إبرام العقد تتحرر على أسس معينة، وتبقى كذلك طيلة مدة العقد فيكون المؤمن لهم لهم على علم بما يلتزمون به منذ البداية.
أما التأمين التكافلي فقد ورد تعريفه في قرارات المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بما نصه: والبديل الشرعي لذلك هو التأمين التكافلي القائم على تكوين محفظة تأمينية لصالح حملة وثائق التأمين، بحيث يكون لهم الغنم وعليهم الغرم، ويقتصر دور الشركة على الإدارة بأجر، واستثمار موجودات التأمين بأجر، أو بحصة على أساس المضاربة.
وإذا حصل فائض من الأقساط وعوائدها بعد دفع التعويضات فهو حق خالص لحملة الوثائق، وما في التأمين التكافلي من غرر يعتبر مغتفراً؛ لأن أساس هذا التأمين هو التعاون والتبرع المنظم، والغرر يتجاوز عنه في التبرعات.
وأهم مميزات التأمين التعاوني هي:
اتحاد شخصية المؤمن "صاحب المشروع" وشخصية المؤمن له "حامل وثيقة التأمين" ومن هنا جاء وصف هذا النوع من التأمين بالتكافلي حيث يؤمن الأعضاء بعضهم بعضاً، فكل منهم مؤمن ومؤمن له في وقت واحد.
إن تعريف المجلس الأوربي إنما هو تعريف لصورة مفضلة من التأمين التكافلي لأن التأمين التكافلي قد يأخذ صوراً متعددة كأن تأسس جماعة شركة مضاربة تقوم بالتجارة في موجودات الشركة ويلحقون بنظام الشركة عقداً تكافلياً يلتزم فيه أعضاء الشركة بتأمين بعضهم البعض وحمايته من الأخطار سواء كان ذلك من ربح الشركة، وهو أمر جائز أن يتبرع المضارب بربحه.
وهناك صيغة أخرى طبقناها في بعض البلاد وهي تكوين شركة مضاربة بأموال يقوم فيها بعض أعضاء الشركة بالإدارة لصالح الجميع فيكون لهؤلاء مزيد من الأرباح لأنهم مؤسسون ومشتركون بأموالهم وأبدانهم وهو جائز على مذهب أحمد وقد بين ذلك ابن قدامة حيث قال : وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ويأذن أحدهما للأخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زيد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في ألف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف...
وبعد شرح طويل قال : فحصل مما ذكرنا أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة. (المغني 7/ 138-139-140 دار هجر).
ومما ذكرنا يتبين أنه قد تكون أفضل صيغة للتأمين الإسلامي أن تكون شركة مضاربة ومعها شركة أموال فيمنح المساهمون الكبار وهم المضاربون بأبدانهم لتوليهم الإدارة وأرباب المال لاشتراكهم بأموالهم حصةً من الربح أكبر من حصص المشتركين حملة الوثائق لوجود التراضى ولهذا فيكون لهؤلاء المشتركين في الجمعية العامة ممثلون.
وهي صيغة مختصرة وبسيطة تقوم على تأسيس شركة تجارية من مساهمين كبار تبرعوا بجزء من أموالهم لجبر الأضرار التي تنزل بهم ويلتحق مشتركون صغار بنفس الصيغة أي أنهم شركاء بالأقساط التي دفعوها متضامنين مع الآخرين مع قبولهم بمنح جزء أكبر من الربح لهؤلاء المساهمين المؤسسين وهي شركة تلزم بالقول وهذا مذهب مالك قال خليل (ولزمت بما يدل عرفاً كاشتركنا).
ولا بأس أن نذكر بكلام للنووي مذكور في البحث السابق لتطبيقه على موضوع التأمين يقول النووي : " (فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه (فأما) ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر، ذكر أو أنثى، كامل الأعضاء أو ناقصها، وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك فهذا يصح بيعه بالإجماع .
ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير (منها) أن الأمّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، ولو باع حشوها منفرداً لم يصح ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة، وعلى جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام .
قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا.
وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة، وبيع الحنطة في سنبلها، واختلافهم مبني على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى الغرر يسيراً لا يؤثر ، وبعضهم يراه مؤثراً والله سبحانه وتعالى أعلم (المجموع للنووي: 9/258) .(5/68)
من هذا الكلام نستفيد أمرين أحدهما الغرر الخفيف الذي يغتفر للحاجة وهو ما بني عليه المجلس جواز التكافل بأنواعه، والغرر الكبير المؤثر وهو أصل التحريم إلا أن المجلس تجاوز عن هذا الغرر إذا لم يمكن الاحتراز منه في البيئة الأوربية ولعل ذلك ما أشار إليه النووي بقوله :" أما ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز منه...".
ولهذا فإن هذه الفتوى مبنية على قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في صورتي الغرر المغتفر في الأصل، وهو ما خف ودعت إليه حاجة وفي صورة المحرم اصلا وأشتدت وطأة الحاجة ولم يمكن الاحتراز في حالة التأمين التجاري في أوربا لفرضه بالقانون ولمسيس الحاجة المنزلة منزلة الضرورة إليه.
- الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التقليدي :
1- أن التأمين التقليدي يغلب عليه الغرر فيمكن أن يعبر عنه بأنه هو الغرر بعينه، كما قدمنا عن الباجي، وبالتالي فهو من الغرر الشديد الغالب المحرم، فلا تجيزه الحاجة إلا في ظروف استثنائية.
وأن التأمين التكافلي يخف فيه الغرر، وذلك لعنصر التبرع القائم عليه ومحدودية المؤمنين فتجيزه الحاجة وهذا هو الفرق الأول.
2- أن التأمين التكافلي عقد إرفاق ومعروف لأنه مبني في نيته على التعاون ولهذا يغتفر فيه الغرر كما قدمنا في مسألة :" أعني بغلامك على أن أعينك" في بحث الحاجة.
وكما في مسألة الدينار الناقص والطعام فإن أراد التبايع حرم وإن اراد الإقالة جاز لأنه معروف في بحث الحاجة.
بخلاف التأمين التقليدي فالقصد الغالب فيه التجارة وكسب الربح، ولهذا لا يجوز فيه الغرر، وهذا هو الفرق الثاني.
3- الفرق الثالث أن الغرر في التأمين التقليدي أصل لأن المؤسسة قائمة على كسبها من الحوادث التي لم تحصل بينما الغرر في التكافلي إضافي وتبعي، وقد قدمنا مسألة الظئر والرضيع عن المواق.
- العناصر الأساسية للتكافل
وأهم شيء في شركة التكافل ثلاثة عناصر :
1- عنصر التبرع وهو تبرع للمتضرر من أعضاء الشركة بجزء من الربح أو بالربح بكامله وهذا كما يجوز في المضاربة التبرع بجزء من رأس المال وهذا جائز لأنه يغتفر الغرر في التبرعات.
2- عنصر الشراكة وهو اعتبار كل قسط يدفع إلى الشركة، إنما هو قسط اشتراك وليس مدفوعاً في مقابل.
3- عنصر اتحاد الشخص ذي الجهتين بين المؤمن بصيغة اسم الفاعل والمؤمن بصيغة اسم المفعول سواء أداروا الشركة بأنفسهم كشركة أبدان وأموال، أو أداروها بواسطة جهاز إداري يمارس عملية وكالة بأجر.
أما بالنسبة للفتوى المتعلقة بالتأمين التجاري الذي أجازه المجلس في حالات محددة فإن الفتوى تستند إلى الحاجة الشديدة الناشئة عن الفرض بالقانون، أو الحرج الشديد والمشقة طبقاً لمقولة الشيخ تقي الدين ابن تيمية في حديثه عن الجوائح إن" الشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرم".
وهي مبنية من جهة أخرى على الخلاف الذي أسلفنا في مبحث الحاجة والذي يرجح به في العقود الفاسدة.
-توريث المسلم من أقاربه غير المسلمين
يرى المجلس عدم حرمان المسلمين ميراثهم من أقاربهم غير المسلمين ومما يوصون لهم به. وأنه ليس في ذلك ما يعارض الحديث الصحيح: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" الذي يتجه حمله على الكافر الحربي، مع التنبيه إلى أنه في أول الإسلام لم يحرم المسلمون من ميراث أقاربهم من غير المسلمين. وهو ما ذهب إليه من الصحابة معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين جماعة منهم سعيد بن المسيب، ومحمد بن الحنفية، وأبو جعفر الباقر ومسروق بن الأجدع، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
- الوفاء بالعقود
توقيع العقد في أي صفقة ملزم للطرفين شرعا، ولا يجوز لأحدهما أن يرجع فيه بإرادته المنفردة، دون رضا الطرف الآخر، فهذا مخالف لما أمر الله تعالى ورسوله –صلى الله علهي وسلم -، وأكدته نصوص القرآن والسنة.قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ" [المائدة:1] وقال عزوجل: "وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" [الإسراء :34]. وقال تعالى:"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً" [النحل:91].
وحمل القرآن بشدة على الذين يتهاونون بالعهود وينقضونها من بعد ميثاقها، في آيات كثيرة، منها: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [آل عمران:77].
واعتبر النبي –صلى الله عليه وسلم - نقض العهد من شعب النفاق، وخصال المنافق الأساسية "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها....و ذكر منها : "إذا عاهد غدر ". رواه الشيخان عن عبدالله بن عمرو.
و ليس من الضروري أن يكون العقد مكتوبا، فمجرد الايجاب والقبول مشافهة يكفي في ايجاد العقد، ولكن له خيار المجلس على ما نرجحه، فلو تبين له عقد آخر، وهما لا يزالان في مجلس العقد، فمن حقه أن يرجع، كما جاء في الحديث الصحيح :" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " متفق عليه عن ابن عمر. فقد جعل الحديث فرصة للتراجع لمن تسرع في التعاقد دون روية.
و مثل ذلك لو كان مغبونا غبنا فاحشا يرفع أمره إلى جهة تحكيم تثبت له خيار الغبن إذا تبين لها ذلك، عملا بمذهب الحنابلة وغيرهم.
و يستطيع المسلم أن يخرج من ورطة التراجع في العقد بعد إتمامه إذا اشترط لنفسه الخيار أياما معدودة، يستطيع فيها أن يرجع في صفقته خلالها، وهذا ما نصح به النبي –صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة، حين شكا إليه أنه كثيرا ما يخدع في البيع، فقال له :" إذا بايعت فقل : لا خلابة " أي لا خداع، وهذا في الصحيحين، وفي خارج الصحيحين :" ولي الخيار ثلاثة أيام " والمسلمون عند شروطهم.
أما فيما عدا ذلك، فالمسلم يحترم كلمته إذا قالها، وهذه إحدى القيم التي دعا إليها الإسلام، حتى يستقر التعامل، وتستقيم حياة الناس. وقد قال الشاعر :
و لا أقول : (نعم) يوماً، وأتبعها بـ (لا) ولو ذهبت بالمال والولد
بل يحرم الاسلام أن يبيع المسلم على بيع أخيه، أي يدخل عليه وقد أوشك أن يعقد الصفقة مع الآخر، فيزايد عليه، ليختطف الصفقة منه، وفي هذا جاء الحديث الصحيح : " لا يبيع المسلم على بيع أخيه".
والله أعلم.
- مدى حق الموظف في استخدام الأدوات العامة لديه لمصلحته الشخصية:الأصل في المال العام أو شبه العام ونعني به مال الدولة والمؤسسات العامة والشركات الخاصة هو المنع، وخصوصاً أن نصوص الكتاب والسنة قد شددت الوعيد في تناول المال العام بغير حق، وقد جعل الفقهاء المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه، ويستثنى من ذلك ما تعارف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكية فيعفى عنه باعتباره مأذوناً فيه ضمناً، على أن لا يتوسع في ذلك، مراعاة لأصل المنع، على أن الورع أولى بالمسلم الحريص على دينه، و"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
– ضوابط التعامل بين الجنسين: اللقاء والتعاون والتكامل بين الرجال والنساء أمر فطري، ولا يمكن منعه واقعاً، ولم يرد في دين الفطرة ما يحجره بإطلاق، وإنما أحاطه بالضوابط التالية:(5/69)
ترك الخلوة (وهي وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في موضوع لا يراهما فيه أحد) امتثالاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
توقي التماس (وهو التلاصق والتراص بالأبدان بين الرجل والمرأة الأجنبية عنه) حذر الإثارة والفتنة.تجنب التبرج (وهو الكشف عما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بستره من البدن)، إذ يجب على المرأة حين اجتماعها بالرجال غير المحارم أن تستر كل جسدها ما عدا الوجه واليدين، على مذهب جمهور الفقهاء.
التزام المرأة الحشمة في حديثها وحركاتها، فلا تتصنع من الكلام والحركات ما يؤدي إلى إثارة الغرائز، قال تعالى: "إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا" [الأحزاب 32] وقال تعالى: "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن".
وعليه، فإذا التزم الرجال والنساء في أي لقاء أو نشاط بهذه الضوابط الشرعية، فلا حرج عليهم في ذلك، ما كان موضوع اللقاء أو النشاط جدياً، سواء أكان علمياً أم ثقافياً ونحو ذلك.
ولا فرق في ضرورة الالتزام بهذه الضوابط بين أن يتعلق الأمر بفتيات مسلمات أو غير مسلمات، لأن الإثارة محتملة في الحالتين، على أن الانفصال في المجلس الواحد في المقاعد بين الرجال والنساء هو الأفضل، خاصة إذا لم تكن هناك حاجة إلى خلافه.
-حكم استفادة الهيئات الخيرية من عوائد الحسابات الربوية من الأفراد والبنوك وما يرتبط بذلك من الدعاية لها، وفتح حساب خاص لهذه الأموال:
عموم المسلمين في الغرب لا يجدون مناصاً من فتح حسابات في البنوك الربوية، ومعلوم أن هذه الحسابات تترتب عليها زيادات ربوية تلحق بحساباتهم، فيجدون أنفسهم بين خيارين:
إما ترك هذه الفوائد للبنك، وفي هذا تفويت مصلحة للمسلمين وربما كانت عوناً لمؤسسات تبشيرية، وإما أن يصرفوها في وجوه الخير العامة، وبما أن الحكم لا يتعلق بعين المال وإنما بطريقة تحصيله أو صرفه، فما كان منه حراماً فحرمته في حق من اكتسبه أو صرفه بطريقة غير مشروعة، فالذي يحرم في شأن هذا المال الربوي هو أن ينتفع به الشخص لنفسه، أما بالنسبة لغيره فلا يكون حراماً.
وبناء على ذلك، فإن المجلس لا يرى بأساً من أن تسأل المؤسسة الخيرية أصحاب هذه الحسابات أن يمكنوها من تلك الأموال، كما لا يجد فرقاً في تحصيل هذه الأموال من أي جهة أخرى كالمؤسسات والبنوك وغير ذلك.
وينبغي للمؤسسة أن تتحاشى ما وسعها ذكر اسم البنك المتبرع على وجه الدعاية له، بسبب عدم مشروعية أصل عمله.ولا مانع كذلك من أن يفتح حساب خاص تودع فيه تلك الأموال.
- وكان من ضمن الاستفتاءات التي أجاب عنها المجلس: مسألة الاختلاط بين الجنسين في المنتديات واللقاءات العامة، والمرابحة التي تزاولها بعض البنوك في الغرب، والتأمين، ومعاش التقاعد، واستفادة الجمعيات الخيرية من فوائد البنوك.- كما عهد المجلس إلى بعض أعضائه بمعالجة بعض المشكلات الأسرية التي وردت إليه من خلال الاتصال المباشر بأصحابها.
(1) أي أنها لا ترتجع بالكامل ، وإذا ارجع شئ فهو ما يسمى بالفائض الذي يوزع في أخر العام.
==============
صناعة الفتوى وفقه الأقليات[15/21]
الشيخ العلامة/ عبد الله بن بيه 26/4/1427
24/05/2006
- جمع الزكاة من المسلمين المقيمين في الغرب؟
- ماذا أفعل بالفوائد الربوية غير المقصودة؟
- بناء المساجد بتبرعات غير المسلمين
- بطاقة الفيزا
- العمل في محلات تبيع لحم الخنزير
- بيع الخمر والخنزير لأجل كسب العلماء؟
- مضاربة فاسدة
جمع الزكاة من المسلمين المقيمين في الغرب.
السؤال : هل يجوز لنا أن نجمع الزكاة من المسلمين المقيمين في هذه البلاد ثم نقوم بعد ذلك بتوزيعها على المستحقين في صورة دفعات تستمر لسنة كاملة وليس دفعة واحدة في حالة معرفتنا أنه قد ينفد المال الذي يصل إلى المستحق ثم يحتاج ولا يجد من يعاونه أو أنه يحتاج إلى هذا المال في مواسم معينة ؟
الجواب :
نعم يجوز جمع أموال الزكاة وحبسها لتعطى إلى الفقراء على شكل دفعات بحسب ما يتناسب مع حاجاتهم حتى المزكي نفسه يمكنه أن يفعل ذلك إذا رأى مصلحة الفقير فيه لكن عليه أن يعزل ذلك المال من سائر ماله وأن لا ينتفع به انتفاعاً خاصا.
ماذا أفعل بالفوائد الربوية غير المقصودة؟
السؤال : أنا طالب كنت أدرس منذ سنتين في بريطانيا وكنت أتقاضى منحة دراسية من بلدي عن طريق أحد البنوك وكما تعلمون فإن البنوك تعطي فائدة بسيطة ولم أقم في ذلك الوقت بخصم هذه الفائدة من أموالي لأني لم أكن أعرف قيمتها بالضبط ولا كيفية خصمها حيث إنها لم تكن ذات قيمة ثابتة ولقد قمت بالتصرف في كل مالي تقريباً عدا القليل الذي ما يزال بحسابي بالبنك.
والسؤال هو : هل يجوز لي خصم هذه الفائدة الآن وكيف يمكنني أن أفعل ذلك ؟ وهل يمكنني تقدير قيمة الفائدة وبالتالي خصمها من المال بالعملة المحلية لبلدي ؟
والسؤال الثاني: بخصوص المال المتبقي في حسابي حوالي 1000دولار أمريكي منذ سنتين وهو ثابت القيمة هل يجوز لي أن أستخرج الزكاة على هذا المال كلما مر عليه الحول مع العلم بأني أدخر هذا المال لدفع رسوم دخول الامتحانات في بريطانيا في المستقبل.
الجواب :
بالنسبة إلي التصرف بالفائدة فاجتهد في طلب معرفتها عن طريق حسابك في البنك فإن تعسر عليك ذلك فلا بأس أن تقدرها بالتقريب والظن وتحتاط في ذلك التقدير بما تحسب أن ذمتك قد برئت به ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وحين تحدد مبلغ الفائدة فيجب عليك صرفها للفقراء ولا تنتفع بها لنفسك.
أما ما سألت عنه بخصوص الزكاة على المبلغ المذكور فإن نصاب المال هو ما يعادل 85 غراماً من الذهب الخالص والذي يعلن عنه عادة في الصحف وأسواق المال فإذا بلغ مالك قيمة النصاب المذكور ومرت عليه في حسابك سنة وجبت عليك فيه الزكاة والظاهر من السؤال أنه لا زكاة عليك حيث إن المبلغ المدخر مرصود لحوائجك الأصلية.
بناء المساجد بتبرعات غير المسلمين
السؤال : بعض الأغنياء ممن لا تخلو أموالهم من شبهة إذا تبرعوا لبناء مسجد كلاً أو بعضاً فما هو الحكم الشرعي في قبول ذلك منهم؟ ولو تبرعت جمعية أو جهة أخرى من غير المسلمين لصالح بناء المسجد فهل يقبل منهم ذلك ؟
الجواب:
نعم يجوز قبول التبرع من الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات مسلمة كانت أو غير مسلمة حتى ولو غلب على ظننا أنها أموال غير مشروعة من وجهة النظر الإسلامية، إلا إذا كانت محرمة العين مثل الخمر والخنزير وذلك لأن قبول التبرع منهم بمنزلة قبول الهداية، إذ التبرع نوع منها، هذا عند جمهور الفقهاء وعندما تنتقل هذه التبرعات إلينا يصبح من الواجب أن تخضع للأحكام الشرعية.
وفي حالة حصول التبرع من غير المسلمين يستثنى من القبول حالتان:
الأولى: ما إذا كان هذا التبرع يؤدي إلى إضعاف ولاء المسلم للإسلام وأهله.
الثانية: ما إذا كان هذا التبرع مشروطاً بما يضر بمصالح المسلمين. (الدورة الثانية)
تعليق:
قلت: قد نص شراح خليل على كراهة الصلاة في المسجد المبني بالمال الحرام.
بطاقة الفيزا(5/70)
السؤال:إن بعض البنوك تصدر بطاقات ائتمان مثل الفيزا VISAبحيث يشتري حامل البطاقة بواسطتها من الأسواق ما يريد وفي آخر الشهر يرسل البنك إلى حامل بطاقة فيزا VISA كشف حساب ليسدد ما عليه خلال خمسين يوماً فإذا سدد قبل نهاية الخمسين يوماً فإنه لا يدفع سوى ما صرفه فعلا دون أي فائدة ربوية وإذا تأخر عن الخمسين يوماً فإن البنك يقوم بتحميله فوائد ربوية عن المدة التي تأخرها.
ومعظم المسلمين في الغرب يحملون هذه البطاقات ويشترون بواسطتها ويسددون قبل نهاية المدة المتاحة وبذلك لا يستحق عليهم أي فوائد ربوية.
والإيجابيات لحامل بطاقة فيزا VISA أنه لا يحمل نقوداً تتعرض للضياع أو السرقة في بلد إقامته أو سفره، ويشتري بواسطتها من معظم دول العالم دون الحاجة لتصريف العملة وهي قرض حسن لمدة 50يوماً.
والإيجابيات للبنك الذي يصدر بطاقة فيزا VISA هي أن يأخذ من البائع الذي اشترى منه حامل بطاقة الفيزا VISA نسبة 2% من قيمة المشتريات ويأخذ فوائد ربوية من حاملي بطاقة فيزا الذين لا يسددون حسابهم خلال الخمسين يوماً.
وهناك عرض من أحد البنوك لإصدار بطاقة الفيزا باسم الهيئة الخيرية بحيث يظهر اسم الهيئة مكان اسم البنك وبذلك تظهر الهيئة كمصدرة لهذه البطاقة.وإدارياً لا تقوم الهيئة بأي جهد مطلقاً. فالبنك يقوم بكل ذلك.
والإيجابيات للهيئة الخيرية هي أنها تحصل على نسبة كأرباح من البنك كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته فيزا ولا تتحمل الهيئة الخيرية أو حامل بطاقة الفيزا أي مصروفات تجاه هذا المشروع. وكل ما هو مطلوب من الهيئة الخيرية هو تزويد هذا البنك بعناوين متبرعي الهيئة ليرغبهم باقتناء بطاقة فيزا ومن الممكن أن توزع الهيئة حملاتها البريدية عن طريق البريد الصادر من البنك شهرياً لحملة البطاقات وبذلك توفر أجور البريد وعلى حامل بطاقة الفيزا توقيع اتفاقية مع البنك تشير أحد بنوده إلى أن حامل البطاقة عليه دفع فوائد ربوية إذا مضت مدة خمسين يوماً الممنوحة له ولم يسدد حسابه قبل نهاية تلك المدة.
والسؤال هو : هل يجوز لهذه الهيئة الخيرية أن تكون وكيلا عن بنك بتسويق بطاقات فيزا وذلك مقابل فرصة لدعم المشاريع الخيرية من ذلك البنك ؟
الجواب :
في عدد من البلاد الإسلامية قامت المصارف الإسلامية بإصدار بطاقة فيزا شرعية خالية من الشبهات بعيدة عن الفوائد كما في بيت التمويل الكويتي ومصرف قطر الإسلامي وبنك قطر الدولي الإسلامي وشركة الراجحي بالسعودية وغيرهما من المؤسسات المالية الإسلامية.
وهذه لا حرج في استخدامها بعد أن أجازتها هيئات الرقابة الشرعية في تلك البنوك.
ولكن يبقى السؤال عن وضع هذه البطاقات خارج العالم الإسلامي وفي البلاد التي لا توجد فيها بنوك إسلامية : ما حكم هذه البطاقات ؟
والذي عليه الفتوى من أكثر علماء العصر فيما نعلم هو : إجازة استخدامها للحاجة الماسة إليها مع لزوم تسديد الحساب المطلوب قبل نهاية المدة الممنوحة له حتى لا تترتب عليه فوائد التأخير فيدخل في إثم مؤكل الربا. وهو الذي جرى عليه تعامل عامة المسلمين في بلاد الغرب من غير نكير عليهم من أحد يعتد به.
ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يستخدمها إذا لم يكن له رصيد في حسابه.
وإذا كانت الفتوى المعتمدة هي جواز استخدام هذه البطاقات للأفراد فلا مانع أن تقوم بعض الهيئات الخيرية الإسلامية بالوكالة عن البنك بتسويق هذه البطاقات بين متبرعيها وأن تصدر هذه البطاقات باسمها بحيث تظهر الهيئة كأنها المصدرة لهذه البطاقة ما دامت لا تتحمل الفوائد ولا يترتب عليها أية مسؤولية في ذلك ولا تتحمل أي مصروفات تجاه هذا المشروع.
وستحصل الهيئة على نسبة مئوية بوصفها أرباحاً من البنك كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته. فالبنك يستفيد لنفسه ويفيد الهيئة بإعطائها نسبة معينة من ربحه.
ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يسحب بها أموالا نقدية إذا لم يكن في حسابه ما يغطيها. ( الدورة الأولى)
العمل في محلات تبيع لحم الجنزير
السؤال: أنا مسلم أعمل في ما يعرف بمحلات الماكدونالدز وهي محلات تبيع الأطعمة والمأكولات الخفيفة وفي الواقع فإن هذا المحل يبيع لحوم الخنزير وكما تعلمون فإنه ليس من السهل أن يجد المرء عملا آخر يقتات منه وذلك بسبب ضعف المرتبات علماً بأن لدي زوجة على وشك أن تضع مولوداً وأنا الوحيد الذي أعمل من أجل أن أعولها.
كذلك أود أن أشير إلى أن المحل يبيع مأكولات أخرى مثل السندوتشات المحشوة بالبيض أو البيرجر فهل يتوجب علي أن أترك هذه الوظيفة وأبحث عن غيرها ؟
الجواب :
إن الله عز وجل حرم أكل لحم الخنزير بنصوص قطعية صريحة في كتابه أما بيعه فإنه مما ثبت في السنة تحريمه فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح وهو بمكة: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". (متفق عليه البخاري رقم 2121 ومسلم1581)
فالأصل في هذا العمل المقترن ببيع الخنزير تحريمه بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالواجب عليك أن تبحث عن سبب آخر للرزق فإن لم تجد عملاً حلالاً ولا مصدراً طيباً لكسب رزقك فإن كان لا يضر بك أن تطلب من المسؤولين عن العمل أن يعفوك من بيع الخنزير فيجب عليك أن تفعل ذلك أو تطلب من عامل آخر غير مسلم ممن يعمل معك أن يكفيك هذا الأمر وتعمل أنت فيما سوى ذلك من الأعمال التي ليس فيها حرمة فإن تعسر عليك كل ذلك فلا بأس باستمرارك في العمل الحالي إذا لم يكن عندك من الدخل ما يقوم بكفايتك مع بذل الوسع في الحصول على عمل آخر يخلو من الحرام.
بيع الخمر الخنزير لأجل كسب العملاء
السؤال: أخ مسلم قام بفتح مطعم في هذا البلد ويطلب الجواب عن المسائل التالية :
1- رأى الإقبال على الشراء من مطعمه ضعيفاً وذلك لأنه لا يبيع الخمر أو المشروبات المحرمة شرعاً فهل يجوز له أن يبيع الخمور أو بعض المشروبات المحرمة شرعاً ثم يتصدق بثمنها دون أن يمس منه شسئاً ؟
2- بعض الزبائن يطلبون منه أن يؤجر لهم المحل لعمل بعض الحفلات وهم يحضرون معهم الخمور ولكنهم لا يستعملون أي أدوات من المطعم وصاحب المطعم لا يشاركهم في حفلاتهم فهل يجوز له ذلك ؟
3- سمعنا أن هناك نوعاً من البير "ماء الشعير" تباع في بعض الدول الإسلامية وهي لا تحتوي على الكحول كما يشاع فهل يجوز لنا أن نشربها ؟ وهل يجوز بيعها في المطعم المذكور؟
الجواب :
1- لا يجوز له أن يبيع الخمور وما هو محرم من الأطعمة أو الأشربة حتى مع عدم انتفاعه بأرباحها وتصدقه بها وعليه أن يتقي الله تعالى في كسب رزقه "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق2-3].
ويعلم أن البركة في الحلال وإن قل في نظره والحرام ممحوق البركة لا خير فيه والمؤاخذة عليه باقية على مكتسبه إلا أن يغفر له الله ويرحمه.
تعليق:
قلت: مسألة بيع الخمر لغير المسلمين في دار غير المسلمين جائزة عند أبي حنيفة وكذلك بيع الخنزير وغيره فليراجع في هذا الكتاب.
2- لا مانع من تأجير المحل للغرض المذكور وبالصفة المذكورة وليس صاحب المحل مسؤولاً عما يفعلونه ضمن إجارتهم إنما هو مسؤول عن نفس عملية التأجير فما دامت خلت من الحرام في نفسها فهي جائزة.
تعليق:
قلت : هذا هو مذهب الشافعي خلافاً لمالك وأحمد .(5/71)
3- كل مشروب لا يسكر فهو حلال فحيث أن هذا النوع من الشراب المسمى في السؤال لا يسكر لخلوه من مادة الإسكار فهو حلال وإن سمي باسم قبيح جرت العادة بإطلاقه على المسكرات فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وما جاز شربه جاز بيعه. ( الدورة الثانية)
مضاربة فاسدة!
السؤال : لي مبلغ من المال أعطيته لتاجر ليدخله إلى رأس ماله كي يتاجر به فيستفيد هو وأستفيد أنا كذلك. وأنا والذي نفسي بيده لا أرضى بالربا ولا أحبه وما نويته وما خطر لي على بال. وقد طلبت من هذا التاجر أن نتفق على نسبة في الربح والخسارة فأبى بحجة أن ذلك سيشق عليه بمعنى أنه سيضطر إلى إجراء حسابات وحسابات وهو لا يريد ذلك وأنا أظن أن هناك سبباً آخر لم يصارحني به وهو أنه لا يريد أن يطلعني على أشياء أخرى على سبيل المثال: كم هو ربحه الحقيقي وربما تكون هناك أسباب أخرى.
وخلاصة الأمر: فقد أكد لي هذا التاجر أن ماله سيربح ومن أجل أن يريح نفسه من الحسابات وغير ذلك فقد قرر أن يعطيني 10% سنوياً.
فقلت له أخشى أن يكون هذا ربا فأكد لي أن هذا ليس ربا لأن المال يربح أكثر من ذلك وهو إنما يريد أن يعطيني هذه النسبة كما ذكرت ليريح نفسه من عناء الحسابات فما هو الحكم الشرعي في هذه الحال؟
بالنسبة لي إذا كان المال يربح أكثر من 10% فأنا أسامح هذا التاجر بما هو فوق ذلك وأرضى بـ10% لأنها أفضل من أن يكون المال في درج طاولتي أو في حسابي في البنك.
وإذا كان ربح المال أقل من 10% أو أن المال سيخسر فإني سأستحلف هذا التاجر بالله أن يصدقني القول فإن قال لي إن المال ربح أقل من 10% أو خسر فإني سأخذ قدر ما ربح المال فقط بمعنى أني سأشاركه الربح وإن كان قد خسر المال فسوف أشاركه الخسارة.
أفتوني إخواني جزاكم الله خيراً في فعلي هذا هل هو مطابق للشرع أم لا ؟ وإن كان هذا لا يرضي الشرع فكيف يمكنني أن استثمر مالي بما يرضى الشرع الحنيف؟
الجواب :
نيتك طيبة في حرصك على عدم أخذ الربا لكن العقد مضاربة فاسدة وذلك للجهالة في النسبة عند الاتفاق لذا يجب تصحيح ذلك العقد بتحديد نسبة صريحة في العقد فإذا تعذر عليك تصحيحه فلا يجوز أن تحدده إذا انتهت مدته كذلك لا يجب عليك أن تستحلف شريكك على الربح أو الخسارة وإنما يكفيك أن تطلب منه أن يخبرك بالخسارة عند وقوعها.
=============
سوق المال , وصورة طبق الأصل !
د. يوسف بن أحمد القاسم 18/4/1427
16/05/2006
كم هي القرارات والتوصيات التي تصدرها المجامع الفقهية الموقرة , والتي يوقع عليها عدد كبير من علمائنا الأفاضل من شتى البلاد الإسلامية , ويشارك فيها العديد من الباحثين , والخبراء في التخصصات المختلفة, ومع هذا كله يطويها النسيان , وتحفظ في ملف الحفظ , ويوقع عليها بلسان الحال بالعبارة المألوفة:(للحفظ مع التحية!!) ثم توضع في الرف السيء الصيت ! فتذهب كثير من تلك القرارات والتوصيات أدراج الرياح , وكأن شيئاً لم يكن !
وهذا التجاهل من الجهات ذات الاختصاص هو في الحقيقة خطيئة من الخطايا, وهو إن كان صغيرة من الصغائر , فإنه مع الإصرار يصبح كبيرة , ويعكس حجم اللامبالاة تجاه ما تتخذه تلك المجامع العلمية من قرارات , وربما لو كانت في بلاد غربية لكان لها شأن آخر .
ومن تلك القرارات التي طواها النسيان : القرار الصادر من مجمع الفقه الإسلامي بشأن الأسواق المالية, رقم(59), وتاريخ(17-23 /8 /1410هـ) في البند الثاني منه , ونصه:( إن هذه الأسواق المالية- مع الحاجة إلى أصل فكرتها- هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية . وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة , وما تعتمده من آليات وأدوات , وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية ) أهـ . وقبل ذلك أوصى مجمع الفقه الإسلامي في قراره رقم(38) وتاريخ(18-23/6/1408هـ) بعدة توصيات,منها:( إقامة اقتصاد إسلامي, لا شرقي ولا غربي , بل اقتصاد إسلامي خالص , مع إقامة سوق إسلامية مشتركة ....) أهـ .
لقد أدرك علماؤنا الأفاضل بأن أسواقنا المالية لا تفي بمتطلباتنا,ولا تتفق مع قيمنا الإسلامية ؛ لأنها في أصلها نموذج غربي قائم على مفهوم الربا والقمار,ولهذا لا يصح أن نقوم بعملية استنساخ لذلك النموذج الغربي , دون إعادة هيكلته , وتعديل أنظمته بما يتفق مع شريعتنا الغراء , والمشكلة أننا نحن العرب والمسلمين قد تعودنا على عدم الخروج عن مسار ونمط الأجنبي , حتى أصبحنا صورة طبق الأصل له في كثير من سلوكنا.
وتعاملاتنا , ولو كان ذاك الأجنبي لا يتفق مع مبادئنا وقيمنا , ولهذا صدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم :" حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه!" وما أضيق جحر الضب , وما أوحشه و أوعر مسالكه !!
ومتى يأتي اليوم الذي نؤمن فيه بثرواتنا ومقدراتنا , بل وبعقولنا , حتى نكف عن مد يد السؤال , فلا نشحذ من غيرنا النظم المالية والاقتصادية , كما نشحذ منهم الخردوات , وأدوات الزينة !
ولم لا نعيد النظر في واقع أسواقنا, ونرجع البصر كرتين في أنظمتها وقوانينها , فنعيد صياغتها بما يزيل عنها المشتبهات من المكاسب , وبما يحصنها من وقوع مثل هذه الانهيارات المالية التي عصفت باقتصادنا, وبمدخرات من هم من جلدتنا, والتي سرعان ما تلاشت في أيام , وربما في ساعات , حتى رجع أكثر من مليوني مواطن بخفي حنين .
وكم هي الأسواق التي انهارت بين عشية وضحاها في طول العالم وعرضه , وأبلغ شاهد على هذا, ما وقع في الأسواق المالية لدول النمور الآسيوية , حيث أدى حمى المضاربات إلى انهيار البورصة , وقد تولى كبرها الملياردير جورج سورس , الذي قام بعملية بيع جماعي لاستثماراته مما ترتب عليه انخفاض حاد في قيمة الأصول , ثم عاد واشترى في اليوم التالي بالسعر المنخفض , فتحسنت الأسعار , ثم قام بعملية بيع أخرى , مما ترتب عليه تأكيد الانهيار , حتى قال رئيس وزراء ماليزيا مقولته الشهيرة:" أصبحنا فقراء بفعل المضاربة في العملات , أخذت منا ما يقارب (60%) من ثروتنا الوطنية ! " وهكذا سائر أسواق الأسهم والمال , يكون مصيرها,بل ومصير اقتصاد الدولة أحياناً,مرهوناً بنظام لا يدعم الاستثمار بقدر ما يزيد من حمى المضاربات الآثمة التي يمارسها مصاصو الأموال والدماء , ممن يملكون الأموال الطائلة, ويفتقدون أدنى مقومات الأخلاق الفاضلة, وقد شهد شاهد من أهلها, حين صرح مدير الصندوق الدولي عقب أزمة سوق المكسيك عام (1995م) فقال وهو يعالج هذه الأزمة:" العالم في قبضة هؤلاء الصبيان" مشيراً إلى المضاربين, وذكر بأنهم صبيان لصغر سنهم في الغالب ! وهذا هو عين ما وقع في سوقنا المحلية , حيث أصبح السوق في قبضة أصحاب الأموال الطائلة , والضحية مليونان أو أكثر ! فهل يوثق في سوق يتحكم فيه أفراد , ويكون الضحايا فيه بالملايين ؟! وهل يقر شرعنا الحنيف الذي جاء بدرء المفاسد الراجحة وبسد الذرائع مثل هذا النوع من الأسواق الذي أثبت الواقع بأنها لا تستطيع السيطرة على مجموعة من التعاملات المحرمة , كبيع الغرر, و النجش , وغيرهما ؟(5/72)
وإذا كانت شريعتنا الإسلامية السمحة قد منعت بعض البيوع التي لا يطال ضررها إلا شخص البائع أو المشتري فقط , كبيع حبل الحبلة , وبيع الحمل في البطن , واللبن في الضرع , وبيع ما لا يقدر على تسليمه , كالآبق والشارد , وبيع الرجل على بيع أخيه , والسوم على سومه , إذا كانت هذه البيوع ونحوها قد حرمها الشارع,ومنع منها, مع أن أثرها لا يتعدى شخص البائع أو المشتري , فما الظن إذاً بسوق يعصف بالملايين في غمضة عين , ولهذا ينبغي أن تفعّل قرارات المجامع العلمية بإنشاء سوق لا يتحكم فيه أفراد , ويكون الهدف منه دعم الاستثمار والاقتصاد على مستوى الفرد والدولة, ووضع الضمانات الكافية لمنع أسلوب حمى المضاربات التي ما إن تطل برأسها في سوق ما إلا ويكون نذيراً بانهيارها , وأن يؤخذ ببعض المقترحات التي من شأنها أن تدفع الشركات نحو الاستثمار , لا أن تدفعها باتجاه المضاربات التي لا تسمن ولا تغني من جوع , ومن تلك المقترحات الجديرة بالنظر , والتي ذكرها أحد خبراء الاقتصاد ( في مجلة اقتصاديات في عددها الرابع والعشرين)وهي كفيلة-بإذن الله- بتنشيط الاستثمار,وعلاج حمى المضاربات :
1- أن يتم تحديد سعر السهم على أساس القيمة الدفترية للسهم مضافاً إليها نسبة مئوية على القيمة الدفترية للسهم , وتحدد هذه النسبة وفقاً لمؤشرات ربحية الشركة في الماضي والحاضر , وتتغير هذه النسبة كل أربعة أشهر , وفقاً للبيانات والمعلومات عن الشركة نفسها وعن القطاع الاقتصادي الذي تنتمي إليه هذه الشركة, وتتولى هيئة السوق المالي تحديد هذه النسبة .
2- أن يتم تحديد مدة زمنية بين حركة البيع والشراء , بحيث يمنع بيع السهم إلا بعد مرور هذه الفترة لمنع (حمى) المضاربة في الأسهم , ومن أجل العمل على استقرار السوق المالي .
وبهذه المقترحات ونحوها , تسعى جميع الشركات المساهمة إلى تفعيل استثماراتها ودفعها نحو الأمام , ونقطع الطريق على العبث بالأموال في مضاربات وهمية تدفع بالناس نحو الانهيار والإفلاس
==========
نهاية التاريخ أم نهاية الرأسمالية ؟
إدريس الكنبوري* 18/8/1423
24/10/2002
قبل عشر سنوات خرج (فرانسيس فوكوياما) - الياباني الأصل الأمريكي الجنسية- ليبشر العالم بنظرية جديدة تقول بنهاية التاريخ، زعم فيها أن النظام الرأسمالي هو أرقى ما أنتجته البشرية في تاريخها ، وأن الليبرالية هي النموذج الإنساني الذي بإمكانه تحقيق السعادة للبشرية، وتحقيق مجتمع الرفاه، وبالتالي فلم يعد أمام البشرية سوى تبجيل هذا النموذج ، والسعي إلى الانخراط في مركبه قبل فوات الأوان.
وقد قوبلت نظريته بعدة انتقادات من مفكرين كثر، اتهموه بضيق الأفق والجهل بصيرورة التاريخ، وبعض هذه الانتقادات انصبَّ على تبيان علل الرأسمالية الحديثة - خاصة الأمريكية- والنتائج الكارثية التي تولدها في المجتمعات، وبين المجتمعات المختلفة، وكيف أنها تتأسس على مبدأ الصراع من أجل الربح والطبقية والتفاوت بين مختلف فئات المجتمع والتهميش وسحق الفقراء، وخلصت هذه الانتقادات إلى أن الرأسمالية في نمطها الأمريكي المتوحش لن يكون بمقدورها أن تعيش طويلاً أمام التحديات الاقتصادية الدولية المتمثلة - بالخصوص- في اليابان وأوروبا التي تتجمع في بيت واحد، والتي ستشكل تحديًا حقيقيًا للنموذج الاقتصادي الأمريكي .
لكن الذي حدث بعد عشر سنوات من تلك النظرية المتفائلة ،أن الرأسمالية الأمريكية بدأت تتآكل من داخلها، وأخذ الانهيار يدب في أوصالها بعد تلاحق سقوط كبريات الشركات التي ينهض عليها الاقتصاد الأمريكي الحديث ، فبعد انهيار شركة "انرون" العملاقة للطاقة في (دجنبر) من العام الماضي، وقبلها شركة الكهرباء الكاليفورنية الضخمة في أبريل 2000، ها هي شركة "وورلدكوم" للاتصالات الإلكترونية تلتحق هي الأخرى بمسلسل الانهيارات، ليدخل الاقتصاد الأمريكي أزمة لا سابق لها في تاريخ الرأسمالية، تعد أكبر حجمًا وأعمق تأثيرًا من أزمة الثلاثينات من القرن الماضي.
مرض الرأسمالية الأمريكية
إن هذا السقوط المريع والمتلاحق له عدة دلالات، بعضها اقتصادي ولكن الكثير منها ثقافي وأخلاقي؛ لأن نظام الرأسمالية ليس مبنيا على مجرد معادلات اقتصادية بل على فلسفة معينة تعطيه ماهيته ، لقد جاء إفلاس شركة "انرون" نتيجة عملية اختلاس كبيرة قدرت بأزيد من 20 مليار دولار ، بينما انهارت شركة "وورلدكوم" بسبب عملية تزوير في الحسابات لفائدة بعض المديرين قدر مبلغها بحوالي 38 مليار دولار، أي أن وراء الانهيار قضية اسمها (الفساد المالي)، وهي ظاهرة أصبحت جزءًا من المنظومة الرأسمالية التي تنبني على تقديس الربح واقتناص فرص الحظ بأي ثمن، وعلى الجشع والسمسرة .
لقد أكدت السنوات الأخيرة أن مسلسل الفساد في الولايات المتحدة الأمريكية تحول إلى مكون عضوي في الاقتصاد والسياسة الأمريكيين . وتؤكد مختلف التقارير حول أحوال الاقتصاد الأمريكي ما بعد حوادث 11 سبتمبر 2001 أنه يتجه نحو الانحدار ، ما يدل على أن تصعيد العدوان الأمريكي عبر العالم بعد تلك الحوادث، بشكل لم يسبق له مثيل، يرمي إلى تصدير الأزمات الداخلية وإشغال الرأي العام عن واقع الانهيارات الاقتصادية والاختلاسات المالية، بمثل ما يكشف عن التقاء المصالح بين الرئاسة الأمريكية وكبريات الشركات المتنفذة في التوسع الخارجي والبحث عن منافذ جديدة للثروة .
ليس هذا الكلام من عندي، لكنه رؤية تحليلية لما صدر في المدة الأخيرة عن أكثر من جهة داخل الولايات المتحدة نفسها، ويؤكد أن حلقة " الأغنياء الجدد " بعد تفجيرات 11 سبتمبر بدأت تضيق أكثر، لفائدة بوش ذي الماضي التجاري الغامض ومعاونيه، ومجموعة من الشركات الكبرى ، فقد أوضح استطلاع للرأي أجرته " نيويورك تايمز " و " سي بي إس نيوز" في شهر يوليو الماضي وجود قلق لدى الأمريكيين من الفضائح المالية الضخمة التي يتكون أبطالها من مديري الشركات ، وعَبَّر أكثر من نصف المستجوبين عن اعتقادهم بأن الإدارة الأمريكية لها مصلحة في حماية الشركات الكبرى ، أكثر من حماية مصالح المواطنين الأمريكيين، وقال ثلثا الذين شاركوا في الاستجواب أن الشركات الكبرى تملك نفوذًا قويًا على إدارة جورج بوش الابن والحزب الجمهوري، وخلص الاستطلاع إلى أن الأمريكيين يعدون الوضع الاقتصادي الحالي الأسوأ منذ عام 1994 ، أثناء عهد (بيل كلينتون) الذي أزكمت رائحة فضائحه الأخلاقية أنوف الأمريكيين .
هذه النتائج التي كشفها استطلاع أجري في أوساط المواطنين الأمريكيين العاديين ، كشف مثيلا لها تقرير متخصص أعده 190خبيرًا ومسؤولاً حكوميًا ، وظهر في المدة نفسها التي ظهرت فيها نتائج الاستجواب المذكور ، أي شهر يوليو الماضي .
التقرير أعده أحد مراكز البحوث التابعة للكونجرس الأمريكي ، وورد فيه أن معدل الفساد في عهد الإدارة الأمريكية الحالية ارتفع بوثيرة غير مسبوقة بلغت 35% ، وأن الأشهر القليلة الماضية شهدت تقديم 2130 حالة فساد إلى المحاكم والجهات المختصة بالنظر في حالات الفساد الحكومي، وجرى التحقيق مع مسؤولي ومديري 64 شركة اقتصادية أمريكية ، وأكثر من مئتي مسؤول عن مؤسسة حكومية أمريكية ، وكان موضوع التحقيقات الحصول على رشاوي وأموال، وتيسير الحصول على خدمات مقابل التنازل عن تطبيق القوانين.(5/73)
التقرير إياه يتوقع حدوث انهيار اقتصادي في أمريكا خلال العشر سنوات المقبلة ، ويلاحظ ازدياد الفارق بين الاقتصاد الأمريكي والاقتصاديات الأخرى، بحيث وصل هذا الفارق (نسبة 1 إلى 4) لصالح الاقتصاد الأوروبي ، و (1 إلى 2) لصالح الاقتصاد الياباني ، ويخلص التقرير إلى خلاصة مدوية : الاقتصاد الأمريكي سيدخل أزمة فعلية تنتهي بتآكله ! .
نهاية التفرد الأمريكي
بعض المحللين الغربيين - من طينة فوكوياما نفسه- ينظرون إلى الأزمة الحالية في الاقتصاد الأمريكي بوصفها واحدة من الأزمات الدورية الطبيعية في الاقتصاد الرأسمالي الحديث الذي ما يلبث أن ينهض ، ومن ثم فهي أزمة طبيعية سيتم تجاوزها .
ومثل هؤلاء ينسون العلاقة الرابطة بين الأزمات في الاقتصاد الرأسمالي وبين اشتعال الأزمات العالمية ، وذلك الترابط السببي بين الانتعاش الرأسمالي من بعد الأزمة، وبين الأزمات في مختلف بقاع العالم.
لقد حقق الاقتصاد الأوروبي في القرنين الثامن عشروالتاسع عشر قمة التراكم الرأسمالي؛ بسبب التوسع الاستعماري في آسيا وأفريقيا، وقفز الاقتصاد الأمريكي بعيد الحرب العالمية الثانية؛ بسبب انهيار الاقتصاد الأوروبي الناتج عن مخلفات الحرب. من أجل ذلك ، كان العامل الخارجي عاملاً رئيسًا في إنعاش الاقتصاد الرأسمالي (وتزييت مفاصله).
لكن الأزمات العالمية الحالية - ما بعد مرحلة 11سبتمبر2001 - ، هي برؤية الكثير من المحللين، أكبر من قدرة الولايات المتحدة على احتوائها. فقد ارتضت لنفسها أن تلعب أكثر من دور مع أكثر من طرف، وأثبتت قدرة فائقة على خلق الأعداء وتوسيع الجسور بينها وبين -حتى أولئك- الذين أوهمتهم بالقيام بدور الحلفاء الطبيعيين، وعرضتها هذه السياسات الملتوية لانتقادات أوروبية واسعة، مرشحة للتحول إلى ردود فعل قوية في الآتي من الأيام.
لقد انسحبت أمريكا من اتفاقية (كيوتّو) حول الحد من التلوث البيئي، واتخذت نهجًا مغايرًا للسياسة هو تحرير التجارة تبعا لمبادئ منظمة التجارة العالمية، حيث سعت إلى حماية منتجاتها الزراعية، وفرضت ضرائب على الحديد والصلب المستورد، هذا بالإضافة إلى الوجه البشع الذي ظهرت به في مؤتمر (دربان) حول العنصرية في العام الماضي بانحيازها السافر إلى إسرائيل، ودعمها المستمر المفضوح للجرائم الإسرائيلية في فلسطين، وإغلاق الباب أمام أوروبا لمنعها من لعب أي دور في منطقة الشرق الأوسط، وفي كل هذه المحطات وغيرها، كشفت الولايات المتحدة عن أنها دولة دون مشروعية أخلاقية، تريد استثمار لحظة التفرد العالمي الراهن للقيام بدور إمبراطوري يريد كسر التوازنات العالمية لصالحه، على حساب مصالح الآخرين.
لعل الكثيرين نسوا- في غمرة التطورات المتسارعة في العالم - شيئا كان اسمه نظرية نهاية التاريخ، وهؤلاء عليهم أن يستعيدوها، في ضوء الترنح الأمريكي، بعد عشر سنوات من قصيدة المدح تلك ! .* مراسل موقع الإسلام اليوم - الرباط
==============
تعقيب على فتوى "شراء البيوت بالقرض الربوي"
د. سامي بن إبراهيم السويلم 22/5/1423
01/08/2002
كثيرة هي الفتاوى التي تردنا عن موضوع شراء البيوت عن طريق القرض الربوي حيث انتشر هذا الأمر في بعض البلدان ، ولأهمية هذا الموضوع فقد نشرنا في وقت سابق فتوى بعنوان شراء البيوت بالقرض الربوي لفضيلة الشيخ الدكتور سامي السويلم والتي تقضي بتحريم هذا النوع من المعاملات،،
إلا أنه وردنا تعقيب على هذه الفتوى من أحد زوار النافذة ، وقد عرض هذا التعقيب على فضيلة الشيخ فتكرم بالتوضيح والبيان...
التعقيب:
أود أن أبدي بعض الملاحظات حول فتوى حرمة الاقتراض من البنوك لأجل شراء البيوت ، وهي ملاحظات تلجلجت في صدري كثيرا ، وكنت أتساءل بداية قائلا من المعلوم أن التمر بالتمر يجري فيه الربا ، ولا بد له من شرطين الأول التقابض ، والمثلية ، ومع أن الربا ذنبه عظيم وخطره جسيم ، إلا أن نجد في الشريعة إباحة بيع العرايا وحقيقته أنه ربا ، أبيح لحاجة الناس إلى التفكه بالرطب ، وهذا حكم معروف لديكم ، فقلت في نفسي متسائلا النبي صلى الله عليه يبيح الربا لحاجة يمكن أن يقال إنها نوع من الترفيه ، فكيف بنا اليوم نحرم الاقتراض بفائدة من أجل شراء بيت ومعلوم أن البيت بالنسبة للإنسان الواجد لمن يؤجره من الحاجات العظيمة ، هذا من جانب من جانب آخر وجدت العلماء قد اتفقوا على الضرورات تبيح المحظورات وصحيح أن شراء البيوت ليس من الضرورات لكنهم في المقابل أيضاً قالوا إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ، هذا بعض ما تلجلج في نفسي حيال هذه القضية وثمة أمر أود لو استجاب له المفتون وهو التخلي عن الخلط بين لغتي الوعظ والفتوى ، حتى تحرر المسألة تحريرا علميا أما أن يقول المفتي إن هذه المسألة لاتحتاج إلى فتوى ولا سيما أنه قد أفتى بها علماء آخرون هو نوع من المصادرة التي لا تنبغي وشكرا وجزاكم الله خيرا.
*****
التوضيح:
1. أما مسألة العرايا فهي أولاً مقيدة بما دون خمسة أوسق، وثانياً هي استثناء من ربا الفضل وليس من ربا النسيئة. وبحسب اطلاعنا لم ينقل في السنة أي استثناء من ربا النسيئة في الأموال الربوية، وهي المنصوص عليها في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مسلم(1587). إذا تقرر ذلك فربا الفضل حرم لحكم متعددة، منها كونه ذريعة لربا النسيئة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله. وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة. يقول ابن القيم رحمه الله: "وما أبيح سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب ..." (إعلام الموقعين 2/161).
أما ربا النسيئة فهو محرم تحريم المقاصد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" رواه البخاري(2179)،مسلم(1596) واللفظ له. فلا يصح قياس ما حرم تحريم المقاصد على ما حرم تحريم الوسائل، لأنه قياس مع الفارق المؤثر.
ولو أبيح ربا النسيئة لشراء البيوت، ما الذي يمنع إباحته لشراء السيارات، وهي أيضاً في حق كثيرين من الناس حاجة تنزل منزلة الضرورة، وما الذي يمنع إباحته للزواج ابتداء، وهو أهم من المنزل ومن السيارة؟ وما الذي يمنع إباحته لتمويل التنمية وإنشاء المرافق الضرورية كالكهرباء والماء والهاتف وبناء المدن، وهي حاجة عامة أولى بأن تنزل منزلة الضرورة من الحاجة الخاصة؟ ثم لا تزال الحاجات تتوالى، ولا يوجد مرجع للناس يحدد ما هي الحاجة المستثناة من غير المستثناة، والنتيجة في نهاية الأمر هي استفحال الربا في الاقتصاد، وتفاقم الفوائد عليه، حتى تصبح ثروات المجتمع رهناً للمرابين على حساب الأجيال القادمة، وحتى يصبح الأصل في الربا الحل وليس المنع.(5/74)
2. وأما ما اعتبره الأخ الكريم خلطاً بين الوعظ والفتوى، فهذه هي طريقة القرآن. فإذا تتبعت القرآن، وجدت فتاواه تجمع بين بيان الحكم وبين الوعظ. قال تعالى: "يسألونك عن الأهلة. قل هي مواقيت للناس والحج. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون"[البقرة:189]. وقال تعالى: "يسألونك عن المحيض. قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين"[البقرة:222، 223]. فهذه فتاوى اقترنت بالأمر بالتقوى والاستعداد للآخرة، وهذا من الوعظ الذي أمر الله به.
وأما في موضوع الربا، فآيات الربا هي التي حذرت من الحرب على الله ورسوله لبيان شدة حرمة هذا الأمر. فهي جمعت بين بيان الحكم وبين التخويف والتهديد.
3. أما اعتراض الأخ الكريم على عبارة "لا تحتاج إلى فتوى" وأنها نوع من المصادرة لفتاوى علماء آخرين، فلا ريب أن حرمة الربا مما لا يحتاج إلى فتوى مع النصوص الصريحة الصحيحة الجلية وإجماع الأمة عليها، إلا إذا كان المقصود هو بيان معاني هذه النصوص والتأكيد عليها. وأما فتوى بعض أهل العلم بجواز الاقتراض بربا لشراء المنازل لمن يقيم في الغرب، فقد أشير إلى أن ذلك محمول على حال الاضطرار. فالفتاوى ليست متعلقة بحكم الربا، بل الأمة مجمعة على حرمته، ومن يقول الربا حلال فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة، لكنها متعلقة بحالات خاصة قد يرى المفتي أنها من الضرورة التي تبيح المحرمات، ويرى غيره خلاف ذلك. لكن الأصل متفق عليه بين الجميع.
والله تعالى أعلم.
=============
الفقه والتجديد
د. عبد الرحمن بن أحمد الجرعي جامعة الملك خالد - أبها المملكة العربية السعودية 14/3/1423
26/05/2002
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا بحث عن الفقه والتجديد، حاولت فيه أن أشير إلى معالم هذا الموضوع باعتباره من أهم الموضوعات التي تشغل بال الفقيه المسلم في هذا العصر، ولقد انقسم الناس حيال هذا الموضوع إلى طرفين ووسط، قسم رأى البقاء على القديم، واستراب من كل جديد وتجديد، وقسم فتح الباب على مصراعيه لكل تجديد حتى وإن كان في الثوابت والأصول، وقسم رزقه الله أصابة الوسط فأصاب الحق وقبل التجديد بالضوابط الشرعية، وسدَّ الباب على التفريط والإفراط.
وأنا أعلم أن الكتابات في هذا المجال كثيرة، ولكن أحببت أن أسهم في إيضاح المعالم البارزة لهذه القضية التي ربما تتناثر أجزاؤها في كتب وأبحاث متفرقة، بالإضافة إلى التنبيه على قضايا تهم الفقيه المتصدي للتجديد.
وقد كانت خطة هذا البحث على النحو التالي:
التمهيد : ويشتمل على المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة، وتشمل (1) الربانية (2) الوسطية والاعتدال (3) الشمول (4) الثبات والمرونة.
المطلب الرابع : عدم منافاة التجديد للأصالة.
المبحث الأول:مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
(1)تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش.
(2)مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة وتمحيص.
(3)إيجاد الحلول الشرعية للمستجدات والنوازل.
(4)تقريب الفقه للناس وتيسيره.
المبحث الثانيمبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1)التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة.
(2)سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة.
(3)الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي هؤلاء المنبهرين للحديث عن القضايا الشرعية.
(4)الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي.
المبحث الثالث صفات المجدد:
(1) العلم . (2) العدل. (3) الاعتدال (4) القدوة.
المبحث الرابع :مزالق التجديد. وهي:
(1)المصلحة المتوهمة.
(2)مسايرة الواقع بعجره وبجره.
(3)الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
(4)الاجتهاد في موارد النص.
(5)مسايرة الهوى .
(6)عدم فهم الواقع .
(7)تقليد الفكر الغربي.
المبحث الخامس:تنبيهات:
المصادر والمراجع:
وفي ختام هذه المقدمة، أسأل الله التوفيق والسداد، وأن يجعل عملنا خالصاً وصواباً، إنه على كل شيء قدير
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً
•تعريف الفقه لغة: مطلق الفهم قال تعالى: (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ)(1) وقال: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)(2)
•والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام العملية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
وعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية، إذ هو العلم الذي تعرف به الأحكام من الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح، وتشتدّ إليه الحاجة في كل عصر وأوان، وقد يسع الرجل جهل تفسير آية، ويند عنه معرفة درجة حديث، أو حال راو، ولكن لا يسعه الجهل بالأحكام الشرعية المتعلقة بصحة طهارته أو صلاته أو صومه. وقديما قال بعضهم:
إذا ما اعتزَّ ذو علم بعلم … …
فعلم الفقه أولى باعتزاز
فكم طيب يفوح ولا كمسك … …
وكم طير يطير ولا كباز
ولقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني الصحابة، يفتيهم، ويجيب على أسئلتهم، وكان القرآن يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يتعلمون ويتفقهون من الكتاب والسنة، ولما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل راية الفقه أصحابه، وكان بعضهم أفقه من بعض، فكان عمر - رضي الله عنه - من المجلين في هذا الشأن، وغيره كثير، ثم حمل الراية التابعون ثم تابعو التابعين، حتى أوصلوها إلى الفقهاء الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد) وقد أسس هؤلاء المذاهب التي حملت أسماءهم، وتعمقت هذه المذاهب وأصِّل لها، ثم طرأ نوع من التعصب والجمود، وتمحور كثير من الفقهاء حول نصوص أئمتهم لا يجاوزونها، ثم يسَّر الله انتعاش الفقه مرة أخرى في هذا العصر، فقامت جهود خيرة مباركة، وأسهم ثلة من الفقهاء في إبراز الفقه في ثوب قشيب، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوالت في هذا العصر دعوات إصلاحية، وهيئات، ومجامع فقهية، تباينت في إسهامها، ولكنها في الجملة قد دفعت حركة الفقه قدماً، وتصدّت هذه الجهود لنوازل المجتمع وقضاياه.
المطلب الثاني : تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
* التجديد لغة: جعل الشيء جديداً، ومنه: جدد وضوءه، وجدد عهده: يعني أعاده وكرره والجديد نقيض الخلق(3).
* وتجديد الفقه يقصد به إعادة نضارته وبهائه وإحياء ما اندرس من معالمه، والعمل على نشره بين الناس، ويشمل التجديد كذلك: التصدي للمستجدات التي تظهر في كل عصر؛ لبيان الحكم الصحيح لهذه المستجدات.(4)
* والتجديد بهذا المعنى يعني أن التجديد يكون على اضمحلال لشأنه، ولا يعني التجديد نبذ شيء منه أو اختراع فقه جديد فذلك في الحقيقة تحريف ومسخ.
* التجديد سنة ماضية:
إن التجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وتتلاءم مع ما هو معلوم من أن الله قد ختم الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فالعلماء الذين يجددون لهذه الأمة دينها هم نواب له ووراث لهديه - صلى الله عليه وسلم -، فهم يحيون ما اندرس من الدين في نفوس الناس.
الكلام عن حديث التجديد:(5/75)
نص الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها) والحديث صحيح، حيث صححه جمع من أهل العلم قديماً وحديثاً(5)،بل نقل السيوطي في رسالته (التنبيه فيمن يبعثه الله على رأس المئة) إجماع العلماء على تصحيحه(6).
وفي الحديث بشارة وعد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة أنها لا تخلو من المجددين، فهو وعد إلهي لا يتخلف.
ويتضمن الحديث كذلك جانباً شرعياً مهماً وهو الطلب من الأمة، وخاصة القادرين من أهل العلم والإيمان أن يؤدوا الدور المنوط بهم، فيكون التجديد على أيديهم، فالمجدد لا يهبط من السماء.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة:
للفقه الإسلامي - وإن شئت قلت للشريعة - خصائص، نكتفي بذكر ما يقتضيه المقام:
(1) الربانية: فهي:
أ. ربانية المصدر فمصدرها إلهي.
ب. وربانية الوجهة. وهذه الخصيصة تدل على خصائص أخرى منها: الكمال والعدل المطلق (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً).
كما أنها تحظى بالقبول والاحترام من قبل المؤمنين بها بما لا يحظى قانون أو نظام، وإن كانت المقارنة هنا غير واردة:
ألم تر أن السيف ينقص قدره … …
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
كما أن الإنسان المعتنق لهذه الشريعة يراقب ربه في كل صغيرة وكبيرة، بل لابد أن تقابل أحكامها بالرضا والتسليم(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء: 65].
(2) الوسطية والاعتدال والموازنة: ففيها توازن بين الروح والجسد، وموازنة بين مصلحة الفرد والجماعة، وموازنة واعتدال في النظر إلى حقوق الرجل والمرأة بين النظرة الجاهلية في احتقار المرأة وظلمها وبين الجاهلية المعاصرة في إخراجها عن حدود ما خلق الله لها، وهذا التوازن لا يلغي ترتيب الأولويات فهناك الواجب والأوجب وهناك المهم والأهم.
(3) الشمول:
أ. لمصالح الدنيا والآخرة.
ب. لجوانب الحياة المختلفة (من آداب الأكل والشرب إلى بناء الدولة).
ج. لمراحل حياة الإنسان كلها (طفلاً وكهلاً).
د. شمولها لكل البشر – النزعة العالمية – (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
هـ. شمولها لكل زمان ومكان.
(4) الثبات والمرونة: الثبات في الأصول والأهداف والقطعيات، والمرونة في الفروع والوسائل والظنيات، ومساحة المرونة مساحة واسعة وهي منطقة مفتوحة للاجتهاد البشري في مجال التشريع الإسلامي(7).
ولقد كان هذا الفقه أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله طيلة ثلاثة عشر قرناً، تبدَّلت فيها النظم وتغيّرت الأوضاع والأحوال، فلم يضق صدره بمشكلة ولم يقف عند نازلة، بل كان لديه لكل حادثة حديث، ولكل واقعة حكم، ولكل مشكلة علاج فالفقه الإسلامي يمتاز بقواعده الدقيقة وأصوله المقننة المتقنة التي تضبط طرائق الاستنباط، وهو ما يعرف بعلم (أصول الفقه) الذي عرف لدى علماء المسلمين في فترة مبكرة على يد الإمام الشافعي، ويمتاز الفقه كذلك بقدرته على التجديد والنماء، فهو علم خصب، مرن، استوعب شتى البيئات والأوطان - رغم تباينها - ومن البدو إلى الحضر، فلم يضق بها ذرعاً، بل سبكها ضمن منظمته، وقضى بالعدل، وقال كلمة الفصل.
كثرة الأقوال والاختلافات ثروة فقهية:
وهي نعمة لا نقمة وهي دليل على مرونة الشريعة، وتسامح الأئمة وقد نقل عنهم في هذا الباب كلاماً عظيماً ولم يكونوا - رحمهم الله -يرون بذلك بأساً وكثيراً ما يكون الاختلاف داخل المذهب نفسه كما سجله المرداوي في كتابه (الإنصاف) والنووي في (روضة الطالبين) وربما كان اختلافهم لا بسبب الحجة والبرهان بل بسبب العصر والزمان، كما قيل عن خلاف أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني لأبي حنيفة.
وفقه مذهب واحد يضيق عن الوفاء بحاجات الناس فتجد في بعض المذاهب من السعة واليسر وسداد الرأي ما لا يوجد في بقية المذاهب، ومن الأمثلة على هذا: المذهب الحنبلي في العقود فهو من أيسر المذاهب في ذلك.
المطلب الرابع: عدم منافاة التجديد للأصالة.
التجديد في الفقه لا ينافي الأصالة، كلا، بل يتناغم معها، إذا حدد المفهوم الصحيح للأصالة، فليست الأصالة هي الانكفاء على كل قديم ورفض كل جديد، فذلك قتل للإبداع وإغلاق لباب الاجتهاد، بل الأصالة هي تلك الممارسة الواعية التي تعني الاستمساك بالثوابت وتعنى بالتجديد في المتغيرات بحسب الحاجة، على أن يكون ذلك ضمن المفاهيم والمضامين الشرعية، وأن يكون دافع التجديد هو الرغبة في التحسين لا مجرد التقليد
كما أن التجديد ليس هو السخرية بكل قديم وفتح الأبواب أمام كل جديد، بزعم أن الجديد لا يمثل إلا التطور والرقي والقديم لا يمثل إلا التخلف والجمود، يقول شكيب أرسلان في الرد على دعاة نسف التراث:
كم من قديم لا يزال رواؤه … …
متألقاً يحكي الصباح المسفرا
مهما تقادم جوهر في عنقه … …
فهو الثمين وليس يبرح جوهرا(8)
المبحث الأول: مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
1- تنزيل الحكم الشرعي الصحيح على الواقع المعاش.
2- مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة فهو ثروة فقهية عظيمة لا يمكن الاستغناء عنها، وفيها من السعة والدقة ما لا يخفى، وربما احتاج هذا بعض هذا التراث إلى مراجعة تمحيص لما يحتاج إلى تمحيص ومراجعة ومن الأمثلة على ذلك.
(أ) مراجعة الأحاديث التي استدل بها الفقهاء وبنوا عليها كثيراً من أحكامهم، وهي أحاديث غير صحيحة كحديث (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا...)(9).
(ب) التثبت من مسائل الإجماع التي حكاها بعض الفقهاء، فلو صح الإجماع لما جازت مخالفته ولكن يتسامح بعض الفقهاء في نقله، وهو غير صحيح، وبالتالي فلا يترتب عليه المنع من الاجتهاد في المسألة التي لم يثبت فيها الإجماع.
(ج) المعلومات المتوافرة في هذا العصر والتي لها دور في تمحيص كلام الفقهاء، إذا كانت هذه المعلومات قد وصلت إلى درجة الحقائق لا النظريات، مثال ذلك: أقصى مدة الحمل. فقد ذكر بعض الفقهاء أن أقصى مدة الحمل: سنتان، وقال بعضهم: أربع، وقال البعض، خمس، وسبع. ومن المعلوم الآن طبياً أن الحمل لا يكون أكثر من سنة، وما ذكر من المدة الطويلة (سنتان، أربع، خمس ...) فهو حالة معروفة طبياً بالحمل الكاذب. وتظهر فيه كل أعراض الحمل من انتفاخ البطن، والشعور بالغثيان والقيء وتقلص عضلات البطن ونحوها بما يشبه حركة الجنين في البطن، وتظهر هذه الحالات كثيراً عند الرغبة العارمة للحمل، وحين يكشف عليها الطبيب بالوسائل الحديثة من التحليل والأشعة يجزم الطبيب بأنها غير حامل. ومن الطريف أن هذا المرأة قد تستمر معها هذه الحالة ثم يشاء المولى -جل وعلا- أن تحمل حملاً صادقاً في نهاية المدة فتظنه امتداداً للحمل الكاذب وتحسب المدة كلها على هذا الحمل، وتلد بعد سنتين أو ثلاث، فيصدق الناس هذه الدعوى(10).
3- إيجاد الحلول (الأحكام) الشرعية المناسبة للمستجدات والنوازل، ومن أبرز المجالات التي تبرز فيها النوازل مجال المعاملات والاقتصاد كقضايا الشركات والأسهم والتأمين والبنوك وبعضها شبيه بالقديم أو قريب منه وبعضها جديد تماماً ولا نظير له، فهل الحل هو في (أ) الجمود (ب) أو القبول بكل ما استجدّ.(5/76)
(ج) أو البحث من خلال الثروة الفقهية التي ورثناها عن أسلافنا، فإن لم نجد اجتهد المجتهد في ضوء القواعد الشرعية العامة. الصحيح أنه لا يسع الفقيه إلا الأمر الأخير.والمجال الآخر الذي تكثر فيه النوازل: المجال الطبي، فقد وضع العلم الحديث بين يدي المسلم مجموعة كبيرة من النوازل، تدخل أحياناً في تفصيلات الحياة اليومية، وتثور أسئلة وافرة في ذهن الطبيب المسلم عن الحكم الشرعي لها كقضايا زرع الأعضاء، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، وأبحاث العقم، والوفاة الدماغية .... الخ. خاصة وأن هذا التقدم العلمي قد نشأ في مجتمع غير مسلم وله أعراف غير أعرافنا، فهو شبيه بشعب بوان الذي قال فيه المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها … …
غريب الوجه واليد واللسان(11)
(4) تقريب الفقه للناس وتيسيره، وكتابته بأسلوب يناسب العصر، مع استخدام الوسائل المتاحة في هذا العصر وذلك يتم بأمور منها:
أ. استخدام اللغة الميسرة البسيطة التي يفهمها غير المتخصص لأنه يحال أحياناً بين الناس وبين كتب الفقه بسبب وعورة المصطلحات التي تشكل على غير المتخصص، ومن حق الناس أن يقرب لهم الفقه بلغة عصرهم.
ب. التخفف من المسائل التي لا وجود لها في عصرنا كبعض المعاملات التي لا يتعامل بها حالياً، أو يتعامل بها على نطاق ضيق كشركات المفاوضة والعنان، فينبغي التركيز على ما يعايشه الناس في هذا الشأن وغيره كأعمال البنوك وشركات التأمين، ونحو ذلك، وكذلك البعد عن التفصيلات وتشقيقات المسائل التي لا طائل من ورائها.
ج. استخدام معارف العصر في الترجيح، فقد يترجح بعض الأقوال بناء على ذلك، خلافاً لما يذكر في كتب الفقه، فالسفينة التي يتكلم الفقهاء السابقون عن ضمانها غير السفينة الحالية، فتلك تحركها الرياح وهذه يحركها المحرك الآلي.
د. تحويل المقادير الشرعية إلى مقادير معاصرة، فلا يكاد الناس اليوم يعرفون مقدار الدينار والفرسخ والقلة والوسق إلا ببيانها بالمقادير المعاصرة، وهو أمر متاح وقد ألفت فيه مؤلفات عدة(12)
هـ. الحرص على بيان الحكمة من التشريع فإن لها أثراً على اطمئنان القلب كما في قوله - تعالى - (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) مع الاستفادة مما يكتبه المعاصرون كحديثهم عن مضار التدخين، ومضار ولوغ الكلب في الإناء، وأكل لحم الخنزير، مع الحذر من التعليلات القاصرة التي تفتح الباب لذوي الأهواء أو المنكرين كتعليل تحريم الربا باستغلال حاجة الفقير وتعليل الزنا باختلاط الأنساب، مع الإشارة إلى عدم الجزم بالعلة أو الحكمة من التشريع إذا لم يكن منصوصاً عليها.
(و) ربط جزئيات الفقه بمقاصد الشريعة الكلية: فالإسلام كل لا يتجزأ، فمن المناسب جداً أن يتكلم المرء عن نظام العاقلة في الديات ويربط ذلك بنظام النفقات والمواريث حتى يتضح جانب الغنم والغرم ، وكذلك عند الحديث عن نصيب الذكر والأنثى ينبغي أن يذكر بأن المرأة إن كانت زوجاً فنفقتها على زوجها، وإن كانت بنتاً فنفقتها على أبيها إن احتاجت ... إلخ.
ز. الاستفادة مما كتبه المعاصرون من العلماء الثقات في جميع جوانب الفقه وكذلك فتاوى المجامع الفقيه وهيئات كبار العلماء والموسوعات الفقهية ورسائل الماجستير والدكتوراة.
ح. الاستفادة من الوسائل المعاصرة التي تيسر الشرح من الرسوم والأشكال التي لا محظور فيها كما كان صلى الله عليه وسلم يستخدم الخط على الرمل وضرب المثال(13).
المبحث الثاني: مبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1) التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة (التقدم التقني في مجال الاتصالات والمجالات الصناعية والطبية وغيرها وكل ذلك يحدث وقائع تحتاج لأحكام شرعية، وبعضها كان موجوداً لكن بصفة مبسطة كمسائل الإجارة وأحكام الشركات).
(2) سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة، والذي يعيش في الأجواء الطبية يلاحظ هذا، بالإضافة إلى غزو القوانين الوضعية لكثير من بلاد المسلمين، وكل ما سبق يحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيه.
(3) الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي بعض هؤلاء المبهورين – خاصة ممن درس في بلاد الغرب – للحديث عن قضايا شرعية ليسوا مؤهلين للخوض فيها، فزلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ومن العجيب أنه لا يقبل من أحد أن يتحدث في تخصصه الدقيق إلا أن يكون من أهل الدار، وتجده يرتع في حمى الفقه، ويصدر الفتاوى بلا خطام ولا زمام، وربما استسهل الكلام في مسألة لو عرضت على عمر – رضي الله عنه – لجمع لها أهل بدر.
(4) الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي، وقد استمر هذا الأمر ردحاً من الزمن، ولا زالت بقاياه، ومن الأمثلة على هذا الجمود وجود أكثر من مائة شرح وحاشية لأحد كتب بعض المذاهب الفقهية)(14).، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم عن كتاب (الهداية)
إن الهداية كالقرآن قد نسخت ... ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب(15).
المبحث الثالث: صفات المجدد:
(1) العلم:
فالمجدد في الفقه لابد أن يكون مالكاً لأدوات الاجتهاد فيما يجتهد فيه، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، وأهم هذه الشروط:
(ب) العلم بالقرآن (فيعرف آيات الأحكام – والناسخ والمنسوخ منه – والعام والخاص – والمطلق والمقيد – وأسباب النزول).
(ب) العلم بالسنة ( فيعرف مواقع أحاديث الأحكام، ولا يقتصر على الأمهات الست، ويعرف الصحيح والضعيف من الأحاديث، وعلم التاريخ والرجال، وأسباب الجرح والتعديل). .
(ج) معرفة مسائل الإجماع.
(د) معرفة أصول الفقه ، وأن يتقن هذا العلم خاصة مباحث الألفاظ ودلالاتها، ومباحث القياس، وذلك لمسيس الحاجة إليها.
(هـ) معرفة اللغة العربية.
(و) أن يكون فقيه النفس، فيكون الفقه ملكة وسجية له، يستطيع بها استنباط الأحكام(16)كذلك لابد أن يلم بمقاصد التشريع، وفقه المصالح والمفاسد وفقه الخلاف.
(2) أن يكون عدلاً في دينه، ورعاً؛ فإنه إنما يوقع عن الله، ومن لم يكن كذلك فليس من المقبول أن يرتع في هذا الحمى، فالبيوت إنما تؤتى من أبوابها، وإذا كان من غير المقبول أن يمارس مدعي الطب هذه المهنة، فما بالك بمن يتكلم في أمر الحلال والحرام وهو ليس لذلك أهل. والمجدد لابد أن يكون من أصحاب المنطلقات الشرعية الصحيحة فأما من كان منطلقه في التجديد: إخضاع الإسلام للعقل والواقع، كما يظهر ذلك في كتابات بعض المعاصرين، فهولاء ليسوا من أهل التجديد المنشود.
(3) الاعتدال: بعيداً عن الغلو والإفراط، فإن من الناس من هذا ديدنه فيقدم الأحوط دائماً، وكذا سد الذريعة وإن لم يكن لهما مساغ، والأخذ بهما شرعاً له ضوابط وليس على إطلاقه، وكذلك يجب البعد عن التفريط والتساهل بحجة مجاراة العصر، وكذا البحث عن المخارج بكل وسيلة ممكنة، وهذا طبع موجود، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
(4) أن يكون المجدد قدوة لغيره: في سلوكه وحياته، حتى يستحق الشرف العظيم الذي يناط به.
*مجال التجديد: التجديد يكون في الفروع لا الأصول، وفي الظنيات لا القطعيات، وفي المتشابهات لا المحكمات.
المبحث الرابع: مزالق التجديد. وهي:
(1) المصلحة المتوهمة (الغلو في اعتبار المصلحة ولو على حساب النص).
فالمصلحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ. مصلحة معتبرة: شهد الشرع لها بالاعتبار وهي ترجع إلى حفظ الضرورات الخمس ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال) (17)
ب. مصلحة ملغاة(18)(5/77)
شهد الشرع بعدم اعتبارها كالربا (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة : 275]. مع ما قد يتوهم من جلبه للمصالح، ومن الأمثلة التي تذكر في هذا المقام المصلحة التي حكم بها يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم الذي وطئ في نهار رمضان حيث حكم عليه بصيام شهرين متتابعين.
وترك هذا الفقيه الحكم بالعتق كما هو قول الجمهور، وترك كذلك التخيير بين الكفارات كما هو القول في مذهب مالك، وعلته في ذلك: أننا لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه (أي على هذا الواطئ) أن يعتق كل يوم رقبة، فحمله على أصعب الأمور لئلا يعود(19).
فهو نظر إلى مصلحة وفوت مصلحة أعظم منها وهي تشوف الشرع إلى إعتاق الأرقاء.
مثال آخر: الشخص الذي أراد نقل صلاة الجمعة ليوم الأحد في بلاد الغرب لمصلحة متوهمة، وهي أن الناس لا يجتمعون للجمعة، فتؤخر إلى اليوم الذي يجتمعون فيه، وقد رد عليه بعض العلماء بأمرين:
أحدهما: مخالفة النص الصريح: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) فنص على ذلك اليوم
وثانيهما: قيل له هذه صلاة الجمعة فإذا أقمناها يوم الأحد فماذا تسمى؟!!!(20)
(ج) مصلحة لم يقم الدليل على اعتبارها بذاتها ولا إلقائها، ولكنها تدخل ضمن مقاصد الشرع، وتسمى (المصلحة المرسلة).
ومن أمثلتها: جمع القرآن، تدوين الدواوين، قوانين السير والمرور، وتحديد الأسعار، وإنشاء المحاكم، فهذه مصلحة معتبرة(21).
2- مسايرة الواقع بعجره وبجره (الرضوخ تحت ضغط الواقع). فيشكل هذا الضغط تكييف الأحكام الشرعية وفقاً للواقع المعاش، دون مراعاة النصوص.
3- الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
4- الاجتهاد على خلاف النص، إما لجهل بثبوته، أو عدم العلم به أصلاً، أو لغفلة وذهول لهوى أو سوء فهم.
5- مسايرة الهوى طمعاً في جاه أو منصب أو تملقاً لمن يخشى أو يرجى، ومن ذلك تملق الجماهير طمعاً في النجومية، وإقبال الدهماء.
6- عدم فهم الواقع، ومن الأمثلة على ذلك إفتاء بعضهم بأن الباروكة لا تعدو أن تكون غطاءً للرأس، فتحل، رقم أنها داخلة في معنى الواصلة التي ورد فيها اللعن.
7- تقليد الفكر الغربي (كما في منع الطلاق، ومنع تعدد الزوجات) أو مجاملته على الأقل(22)
المبحث الخامس: تنبيهات.
* ينبغي أن تكون الفتوى جماعية قدر الإمكان، في صورة مجامع فقهية وهيئات لكبار العلماء، ولا تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمؤثرات الأخرى، ومع ذلك لا يستغنى عن الاجتهاد الفردي الذي يكشف الطريق ويمهده بما يقدم من دراسات رصينة، تضيء الطريق، وتكشف معالمه.
* وينبغي أن يتوجه الفقيه في اجتهاداته إلى المسائل المعاصرة فيتصدى لها ويستنبط الأحكام لها في ضوء النصوص والقواعد الكلية للفقه، وألا يستهلكه تقرير المسائل القديمة دون النظر للمستجدات.
* قد يبدو للمجتهد المجدد فهماً تحتمله النصوص الشرعية لعله لم يسبق إليه أو سبق إليه ولكنه هجر، لعدم الحاجة إليه أو لعدم شهرة قائله، وربما فتح هذا القول أفقاً واسعاً للمجتهدين بما لا يتعارض مع النصوص ولا يخالف القطعيات.
* تيسُّر الاجتهاد اليوم: مما نص عليه بعض أهل العلم كابن القيم وغيره أن الاجتهاد يتجزأ، فهناك مجتهد في باب تمكن من أدلته، أما من أتقن مسألة فقط فقد منع بعض أهل العلم اجتهاده فيها باعتبار أن المسألة الواحدة ترتبط بغيرها من المسائل(23).
وهناك الاجتهاد الانتقائي (الترجيحي) بين أقوال السابقين، وكثير من رسائل الدراسات العليا من هذا الباب
ويشار هنا إلى أن الاجتهاد بالنسبة للمجتهدين قد أصبح أمره أيسر من الزمن الماضي من ناحية توفر المراجع وطباعتها وكونها في متناول الباحث، وقد أشار على هذا العلامة الحجوي في كتابه (الفكر السامي) وقد حقق كثيراً من الكتب التي كانت نادرة، ويوجد في مكتبة طالب العلم اليوم من كتب التخصص ما لم يكن يوجد في مكتبات بعض الأئمة سابقاً، وساعد الكمبيوتر في تقريب كثير من المعلومات وجمعها بين يدي الباحث.
* عند التجديد لابد من مراعاة يسر الشريعة وأنها بنيت على ذلك لا استجابة لضغوط الواقع أو تناغماً مع روح العصر، ولكنها صفة أصيلة في الشريعة قال - تعالى - (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي الحديث المتفق عليه فيما رواه أنس "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
وقالت عائشة – رضي الله عنها (ما خير النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)
* وعند التصدي للتجديد لابد أن نتوقع الخطأ وأن نتقبل ذلك بصدر رحب وأن نبذل النصيحة ولا نبادر بالاتهام لمن اجتهد – وهو من أهل الاجتهاد – فأخطأ، فإنه مأجور، وربما كان هو المصيب في الحقيقة، وقد يفتح باجتهاده هذا باباً كان مغلقاً، ولنا في شيخ الإسلام ابن تيمية قدوة فقد كان من المجددين، وقد قاومه أهل عصره، وأساؤوا به الظن، ثم انتفعوا بعلمه واجتهاده، ولا زلنا اليوم نفيد من تجديده في مجالات كثيرة. والله الموفق.
المصادر والمراجع
(1)مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، 1407هـ.
(2) القاهرة.
(3)الجامع الصغير للسيوطي، مع شرحه فيض القدير، للمناوي، دار الفكر، بيروت.
(4)المقاصد الحسنة، للسخاوي، الناشر : دار الكتب العلمية، بيروت.
(5)صحيح الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني، أشرف على طبعه: زهير الشاويش، الطبعة الثانية، 1406هـ، المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق.
(6)سلسلة الأحاديث الضعيفة، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت دمشق.
(7)جمع الجوامع، تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، مطبعة محمد سبيح، الطبعة الثانية، 1346هـ.
(8)الاعتصام، لأبي إسحاق الشيرازي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
(9)الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، خرج أحاديثه وعلق عليه:عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، الناشر:المكتبة العلمية، المدينة المنورة،الطبعة الأولى 1396هـ
(10)الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، يوسف القرضاوي، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولى 1406هـ.(11)الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية: 1414هـ
(12)نحو فقه ميسر، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة.
(13)الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(14)التجديد في الإسلام، كتاب المنتدى، سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الثالثة، 1419هـ
(15)أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1406هـ.
(16)أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، مصطفى البغا، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1413هـ.
(17)الدليل إلى المتون العلمية، عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، دار الصميعي، الرياض.
(18)بحث الفقه الإسلامي، آفاقه وتطوره، د. عباس حسني محمد، مجلة دعوة الحق، السنة الثانية، محرم، 1402هـ. العدد العاشر.
(19)الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين ، بيروت، الطبعة الثالثة.
(20)القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروز آبادي، دار الحديث، القاهرة.
(21)معجم لغة الفقهاء ، محمد رواس قلعجي، حامد قنيبي، دار النفائس بيروت.
(22)ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر.
(23)مصطفى صادق الرافعي، فارس القلم تحت راية القرآن، محمد رجب البيومي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1417هـ.(5/78)
(1) سورة هود، آية 91.
(2) سورة طه، آية 98.
(3) انظر : الصحاح للجوهري، مادة (جدد) 2/454، والقاموس المحيط، مادة (جدد) 1/281
(4) انظر : التجديد في الإسلام ص : 39، كتاب المنتدى، والفقه الإسلامي، آفاقه وتطوره، عباس حسني، مجلة دعوة الحق، عدد (10) ص : 83 .
(5)منهم: الزين العراقي والسخاوي والمناوي والألباني (انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير للمناوي 2/282، والمقاصد الحسنة ص: 121، صحيح الجامع 1/382.
(6)انظر : التنبئة ص 2 (مخطوط) نقلاً عن التجديد في الإسلام ص : 16، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد للقرضاوي ص 6-20.
(7)الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، يوسف القرضاوي ص 6 - 20.
(8)مصطفى صادق الرافعي، فارس القلم تحت راية القرآن، محمد رجب البيومي، ص : 293.
(9)الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 10/385، وضعفه ابن حجر في التلخيص 3/93، والألباني في السلسلة الضعيفة 1/296
(10) الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، للقرضاوي، ص : 30.
(11) ديوان المتنبي، ص 541.
(12)انظر : مثلا: معجم لغة الفقهاء ، لمحمد رواس قلعجي، وحامد قنبي: دار النفائس. وفيه بيان المقدرات السابقة بمقدرات معاصرة.
(13) نحو فقه ميسر ، للقرضاوي ص 16 - 22، دار وهبة .
(14)انظر: الدليل إلى المتون العلمية ، عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم ، ص 386، دار الصميعي- الرياض.
(15) انظر : الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، للحجوي 2/183 دار التراث - القاهرة.
(16)انظر : الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، محمد حسن هيتو (ص : 526 - 531).
(17) أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي 2/752.
(18) انظر : الاعتصام، للشاطبي 2/114، المكتبة التجارية الكبرى - مصر.
(19) أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي 2/753
(20) الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، للقرضاوي ص 73، 74، دار التوزيع والنشر القاهرة.
(21)أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، مصطفى البغا، ص : 36.
(22)الاجتهاد المعاصر، ص 46 وما بعدها.
(23)جمع الجوامع، لابن السبكي 2/386، الوجيز في أصول التشريع ص 533.
==============
المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق
د. عبد الرزاق رحيم جدي الهيتي 15/3/1423
27/05/2002
اسم الكتاب:المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق
المؤلف :د. عبد الرزاق رحيم جدي الهيتي
الناشر : دار أسامة/الأردن
عدد الصفحات:795
يشتمل البحث على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة.
في المقدمة بين المؤلف أهمية الموضوع ، وأسباب اختياره، وذكر المصادر الأساسية التي اعتمد عليها في هذه الدراسة، ومنهجية البحث فيها.
وفي الباب الأول تحدث عن المصارف الربوية من خلال فصلين: في الأول تطرق إلى تعريف المصارف ثم نشأة العمل المصرفي ومراحل تطوره بدأً بالعمل المصرفي في القرون الوسطى مروراً بالحضارة الإسلامية ثم العمل المصرفي في ظل الحضارات الحديثة .
ثم تحدث عن وظائف المصارف من أعمال الصيرفة الاعتيادية، واستثمار الودائع، وإيجاد النقود وابتكارها .
وفي آخر هذا الفصل تحدث عن أنواع المصارف فذكر المصارف المركزية ،والتجارية ،والمتخصصة.
وأما الفصل الثاني فكان حول الربا : تعريفه ، ثم نوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة ، بعد ذلك عرض للفرق بين الربا والربح، ثم ذكر أدلة تحريم الربا من الكتاب ثم من السنة ثم الإجماع ، كما أشار إلى علة تحريمه.
وفي آخر هذا الفصل عرض لنطاق تحريم الربا وبعض الشبه التي أثيرت حوله.
وأما الباب الثاني فجعله في ثلاثة فصول ،تطرق في الأول منها إلى المصارف الإسلامية فبدأ بتعريفها ثم كيفية نشأتها ،والعوامل التي ساعدت على إنشاء المصارف الإسلامية. بعد ذلك تحدث المؤلف عن خصائص المصارف الإسلامية .
وفي الفصل الثاني تحدث عن أسس المصارف الإسلامية ودورها في تصحيح المسار الاقتصادي.
بينما في الفصل الثالث والأخير تطرق المؤلف لمصادر الأموال في المصارف الإسلامية.
وفي الباب الثالث تحدث عن وظيفة المصارف الإسلامية خلال فصلين :
في الأول تكلم عن الأعمال والخدمات المصرفية من قبول للحسابات (الودائع) المصرفية كالحسابات الجارية(ودائع تحت الطلب)، والاستثمارية المشتركة والمخصصة ، وشهادات الإستثمار.ثم التحويلات المصرفية ، وتحصيل الأوراق التجارية وخصمها ،ثم الاكتتاب وحفظ الأوراق المالية ،ثم بيع وشراء الأسهم والسندات ،وبيع وشراء العملات الأجنبية ، وتأجير الصناديق الجديدة.
وفي الجزء الثاني لهذا الفصل تحدث عن مجموعة الخدمات الاجتماعية للمصارف الإسلامية كالقرض الحسن ،وإدارة الممتلكات والزكاة والوصايا والتركات والكفالة المصرفية ( خطاب الضمان) ، والاعتمادات المستندية .
وفي كل خدمة تحدث عن التكييف الشرعي الفقهي لها بأسلوب العرض والمناقشة ثم الترجيح.
وفي الباب الثاني تحدث عن الاستثمار في المصارف الإسلامية ، بدأه بأسس استثمار رأس المال في الإسلام وأهداف الاستثمار في المصارف الإسلامية.
ثم تحدث عن أشكال الاستثمار في المصارف الإسلامية : كالمضاربة ، والمشاركة في رأس المال، وبيع المرابحة بنوعيه البسيط والمركب ، والبيوع المؤجلة (بيع السلم والتقسيط) ، وبيع الاستصناع، وسندات المقارضة.
وفي الباب الرابع تحدث عن المصارف الإسلامية في مرحلة التطبيق من خلال فصلين في الأول تطرق لأنواع المصارف الإسلامية: الحكومية، والدولية ، والخاصة ، ثم دراسة ميدانية لثلاثة مصارف إسلامية: البنك الإسلامي الأردني ، بنك قطر الإسلامي، والمصرف العراقي الإسلامي ،وذلك من خلال نشأته ، وأهدافه ، ومصادره المالية ، والأعمال والخدمات التي يقوم بها ، ثم ملاحظات عامة حول هذا المصرف.
وأما الفصل الثاني فتحدث فيه عن المآخذ على هذه المصارف ثم بعض المشاكل والصعوبات (الداخلية والخارجية)التي تعاني منها المصارف الإسلامية.
ثم تحدث في آخر هذا الفصل عن عوامل نجاح المصارف الإسلامية وبعض الشبه التي أثيرت حولها ومناقشتها .
وفي نهاية البحث ذكر المؤلف خاتمة أشار فيها إلى أهم النتائج التي توصل إليها ، مع بعض التوصيات التي رأى أنها تساعد على إنجاح هذه التجربة.
============
منهجية التيسير في الفتوى
لجنة البحث العلمي في الموقع 12/7/1423
19/09/2002
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فقد كثر الكلام حول مسألة التيسير في الفتوى ،والناس فيها بين مُشِّرق، ومُغرِّب، وعز الوسط , ولذا رأت لجنة البحث العلمي في موقع (الإسلام اليوم) الإدلاء بهذا البحث رجاء أن يكون مدخلاً لباب الحوار ،والتأصيل العلمي لهذه المسألة لجعلها منضبطة بضوابطها الشرعية.
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ألفاظ عنوان البحث:
المنهج في اللغة هو الطريق الواضح(1)،وفي الاصطلاح : الخطة المرسومة ،أي الطريق التي يسير عليها السالك في أي مجال.ونريد بالمنهج هنا الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه المفتي في عملية التيسير.
والتيسير من اليسر،وهو اللين والانقياد والسهولة وهو ضد العسر(2)، وفي الاصطلاح: التسهيل على المكلف، ورفع الحرج عنه بما هو سائغ شرعاً .
والفتوى في اللغة تبيين الحكم ،يقال: أفتى الفقيه في المسألة إذا بين حكمها (3)،وفي الاصطلاح:الإخبار عن الحكم الشرعي عن دليل شرعي على غير وجه الإلزام.(4) شروط الإفتاء :
1- العلم الشرعي :(5/79)
فيجب أن يكون المفتي قد بلغ المنزلة العلمية التي تؤهله للإفتاء حسب الشروط التي ذكرها الأصوليون في كتبهم ، فلا يجوز إفتاء من لا يعرف حكم الله في المسألة لقوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 36 ) ، وقوله تعالى:( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف 33) ، وقوله تعالى:(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)(النحل116) .
2- معرفة الواقع :
قال ابن القيم - رحمه الله -:"ولا يتمكن المفتي ،والحاكم من الفتوى ،والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما : فهم الواقع ،والفقه فيه ،واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن ،والأمارات ،والعلامات ،فالعالم يتوصل بمعرفة الواقع ،والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة"(5)
3- معرفة مقاصد الشريعة :
وهو من ضوابط الإفتاء ،وذلك أنه شرط أولي للاجتهاد لأن الشرائع إنما جاءت برعاية مصالح البشر المادية والمعنوية ،قال الشاطبي رحمه الله : "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها "(6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- :"خاصة الفقه في الدين معرفة حكمة الشريعة ،ومقاصدها ومحاسنها "(7) .
4- طلب الحق :
أي أن على المفتي عند النظر في النازلة أن يفتي بحسب ما أوصله إليه اجتهاده أنه الحق، ولا يجوز له أن يفتي بما شاء من الأقوال ،والوجوه من غير نظر في الترجيح ، بل يكتفي كون ذلك قولاً قاله إمام ،أو وجهاً ذهب إليه جماعة، فيفتي بما شاء من الوجوه ،والأقوال حيث رأى أن ذلك القول،وفق إرادته وغرضه عمل به,فيجعل إرادته وغرضه المعيار،وبهما الترجيح ،وهذا حرام باتفاق الأمة بل هو من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر(8).
مفهوم التيسير :
إن التيسير الذي دعت إليه الشريعة ،ودلت عليه النصوص هو السماحة ،والسهولة ،ورفع الحرج عن المكلف بما لا يصادم نصاً شرعياً ،مراعاة للظرف ،والزمان ،والمكان ،والوضع الاجتماعي ،والسياسي الذي حصلت فيه الواقعة ما دام أن هناك مخرجاً شرعياً يسنده دليل شرعي, فعلى المفتي مراعاة ذلك ،فليس الحكم للقوي مثل الضعيف ، ولا للآمن مثل الخائف، ولا منْ كان في حال السعة كمن كان في حال الاضطرار أو الحاجة ،ومن تتبع الهدي النبوي وجد ذلك جلياً .
وهكذا كان هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ، قال عمر بن إسحاق" لمَنَْ أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ،ولا أقل تشديداً منهم "(9)وقال رجاء بن أبي سلمة : سمعت عبادة بن نسي الكندي،وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي فقال:" أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم ،ولا يسألون مسائلكم"(10)قال سفيان بن عيينة عن معمر : "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة,فأما التشديد فيحسنه كل واحد"(11) وقال الشعبي : "إذا اختلف عليك الأمران ،فإن أيسرهما أقرب إلى الحق"(12).
وليس المراد بالتيسير تتبع رخص العلماء وزلاتهم ،فإن ذلك تلاعب بدين الله ،ولا يجوز للمفتي أن يفتي بخلاف ما يعتقد.(13)ونقل الشوكاني عن البيهقي أنه حكى عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد، فرفع إليّ كتاباً قد جُمعتْ له فيه الرخص من زلل العلماء ، وما احتج به كل منهم ، فقلت: "مصنف هذا زنديق ،وما من عالم إلا وله زلة. ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه"(14)
أدلة التيسير :
أولاً : من القران :
- قال الله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة 185)
قال الشوكاني : "في الآية أن هذا (اليسر)مقصد من مقاصد الرب سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين"(15).وقال ابن سعدي رحمه الله :" أي يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ، ويسهلها أبلغ تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله ، سهله تسهيلاً آخر ، إما بإسقاطه أو تخفيفه بأنواع التخفيفات" (16) .
- قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج 78)
قال ابن عباس رضي الله عنه:أي من ضيق, والتعريف بأل في (الدين) للاستغراق(17).
قال السيوطي : "الآية أصل قاعدة " المشقة تجلب التيسير"(18).
ثانياً : من السنة
- قالت عائشة رضي الله عنها :"ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ،فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه"(19)
- وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن :" يسّرا ،ولا تعسّرا ،وبشرا ،ولا تنفرا ،وتطاوعا ،ولا تختلفا "
وفيهما عن أنس نحوه .(20) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على المراد .
وقد استنبط العلماء رحمهم الله من هذه النصوص قواعد شرعية عامة تدل على التيسير ،ومنها :
1- المشقة تجلب التيسير.
2- إذا ضاق الأمر اتسع .
3- الحاجة تنزل منزلة الضرورة (21).
مجال التيسير في الفتوى :
سبق أن التيسير من قواعد هذا الدين ،ومحاسنه التي حث الشارع على تحصيلها,ولكن لابد من إدراك أن في الشريعة ما هو ثابت ،وما هو متغير, فأما الثابت من الدين، فقد أطلقه العلماء على الأمور القطعية ،ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بيَّنةً في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،ولا مجال فيها لتطوير أو اجتهاد (22) .
قال الشافعي رحمه الله :"كل ما أقام به الله الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً ، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه"(23).
ومجال الثوابت هو كليات الشريعة ،وأغلب مسائل الاعتقاد ،وأصول الفرائض ،وأصول المحرمات ،وأصول الفضائل والأخلاق ، ولا يجوز أن يوضع شيء من هذه الأمور القطعية موضع الجدل والنقاش ، كأن يقال بتعطيل الزكاة اكتفاء بالضرائب ، أو فريضة الصوم تشجيعاً للإنتاج, أو الحج توفيراً للعملة, أو إباحة الخمر ترغيباً في السياحة, أو إباحة الربا دعماً للتنمية, أو غير ذلك ،والقول به خروج عن الإسلام ومروق من الدين ،والمساس بها فساد عريض لأن شأنها شأن القوانين الكونية التي تمسك السموات والأرض أن تزولا(24).فلا يدخل التيسير في الثوابت إلا لعارض الضرورة إذا كان من المحرم لذاته أو عارض الحاجة إن كان من المحرم لغيره، فمثال الأول : جواز شرب الخمر للإكراه ،ومثال الثاني : جواز كشف المرأة المريضة أمام الطبيب عند عدم وجود طبيبة ،وهذه الأحكام تكون لعارض الضرورة أو الحاجة ،وتزول بزوالها .
وأما المتغير فهو ما كان من موارد الاجتهاد ، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح (25) .
يقول الشافعي:"وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً ،فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس ، وإن خالفه غيره لم أقل أنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص "(26)
ومجال المتغير الأمور الاجتهادية، والأحكام التي ارتبط مناط الحكم فيها بالزمان ،والمكان ،والأحوال ،والعوائد بما يحقق المصلحة الشرعية والحِكَم المرعية (27)،وكذا حال المستفتي قوة وضعفاً ،والقرائن المصاحبة للواقعة ، وكذا إن تردد الحكم عند المفتي بين الأيسر والأشد حَكَم بالأيسر لأن أصول الدين تقتضيه ،وهذا ما لم يخالف نصاً .(5/80)
قال ابن القيم – رحمه الله – ": الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة والأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ،والحدود المقدرة على الجرائم ،ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه . والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ،ومكاناً ،وحالاً ،كمقادير التعزيرات ،وأجناسها ،وصفاتها ، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة "(28).
تنبيه :
ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يوجد متغير في الشريعة, و شنوا حملة ضد مصطلح المتغير ، وقالوا إنه لا تغير في أحكام الشريعة ،وإن بدا أنه تبدل أو تغير ،فهو في الحقيقة ليس تغيراً لحكم شرعي ،وإنما هو تغير مناط الأحكام المتعلقة بأمر من الأمور ،وأن الحكم يتغير بتغير مناطه (29).وعند تحرير محل النزاع بين الفريقين نجد أن الخلاف لفظي ،وذلك أن القائلين بالتغير إنما يقولون بتغير الأحكام المعللة إذا اختلفت العلة أو زالت ، وكذلك الأحكام المترتبة على العوائد ،والأعراف ،واعتبار حال الزمان والمكان ، أما الأحكام الثابتة ،فلا تغير فيها ،وجعلوا عدم مخالفة النص ضابطاً لابد من اعتباره بالدرجة الأولى .
والقائلون بعدم التغيير أقروا التغيير عملياً ،ولكن سموه تغيير مناط الحكم ،وأن التغيير حصل لاختلاف المناط لا للحكم نفسه وحاصل النتيجة واحد .
تغير الفتوى
لقد تقرر عند الأئمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان , والمكان والعوائد والأحوال .
قال ابن القيم – رحمه الله :" فصل في تغير الفتوى ،واختلافها بحسب تغير الأزمنة ،والأمكنة ،والأحوال ،والنيات والعوائد.. -ثم قال :- وهذا فصل عظيم النفع جداً ،وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج ،والمشقة ،وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ،فإن الشريعة مبناها ،وأساسها على الحكم ،ومصالح العباد في المعاش والمعاد" (30).
ويقول القرافي –رحمه الله - : "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع ،وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة"(31).
وجاء في مجلة الأحكام العدلية المادة (39): "لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان"
أسباب تغير الفتوى ،وأثرها على التيسير:
1- تغيير الزمان :
إن تغير الفتوى بتغير الزمان مما شهدت له النصوص الشرعية ، فالتدرج في الشريعة فيه دلالة على تغير الفتوى بتغير الزمان ،والزمان ليس هو سبب تغير الفتوى بحد ذاته ، إنما بما فيه من ملابسات اقتضت ذلك ومن الأدلة على ذلك :
- الإبراد بالصلاة زمن شدة الحر ،فعن أبي هريرة وابن عمر قالا قال صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم "(32)،فانتقل عن الأصل الذي هو استحباب التبكير بالصلاة في أول وقتها إلى استحبابه في آخره لتغير الزمن .
- الصلاة في البيوت في الليلة الباردة مع أن الأصل وجوب الصلاة في المساجد جماعة ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة في الرحال في الليلة الباردة (33) .- ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزاة(34).
- ومن ذلك النهي عن الادخار في الأضاحي أكثر من ثلاث في زمن الفاقة ،فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "دف-أي أقبل- الناس من أهل البادية فحضرت الأضحى ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إدخروا لثلاث ،وتصدقوا بما بقي " قالت عائشة ،فلما كان بعد ذلك قلت: يا رسول الله قد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، فقال صلى الله عليه وسلم"إنما كنت نهيتكم للدافة التي دفت ،فكلوا ،وتصدقوا ،وتزودوا" وفي رواية "فعلت ذلك من أجل الدافة "(35).
ولهذا عندما خطب علي رضي الله عنه الناس زمن عثمان ،والناس في فاقة ،وجوع ذكرهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الادخار(36).
أمثلة تطبيقية :
- تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة مع أن الأصل جواز بيعه(37).
- جواز تولية الفاسق للقضاء عند فساد الزمان(38).
2- تغير المكان:
إن تغير الفتوى بتغير المكان من أسباب التيسير في الفتوى ،ويدل لذلك ما رواه البخاري معلقاً "قال طاووس قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير ،والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"(39).
ومما يدل عليه إخراج زكاة الفطر من قوت البلد لأنه أنفع لفقراء البلد وأيسر على المتصدقين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير(40) .
قال ابن القيم رحمه الله – :"وهذه كانت غالب أقواتهم في المدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم غير الحبوب كاللبن، واللحم، والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائناً ما كان"(41).
أمثلة تطبيقية:
- ذهب جماعة من أهل العلم إلى كراهية الزواج من الكتابية في دار الحرب(42).
- إن الضيافة إنما تتأكد على أهل البادية ،ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق ،وغيرها ،ولأن القرى يقل الوافد إليها ،فلا مشقة بخلاف الحضر(43).
- صلاة أهل القطبين ،وصيامهم ،وكذا المناطق التي يطول فيها وجود الشمس أو غيابها فوق العادة.
3- تغير الأشخاص:
من المعلوم أن المكلفين لا يستوون قوة وضعفاً ، وغنىً وفقراً ،ولذا فإن الشارع الحكيم راعى هذا الجانب ،ولكنه لم يخص أحداً لشخصه ،وإنما لوصفه .
ويدل لذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال كانت بي بواسير ،فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ،فقال: " صل قائماً ،فإن لم تستطع ،فقاعداً ،فإن لم تستطع ،فعلى جنب"(44).
ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ،وكانت ثقيلة ثبطة ،فأذن لها(45).
وما سبق دليل على أن مراعاة حال الشخص من أبواب تغير الفتوى تيسيراً أو تشديداً يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله " إذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن تعامل معاملة خاصة عمل بمقتضاها ما لم يخالف النص"(46).
أمثلة تطبيقية :
- عدم التوقيت في المسح على الخفين للبريد(47).
- تأجيل إقامة الحد على المريض حتى يبرأ (48).
4- تغير العرف والعادة:
والعرف هو عادة جمهور قوم في قول أو فعل(49)،والعادة هي العرف ،والعرف من مجالات التيسير في الفتوى شريطة ألا يصادم نصاً شرعياً ،ولو تعارف عليه أهل الأرض جميعاً كالربا.
والدليل على تغير الفتوى بتغير العرف قوله تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف)،وقوله تعالى(ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين) (سورة البقر 236).
ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت :قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح فهل علي جناح أن آخذ من ماله سراً قال:"خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف"(50).قال الحافظ: "وفيه _ أي في الحديث_ اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشرع ،وقال القرطبي: فيه اعتبار العرف في الشرعيات "(5/81)
قال ابن القيم: "وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى في طول الأيام ،فمهما تجد في العرف ،فاعتبره ،ومهما سقط ،فألفه ،ولا تجهد على النقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل يستفتيك ،فلا تجبه على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجبه عليه"(51).
أمثلة تطبيقية :
-إذا تنازع الزوجان في متاع البيت،فإن لكل منهما ما جرت عليه العادة باستعماله(52)
-سقوط نفقة الزوجة إذا أكلت مع زوجها بجريان عرف الناس على ذلك، واكتفائهم به(53)
-تقدير اللقطة التي لا يجب تعريفها .
ولتغير الفتوى بتغير العرف مجال للتيسير مثل أن كل ما تعارف الناس على أنه بيع،فهو بيع ،ولا يلزم ما قرره الفقهاء المتقدمون من صيغ الإيجاب والقبول، وكذا سائر العقود، وإنما قرروا ذلك على أعرافهم(54)
5- التطور :
المراد ما جد للناس من وسائل وآلات لم تكن في العصور السابقة ،وبناء على هذا الجديد، فإن الفتوى تغيرت على وفقه، ولم يجمد الحكم الشرعي على الوسائل التي لم ترد لذاتها ،ولم ينط الحكم بها دون غيرها .
مثال ذلك : القصاص في قتل الجاني ،فقد اختلف الفقهاء في كيفية القصاص على مذهبين: الأول :مالك ،والشافعي، ورواية عن أحمد أن القصاص يكون بالصفة التي وقع بها القتل،والثاني :أبو حنيفة، ورواية عن أحمد أنه لا يكون إلا بالسيف ، ولكل مذهب دليله (55)،وليس المقصود تحرير المسألة، وإنما التمثيل لتغير الفتوى نتيجة للتطور ،فعلى القول الثاني، فإن القصاص بالوسائل الحديثة التي يكون فيها تسريعاً في إحداث الوفاة ،فإنها تستخدم عملاً بالأمر بإحسان القتلة .
6- المصلحة:
إن المتتبع لمذاهب الفقهاء يجد أنهم يتفقون عملياً على اعتماد المصلحة، وإن اختلفوا نظرياً (56).
والمراد بالمصلحة : "المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها (57).
،والمصلحة باعتبار الحكم الشرعي على ثلاثة أقسام:
أ-المصالح المعتبرة شرعاً : وهي التي تظافرت الأدلة على رعايتها، فهي حجة صحيحة لا خلاف بين أهل العلم في إعمالها, وذلك كأن ينص الشارع على حكم، ويجعل مناط الحكم تحقيق مصلحة ما,أو دفع مفسدة ما .
فإنه إذا وقعت حادثة أخرى تتحقق فيها هذه المصلحة أو تندفع بها هذه المفسدة وجب إعطاؤها نفس الحكم للمنصوص(58).
مثاله :أن تعلم الرمي فيه مصلحة إرهاب أعداء الله كما نصت عليه آية الأنفال،و التصنيع العسكري يأخذ حكمه لأن فيه المصلحة نفسها .
ب- المصالح الملغاة شرعاً :وهي المصالح التي شهد الشارع بردها وأقام الأدلة على إلغائها ،وهذا النوع من المصالح لا سبيل لقبوله، ولا خلاف في إهماله عند الجميع(59).
مثال ذلك :توهم مصلحة التخفيف عن النفس من مرض أو ألم شديد بالانتحار لأن هذه المصلحة رفضها الشارع وردها بقوله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم ... ) (النساء 11)
ج-المصالح المرسلة: وهي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، ولا على إلغائها وسميت مرسلة لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء (60).
ودليل اعتبار المصلحة المرسلة عمل الصحابة رضي الله عنهم حيث حدث في زمانهم ما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجدت أمور، فضربوا النقود، وشادوا السجون، واتخذوا الدواوين، وجمعوا المصحف إلى غير ذلك مما يطول حصره، وقد أجمع الصحابة على قبولها بما لا يدع ريباً ولا شكاً(61).
شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
1- الملائمة بين المصلحة الملحوظة، ومقاصد الشرع بالجملة بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته.
2- أن تكون معقولة في ذاتها بحيث إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول ،فلا مدخل لها في التعبدات لأن عامة التعبدات لا يعقل معناها على التفصيل .
3- أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين بحيث لو لم يؤخذ بتلك المصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
4- عدم تفويتها مصلحة أهم.
5- عدم معارضتها للقياس الصحيح(62).
أمثلة تطبيقية :
- امتناع عمر عن إعطاء الكبراء من الزكاة تأليفاً لقلوبهم عندما قويت شوكة الإسلام ، لأنه يرى أن الحكم كان لمصلحة زالت فزال حكمها(63).
- السفر إلى بلاد الكفر، فإن الفتوى فيه تتغير حسب المصلحة فإذا ظهر أن السفر إليها فيه مصلحة مرجوة دون أن تجر على صاحبها مفسدة جاز، وهذا من أبواب التيسير على المكلفين حفظاً لمصالحهم الدينية والدنيوية.
قاعدة"ارتكاب أخف الضررين " وأثرها في التيسير في الفتوى:
إن المتتبع لكلام أهل العلم ،وفتاويهم يدرك إلى مدى كانت هذه القاعدة معتبرة عندهم ،وقد دلت النصوص على اعتبارها .
- فمن ذلك قوله تعالى:( ولا تسبوا الذي يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام108) فأرشد سبحانه وتعالى إلى ترك سب آلهة المشركين لدرء المفسدة الأعظم وهي سب المشركين لله سبحانه وتعالى بارتكاب مفسدة أقل وهي ترك سب آلهتم.
- ومن الأدلة خرق الخضر السفينة ، حيث أن خرقه لها مفسدة، وضرر، ولكن لدفع ضرر أشد، وهو أخذ الملك السفينة برمتها .
- ومنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم عن الإنكار على الأعرابي الذي بال في المسجد وقت تبوله حتى أتمه(64)
،وذلك أن الإنكار عليه سيؤدي إلى مفسدة أعظم ،وهي تلوث قدر أكبر من المسجد ،وكذا ثيابه ستتلوث، فأقر منكراً لزمن معين لدفع منكر أعظم.
وهذه القاعدة من أعظم أبواب التيسير في الفتوى ذلك أن من مقاصد الشريعة تحصيل المصالح ،وتكميلها ،وتعطيل المفاسد ،وتقليلها ،فإذا تزاحمت المصالح فالواجب تحصيل الأكمل منهما ،وإذا تعارضت مفسدتان ،فالواجب درء الأكبر منهما بارتكاب الأصغر.
أمثلة تطبيقية:
- قبول إمامة الفاسق والمبتدع – ما لم تكن بدعته مكفرة – إذا لم تمكن إزالته وذلك لتحصيل الجمع والجماعة (65).
- تولية الفاسق في القضاء إذا لم يوجد غيره لدفع مفسدة خلو البلاد من القضاء الذي يحفظ النظام أو جزءاً منه.
- العمل في المرافق المهمة، وإن كان فيها بعض المنكرات، وذلك أن خلوها من الصالحين مفسدة أعظم من الوقوع في بعض المحظورات .
مآل الفتوى وأثرها في التيسير :
من المتقرر أن الفتوى الشرعية تحقق مصالح العباد ،ولذا فإن على المفتي أن لا يفتي بما يترتب على فتواه مفاسد أكبر ،ولو كان الأمر واجباً أو مستحباً .قال شيخ الاسلام ابن تيمية: (على المفتي أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي –كائنا من كان-نصرة هواه بالفتوى، وليس قصده معرفة الحق، واتباعه)(66) ،ومن ذلك امتناع النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لما في ذلك من فتنة على القوم الذين اسلموا حديثاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم)(67).
والمفتي متى امتنع عن الفتوى التي تسبب ضرراً ،فقد سلك سبيل التيسير على الناس .
التيسير في الفتوى بين الإفراط والتفريط
جرت العادة الغالبة في موقف الناس من القضايا المطروحة على العقل البشري أنهم طرفان ،ووسط، ومن تلك القضايا مسألة التيسير في الفتوى.(5/82)
ففريق سلك بالناس مسلك التشديد ،فألزمهم ما لا يطيقون أو ما يشق عليهم،وأعجزهم بحجة الأخذ بالاحوط لجهله بمسالك التيسير في الفتوى ،(وهذا الدين يسر،ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)(68) ،ولربما كان سبباً في تنفير الناس عن دين الله بسبب تحريجهم بشيء جعل لهم الشارع فيه فسحة،فكان مخالفاً للهدي النبوي(يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )(69) وهذا التشديد يحسنه كل أحد , وهو دليل على قلة علم صاحبه ،ولعل في قصة الذي أفتى قاتل التسعة والتسعين نفساً أنه لا توبة له دليل على ما تقدم(70).
وفريق آخر فرط فجعل من التيسير مدخلاً للتلاعب بدين الله ،فصار يتتبع رخص العلماء ،وجعل منها ديناً ،وهذا الذي قال فيه العلماء من تتبع رخصة كل عالم ،فقد تزندق .وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على المنع من تتبع الرخص(71).
ومن المفرطين من سلك مسلك التلفيق في الفتوى ،وتأول النصوص الواضحة انهزاماً ومسايرة للواقع الفاسد الذي جاء الشرع لإصلاحه لا لموافقته .
بل إن الشيطان استدرج أقواماً ،فجعلوا التيسير مطية للتحلل من دين الله بحجة أن الشارع جاء لجلب المصالح للمكلفين ،وأن الحكم يدور معها، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان ،والمكان متجاهلين أن المصلحة فيما شرع الله ،فجعلوا المصلحة ،والزمان ،والمكان حاكمة على الشرع لا الشرع حاكماً عليها ،متعلقين برأي الطوفي الذي خالف فيه إجماع الأمة, وذلك لجهلهم أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تخالف نصاً وإنما تستند إلى نص كلي، وأن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إنما هو في الأحكام التي لها مناط متغير أما الثوابت فلا .
وأما الطائفة الثالثة ،فسلكت في هذا الأمر مسلك التيسير المنضبط مدركة أن الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاد للمشي على التوسط,كما أن الميل إلى التشدد مضاد له أيضاً ,والوسط هو معظم الشريعة ،وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك(72).
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين .
(1)- لسان العرب 3/313.
(2) - المصدر السابق 5/395
(3) - معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/155
(4) -مواهب الجليل 1/45
(5) - إعلام الموقعين 1/ 17 بتصرف
(6) - الموافقات 5/14
(7) - مجموع الفتاوى 11/ 354
(8) - انظر إعلام الموقعين 4/211
(9) - أخرجه الدارمي في المسند (128)
(10) - المصدر السابق رقم (129)
(11) - أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 8/147
(12) - نقل هذا عنه رحمه الله عدد من العلماء ،إلا أني لم أقف عليه مسنداً .
(13) - الإحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام ص
(14) - إرشاد الفحول 272.
(15) - فتح القدير 1/183.
(16) - تيسير الكريم الرحمن 1/223
(17) - تفسير ابن كثير 3/223, القاسمي 12/68.
(18) - الإكليل 185 .
(19) البخاري (3560) ، ومسلم ( 4294 )
(20) البخاري (69) ، مسلم (3264)
(21) - انظر : الأقمار المضيئة شرح القواعد الفقهية 109.ومجلة الأحكام العدلية 1/31، وغيرها .
(22) - الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ص37.
(23) - الرسالة 560
(24) - انظر البعد الزماني والمكاني وأثرهما في الفتوى ص 160 - 161
(25) - الثوابت والمتغيرات ص 37
(26) - الرسالة ص 560
(27) - شرح القواعد الفقهية للزرقا (بتصرف )
(28) - إغاثة اللهفان 1/330-331
(29) - انظر ضوابط المصلحة ص 245 ،والثبات والشمول في الشريعة للسفياني ص 533 .
(30) إعلام الموقعين 3/3.
31) الإعلام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 111.
(32) البخاري (534) ، ومسلم (973)
(33) البخاري (666)، مسلم (1125).
(34) أخرجه أحمد (1969 )،وأبو داود كتاب الحدود (2/441)، والترمذي (1450). والحديث وإن كان فيه
مقال فإن إجماع الصحابة على ذلك يقويه، وقد نقل إجماعهم ابن قدامة في المغني (13/1068)
(35) مسلم (3643) ، والبخاري (5570) نحوه مختصراً
(36) فتح الباري 10/28
37) إعلام الموقعين 1/42،3/158 ،والمغني 4/155
(38) السياسة الشرعية 37.
(39) البخاري كتاب الزكاة باب العرض في الزكاة 3/311-312 مع الفتح.
(40) البخاري (1503) ، ومسلم (1635).
(41) إعلام الموقعين 3:12.
(42) انظر المغني 9/292 ، والفقه الإسلامي للزحيلي 7/145 ، وحكم زواج المسلم من الكتابية 27.
(43) انظر الذخيرة للقرافي 13/335، شرح الأربعين النووية للنووي 48.
(44) أخرجه البخاري (1117) وغيره
(45) البخاري(1680)، مسلم (2271)
(46) كتاب العلم 227.
(47) مجموع الفتاوى 21/215-217 لابن تيمية .
(48) الموسوعة الفقهية 17/146
(49) المدخل الفقهي العام (2/860)
(50) - البخاري (2211) ، مسلم (3233) .
(51) إعلام الموقعين 3/78..
(52) الفتاوى34/81-82.
3) الفتاوى 34/81-82.
(54) الاختيارات 121
(55) انظر أحكام القرآن 1/160 والمغني 11/512
(56) انظر شرح البعد الزماني 168-169.
(57) ضوابط المصلحة للبوطي ص27، وأثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي ص28-29.
(58) البعد الزماني 166 بتصرف
(59) نفس المرجع 167
(60) أصول الفقه خلاف ص 84 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية 544.
(61) الاعتصام 2/111 وما بعدها .
(62) الاعتصام 2/129-235.
(63) السنن الكبرى للبيهقي 7/20 ، والسنة لابن أبي عاصم 2/246
(64) البخاري (219) ،مسلم (427)
(65) - مجموع الفتاوى (23/343)
(66) - مجموع الفتاوى 28/198
(67) - البخاري (1586) ،ومسلم ( 1333)
(68) - البخاري( 39) ، مسلم (5036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(69) - سبق تخريجه .
(70) - البخاري(3470) ، مسلم (4967) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه .
(71) - جامع بيان العلم وفضله 2/92
(72) - الموافقات 5/278
=============
أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة
د .عباس أحمد محمد الباز 26/12/1423
10/03/2002
اسم الكتاب : أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة
المؤلف :د / عباس أحمد محمد الباز
الناشر :دار النفائس / الأردن
عدد الصفحات:239
ملخص الرسالة :
يتميز موضوع الصرف بأنه بيع يختص بالأثمان من الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من النقود والأثمان ، فإن علماء الإسلام لم يقصروا الثمنية على الذهب والفضة بل جعلوا العلة التي من أجلها ربط الشارع الحكيم بعض الأحكام بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية متعدية إلى ما سواهما من الأموال إذا حازت علة الذهب والفضة وهي الثمنية على الراجح من أقوال العلماء ، فالنقود لا تقصد لذاتها ، وإنما هي وسيلة إلى التعامل بها وتحصيل المنافع بواسطتها ، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا في مادتها ولا في صورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت .
وبناء على ذلك فإن التعامل بالنقود الورقية اليوم بيعاً وشراء يعد صرفاً وتنطبق عليه أحكام الصرف المطبقة على بيع الذهب والفضة كما أمرت به الشريعة الإسلامية .
وقد حرص الإسلام على ألا تخرج النقود عن وظيفتها الأساسية وهي الثمنية لكي يحفظ اقتصاد الأمة متيناً ويقيه من كل ما يؤثر عليه .
ولما كان بيع الصرف أقرب أنواع البيع إلى الربا، فإن الشارع الحكيم قد احتاط كثيراً لهذا النوع من التعامل واشترط له شروطاً خاصة زائدة على الشروط التي يجب توفرها في كل بيع ، كما وضع له قواعد وضوابط انفرد بها عن سائر أنواع البيوع ، مما جعل هذا العقد من أكثر عقود البيع قيوداً وأكثرها شروطاً ، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية هذا العقد ومدى حرص الشارع الكريم على أن يكون التعامل به في البيع والشراء كما أراد له.(5/83)
ولهذا فقد سار فقهاء الإسلام في استنباطهم لأحكام الصرف وبيان قواعده وضوابطه على تضييق التعامل به لإبعاد الناس عن الربا وشبهته حتى غدا باب الصرف من أضيق أبواب التعامل تحقيقاً لمصلحة ضبط التعامل بالأثمان للحفاظ على معيار محدد للتعامل التجاري في السوق .
والقاعدة العامة في بيع الصرف أن الزيادة تحرم عند تبايع النقد إذا اتحد جنساً وتجوز إذا اختلف بشرط التقابض الحال في مجلس العقد وإلا كان التعامل رباً محرماً .
فإذا باع شخص دنانير أردنية بـ دولارات أمريكية مثلاً فعليه أن يسلِّم الدنانير ويستلم الدولارات فوراً في مجلس العقد ، فإن التقابض الفوري شرط أساسي في الصرف ، ولا يجوز اشتراط الخيار في الصرف أو تأجيل قبض أحد البدلين ، لأن شرط الخيار يؤثر في صحة القبض وشرط التأجيل يؤثر في القبض نفسه .
ولا تجوز المصارفة بعملة ثابتة في الذمة ، فإنه لا أثر للارتفاع أو الانخفاض في سعر الصرف على الدين الثابت في الذمة .
ويلزم المدين عند حلول أجل الدين برد مثل ما أخذ قدراً وصفة ، فإن الديون تؤدى بأمثالها دون التفات إلى ما يطرأ على سعر الصرف من رخص أو غلاء
==============
الأمن المائي لبلدان المغرب العربي في خطر
ارتفاع حجم السكان وتزايد الحاجيات وغياب التنسيق يضاعف الأزمة
الإسلام اليوم - الرباط 23/12/1423
07/03/2002
تفيد التقارير أن منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا تواجه تحديا على مستوى تدبير المياه في المستقبل بسبب مخاطر الندرة والجفاف التي أصبحت عنصرا بنيويا في واقعها البيئي في السنوات الأخيرة، إذ إن الاحتياجات المائية المستقبلية لدول المنطقة في ارتفاع مستمر مما يطرح عليها رهانا كبيرا خصوصا لكون اقتصادياتها ترتكز أساسا على الفلاحة.
تنتمي بلدان المغرب العربي جغرافيا إلى منطقة مناخية شبه جافة تجعل موارد المياه، السطحية منها والجوفية، محدودة ، بسبب ضعف التساقطات المطرية وعدم انتظامها من سنة لأخرى، في الوقت الذي تشكل الثروة المائية مادة حيوية واستراتيجية في أمن الدول والشعوب بمفهومه الشامل.
وتشمل هذه المنطقة (المغرب العربي): ليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا والمغرب، و تواجه هذه المجموعة فجوة في الموارد المائية والغذائية، بالنظر إلى أن جل مواردها المائية تقليدية أساسا وغالبيتها سطحية، فتشكو هذه البلدان من تدني الوفرة المائية ومعدل الاستهلاك الفردي من الماء، فعلى حين يصل متوسط استهلاك الفرد من المياه العذبة الصالحة للشرب في البلدان الصناعية إلى نحو 1200 متر مكعب في السنة ، لا تتجاوز نسبة الفرد في البلدان المغاربية 545 مترا مكعبا في السنة، مما يبرز الفجوة الكبيرة في معدلات التنمية.
وذكر تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة حول حالة سكان العالم لسنة 2001 وزع أثناء انعقاد مؤتمر كيوتو حول المناخ في مدينة مراكش المغربية شهر نوفمبر الماضي، أن 300 مليون شخصا سيعانون من نقص في مياه الشرب في السنوات القليلة المقبلة، وأن منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي ستكون من الدول التي ستواجه شعوبها أزمة في تدبير الثروات المائية، وأكد التقرير المذكور ايضاً أن معدل التساقطات المطرية في هذه البلدان لا يتجاوز ألف متر مكعب سنويا.
وحدد التقرير البلدان التي تعاني أزمة في المياه في تلك التي يتوافر لديها 1700 متر مكعب من المياه لكل شخص في السنة، أما البلدان التي تعاني شحا في المياه فلديها أقل من ألف متر مكعب، وخلص التقرير إلى أن هذ الوضع سيكون له تأثير على التنمية الاقتصادية في المستقبل، وقد تنشأ عنه "صعوبات بيئية شديدة".
وأشار بلاغ صدر مؤخرا عن الاجتماع الوزاري للبلدان الإفريقية الإثنى وعشرين الذي انعقد بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي للأمم المتحدة حول الماء في بون(المانيا)، أن 17 بلدا إفريقيا سيعاني من انخفاض حاد في المياه في أفق سنة 2010، أي أن الفرد فيها لن يتجاوز معدل استهلاكه من الماء أكثر من ألف متر مكعب سنويا. وذكر التقرير أن بلدان المغرب العربي وشمال إفريقيا ، إضافة إلى مصر وإثيوبيا وإفريقيا الجنوبية، ستكون من بين هذه الدول المرشحة لأن تشهد أزمة في المعطيات المائية، بسبب التغيرات المناخية وانخفاض المتوسط العام لموارد المياه، وتزداد تأثيرات هذه الندرة في المخزون المائي للبلدان المذكورة مع تزايد عدد السكان وارتفاع الحاجيات من الموارد الثابتة.
وللخروج من هذه الأزمة، تطرح هذه البلدان، ومن بينها المغرب، بدائل تمكنها من تجاوز خطر نقص المياه في السنوات القادمة، وذلك ببناء المزيد من السدود لخزن المياه واستعمال الطاقة النووية لتحلية مياه البحر، إلا أن مثل هذه البدائل تتطلب تمويلات سخية وتوفير الإمكانيات الضرورية لذلك. ورغم ذلك تبقى هذه البدائل الخيار الوحيد والممكن أمام هذه الدول لتجاوز الفجوة الغذائية وهشاشة التنمية الاقتصادية - الاجتماعية فيها. وقد كان اجتماع لوزراء الفلاحة لبلدان المغرب العربي، والذي انعقد في دورته العاشرة بالرباط في شهر فبراير الماضي، قد نبه إلى ضرورة تأمين الأمن الغذائي لدول المنطقة، وأكد على مسألة إيجاد استراتيجية مشتركة ومتكاملة لهذا الغرض، وخلق الآليات التي تمكن من تحقيق هذا الهدف.
ومن المؤكد أن جمود مؤسسات اتحاد المغرب العربي وضعف التنسيق بين دوله ستحول دون تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية في القريب، لتظل قضايا التنمية والأمن المائي والغذائي رهينة بتوفير المناخ السياسي.
============
الخدمات المصرفية وموقف الشريعة الإسلامية منها
د. علاء الدين زعتري 4/8/1423
10/10/2002
اسم الكتاب: الخدمات المصرفية وموقف الشريعة الإسلامية منها
المؤلف: د. علاء الدين زعتري
الناشر : دار الكتب والقلم / دمشق - بيروت
التعريف بالكتاب:
اشتمل البحث على مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة وفهارس.
أما المقدمة فقد ذكر فيها الباحث سبب اختيار البحث ، وأهميته ، والجديد فيه ، ونقد المصادر والمراجع.
وأما التمهيد ، فكان بمثابة باب تمهيدي تفرع إلى أربعة فروع ضمن أربعة مطالب .
فكان المطلب الأول لشرح وبيان مفهوم كلمات عنوان البحث : الخدمات المصرفية وموقف الشريعة الإسلامية منها ، مفردة ، ثم تركيباً مزدوجاً ، ثم تركيباً كلياً .
وكان المطلب الثاني في التعرُّف على غاية إنشاء المصارف ، وأهداف أعمالها ، وتنوع نشاطاتها .
وخصص المطلب الثالث للحديث عن نشأة المصارف ، وتاريخ تطورها ، في توسع أعمالها وجذب عملائها ، مع الحديث عن المصارف الإسلامية ، وأهمية وجودها وضرورة توسيع قاعدتها ؛ لتصل خدماتها لكل مسلم.
وأما الباب الأول ، فكان للحديث عن إدارة المصرف للأموال وتوزيعها وحفظها ،ضمن خمسة فصول:
الفصل الأول : خدمة أمناء الاستثمار ، ضمن مبحثين :
كان المبحث الأول منه عن قيام المصرف بأداء خدمة أمناء الاستثمار ؛ من حيث التعريف بها ، ونشأتها ، مع بيان مشروعية استثمار الأموال ، وحكمة مشروعية الإنماء والاستثمار ، وكذا من حيث بيان العلاقة بين المصرف وطالب الاستثمار ، وبيّن قائدة هذه الخدمة ، وشروطها ، وأهميتها ، ومناسبتها للمسلمين .
وفي المبحث الثاني ، كان الحديث عن الصيغ الاستثمارية التي تطرحها الإدارة المختصة بخدمة أمناء الاستثمار في المصرف ، وهذه الصيغ ، هي :(5/84)
- المراجعة ، فعرّفها ، وذكر دليل مشروعيتها ، وضرورة هذا العقد وأهميته ، ومجالاته ، وبيّن حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء ، وكذا حكم المرابحة للواعد بالشراء ، وذكر أقوال الفقهاء في مسائل إلزامية الوعد ، وتعرَّض لحكم بيع المرابحة بالتقسيط ، وحكم العربون في المرابحة ، وختم المطلب ببيان الخطوات المتَّبعة في المصرف الإسلامي لبيع المرابحة .
- تسويق العقارات ، حيث يقوم المصرف نيابة عن عملائه في تسويق عقاراتهم ؛ باستخدام أحد العقود الآتية : البيع القطعي ، أو الإيجار ، أو البيع الإيجاري ، أو حق الانتفاع ، وفي الحديث عن البيع الإيجاري ذكر حكم اشتراط عقد في عقد ، أو اجتماع عقدين في عقد ، كما ذكر حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقود المعاوضات المالية .
- الوكالة الاستثمارية ، حيث ذكر تعريف الوكالة ، وأركانها ، وأحكام الوكالة الاستثمارية ، مع بيان بعض التصرفات المحظورة على المصرف في الوكالة الاستثمارية .
وكان الفصل الثاني : من الباب الأول بعنوان : إدارة الممتلكات والوصايا والتركات ، ضمن مباحث أربعة :
المبحث الأول : كان عن دراسات الجدوى الاقتصادية ، أو ما يسمى بالمساعدة الفنية التي يقدِّمها المصرف لعملائه ؛ تحدَّث عن ذلك من حيث : الدراسات التسويقية ، والدراسات البيئية ، والدراسات الاقتصادية والدراسات الفنية ( الهندسية ) والدراسات الإدارية ، وتحدَّث عن أهداف تقييم فرص الاستثمار ، ومعايير دراسة الجدوى الاقتصادية ، فهناك معايير تقليدية قام الباحث بوصفها ونقدها ، وبيَّن المنهج الإسلامي في قياس الربحية ( التكلفة والعائد) .
وكان المبحث الثاني للحديث عن الشركات والمشروعات التي يقوم المصرف بتأسيسها وإدارتها ، أو بتأسيسها فقط ؛ نيابة عن عملائه.
وكان المبحث الثالث عن تصفية التركات وإعطاء كل صاحب حقٍ حقه مما يستحق من التركة ، وكذا الشأن في تنفيذ الوصايا المشروعة .
وتحدث في المبحث الرابع عن قيام المصرف بسداد الالتزامات الدورية وغير الدورية المترتبة على عملائه ، وليس لديهم الوقت الكافي للقيام بهذه الأعمال مما يجعلهم يوكِّلون المصرف بذلك .
وأما الفصل الثالث من الباب الأول ، فقد خصَّصه للحديث عن خدمة إسلامية تتميز بها المصارف الإسلامية ، وني خدمة جمع أموال الزكاة من الأغنياء ، وتوزيعها على مستحقيها من الأصناف الثمانية المذكورة بنص القرآن .
وخلال حديثه عن مصارف الزكاة ذكر المفاهيم والأسس التي تنهض بحال المسلمين ، وتُكسب الزكاة روحها ، وتجعل المجتمع الإسلامي قوياً متماسكاً ، وأكَّد على المسؤولية العامة عن جمع أموال الزكاة وتوزيعها ، كما بيَّن حكم استثمار أموال الزكاة لصالح المصرف أو لصالح المستحقين ، وعرض إجراءاتٍ خاصةً بضبط جمع أموال الزكاة وحسن توزيعها.
وأما الفصل الرابع من الباب الأول فكان للحديث عن خدمة القروض الحسنة ، وبديل القروض الاستهلاكية الربوية ، فذكر تعريف القرض ، ومشروعيته ، وحكمه وأركان عقده ، وشروطه ، وأهمية توثيق القرض ، ثم تحدث عن تاريخ هذه الخدمة المصارف الإسلامية ، وعن تمويل صناديق القروض الحسنة ، وختم الفصل بالحديث عن تقييم القروض الحسن كوسيلة تمويل اقتصادية .
وخصَّص الفصل الخامس للحديث عن خدمة صناديق الأمانات ؛ بديل الودائع الجارية ، والتي لا يَقصد منها مودعها سوى الحفظ ، دون الاستثمار ، فوصف العملية وذكر فائدة هذه الخدمة إنْ للزبون أو للمصرف ، مع بيان التكييف الشرعي لعقد الانتفاع من الخزائن الحديدية لدى المصارف.
وجعل الحديث في الباب الثاني عن عمليات التجارة الخارجية ، ووسائل التبادل الحديثة ، ضمن خمسة فصول :
خصَّص الفصل الأول لخطابات الضمان ، حيث عرض مفهوم خطاب الضمان ، وأهميته ، ومجالات استخدامه ، والعناصر المكوَّنة له ، والالتزامات المترتبة على عقد الاعتماد بالضمان ، مع بيان التكييف الشرعي لخطاب الضمان ، وبيَّن موقف المصارف الربوية من خطابات الضمان ، وكذا موقف المصارف الإسلامية من خطابات الضمان ، وختم الفصل ببيان حكم استثمار غطاء خطاب الضمان.
وكان الفصل الثاني مخصصاً للحديث عن الاعتماد المستندية ، حيث بيَّن مفهوم الاعتماد المستندي ، ووصف العملية ، والإجراءات المتخذة لفتح الاعتماد المستندي ، مع بيان أهمية هذه الخدمة وفوائدها ، مع عرض الالتزامات المترتبة على إنشاء الاعتماد المستندي لجميع الأطراف ، مع بيان التكييف الشرعي للمسألة ، وأَثَار قضية الاعتمادات المستندية النظيفة وموقف المصارف الإسلامية منها ، وكيف يمكن لهذه المصارف أنْ تعامل مع المصارف الربوية.
وأما الفصل الثالث فخصَّصه للحديث عن الأوراق التجارية ؛ الكمبيالة ، والسند ، والشيك ، حيث بيَّن خصائص هذه الأوراق ، وخصائصها ،وأنواعها ، وبيَّن الأعمال الواقعة عليها ؛ من حيث :
-إصدارها ، ومشروعيته .
-تسلًُّمها وتحصيل قيمتها من مدينها ، وموقف الشريعة من عِوَضِ التحصيل ، وبخاصة عوا ئد التأخير .
-خصم الأوراق التجارية ، وعلاقة الخصم بمسألة ( ضع وتعجَّل) ، مع بيان البديل المقترح لعملية الأوراق التجارية في المصارف الإسلامية ، بعيداً عن الربا.
وأما الفصل الرابع فكان للحديث عن الأوراق المالية والعمليات عليها ، وقد بيَّن مفهوم الأوراق المالية ؛ الأسهم ، والسندات ، وذكر خصائصها ، وأنواعها ، وبيَّن حكم التعامل بها ، وموقف الشريعة من سوق الأوراق المالية ( المصافق) ، وعرَّف الأدوات التمويلة الإسلامية ، كما ذكر العمليات الواردة على الأوراق المالية :
-من الاكتتاب عليها ، مع بيان الضوابط الشرعية لعملية الاكتتاب.
- حفظ الأوراق المالية وإيداعها ، والتكييف الشرعي لعقد إيداع الصكوك .
- بيع وشراء الأوراق المالية ، سواء لصالح المصرف أو لصالح عميل المصرف ، مع بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة.
- إجارة الأوراق المالية.
- اقتراض الأوراق المالية.
- رهن الأوراق المالية .
- تحصيل عوائد الأوراق المالية من المصدرين لها ، ودفع عوائدها لمالكيها.
وختم الباب الثاني بالفصل الخامس عن بطاقات الائتمان ، فعرَّفها ، وذكر نشأتها وتطورها ، وأنواعها ، وبيَّن محاسنها ومساوئها ، مع بيان التكييف الشرعي لها ، وختم الحديث بذكر البديل الإسلامي لبطاقات الائتمان.
ثم كانت خاتمة البحث ، التي ذكر فيها أهم المسائل والقضايا المدروسة في البحث ، مع ذكر النتائج التي توصل إليها ، والتوصيات التي رأى أنها تخدم مصالح الأمة الإسلامية عامة ؛ في إطار المؤسسات المالية والمصارف الإسلامية
=============
ركب المنهزمين
محمد جلال القصاص
في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي نزل نابليون مصر بنسائه العاريات ، وبنادقه ومدافعه ، ونقب عن الفراعنة ثم ارتحل وقد تعلقت به النفوس المريضة تريد التقليد .
رحلَ ورحلَتْ في إثره العمائم ثم عادت تثني على ديار الكفر تريد محاكاتها ، فكان تيار المتفرنجين - إن صح التعبير -
ونهض المشايخ (الأئمة ) - بحسن نية[1] - يريدون الذّود عن الدين .. نهضوا بروح منهزمة منبهرة بعدوها ، فالتفتوا إلى عدوهم ينظرون حاله .. ثم التفوا حول النصوص يريدون حملها ليسيروا بها على هوى الغرب تارة و الشرق تارة أخرى .
فزعم الأسد أ بادي ( جمال الدين الإيراني ) أن الاشتراكية من الإسلام .وهو كاذب . وان أول اشتراكيي عرفه التاريخ كان من الصحابة رضوان الله عليهم !! ، وقال بوحدة الأديان وتكاملها !! ،وراح يستجدي النصرة من أمريكا ، وما نصرته أمريكا .(5/85)
وعلى دربه صار تلميذه محمد عبده فصاحبَ الإنجليز حتى تخذه ( كرومر ) صديقاً !! وأحل الربا في شكل صناديق التوفير ، وأباح التشبه بالكفار في الفتوى الترنسفالية ،وشارك مع المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر في إنشاء معهد للإعداد ( الدعاة المتحررين ) ، فكان جسرا عبر عليه العدو إلى حلالنا وحرامنا ، فحلل الحرام وحرم الحلال تحت دعوى ( الإصلاح ) ، وخطط لإنشاء جامعة علمانية كانت فيما بعد جامعة القاهرة ، وكان ظهيراً لقاسم أمين ، بل زعم البعض أن جُلَّ كتاب ( تحرير المرأة ) خُط بيدي الشيخ .[2]
لا أحد يستطيع أن يشكك في نوايا محمد عبده ، فقد كان حقيقة يريد ( الإصلاح ) ، ولكن غلبه الجهل والانبهار بالغرب ، وصار تحت ردود الأفعال فأوجد انحرافا وأحدث خرقا .[3]
ثم في خطوة أخرى جاء بعض المنهزمين .. المنبهرين وعمد إلى كتاب الله يفسره بما يتفق مع العلم الحديث ، فزعم أن الطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل هي الطاعون ، وأن آية الدم التي أرسلت على فرعون وقومه هي البلهارسيا !!
ثم نبت في ربوعنا الدّغل ( الاشتراكية أعني ) يتاجر بالقضية الاجتماعية وفقر الجماهير وتقبلته الجماهير فانتفش وعَلَى الزرع .
وبعد حين جاءته رياح القومية الخبيثة ذات الأصل النصراني الكافر تلقحه وتنميه على بُغض الإسلام ، فأصبحت الأنظمة الجديدة لا تريد الإسلام لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في أي شيء وأضحى واضحا ( أننا نحن الاسلاميين0 أشد الناس عداوة عند العلمانيين من اليهود والذين أشركوا ) ، وبات القوم وقد انسلخت من قلوبهم الغيرة على المقدسات والأعراض حتى تسائل الأحبة بكل مرارة ( لماذا .. ولماذا .. ولماذا .. ثم لماذا يصر المنافقون على الصدام مع مطلب الإسلاميين ثقافياً وسياسيا وإعلامياً وبوليسياً وعسكرياً بل ووعظياً رسمياً ) ؟؟[4]
وليس ذاك إلا لأنهم كرهوا ما أنزل الله ).
وتحت وطئة هذه الهجمة اليسارية الشرسة عاد المنهزمون ثانية ليكتبوا عن ( اشتراكية الإسلام)
واليوم أو بالأحرى في الآونة الأخيرة انضم إلى الصحوة - دون إذن أو استشارة - فريق ينزع إلى الاجتهاد العقلاني في فهم النصوص والواقع ، كثير منهم منحدر من تجارب عقدية ومنهجية مغايرة للمنهج الإسلامي وعقيدته ، من ماركسيين وقوميين وبعثيين وليبراليين لا دينيين .
وهذا الفريق لديه جرأة عجيبة على تجاوز النص الشرعي أو تأويله إذا لم يوافق تأملهم العقلي ، ولديهم حالة من الاستعلاء على الأبناء الشرعيين للدعوة الإسلامية ممن لا يوافقونهم في نزعتهم ، ولهذا الفريق جولات على الساحة الفكرية منها جولته للطعن في رموز الأمة مثل الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله [5]،
وهم من تكلموا في أحكام الديار وطالبوا بإلغائها [6]،وهم من أثاروا الخلاف حول حجية السنة النبوية المطهرة .وفيهم من تكلم بأن الحجاب عادة جاهلية تخص بدو الجزيرة قبل أربعة عشر قرنا ، وجلهم انشغلوا ( بتحسين ) صورة الإسلام عن الغرب ، وتطويع الإسلام ليصبح عصريا .
وأخطر ما في أمر هذا التيار - كما يقول الأستاذ جمال سلطان - أنهم اقتربوا من بعض " المشايخ " إنسانيا وفكرياً ، وأثروا فيهم تأثيرا كبيرا ، وخاصة عندما دخلوا إليهم من باب نظر الغرب إلى الإسلام ، وتحسين صورة الإسلام أمام الإنسان الغربي الجديد ، وما تصوروه تيسيرا على الناس في الأحكام ونحوها .
وانتهى الأمر- عند هؤلاء - إلى مسخ الشريعة باسم التجديد ، وتيسر أسباب الفساد باسم فقه التيسير، وفتح أبواب الرذيلة باسم الاجتهاد، وتهوين السنن باسم فقه الأولويات ، وموالاة الكفار تحت دعوى تحسين صورة الإسلام .
ومن هؤلاء ـ المنهزمين ـ من ادعى أن ما نأخذه نحن على الشيعة من سبّهم الصحابة الكرام ، وتحريفهم القرآن ، وقولهم بعصمة الأئمة ، وحجهم للمشاهد وغيرها (خلافات على هامش العقيدة)!!
واليوم برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم وقالوا بأن للمسلمة أن تتزوج النصراني ، ولا شيء عليها ، وشهادتها كشهادة الرجل ، ولا اعتراض إلا من كل متزمت لا يفهم الدين ... حقودٍ يكره النساء !!
ويا أذيال المنهزمين : حتى تتبعوا ملتهم !
لم يرض القوم بمحمد عبده ولا بمن خلعوا ( العَّمة ) ولبسوا الطربوش ، إنها نفوس مريضة تحمل أحقادا دفينة . وربكم أعلم بهم منكم (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة : 120 )
------------------------
[1] هكذا أحسبهم
[2] قال ذلك نصاً الشيخ محمد اسماعيل المقدم حفظه الله في محاضرة له بعنوان المؤامرة على المرأة المسلمة ، وعلل ذلك بأن الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم امين بها . وصرح بذلك الهالك أحمد لطفي السيد في مذكراته .
[3] انظر إن شئت مقدمة مقومات التصوير الإسلامي للأستاذ سيد قطب، وانظر للكاتب مقال ( محمد عبده نموذجا . من زرعه ومن جصده ؟منشور بموقع القلم .
[4] هو تساءل الدكتور عبد العزيز كامل ـ حفظه الله ـ في إحدى مقالاته بمجلة البيان .
[5] ( انظر كتاب تجديد الفكر الإسلامي لمحمد عمارة وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في مجلة العربي الكويتية )
[6] ( المسلمون وآخرون أشواك وعقد على الطريق) لفهمي هويدي )
============
التورق ... والتورق المنظم
(دراسة تأصيلية)
د. سامي بن إبراهيم السويلم 5/11/1426
07/12/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد احتل التورق حيزاً كبيراً في التعاملات المالية المعاصرة التي تهدف إلى الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية. وقد كان التورق في الماضي تصرفاً فردياً يقتصر على الشخص المحتاج إلى النقد. أما اليوم فقد تحول إلى عمل مؤسسي يرتبط فيه الأطراف المعنيون بعلاقات منظمة ومخطط لها لتحقيق هدف محدد وهو الحصول على النقد الحاضر مقابل نقد في الذمة أكثر منه. ويتوسط ذلك سلع أو أصول غير مقصودة لأي من الأطراف المعنية، ولا تحقق أي قيمة مضافة للنشاط الاقتصادي. وقد أثار هذا التطور الكثير من الشك حول مصداقية التمويل الإسلامي، وهل يختلف فعلاً عن التمويل الربوي، أم أنه مجرد ترتيبات شكلية لا تنطوي على مبادئ وأسس تمثل حقيقة الاقتصاد الإسلامي.
ولهذا السبب عقدت عدة ملتقيات ومؤتمرات لدراسة هذه القضية، وكان من أبرزها اجتماع مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة في 1424هـ لدراسة هذه القضية والخروج بموقف واضح منها. وكانت النتيجة التي صدر بها قرار المجمع هي منع التورق المصرفي لأنه يأخذ حكم العينة الثنائية المحرمة شرعاً.
وهذا البحث كان أحد الأبحاث المقدمة لهذا الاجتماع، سوى بعض التصحيحات والتعديلات الطفيفة التي أجريت بعد انعقاد المجمع. وقد سعى البحث لهذا الغرض إلى دراسة التورق من جذوره دراسة تأصيلية مقارنة، تتضمن تحرير محل الخلاف، وتحديد الأقوال فيها من خلال مصادرها المباشرة، ثم تتبع الأدلة لكل قول، وما يرد عليه من المناقشة والاعتراض، والجواب عنها، وذلك بموضوعية وإنصاف قدر الإمكان. ثم بعد ذلك الترجيح في ضوء أدلة الكتاب والسنة، وفي ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها، وفي ضوء أقوال السلف والأئمة المهديين والعلماء الربانيين.(5/86)
كما حرص البحث على ربط الأحكام الشرعية بمعانيها وغاياتها، وربط المفاهيم الفقهية بالمعاني الاقتصادية، وذلك للتمييز بين حقيقة البيع المشروع وبين حقيقة الربا، وتوظيف ذلك في تقييم الحيل الربوية عموماً، وليس التورق فحسب. فنحن بحاجة إلى منهجية مطردة وأصول كلية تضبط التعاملات المالية لنتوصل من خلالها إلى مواقف أقرب إن شاء الله إلى الصواب وإلى الحق الذي ينشده الجميع.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
=============
عقد الكالئ بالكالئ: تدليلاً وتعليلاً
د. سامي بن إبراهيم السويلم 27/1/1426
08/03/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يمثل النهي عن الكالئ بالكالئ أحد المعالم البارزة من معالم قواعد التبادل في الاقتصاد الإسلامي. وذلك أن المبادلات المالية إما أن تكون حاضرة البدلين، أو مؤجلة أحد البدلين، أو مؤجلة كلا البدلين. والقسمان الأولان جائزان باتفاق الفقهاء، بينما القسم الثالث، وهو الكالئ بالكالئ، ممنوع بالاتفاق. وهذا يعني أن الكالئ بالكالئ يمثل نظريًا ثلث المبادلات المالية. واتفاق العلماء على منعه، خلفًا عن سلف، مع كثرة الفروع والصور التي تنبني على هذه المعاملة، يتطلب دراسة عميقة من أجل فهم قواعد التشريع في هذا الجانب الجوهري من جوانب النشاط الإنساني. وبالرغم من ذلك فإن الدراسات التي عنيت بهذا الحكم، تدليلاً وتعليلاً، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الدراسات المعاصرة ركزت عنايتها على دراسة الربا وجوانبه الفقهية والاقتصادية. ومع التقدم الملموس في هذا الجانب، إلا أن فهم الأصول الاقتصادية والفقهية للمبادلات الممنوعة، بما فيها الربا، يتطلب دراسة مقارنة بين العقود الممنوعة، خاصة تلك التي اتضحت معالمها، وانعقد الإجماع على حكمها، بحيث يسهل على الباحث الانطلاق من أرضية ثابتة وواضحة لتحليل الموضوع.
إن كمال الشريعة الإسلامية يستلزم خلوها من التناقض، وهذا يعني أن هناك أصولاً مشتركة تحكم المبادلات المالية، وتحدد معالم النظام الإسلامي للتبادل. ولذلك فإن الاتجاه الذي بدأ يظهر نحو إباحة عقد الكالئ مطلقًا، مع كونه يمثل مخالفة صريحة للإجماع والنصوص القاضية بتحريم هذا العقد، فإنه، كما سيتضح من البحث، يمثل تناقضًا ظاهرًا بين موقف هؤلاء الكتاب من تحريم الربا وفي نفس الوقت إباحة الكالئ، وهذا التناقض يمثل أحد جوانب الخلل في معالجة أصول المعارضات الممنوعة وفي فهم نظرية الإسلام في التبادل.
ومما يلفت النظر في هذه القضية أن الفقهاء عبر القرون لم يعترضوا على منع عقد الكالئ بالرغم من النقد الموجه لبعض أدلة تحريمه. حتى جاء هذا العصر، وبدأت بعض الآراء تستشكل هذا المنع، وتدعو إلى إباحته جملة وتفصيلاً.
والحقيقة أن نشوء هذه الآراء في هذا العصر ليس غريبًا إذا أخذنا في الاعتبار أن القيم الرأسمالية استطاعت أن تبسط هيمنتها على الحياة الاقتصادية اليوم، وازدهرت من ثم تجارة الديون، وتعددت أنواع المداينات، وفرضت نفسها في واقع الحياة العملية، حتى أضحت محورًا رئيسًا من محاور النشاط الاقتصادي اليوم أكثر من أي وقت مضى. في هذه الأجواء وجد كثير من الباحثين أن منع الكالئ بالكالئ يصادم واقعًا ملموسًا، ويقف سدًا أمام كثير من التعاملات التي استجدت في هذا العصر. ولما كانت هذه المستجدات مبنية على مسلّمات وأسس منافية للأسس الإسلامية للاقتصاد، لم يكن مستغربًا أن تظهر الدعوة لإباحة هذا النوع من التعامل والتشكيك أو الإعراض عما أطبقت عليه الأمة أكثر من ألف عام.
لهذه الأسباب جميعًا، تبدو الحاجة ماسة لدراسة عقد الكالئ دراسة تحليلية مقارنة، تستوعب أولاً الأدلة الشرعية على منعه، ثم تتلمس ثانيًا الأصول والأسس التي يمكن أن يستند إليها هذا المنع، ومقارنة ذلك بالعقود الممنوعة الأخرى، خاصة الربا. وهذه الدراسة تعتبر خطوة في هذا المضمار.
منهج البحث:
وقد انطلق البحث من المبدأ القاضي بأن أي نظرية في الاقتصاد الإسلامي يجب أن تحقق شرطين أساسيين:
الأول: ألا تخالف الأحكام الشرعية الثابتة بالنص أو الإجماع.
الثاني: أن تكون سالمة في ذاتها من التناقض.
ولذلك اشتمل البحث على قسمين: الأول يتتبع الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع المتعلقة بحكم بيع الكالئ، والخروج بتصور واضح لموقف الشريعة من هذا العقد بحيث يكون هذا الموقف هو الأساس الذي ينطلق منه التحليل.
والقسم الثاني خاص بدراسة أوجه التعليل، الفقهي والاقتصادي، لموقف الشريعة المطهرة من هذا النوع من التبادل. ولذلك اعتمد البحث منهج المقارنة بين عقد الكالئ والبيوع الممنوعة الأخرى. وذلك لأن الافتراض الجوهري الذي سار عليه البحث هو أن البيوع الممنوعة ترجع إلى أصول مشتركة كلية تحكمها وتنظمها جميعًا. وهي فرضية اعتمدها عدد من الفقهاء على سبيل المثال الإمام أبو بكر ابن العربي(1) ، وبناء على ذلك فأي تعليل مقترح لمنع بيع الكالئ يجب أن يكون منسجمًا مع قواعد المبادلات إجمالاً، وألاّ يتخلف أثره إذا وجد في عقد آخر. بعبارة أخرى، فإن التعليل المطروح يجب أن يسلم من التناقض.
كما انطلق البحث من مسلمة أن "النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح" فما استقر عليه حكم الكالئ في الشرع المطهر، لابد أن يكون مصلحة راجحة. ولهذا الغرض تطلب البحث دراسة أوجه المصالح والمفاسد الاقتصادية التي يمكن أن يحققها، وذلك للوصول إلى تقويم متوازن للعقد.
ويخلص البحث إلى أن عقد الكالئ بالكالئ قد استقر الإجماع على منعه، وأن قواعد المبادلات وأصولها تأبى جوازه، كما أن المفاسد التي يمكن أن تترتب عليه تتجاوز المصالح المرجوة منه. والاحتياجات التي يمكن أن يلبيها العقد يمكن تحقيقها بصيغ أخرى مشروعة تتلافى ما فيه من السلبيات.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1) في أحكام القرآن 1/244، والقبس في شرح موطأ مالك بن أنس 2/787.
=============
تقويم نظام "هبة الجزيرة"
د. سامي بن إبراهيم السويلم 27/9/1425
10/11/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن تقويم نظام شركة "هبة الجزيرة" يتلخص في مقامين:
الأول: حقيقة النظام والهدف المقصود منه.
الثاني: حكمه وفقاً للقواعد الشرعية.
المقام الأول: حقيقة النظام والمقصود منه
بناء على الشرح المقدم في موقع الشركة، فإن العميل يشتري قرصاً ممغنطاً بخمسمائة ريال، ثم بعد فترة يمنح حافزاً قدره 700 ريال عن كل قرص اشتراه بحسب "قوة السوق"، ثم بعد فترة أيضاً وبحسب "قوة السوق"، يمنح المتسوق مبلغ 15000 ريال، وذلك "هبة من الشركة" على حد تعبير الموقع.
فالعميل إذن يدفع 500 ريال مقابل القرص من جهة، والحوافز والهبات التي تشكل في مجموعها 15700 ريال. ولا نحتاج لكبير عناء لنعرف ما هو مقصود العميل من الشراء. فالقرص قيمته 500 ريال، أما "الهبة" فتبلغ 15000. وكل عاقل يبحث عن مصلحته يدرك أن هذه "الهبة" أكثر قيمة وأجدى اقتصادياً من القرص. فالمقصود الأهم والأعظم من الشراء هو الهبة. أما القُرص فإما أن يكون غير مقصود أصلاً، أو على أحسن الأحوال مقصوداً بحسب قيمته. فإذا كانت قيمة القُرص 500 والهبة 15000، فسيكون القُرص مقصوداً بنسبة 3%، وهي نسبة 500/15500، أما الهبة فستكون مقصودة بنسبة 97%.(5/87)
أما من الناحية الاقتصادية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: من أين تأتي هذه "الهبة" التي تعادل أكثر من 32 ضعف الثمن المدفوع؟
إن الموقع نفسه يصرح بأن منح الهبة يعتمد على "قوة السوق"، كما ينص على أنه يتم توزيعها بين المتسوقين أو العملاء "بالاعتماد على مبدأ الأول ثم الذي يليه". وواضح أن هذه الهبات الكبيرة إذن تعتمد على تسلسل العملاء في الشراء، فالهبة تذهب لمن اشترى أولاً، ثم الذين اشتروا بعدهم وهكذا.
والموقع يشير إلى أن منح الهبة مرتبط بقوة السوق، والمقصود بذلك هو مستوى الإقبال على شراء المنتج من الشركة. فكلما ارتفع الإقبال وازداد عدد المتسوقين، كلما كانت فرصة الحصول على "الهبة" أكبر.
والموقع يذكر أن مصدر هذه الهبات هو الأرباح التي تحصل عليها الشركة بعد استقطاع نصيبها البالغ 10%. وبناء على ما جاء في الموقع، فإن سعر القُرص يجب ألا يقل عن 300 ولا يزيد عن 1000 ريال. وهذا يعني أن التكلفة لا تتجاوز 300 ريال بحال من الأحوال. فإذا افترضنا تنزلاً أن التكلفة في حدود 150-200 ريال، فهذا يعني أن الربح يبلغ 300-350 ريال للقرص الواحد.
ويمكننا من باب التبسيط أن نفترض أن صافي الربح بعد استقطاع نصيب الشركة يبلغ 300 ريال للقرص. فكم يجب أن يكون عدد الأقراص المباعة لتمنح الشركة هبة 15000 ريال للمتسوق الأول؟ الجواب بحسب الافتراض السابق: 15000/300 = 50 قرصاً. أي أنه يجب أن يوجد 50 متسوقاً بعد المتسوق الأول، إذا كان كل متسوق يشتري قرصاً واحداً. ولكي يمنح المتسوق الثاني 15000 ريال فيجب أن يوجد بعده 50 متسوقاً أيضاً، وهكذا. وكل واحد من هؤلاء يحتاج 50 متسوقاً بعده ليحصل على هذه "الهبة."
أي أن المتسوق الأول يحصل على هبات مالية من خلال ما يدفعه من يأتي بعده، ومن بعده ممن بعده، وهكذا. وكل منهم لا بد أن يوجد بعده عدد أكبر من المشتركين ليمكن تحقيق مبلغ "الهبة"، فتكون النتيجة النهائية هرماً من المتسوقين، كل طبقة فيه أكبر من التي تليها. وينمو هذا الهرم بحسب "قوة السوق" وبحسب مستوى الانضمام للهرم.
وهذا هو بعينه نظام التسلسل الهرمي الذي تقوم عليه شركات التسويق الشبكي، والذي تزعم الشركة أنه لا علاقة لها به إطلاقاً. إن النظام الهرمي في جوهره لا يختلف بين هذه الشركات، بما فيها شركة هبة الجزيرة، لكن قد تختلف هذه الشركات فيما بينها في الإجراءات والتنظيمات التفصيلية. لكن المبدأ والجوهر واحد: كل عضو يدفع لكي يحصل على مبلغ ممن يليه، وكل طبقة من المشتركين يجب أن تليها طبقة أكبر منها ليمكن جمع العمولات أو "الهبات" الموعودة.
وكما سبق بيانه في مناسبات عديدة، فإن الهرم لا يمكن أن يستمر في النمو إلى ما لا نهاية. فإذا توقف كانت الطبقات الأخيرة قد دفعت الثمن دون أن تحصل على "الهبة" التي كانوا يحلمون بها. فهي في حقيقة الأمر خاسرة لأنها لم تحقق الغرض الذي دفعت الثمن لأجله. وحتى في أثناء نمو الهرم، فإن كل طبقة لا يتحقق مقصودها إلا إذا جاءت بعدها طبقة أو أكثر لتحصل على العمولات أو الهبات الموعودة. فالطبقات الأخيرة دائماً خاسرة إلا إذا وجد بعدها من يدفع ويتحمل الخسارة إلى أن يأتي بعدها من يتحملها بدوره، وهكذا.
فالقول بأن نظام هبة الجزيرة لا علاقة له بالتسلسل الهرمي قول ينافي الواقع ويناقض المعطيات المصرح بها في موقع الشركة. وليس هذا غريباً عن هذه الشركات التي تجتهد بكل وسيلة لإخفاء الحقيقة عن أعين الناس، ولو كانت كالشمس في رابعة النهار.
المقام الثاني: حكم هذا النظام وفق القواعد الشرعية
إن الحكم على هذا النظام يتناول جانبين: جانب العقد بين المتسوق والشركة، وجانب مجموع المتسوقين وكيفية عمل النظام بمجموعه.
أولاً: العقد بين المتسوق وبين الشركة
إن الشركة تصرح في أنظمتها أن المتسوق يدفع 500 ريال ليحصل على القُرص بالإضافة إلى حافز قدره 700 ريال وهبة قدرها 15000. وكل من الحافز والهبة غير مضمون، بل هو بحسب ما أسموه قوة السوق. أي أن الحوافز والهبات غير متيقنة ولا مضمونة، بل هي احتمالية. وإذا قصرنا النظر على الهبة فتكون النتيجة أن المتسوق يدفع 500 مقابل قُرص بالإضافة إلى 15000 احتمالية الحصول.
وسبق في المقام الأول أن مقصود المتسوق الأهم والأكبر هو الهبة وليس القُرص، وأن هذا هو شأن العقلاء الذين يبحثون عن مصالحهم. فالمقصود إذن هو مبادلة 500 ريال بـ 15000 ريال قد تحصل وقد لا تحصل، وهذا هو القمار والميسر المحرم شرعاً. وفوق ذلك فإنه مبادلة لنقد بنقد مع التفاضل والتأخير ، فيدخل في الربا.
وأما وجود القُرص فهو إما أن يكون غير مقصود أصلاً، أو على أحسن الأحوال مقصوداً تبعاً، وإنما المقصود الأكبر والأعظم هو مبلغ الهبة. ومما يؤكد ذلك ما صرح به موقع الشركة أن من ثمرات النظام أنه "تم عقد قران أربعة من الشباب الذين استفادوا من هبات هذا النظام. وقد امتلك ثلاثة من المتسوقين منازل خاصة بعد أن كانوا في منازل مستأجرة ... " إلخ.
ولك أن تتخيل أخي القارئ كم حجم الهبات التي حصل عليها من تمكن من الزواج أو شراء بيت. إنها لا بد أن تبلغ عشرات الألوف بل المئات منها. أليس هذا أوضح دليل على أن المقصود من النظام هو الهبات وليس الأقراص؟ فالأقراص لا تزوج عزباً ولا تشتري بيتاً. فإذا كان هذا هو المقصود الحقيقي من النظام فما الداعي إذن لوجود الأقراص ابتداء؟ ولم لا يكون النظام اشتراكات نقدية مقابل "هبات" تحصل بحسب "قوة السوق"؟ الجواب واضح، فإن غياب القُرص يكشف حقيقة النظام وأنه مبادلة نقد بنقد، من جنس اليانصيب. فكم من فقير وأعزب ومستأجر استغنى وتزوج وامتلك بيتاً بسبب جوائز اليانصيب، فهل هذا كاف في الحكم بالجواز؟ وهل بهذا تصدر الأحكام الشرعية؟
فإذا كان المقصود الحقيقي والأغلب من المبادلة هو الهبة، كان الحكم مبنياً على ذلك، فتكون مبادلة نقد بنقد محتمل، مع التفاضل والتأخير، فيجتمع فيها الميسر والربا. وأما الاحتجاج بأن هذا من أسباب مكافحة الفقر، فتأتي مناقشته إن شاء الله عند مناقشة النظام بمجموعه.
ضابط الحيل
تتنوع صور التحايل على الربا والقمار، إلا أن من أبرزها أن يضم صاحب الحيلة سلعة غير مقصودة إلى أحد البدلين، ثم يزعم أن المقصود هو السلعة وليس البدل المحرم.
ولكن الفقهاء كانوا أكثر فطنة من أصحاب الحيل، ولهذا اتفقوا على منع مبادلة نقد بنقد أكثر منه، ومع النقد الأكثر سلعة. وهذ المسألة تسمى عندالفقهاء: مُدّ عَجوة. وذلك كمن يبادل 1000 ريال بسلعة ومعها 1500، فلا خلاف بينهم في منع هذه المبادلة، وذلك أن الزيادة في النقد المضموم للسلعة لا يقابلها شئ في الطرف الآخر. والبائع لا يقبل في الحقيقة هذا التبادل إذا كان النقد الأكثر حاضراً، لأنه زيادة بلا مقابل، فتكون خسارة محضة. وإنما يمكن أن يقبل ذلك إذا كان النقد الأكثر إما مؤجلاً في الذمة، فتكون المبادلة في الحقيقة قرضاً بزيادة وأدخلت السلعة تمويهاً وتحايلاً على الربا. أو يكون النقد الأكثر محتمل الحصول، فتكون تحايلاً على الميسر والقمار.
وهذا هو الحاصل بالضبط في نظام "هبة الجزيرة": فالمتسوق يدفع 500 مقابل القُرص ومعه 15000. ومعلوم أنه لا يمكن أن يقبل بذلك البائع إلا إذا كان مبلغ الـ 15000 احتمالياً قد يحصل ولا يحصل، فيكون وجود القُرص حيلة وتلبيساً لحقيقة المعاملة وهي الميسر والمقامرة.(5/88)
والفقه الإسلامي بحمد الله أعظم وأجلّ من أن تنطلي عليه هذه الحيل المذمومة، وإن كان قد يقع خلاف بين الفقهاء في بعض المعاملات هل هي من الحيل المذمومة أم لا. لكن فيما اتفقوا عليه وفي الأدلة الصحيحة ما يكشف وجه الحق في هذه المسائل، لأن الله تعالى عصم هذه الأمة من الاجتماع على ضلالة. وفي النهاية فإن الله عز وجل هو المطلع على قلب كل إنسان ومراده، فمن قصد الحق وبحث عنه وتجرد للدليل فسيتبين له الحق عاجلاً أو آجلاً، وهو في ذلك مأجور إن شاء الله. ومن أراد تتبع الرخص والتلفيق بين الآراء بما يرضي هواه لا بما يرضي مولاه، فسيجد عمله عند من لا تخفى عليه خافية.
الأسماء لا تغير الحقائق
وأما تسميتها بالهبة، فهو من تسمية الأشياء بغير اسمها الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة، في الصحيح وغيره. والأحكام الشرعية لا تتعلق بالأسماء إذا كانت تنافي الحقائق. فسواء سميت هبة أو هدية أو مكافأة أو منحة أو غير ذلك من الأسماء، فهذا لا يغير حقيقة أنها المقصود الأهم في المعاوضة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الهدية قد تكون رشوة وغلولاً، كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقة، فلما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا ؟" ثم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة" الحديث، متفق عليه، ورواه أحمد أبو داود.
فهذه التي أسماها الرجل هدية إنما هي سحت وغلول، فمجرد التسمية لا يغير من الحقيقة شيئاً، وإنما هي من التحايل المذموم على الشرع. ولذلك ذكر البخاري رحمه الله هذه القصة في كتاب الحيل. والتحايل لا يجعل الحرام حلالاً، بل يزيده تحريماً، لأنه يجمع بين حرمة الفعل وبين حرمة التحايل والتدليس.
فيقال لمن يسمي مبلغ الـ 15000 ريالاً هبة أو هدية: هلا جلست في بيت أبيك وأمك فتنظر هل يهدى إليك هذا المبلغ أم لا؟ فهذه الهدية لا تعطى إلا لمن اشترى ودفع الثمن، فتكون إذن جزءاً من المعاوضة، وليست هبة كما سموها.
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري: "إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا". فبين رضي الله عنه أن هذه التي تبدو هدية ظاهراً هي ربا في حقيقتها، وإخراجها على صورة هدية لا يغير من الحكم شيئاً. وعبد الله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود قبل أن يسلم، فهو خبير بالربا وصوره وأنواعه. فقوله هذا مبني على علم وخبرة بحقيقة الربا، مع ما منّ الله به عليه من العلم والفقه والصحبة.
ولذلك قرر شيخ الإسلام أن الهدية إذا وجدت لسبب أخذت حكم ذلك السبب، وجعل ذلك من أصول الشريعة: "وهو أن كل من أهدي له شئ أو وهب له شئ بسبب، فإنه يثبت له حكم ذلك السبب، بحيث يستحق من يستحق ذلك السبب، ويثبت بثبوته، ويزول بزواله، ويحرم بحرمته، ويحل بحله حيث جاز له قبول الهدية. مثل من أُهدي له للقَرض، فإنه يثبت له حكم بدل القَرض. وكذلك من أُهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره، كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات، فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك. ولو كانت الهدية قبل العقد (أي عقد النكاح)، وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره، رجع بها" (الاختيارات ص334) وهذا يرجع في النهاية إلى قاعدة الشريعة في اعتبار المقاصد والنيات، وهي قاعدة كلية ثبتت من نصوص متواترة تبلغ حد القطع.
إذا ثبت ذلك فإن ما سمي هبة في هذه المعاملة ما هو في الحقيقة إلا عوض عن الثمن المدفوع، إذ لا يحصل على الهبة إلا من اشترى ودفع الثمن. ولما كان هذا العوض هو المقصود أساساً، وكان احتمالياً قد يحصل وقد لا يحصل، فالمعاملة إذن من الميسر المحرم بالنص والإجماع. ولا يفيد تسمية العوض الاحتمالي هبة أو هدية إلا زيادة الإثم والتحريم، كما سبق.
ثانياً: حكم النظام بمجموعه
سبق أن مصدر "الهبة" في هذه المعاملة هو مشتريات المتسوقين التالين للمتسوق الأول، وكل من يحصل على الهبة إنما يحصل عليها ممن يأتي بعده من المتسوقين. فالطبقات الأخيرة من المتسوقين لا تربح الهبة إلا إذا وجد بعدها طبقات جديدة. وهذا يعني أن من يكسب الهبة إنما يكسبها على حساب من يأتي بعده، وهذا لا يكسب إلا على حساب من بعده، وهكذا. فالطبقات الأخيرة دائماً خاسرة، لأن المقصود من الثمن هو الهبة كما سبق، والهبة لا تتحقق إلا بوجود طبقات تالية تتحمل هي الثمن لتحصل الهبة لمن سبقهم، وتحصل هي على الهبة ممن بعدهم. فلا يوجد من يربح إذن إلا بوجود من يخسر، وهذا هو حقيقة أكل المال بالباطل المحرم شرعاً.
أضف إلى ذلك أن من طبيعة النظام الهرمي الذي ينشأ بهذا الأسلوب أن الطبقات الدنيا الخاسرة أكبر بكثير من الطبقات العليا الرابحة. ورياضياً فإن نسبة من يربح في الهرم لا تتجاوز 6%، بينما 94% من أعضاء الهرم يخسرون. فالغالبية تخسر لكي تربح الأقلية، وهذا مع ما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل، فإنه يؤدي إلى سوء تركيز الثروة الذي تحرمه جميع الشرائع التي تراعي العدالة الاجتماعية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية.
فالنظام الهرمي في أصل طبيعته وتكوينه قائم على ربح الأقلية في أعلى الهرم على حساب الأكثرية ممن دونهم. وهذا النظام يجمع بين أكل المال بالباطل وبين سوء توزيع الثروة وتركيزها في يد الأقلية، وهي عين المفسدة التي تنشأ عن الربا والاحتكار، وحرمها القرآن بقوله تعالى: "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم". فلا يشك عاقل درس هذا النظام وأدرك حقيقته وكيفية عمله أنه مناقض للشريعة الإسلامية مناقضة صريحة، فهو كما قيل: تصوره كاف في إبطاله.
الغاية لا تبرر الوسيلة
تفخر الشركة في موقعها بأن من ثمرات النظام زواج عدد من المتسوقين عن طريق الهبات التي حصلوا عليها، وتملك بعضهم بيوتاً بعد أن كانوا في منازل مستأجرة، "وما علم الله به أكثر وأعظم." ثم أشاروا إلى ما لهذا النظام من "الأثر الكبير في مكافحة الفقر والارتفاع بمستوى المعيشة بإذن الله تعالى. ومعلوم أن الشريعة الغراء من مقاصدها رفع الفقر عن المسلمين" إلى آخر ما جاء فيه.
وأول ما يلاحظ هنا هو الاعتماد على مقاصد الشريعة بعد أن كانت مغيبة عند تبرير بيع القُرص وأنه عوض الثمن المدفوع. فإن كانت العبرة بالمقاصد فما الحاجة إذن لبيع الأقراص؟ إن هذه الأقراص لا تسمن ولا تغني من جوع في مكافحة الفقر وتزويج الشباب وإيواء المشردين. وكما سبق، فإن هذا من أوضح الأدلة على أن المقصود من النظام هو الهبات وليس الأقراص، فالواجب إذن تقويم النظام بهذا الاعتبار. ولكن هذا يعني أن النظام لا يعدو أن يكون صورة من الميسر، لأنه نقد مقابل نقد قد يحصل وقد لا يحصل.(5/89)
ونقول ثانياً: لا ريب أن مكافحة الفقر من مقاصد التشريع الإسلامي، لكن الغاية لا تبرر الوسيلة، فلا يجوز سلوك طرق غير مشروعة لتحقيق الهدف المشروع. وقد كان الميسر في الجاهلية يتباهى به العرب في إعطاء المحتاج والفقير، ومع ذلك نزل القرآن بتحريمه قطعاً. كما أن اليانصيب الحكومي في دول الغرب وغيرها هدفه مكافحة الفقر وعلاج المرضى وتوظيف العاطلين، وغير ذلك من الأهداف الاجتماعية. فهل هذا يجعل اليانصيب مشروعاً؟ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فمن رام تحقيق الأهداف النبيلة فلا بد له من سلوك الطرق المناسبة لهذه الأهداف.
ونقول ثالثاً: إن هذا النظام هو نفسه من أسباب الفقر، لأنه يركز الثروة في أيدي القلة القليلة على حساب الكثرة الكاثرة، كما سبق. فإن كان الهدف هومكافحة الفقر ومحاربة تركيز الثروة، فالواجب منع هذا النظام ومحاربته. وهذا يؤكد أن الوسائل المحرمة لا تفضي إلى مصالح مشروعة، بل إلى مفاسد محرمة. ومن نظر إلى الوسائل وأعرض عن المآلات، أو نظر إلى المآلات وأعرض عن الوسائل، وقع في التناقض ولا بد. ومن جمع بينهما ائتلفت عنده المقاصد والأحكام، واتفق الحكم الخاص بالعقد مع الحكم العام للنظام بمجموعه، وهذا بحمد الله بيّن لكل منصف.
الخلاصة
إن نظام هبة الجزيرة يجمع بين الميسر والربا، مع ما فيه من التحايل المذموم، فهو محرم شرعاً. وبيان ذلك:
1. إن المقصود الأهم من الشراء هو الهبة، وهذا هو شأن العقلاء الذين تتعلق بهم الأحكام الشرعية، وهو الواقع الذي ثبت بالرؤية والمشاهدة، وباعتراف أصحاب الشركة أنفسهم. والقُرص ما هو إلا ستار وحيلة لإخفاء حقيقة المعاملة.
2. إن المعاملة بذلك تصبح مبادلة بين 500 نقداً و15000 محتملة، وهذا يجمع بين القمار وبين الربا، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
3. إن النظام بمجموعه هو النظام الهرمي القائم على أكل المال بالباطل وربح الأقلية على حساب الأكثرية، وكلاهما محرم أيضاً بالنص والإجماع.
وختاماً ندعو كل من يرتاب في صحة هذه النتائج إلى النظر في حقيقة هذه المعاملة وغايتها، والنظر في واقع المتعاملين وما الذي يسعون له فعلاً، ثم عرض هذه الحقيقة وهذه الغاية على قواعد الشريعة وأحكامها ومقاصدها. فالأحكام الشرعية تبنى على الحقائق والمقاصد، لا على الصور والمظاهر إذا ناقضت الحقائق.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا وإخواننا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
==============
موقف السلف من التورق المنظم
د. سامي بن إبراهيم السويلم 3/11/1426
05/12/2005
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد انتشر التمويل من خلال التورق المنظم في السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة، واستفحلت بسببه مديونية الأفراد، وترافق ذلك مع تدهور توزيع الدخل وارتفاع تركيز الثروة بدرجة ملحوظة.
وقد نتج عن انتشار هذا التمويل لدى المصارف الإسلامية تساؤلات جوهرية حول حقيقة التمويل الإسلامي والرسالة التي وجدت المصارف الإسلامية أصلاً من أجلها. فبينما كان دعم التنمية والإسهام في النشاط الحقيقي للاقتصاد على رأس قائمة أهداف المصارف الإسلامية، من خلال المشاركة والاستصناع والإجارة ونحوها من المبادلات الحقيقية، تراجعت هذه الأهداف بعد بروز التورق المنظم، وحل محلها أهداف "أكثر واقعية"، تقتصر على تحقيق الربح من خلال تقديم النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة، مع توسيط سلع لا أثر لها في النشاط الحقيقي أو في توليد قيمة مضافة للاقتصاد.
وهكذا صار التورق المنظم سبباً في التراجع عن أهم أهداف المصارف الإسلامية، وسبباً لتشكيك الكثيرين، من المسلمين وغير المسلمين، في جدوى التمويل الإسلامي أصلاً، وما إذا كانت هناك فروق فعلية بينه وبين التمويل الربوي.
ولذلك لم يكن غريباً وقوع النزاع بين الفقهاء المعاصرين حول مشروعية هذا النمط من التمويل، وتتابع المناقشات والمداولات بشأنه عبر سلسلة من الندوات والمؤتمرات، كان خاتمتها اجتماع مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والذي صدر قراره في أواخر 1424هـ بمنع التورق المنظم وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية.
وقد قدمت العديد من البحوث والدراسات حول الموضوع، بين مؤيد ومعارض. انصب معظمها حول الاستدلال بشتى أنواع الأدلة حول مدى مشروعية هذه الصيغة من عدمه. لكنها تكاد تتفق على أن هذه الصيغة تبدو مستحدثة وغير مطروقة في مصادر الفقه الإسلامي ومدوناته.
لكن تبين أن هذه الصيغة كانت معروفة منذ القرن الأول للهجرة، وأن فتاوى السلف بشأنها كانت صريحة وحاسمة في منعها. ونظراً لغياب هذه الحقيقة عن كثيرين، جاء هذا البحث ليسلط الضوء على هذا الجانب، وليسهم في بناء تصور أكثر موضوعية ومصداقية في هذه المسألة الخلافية.
ولتتضح الصورة للقارئ نمهد بتحديد المصطلحات محل البحث:
مفهوم التورق وأنواعه
التورق أو التورق الفردي: هو الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقداً لطرف آخر غير البائع.
التورق المنظم: هو أن يتولى البائع ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق.
التورق المصرفي: كثيراً ما يستخدم هذا المصطلح رديفاً للتورق المنظم. لكن يمكن التمييز بينهما بأن التورق المصرفي هو تورق منظم يسبقه مرابحة للآمر بالشراء، حيث الآمر بالشراء هو المتورق. والسبب أن المصارف في الغالب لا تملك سلعاً ابتداء، فإذا رغب العميل في الحصول على النقد من خلال التورق المنظم عبر المصرف، تطلب الأمر شراء المصرف السلعة لأمر المتورق، ثم بيعها عليه بأجل، ثم بيعها نقداً وتسليم النقد للعميل.
فتاوى السلف في التورق المنظم
1. الإمام سعيد بن المسيب (94هـ)
وهو أعلم التابعين، وأفقه الناس في البيوع (1). كان يفتي والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئل عن شئ يشكل عليه يقول: (سلوا سعيد بن المسيب فإنه كان يجالس الصالحين)(2).
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت فإن عندي طعاماً، [قال:] فبعتُها طعاماً بذهب إلى أجل، واستَوفَتْه. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعتها لها. فوقع في نفسي من ذلك شئ. فسألتُ سعيدَ بن المسيب فقال: (انظر ألا تكون أنت صاحبه؟) قال: قلت فأنا صاحبه. قال: "فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل"، هذا لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل، ثم أمَرَتْه أن يبيعه، فباعه. قال: فسألتُ سعيد بن المسيب فقال: (أبصر ألا يكون هو أنت؟) قلت: أنا هو. قال: (ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك) (3).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات المهمة:
1. إن هذه المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم، لأن داود هو الذي باع السلعة بأجل ثم تولى بيعها نقداً نيابة عن أخته لطرف ثالث. ويدل على أن البيع النقدي كان لطرف ثالث أمور:(5/90)
• التصريح بأنها (أمَرَتْه أن يبيعه)، وهذا صريح أنه نائب عنها في البيع، لا أنه هو المشتري.
• قوله: (أنا أبيعه لكِ). وهذا معناه أنه يبيع نيابة عنها، لا أنه يشتري منها، وهذا معروف عند السلف، إذا قال: أبيعه لك، أي أبيعه لمصلحتك نيابة عنك (4). ولو كان هو المشتري لقال: أنا أبتاعه منك.
• قولها: (انظر لي من يبتاعه مني)، وهذا يدل على أنها طلبت البحث عن المشتري بعد شرائها من أخيها بأجل، ولو كان المقصود أن يشتريها هو نفسه لما كان هناك حاجة للبحث عن مشتر.
• أن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ذكرا هذا الأثر في باب آخر خلاف أبواب العينة الثنائية (5).
فهذه المعاملة من باب التورق المنظم وليست من العينة الثنائية التي ترجع فيها السلعة للبائع.
2. إن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة لأنها ربا، بل وصفها بأنها (الربا محضاً)، وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك.
3. إن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها قبل ذلك. وإذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله لقي جمعاً كبيراً من الصحابة، وكان صهر أبي هريرة رضي الله عنه، وكان مقيماً بالمدينة النبوية وفيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيَبعد والحال كذلك أن تكون هذه الفتوى، بهذا الجزم، محض اجتهاد منه رحمه الله، بل الأقرب أن له فيها سلفا يتصل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
4. أن أخت داود سمّت معاملتها عينة، لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: (أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة) (6). ففسر التورق بأنه عينة. وسيأتي إن شاء الله ما يؤكد ذلك عند الفقهاء.
2. الحسن بن يسار البصري (110هـ)
من سادات التابعين علماً وعملاً، وفقيه البصرة ومفتيها. قال أبو قتادة: ما رأيت أحداً أشبه برأي عمر بن الخطاب منه. وقال قتادة: ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شئ كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (7).
روى عبد الرزاق عن أبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق. فقال الحسن: (لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق).
وروى أيضاً عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: (بع واتق الله). قال: يبيعه لنفسه؟ قال: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً، ولا تكون منه في شئ. ادفع إليه متاعه ودعه) (8).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات:
1. قوله: إني أبيع الحرير، كان الغالب آنذاك هو استعمال الحرير للحصول على النقد من خلال شرائه بأجل ثم بيعه نقداً، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في العينة: (دراهم بدراهم وبينهما حريرة.) وتسمى العينة أحياناً: (بيع الحريرة) (9)، وسيأتي ما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء. ويفهم أن أبا كعب ربما باع بأجل لمن يريدون العينة، ولهذا قال الحسن في الرواية الثانية: (بع واتق الله) أي لكثرة ما يلابس بيع الحرير من الوقوع في العينة بصورها المختلفة.
2. إن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: (لا تكون منه فيه شئ ادفع إليه متاعه ودعه.) وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقداً، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
3. وقول الحسن رحمه الله: (لا تبعه) أي لا تبع الحرير نيابة عمن اشتراه منك بأجل، وهذا منع للتورق المنظم. وقوله: (ولا تشتره) أي لا تشتره منه، وهذا منع للعينة الثنائية. وقوله: (ولا ترشده) أي لا تدله على من يشتريه منه نقداً. وقال في الرواية الأخرى: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً) يعني والله أعلم إذا بعت الحرير واشتراه منك المتورق فلا تدل عليه من يشتري منه بنقد. فمجموع الروايتين منعٌ للدلالة من الجهتين. وعلى كل تقدير فهو نهي عن التدخل في عملية التورق، ولهذا قال: (ادفع إليه متاعه ودعه).
4. إن هذا التدخل ممنوع وإن كان المشتري لا يحسن التعامل في السوق، لقوله: (فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق) ، ومع ذلك نهاه الحسن رحمه الله عن التدخل، لعلمه أن مراد هؤلاء النقد. ولو كان هذا المراد حلالاً طيباً لكانت الإعانة عليه مشروعة مطلوبة. فلما كانت الإعانة على تحصيل النقد بهذا الطريق ممنوعة، علم أن هذا الغرض محل شبهة على أقل تقدير.
3. الإمام مالك بن أنس (179هـ)
إمام دار الهجرة، وعالم المدينة الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم، فلم يجد الناس أعلم منه، كما ورد في الحديث النبوي (10).
قال ابن القاسم: (سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه) (11).
ويلاحظ من هذا النص:
1. أن المعاملة التي سَأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم، لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقداً نيابة عنه لرجل آخر. فقوله: (فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد)، أي قال المشتري للبائع: بعها لي، أي بعها نيابة عني، كما سبق. وقوله: (من رجل) أي غير البائع نفسه كما هو ظاهر.
2. إن الإمام مالكا منع هذا التعامل بقوله: (لا خير فيه) وبنهيه عنه أيضاً. ونحوه ما جاء في النوادر والزيادات: (قال مالك: ولا يلي بيعها لمبتاعها منه يسأله ذلك. قال أشهب: لا خير فيه.) (12).
وهذا يوافق فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه المسألة. ولا غرابة في ذلك، فالإمام مالك وارث علم أهل المدينة قبله، ومن أبرزهم سعيد بن المسيب.
3. وقول المشتري: (إني لا أبصر البيع) هو نفس التعليل الذي سُئل عنه الحسن البصري رحمه الله. ومع ذلك فإن الإجابة كانت حاسمة بالمنع. وهذا يؤكد أنه لو كان مقصود المشتري من تحصيل النقد بهذا الأسلوب أمراً مشروعاً ومحموداً، لكانت إعانته عليه محمودة كذلك، فلما كانت الإعانة مذمومة، علم أن هذا الأسلوب غير محمود أصلاً.
4. وقول الإمام مالك هذا رحمه الله يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يجعل المعاملة محرمة (13).
4. الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ)
الفقيه المجتهد المحدّث، صاحب أبي حنيفة ومن أئمة المذهب الحنفي.
وقد جاء عنه أكثر من نص:
(أ) جاء في كتاب الأصل: (ولو باعه لرجل، لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد، لنفسه ولا لغيره. ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع) (14).(5/91)
1. ذكر محمد بن الحسن رحمه الله هذا النص بعد أن ذكر صورة العينة الثنائية، وهي أن يبيع الشخص السلعة بثمن مؤخر ثم يشتريها بثمن حاضر، ويسميها فقهاء الحنفية: (شراء ما باع بأقل مما باع قبل انتقاد الثمن)، وبيّن أن هذا الشراء مردود. ثم بعد أن تعرض لبعض التفاصيل انتقل إلى المسألة التي نحن بصددها، وهي ما إذا كان الشراء أصالة أو وكالة.
2. قوله: (ولو باعه لرجل)، سبق أن عبارة (باع له) تعني باع لمصلحته ونيابة عنه. فقوله: ولو باعه لرجل، أي باع المبيع لمصلحة رجل آخر، فالذي يباشر البيع هنا وكيل ونائب عن مالك المبيع. ثم قال: (لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد.) أي لم يكن ينبغي للمالك الأصيل أن يشتري المبيع بأقل. فيكون معنى العبارة: لو وكل مالك السلعة من يبيعها نيابة عنه، فلا يجوز للأصيل أن يشتري السلعة بأقل قبل انتقاد ثمن الشراء. وقوله: (لنفسه ولا لغيره) أي لا ينبغي له أن يشتري سواء كان الشراء لنفسه أو لغيره. وواضح من ذلك أنه لا يلزم أن ترجع السلعة للمالك الأصلي، ومع ذلك حكم الإمام محمد بمنع هذا الشراء.
3. ثم قال: (ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع.) وقوله (الذي باعه) يريد الوكيل الذي باشر البيع نيابة عن المالك الأصلي. فيكون معنى العبارة: لا يجوز للوكيل الذي باشر البيع أن يشتري المبيع بأقل من الثمن الذي باع به قبل أن ينقد المشتري الثمن. وقوله: (لنفسه ولا لغيره) أي لا يصح الشراء، سواء كان الشراء لمصلحة الوكيل نفسه أو لمصلحة غيره. وواضح مرة أخرى أن المنع لا يشترط فيه أن تكون السلعة قد عادت للمالك الأصلي، بل قد تباع لطرف ثالث، وبذلك تكون المعاملة من صور التورق وليس العينة الثنائية، وهو تأكيد لمفهوم العبارة السابقة. وسيأتي من كلام فقهاء الحنفية ما يؤكد هذه النتيجة.
4. إن هذا الحكم ليس رأياً خاصاً بالإمام محمد وحده، بل هو رأي أئمة المذهب: أبي حنيفة (150هـ)، والقاضي أبي يوسف (182هـ)، بالإضافة لمحمد بن الحسن، رحمة الله عليهم جميعاً. ولهذا كان كتاب الأصل من كتب ظاهر الرواية، أي الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي. ولهذا السبب وجدنا هذا الحكم منصوصاً عليه في كتب الفقهاء ممن بعدهم.
ففي تبيين الحقائق للزيلعي، بعد أن ذكر المنع من شراء ما باع بأقل مما باع، قال: (وكذا لو وكّل رجلاً ببيع عبده بألف درهم، فباعه، ثم أراد الوكيل أن يشتري العبد بأقل مما باع، لنفسه أو لغيره بأمره، قبل نقد الثمن، لم يجز.) (15) ويزيد ابن عابدين في حاشيته هذا المعنى تأكيداً فيقول: (فأفاد أنه لو باع شيئاً أصالة بنفسه أو وكيله أو وكالة عن غيره، ليس له شراؤه بالأقل لا لنفسه ولا لغيره.)(16).
5. وهذه العبارات من فقهاء المذهب عبر القرون صريحة في منع هذا التعامل أصالة أو وكالة، في أي من العقدين: البيع أو الشراء. وتعليلهم لهذا المنع يعكس حرصهم على سد الباب من أصله. فيعلل الزيلعي المنع من شراء الوكيل لنفسه بقوله: (أما شراؤه لنفسه فلأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه، والثابت من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات.) ثم يعلل المنع من الشراء لغيره بقوله: (وأما لغيره فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فكان هذا شراء ما باع لنفسه من وجه.) وذكر ابن عابدين تعليل الزيلعي وأقره.
6. إن هذه النصوص تؤكد أن من باع سلعة بثمن مؤخر،لم يجز له أن يشتري هذه السلعة لا لنفسه ولا لغيره، حتى لو كان في البيع الأول وكيلاً يعمل لمصلحة غيره، حتى لو لم ترجع السلعة لمالكها الأول. وهذا إغلاق محكم لكل أنواع الوساطة في هذا الباب، حتى لو كانت المعاملة من باب التورق وليس العينة الثنائية.
(ب) النص الآخر جاء في كتاب الجامع الصغير: (رجل كَفَل عن رجل بأمره، فأمَرَه أن يتعيّن عليه حريراً. فالشرى للكفيل والربح الذي ربحه البائع عليه) (17).
وفي هذا النص وقفات:
1. قال الشراح: قوله (يتعيّن)، أي يتعامل بالعينة، كما هو المعنى اللغوي. ومعنى العينة عند فقهاء الحنفية: هي أن يطلب الرجل من التاجر قرضاً، فيأبى أن يعطيه التاجر إلا بربح، ويخاف الوقوع في الربا. فيبيعه سلعة قيمتها نقداً مثلاً عشرة بخمسة عشر مؤجلة، فيبيعها المحتاج للنقد في السوق بعشرة، فيحصل له عشرة نقداً وفي ذمته خمسة عشر للبائع. قالوا: وهي مذمومة شرعاً، وجاء فيها الحديث: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) (18).
2. يلاحظ أن الحنفية عرّفوا العينة بما يشمل مفهوم التورق، وهذا يؤكد ما سبق عن السلف من أن التورق يندرج ضمن العينة. وليس هذا خاصاً بفقهاء الحنفية، بل يوافقهم فيه المالكية، ونص عليه الإمام أحمد (19).
كما يلاحظ أن قوله ”أمره أن يتعيّن عليه“ يشبه قول أخت داود بن أبي عاصم في أثر سعيد بن المسيب السابق حين قالت: (أريد أن تشتري متاعاً عينة)، فكلاهما أمرٌ بالعينة.
3. مضمون هذه الصيغة أن الآمر محتاج للنقد، فيطلب من المأمور أن يشتري حريراً لمصلحة الآمر بثمن مؤجل، ثم يبيع المأمور الحرير بنقد، أقل من الثمن الآجل بطبيعة الحال، ويسلم النقد للآمر أو يوفي به الدين الذي كفله عنه. والأصل في هذه الحالة أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل، لأن الأخير هو المشتري للسلعة أصالة.
لكن محمد بن الحسن يرى أن المأمور ليس له أن يطالب الآمر بالثمن الآجل، ولهذا قال: (فالشرى للكفيل، والربح الذي ربحه البائع عليه). أي أن الثمن الآجل يثبت في ذمة المأمور أمام البائع، ولا يثبت في ذمة الآمر أمام المأمور، لأن الشراء لا يكون للآمر، بل للمأمور. وعليه فإن المأمور لا يطالب الآمر إلا بمقدار النقد الذي سلمه إياه أو وفّى به عنه، دون أي زيادة.
وهذا يقتضي تحريم هذه الزيادة، لأن الأصل أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل كاملاً، إذ الشراء في الأصل للآمر لأنه هو المحتاج للنقد. فإذا بطل كون الشراء له، امتنع أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالزيادة عن النقد الذي سلمه إياه. وهذا يستلزم تحريم إثبات الزيادة في ذمة الآمر، ولولا ذلك لما حكم ببطلانها.
وهذا مطابق لفتوى سعيد بن المسيب حين أمر داود بن أبي عاصم أن يرد الزيادة لأخته ولا يأخذ إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، كما سبق. فأقوال محمد بن الحسن وسعيد بن المسيب متفقة على أن الزيادة على الثمن النقدي باطلة ولا تثبت في ذمة الآمر بالعينة.
4. وهذا الحكم ليس رأي محمد بن الحسن وحده، بل هو قول أئمة المذهب، لأن كتاب الجامع الصغير من كتب ظاهر الرواية المعتمدة في المذهب الحنفي. ومع اتفاق فقهاء المذهب على هذا الحكم إلا أنهم اجتهدوا في تعليله. فعلله بعضهم بأنه ضمان من الآمر لما يخسره المأمور بالفرق بين الثمن الآجل والثمن النقدي، قالوا: وضمان الخسران باطل. وعلله بعضهم بأنه توكيل مع جهالة مقدار السلعة والثمن، فهي وكالة باطلة. لكنهم متفقون على أن المأمور به هو العينة المذمومة، وعلى أن الزيادة لا تثبت في ذمة الآمر. ولا حاجة للتعليل بعد ذلك بأكثر من أن هذه المعاملة من العينة المنهي عنها بنص الحديث، فلا تثبت الزيادة في حق الآمر لأنها ربا، ويتحملها المأمور لأنه هو الذي باشر الشراء. وإذا علم المأمور أنه لا يحق له مطالبة الآمر بالزيادة فإن سيمتنع من هذا التعامل أساساً.(5/92)
5. وموقف محمد بن الحسن هذا يؤكده عبارته المشهورة في العينة: (هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، ذميمٌ، اخترعه أكلة الربا) (20). وهذا الذم لا يقتصر على العينة الثنائية، كما تأوله البعض، بل يشمل الوساطة بالتورق كما سبق صريحاً.
ملاحظات عامة
1. إن اتفاق هؤلاء العلماء على منع هذه المعاملة، مع تباين مناهجهم، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، وتعدد مدارسهم، ما بين المدينة إلى البصرة إلى الكوفة، يشير إلى أن منعها يستند إلى أصل صحيح يتفقون عليه جميعاً، ألا وهو منع العينة وذمها، إذ يقتضي هذا سد الباب أمام اتخاذ البيع ذريعة للحصول على النقد الحاضر بدين في الذمة أكثر منه.
وسبق أن الوكالة بالتورق إعانة ومساعدة للمحتاج للنقد، فإذا كانت ممنوعة دل ذلك على أن تحصيل النقد بهذا الطريق من العينة المذمومة شرعاً.
2. إن الفتاوى السابقة تمنع توسط البائع لتحصيل النقد حتى بدون تواطؤ أو اتفاق مسبق بين المتورق وبين البائع، كما يظهر من سياق النصوص المنقولة عنهم. وإذا كان هذا ممنوعاً مع غياب التواطؤ، فهو مع وجوده أولى بالمنع. والتورق المنظم بالصورة التي يطبق بها اليوم يظهر فيها التواطؤ ظهوراً لا مزيد عليه، فالقول بمنعه إذن آكد وأوجب.
3. إن قرار مجمع الفقه الإسلامي بمنع التورق المنظم، مع عدم اطلاع أعضائه فيما يبدو على أقوال السلف في هذا الخصوص، يشهد على كمال هذه الشريعة الغراء وربانيتها وعصمتها، فالكل يصدر عن مشكاة واحدة تعصم من تمسك بها عن الانحراف، وتهديه إلى المحجة البيضاء التي سار عليها السلف الصالح، مهما باعدت بينهم القرون وتطاولت بهم الأزمان.
4. وكون هذه المعاملة معروفة منذ القرن الأول الهجري، وكانت مواقف السلف منها بهذا الحسم والوضوح، دليل على أن مسيرة التمويل الإسلامي اليوم بحاجة لمراجعة جادة. فانتشار التورق المنظم والمصرفي تراجع وتقهقر للتمويل الإسلامي من جهتين: الأولى أن هذه الصيغة ممنوعة منذ القدم، وبدلاً من إيجاد صيغ وأدوات مشروعة، تتجه المؤسسات الإسلامية إلى الصيغ المشبوهة والممنوعة. الثانية أنها صيغة قديمة ليس فيها جديد، حتى لو غضضنا الطرف عن مدى مشروعيتها. إن منهج تصميم الأدوات والصيغ المالية السائد بحاجة حقيقية إلى إعادة نظر، والبحث عن منهجية أكثر إبداعاً، وفي الوقت نفسه أبعد عن الشبهات.
والله تعالى المسؤول أن يهدينا إلى الحق فيما اختلف فيه بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر: الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، 6/614؛ القواعد النورانية، دار ابن الجوزي، ص173.
[2] الطبقات لابن سعد، دار بيروت، 5/141.
[3] المصنف لعبد الرزاق، المكتب الإسلامي، 8/294-295؛ المصنف لابن أبي شيبة، الدار السلفية، 7/275-276. وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب. ووقع عند عبد الرزاق "عبد الملك بن أبي عاصم" بدل "داود"، والترجيح من ابن أبي شيبة. ( وأشكر فضيلة الشيخ د. عبد الله بن وكيل الشيخ -حفظه الله- على مراجعته لإسناد الحديث).
[4] انظر مثلاً: المدونة، ط. السعادة، 4/244-248؛ المنتقى شرح الموطأ للباجي، 5/80.
[5] فقد ذكر عبد الرزاق العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد، 8/184، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يعيّن الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه. أما ابن أبي شيبة فقد ذكر العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة بالنقد ثم يشتريها، 6/593، كما ذكر العينة في 6/47، 573، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يبيع الدين إلى أجل.
[6] المصنف 6/47.
[7] سير أعلام النبلاء 4/577، 573.
[8] المصنف 8/295. والرواية الأولى إسنادها صحيح. والرواية الثانية فيها "رزيق بن أبي سلمى"، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/505 وسكت عليه. وجاء في الأصل في الرواية الثانية: "إذا ابتعته"، والتصحيح من حاشية التحقيق.
[9] انظر المصنف لابن أبي شيبة 6/48، بيان الدليل لابن تيمية، المكتب الإسلامي، ص73.
[10] سير أعلام النبلاء 8/55-56.
[11] المدونة 4/125، بحث "التورق كما تجريه المصارف" د. عبد الله السعيدي، ص18.
[12] النوادر والزيادات 6/94، وانظر الذخيرة 5/15.
[13] راجع بحث الكاتب:"التورق والتورق المنظم" : دراسة تأصيلية، ص10-14.
[14] كتاب الأصل، عالم الكتب، 5/192. وهناك زيادة أضافها المحقق للنص للإيضاح، حذفت هنا.
[15] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ط بولاق، 4/54.
[16] رد المحتار، ط بولاق، 4/114.
[17] الجامع الصغير، ط. عالم الكتب، ص(373) ، ( وأشكر فضيلة الشيخ د. علي الندوي -حفظه الله- لمراجعته الموضوع).
[18] انظر: طلبة الطلبة، دار النفائس، ص242؛ تبيين الحقائق،4/163؛ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، دار الكتب العلمية، 3/194. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود، انظر السلسلة الصحيحة رقم (11).
[19] انظر بحث "التورق والتورق المنظم"، ص19.
[20] فتح القدير، دار إحياء التراث، 6/224.
===============
المنفعة في القرض
عبد الله بن محمد العمراني 30/6/1424
28/08/2003
اسم الكتاب: المنفعة في القرض دراسة تأصيلية تطبيقية
المؤلف : عبد الله بن محمد العمراني.
الناشر :دار ابن الجوزي
عدد الصفحات: 723
جاء الكتاب في مقدمة ، وتمهيد، وبابين، وخاتمة .
أما المقدمة فتشمل أسباب اختيار الموضوع ، ومنهج البحث وخطته.
وأما التمهيد ففي : حقيقة القرض ، وفضله ، وبيان الأصل فيه.
وأما البابان فهما على النحو التالي:
الباب الأول : حقيقة المنفعة في القرض وأحكامها وضوابطها. ضمن ثلاثة فصول: الأول حول: حقيقة المنفعة في القرض. عرض فيه لتعريف المنفعة في القرض ،وأنواعها ،ثم لنظرية الفائدة عند الاقتصاديين.
والفصل الثاني كان في: أحكام المنفعة في القرض .عرض فيه لأحكام المنفعة المشروطة ،وغير المشروطة في القرض ،وحكم عقد القرض مع اشتراط المنفعة .
في حين كان الفصل الثالث في: ضوابط المنفعة في القرض.
أما الباب الثاني فخصصه لذكر تطبيقات معاصرة للمنفعة في القرض. خلال خمسة فصول : الأول في :الودائع المصرفية.والثاني في : السندات .والثالث في: الاعتمادات المستندية. والرابع في : خصم الأوراق التجارية.والخامس والأخير في: جمعيات الموظفين.
وفي نهاية البحث ذكر خاتمة اشتملت أهم نتائج البحث التي توصل إليها وهي :
1.القرض هو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله ، وقد دلت على فضله الأدلة من الكتاب والسنة والمعقول.
2.الأصل في القرض أنه من عقود التبرعات لا المعاوضات.
3.يمكن تعريف المنفعة في القرض بأنها الفائدة أو المصلحة التي تعود لأحد أطراف عقد القرض بسبب هذا العقد.
4.المنفعة في القرض أنواع متعددة باعتبارات متعددة ، ومن ذلك أن المنفعة في القرض باعتبار ذات المنفعة ثلاثة أنواع : عينية ، وعرضية ،ومعنوية . وباعتبار المنتفع بها أربعة أنواع، وهي : أن تكون للمقترض، أو للمقرض ، أو لهما معاً ، أو لطرف ثالث . وباعتبار الشرط وعدمه نوعان : مشروطة وغير مشروطة . إلى غير ذلك من الاعتبارات.
5.الفائدة في اصطلاح الاقتصاديين هي : الثمن الذي يدفعه المقترض مقابل استخدام نقود المقرض . ولقد نشط الاقتصاديون الغربيون في ابتكار نظريات لتبريرها.
6.اتفق العلماء على أنه لا يجوز اشتراط زيادة في بدل القرض للمقرض ، وأن هذه الزيادة ربا. وسواء أكانت الزيادة في الصفة أم في القدر ، عيناً أم منفعة ، ولم يفرقوا في الحكم بين اشتراط الزيادة في بداية العقد أو عند تأجيل الوفاء.(5/93)
7.تسمى الزيادة المشروطة في القرض ربا القرض ، وهي من ربا الجاهلية.
8.حديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، إسناد المرفوع منه ضعيف جداً ، والموقوف ضعيف ، ولكن معناه صحيح إذا كان القرض مشروطاً فيه نفع للمرض فقط أو ما كان في حكم المشروط؛ وذلك لتلقي كثير من العلماء له بالقبول ، واعتضاده بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول الدالة على تحريم اشتراط المنفعة للمقرض.
9.اختلف الفقهاء في حكم اشتراط وفاء القرض بالأقل ، والراجح هو الجواز.
10.محل الخلاف في مسألة اشتراط الوفاء في غير بلد القرض هو في المنفعة الإضافية إذا كان اشتراط الوفاء في غير بلد القرض لمنفعة المقترض والمقرض معاً ، والراجح هو جواز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض ، بحيث يكون على وجه الإرفاق بالمقترض ، سواء انتفع المقرض أولا.
11.اشتراط الأجل في القرض جائز ، ويتأجل القرض بالتأجيل.
12.اتفق العلماء في الجملة على أنه لا يجوز اشتراط عقد البيع في عقد القرض ، وكذا لا يجوز اشتراط عقد معاوضة كالإجارة ونحوها في عقد القرض . ومما له علاقة بهذه المسألة اشتراط المقرض على المقترض أن يزكي القرض الذي عنده ، فإن ذلك لا يجوز.
13.اشتراط عقد قرض آخر من المقترض للمقرض في مقابل القرض الأول لا يجوز ، وهذا المسألة تسمى ( أسلفني وأسلفك).
14.قرض المنافع جائز إذا كان على وجه المعروف والإرفاق.
15.لا يجوز الجعل المشروط ثمناً للجاه والشفاعة فقط ، بينما يجوز ذلك إذا كان الجعل مقابل ما يحتاج إليه من نفقة.
16.فيما يتعلق بحكم عقد القرض مع اشتراط المنفعة للمقرض ، فإن عقد القرض يبقى صحيحاً مع فساد الشرط . وأما حكمه مع اشتراط المنفعة للمقترض فإنه يصح ، والشرط جائز ، وكذلك حكم العقد عند من منع هذا الاشتراط من العلماء ، فإن الشرط يلغو عندهم ويبقى العقد صحيحاً . وأما حكمه مع اشتراط المنفعة للمقترض والمقرض معاً بحيث يكون مصلحة للطرفين على وجه الإرفاق فإنه يصح؛ لأن الراجح أن هذا الاشتراط جائز.
17.-الزيادة عند الوفاء للمقرض من غير شرط جائزة، سواء كانت الزيادة في القدر أو في الصفة.
18.المنافع غير المشروطة للمقرض قبل الوفاء فيها تفصيل ، فإن كانت من أجل القرض فإنها لا تجوز ، وإن كانت هذه المنافع ليست من أجل القرض ، مثل ما إذا كانت العادة جارية بين المقرض والمقترض بذلك قبل القرض ، أو حدث سبب موجب لهذه المنافع بعد القرض فإن ذلك جائز ،وإن جهل الحال فتمنع حتى يتبين أنها ليست لأجل القرض.
19.شكر المقترض للمقرض ودعائه له مما يندب إليه ؛ لأنه من باب مقابلة المعروف بالمعروف.
20.منفعة المقرض بضمان ماله عند المقترض منفعة أصلية في القرض ، ولكن إن قصد المقرض الإرفاق بالمقترض فإنه يثاب على قرضه ، وهذا الأصل في مشروعية القرض ، وأما إن كان المقرض يقصد نفع نفسه فقط بضمان المال لا الإرفاق بالمقترض فإنه لا يثاب على هذا القرض ، ولكن القرض في هذه الحالة جائز.
21.الإقراض بقصد الانتفاع بشفاعة المقترض وجاهه محرم إذا كان ذلك وسيلة لإحقاق باطل أو إبطال حق ؛ لأنه بمثابة الرشوة للحصول على غرض ما.
22.(كل قرض جر منفعة فهو ربا) ضابط يذكره الفقهاء ، وسيستدلون به ، ويحيلون إليه فروعاً . وإيرادهم له جاء على عدة نواحٍ ، ففي بعض المواضع يسوقونه على أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يسوقونه على أنه أثر عن الصحابة رضي الله عنهم ، وفي بعض المواضع يستدلون به على أنه قاعدة أو ضابط ، أو يجعلونه قاعدة أو ضابطاً ويحيلون إليه الفروع التي يرونها تدخل فيه.
23.وبعد دارسة هذا الضابط تبين أنه ليس على عمومه ، وإنما يخرج منه بعض المنافع الجائزة ، ويمكن أن يكون الضابط على ما توصلت إليه : ( كل قرض جر منفعة زائدة متمحضة مشروطة للمقرض على المتقرض أو في حكم المشروطة فإن هذه المنفعة ربا).
24.من الضوابط التي ذكرها بعض الفقهاء : (متى تمحضت المنفعة في القرض للمقترض جاز) . وبعد دراسة هذا الضابط تبين أنه ليس على إطلاقه ، ويمكن أن يكون الضابط على ما توصلت إليه على النحو الآتي : ( كل منفعة في القرض متمحضة للمقترض ، وكل منفعة مشتركة بين المقترض والمقرض ومنفعة المقترض أقوى أو مساوية فإنها جائزة).
25.من الضوابط التي ذكرها بعض الفقهاء : ( القرض عقد إرفاق وقربة فمتى خرج عن باب المعروف امتنع ) .وبعد دراسة هذا الضابط تبين أنه غير مسلم ، فموضوع القرض هو الإرفاق والمعروف ، وهذا هو الأصل فيه ، ولكنه ليس شرطاً لجواز القرض ، وليس خروجه عن المعروف والإرفاق مناطاً للمنع.
26.من الضوابط في هذا البحث(المقاصد معتبرة في التصرفات من العقود وغيرها). ومما يترتب على اعتبار المقاصد في التصرفات إبطال الحيل التي يراد التوصل بها إلى المحرمات . ومن صور التحايل على أخذ المنفعة في القرض : البيع بشرط أن البائع متى ما رد الثمن فإن المشتري يعيد إليه المبيع ، ومن الصور : البيع بشرط الخيار حيلة ليربح في قرض.
27.من الضوابط في هذا البحث (المنفعة المجمع على تحريمها هي المنفعة الزائدة المتمحضة المشروطة للمقرض على المقترض) . ومفاد هذا الضابط بيان محل الإجماع في موضوع المنفعة المحرمة في القرض.
28.من الضوابط في هذا البحث (المنفعة المحرمة في القرض هي:
-المنفعة الزائدة المتمحضة المشروطة للمقرض على المقترض ، أو ما كان في حكم المشروطة.
-المنفعة غير المشروطة التي يبذلها المقترض للمقرض من أجل القرض).
29.الودائع المصرفية بنوعيها الحالة والآجلة قروض في الحقيقة لا ودائع ، فهي من التطبيقات لموضوع المنفعة في القرض ، وهي من أشكال الاقتراض المصرفي.
30.إن ملكية أرصدة ودائع الحساب الجاري تنتقل إلى المصرف بموجب عقد القرض ، فيجوز له التصرف فيها ، وبالتالي يحل للمصرف العائد المترتب على استثمار هذه الأموال، إلا أنه لا بد أن يكون الاستثمار جائزاً شرعاً.
31.إن قدرة المصرف على توليد الائتمان بدرجة أكبر من كمية الودائع ناتج عن وظيفته كوسيط بين المدخرين والمستثمرين ، وبما يصدره من وسائل الدفع النقدية الحديثة . وتوليد الائتمان من حيث الأصل جائز ، إلا أن الحكم يختلف حسب نوع الاستثمار الذي يقوم به المصرف ، وحسب الآثار المترتبة على ذلك.
32.إن تقاضي المصرف أجراً في الحساب الجاري على الخدمات التي يقدمها جائز ، لأنه يستحق هذا الأجر مقابل الأعمال التي يقوم بها.
33.يجوز انتفاع صاحب الحساب الجاري بدفتر الشيكات وبطاقة الصراف الآلي دون مقابل، لأن المنفعة الإضافية هنا مشتركة للطرفين.
34.الأسعار المميزة لصاحب الحساب الجاري إذا كانت للعميل دون غيره ، ولم يكن للمصرف منفعة سوى القرض ، فإن هذه منفعة في القرض محرمة. ومثل ذلك الهدايا من المصرف للعميل.
35.يحرم أخذ الفوائد وإعطاؤها على الودائع الحالة والآجلة، لأنها حينئذ قروض ربوية.
36.إقراض المصرف غيره مقابل فوائد ربا محرم.
37.القروض المتبادلة إذا كانت مشروطة فإنها محرمة ، وأما إذا كانت غير مشروطة فإنها جائزة.(5/94)
38.الإيداع في الحساب الجاري في البنوك الربوية محرم، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وفي الإيداع في البنك الربوي إعانة وتقوية له، حيث إن رأس مال المصرف لا يشكل إلا مبلغاً قليلاً لا يتجاوز 10% والباقي يعمل به من الأموال التي أودعت عنده، سواء كانت جارية أو غيرها، ومما يتولد عنها. وعلى هذا فلو م يودع أحد في المصارف الربوية لتعطلت ولم تعمل في الربا ، فيصدق على من يودع فيها أنه يعينها على الإثم والعدوان.
39.إن إصدار سندات القرض بأنواعها محرم، ومن ثم يحرم التعامل بها شراء وتداولاً، لأنها قروض ربوية. وهي من أشكال الاقتراض المصرفي.
40.الفوائد التي يأخذها مصرف البلد المستورد في الاعتمال المستندي - إذا كان الاعتماد غير مغطى من قبل المستورد أو كان مغطى جزئياً - فوائد ربوية محرمة. وكذلك الفوائد التي يأخذها المصرف إذا تأخر المستورد في الدفع، فإنها فوائد ربوية محرمة. وهذا من أشكال الإقراض المصرفي.
41.الحالة الأولى لجمعيات الموظفين، وهي الحالة الخالية من الشروط الزائدة: جائزة.
42.الصورة الأولى من الحالة الثانية لجمعية الموظفين، وهي أن يشترط على جميع الراغبين في المشاركة الاستمرار حتى تستكمل دورة كاملة: جائزة، والأولى عدم هذا الشرط.
43.الصورة الثانية من الحالة الثانية لجمعيات الموظفين ، وهي أن يشترط على جميع الراغبين في المشاركة الاستمرار حتى تدور دورة ثانية أو أكثر : لا تجوز
============
حول سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 15/10/1425
28/11/2004
حول سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة):
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد. وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)، وما يعقد فيها من عقود: بيعًا وشراء على العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجَّل، وما كان منها على مؤجَّل. كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها.
(أ) فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فهي:
أولاً: أنها تقيم سوقًا دائمة، تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة، على الأسهم والسندات والبضائع.
ثانيًا: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية، والتجارية، والحكومية، عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع.
ثالثًا: أنها تسهل بيع الأسهم، وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها، لأن الشركات المصدرة لها، لا تصفي قيمتها لأصحابها.
رابعًا: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم، وسندات القروض والبضائع، وتموُّجاتها في ميدان التعامل، عن طريق حركة العرض والطلب.
(ب) وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي:
أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق، ليست في معظمها بيعًا حقيقيًّا، ولا شراء حقيقيًّا، لأنها لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعًا.
ثانيًا: أن البائع فيها، غالبًا يبيع ما لا يملك، من عملات، أو أسهم، أو سندات قروض، أو بضائع، على أمل شرائه من السوق، وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم.
ثالثًا: أن المشتري فيها غالبًا، يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضًا لآخر قبل قبضه، وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشترى الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير، على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تمامًا.
رابعًا: ما يقوم به المتمولون، من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون، على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج.
خامسًا: أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة، لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليًّا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع، أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها، وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعًا، لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرًا سيئًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددًا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضًا في سوق البضائع. ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلاً كبيرًا بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة، من تاريخ العالم الاقتصادي، ضياع ثروات ضخمة، في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد، حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم، طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، وبوقت سريع، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.
ولذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) وما يجري فيها من عقود عاجلة وآجلة على الأسهم وسندات القروض، والبضائع والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي:
أولاً: أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة، يتلاقى فيها العرض والطلب، والمتعاملون بيعًا وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع، ومن هو محتاج إلى الشراء. ولكن هذه المصلحة الواضحة، يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة)، أنواع من الصفقات المحظورة شرعًا، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجرى فيها، كل واحدة منها على حدة.
ثانيًا: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع، التي يجري فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعًا، هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودًا على محرم شرعًا، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع، فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.(5/95)
ثالثًا: أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات، حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعًا، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرَّم شرعًا، كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعًا وشراء.
رابعًا: أن العقود العاجلة والآجلة، على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعًا، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم.
خامسًا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعًا؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك اعتمادًا على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعًا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ". وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع، حتى يَحُوزَها التُّجارُ إلى رِحالِهم.
سادسًا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
(ج) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
(د) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها- وهي في ذمة البائع الأول- وقبل أن يحوزها المشتري الأول عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء على ما تقدم، يرى المجمع الفقهي الإسلامي: أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية، ألاَّ يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة، تتعامل كيف تشاء من عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أو محرمة، وألاَّ يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعًا، ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين، لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام:153]. والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
السَّلم وتطبيقاته المعاصرة
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع (ع 9، ج1 ص 371)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1- 6 نيسان (أبريل) 1995م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع السَّلم وتطبيقاته المعاصرة،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولاً : بشأن (السلم) :
أ- السلع التي يجري فيها عقد السلم تشمل كل ما يجوز بيعه ويمكن ضبط صفاته ويثبت ديناً في الذمة، سواء أكانت من المواد الخام أم المزروعات أم المصنوعات .
ب - يجب أن يحدد لعقد السلم أجل معلوم، إما بتاريخ معين، أو بالربط بأمر مؤكد الوقوع، ولو كان ميعاد وقوعه يختلف اختلافاً يسيراً لا يؤدي للتنازع كموسم الحصاد .
ج - الأصل تعجيل قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، ويجوز تأخيره ليومين أو ثلاثة ولو بشرط، على أن لا تكون مدة التأخير مساوية أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم .
د - لا مانع شرعاً من أخذ المُسْلِم (المشتري) رهناً أو كفيلاً من المسلّم إليه (البائع) .
هـ - يجوز للمسلِم (المشتري) مبادلة المسلَم فيه بشيء آخر - غير النقد - بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أم بغير جنسه . حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحاً لأن يجعل مسلماً فيه برأس مال السلم .
و - إذا عجز المسلم إليه عن تسليم المسلم فيه عند حلول الأجل فإنَّ المسلم (المشتري) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه وفسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإذا كان عجزه عن إعسار فنظرة إلى ميسرة .
ز - لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير .
ح - لا يجوز جعل الدين رأس مال للسلم لأنه من بيع الدين بالدين .
ثانياً : بشأن (التطبيقات المعاصرة للسلم) :
انطلاقاً من أن السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية، من حيث مرونتها، واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطة أم طويلة، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين، أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل، والنفقات الرأسمالية الأخرى .
ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها ما يلي :
أ- يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلّموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فَيُقَدِّمُ لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم .
ب- يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سَلماً وإعادة تسويقها بأسعار مجزية .
ج- يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين، وصغار المنتجين الزراعيين، والصناعيين، عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات، أو مواد أولية كرأس مال سلم، مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها .
يوصي المجلس بما يلي :
استكمال صور التطبيقات المعاصرة للسلم بعد إعداد البحوث المتخصصة . والله الموفق.
=============
صكوك التمويل
د . يوسف بن أحمد القاسم 6/2/1428
24/02/2007(5/96)
لم تزل بعض البنوك والشركات الكبرى في بلادنا تعيش على أطلال الماضي, وتصبح وتمسي على الأسلوب التقليدي في بعض تعاملاتها المالية, سواء في أسلوب الاستثمار والتمويل, أو في غيرها من الأساليب, والتي أثبتت الخبرة والتجربة وكر الأيام عدم جدواها الاقتصادية للفرد والمجتمع, وربما كان بعضها مما لا يقره شرعنا الحنيف, ولكن لأجل أن هذه المعاملات كانت ولا زالت تسير في ركب اقتصاد البنوك بالدول المتقدمة, لهذا ظلت على هذا النهج طول هذه الحقبة الماضية, وكأن قدرنا أن نسير في فلك الآخر ولو على حساب اقتصادنا, أو قيمنا الإسلامية, وربما نرى الكثير من البنوك الإسلامية من حولنا تحقق نجاحات متتابعة في الكثير من المشاريع الاستثمارية, وتتوصل إلى ابتكار العديد من البدائل الإسلامية لعدد من المعاملات البنكية المحرمة, وتحقق تفوقاً متواصلاً في هذا المجال, ومع هذا لم تعط تلك البنوك والشركات اهتماماً يذكر بهذه البدائل وجدواها الربحي, ولا ترفع بذلك رأساً, ليس لقناعتها الذاتية بعدم جدوى هذا البديل أو ذاك, بقدر ما لديها من حساسية مفرطة تجاه ما تنتجه عقول أبنائنا, وغالباً ما تكون تلك الحساسية نابعة من عدم الثقة في اقتصادنا الإسلامي الذي لم يعد صالحاً لزماننا في اعتقاد قلة من رجال أعمال مجتمعنا الحاضر, وللأسف!! ثم كانت المفاجأة, حين أعجب بعض البنوك والمؤسسات المالية في البلاد الغربية بحجم العوائد التي تحققها كثير من المعاملات المالية الإسلامية, فأخذت بزمام المبادرة, وفتحت لها نوافذ إسلامية؛ حين ثبت على أرض الواقع نجاح تلك المعاملات, وما حققته من أرباح فاقت حجم الفوائد البنكية, مما كان سبباً في جذب عملائها من كل الأطياف المختلفة, ولم يعد هذا الواقع خافياً على كل راصد للتعاملات البنكية في الخارج, وقد كان هذا التطور اللافت في البنوك الغربية أمراً محرجاً لكل من كان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى تجاه تلك المعاملات والبدائل الإسلامية, ولكل من كان ينظر إليها نظرة ازدراء أو إشفاق !
ولنأخذ مثالاً واحداً على هذا, وهو صكوك التمويل, حيث غدا التمويل بصكوك السندات لدى كثير من بنوكنا وشركاتنا الكبرى ضربة لازب, أو أصبح وكأنه غاية, وليس وسيلة لتوفير السيولة وجذب رؤوس الأموال, اقتداء بالبنوك العالمية في البلاد الغربية, مما جعل كثيرا من الشركات المالية تنهج هذا الأسلوب التقليدي مع ما فيه من إشكالات كثيرة, ويكفي أن هذا الأسلوب الربوي في التمويل أفرزه الفكر الرأسمالي الذي يؤمن بالعقلية النفعية الانتهازية التي لا تعنيها مصلحة الفرد والمجتمع, مع ما في هذا الأسلوب التمويلي من تجاهل صارخ لشرعنا المطهر الذي حرم الربا, واعتبره ضرباً من ضروب الحرب على الله ورسوله! وما سد الله تعالى باب حرام إلا فتح بإزائه أبواباً كثيرة للحلال.
إن الاستفادة من معطيات الحضارة الغربية, بتوظيف ما فيها من إيجابيات لصالح المسلمين على كل الصعد أمر لا ينازع فيه عاقل, وهذا لا يعني أن نأخذ بكل ما تفرزه تلك الحضارة إذا كان له آثاره السلبية في المال والاقتصاد, لاسيما إذا كان معارضاً لشريعتنا الإسلامية, وذلك كفكرة السندات التي تجعل الدائن أشبه شيء بذكر النحل, يعيش على عمل الغير, ولا يصحو إلا مع نهاية العام, ليأكل من كسب غيره, دون أن يشاطره الجهد والربح والخسارة. وهذا هو الأسلوب الانتهازي الذي يقوم على فكرة النفعية للدائن أو للمدين, بعيداً عن مصلحة المجتمع ككل.
ولا أظنه يخفى على القارئ أنه قد وجد الكثير من البدائل الإسلامية لصكوك السندات المحرمة, والمتمثلة في صكوك الاستثمار ذات الصيغ المتعددة, ومن تلك الصيغ ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي, في دورة مؤتمره الرابع بجدة, حيث قدم صيغة رائدة لصكوك استثمارية اصطلح المجمع على تسميتها بـ" صكوك المقارضة " وقدم لها صيغة مقبولة شرعاً, بحيث تكون أداة استثمارية, تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة), بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة, على أساس وحدات متساوية القيمة, محكومة بالضوابط الشرعية, ويمكن الاكتتاب فيها, وتداولها في السوق المالية وفقاً لظروف العرض والطلب .
لقد قام مجمع الفقه الإسلامي بدوره حين استقطب العلماء والخبراء والمختصين في المجالات المختلفة, وقدم مثل هذه الصيغة التمويلية, وغيرها من الصيغ, ليقدم البديل الإسلامي, جنبا إلى جنب مع القرار العلمي المتخصص, وقد انتفع بهذه الصيغة التمويلية عدد من المؤسسات والشركات المالية في المملكة وخارجها, ولم يبق عذر لمن كان يرى أن الربا هو الحل الوحيد للمشكلات الاستثمارية.
علما بأن هناك بدائل أخرى كثيرة للصكوك, كصكوك السلم, والاستصناع, والإجارة, وغيرها مما يمكن أن يصاغ صياغة جديدة, تتناغم مع المعطيات الجديدة, دون أن يكون هناك مساس بما حرم الله تعالى, لا سيما وأن عقود المعاملات مبنية على الإباحة, لا على الحظر, وفي هذا كله مندوحة عما حرم الله .
كما أنه يتحتم على المؤسسات والشركات المالية أن تستقطب العلماء والمتخصصين لتقديم البدائل الشرعية المجدية, بعيداً عن الصيغ الصورية المحرمة, والتي ربما تكون بلباس شرعي, كما وقع ذلك في صيغة صكوك الإجارة الصادرة من مؤسسة نقد البحرين, حين صدر قرار هيئتها الشرعية بجواز تلك الصيغة, ثم عاد بعض أعضاء هيئتها الشرعية, وأعلن رجوعه عن فتياه حين ظهر له صورية ذلك العقد, واشتماله على بيوع محرمة, وهنا يجب أخذ الحيطة من الوقوع في الحيل الربوية, والتي ربما تكون أعظم من الوقوع في الربا الصريح, والله تعالى أرحم بعباده, وهو سبحانه أعلم وأحكم .
================
البنك الإسلامي (الإسرائيلي)!!
مهنا الحبيل 24/1/1428
12/02/2007
حين وُلدت التجارب الأولى للمصارف الإسلامية كان هناك خطاب مصاحب لها يؤصل ويكرس مبادئ التشريع الإسلامي في الاقتصاد، وكيف أن أساس الاقتصاد الرأسمالي المستبد والساحق للفرد وللطبقة الوسطى والفقيرة يتناقض مع أساس العدالة التي ركزها الاقتصاد الإسلامي بتداول الأموال، وفتح باب البيع والشراء، وإدارة الأموال، وتنشيط القوى البشرية، وزيادة أعداد المستفيدين من إنماء المجتمع، وفرص إدارة الثروة الوطنية لبلدان المسلمين داخل قطاعات الاستثمار وذات العلاقة المباشرة بأهالي هذه الأقاليم التي تتواجد فيها تلك الثروات والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية.
وحين بدأت التطبيقات تُمارس على الواقع الاقتصادي ودوائر السوق ذات العلاقة المندمجة مع الإدارة الدولية في قبضة البنوك العالمية تغير المشهد، وأصبحت معاملات هذه المصارف الإسلامية تُحاول شرعنة تلك المشاريع والعمليات بتخفيف الحد الأدنى من الشروط الذي يعفيها من الربا الصريح، ولكن تبقى آلية وطريقة و تداول المعاملات المالية هي نفسها بذات الرأسمالية العميقة، خلافاً -وبالقطع- مع منهج التشريع الإسلامي العادل، مع احترامنا وتقديرنا لشخصيات الهيئات الشرعية، ولكننا نتحدث عن التطبيقات والمفاهيم في أرض الواقع.(5/97)
وهو ما حدا بالمفكر الباكستاني الشهير خورشيد أحمد -وهو أحد أبرز منظري الاقتصاد الإسلامي- أن يعلن في ذلك الزمن أن المصارف الإسلامية هي مصارف لا ربوية وليست إسلامية، وشرح موقفه هذا بناء على مفهوم العناية بالفقراء ومتوسطي الدخل التي يضمنها الاقتصاد الإسلامي، مع تحقيق الربح والنجاح؛ لأن هذه المصارف ليست جمعيات خيرية، لكنها من المفترض أن تدشن بعد كل هذه السنوات من التجربة نماذج قائمة على الأرض تمثل بوضوح فلسفة الاقتصاد الإسلامي، وهو ما لم يحصل مع الأسف الشديد.
ولا بد هنا من أن أوضح أنه تبقى قضية الربا الصرف حالة من حالات المعصية الاجتماعية الكبرى، بإجماع أهل السنة في مشارق الأرض ومغاربها، استطاعت المصارف الإسلامية تحقيق بديل مع كثير من التحفظات عليه، ولكن البيع بالمرابحة للآمر بالشراء وبيع الآجال وغيرها أعفى البعض من تداول القروض الربوية المباشرة.
ثانياً: كنا نتفهم بأن تجربة الاقتصاد الإسلامي حديثة، وقد نشأت مع وجود اقتصاد دولي إقطاعي ورأسمالي مهيمن، لكننا بدل أن نرى انتقالاً كلياً وتنوعاً جديداً في المشاريع الاقتصادية الإسلامية أصبحنا نعيش مرحلة تكريس لذلك الإقطاع والإثراء، ولكن بصيغة يُطلق عليها إسلامية، ثم استبدلت كل تلك البنوك لافتاتها أو افتتحت لافتة أخرى لمعاملات إسلامية، ولم يتغير غالباً حال المال لديها، ولا تداوله، ولا جهاته الاستثمارية الكبرى، ولا نسبة الربح، إنما كل ما تغير هو الاستمارات المطبوعة للمشاريع المسوقة لدى هذا المصرف أو ذاك، هذه إسلامية بختم اللجنة الشرعية وتلك تجارية.
ولعل أبرز ما أثار هذه القضية هو انهيار أسواق الأسهم في الخليج، وقيام بعض المصارف التي تهتف بأنها إسلامية بإغراء صغار المساهمين لأخذ قروض تمويل كبيرة ثم تسييل محافظهم عند أول انهيار، وسحق أولئك البسطاء، ومتوسطي الدخل، وبعض المقتدرين، وإخراجهم بين عشية وضحاها إلى أهل فاقة مستحقين للزكاة، كما فعلت البنوك التجارية وأكثر.
إننا لن ننكر الحالة المصرفية-وكما قلت- التي بدأت تبعد المجتمع عن الربا، غير أن هذه القضية -أي رفع شعار المصارف الإسلامية- لها تبعات عند الله والناس تثير أسئلة خطيرة يجب على تلك البنوك الإجابة عنها، وتطرح بدائل وخيارات حقيقية تنموية للشرق الإسلامي والجنوب الإنساني المضطهدين، ولا تتحول كجناح آخر للإرادة الدولية الاستعمارية في الاقتصاد، ومن يسيطرون عليه، ويعرف الجميع من هم وأين هم، وألاّ يتذمر منسوبو هذه المصارف من مساءلة الناس والمختصين: من أين لكم هذا؟
============
حكم تداول أسهم الشركات التي في مرحلة التأسيس
(شركة الصحراء للبتروكيماويات أنموذجا)
د.يوسف بن عبدالله الشبيلي (*) 5/6/1425
22/07/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فيكثر السؤال في هذه الأيام عن حكم تداول أسهم شركة الصحراء ، وهي شركة حديثة التأسيس رأسمالها ألف وخمسمائة مليون ريال ، أنشأت بغرض الاستثمار في المنتجات البتروكيماوية ، وقد طرحت أسهمها للتدوال بيعاً وشراءً مع أن أغلب موجوداتها في هذه الفترة من النقود ، وليس لها مشروعات إنتاجية قائمة حتى الآن .
وتحقيقاً للفائدة فقد جمعت هذه الأحرف اليسيرة لاستبانة الحكم الشرعي لتداول هذه الأسهم ، وقسمت هذه الورقة إلى العناصر الآتية :
الأول : موجودات الشركات المساهمة .
الثاني : التكييف القانوني والشرعي للسهم .
الثالث : بيع الأسهم ذات الموجودات المختلطة وعلاقته بمسألة " مد عجوة ودرهم " .
الرابع : خلاصة البحث .
أسأل الله أن يلهمنا الصواب ، وأن يجنبنا الزيغ والارتياب .
أولاً-موجودات الشركات المساهمة
لا تخلو عامة الشركات المساهمة في أي لحظة من اللحظات من الموجودات الآتية :
أولاً- الأعيان :
والمقصود بالأعيان هنا: ما سوى النقود والديون ، وهي ما يعبر عنها بلغة المحاسبة الحديثة بـ (الأصول الحقيقية)، وتشمل:
أ- الأصول الثابتة :
وهي إما أن تكون :
1. عقارات : كالأراضي والمباني والضيعات ونحو ذلك .
2. أو منقولات : كالسيارات المعدة للاستخدام ، والأجهزة والأثاث ونحو ذلك من عروض القنية .
ب- الأصول المتداولة غير المالية :
وهي ما يعبر عنها الفقهاء بـ (( عروض التجارة )) ، وهي العروض المعدة للبيع ، سواء كانت منتجات زراعية أو صناعية أو تجارية أو طبية أو غير ذلك .
ثانياً- المنافع :
المنفعة لغة : ما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه(1)
والمقصود بالمنفعة هنا : الفائدة العرضية التي تستفاد من الأعيان بطريق استعمالها ، كسكنى المنازل وركوب السيارة ولبس الثوب وعمل العامل ، ولا تتناول الفوائد المادية كاللبن بالنسبة إلى الحيوان ، والتمر بالنسبة إلى الشجر والأجرة بالنسبة إلى الأعيان التي تستأجر ونحو ذلك(2)
وعرفها ابن عرفه : ما لا يمكن الإشارة إليه حساً دون إضافة ، يمكن استيفاؤه ، غير جزء مما أضيف إليه(3)
فالمنافع تكتسب من الأعيان بواسطة استعمالها ، وهي الهدف من ملكية الأعيان وغايتها في الحقيقة ، فليس تملك الأعيان إلا لأجل الحصول على منافعها .
غير أن ملك المنفعة قد يكون مستقلاً ومنفصلاً عن ملك مصادرها من الأعيان فيملك منفعة العين من لا يملك العين ، وعندئذٍ يكون له ملك المنفعة دون ملك العين (4)
فمن ملك داراً فقد ملك عينها ومنفعتها ، ومن استأجر داراً للسكنى ملك منفعة سكناها ومن استأجر عاملاً لعمل معين ملك عمله الذي حدد في عقد الإجارة .
فالمنفعة تارة يكون محلها عيناً من الأعيان كالسكن بالنسبة للدور ، وتارة يكون محلها الذمم كالأعمال بالنسبة للعمال (5)
وتتجسد ملكية المنافع في الشركات المساهمة في حال وجود أصول ذات منافع كالمباني والآلات ، أو منافع مجردة كالبيوت المستأجرة ، والموظفين والعمال التابعين للشركة .
ولا خلاف بين الفقهاء على جواز المعاوضة على المنافع من حيث الأ(6)، فيمكن أن يكون ثمناً ومثمناً ، كما لو استأجر رجل داراً مقابل انتفاع المؤجر بسيارة المستأجر (7).
ثالثاً-الحقوق المعنوية :
وهذه الحقوق ملازمة لوجود الشركة منذ تأسيسها ، إذ لا تخلو شركة مساهمة - ولو في مرحلة التأسيس - من هذه الحقوق .
وتشمل هذه الحقوق : الاسم التجاري للشركة ، والتصريح بالاكتتاب والتداول ، والدراسات السابقة لنشأتها ، وكلفة المخاطرة ، وكفاءة الإدارة وجودتها وغير ذلك .
فحصة مستثمر مع مدير للاستثمار ذي كفاءة عالية قيمتها عند البيع أعلى من حصة آخر مع مدير كفاءته أقل ، ولو تساوت حصتاهما من حيث القيمة الرأسمالية النقدية ، لأن الزيادة ليست بسبب زيادة في الموجودات العينية بل بسبب قوة الإدارة.
وقد توهم البعض أن هذه الحقوق المجردة ليست محلاً للعقد ، لأنها ليست بمال متقوم شرعاً ، وهذا الرأي ضعيف جداً ، فإن المعاوضة كما تكون على عينٍ محسوسة يصح أن تكون على حقٍ معنويٍ غير ملموس ، وقد أجاز جمهور الفقهاء بيع الحقوق المجردة ، مثل حق المرور ، وحق التعلي ، وحق التسييل ، وحق الشرب ، وحق وضع الخشب على الجدار ، وحق فتح الباب ، ونحو ذلك (8)، ودلت الشريعة على جواز المعاوضة ببذل المال للتنازل عن حقٍ من الحقوق ، كالمصالحة على العفو عن القصاص ، والخلع ، والصلح بعوض للتنازل عن حق الشفعة ، وبيع العربون ، وغير ذلك من المعاوضات التي يكون محل العقد فيها حقاً مجرداً .
رابعاً-النقود :
وبيع النقد بنقد هو الصرف ، ويشترط فيه :
1. التماثل إذا بيع النقد بجنسه ، فإن بيع بغير جنسه فلا يشترط التماثل .(5/98)
2. والتقابض في الحال .
خامساً- الديون :
وقد تكون بسبب تسهيلات ائتمانية من الشركة لبعض عملائها ، أو مستحقات مالية بسبب بيوعٍ آجلة ونحو ذلك .
وقد اختلف أهل العلم في حكم بيع الدين من غير من هو عليه والأظهر هو جواز بيع الدين من غير من هو عليه بثمن حاضر ، بالشروط الآتيه :
1. ألا يتفق العوضان (الدين وعوضه) في العلة الربوية ، كأن يكون الدين ريالات ويشترى بريالات أو دولارات ، أو يكون الدين براً ويشترى بتمر أو ببر ، لأن من شرط المبادلة بين هذه الأصناف التقابض ، ولا يتحقق القبض إذا كان أحدهما ديناً . قال في القواعد الفقهية : ((بيع الصكاك قبل قبضها ، وهي الديون الثابتة على الناس .. فإن كان الدين نقداً وبيع بنقد لم يجز بلا خلاف ، لأنه صرف بنسيئة)) (9).
2. ألا يربح الدائن من البيع ، فله أن يبيعه بنفس قيمته أو بأقل ولا يزداد ، لئلا يدخل في النهي عن ربح ما لم يضمن .
فهذه هي الموجودات المعتادة للشركة المساهمة ، حيث تتألف من الأعيان والمنافع والحقوق والنقود والديون ، أو من أوراق مالية ترجع إلى شيء من ذلك .
وفي الشركات التي في مرحلة التأسيس تكون الغالبية العظمى من هذه الموجودات هي النقود المحصلة من أموال المكتتبين ، ففي شركة الصحراء مثلاً تصل نسبة النقود من موجودات الشركة في هذه الفترة ما يزيد عن تسعين بالمائة حسب إفادة القائمين عليها ، ومع ذلك فالشركة لا تخلو من بعض الموجودات الأخرى ذات القيمة المعتبرة شرعاً ، كالحقوق المعنوية ومنافع الأعيان والأشخاص العاملين فيها إضافة إلى بعض الممتلكات اليسيرة .
والسؤال المطروح الآن :هل المعتبر عند بيع هذه الأسهم قيمتها السوقية بغض النظر عما تمثله من موجودات في الشركة ؟ أم ينظر إلى موجودات الشركة ويأخذ البيع حكم تلك الموجودات ؟
وعلى الثاني يجب أن تطبق شروط الصرف في بيع أسهم الشركات التي أغلب موجوداتها النقود ، فيلزم التماثل والتقابض ، ويتحقق التماثل في بيع الأسهم أثناء فترة الاكتتاب وقبل التشغيل ببيعه بقيمته الاسمية دون زيادة أو نقصان ، أما بعد التشغيل فيتحقق التماثل ببيع السهم بقيمته الحقيقية ، وهي النصيب الذي يستحقه السهم في صافي أموال الشركة ، فيشمل رأس المال المدفوع وموجودات الشركة وما أضيف إلى رأس المال من الأرباح والاحتياطيات (10).
وتساوي هذه القيمة : القيمة الدفترية لآخر فترة ، مضافاً إليها الأرباح المحتجزة .
والجواب عن هذا السؤال يتطلب تحرير التكييف القانوني والشرعي للسهم ، وعلاقة السهم بموجودات الشركة ، وهذا ما سنجيب عنه بمشيئة الله تعالى في الأسطر القادمة
ثانياً-التكييف القانوني والشرعي للسهم
التكييف القانوني :
السهم في القانون التجاري هو صك يمثل حصة في رأس مال شركة المساهمة(11).
وللأسهم خصائص متعددة منها :التساوي في القيمة ، والقابلية للتداول ، والقابلية للتسييل (12) ، وعدم القابلية للتجزئة ، وغير ذلك (13).
وخلافاً للنظرة الشرعية ، فإن القانون التجاري – بما يمنحه للشركة المساهمة من شخصية اعتبارية – يميز بين ملكية السهم ، وملكية الأصول والأعيان التي يتضمنها السهم .
فالسهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة ، بحيث إن الحصص المقدمة للمساهمة في الشركة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة ، ويفقد الشركاء المستثمرون كل حق عيني عليها ، ولا يبقى لهم إلا حق في الحصول على نصيب من أرباح الشركة أثناء وجودها ، وفي اقتسام قيمة بيع موجوداتها عند التصفية .
ولقد لا حظت كثير من القوانين هذا الاستقلال ففرضت ضريبة الدخل أو الأرباح على الشركات بشكل منفصل عن ضريبة الدخل على الأفراد ، فالشركة تدفع ضريبة على مجموع أرباحها سواء وزعتها أم لم توزعها ، والمستثمر يدفع ضريبة أيضاً عما حصل عليه من أرباح موزعة ، دون أن يعتبر ذلك ازدواجاً ضريبياً ، لأن للشركة أو الصندوق الاستثماري شخصية قانونية وذمة مالية مستقلتين عما للمستثمرين أفراداً أو مجتمعين (14).
التكييف الشرعي للسهم :
لا يختلف التكييف الشرعي للسهم كثيراً عن التكييف القانوني ، إلا في دمج ملكية السهم بملكية موجوداته ، فالسهم لا يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان ، بل إن الشركة أو الوعاء الاستثماري مملوك بما فيه للمساهمين .
وعلى هذا فالتكييف الشرعي للسهم أنه: ((حصة شائعة من موجودات الشركة ، أياً كان نوع هذه الموجودات)).
فقد تكون موجودات الشركة أصولاً مالية – نقوداً أو أوراقاً مالية – ، وقد تكون أصولاً حقيقية من عقارات وسلع ومنافع وغير ذلك ، وقد تكون مزيجاً من هذه الأصول أو بعضها .
وقد أوجدت الطبيعة المزدوجة للسهم ، تبايناً في وجهات النظر عند العلماء المعاصرين ، في تحديد النظرة الشرعية التي يجب أن يعامل بها السهم لتنزيل الأحكام الشرعية عليه .
فمع أن الجميع متفقون على أن السهم حصة شائعة في موجودات الشركة ، إلا أن قابليته للتداول والتسييل بسهولة جعل البعض يميل إلى تكييفه على أنه (( عَرْضٌ )) مطلقاً بصرف النظر عما يتكون منه من نقود أو ديون أو منافع أو غير ذلك ، وهو رأي يقترب من النظرة االقانونية التي قدمناها آنفاً ، والتي تفصل بين ملكية السهم ، وملكية موجوداته ، فموجودات الشركة ليست بالضرورة – على هذا الرأي – هي موجودات السهم .
ويظهر أثر هذا الاختلاف جلياً في ثلاثة أبواب من أبواب الفقه ، هي :
- باب الزكاة .
- وباب البيع .
- وباب الرهن .
وفيما يلي عرض لهذين الرأيين ، وما يترتب على كل منهما من أثر في هذه الأبواب ، وإن كان بعضهم قد أبدى رأيه في باب دون الآخر إلا أن إجراء الحكم في جميع المسائل من لازم قوله .
فنقول :
اختلف العلماء المعاصرون في تكييف الأوراق المالية التي تمثل حصص ملكية كالأسهم على قولين:
القول الأول :
يرى بعض العلماء أن الأسهم أموال قد اتخذت للاتجار ، فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء ، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته ، فهي بهذا الاعتبار عروض تجارة ، مهما كانت موجودات أو طبيعة عمل الشركة التي أصدرتها (15).
وإلى هذا ذهبت ندوة البركة الثانية ، وبعض الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية وذلك إذا كان من ضمن موجودات الشركة نسبة ولو يسيرة من الأعيان (غير النقود والديون) (16)
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي :
الحجة الأولى :
قوله عليه الصلاة والسلام : ((من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)) (17).
ووجه الدلالة منه : أنه اجتمع في المبيع : عبد وهو عَرض ، ومال ، فأعطي الجميع حكم العرض ، فيجوز بيعه سواء كان المال الذي معه معلوماً أو مجهولاً ، من جنس الثمن أو من غيره ، عيناً كان أو ديناً ، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر (18).
وقياساً على ذلك يجوز بيع الورقة المالية بغض النظر عما في موجوداتها من الديون والنقود ، فإن من موجوداتها عروضاً من مبانٍ وآلات ونحو ذلك ، ونقوداً ، فتأخذ حكم العروض بدلالة الحديث .
ويمكن مناقشة هذه الحجة :
(بأن الحديث محمول على أن قصد المشتري للعبد لا للمال ، فيدخل المال في البيع تبعاً ، فأشبه أساسات الحيطان والتمويه بالذهب في السقوف ، فأما إذا كان المال مقصوداً بالشراء فيجوز اشتراطه إذا وجدت فيه شرائط البيع من العلم به ، وألا يكون بينه وبين الثمن ربا ، كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين ، لأنه مبيع مقصود) (19)أ.هـ.(5/99)
وعليه : فيصح الاستدلال لو كان القصد من الورقة المالية هو العروض دون النقود .
ويجاب عن هذه المناقشة :
بأن المساهم – عند شرائه السهم – لا يقصد امتلاك موجودات ذلك السهم ، بل لربما لا يعرف مافي الشركة من موجودات ، وإنما قصده الحصول على الربح إما بالمضاربة بالسهم في السوق المالية (الأرباح الرأسمالية) أو بالاحتفاظ به حتى موعد توزيع الأرباح (الأرباح الدورية)، فالنقود أو الديون التي من موجودات الشركة ليست مقصودة له ولو كانت تمثل النسبة العظمى من تلك الموجودات .
الحجة الثانية :
أن الأوراق المالية ومنها الأسهم أصبحت سلعاً تباع وتشترى ، وصاحبها يكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته ، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق ، تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية (20).
ويمكن مناقشة هذه الحجة :
بأن كون الأوراق المالية قابلة للتداول لا يخرجها عن ماهيتها وحقيقتها الشرعية ، فالنقود الورقية أصبحت سلعاً تباع وتشترى ، ومع ذلك فهي ليست عروض .
ما يترتب على هذا القول :
(1)- في الزكاة :
يجب أن تزكى الأوراق المالية زكاة عروض التجارة مطلقاً ، سواء قصد المشتري من امتلاك الورقة المالية التجارة أو الغلة ، وذلك بأن تقوم تلك الأوراق في نهاية الحول بقيمتها السوقية ، ويؤخذ ربع العشر من قيمتها.
(2)- في البيع (21).
ينطبق على بيع الورقة المالية أحكام بيع العروض ، فلا يجري فيها ربا الفضل أو النسيئة حتى ولو كان معظم موجوداتها نقوداً أو ديوناً ، فيجوز بيعها بالنقود بقيمتها السوقية ، وإن كانت مختلفة عن قيمتها الحقيقيه ( القيمة الدفترية + الأرباح ) ، ويجوز بيعها أيضاً من غير قبض لثمنها .
القول الثاني :
ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن للسهم حكم ما يمثله في موجودات الصندوق أو الشركة التي أصدرته ، من عروض أو نقود أو ديون أو منافع ، فيختلف حكمه باختلاف تلك الموجودات(22).
وبهذا القول صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الرابعه (23).
احتج أصحاب هذا القول بما يلي :
الحجة الأولى :
أن السهم ما هو إلا مستند لإثبات حق المساهم ، فلا قيمة له في نفسه وإنما بما يمثله من موجودات الشركة ، فيجب أن يأخذ حكمها (24).
نوقش :
بأن القيمة السوقية للسهم تختلف ارتفاعاً وهبوطاً ، فهي لا تمثل القيمة الحقيقية لموجودات الشركة(25).
أجيب :
بأن تقلب القيمة السوقية ارتفاعاً وهبوطاً أمر طبيعي لأن رأس المال المدفوع قد استخدمته الشركة في شراء موجوداتها ، وهذه الموجودات استخدمت في أنشطة إنتاجية قد تنجح فتقوي من مركز الشركة المالي ، وقد تفشل فيحدث العكس ، وفي كلتا الحالتين تتأثر القيمة الحقيقية للورقة ، وتبعاً لذلك تتأثر القيمة السوقية ، لأن القيمة الحقيقية تعتبر مؤشراً موضوعياً للقيمة السوقيه (26).
الحجة الثانية :
أن الشركة المساهمة إما أن تكون على سبيل المضاربة أو العنان ، وعلى كلا الحالين فإن نصيب الشريك نافذ على موجودات الشركة .
ويمكن مناقشة هذه الحجة :
بأن شركة المساهمة تختلف عن شركة المضاربة والعنان اللتين عرفهما الفقه الإسلامي باعتبارات متعددة ، منها :
1. أن شركة المساهمة من شركات الأموال التي تتجلى فيها الشخصية الاعتبارية المستقلة للشركة عن ملاكها ، بخلاف المضاربة والعنان فإنهما من شركات الأشخاص التي يرتبط تكوينها وماهيتها بأشخاص ملاكها ولهذا تفصل القوانين التجارية بين المساهمين الذين يمتلكون "الأسهم" والشركة التي تمتلك "الموجودات".
2. أن ملكية الأسهم منفصلة عن ملكية موجوداتها ، ولهذا لوصفيت الشركة لا يحق لأي من الشركاء المطالبة بقسمة الموجودات أو بحصته من أعيانها حتى ولو كانت مثلية ،بخلاف شركتي العنان والمضاربة فإن الأصل فيهما هو التصفية الحقيقية لا الحكمية (التقديرية) ، فلو طلب الشريك عند التصفية حصته بعينها من الموجودات أي المقاسمة لزم الآخر إجابته إلى ذلك ، قال في المغني : " وإن طلب أحدهما القسمة والآخر البيع أجيب طالب القسمة دون طالب البيع "(27) .
3. أن السهم –إذا تحقق المتعاقدان بأنفسهما أوبقول من يثقان به من خلوه من المحاذير الشرعية– فإنه يجوز تداوله بيعاً وشراءً وإن لم يعلما حقيقة ما يمثله من موجودات الشركة ، ولايعد بذلك من عقود الغرر ، لأن قصدهما في الربح لا في الموجودات ، والغرر إنما يؤثر في العقد إذا كان مقصوداً لا تابعاً ، أما حصة الشريك في العنان والمضاربة فلا يجوز بيعها أو شراؤها إلا بعد العلم بموجوداتها تحديداً وإلا كان من عقود الغرر ، لأن تلك الموجودات مقصودة بذاتها.
4. أن شركة المساهمة ذات مسؤلية محدودة بخلاف العنان والمضاربة .
5. قابلية السهم في الشركات المساهمة للتداول والتسييل بخلاف حصة الشريك في العنان والمضاربة .
6. اختلاف القيمة السوقية للسهم عن القيمة الحقيقية ( القيمة الدفترية + الأرباح ) بخلاف حصة الشريك في العنان والمضاربة فإن قيمتها عند التصفية بقيمة ما تمثله من موجودات .
7. ثبوت حق الشفعة في العنان والمضاربة عند توفر شروطه بخلاف الشركات المساهمة .
فكل هذه الاعتبارات وغيرها تمنع من تطبيق أحكام العنان والمضاربة وغيرها بحذافيرها على الشركات المساهمة ، وتجعل العلاقة بين السهم وموجوداته أضعف مما هي عليه في شركات الأشخاص.
ما يترتب على هذا القول :
1- في الزكاة : يأخذ السهم حكم زكاة موجودات الشركة التي أصدرته وطبيعة نشاطها ، فينظر إلى موجودات الشركة ونشاطها وتحسب الزكاة وفقاً لذلك .
2- في البيع : تأخذ الأوراق حكم بيع موجوداتها ، فإن كانت ديوناً فلها حكم بيع الديون وإن كانت نقوداً فلها حكم بيع النقود ، وإن كانت أعياناً أو منافع فلها حكم بيع الأعيان والمنافع .
الترجيح بين القولين السابقين :
مما لاشك فيه أن الخلاف السابق جوهري ويترتب عليه مسائل متعددة ، وأحكام متباينة ، ولكني سأحجم عن الترجيح بين القولين لأن نتيجة القولين في المسألة التي نحن بصدد دراستها بخصوصها واحدة كما سيأتي .
ثالثاً-بيع أسهم الشركات وعلاقته بمسألة "مد عجوة ودرهم"
عرفنا فيما تقدم أن موجودات الشركات المساهمة لا تخلو من كونها خليطاً من أنواعٍ متعددةٍ من الأموال ، ولكن أغلب هذه الموجودات في الشركات حديثة التأسيس تكون من النقود ، فعلى قول من يرى أن للأسهم حكم العروض مطلقاً فلا إشكال في تداول أسهم هذه الشركات بقيمتها السوقية بغض النظر عن موجوداتها ، لأن الحكم للأعيان مطلقاً ، اكتفاءً بمبدأ الخلطة ، فلا يشترط للبيع تقابض ولا تماثل ولو كانت النقود أو الديون هي الغالبة.
أما على رأي من يرى أن حكم بيع الأسهم له حكم بيع موجوداتها فإنه ينظر إلى الأغلب من تلك الموجودات ، فيعطي الأسهم حكم الأغلب فإن كانت الأعيان هي الغالبة ، فله حكم بيع الأعيان ، وإن كانت النقود هي الغالبة ، فله حكم المصارفة ، وإن كانت الديون هي الغالبة فله حكم بيع الديون .
وإلى هذا القول ذهب مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة (28).
ويجري على هذا القول – الثاني – الخلاف بين الفقهاء المتقدمين فيما إذا بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ، وتعرف بمسألة (( مد عجوة ودرهم )) (29).
وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
1. المنع مطلقاً .
2. الجواز إن كان المفرد أكثر من الذي معه غيره ، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه .
3. الجواز إن كان غير الربوي تابعاً .(5/100)
وقبل الشروع في ذكر الخلاف وما يترتب عليه وحجج كل فريق ، يحسن أولاً تحرير محل النزاع في المسألة .
فثمت مسائل اتفقت هذه الأقوال عليها :
1- إن باع ما فيه الربا بغير جنسه ، ومعه من جنس ما بيع به ، إلا أنه – أي الربوي – تابع غير مقصود ، فإن كان يسيراً ، فالبيع جائز ، قال ابن قدامة : (( لا أعلم فيه خلافاً )) (30).
ووجود الربوي في هذا البيع كعدمه .
وذلك مثل أن يشتري داراً مموهاً سقفها بالذهب ، بذهب ، أو بدار سقفها مموه بالذهب .
وتتفاوت المذاهب في تحديد القدر الذي يتسامح فيه بوجود الربوي في الصفقه ، فنجد المذهب الشافعي أشد هذه المذاهب ثم المالكي والحنبلي ثم الحنفي .
فالشافعية يضبطون ذلك بأن يكون الربوي يسيراً تابعاً بالإضافة إلى المقصود ، كبيع حنطة بشعير ، وفيها أوفي أحدهما حبات من الآخر يسيرة (31).
والحنابلة يحددون ذلك بأن يكون الربوي التابع يسيراً غير مقصود ، كالملح فيما يعمل فيه ، أو كثيراً لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب (32).
بينما يرى المالكية جواز بيع المحلى إذا بيع بنقد من غير جنسه بثلاثة شروط :
الأول : أن تكون الحلية مباحة ، كتحلية السيف والخاتم ونحوهما ، فإن كانت محرمة كالثياب فلاتجوز.
الثاني : أن تكون الحلية مسمرة .
الثالث : أن يباع معجلاً من الجانبين ، لأن العقد اجتمع فيه بيع وصرف .
فإن بيع بجنسه فيشترط إضافة إلى ما تقدم شرط رابع وهو أن تكون الحيلة بقدر الثلث فأقل .
ومع هذه الشروط فالمالكية يرون أن العقد مشتمل على المصارفة ولذا اشترطوا التقابض .
وفيما سوى ذلك لا يجوز بيع ما فيه فضة أو ذهب بنوع ما فيه منهما إلا أن يكون ما فيه من الفضة والذهب إذا نزع لم يجتمع منه شيء له بال فلا بأس حينئذٍ ببيعه بنوع ما فيه نقداً أو نسأً ، لأن وجود النقد كعدمه (33).
ويقيد الحنفية ذلك بما إذا كان النقد يسيراً كالتمويه اليسير الذي لا يحصل منه شيء يدخل في الميزان بالعرض على النار ، فوجود الربوي في هذه الحالة لا يؤثر (34).
ويرى الإمام الأوزاعي : إن كانت الحلية تبعاً وكان الفضل في الفضل جاز بيعه بنوعه نقداً وتأخيراً(35).
2- لا أعلم خلافاً بين العلماء أنه إذا بيع ربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسه ، وكان كل منهما – أي الربوي وغير الربوي – مقصوداً في العقد ، فيجب التقابض بين العوضين .
فحتى الأحناف الذين يرون صحة البيع لا ينازعون في أن العقد يشتمل على الصرف فيجب فيه التقابض .
قال في الهداية : ((إن باع سيفاً محلى بمائة درهم ، وحليته خمسون فدفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة .. فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية)) قال في الشرح: ((لأنه صرف فيها)) (36).
3- إذا بيع النقد من غير جنسه ومع أحدهما أو كليهما متاع ، كما لو بيع ذهب بفضة وثوب ، أو ريالات بدولارات وكتاب ، وحصل التقابض في المجلس ، صح العقد عند الجمهور مطلقاً مجازفة كان أو متفاضلاً أو متساوياً لاختلاف الجنسين ، ويصح عند المالكية أيضاً بشروطهم السابقة (37).
فإذا بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ، وكان كل من الربويين مقصوداً في العقد ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول :
المنع مطلقاً .
وهذا مذهب الجمهور من المالكية(38)، والشافعية(39)، والحنابلة في الرواية المشهورة (40)والظاهرية. (41).
استدل أصحاب هذا القول بما يلي :
الدليل الأول :
ما روى فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزناً بوزن))(42).
ووجه الدلالة منه : (( أنه أمر بنزع الخرز وإفراد الذهب ليمكن بيعه ، ولو جاز بيعه مع الخرز لما احتاج إلى وزنه ، ثم قال : ((الذهب بالذهب وزناً بوزن)) فنبه بذلك إلى أن علة إفراده بالبيع أن يتحقق فيه الوزن بالوزن)) (43).
نوقش هذا الاستدلال من جهتين :
الأولى : من حيث ثبوته :
فإن الحديث مضطرب ، فقد روي بألفاظٍ مختلفة (44)، ، ففي بعض الروايات أنه اشترى قلادة ((فيها خرز وذهب))(45).
وفي بعضها ((ذهب وجوهر)) (46). ، وفي بعض الروايات أنها بيعت ((باثني عشر ديناراً)) (47)، وفي بعضها (( بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير)) (48).
أجيب :
(( بأن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب ، وحينئذٍ فينبغي الترجيح بين رواتها ، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم ، وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة )) (49).
الثانية : من حيث دلالته :
فإن الحديث لا دلالة فيه على المقصود لأمرين :
الأول : أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لأن ذهب القلادة أكثر من ذهب الثمن بدليل ما جاء في بعض روايات مسلم : ((أنه اشتراها باثني عشر ديناراً ، قال : ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً))(50).
الثاني : ويحتمل أنه رده لأن هذه القلادة لا يعلم مقدار ذهبها أهو مثل وزن جميع الثمن أو أقل من ذلك أو أكثر ، ومن شرط صحة البيع التحقق من أن الثمن أكثر من الذهب (51).
أجيب :
بأن ما ذكر من احتمالات غير وارد لثلاثة أمور :
1. (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الجواب من غير سؤال فدل على استواءالحالين)) (52).
2. أنه جاء في رواية أبي داود أن المشتري قال : (( إنما أردت الحجارة )) فدل على أن الذهب يسير دخل على وجه التبع (53).
3. أن فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو صاحب القصة قد حمل النهي على العموم ، فقد سئل عن شراء قلادة فيها ذهب وورق وجوهر ، فقال : انزع ذهبها فاجعله في كفة ، واجعل ذهبك في كفة ، ثم لا تأخذه إلا مثلاً بمثل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل))(54).
الدليل الثاني :
عموم الأحاديث في النهي عن بيع الربوي بجنسه إلا مثلاً بمثل ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ))
ووجه الدلالة : أن وجود شيء مع الربوي يمنع من تحقق المساواة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح البيع إلا بفصل الربوي وحده .
ويناقش :
بأن شرط المساواة متحقق فيما إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره ، بأن يجعل الربوي المخلوط بما يقابله من المفرد ، وما فضل من المفرد بالخِلط الذي مع الربوي .
الدليل الثالث :
أن العقد إذا جمع عوضين مختلفي القيمة ، كان الثمن مقسطاً على قيمتهما على الشيوع ، لا على أعدادهما .
يوضح ذلك أصلان :
أحدهما : أن من اشترى شقصاً (55).من دارٍ وعبداً بألف فاستحق الشقص بالشفعة كان مأخوذاً بحصته من الثمن اعتباراً بقيمته وقيمة العبد ولا يكون مأخوذاً بنصف الثمن .
الثاني : أن من اشترى عبداً وثوباً بألف ثم استحق الثوب أو تلف كان العبد مأخوذاً بحصته من الألف ، ولا يكون مأخوذاً بنصف الألف .(5/101)
وبتطبيق ذلك على العقد هنا يلزم الفساد لأن العقد يتردد بين أمرين : إما العلم بالتفاضل أو الجهل بالتماثل ، وكلاهما مفسد للعقد ، لأنه يجوز أن تكون قيمة المد الذي مع الدرهم أقل أو أكثر أو يكون درهماً لا أقل ولا أكثر ، فإن كان أقل أو أكثر كان التفاضل معلوماً ، وإن كان درهماً كان التماثل مجهولاً ، لأن التقويم ظن وتخمين والجهل بالتماثل – في باب الربا –كالعلم بالتفاضل ، ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرصِ (56).
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه :
الأول : أن انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة لا دليل عليه (57).
الثاني : (( أن مطلق المقابلة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس على سبيل الشيوع من حيث القيمة كما قلتم ، وتحتمل مقابلة الجنس بخلاف الجنس .. إلا أنا لو حملناه على الأول لفسد العقد ، ولو حملناه على الثاني لصح ، فالحمل على ما فيه الصحة أولى )) (58).
الثالث : وعلى فرض التسليم بأن التماثل مبني على الظن ، فإن بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص جائز عند الحاجة ، إذا تعذر الكيل أو الوزن ، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها (59).
الدليل الرابع :
أن هذا العقد ممنوع سداً لذريعة الربا ، فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح وارد ، كبيع مائة درهم في كيس بمائتين جعلاً للمائة في مقابلة الكيس ، وقد لا يساوي درهماً (60).
القول الثاني :
الجواز إذا كان ما مع الربوي تابعاً .
فيجوز بيع الفضة التي لم يقصد غشها بالخالصة مثلاً بمثل .
وهو رواية في مذهب الإمام أحمد (61).
، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه في أحد قوليه (62).استدل أصحاب هذا القول :
بقوله عليه الصلاة والسلام: ((من ابتاع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع )).
ووجه الدلالة منه : أن الحديث دل على جواز بيع العبد بماله إذا كان قصد المشتري للعبد لا للمال ، فيجوز البيع سواء كان المال معلوماً أو مجهولاً ، من جنس الثمن أو من غيره ، عيناً كان أو ديناً ، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر(63).
ويقاس عليه إذا كان الذي مع الربوي تابعاً غير مقصود (64).
ويناقش :
بأن الربوي في مسألة مد عجوة ودرهم مقصود بالعقد ، أما المال الذي مع العبد فالمقتضي لجواز بيعه بثمن من جنسه كونه تابعاً غير مقصود بالأصالة ، ولا يصح قياس إحدى المسألتين على الأخرى لأمرين:
الأول : أن الربوي إذا كان تابعاً غير مقصود لا يتصور كون العقد حيلة على الربا ، بخلاف ما إذا كان غير الربوي هو التابع .
الثاني : أنه إذا بيع الربوي بما يساويه من جنسه ومع أحدهما جنس آخر غير مقصود ، فإن ذلك يؤدي إلى التفاضل ، لأن غير الربوي له قسط ولو يسيراً من قيمة العوض المفرد .
القول الثالث :
جواز بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره ، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسهما .
وهذا مذهب الأحناف (65).، ورواية عن الإمام أحمد ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه في أشهر قوليه (66)، وقيد الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية الجواز بقيدٍ آخر وهو ألا يكون القصد من هذه المعاملة التحايل على الربا ، وذلك بأن يكون لما مع الربوي قيمة حقيقية (67).
وجوز الشافعية في وجه ضعيف عندهم : إذا باع مداً ودرهماً بمد ودرهم ، والدرهمان من ضرب واحد ، والمدان من شجرة واحدة فإنه يصح(68).
فعلى هذا القول : من باع سيفاً محلى بثمن أكثر من الحلية ، وكان الثمن من جنس الحلية جاز وذلك لمقابلة الحلية بمثلها ذهباً كانت أم فضة ، والزيادة بالنصل والحمائل والجفن (69).
فإن تساوى المفرد مع المضموم إليه غيره ، أو كان المفرد أقل بطل البيع ، لتحقق التفاضل ، وكذا إذا لم يدر الحال لاحتمال المفاضلة أو الربا .
قال في الهداية : (( ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهباً بذهب ، وأحدهما أقل ، ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية ، وإن لم تبلغ فمع الكراهة ، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع )) (70).
فإن تساوى المفرد مع المضموم إليه غيره ، أو كان المفرد أقل بطل البيع ، لتحقق التفاضل ، وكذا إذا لم يدر الحال لاحتمال المفاضلة أو الربا .
قال في الهداية : ((ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهباً بذهب ، وأحدهما أقل ، ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية ، وإن لم تبلغ فمع الكراهة ، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع)) (71).
نوقش هذا الاستدلال من وجهين :
الأول : أن الواجب حمل العقد على ما يقتضيه من صحة وفساد ، وليس تصحيح العقد ، ولو كان ما قالوه أصلاً معتبراً لكان بيع مد تمر بمدين جائزاً ليكون تمر كل واحد منهما بنوى لآخر (72).
الثاني : أن هذا منتقض (( بمن باع سلعة إلى أجل ثم اشتراها نقداً بأقل من الثمن الأول فإنه لا يجوز عند الأحناف مع إمكان حمله على الصحة ، وهما عقدان يجوز كل واحد منهما على الإفراد ، فجعلوا العقد الواحد هاهنا عقدين ليحملوه على الصحة فكان هذا إفساداً لقولهم))(73).
الدليل الثاني :
أن الربا إنما حرم لما فيه من ظلم يضر المعطي ، وقد يكون في هذه المعاوضة مصلحة للعاقدين هما محتاجان إليها ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، والمنع من ذلك مضرة عليهما ، والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة ، ويوجب المضرة المرجوحة ، كما قد عرف ذلك من أصول الشرع (74).
الترجيح :
باستعراض الأقوال المتقدمة وأدلتها نجد أن الفريق الثالث يستند إلى البراءة الأصلية بينما استدل الفريقان الأول والثاني على المنع بأدلة لا تخلو من مناقشة :
فحديث فضالة بن عبيد – وهو عمدة المانعين – لا يسلم الاستدلال به للاحتمالات الواردة عليه ، وهي احتمالات قوية ، والقاعدة أن الدليل إذا طرأ عليه الاحتمال ، وكان الاحتمال قوياً ، بطل به الاستدلال .
وأجوبة الفريق الأول عن هذه الاحتمالات غير وجيهة لأن الثابت في صحيح مسلم أن الذهب الذي في القلادة أكثر من الثمن .
وأما الدليل العقلي فقد أجيب عنه .
ويبقى كون العقد ذريعة إلى الربا ، وهو دليل متوجه وقوي ، لكن ينبغي حمله على ما إذا تضمن العقد تحايلاً على الربا ، فيحرم لذلك ، أما إذا لم يكن حيلة للربا بأن كان ما مع الربوي مقصوداً فعلاً للعاقد فلا يظهر المنع ، لا سيما وأن هذه المعاملة قد يحتاج إليها العاقدان ، ولا يتمكنان من إجراء العقد على سبيل التفضيل بأن يقول : بعتك مداً بمد ، ودرهماً بمد ، وهي الصورة التي يجيزها الفريق الأول(75).
وأقرب شاهد على ذلك العقد الذي نحن بصدده ، وهو بيع الأسهم التي موجوداتها مختلطة ، فمن الصعوبة بمكان أن يلزم العاقدان بالتفصيل على النحو السابق .
ولذلك فإن الذي يترجح هو جواز هذه المعاملة إذا لم تكن حيلة على الربا وكان الربوي المخلوط أقل من الربوي المفرد ، وذلك بأن يكون ما مع الربوي له قيمة حقيقية ، ولم يؤت به للتحليل ، والله أعلم .
وتطبيقاً للأحكام السابقة :
فعلى فرض صحة القول الثاني وهو أن بيع الأسهم له حكم بيع موجوداتها :
1. فإن بيع الأسهم إذا كانت موجوداتها مختلطة من نقود وغيرها وكانت تلك النقود مقصودة لذاتها فالبيع لا يصح عند الجمهور إلا إذابيعت بعملة غير عملة الأسهم فيصح عند الجميع سوى المالكية .
وأما على القول الراجح فيصح البيع بنفس العملة بشرطين :
الأول : أن يكون الثمن الذي يشترى به السهم أكثر من قيمة موجوداته من النقود والديون .(5/102)
الثاني : أن يتقابضا العوضين - شهادة الأسهم وثمنها -قبل التفرق .
2- فإن كانت موجودات الأسهم من النقود والديون تابعة غير مقصودة فيصح البيع مطلقاً عند الجميع من غير اشتراط التقابض أو زيادة الثمن على قيمة تلك النقود والديون ، لأن هذه النقود تابعة فلا حكم لها والقاعدة عند أهل العلم أن " التابع تابع " و " يثبت تبعاً ما لايثبت استقلالاً".
والذي يحدد كون النقود والديون تابعة أم لا ، هو طبيعة نشاط الشركة ، فإذا كانت الشركة تستثمر أموالها في بيوع آجلة فالديون أصيلة فيها حتى ولو كانت نسبتها – عند بيع السهم -من الموجودات قليلة.
وإذا كانت الشركة مصرفية فالنقود أصيلة فيها ولو كانت نسبتها من الموجودات قليلة .
وإذا كانت شركة ذات نشاط زراعي أو تجاري أو عقاري أو صناعي أو أي استثمارات حقيقية أي غير مالية ، فالنقود والديون تعتبر تابعة وليست مقصودة ، فيصح بيع السهم بمثل قيمته الحقيقية أو بأقل أو بأكثر ، وبقبض وبدون قبض .
وعلى هذا فليست العبرة في جريان أحكام الصرف على المعاملة بغلبة نسبة النقود إلى موجودات الشركة – كما قال به أصحاب القول الثاني – وذلك لعدة أمور:
1. أن هذا القول إذ لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين – فيما أعلم – .
2. فضلاً عن أن هذا الأمر لا ينضبط في تداول الأسهم إذ تتغير المراكز المالية للشركات بصورة مستمرة .
3. ولأن هذا القول نظر إلى الموجودات المحسوسة للشركة ولم يلتفت إلى العوامل والحقوق الأخرى غير المحسوسة والتي لا تقل أهمية في التأثير على القيمة السوقية للسهم عن الموجودات المحسوسة .
رابعاً-خلاصة البحث
ومن خلال ما تقدم فالذي يظهر هو جواز تداول أسهم الشركات حديثة التأسيس التي تمارس أنشطة مباحة – ومنها شركة الصحراء – ولو كان الأغلب في موجوداتها هو النقود ، لما يأتي :
أولاً - لأن هذه الشركات لا تخلو من موجودات أخرى غير النقود وهي ذات قيمة معتبرة شرعاً ، ومن ذلك :
1. الحقوق المعنوية كالاسم التجاري للشركة،والدراسات السابقة لإنشائها ، وتصاريح العمل ، وقوة الإدارة وكفاءتها ،وغير ذلك.
2. بعض الأصول المملوكة للمنشأة من أراضٍ أو سياراتٍ أو أثاثٍ أو غير ذلك .
3. ومنافع الأعيان المستأجرة والأشخاص العاملين في الشركة وقت تأسيسها .
ثانياً- ولأن التكييف الشرعي للأسهم –على رأي بعض العلماء المعاصرين- أنها عروض مهما كانت موجودات أو طبيعة عمل الشركة التي أصدرتها لأنها أموال قد اتخذت للاتجار ، وصاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء ، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته ، وهذا الرأي له قوة وحظ من النظر ، ويتأيد بعددٍ من الاعتبارات الشرعية والقانونية ، ومنها :
1. أن القانون التجاري – بما يمنحه للشركة المساهمة من شخصية اعتبارية – يميز بين ملكية السهم ، وملكية الأصول والأعيان التي يتضمنها السهم ، فالسهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة ، بحيث إن الحصص المقدمة للمساهمة في الشركة تنتقل على سبيل التمليك إلى ملكية الشركة ، ويفقد الشركاء المستثمرون كل حق عيني عليها ، ولا يبقى لهم إلا حق في الحصول على نصيب من أرباح الشركة أثناء وجودها ، وفي اقتسام قيمة بيع موجوداتها عند التصفية.
2. ولأن القيمة السوقية للسهم لاتعكس بالضرورة القيمة الفعلية لموجودات الشركة ( القيمة الدفترية ) ، فقد تتناقص قيمة موجودات الشركة بينما القيمة السوقية للسهم في تصاعد ، والعكس كذلك ، وقد تخسر الشركة وقيمتها السوقية تزداد وهكذا ، فقيمة السهم لا تعبر بالضرورة عن قيمة الموجودات ، فهي قد تتأثر بها ولكنها لا ترتبط بها ارتباطاً مباشراً صعوداً وهبوطاً ، وذلك لوجود مؤثرات أخرى في قيمة السهم غير موجودات الشركة ونشاطها ، فجودة الإدارة وسمعتها التجارية وخبرتها في مجال النشاط كلها عوامل ترفع من قيمة السهم ، مما يعني أن الزيادة في قيمة السهم ليست مقابل الموجودات وإنما لعوامل أخرى متعددة .
3. ولأن النقد إنما يمثل أغلبية بالنظر إلى قيمة الموجودات العينية ( المحسوسة ) للشركة ، أي بالنظر إلى القيمة الاسمية للأسهم ، لا إلى قيمتها السوقية ، لأن القيمة السوقية تتأثر بعوامل أخرى –كما سبق- لا تقل أهمية عن الموجودات العينية ، فإذا أخذ بعين الاعتبار تلك العوامل المعنوية المؤثرة على قيمة السهم السوقية والتي يكتسبها المساهم بمجرد دخوله في الشركة فإن نسبة النقد إلى موجودات الشركة الإجمالية تكون أقل ، والواجب عند النظر إلى موجودات السهم أن ينظر إلى الموجودات والحقوق التي يشتمل عليها السهم بقيمته السوقية ( أي العوامل التي أوصلته إلى تلك القيمة ) ، لا أن ينظر إلى موجودات قيمته الاسمية فحسب .
4. ولأن الزيادة في قيمة السهم بعد بدء التداول ليست زيادة في قيمة موجودات السهم ، وإنما هي زيادة في قيمة السهم نفسه ، و"السهم" شيءٌ و " ما يمثله من موجودات في الشركة" شيءٌ آخر ، ولهذا لو طلب مالك السهم حصته من الموجودات لم يُمَكَّن من ذلك لأن امتلاكه للسهم لايعني امتلاكه لما يمثله من موجوداتٍ بأعيانها .
5. ومن الناحية الشرعية فإنه يترتب على القول بأن للسهم حكم ما يمثله في موجودات الشركة التي أصدرته عددٌ من اللوازم الباطلة التي تؤدي إلى القول بتحريم الأسهم مطلقاً وهو أمر لم يلتزم به القائلون بذلك ، ومن ذلك :
6. أن عامة الشركات المساهمة لا تخلو موجوداتها من نقودٍ أو ديون ذات قيمةٍ مؤثرة ، ويتم تداول أسهمها دون مراعاة لضوابط الصرف أو بيع الدين ، والقول بإعطاء الحكم للأغلب من موجودات الشركة لا دليل عليه بل إن النصوص الشرعية تدل على أن المبيع إذا اشتمل على نقدٍ مقصودٍ وبيع بنقد فيأخذ حكم الصرف وإن لم يكن النقد غالباً وكذلك في سائر الأموال الربوية ، فمن يشتري حلياً ثلثه ذهب وثلثاه ألماس فإنه يجب قبض ثمنه قبل التفرق مراعاة للذهب الذي فيه مع أنه الأقل ، ونصوص الفقهاء التي أشرنا إليها في مسألة "مد عجوة ودرهم " وفي مسألة " التخارج " تدل على ذلك ، قال في الهداية : (( وإذا كانت التركة بين الورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض ، جاز قليلاً كان ما أعطوه إياه أو كثيراً .. وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهباً أو كان ذهباً فأعطوه فضة فهو كذلك .. فلا يعتبر التساوي ويعتبر التقابض في المجلس لأنه صرف .
وإن كانت التركة ذهباً وفضة وغير ذلك فصالحوه على ذهب أو فضة فلا بد أن يكون
ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس حتى يكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة احترازاً عن الربا ، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب والفضة لأنه صرف في هذا القدر.
وإن كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح على أن يخرجوا المصالح عنه ويكون الدين لهم ، فالصلح باطل ، لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه ، وهو حصة المصالح ، وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه ولا يرجع عليهم نصيب المصالح ، فالصلح جائز )) (76).
7. ولأن الكثير من المساهمين لا يعلم حقيقة ما يمثله السهم من موجودات في الشركة ، بل لربما لا يعرف موجودات الشركة أصلاً أو نشاطها ، ومن الشروط المتفق عليها لصحة البيع : العلم بالمبيع ، وإذا قلنا : إن المبيع هو حصته من الموجودات فيلزمه العلم -ولو إجمالاً- بتلك الموجودات ، وهو ما لايقع ، لأن نظر المساهم إلى أمرين فقط هما : القيمة السوقية ، والأرباح الدورية .(5/103)
ومن باب الاستطلاع فقد قمت بسؤال عددٍ من المستثمرين في شركتي "اللجين"و "أميانتيت " عن نوعية نشاط تينك الشركتين ، فكانت الإجابة بعدم العلم ، فعرفت أن الكثير من المساهمين إنما يستقي معلوماته عن نشاط الشركة من اسمها فقط ، وأن غاية ما يبذله في التحري أن يسأل أهل العلم عن حكم المساهمة في تلك الشركة دون دراية بما فيها من النقد وما عليها من المديونيات وما لها من الأصول وغير ذلك.
8. ومن لازم هذا القول تحريم تداول أسهم البنوك الإسلامية بقيمتها السوقية لأن الغالب في موجودات تلك البنوك أنها نقود أو ديون في ذمم المتمولين ، ومع ذلك فعامة الهيئات الشرعية لتلك البنوك على الجواز .
ثالثاً-وعلى فرض التسليم بصحة التكييف الثاني لبيع الأسهم – وهو أن له حكم ما يمثله السهم من موجودات – فالذي دل عليه حديث ابن عمر السابق "من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع" أن المبيع إذا اشتمل على نقدٍ واشتري بنقدٍ من جنسه ، ولم يكن النقد المخلوط مقصوداً فلا يلتفت إليه بمعنى أنه لايجري على الصفقة حكم الصرف ، حتى ولو كانت قيمة النقد المخلوط أكثر من قيمة الخِلط الذي معه ، قال ابن قدامة –رحمه الله- : "الحديث دل على جواز بيع العبد بماله إذا كان قصد المشتري للعبد لا للمال... فيجوز البيع سواء كان المال معلوماً أو مجهولاً ، من جنس الثمن أو من غيره ، عيناً كان أو ديناً ، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر (77).
ومن المعلوم أن العبد لا يملك وأن المال الذي بيده مآله للمشتري ، ومع ذلك جاز البيع مطلقاً بدون تقابض ولا تماثل حتى مع اتفاق النقدين ( المال الذي معه ، والثمن الذي يشترى به العبد ) ، وحتى لو كان المال الذي مع العبد أكثر من قيمة العبد نفسه .
ولا يشكل على هذا الحديث حديث القلادة – المتقدم – فإن الذهب الذي في القلادة مقصود للمشتري بخلاف المال الذي مع العبد .
وهذا أحسن ما قيل في الجمع بين الحديثين .
ويؤخذ من هذين الحديثين أن العبرة بالقصد لا بقيمة المال الربوي ، فإن كان المال الربوي مقصوداً فوجوده في الصفقة مؤثر ، وإن كان تابعاً فلا يؤثر ، كما أن هذا التفصيل يتماشى مع القواعد الشرعية : " العبرة في العقود بالمقاصد " و " التابع تابع " وغيرها.
وبخصوص الشركة التي نتحدث عنها ، وهي شركة الصحراء ، وغيرها من الشركات الإنتاجية حديثة التأسيس فإن النقد الذي فيها ليس بمقصود لأمرين :
الأول : أن المشتري –بشرائه السهم- لا يقصد الحصول على النقد الذي في الشركة ، ولا ينتقي من الشركات ما هو أكثر نقديةً ، بل قصده الحصول على الربح الرأسمالي أو الدوري أياً كانت الموجودات .
والثاني : لأن المقصود من نشاط الشركة هو الاستثمار في المنتجات البتروكيماوية ، وهي من العروض ، وأما غلبة النقدية في موجوداتها لفترة من الفترات فهي أمر عارض ولا يعد ذلك من نشاطها المقصود.
رابعاً- وعلى فرض التسليم بأن النقد الذي في الشركة مقصود وأن بيع الأسهم له حكم بيع موجوداتها فإن صورة هذه المعاملة كمسألة " مد عجوة ودرهم " وهي : بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسهما ، وكل من الربويين مقصود في العقد ، وبيان ذلك أن الأسهم مؤلفة من :
1. النقد ، وهو بالريالات .
2. والأموال الأخرى من حقوقٍ وأعيانٍ ومنافع .
والثمن من الريالات ، فالريالات في طرفي العقد مقصودة ، ومع أحد الطرفين مالٌ غير ربوي .
والذي ترجح من الخلاف السابق في مسألة " مد عجوة ودرهم" - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ورواية عن الإمام أحمد - أن العقد يصح بشرطين :
الأول :أن يكون المال الربوي المفرد أكثر من الذي معه غيره .
والثاني : ألا يكون القصد من المعاملة التحايل على الربا وذلك بأن يكون ما مع الربوي له قيمة حقيقية ، ولم يؤت به للتحليل.
وكلا الشرطين متحققٌ في بيع هذه الأسهم ، فإنها تباع بقيمتها السوقية وهي أعلى من القيمة الاسمية التي تم الاكتتاب بها ، كما أن الموجودات الأخرى غير النقدية في الشركة ذات قيمة حقيقية ولم يؤت بها حيلة .
وقد يرد على هذا التخريج أن الأصول العينية للشركة عند بدء التداول لا تمثل شيئاً مقارنة بالنقدية التي فيها .
والجواب عن ذلك : أن المقصود بالموجودات الأخرى غير النقدية أعم من أن يكون أعياناً فقط ، فقد تكون أعياناً أو منافع أو حقوقاً ، فكل ما يؤثر في القيمة السوقية للسهم – إذا كان له قيمة معتبرة شرعاً- فتحمل الزيادة في قيمة السهم على أنها مقابله ، ونظير ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم من جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة ، وهي منفعة وليست عيناً ،والله أعلم.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(*) الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(1) المصباح المنير ص 236 ، المفردات في ألفاظ القرآن الكريم ص 819 .
(2) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص 330 .
(3) الحدود لابن عرفه ص 556 .
وخرج بقوله: ((حساً دون إضافة)) : ما يمكن الإشارة إليه حساً من الأعيان كالثوب والدابة ، فإنهما ليسا بمنفعة لإمكان الإشارة إليهما حساً دون إضافة ، بخلاف ركوب الدابة ولبس الثوب .
وبقوله : ((يمكن استيفاؤه)) أخرج العلم والقدرة لأنهما لا يمكن استيفاؤهما .
وبقوله : ((غير جزء مما أضيف إليه)): أخرج به نفس نصف الدار مشاعاً لأنه يصدق عليه .
(4) الملكية في الشريعة الإسلامية، لعلي الخفيف ص 180 .
(5) الملكية في الشريعة الإسلامية، لعلي الخفيف ص 181 .
(6) يرى أبو حنيفة وصاحباه خلافاً لزفر والجمهور أن المنفعة لا تعتبر مالاً حقيقية ، وإن كان يصح الاعتياض عنها ، وكونها ثمناً أو مثمناً ، وترتب على هذا الخلاف مسائل متعددة لا علاقة لها فيما نحن بصدده مثل : ضمان منافع المغصوب ، وإجارة المشاع ، وانتقاض الإجارة بموت أحد العاقدين ، مع أنه ورد في بعض كتب الأحناف ما يشعر بأن المنفعة مال عندهم ، ومن ذلك قول البابرتي ( العنايه 8/7 ) : (( الأعيان والمنافع أموال فجاز أن تقع أجرة )) .
(7) رد المحتار 9/85 ، جواهر الإكليل 2/150 ، روضة الطالبين 5/177 ، شرح المنتهى 2/140 .
(8) انظر : حاشية الدسوقي 3/14 ، نهاية المحتاج 3/372 ، شرح المنتهى 2/140 .
(9) قواعد ابن رجب ص 84 .
(10) انظر : الشركات للخياط 2/214 .
(11) معجم مصطلحات الاقتصاد والمال وإدارة الأعمال ص 498 .
(12) المراد بالتسييل : سهولة تحويلها إلى نقود ( سيولة ) .
(13) ينظر : الوجيز في النظام التجاري السعودي ص200 .
(14) (( الاستثمار في الأسهم والوحدات والصناديق الاستثماريه )) ص 37 ، أسواق الأوراق الماليه ص 266 .
(15) من أنصار هذا القول : أبو زهرة ، وعبد الرحمن حسن ، وخلاف ، والقرضاوي ، والشيخ جاد الحق شيخ
الأزهر سابقاً ، انظر : فقه الزكاة 1/527 ، بحوث في الزكاة ص 183 ، أسواق الأوراق الماليه ص 318 .
(16) الفتاوى الاقتصادية ص 15 ، صناديق الاستثمار الإسلامية ص 48 ، مناقشات مجلس مجمع الفقه الإسلامي
حول سندات المقارضة ، مجلة المجمع 4/3/ ( 2045 – 2060) ، وهذا القول لازم لجميع الهيئات الشرعية التي أجازت تداول أسهم بنوكها بالقيمة السوقيه .(5/104)
(17) أخرجه البخاري ( كتاب المساقاة / باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل ) ومسلم ( كتاب
البيوع / باب من باع نخلاً عليها ثمر برقم 1543 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(18) المغني 6/258 .
(19) المغني 6/258 .
(20) فقه الزكاة 1/527 .
(21) هذا الأثر وإن لم يكن من منصوص قولهم إلا أنه من لازمه ، بل ومن لازم فتاوى الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية التي أجازت تداول أسهم بنوكها بقيمتها السوقية ، مع أن الغالب في موجودات البنك أنها نقود أو ديون في ذمم المتمولين .
(22) فقه الزكاة 1/523 ، تنظيم ومحاسبة الزكاة في التطبيق المعاصر ص 84 .
(23) مجلة المجمع 4/3/2162 .
(24) شركة المساهمة في النظام السعودي ص 347 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/1/761 .
(25) الشركات للخياط 2/215 .
(26) أسواق الأوراق المالية وآثارها الإنمائية في الاقتصاد الإسلامي ص 186 ، الشركات للخياط 2/216 .
(27) المغني 7/132
(28) مجلة المجمع ، الدورة الرابعة ، القرار رقم (5).
(29) مثل أن يبيع : مد عجوة ودرهم بمدين ، أو بدرهمين ، أو بمدودرهم . والعجوة : أجود التمر . المغرب ص 306
(30) المغني 6/96 ، وانظر : بداية المجتهد 2/234 ، مجموع فتاوى ابن تيميه 29/461 .
(31) مغني المحتاج 2/376 ، وانظر : الحاوي الكبير 6/140 ، تكملة المجموع 10/407 ، حواشي الشرواني 4/286 فتح الباري 5/51 .
(32) المغني 6/97،258 ، قواعد ابن رجب ص 252 ، الإنصاف 12/78 ، المبدع 4/137 ، الكافي 2/59 .
(33) حاشية الدسوقي 3/40 ، بداية المجتهد 2/234 ، التاج والإكليل 6/134 ، بلغة السالك 2/15 ، حاشية العدوي 5/36 .
(34) رد المحتار 7/527 .
(35) تكملة المجموع شرح المهذب 10/359 .
(36) فتح القدير 6/266 .
(37) فتح القدير 6/265 ، رد المحتار 7/528 ، الدسوقي 3/40 ، الحاوي الكبير 6/129 ، المغني 6/96 .
(38) الاستذكار 19/240 ، المنتقى شرح الموطا 6/266 ، بلغة السالك 2/15 ، حاشية العدوي 5/36 ، التاج والإكليل 6/134 .
(39) الأم 3/21 ، الحاوي الكبير 6/132 ، تكملة المجموع شرح المهذب 10/236 ، نهاية المحتاج 3/441 .
(40) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص 196 ، مسائل الإمام أحمد لابنه صالح 1/432 ، المحرر في الفقه 1/320 ، الكافي 3/86 ، الشرح الكبير على المقنع 12/77 ، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 7/178 .
(41) المحلى 8/494 .
(42) أخرجه مسلم ( كتاب المساقاة / باب بيع القلادة فيها ذهب وخرز برقم 1591 ) وأبو داود ( كتاب البيوع / باب في حلية السيف تباع بالدراهم - برقم 3351 ) والترمذي ( كتاب البيوع / باب ما جاء في شراء القلادة وفيها ذهب وخرز - برقم 1255 ) والنسائي ( كتاب البيوع / باب بيع القلادة فيها الخرز والذهب بالذهب - برقم 4573 ) .
(43) المنتقى شرح الموطا 6/267 ، المغني 6/94 .
(44) شرح معاني الآثار 4/72 ، إعلاء السنن 14/285 .
(45) وهي عند مسلم في الموضع السابق .
(46) وهي عند مسلم في الموضع السابق .
(47) وهي عند مسلم في الموضع السابق .
(48) وهي رواية أبي داود في الموضع السابق .
(49) التلخيص الحبير 3/20 .
(50) المبسوط 14/12 ، مجموع فتاوى ابن تيميه 29/453 .
(51) شرح معاني الآثار 4/72 ، مجموع فتاوى ابن تيميه 29/453 .
(52) الحاوي الكبير 6/133 .
(53) الحاوي الكبير 6/133 .
(54) أخرجه مسلم في الموضع السابق .
(55) الشِقْص : السهم والنصيب ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2/490 .
(56) الحاوي الكبير 6/134 ، فتح العزيز 8/174 ، المنتقى شرح الموطا 6/266 ، الفروق 3/251 ، المغني 6/94 ، قواعد ابن رجب ص 249 .
(57) مجموع فتاوى ابن تيميه 29/452 .
(58) بدائع الصنائع 7/78 ، وانظر : فتح القدير 6/269 ، تبيين الحقائق 4/38 .
(59) مجموع فتاوى ابن تيميه 29/454 ، وبيع العرايا : بيع الرطب في رؤوس النخل خرصاً ، بمآله يابساً بمثله من التمر كيلاً معلوماً لا جزافاً . الموسوعة الفقهية 9/91 .
(60) القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب ص 249 ، المنتقى شرح الموطا 6/266 .
(61) الفروع 4/160 ، الإنصاف 12/78 ، قواعد ابن رجب ص 249 .
(62) مجموع فتاوى ابن تيميه 29/462 [ وممن نسب هذا القول لابن تيميه : ابن مفلح في الفروع 4/160 ، والمرداوي في الإنصاف 12/78 ، والذي يظهر أن شيخ الإسلام لا يقول به بإطلاقه بل يشترط لذلك ألا يكون حيلة على الربا ، فإنه قيد الجواز بما إذا كان الربويان متساويين ] .
(63) المغني 6/258 .
(64) مجموع فتاوى ابن تيميه 29/462،465 ، الفروع 4/160 .
(65) المبسوط 12/189 ، بدائع الصنائع 7/78 ، العناية 6/266 ، الاختيار 2/289 .
(66) المغني 6/92 ، مجموع فتاوى ابن تيميه 29/452 ، الفروع 4/160 ، الإنصاف 12/78 .
(67) قواعد ابن رجب ص 249 ، مجموع فتاوى ابن تيميه 29/466 .
(68) روضة الطالبين 3/386 ، تحفة المحتاج 4/287 .
(69) النصل : حديدة السيف ، الحمائل : جمع حمالة وهي علاقته ، الجفن : غلافه . طلبة الطلبه ص 103،116
(70) الهداية 6/271 .
(71) بدائع الصنائع 7/78 ، فتح القدير 6/267 .
(72) المغني 6/94 ، الحاوي الكبير 6/135 .
(73) الحاوي الكبير 6/135 .
(74) مجموع فتاوى ابن تيميه 29/455 .
(75) انظر : الحاوي الكبير 6/135 .
(76) الهداية 7/410 ، وانظر : شرح الخرشي 6/6 .
(77) المغني 6/258 .
=============
بطاقة (سعودي تك)
صورة عمل البطاقة(*):
د. يوسف الشبيلي [عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام] 9/3/1425
28/04/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فالحكم الشرعي لهذه البطاقة مبني على تكييفها الفقهي، فمن الواضح من العرض السابق أن هذه البطاقة ليست بطاقة ائتمانية بالمفهوم المصرفي لبطاقات الائتمان والتي تتضمن في آلية عملها ديناً من المُصدِر لحامل البطاقة، إذ إن مشتري هذه البطاقة يقوم بدفع قيمة مشترياته بها مسبقاً قبل استخدامه لها، فهي بطاقة مديونية لا دائنية، وإنما تحمل شعار الماستر كارد ، وتأخذ رقماً تسلسلياً من أرقامها للاستفادة من خدمات تلك المنظمة، واستعمال شبكتها الاتصالية لإتمام الصفقات التجارية عبر نقاط البيع المرتبطة بمنظمة الفيزا أوالماستر كارد أو غيرها من شركات البطاقات الائتمانية .
وهذا النوع من البطاقات قد انتشر في الآونة الأخيرة، ويعرف ببطاقات التخزين الإلكتروني، أو البطاقات سابقة الدفع ، وتقوم المؤسسات المالية بترويجه لعملائها، لاسيما الذين لاتتوفر فيهم شروط إصدار بطاقات الائتمان العادية (القرضية) .
والتخريج الشرعي لهذه البطاقة لايخلو من أحد أمرين :
التخريج الأول: أن يكون لهذه البطاقة حكم الدين، فتعد البطاقة سنداً بدين من المشتري للمصدر، ويتم استيفاء ذلك الدين بما يتناقص من القيمة المخزنة في البطاقة عند استخدامها، وعلى هذا فالعلاقة بين المصدر والمشتري هي علاقة قرض، ففي الصورة المذكورة في السؤال كأن المشتري قد أقرض المصدر (25) دولاراً ثم يسترد هذا المبلغ بما يشتريه بالبطاقة.
ويترتب على هذا التخريج أنه لو باعها المصدر بثمن أقل من قيمتها المخزنة فيها، فهو حرام لأنه قرض جر منفعة للمقرض وهو هنا المشتري ، أما لو باعها بثمن أكثر فهو قرض بشرط رد أقل من قيمته ، وهو جائز على الصحيح من أقوال أهل العلم(1) .(5/105)
وهذا التخريج - أعني تخريج البطاقة على عقد القرض - بعيد؛ لأن البطاقة لها قيمة اعتبارية بذاتها، فحاملها قد قبض قيمتها حقيقة، وتشبه هذه البطاقات في نشأتها النقود الورقية في بداية ظهورها عندما كان يدون عليها تعهد من البنك المصدر لحاملها بدفع قيمتها من الذهب عند الطلب، وهو ما حدا ببعض العلماء في أول الأمر إلى أن يجعل لها - أي النقود الورقية -حكم الدين، ثم لم يعد لهذا القول حظ من النظر بعد أن انتشرت الأوراق النقدية، وأصبح لها من النفوذ والقبول والرواج في الأوساط التجارية ما يجعلها تعادل النقدين - الذهب والفضة - أو تتفوق عليهما، وبعد أن أدت تلك النقود دورها بدأ العالم - كما يشير إلى ذلك كثير من الاقتصاديين - يتجه إلى عصر اللانقد، أي العصر الذي تختفي فيه النقود الورقية، ويظهر التعامل بالنقود البلاستيكية من بطاقات ائتمان، وبطاقات خصم فوري، وبطاقات تخزين وغيرها، والعالم يشهد تطوراً رهيباً في هذه المجالات.
التخريج الثاني: أن يكون لهذه البطاقة حكم النقد، وعلى هذا فالعقد بين المصدر والمشتري هو عقد صرف، فيجب التقابض عند شراء البطاقة، كما يجب التساوي بين القيمة المخزنة في البطاقة والقيمة التي اشتريت بها إذا كانت القيمتان بعملة واحدة، أما إن اختلفت العملة فلا مانع من اختلاف القيمتين.
وهذا هو التخريج الصحيح؛ لأن هذه البطاقات أصبح لها اليوم من الحماية والقبول والرواج عند الناس مثل ما للنقود الورقية، فقبضها في قوة قبض محتواها من النقود، وقد نص أهل العلم على أن المرجع في تحديد القبض إلى العرف(2) ، فحكم هذه البطاقات كحكم الشيك المصرفي المصدق، بل البطاقات أكثر وضوحاً في معنى النقدية من الشيكات لأنها وسيلة للتبادل التجاري بدون قيود بخلاف الشيك فإنه لا يمكن صرفه إلا لمن حرر لصالحه.
وبناء على هذا التخريج يمكن النظر في الرسوم التي يتقاضاها المصدر، وهل هي تخل بشرط الصرف أم لا؟
فالمصدر يتقاضى في هذه المعاملة ثلاثة أنواع من الرسوم:
الأول: رسوم الصرف:
فالمشتري قد يشتري البطاقة بنفس العملة المخزنة فيها، بمعنى أنه يدفع (25) دولاراً ليحصل على قيمة مخزنة في البطاقة بالدولار، وفي هذه الحال يجب أن تكون القيمة المدفوعة مساوية للقيمة المخزنة، بدون زيادة ولا نقصان، وإلا كان من ربا الفضل، أما لو اختلفت العملة فلا مانع من اختلاف سعر صرف العملتين عن سعر الصرف في السوق، لأن كل عملة تعد جنساً مستقلاً بذاته على الصحيح من أقوال أهل العلم المعاصرين(3) ، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وهذا في الواقع هو ما يتم في البطاقة المذكورة في السؤال، فالمشتري يدفع (100) ريال مقابل شحن البطاقة بما يساوي (25) دولاراً، أي أن المصدر يربح في صرف كل دولار ربع ريال تقريباً (الدولار = 3.75 ريال، وهنا جعل لكل دولار أربعة ريالات)، وهذا جائز لاختلاف جنس العملتين.
الثاني: رسوم الاشتراك السنوي:
وهي تساوي (165) ريالاً في صورة السؤال المذكور، وهذه جائزة، لأنها مقابل الخدمة المقدمة من المصدر والمتمثلة بإصدار البطاقة وتجديدها، ولاشك أن هذه الخدمة عمل متقوم شرعاً يستحق عليه صاحبه الأجر، فهي تُخرج شرعاً على أنها من الإجارة على الأعمال.
وهذه الرسوم جائزة سواء اشتريت البطاقة بنفس عملة القيمة المخزنة فيها أو بعملة أخرى، ولا يختل بذلك شرط الصرف، أما إذا اختلفت العملة فالأمر ظاهر، وأما إذا اتحدت فلأن هذه الرسوم مقابل عملٍ آخر لا علاقة له بالصرف، ولهذا نجد من علمائنا المتقدمين من ذهب إلى مثل هذا القول، وأنه إذا كان العقد لا تجوز المفاضلة فيه، فقام أحد المتعاقدين بعمل يستحق عليه الأجر في ذلك العقد فيجوز له أخذ الأجر بما يقابل ذلك العمل، فجوز شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله بيع المصوغ والحلية من الذهب والفضة بمثل جنسه متفاضلاً إذا كان الفرق في مقابل أجرة الصنعة(4) ، كما قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي جواز أخذ الأجور عن خدمات القروض إذا كانت في حدود النفقات الفعلية، وذلك في جواب استفتاء مقدم من البنك الإسلامي للتنمية(5) ، وللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية فتوى بنحو ذلك (6).
والثالث : نسبة الخصم التي تؤخذ على التاجر الذي يشترى منه بالبطاقة:
ذلك أنه من المعروف أن شركات البطاقات الائتمانية تأخذ من التاجر نسبة " عمولة "من قيمة المشتريات بالبطاقة، وجزء من هذه النسبة يعطى للجهة المصدرة للبطاقة.
وهذه العمولة جائزة أيضاً لأنها في مقابل الخدمة التسويقية التي يقدمها المصدر للتاجر، إذ من المعلوم أن كون التاجر يقبل البطاقات الائتمانية يعد ذلك وسيلة جذب لحاملي تلك البطاقات للتسوق منه، وهذا العمل متقوم شرعاً يستحق عليه صاحبه العوض، ويمكن تخريجه على عقد السمسرة، وقد نص الفقهاء على أن أجرة السمسار تلحق بالجعالة إذا كانت لا تستحق إلا بتمام العمل، قال في البهجة - عند الحديث على جواز الإجارة على الشيء بجزء منه -: (وعلى ذلك تخرج أجرة الدلال بربع عشر الثمن مثلاً)(7) ، وفي عمدة القاري: "أجرة السمسار ضربان: إجارة وجعالة ... والثاني: لا يضرب فيها أجل ولا يستحق في الجعالة شيئاً إلا بتمام العمل)(8) ، ومن المعلوم أن المصدر لا يستحق تلك العمولة إلا بعد تمام العمل وهو شراء المشتري من التاجر بالبطاقة.
وهذه العمولة جائزة سواء اشتريت البطاقة بنفس عملة القيمة المخزنة فيها أو بعملة أخرى، لنفس التعليل الذي أشرنا إليه آنفاً في رسوم الاشتراك.
وبهذا يتبين جواز البطاقات ذات الدفع السابق ، وأن جميع الرسوم التي تأخذها الشركة المصدرة من حامل البطاقة لا محظور فيها شرعاً، ما لم تختلف قيمة شحن البطاقة عن القيمة المخزنة فيها وذلك فيما إذا كانت عملة القيمتين واحدة.
والخلاصة:
أن البطاقة بالوصف المذكور من أحد المشتركين جائزة، ولا مانع من الاشتراك فيها بالنسبة للمسلم. والله أعلم.
(*) إفادة من أحد المشتركين في البطاقة:
بطاقة (سعودي تك) الشرائية للإنترنت، كأي بطاقة ماستركارد، توفر لك بطاقة (سعودي تك) إمكانية التسوق العالمي من خلال شبكة الإنترنت، إنها بطاقة مدفوعة مسبقاً ذات اشتراك سنوي مقداره (165) ريالاً، ويمكن استخدامها كنقد حقيقي لأي شراء على الإنترنت، وهي ذات قيمة كبيرة لعدم وجود أي تكاليف أو رسوم إضافية عليها أو على استخدامها، فقط أعد شحن البطاقة في أي وقت وبكل سهولة لأي عملية شراء ترغب بها، بطاقة (سعودي تك) تمنحك المرونة والأمان في تحديد استخدامك لها (ذات حد أقصى 250 دولاراً أمريكياً، وحد أدنى 25 دولاراً لإعادة الشحن).
لبطاقة (سعودي تك) رقم حساب ماستركارد مكون من (16) رقماً، أصدر عن طريق (آل سرور لتقنية المعلومات)، قابل للاستخدام والشراء في جميع مواقع الإنترنت التي تقبل بطاقات ماستركارد.
بطاقة (سعودي تك) هي بطاقة ماستركارد في جميع خصائصها باستثناء أنه لا يمكن استخدامها كبطاقة ملموسة في عمليات الشراء.
بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لأي عملية شراء تتطلب تقديم بطاقة ماستركارد ملموسة ، كاستخدامها في منافذ البيع.(5/106)
بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لعمليات الشراء عن طريق البريد أو الهاتف، علاوة على ذلك فإن بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لعمليات الشراء المزدوجة، على سبيل المثال: لا يمكن شراء سلعة من خلال الإنترنت يتطلب تقديم بطاقة ماستركارد ملموسة تحمل نفس رقم الحساب لتسليمها إلى المشتري.
العرض الخاص: قيمة البطاقة 265 ريالاً، وهي صالحة للاستخدام لمدة سنة، وتحمل قيمة شرائية أولية تعادل 25 دولاراً أمريكياً، وتحصل معها على عشر ساعات إنترنت مجانية، وتتم إعادة شحن البطاقة بنفس الطريقة من مضاعفات الـ 25 دولاراً، وقيمة الدولار تساوي أربعة ريالات.
(1) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية 20/515 البهجة شرح التحفة 2/288 حاشية الجمل 3/261
(2)انظر : بدائع الصنائع 5/244 المنتقى للباجي 6/97 المغني 4/125
(3) الورق النقدي حقيقته وتاريخ وحكمه ص 113
(4)انظر : أعلام الموقعين 2/140
(5)مجلة المجمع 3/ 305
(6)مجلة البحوث الإسلامية (8/147) ( 18/81)
(7)البهجة شرح التحفة 2/181
(8)عمدة القاري 10/85
===============
رأي في تأجيل العوضين في عقد التوريد
عبد العزيز بن إبراهيم الشبل(*) 2/7/1425
18/08/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فبعد بداية عصر الثورة الصناعية والتطور السريع للمنتجات الحديثة واتساع التجارة بين الدول ظهرت عقود أضحت من لوازم تلك التجارة، ومن تلك العقود عقود التوريد وعقود الإعاشة، أن الإشكال الذي يرد على عقود التوريد أنه في الغالب يكون اتفاق ملزم للطرفين (عقد) وهذا الاتفاق عند إبرامه لا يتضمن تسليم أحد العوضين أو كليهما، وبناء على ذلك رأى كثير من الفقهاء المعاصرين أنه من قبيل بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وبذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي (107) (1/12)(1).
ولكن هل هذا الحكم مسلم؟ وهل هذا هو رأي جميع الفقهاء المتقدمين؟ ألا يوجد مسائل ذكرها الفقهاء المتقدمون يمكن تخريج عقد التوريد عليها؟
الحقيقة أن هناك بعض الصور التي ذكرها الفقهاء تنطبق على عقد التوريد ـ أو هي قريبة منه ـ وهذه الصور يجمعها أنها بيع تأخذ فيه السلع شيئاً فشيئاً.
وهذا البيع لم يتفق الفقهاء على اسم واحد له، بل له عدة أسماء، هي:
1. بيع الاستجرار:وهذه التسمية موجودة عند متأخري الحنفية(2) ، وعند الشافعية (3)، ولعل سبب هذه التسمية: أن أخذ المشتري السلعَ من البائع بين الفينة والأخرى فيه معنى الجرّ والجذب؛ لأن المشتري يأخذ السلع شيئاً فشيئاً فكأنه يجرّها من البائع.
أو لعل سبب التسمية: أن الغالب في الاستجرار أن يكون الثمن مؤخراً، والعرب تقول: أجررت له دينه أي أخرته له(4).
أو لأن البائع ينقاد للمشتري فيعطيه ما يطلب منه، والعرب تقول: استجررت له: أي أمكنته من نفسي فانقدت له.(5).
والاحتمال الأول أقرب، والله أعلم.
2. بيعة أهل المدينة:
وهذه التسمية مشهورة عند المالكية فإنهم يسمون بيع الاستجرار بيعة أهل المدينة؛ وذلك لاشتهارها بينهم(6).
3. مسألة السعر: وهذه التسمية يذكرها شيخ الإسلام وابن القيم،(7)
ويشيران بها إلى مسألة البيع بسعر السوق ويجعلانها والاستجرار شيئاً واحداً، ولعل سبب هذه التسمية أن شيخ الإسلام يرى أن البيع في بيع الاستجرار ينعقد بالقيمة (سعر السوق).
4. الوجيبة: وهي أن توجب البيع ثم تأخذه أولاً فأولاً، وقيل هي: على أن تأخذ منه بعضاً في كل يوم حتى تستوفي وجيبتك(8).
5. أما كثير من الفقهاء فإنهم لا يسمون بيع الاستجرار باسم بل يصفونه وصفاً، كأن يقولوا ما يأخذه المشتري من البياع، أو من البقال شيئاً فشيئاً، ونحو ذلك.(9).
الفرق بين الاستجرار والمعاطاة
البيع بالاستجرار قريب من البيع بالمعاطاة (التعاطي) ولهذا فإن بعض الفقهاء يذكره بعد الكلام عن البيع بالمعاطاة، ولكن هناك فروق بين الاستجرار والمعاطاة، هي:
1. من حيث صيغة العقد: بيع الاستجرار أعم من المعاطاة؛ لأن المعاطاة تكون بالفعل، بينما الاستجرار يكون بالقول (إيجاب وقبول) ويكون بالفعل (معاطاة).
2. من حيث الثمن: الغالب في الاستجرار تأجيل الثمن، أو عدم تحديده في صور أخرى، بينما الغالب في المعاطاة مناولة الثمن عند التعاطي(10).
3. من حيث طول العقد: الاستجرار عقد طويل يستمر أياماً وشهوراً، يتم فيه قبض المبيع على مراحل، ولهذا فهو في بعض صوره مجموعة من العقود، وأما المعاطاة فتتم مرة واحدة.
صور الاستجرار:
لبيع الاستجرار صور عديدة، وهذه الصور تذكرها بعض المذاهب دون بعض، فنجد عند الحنفية صوراً لا نجد لهذا ذكراً عند المالكية وهكذا، وجامع هذه الصور أن الثمن إما أن يكون مقدماً (نقداً) والمثمن (المبيع) مؤخراً، أو العكس، أو أن يكون العوضان مؤخرين، والصورة الأخيرة هي التي تعنينا.
حكم الصورة الثالثة من صور الاستجرار
وهي: أن يتفقا على أن يأخذ المشتري من البائع كل يوم كيس أرز بمائة ريال ـ مثلاًـ، ويتفرقان من دون قبض الثمن.
وقد اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن هذا البيع لا يجوز، وهو قول الحنفية(11) ، وقول للإمام مالك (12) ، وقول الشافعية (13)، والحنابلة(14) ، وهذا بناء على رأيهم في مسألة بيع الدين بالدين.
القول الثاني: أن هذا البيع مما يتساهل فيه، إذا كانت المعاملة من دائم العمل كالخباز واللحام، بشروط:
الشرط الأول: أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، على أنهم تسامحوا في ذلك إلى عشرة أيام، وبعضهم ذكر أنه يتسامح فيما دون نصف شهر.
الشرط الثاني: أن يكون أصل هذا المبيع عند البائع.
الشرط الثالث: أن يكون ما يأخذه المشتري مقدّراً، ويسمي ما يأخذ منه في كل مرة، فإن حدد مقدار ما يأخذه كل يوم وثمنه ولكنه لم يحدد مقدار جملة المبيع صح البيع ولكن العقد ينقلب إلى عقد جائز لا لازم.
الشرط الرابع: أن يكون الثمن إلى أجل معلوم.
الشرط الخامس: أن يكون تحصيل الثمن مأموناً، وذلك كأن يواعده إلى خروج العطاء(15) المأمون، وكذلك إذا واعده إلى نهاية الشهر، وقبض الرواتب وكانت الجهة التي يعمل عندها المشتري مأمونة من عادتها ألا تتأخر في دفع الرواتب.
وهذه الصورة وإن كانت قريبة من السلم، إلا أنهم لم يعدوها سلماً محضاً، ولهذا أجازوا تأخير رأس المال، ولكن لا بد أن يكون ذلك من دائم العمل كالخباز، أما إن لم يكن من دائم العمل فهي سلم يشترط لها ما يشترط للسلم من شروط، كما أنهم لم يجعلوا لها أحكام شراء الأعيان ولهذا جاز عندهم أن يتأخر قبض جميع المبيع إذا شرع في قبض أوله، وهذا القول هو المذهب عند المالكية (16).
وهو مذهب الحنابلة في المبيع الموصوف المعيّن، ورواية عند الحنابلة في المبيع الموصوف غير المعيّن(17).
قال في الشرح الكبير:( والبيع بالصفة نوعان: أحدهما: بيع عين معينة، مثل أن يقول: بعتك عبدي التركي... ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر، الثاني: بيع موصوف غير معين، مثل أن يقول بعتك عبداً تركياً ثم يستقصي صفات السلم... ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع أو قبض ثمنه... وقال القاضي: يجوز التفرق فيه قبل القبض؛ لأنه بيع حال، فجاز التفرق فيه قبل القبض، كبيع العين).
أدلة الأقوال:
يستدل لأصحاب القول الأول بالأدلة الدالة على حرمة بيع الدين بالدين.
ومنها: حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ(18).
ويعترض على هذا الدليل بأنه: لم يصح في هذا الباب حديث.(5/107)
ومنها: إجماع الأمة على حرمة بيع الدين بالدين، وقد حكى ذلك الإمام أحمد(19).
ويعترض على هذا الدليل: بأن الإجماع لم يقع على كل صور بيع الدين بالدين بل وقع على بعض الصور دون بعض(20)، وحينئذٍ فإن التحريم يثبت في الصور التي وقع الاتفاق عليها دون التي وقع الخلاف فيها، وهذه المسألة مما وقع فيه الخلاف فلا يثبت لها التحريم.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنه: يستصحب حكم الإجماع في موضع الخلاف، فإذا كان بيع الدين بالدين ابتداء وقع الإجماع على تحريمه، فإننا نستصحب هذا الحكم في موضع الخلاف.
ولكن يقال في الإجابة عن هذا الإيراد بأن: الصحيح من أقوال الأصوليين أنه لا يصح استصحاب حكم الإجماع في موضع الخلاف؛ لأن موضع الخلاف لم يثبت فيه إجماع، والأصل فيه الجواز، فيستصحب هذا الجواز حتى يأتي دليل يمنع من الجواز، ولا دليل يدلّ على التحريم فيبقى الأصل وهو الجواز(21).
دليل القول الثاني:
أجاز أصحاب هذا القول هذه الصورة استحساناً، وإن كان القياس يخالفه واستندوا في هذا الاستحسان على ما كان عليه عمل أهل المدينة، ففي المدونة (22)، :(.. عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلاً بدينار، يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك ديناً بدين، ولم يروا بذلك بأساً)(23).
الاعتراض على هذا الدليل:
أن هذا الأثر يحمل على أنه في كل مرة يتم الشراء يجب على المشتري ثمن ما يأخذ، ويكون وقت تسليم الثمن عند العطاء، فيكون هناك عقد بينهما في كل مرة يأخذ المشتري من البائع شيئاً، وعلى ذلك لا يكون هناك بيع دين بدين، بل هو عقد متجدد، ويترتب على ذلك أنه لا يلزم أحداً منهما التمادي على هذا الفعل بل له أن يمتنع متى ما شاء عن هذا البيع(24).
الإجابة عن هذا الاعتراض:
ما ذكر في الاعتراض خلاف ما يظهر من فعل أهل المدينة، بل الظاهر أنهم كانوا يعقدون العقد ويتسامحون في هذا التأخير للبدلين، ولهذا صرّح سالم أنهم لم يكونوا يرون ذلك من قبيل بيع الدين بالدين.
الترجيح:
الظاهر ـ والله أعلم بالصواب ـ أن الراجح هو قول المالكية؛ لأن النهي عن بيع الكالئ بالكالئ مردّه إلى الإجماع، وأما الحديث فلم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى لله عليه وسلم - وعلى ذلك فأي صورة يتخلف عنها الإجماع فالأصل فيها الجواز إذا خلت من محظورين:
(1) الربا.
(2) الغرر.
وهذه الصورة لا يوجد فيها ربا ولا غرر، ولم يثبت فيها إجماع، فتبقى على الأصل وهو الإباحة، والله أعلم.
وعلى ذلك فإذا كان عقد التوريد بين تاجر وبين مصنع ينتج سلعة من السلع، وبعد العقد تم توريد هذه السلعة للتاجر وتم الاتفاق على قدر (كمية) السلع الموردة، وتم الاتفاق على موعد سداد الثمن، وكان تحصيل ثمن هذه السلع مأموناً في الأحوال المعتادة، كأن يكون التاجر صاحب مكانة اقتصادية بحيث يستطيع تصريف هذه السلع وردّ ثمنها، أو كان التاجر يتعامل مع الدولة والدولة لم يعهد عنها جحد لحقوق التجار، أقول إذا توفرت تلك الشروط فما المانع من القول بصحة عقد التوريد؟
في رأيي المتواضع لا يوجد مانع من ذلك، خاصة وأن مصالح الناس متعلقة بهذه العقود، والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(1) القرار لم يكن بالأغلبية كما هو واضح من مناقشات اِلأعضاء، كما أن الموضوع ـ على أهميته ـ لم يأخذ حقه من البحث والمناقشة، وليت أن مجمع الفقه يذكر في قراراته كلها هل صدر القرار بالإجماع أم بالأغلبية؟ مع إدراج الرأي المخالف ـ إن وجد ـ كما يفعل المجمع الفقهي التابع للرابطة و هيئة كبار العلماء في السعودية.
(2) انظر: البحر الرائق (5/279) وحاشية ابن عابدين (4/12) ودرر الحكام لعلي حيدر (شرح م205)(1/157)
(3) تحفة المحتاج (4/217) ونهاية المحتاج (3/375) وحاشية الجمل (3/9) وحاشية البجيرمي على المنهج (2/168)
(4) المقاييس في اللغة مادة (جر) (1/413) والصحاح مادة (جرر) (2/612) ولسان العرب (2/242) والقاموس (464)
(5) القاموس المحيط (464)
(6) مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)
(7) النكت على المحرر (1/300) وأعلام الموقعين (4/7)
(8) البرقيات لأحمد تيمور باشا (75)، وانظر: القاموس (وجب)(180)
(9) انظر: البحر الرائق (5/279) والموطأ مع شرح الباجي(5/15) والمجموع (9/163ـ164) والنكت على المحرر(1/300)
(10) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/43)
(11) المبسوط (12/127) وبدائع الصنائع(4/343و397و486) والهداية مع البناية (8/353)
(12) مواهب الجليل (6/517) منح الجليل (3/36)
(13) المهذب مع المجموع (9/399ـ400) وتحفة المحتاج (5/4) ونهاية المحتاج (4/184)
(14) انظر: الشرح الكبير والإنصاف (12/105)كشاف القناع (3/265) ومطالب أولي النهى (3/171)
(15) العطاء هو: الذي يعطيه الإمام من بيت المال لمستحقه. تسهيل منح الجليل (3/36)
(16) مواهب الجليل (6/516ـ517) ومنح الجليل (3/35ـ36) وشرح الخرشي مع حاشية العدوي عليه (5/223) والشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/220ـ221)
(17) انظر: الشرح الكبير والإنصاف (11/102ـ103) والمبدع (4/27) والإنصاف (3/163) وقولهم يحتاج مزيد تأمل وتحرير.
(18) الحديث أخرجه: الدارقطني (269)(3/71) والحاكم (2/57)من طريق الخصيب بن ناصح ثنا عبد العزيز الداروردي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
كما أخرجه الدارقطني (270)(3/72)والحاكم(الموضع السابق) من طريق حمزة بن عبد الواحد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
وهذا الإسناد وإن كان ظاهره الصحة، إلا أن الطحاوي في شرح معاني الآثار (5554)(4/21) وفي شرح مشكل الآثار (795)(2/265) وأحمد بن منيع (كما في المطالب العالية (2/97)) والبيهقي في الكبرى (5/290) والعقيلي في الضعفاء الكبير (4/162) أخرجوه من طريق موسى بن عبيدة الربذي (لا عقبة) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وأخرجه البيهقي (الموضع السابق) وابن عدي في الكامل (6/335) من طريق موسى بن عبيدة عن نافع عن ابن عمر، ثم ناقش البيهقيُّ الدارقطنيَ والحاكمَ ووهمهما في ذكر موسى بن عقبة وبيّن أنه موسى بن عبيدة الربذي، وقال:( الحديث مشهور بموسى بن عبيدة مرة عن نافع عن ابن عمر، ومرة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر).
وعلى ذلك فالحديث ضعيف من أجل ضعف موسى بن عبيدة، (انظر الضعفاء للعقيلي (4/160) و الكامل لابن عدي (6/333)) ولهذا قال فيه الإمام أحمد إنه لا يصح فيه حديث.
وانظر في تضعيف الحديث: نصب الراية (4/40) وتلخيص الحبير (3/26) وإرواء الغليل (5/220) والتحديث (113) والمغني عن الحفظ والكتاب مع جنة المرتاب (405).
ومع ضعف الحديث فقد قال الطحاوي في شرح المشكل (2/266):( واحتمل أهل الحديث هذا الحديث من رواية موسى بن عبيدة وإن كان فيها ما فيها).
ومعنى الكالئ بالكالئ: أي النسيئة بالنسيئة أو الدين بالدين، انظر: سنن الدارقطني (3/71) وشرح معاني الآثار (2/21) ومستدرك الحاكم (2/57) وسنن البيهقي الكبرى (5/290) والمطالب العالية (2/97)
(19) انظر في حكاية الإجماع: العقود لابن تيمية (451) وأعلام الموقعين (2/10) وطبقات الشافعية لابن السبكي (10/231)
(20) انظر: العقود وأعلام الموقعين (الموضعين السابقين)
(21) انظر: التمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني (4/254) وروضة الناظر (2/509) وأعلام الموقعين (1/318) والبحر المحيط (8/20)
(22) (3/293)(5/108)
(23) وانظر: مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)
(24) مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)
=============
الشركات النقية والأسهم المختلطة!
تركي بن محمد اليحيى 1/7/1427
26/07/2006
مصطلح "الأسهم النقية" يراد به أن تكون الشركة خالية من الاستثمارات المحرمة المعلنة أو البارزة في نشاط الشركة أو قوائمها، وذلك أنه لا يمكن أن يشترط على المسلم أن يتتبع جزئيات الشركة وأعمالها اليومية، فهذا متعذر ولا يمكن اشتراطه، فيُكتفي بما يظهر من أعمال الشركة ونشاطاتها وقوائمها.
أما ما يسمى بـ"الشركات المختلطة" فهي الشركات ذات النشاط المباح في الأصل لكنها تتعامل ببعض المعاملات المحرمة كالربا وغيره، وهذه أجازها بعض أهل العلم على اختلافٍ بينهم في ضوابط الجواز، بينما حرمها بعض أهل العلم مهما كانت نسبة الاختلاط فيها.
والذي ظهر لي من خلال بحث المسألة والأقوال والأدلة فيها رجحان القول بالتحريم.
وليس المقصود هنا بحث هذه المسألة، وإنما المراد الحديث عن مسألة مبنية على القول بتحريم الأسهم المختلطة.
وهي أن بعض الشركات "النقية" التي لا تستثمر بالحرام، قد تستثمر في أسهم الشركات المختلطة، وقد يرد على الباحث إشكالٌ حول تأثير هذا الاستثمار على جواز تلك الشركات النقية.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مثل هذا الاستثمار يؤدي إلى اعتبار تلك الشركات شركات مختلطة ويخرجها عن كونها من الشركات النقية.
وحيث إن هذه المسألة متصلة بأحد مباحث رسالة الدكتوراه التي أقوم بإعدادها فقد كتبت فيها وجهة نظر أحببت أن أطرحها بين يدي إخواني من الباحثين وطلبة العلم، أرجو أن أستفيد من مداخلاتهم حولها.
ولعلي أطرح المسألة من خلال النقاط التالية:
أولاً: لابد أن نحدد الوصف الفقهي لتحريم الأسهم المختلطة، ثم نبني الحكم انطلاقاً من ذلك الوصف، بحيث نعطي حكماً مطرداً لكل مسألة مماثلة، فلا نفرق بين المتماثلات في الحكم أو العكس.
فإذا اعتبرنا تحريم الأسهم المختلطة أمراً قطعياً، أو أن الخلاف فيها خلافٌ شاذ، فيجب أن يكون أثر الاستثمار فيها على الشركات، كأثر الاستثمار بالربا وغيره من المعاملات المحرمة.
أما إذا اعتبرنا أن تحريمها مسألة اجتهادية مختلف فيها وأنه مع كون الراجح هو تحريمها، إلا أنها تظل مسألة اجتهادية، والخلاف فيها له حظ من النظر، فيجب هنا أن نعطيها حكم المعاملات المختلف فيها.
ثانياً: إذا كان محل العقد أو النشاط الغالب في الشركة هو المختلف فيه، فإن الشريك الذي يرى القول بالتحريم يحرم عليه الدخول في الشركة، أو الاستمرار إذا كان داخلاً فيها، لأنه يعتقد حرمة المحل.
أما إن كان محل العقد أو النشاط الغالب في الشركة مما يعتقد الشريك حله وإباحته، فإن المشاركة تجوز له بالاتفاق، فإذا دخلت الشركة في نشاطٍ مختلف فيه لكون الشركاء يعتقدون الإباحة فالحكم هنا مختلف وهو محل البحث.
ثالثاً: المعاملات المختلف فيها كثيرة جداً، والشركاء قد يتفقون أن يكون محل الشركة ونشاطها مما يتفقون على جوازه، ولكن قد يقع من بعضهم من المعاملات ما يرى إباحته هو ويدخلها بتأويل سائغ، بينما قد يكون بعض الشركاء ممن يرى التحريم، فهل تخرج الشركة من كونها نقية إلى أن تكون مختلطة بمجرد أن تدخل في أي عقد مختلف فيه؟، لا سيما إذا كان دخولها في هذا المختلف فيه مبنياً على تأويل سائغ وفتوى معتبرة، فلو كان الأمر كذلك لم يصح من الشركات إلا التي تكون جميع المعاملات فيها جائزة بالإجماع، وهذا متعذّر لكثرة الخلاف في المعاملات، أو التي يكون الشركاء فيها متفقين في جميع مسائل الخلاف، وهذا لا يقول به أحد.
رابعاً: نظراً لاختلاف أقوال العلماء في بعض مسائل المعاملات المالية الاجتهادية، فإن الشركاء إذا كانوا من مذهبين مختلفين، قد يقع من أحدهما معاملة مالية جائزة في مذهبه، لكنها محرمة في مذهب شريكه، فيرد بناءً على هذا مسألة حكم مشاركة المسلم للمسلم إذا كانا من مذهبين مختلفين.
وإذا كانت العلة من اشتراط أن لا يلي الكافر العمل إذا شاركه المسلم، هي في كونه قد يتعامل بالحرام، فإن العلة موجودة هنا، وهي أنه من المحتمل أنَّ من يلي العمل من الشريكين قد يتعامل بما هو عند شريكه محرم.
ورغم ذلك لم أجد من أهل العلم من اشتراط اتحاد المذهب، مما يدل على أنها على الأصل وهو الجواز، بل إن هناك من نصَّ على الجواز في أوسع نوع من أنواع الشركات وهي المفاوضة، كما جاء عند الحنفية: "وتصح المفاوضة(1)بين حنفيِّ وشافعيِّ، وإن تفاوتا تصرفاً في متروك التسمية؛ لتساويهما ملَّةَّ"(2).
المذاهب الأربعة بالاتفاق تصحح الشركة بين مختلفي المذهب، رغم أنه من المعلوم اختلاف المذاهب في كثير من مسائل المعاملات، وأن الشريك لابد أن يقع منه من العقود والمعاملات ما يرى جوازه بينما شريكه يرى التحريم.
ولو لم نقل بهذا للزم أن يشترط في المضاربة مثلاً أن لا يدفع رب المال ماله لأحد ليتاجر به، إلا إذا حدد له أنواع العقود بدقة، أو كان متفقاً معه في جميع مسائل الخلاف بلا استثناء، حتى ولو كان العامل مسلماً، لا يجري من العقود إلا ما اعتقد جوازه.
خامساً: من الواضح اتفاق الفقهاء من المذاهب الأربعة على التفريق بين أمرين:
الأول: دخول الشركة في الحرام المحض، ولذلك يشترطون لجواز مشاركة الكافر أن لا يلي التصرف؛ لكونه قد يعقد على الحرام المحض.
الثاني: دخول الشركة في المعاملات المختلف فيها إذا كان من يلي عقدها هو من يرى الجواز بناء على مذهبه، أو اجتهاده، أو نحو ذلك، ولذلك لا يشترط أحد منهم أن يتفق الشركاء في المذهب.
ولذلك من المهم التفريق بين الأمرين في مسألتنا، وأقصد التفريق بين الدخول في الشركة التي تتعامل بالحرام المحض، وبين الشركة التي تستثمر في مجالات هي محل خلاف بين أهل العلم.
سادساً: من المهم أن يقال لمن اعتبر الشركات النقية شركات مختلطة إذا ما استثمرت بالأسهم المختلطة: ما ضابط الشركات المختلطة؟
فإن قيل: هي التي تتعامل بالحرام المحض المقطوع بحرمته، أو ما كان القول بجوازه قولاً شاذاً.
قيل: فالأسهم المختلطة ليست من المقطوع بحرمته، وليس القول بالجواز من الأقوال الشاذة التي لا اعتبار لها -رغم أننا نقول برجحان التحريم-.
وإن قيل: بل بالمختلطة تشمل حتى التي تتعامل بالمعاملات المختلف فيها.
قيل: كل الشركات -سواء المساهمة أو غيرها- تتعامل بالمختلف فيه، بل أنتم ذكرتم شركة مكة مثلاً من النقية، رغم الخلاف المشهور في حكم تأجير دور مكة، ورغم كونها تؤجر بعض المحرمات.
وذكرتم نادك من النقية، رغم وجود عقد تأمين صحي عندها وهو محل خلاف.
والتورق مختلف فيه فهل نقول بأن كل الشركات التي لديها تورق مختلطة؟.
وكذلك المرابحة للآمر بالشراء، والتأجير المنتهي بالتمليك وغيرها.
سابعاً: لعلي أمثّل لما أشرت إليه من أنه لابد أن يكون المحل جائزاً أو مطلقاً، وأن يكون المختلف فيه تابعاً، أما إن كان محل الشركة المختلف فيه فإن من يرى التحريم، يحرم عليه الدخول في الشركة.
ومثال ذلك: بيع كلاب الصيد محرمٌ عند الحنابلة، والشافعية، وجائزٌ عند الأحناف.
فلو تشارك حنبليٌ وحنفيٌ شركةً مطلقة، فلا إشكال في الجواز.
وإن تشاركا شركةً محددةً في بيع البهائم مثلاً، فإن محل العقد هنا مباحٌ في الجملة عندهما، مع احتمال أن يبيع الحنفيُ في الصورتين كلاب الصيد أحياناً، فالشركة هنا جائزة أيضاً.(5/109)
ولو تشاركا على أن يتاجرا ببيع كلاب الصيد بالتحديد، أو بأنها الأغلب على تجارتهما، فهذه هي الصورة الثالثة، والتي يظهر للباحث تحريمها؛ لأن محل العقد محرمّ عند الحنبلي فلا يجوز له الإقدام عليه.
ومثله ما يتعلق بالأسهم المختلطة، فإن الشركة إذا كان محلها المتاجرة في الأسهم المختلطة فإنه يحرم على من يرى تحريم الأسهم المختلطة الدخول في الشركة، أما إن كانت الشركة في الصناعة، أو الزراعة، أو غيرها، ثم استثمرت في الأسهم المختلطة لكونها ترى الجواز ودخلت بتأويل سائغ، فإن الأصل هو الجواز، إلا إن رأى أن القول بجواز المختلطة قولاً شاذاً وأن التحريم مقطوعٌ به.
ثامناً: يتلخص مما سبق أن الشركات النقية إذا استثمرت بالأسهم المختلطة لا تخرج من كونها نقية، وذلك وفق الضوابط التالية:
* أن لا يكون الاستثمار بالمختلط هو محل الشركة، أو النشاط الغالب فيها.
* أن يكون الاستثمار في الأسهم المختلطة مبنياً على تأويل سائغ، واتباعاً لفتوى من يعتد بقوله من أهل العلم.
أسأل الله أن يجنبنا، والمسلمين ما يغضبه، ويسخطه من الأقوال، والأفعال..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(1) كونهم ينصون على صحة المفاوضة بينهما أبلغ؛ لأن التصرف في المفاوضة عند الأحناف أوسع من العنان، ولذلك يشترطون فيها اتحاد الدين، فلا يصح مشاركة الكافر مفاوضة مطلقاً، وذلك أن التصرف الشركة في المفاوضة مطلق، ويعمل الشريك فيها بالتفويض المطلق في كل أنواع التجارة وبدون علم صاحبه ويتساويات في التصرف وفي العمل وفي المال وفي الربح من كل وجه.
(2) حاشية ابن عابدين (6/471)، والنص هو من شرح تنوير الأبصار الذي عليه الحاشية، وانظر: شرح فتح القدير (6/150).
=============
توجيهات لمضاربي المساهمات
د. عصام بن عبد المحسن الحميدان(*) 9/7/1425
25/08/2004
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الإنسان يعجب عندما يسمع عن بعض الناس الذين أصيبوا بسكتة قلبية، أو بمرض، أو باعوا بيوتهم، أو غير ذلك نتيجة لمضاربات الأسهم!
إن ذلك دليل على أحد شيئين: إما قلة الإيمان، أو قلة الحرص والاحتياط والخبرة.
ولذا فإني سأوجِّه بعض النصائح والتوجيهات لهؤلاء الناس وغيرهم، ممن يريد أن يقدم على المساهمة، أو هو أحد المساهمين.
قبل التجارة:
أولاً: عدم الإفتاء بغير علم، وتحريم ما لم يحرمه الله، فبعض الناس يسأل فيسارع إلى التحريم من باب الاحتياط، وهذا لا يجوز شرعاً، لأن التحريم والتحليل لله تعالى، قال سبحانه "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذِب هذا حلالٌ وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" ]النحل 116[ وهو جزء من التشريع للأمة، فهل هذا يرضى أن يكون مشرِّعاً مع الله تعالى ؟! وقد كان السلف رحمهم الله من الصحابة والتابعين يخافون أن يتحدث أحدهم في الدين فيكون مخطئاً.
ثم إن الأصل في المعاملات الإباحة، كما قال العلماء، والأصل في العبادات الحظر والتوقيف .
والنبي صلى الله عليه وسلّم أبقى على التجارات الموجودة في زمنه، إلا استثناءات يسيرة .
وقال صلى الله عليه وسلّم " أعظم الناس جُرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته " متفق عليه عن سعد رضي الله عنه .
والورع شيء والتحريم شيء آخر، قد أتورَّع أنا أو يوجه أحد العلماء بالتورع عن شيء، ولكن ذلك لا يعني التحريم، وأبو ذرّ رضي الله عنه من ورعه اعتزل الناس في الربَذة، لأنه يرى أن الناس قد توسعوا في الدنيا، ولكن بقي عثمان رضي الله عنه وكبار الصحابة في المدينة، وبقاؤهم هو الأصح، لأن يد الله على الجماعة .
ومما يجب قبل التجارة: الرجوع للمختصَّين من العلماء الخبيرين بالأمور المالية شرعاً وواقعاً ؛ لأن المعاملات تعددت وتنوَّعت وتفرَّعت، وأصبح من الصعب على الفقيه أن يستوعب كل أنواع المعاملات .
وأما الحكم في حال اختلاف الفقهاء، فهو باعتماد المجامع الفقهية واللجان الشرعية، فإنها أقرب إلى الصواب من غيرها .
وإذا وُجِد قولٌ لغيرهم من الفقهاء، فهو رحمةٌ من الله تعالى، لأن في اختلافهم سعةٌ على الأمة.وقد جاء للإمام أحمد رحمه الله رجلٌ يستشيره في تأليف كتابٍ في الاختلاف، فقال له: سمِّه كتاب السعة .
وقال ابن العربي رحمه الله (إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تختلف العلماء فيه، فيحرم عالم، ويحلل آخر، ويوجب مجتهد، ويسقط آخر، واختلاف العلماء رحمةٌ للخلق، وفسحةٌ في الحق، وطريقٌ مهيع -بيِّن- إلى الرفق) (أحكام القرآن: 2 / 699).
ثانياً: الاستفادة من أهل العلم والخبرة:
فإن المال أمانة بيد الإنسان، حتى المال الذي تنسبه لنفسك هو حقيقة لله تعالى، قال الله سبحانه "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" ]الحديد:7[ ومصادر الزراعة والتجارة والرعي، وكل الكون لله تعالى " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى" ] طه: 6 [ وهذه هي نظرة الإسلام للمال، وهي تختلف عن النظرة الرأسمالية التي تهدف إلى الربح المادي الذاتي - دون مراعاة لدور الدين فيه -، وينتج عنها تكوين الطبقية في المجتمع - دون مراعاة للتكافل الاجتماعي - .
فإذا كان المال لله تعالى، فلا يحل تبذيره بغير حق، قال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً" ]النساء:5[.
فيتقي الإنسان الله تعالى في ماله، فلا يضيع نفسه وأبناءه، والنبي صلى الله عليه وسلّم وجَّه إلى الاستفادة من أهل الخبرة والتخصص، فقال " هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال "، واستجاب لإشارة سلمان رضي الله عنه في حفر الخندق، وقال في الزراعة " أنتم أعلم بأمر دنياكم " رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه .
لذا ينبغي عدم التسرع في المساهمات، واستشارة الثقات، والسؤال عن الشركات، ومعاملاتها، ومعرفة واقعها من الناحية الشرعية، والمالية، لئلا يضطر إلى سحب ماله بعد ذلك .
ثم يسأل عن كيفية التجارة، والمرابحة، والمساهمة، وغيرها، لئلا يغبَن .
ثالثاً: عدم استعمال المال الضروري في الأسهم، وادّخار ما يحتاجه المرء، لأن في التجارة مخاطرة، فربما ذهب ماله بإذن الله تعالى ابتلاءً له، فمن الحزم أن يكون مستعداً ليوم الكريهة .
ثم يلتمس البركة في المال ولو في غير التجارة، كالزراعة، والصناعة وغيرهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنكم لا تدرون في أيّ طعامكم البركة " رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه .
عند التجارة :
أولاً: الصبر وعدم تعجُّل الربح، فكلما زاد الصبر قلَّت الخسارة:
والزمن جزء من العلاج، والربح السريع خطأ ؛ لأنه يؤدي إلى عدم مراعاة الضوابط الشرعية بشكل كامل، ويؤدي إلى السرعة في اتخاذ القرار دون التثبت في مدى نجاح المساهمة، ويؤدي إلى الغفلة عن بعض الثغرات التي لا تتضح إلا بالتأمل وذلك تحت تأثير الإغراء بالربح .
ثانياً: عدم التساهل في الأمور الربوية :
فقد قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله" ]البقرة: 278، 279[، وقال صلى الله عليه وسلّم " درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ست وثلاثين زنية " رواه أحمد ورجال رجال الصحيح عن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه .
وقال عليه السلام " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " رواه الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه .(5/110)
وإذا كانت البنوك قد فتحت أبوابها للمساهمين والمضاربين، فليس معنى ذلك جواز التعامل بأسهم البنوك، فإن رؤوس أموالها ربوية، وهناك فرق بين شراء أسهم البنوك، والشركات الربوية، واستخدام غرف وشاشات البنوك في التعامل، فإن هذه الغرف والشاشات وسائل للتداول لا علاقة لها بنوع المال أو التجارة .
ولكن على المؤمن الابتعاد عن الشبهات خصوصاً في حال شيوع الحرام، قال صلى الله عليه وسلّم " من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه، فمثله مثل الذي يأكل ولا يشبع " رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه .
وعلى المسلم مراعاة الضوابط الشرعية للمعاملات والمساهمات التي تصدرها المجامع الفقهية، واللجان الشرعية في البنوك.
ولما جاء الإسلام أغلق بعض أبواب التجارة لما فيها من الحرام، وإن كان فيها نفعٌ وأرباح، فقال سبحانه في الخمر والميسر "فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" [البقرة:219] وقال في تشغيل النساء في الفتنة أول الإسلام "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرَض الحياة الدنيا" [النور: 33]
فأغلق بعض الأبواب الضارة بالدين، وإن كانت نافعة في الدنيا .
ثالثاً: عواقب أكل الحرام :
في الدنيا: الاكتئاب، والقلق، والضيق، والأمراض النفسية، والاجتماعية .
وفي الآخرة، قال صلى الله عليه وسلّم " لا يدخل الجنة لحم ولا دم نبت من سحت، النار أولى به " رواه الطبراني ورجاله ثقات عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، ورواه أحمد عن جابر رضي الله عنه ورجاله رجال الصحيح .
فعلى المؤمن أن يتقي الله تعالى، ولا يعرض نفسه وأهله لأكل الحرام والشبهة، فإن الدعاء مقرون بأكل الحلال، قال صلى الله عليه وسلّم يا سعد، أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة رواه الطبراني بإسناد فيه نظر .
رابعاً: الرزق من الله تعالى لا من الناس :
لذا فإن المؤمن يسأل الله تعالى لا الناس "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"
]الذاريات: 58[
ويدعو الله تعالى بالسعة في الرزق، وكان صلى الله عليه وسلّم يقول "اللهم ارزقني واهدني"، وكان يقول "اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع عمري" رواه الطبراني في الأوسط عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بسند جيد .
ومن أفضل الأدعية في كسب الرزق المداومة على الدعاء بقول "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك "
وبالتالي لا يجزع إذا أصيب في ماله، لأنه من الله تعالى، ولا يبطر إذا وسِّع عليه، قال سبحانه في قصة قارون "لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" [القصص: 76] وقال سبحانه "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" [الحديد: 23].
خامساً: يجب أن لا تشغل التجارة عن ذكر الله تعالى، قال سبحانه "رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" ]النور:37[
ولذا قال سبحانه:"يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" ] الجمعة: 9 [ وفي غير يوم الجمعة كذلك .
ونحن نعلم أن الحفاظ على المال من الضرورات الخمس، ولكنه بعد الحفاظ على الدين، والنفس، فهو وسيلة لإقامة الدين، لا غاية لذاته، لذا فقد يكون نقمةً في بعض الأحيان، كالمال غير المزكَّى، وهو الكنز .
فيا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِهِ … …
سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ جَامِع
وَكم قد رأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ … …
لهم، بينَ أطباقِ التّرابِ مَضاجع
إذا ضَنّ مَنْ تَرْجو عَلَيكَ بنَفْعِهِ، … …
فذَرْهُ، فإنّ الرّزْقَ، في الأرْضِ، واسعُ
وَمَنْ كانَتِ الدّنْيا هَواهُ وهَمَّهُ، … …
سبَتْهُ المُنَى واستعبدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَنْ عَقَلَ استَحيا، وَأكرَمَ نَفسَه، … …
ومَنْ قَنِعَ استغْنَى فَهَلْ أنْتَ قَانِعُ
لِكلِّ امرِىء ٍ رأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفّهُ … …
عنِ الشّيءِ، أحياناً، وَرَأيٌ يُنازِعُ
سادساً: الصدقة تطهر المال من الشبهات :
قال سبحانه "خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها" ]التوبة:103[
وقال عز وجل يقصّ قصة أصحاب البستان "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون* فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم" ]القلم:17-20[ وذلك بسبب أنهم تعهدوا ألا يدخلنها عليهم مسكين، فمنعوا الصدقة، فاحترقت المزرعة .
وقال صلى الله عليه وسلّم " ما نقص مال من صدقة " رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلّم " يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشُوبوه بالصدقة " رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه .
وكان عثمان رضي الله عنه يتصدق كثيراً، مع تورُّعه في تجارته، وجاءت تجارة له يوماً، فقال: من يساومني عليها، فأعطي 100% فلم يرضَ، فزيد، فلم يرضَ، حتى قال: إني أعطيت فيها 1000 % ربحاً، فتعجبوا، وقالوا: نحن تجار المدينة، ولم يسبقنا أحدٌ إليك.فمن أعطاك ؟ فقال: الله أعطاني.فتصدق بها لوجه الله تعالى .
فالبركة تلتمس بالصدقة، وأكل الحلال.وهذا أمر مجرَّب بحمد الله .
سابعاً: تحريم الإشاعات والأكاذيب ونشرها :
فإن إضرار المسلمين حرام، قال صلى الله عليه وسلّم " لا ضرر ولا ضرار "، وقال " لا تحاسدوا "
والكلمة أمانة، قال سبحانه "إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً" ]الإسراء:36[
فلا يجوز الكذب في نقل أسعار الأسهم، والافتراء على الأشخاص، وربما حلف بعضهم كاذباً في مواقع الانترنت، ومنتديات الأسهم، وهذا يمينٌ غموس يغمس صاحبه في النار - عياذاً بالله -، قال صلى الله عليه وسلّم " من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد، لقي الله وهو عليه غضبان " رواه أحمد والنسائي عن عدي بن عميرة رضي الله عنه.وهو في الصحيحين بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه .
وربما عدّ بعضهم ذلك شطارة , وذكاء، وهو لا يعلم أنه يوقع إخوانه المسلمين في الحرج، والخسارة، وربما قال: لم أجبر أحداً على الشراء والبيع، ولكن أليس هو من أراد الناس أن يثقوا به، فكان عند سوء ظنهم، وأصبح غير محل ثقة .
ثامناً: الغيب لا يعلمه إلا الله، قال سبحانه: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"] النمل:65[ .
فلا يجوز الحكم بالغيب في الأسعار، وما يسمى بالتنبؤات، أو الاعتماد على الرؤى، أو الاعتماد على الطالع والحظّ، ونشر الإشاعات على ضوئها .
تاسعاً: الأمانة في المال، والنصيحة للمسلمين:
تبيين عيب الأسهم وحالها الصحيح، فلا يبيع على أحد شيئاً يعلم أنه خاسر، ويوهمه أنه رابح، فإن هذا غش، وقد قال صلى الله عليه وسلّم " الدين النصيحة " وقال " من غشّ فليس منا " رواهما مسلم في صحيحه .
وقال صلى الله عليه وسلم " لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيَّنه " رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلّم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " متفق عليه عن حكيم بن حزام رضي الله عنه .
ونهى صلى الله عليه وسلّم عن تلقي الركبان.متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
لأنه يؤدي إلى غبن البائع، فإن كان لا بدّ فالسكوت .
عاشراً: اتقاء الله تعالى في أموال الناس من قبل الوكلاء والوسطاء:
وحفظ حقوق الناس، وعدم طلب الربح الفاحش بالسمسرة .(5/111)
الحادي عشر: أمانة مجالس الإدارة في البعد عن الحرام والربا، والتماس منفعة الناس .
فإن لمجالس الإدارة دور كبير في توعية المساهمين بأنواع المساهمات، والصحيح منها، والرابح، والخاسر، والسعر الحقيقي، وغير ذلك .
عند الربح :
تذكر فضل الله تعالى، قال سبحانه "وما بكم من نعمةٍ فمن الله" ]النحل:53[، ونتذكر حديث الأبرص والأقرع والأعمى الذين ابتلاهم الله تعالى بكثرة المال، فجحد الأبرص والأقرع نعمة الله، وأقرّ بها الأعمى، فقال له الملك: إنما هو ابتلاء، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
عند الخسارة:
عدم القنوط من رحمة الله، والإيمان بالقدر :
قال سبحانه "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" ]التوبة:51[
، وتذكر أن الخسارة المادية أهون من خسارة الدين، وتوقُّع الخسارة :
لا تحسب المجد تمراً أنت آكلهُ *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وتذكر آلام المسلمين وفجائعهم، وأن هذه أنواع من الابتلاء، فبعض الناس يبتلى بالفقر، وبعضهم يبتلى بالتهجير، وبعضهم يبتلى بالمرض، وبعضهم يبتلى بالزوجة والولَد، وبعضهم يبتلى بالغنى، قال سبحانه: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" [الأنبياء: 35] وقال "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين" [البقرة:155].
(*) الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران.
================
بيع قسيمة الشراء بأقل من قيمتها
د. سامي بن إبراهيم السويلم (*) 17/7/1425
02/09/2004
سبق وأن نشرنا في نافذتنا فتوى حول (بيع قسيمة الشراء بأقل من قيمتها ) ثم وردنا تعقيب من أحد الإخوة يستشكل فيه جواز بيع هذه القسيمة بأقل من قيمتها إلى آخر ما ذكر- .فعرضنا هذا التعقيب على أحد المشائخ المشاركين معنا في الإجابة على أسئلة السائلين فتكرَّم بالتوضيح والبيان، فإليكم التعقيب والتوضيح.
التعقيب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
الإخوة الكرام بموقع الإسلام اليوم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نسأل الله أن ينفع بكم، ولقد قرأت فتوى بموقعكم تحت عنوان: (بيع قسيمة الشراء بأقل من قيمتها)، ولي على هذه الفتوى هذا الاستشكال، وأرجو عرض هذا الاستشكال على أهل العلم بفقه المعاملات من موقعكم، وخاصة الشيخ السويلم، نص الاستشكال: قسيمة الشراء هي بمثابة سند بقيمة مالية معينة تمنحها بعض الشركات لموظفيها إما على سبيل القرض، أو على سبيل الهبة، أو على سبيل المكافأة.
هذه القسيمة بمثابة سند للموظف بقيمة مالية معينة، بشرط أن يشتري بها من مكان مخصوص، فهو داخل في مفهوم الأوراق التجارية كالشيك، والسند، والكمبيالة.
فهل أجاز أحد من الفقهاء بيع الشيك أو السند؟ أو الكمبيالة بأقل من قيمتها؟! أليس هذا هو ربا الفضل المحرم؟ أليس هذا ما تحدث عنه علماء العصر مما يعرف بخصم أو حسم الأوراق التجارية بداية من الشيخ الهمشري، ونهاية بوقتنا هذا ... فكانت الفتوى على التحريم؟.
إن إجازة هذه الصورة ينتج عنها جواز بيع بطاقة الائتمان بأقل من قيمتها.
وخلاصة الأمر أن هذه القسيمة إما أن تمثل مالاً أو عروضاً.
فإذا مثلت مالا فيجوز بيعه، ولكن لا يجوز بيعه بأقل من جنسه، وإلا وقع ربا الفضل.
وإما أن يمثل عروضاً، والعروض يجوز بيعها بالثمن الذي يتفق عليه، ولكن البيع هنا لا يجوز؛ لأنه بيع قبل الشراء، وبيع قبل القبض، وبيع مجهول للطرفين.
التوضيح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إذا كانت القسيمة المشار إليها صادرة من المحل التجاري، كما يفهم من السؤال من أنها باسم المحل وليست باسم الشركة، وتعطي حاملها الحق في الحصول على بضاعة من هذا المحل قيمتها 500 ريال، وليس الحصول على النقد، فهذه القسيمة تمثل سلعاً في الذمة، بمثابة دين السَّلم، ولكن هذا الدين لم يتحدد فيه نوع المبيع وقدره، وإنما تحدد مصدره وقيمته، وهذه الصورة لا حرج فيها شرعاً على الأظهر؛ إذ يجوز للرجل أن يسلم مبلغاً من المال للبقال على أن يأخذ منه كل يوم بضاعة بحسب حاجته، وبحسب سعرها، والتزام البقال بذلك من جنس دين السلم، وهو نظير التزام المحل هنا بالبيع لحامل القسيمة، وثمن القسيمة قد يكون دفعته الشركة مقدماً للمحل، وقد يكون التزم به صاحب المحل ابتداء، وفي كلتا الحالتين هو بمثابة دين السلم كما سبق.
إذا تقرر ذلك فدين السلم يجوز بيعه - قبل قبضه - عند الإمام مالك، ومنع من ذلك الجمهور؛ لأنه بيع لما لم يقبض، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية جواز بيع دين السلم قبل قبضه بشرط ألا يربح منه (أي لا يكون ثمن البيع أكبر من رأسمال السلم)؛ لئلا يقع في ربح ما لم يضمن.
والأقرب -والله أعلم- هو جواز بيع دين السلم قبل قبضه؛ لأنها معاملة تخلو من الربا، فليس فيها نقد بنقد، وإنما نقد مقابل سلع في الذمة، وفيما يتعلق بالقسيمة فالربح غير متصور؛ لأن الموظف حصل على البطاقة دون دفع مقابل، ثم يبيعها بأقل من قيمتها، وعدم تحديد نوع السلع وقدرها لا يضر بالعقد؛ لأنه لا يؤدي للنزاع، والجهالة المحرمة شرعاً هي التي تفضي للنزاع، والنزاع هنا منتف بتحديد المحل التجاري، وتحديد القيمة الكلية.
وبهذا يتبين الفرق بين هذه القسيمة، وبين الورقة التجارية (الشيك والكمبيالة) التي أشار إليها الأخ الفاضل، فهذه الأوراق تمثل نقوداً في الذمة، بينما القسيمة تمثل سلعاً في الذمة، والفرق بينهما ظاهر، وبيع السلع في الذمة مقابل نقود حاضرة لا حرج فيه، بل هذا هو عقد السلم، إذ هو بيع لسلع في الذمة مقابل نقود حاضرة، وإنما المحذور بيعها مقابل نقود في الذمة؛ لأن ذلك من بيع الدين بالدين المجمع على تحريمه.
أما مقارنة القسيمة ببطاقة الائتمان، وفق ما ذكره الأخ في رسالته، فالفرق بينهما من وجوه:
(1) أن بطاقة الائتمان تصدر من البنك ولا تمثل سلعاً في ذمة البنك، بل ضماناً من المصرف بالسداد، بخلاف القسيمة فإنها تمثل سلعاً في ذمة المحل التجاري، فبيع البطاقة يعني المعاوضة على الضمان، وهو محرم شرعا؛ً لأنه يؤول إلى الربا.
(2) أن مشتري البطاقة لا تنتهي مسئوليته بقبض السلع من المحلات التجارية، بل يجب عليه سداد قيمتها للمصرف، فبيع البطاقة في هذه الحالة، حتى لو كانت تمثل سلعاً في الذمة، بمثابة بيع الدين بالدين، وهو ممنوع بالإجماع، بخلاف القسيمة فإن مشتريها لا يترتب في ذمته أي دين، فلا تتضمن بيع الدين بالدين.
(3) أن البطاقة تسمح بالحصول على النقد من خلال أجهزة الصرف الآلي، بخلاف القسيمة، فبيع البطاقة بيع لحق الاقتراض من البنك، وهو يؤول إلى الاقتراض بفائدة، فقياس بيع القسيمة على بيع البطاقة الائتمانية قياس مع الفارق المؤثر.
وبناء على ما سبق فالأظهر -والله أعلم- هو جواز بيع القسيمة المشار إليها إذا كانت تمثل سلعاً أو منافع في ذمة مصدرها، ولا تسمح لحاملها بالحصول على النقد، وكان ثمنها مدفوعاً نقداً. والله الهادي إلى الصواب، والحمد لله رب العالمين.
(*) مدير مركز البحث والتطوير بالمجموعة الشرعية بشركة الراجحي المصرفية للاستثمار
===============
حكم تداول أسهم شركة الصحراء
د. أحمد بن محمد الخليل 21/7/1425
06/09/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.(5/112)
تتميز الشركات حديثة التأسيس بأن أغلب موجوداتها من النقود، وقد يكون مع هذه النقود بعض الموجودات الأخرىمن الأعيان، أوالمنافع، أو الحقوق.
ومن هنا نشأ الإشكال في حكم تداول أسهم هذه الشركات؛ لأن تداولها يعني تداول نقد بنقد معه أعيان، ومنافع، وإن كان هذا الإشكال لا يختص بالشركة التي نشأت حديثاً، بل يشمل كل شركة بقية غالب موجوداتها من النقود ولم يبدأ تشغيل واستثمار تلك النقود.
وأُحب في هذه الكلمات المختصرة بيان حكم تداول هذه الأسهم، راجياً من الله التوفيق والسداد، فأقول مستعيناً بالله.
من أهم الأمور التي تحتاج إلى بيان وإيضاح في هذه الشركات ما يتعلق بالنقد الموجود فيها هل هو مقصود أم لا ؟
وإذا نظر الإنسان إلى النقد الموجود في هذه الشركات وجده مقصوداً لعدة اعتبارات :
أولاً: قوام هذا النوع من الشركات في هذا الوقت هو النقد الذي تملكه الشركة، فهو مهم جداً في هذه المرحلة من مراحل الشركة؛ لأن المشروعات الإنتاجية التي ستقوم تعمتد بالدرجة الأولى على هذا النقد، بل ربما احتاجت الشركة إلى الاقتراض لزيادة هذا النقد.
ثانياً: الجزء غير المقصود في السلعة من خصائصه أنه تبع لا يؤثر فقده على السلعة، ولو فقدت الأموال النقدية لهذه الشركة بأي سبب من الأسباب لسقطت سقوطاً ذريعاً، ولأصبح سهمها لا قيمة له فكيف يقال مع ذلك أن النقود غير مقصودة؟!
وبالمقابل لو فقدت بعض الأعيان، أو المنافع، أو الحقوق، لم تؤثر على الشركة تأثير فقد النقود.
وأنا لا أقول لا قيمة لهذه الأعيان، والحقوق، بل لها قيمة، لكن النقود أيضاً مقصودة ومهمة في هذه المرحلة للشركة.
ثالثاً: هذه النقود هي الغالب في موجودات الشركة فكيف يكون غالب السلعة ليس مقصوداً ؟
رابعاً: عندما تحدث الفقهاء عن قاعدة (التابع تابع) ذكروا من أمثلتها :جلد الحيوان، والجفن والحمائل للسيف, ونحوها.
فهل نسبة الأموال النقدية للشركة كنسبة الحمائل للسيف؟ إن في التسوية بينهما بعداً لا يخفى.
خامساً: المساهم الذي يشتري السهم يقصده كله بنقده وموجوداته الأخرى غير النقدية كالموجودات العينية, والحقوق المعنوية ونحوها.
فإن قيل إنه لايقصد النقد ولايخطر بباله
فالجواب أنه لايقصد أيضا الموجودات الأخرى غير النقدية، وهذا يدل على أنه يقصد سهم الشركة بموجوداته جملة من غير تعيين(1) .
وكون الشركة في الأصل تريد استثمار هذه النقود في المستقبل، لا ينفي أن ننظر إليها الآن(2) باعتبار حقيقتها، وهي أنها نقود وأعيان؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً و عدماً.
فإذا ثبت أن أسهم الشركات حديثة التأسيس تشتمل على أموال وأعيان كلاهما مقصود صارت هذه المسألة تدخل في مسألة "مد عجوة ودرهم" التي ذكرها الفقهاء.
ولا أريد هنا الإطالة بذكر الخلاف مع الأدلة والترجيح في هذه المسألة، ، إنما سأذكر الأقوال فقط ثم أذكر بعد ذلك حكم مسألتنا.
وقد اختلف فيها الفقهاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز بيع الربوي بجنسه، ومع إحداهما، أو معهما، من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم، وهذا قول جماهير أهل العلم(3).
القول الثاني: يجوز إن لم يكن الذي معه مقصوداً، كالسيف المحلى(4)،وهو رواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام، واختارها ابن قاضي الجبل(5).
القول الثالث: يجوز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وأن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، وهو مذهب الأحناف، وحماد بن أبي سليمان، ورواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام(6)، ولهذا القول شرط آخر سيأتي تفصيله.
فإذا عرفت الأقوال في هذه المسألة فأقول:
على القول الأول لا يجوز تداول أسهم الشركات حديثة التأسيس لعدم جواز بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسهما.
وعلى القول الثاني أيضاً لا يجوز تداول هذه الأسهم، باعتبار أن النقد الذي فيها مقصود، على ما سبق بيانه .
وإنما يتصور الجواز على القول الثالث فقط.
والصواب أنه لا يجوز تداول أسهم هذه الشركات، حتى على القول الثالث؛ لأن لهذا القول شرطاً يمنع من الجواز.
ذلك؛ لأن الفقهاء الذين أخذوا بالقول الثالث إنما يجيزون بيع الربوي بجنسه، ومعه من غير جنسه إذا كان المفرد أكثر بشرط وهو المقابلة.
ومعنى المقابلة تقسيم الثمن على المثمن، فمثلاً إذا باع درهمين بدرهم ومد، فإن المد مقابل الدرهم والدرهم مقابل الدرهم.
قال حرب: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفياً ودرهماً وأخذت ديناراً شامياً وزنهما سواء، قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة(7).
وذكر شيخ الإسلام أن الفضة إذا كان معها نحاس وبيعت بفضة خالصة "والفضة المقرونة بالنحاس أقل، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة " مد عجوة "، كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين"(8) .
ولزيادة الإيضاح أنقل كلاماً نفيساً للحافظ ابن رجب، حول حكم مسألة مد عجوة ودرهم، قال ابن رجب:
"ومنها مسألة مد عجوة وهي قاعدة عظيمة بنفسها فلنذكر هاهنا مضمونها ملخصا: إذا باع ربويا بجنسه ومعه من غير جنسه من الطرفين أو أحدهما كمد عجوة ودرهم بمد عجوة أو مد عجوة ودرهم بمدي عجوة أوبدرهمين ففيه روايتان أشهرهما بطلان العقد وله مأخذان:(5/113)
أحدهما: وهو مسلك القاضي وأصحابه أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثمن على قيمتهما وهذا يؤدي هاهنا إما إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتساوي وكلاهما مبطل للعقد في أموال الربا. وبيان ذلك : أنه إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة دراهم كان الدرهم في مقابلة ثلثي مد ويبقى مد في مقابلة مد وثلث ذلك ربا وكذلك إذا باع مدا يساوي درهما ودرهمين بمدين يساوين ثلاثة دراهم فإنه يتقابل الدرهمان بمد وثلث مد ويبقى ثلثا مد في مقابلة مد , وأما إن فرض التساوي كمد يساوي درهما , ودرهم بمد يساوي درهما ودرهم فإن التقويم ظن وتخمين فلا يتيقن معه المساواة والجهل بالتساوي هاهنا كالعلم بالتفاضل فلو فرض أن المدين من شجرة واحدة أو من زرع واحد وإن الدرهمين من نقد واحد ففيه وجهان ذكرهما القاضي في خلافه احتمالين : أحدهما : الجواز لتحقق المساواة . والثاني : المنع لجواز أن يتغير أحدهما قبل العقد فتنقص قيمته وحده وصحح أبو الخطاب في انتصاره المنع قال ; لأنا لا نقابل مدا بمد ودرهما بدرهم بل نقابل مدا بنصف مد ونصف درهم , وكذلك لو خرج مستحقا لاسترد ذلك وحينئذ فالجهل بالتساوي قائم , هذا ما ذكره في تقريره هذه الطريقة . وهو عندي ضعيف ; لأن المنقسم هو قيمة الثمن على قيمة المثمن لا إجراء(9) أحدهما على قيمة الآخر ففيما إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة لا نقول درهم مقابل بثلثي مد بل نقول ثلث الثمن مقابل بثلث المثمن فنقابل ثلث المدين بثلث مد وثلث درهم ونقابل ثلث المدين بثلثي مد وثلثي درهم فلا تنفك مقابلة كل جزء من المدين بجزء من المد والدرهم. ولهذا لو باع شقصا وسيفا بمائة درهم وعشرة دنانير لأخذ الشفيع الشقص بحصته من الدراهم والدنانير , نعم نحتاج إلى معرفة ما يقابل الدرهم أو المد من الجملة الأخرى إذا ظهر أحدهما مستحقا أو رد بعيب أو غيره ليرد ما قابله من عوضه حيث كان المردود هاهنا معينا مفردا , أما مع صحة العقد في الكل واستدامته فإنا نوزع أجزاء الثمن على أجزاء المثمن بحسب القيمة وحينئذ فالمفاضلة المتيقنة كما ذكروه منتفية , وأما أن المساواة غير معلومة فقد تعلم في بعض الصور كما سبق"(10).
فهذا الكلام نقلته لبيان أن العلماء يرون أنه في مسألة مد عجوة ودرهم لا بد من انقسام أجزاء أحدهما على قيمة الآخر على طريقة القاضي.
أو انقسام قيمة الثمن على قيمة المثمن على طريقة ابن رجب.
وعلى كلٍ لا بد من هذا التقسيم.
وقد نقلت هذا للإيضاح كما سبق، وإلا فإن هذا التفصيل كله يتعلق بالرواية الأولى وهي المنع. ونأتي الآن إلى الرواية الثانية يقول ابن رجب:
"والرواية الثانية : يجوز ذلك بشرط أن يكون مع الربوي من غير جنسه من الطرفين، أو يكون مع أحدهما ولكن المفرد أكثر من الذي معه غيره نص عليه أحمد في رواية جماعة، جعلا لغير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة , ومن المتأخرين كالسامري من يشترط فيما إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي جعلا لكل جنس في مقابلة جنسه، وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره، لا سيما مع اختلافهما في القيمة، وعلى هذه الرواية فإنما يجوز ذلك ما لم يكن حيلة على الربا، وقد نص أحمد على هذا الشرط في رواية حرب ولا بد منه . وعلى هذه الرواية يكون التوزيع هاهنا للأفراد على الأفراد، وعلى الرواية الأولى هو من باب توزيع الأفراد على الجمل، أو توزيع الجمل على الجمل"(11) .
إذاً على هذه الرواية ـ الجواز ـ يكون التوزيع للأفراد على الأفراد، أي نجعل غير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة، كما تقدم عن ابن رجب، وإذا اختل هذا المبدأ حرمت المعاملة.
وإذا أردنا أن نطبق هذه المقابلة، أو التقسيم، على مسألتنا فإنه ينتج من ذلك عدم الجواز.
ولبيان ذلك أقول:
طرحت شركة الصحراء أسهمها للإكتتاب بقيمة (50) ريالاً للسهم الواحد(12).
وصُرف جزء يسير من هذه ألـ (50) في شراء أعيان، أو منافع ولنفرض أنها تشكل 10% من قيمة السهم، فبقي من الأموال النقدية 45 ريالاً.
ثم ارتفعت قيمة الأسهم لتصل إلى (220) ريالاً للسهم الواحد.
فإذا أردنا تطبيق مبدأ مد عجوة ودرهم فنقول:
ألـ(45) ريالاً من الثمن أي (220) مقابل ألـ(45) من المثمن (النقد في الشركة) ويبقى من الثمن 220ـ45=175
فهذا المبلغ المتبقي من الثمن وهو (175) لا يمكن أن يكون كله مقابل الأعيان والمنافع فقط لما يلي:
- هذه الأعيان والمنافع لا يعرفها كثير من المساهمين أصلاً، بل كثير من الناس لا يعرف عن هذه الشركة إلا أنها ما زالت نقوداً، وإذا كان المساهمون الذين رفعوا السهم لا يعرفون فيه هذه الحقوق والمنافع، بل قد تكون معرفتهم بوجود النقد أكثر من معرفتهم بها، فكيف نجعل سبب إرتفاع الأسهم منحصراً في أشياء لا يعرفونها، أو معرفتهم بها قليلة.
ـ هذه القيمة قد ترتفع أو تنزل في دقائق، مما يدل أنها قيمة سوقية للسهم كله، نقده، وأعيانه، وحقوقه؛ لأن قيمة هذه الأعيان والحقوق لن ترتفع في دقائق بمفردها، بل الذي يرتفع هو السهم بكل موجوداته العينية, والنقدية، وغيرها, ولا يوجد مطلقاً ما يدل على أن هذا الإرتفاع إنما هو في قيمة الأعيان والمنافع فقط, بل هذه غاية في البعد، عند تصور حقيقة المعاملة.
إذ إن القول بأن هذه الأسهم ارتفع سعرها نظراً للموجودات غير النقدية, وسمعت الشركة, ونحو ذلك, قول بعيد عن حقيقة ما يقع في أسواق تداول الأسهم؛ فإن المساهمين في الغالب لا يعرفون شيئاً كثيراً عن الشركات، لا سيما الحديثة منها، إنما يتحكم في إرتفاع سعر الأسهم أو هبوطها ما يجري على الأسهم من مضاربات بين المتداولين، أو ظهور الإشاعات، أو تحركات كبار المساهمين، ونحو هذه الأسباب.
والمضاربات هي العنصر الأهم في إرتفاع قيم الأسهم, والمضاربون يرفعون قيم الأسهم من خلال الأساليب المتنوعة في العرض والطلب، وذلك كله بعيداً عن مراعات شئ معين من موجودات الشركة من الحقوق والمنافع والأعيان والنقود، فإذا ارتفع السهم فهو يرتفع بكل موجوداته ولا يقصد منها شيئاً معيناً
ولا أدل على ذلك من أن أسهم بعض الشركات ترتفع رغم إعلانها الخسارة ووجود انطباع سيء عن أدائها عند المساهمين، وهذا كله يفترض أن يؤدي إلى تدني قيم الحقوق والموجودات العينية، ولكن مع ذلك ترتفع أسهمها بسبب المضاربات السوقية.
ومع ما سبق ما الذي يجعلنا نفترض أن الزيادة في قيمة السهم في مقابل تلك الموجودات (الأعيان والحقوق والمنافع) فقط.
وقد عرفنا أن هذا الارتفاع سببه الحقيقي المضاربات على الأسهم، وهي لا تفرق بين موجودات الشركة من النقود، والحقوق، والأعيان، وغيرها فهي في الواقع مقابل السهم برمته نقده وموجوداته.
فالزعم أن سبب الارتفاع هوالموجودات غير النقدية فقط يخالف الواقع.
وخلاصة ما سبق أن هذا الارتفاع لا يقابل هذه الحقوق والمنافع فقط، بل يقابل السهم كله نقده وحقوقه ومنافعه.
ونخلص من هذا إلى أن جزء من هذا المبلغ المتبقي (أي ألـ 175) مقابل للنقد الموجود في الشركة بالإضافة إلى ألـ (45) الأولى من الثمن أي أنه اشترى (45) ريالاً بـ(45) وزيادة وهذا هو ربا الفضل.
وبهذا يتبين أنه حتى على القول بجواز مسألة مد عجوة ودرهم فإنها لا تنطبق على شركة الصحراء لعدم تحقق شرط الجواز على ما سبق تفصيله.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم بالصواب.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/114)
لمزيد من الدراسة حول الموضوع:
(حكم تداول أسهم الشركات التي في مرحلة التأسيس)
(1) وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة إن شاء الله.
(2) أي قبل بدء النشاط.
(3) القوانين الفقهية ص166، مغني المحتاج 2/28، المغني 6/93.
(4) أي كبيع سيف محلى بفضة فإن الفضة التي في السيف ليست مقصودة.
(5) الشرح الكبير مع الإنصاف 12/79.
(6) البناية 7/518، المبسوط 12/189, المغني 6/93، الإنصاف مع الشرح الكبير 12/79.
(7) الشرح الكبير 12/78.
(8) مجموع الفتاوى 29/452.
(9) هكذا في المطبوعة والمحققة ولعل صوابها: (أجزاء) وذكر في المحققة نسخة ( إجزاء ) هكذا.
(10) قواعد ابن رجب 2/478.
(11) قواعد ابن رجب 2/480.
(12) سيكون التطبيق على سهم واحد ليسهل فهم المسألة وتصورها.
===============
الغزالي: أعطوا النظرية الاقتصادية الإسلامية الفرصة
حوار /عبد الرحمن أبو عوف 10/9/1425
24/10/2004
أكد الدكتور عبد الحميد الغزالي -أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة القاهرة- أن الدول العربية والإسلامية جربت العديد من النماذج الاقتصادية مما سبب لها التراجع عن الركب العالمي، وطالب بإعطاء النموذج الإسلامي الفرصة ليثبت نفسه في الساحة الاقتصادية، الإسلامية، وغيرها من القضايا التي أثيرت في الحوار التالي.
• بوصفك خبيرًا اقتصاديًّا هل لك أن توضح لنا أسباب التخلف الاقتصادي الذي يعاني منه عالمنا الإسلامي؟
• إن مجتمعاتنا تعاني من التخلف الاقتصادي لبعدها عن تطبيق النموذج الإسلامي للاقتصاد والحياة؛ فنحن قمنا بتجربة جميع النماذج الاقتصادية من اشتراكي إلى ليبرالي حُرّ، وفشلت كلتا النظريتين؛ فلماذا لا نعطي النظرية الإسلامية الفرصة؟ كما أن هذه النظرية تقوم على محورين لإحداث التنمية الأول: أن تكون هذه المجتمعات حرة، والثاني أن تكون مستقلة ومنتجة. المشكلة في عالمنا العربي أنه لا يتوفر الشرطان؛ فالمناخ السياسي يقوم على القهر السياسي والاستغلال الاقتصادي، وهما سبب مصيبتنا وتخلّفنا، ونحن نستطيع التغلب على هذه المشكلة بتطهير المناخ والقيام بإصلاحات في مجالات التعليم والتكنولوجيا والانتباه لمصالحنا الاقتصادية.
تجربة البنوك الإسلامية
• شهدت بريطانيا مؤخرًا افتتاح بنك إسلامي كبير كيف تنظرون إلى هذه التجربة؟
• المصرفية الإسلامية تُعد ظاهرة قديمة تقوم أساساً على توفير تمويل للمشروعات الإنمائية وفقًا لصيغ الاستثمار الإسلامي البعيدة عن شبهة الربا المحرّم، وتُعدّ هذه الظاهرة جديدة؛ لأنها تختلف جذريًّا عن العمل المصرفي الربوي الحديث، وقد حققت هذه التجربة الحديثة نسبيًّا- أول بنك إسلامي تم إنشاؤه في دبي عام 1971 - نجاحاتٍ لا ينكرها إلا جاحد؛ حيث وصل عدد البنوك الإسلامية إلى (300) بنكٍ، ومؤسسة نقدية تعمل من خلال شبكة من الفروع تصل لأكثر من (500) فرع يبلغ حجم أعمالها مئات المليارات، ويتعامل معها ملايين العملاء، وليس أدل على النجاح الذي حققته هذه التجربة من قيام البنوك الربوية بفتح شبابيك للتعامل الإسلامي، وهذا ليس إيمانًا بالفكرة، وإنما استغلال لجدواها الاقتصادية.
• ولكن هل ظهرت اعترافاتٌ من جهات دولية تشهد بنجاح البنوك الإسلامية؟
• بالتأكيد صدرت تقارير ودراسات عن صندوق النقد والبنك الدوليين تشير إلى جدوى العمل المصرفي الإسلامي، وتوصية للدول النامية، ومنها الإسلامية بالأخذ، ولو جزئياً بهذه الصيغة في عملية تمويل التنمية على أساس أن البنك الإسلامي يُعد شريكًا حقيقيًّا في الاستثمار، أي يقوم بإنشاء مشروعاتٍ إنمائية، وهذا ما تحتاجه هذه الدول لتنمية اقتصادياتها؛ حيث إن المصرفية الإسلامية لا تتعامل بالنظام الربوي، وتقوم على نظام المشاركة في الربح والخسارة، فالعلاقة بين البنك الإسلامي والمودعين يحكمه عقد المضاربة الشرعي، وصيغ الاستثمار الإسلامي الذي يقوم على العقود الشرعيّة التي تتكون من ثلاث مجموعاتٍ.
المجموعة الأولى: تشمل عقود الشركة، وعقود المضاربة، والمجموعة الثانية: الخاصة بالبيوع، وتشمل بيع المساومة، أو المتاجرة، والمرابحة، والمجموعة الثالثة: هي عقود الإيجار التشغيلية، والإجارة. وتحكم علاقة العملاء بالبنك الإسلامي ضرورة تحمل المخاطرة الكاملة لكلا الطرفين أي أن رأس المال لا يكون غانمًا إلا إذا كان هناك احتمال حدوث خسارة، وثانيها أن النقود في حد ذاتها لا تلد نقودًا؛ إنما تزيد أو تنقص بدخولها في نشاط اقتصادي، وتحمل مخاطر ذلك، وثالثها أن الربح وقاية لرأس المال لأنه إذا خسر ينقص.
• حديثك يشير إلى إيجابيات ألا تواجه هذه الظاهرة مشكلات تعوق عملها؟
• هناك مشكلات حقيقية تجابه هذه الظاهرة، وأهمها أن المصارف الإسلامية نشأت في بيئة مادية بمعنى أن السوق المصرفية التي نشأت فيها هذه الظاهرة تتعامل بالربا المحرم، كما أن البنك المركزي في كثيرٍ من التجارب يطبق عليها قانون النقد والائتمان؛ فيفرض عليها شروطًا لا تتماشى مع طبيعتها؛ مثل سقف الائتمان رغم أنها لا تتعامل بالنظام الربوي، وهناك مخرج من هذه الأزمة هو سن قانون خاص بالمصرفية الإسلامية كما حدث في تجارب دولة الإمارات والبحرين واليمن.
والمشكلة الثانية أن هذه الظاهرة تم تطبيقها قبل الإعداد الجيد لها؛ حيث نجد أن العاملين في هذه المؤسسات لم يعدّوا جيدًا للقيام بهذه المهمة من ثم حدثت بعض الأخطاء مما يؤكد ضرورة تكثيف التدريب لكافة العاملين ضمانًا للتطبيق الصحيح لشروط وضوابط العمل في هذه المؤسسات.
• ما رؤيتك لمستقبل العمل المصرفي الإسلامي؟
• باطمئنان ظاهرة المصرفية الإسلامية جاءت لتبقى وتزدهر بمشيئة الله، ولعل تحول تجارب كاملة إلى العمل المصرفي الإسلامي، وهي التجربة الباكستانية والسودانية، وتحول معظم المؤسسات التحويلية السعودية إلى الظاهرة الإسلامية، وازدهارها في التجربتين الماليزية والإندونيسية خير شاهدٍ على نجاح هذه التجربة.
===============
الاقتصاد الإسلامي والتحديات المعاصرة
د. يوسف بن أحمد القاسم 24/5/1427
20/06/2006
أكد الدكتور يوسف القاسم الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للقضاء أن القضايا المستجدة تحتاج إلى تتبع واستقراء؛ وذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره, والواقع أن عالم الاقتصاد, بل والعالم بأسره، أصبح يطل علينا يومياً بكل جديد.
وقال في حوار لإسلاميات معاصرة إن أهم ما يجب أن يتعلمه المشتغلين بالسوق: التفقه في مسائل البيع والشراء. وأبان أن الاختلاف بين المفتين ظاهرة طبيعية وجدت منذ عصور متقدمة، ولهذا لا ينبغي أن ينتقد أهل العلم في ذلك، وقد شعر العامة بهذا المأزق بسبب كثرة برامج الفتاوى التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة، وتحدث عن جوانب أخرى تهم المتابع كالجوانب الاقتصادية وفيما يلي نص الحوار ..
ما سبب التوجه للكتابة في الاقتصاد الإسلامي؟(5/115)
الحقيقة أن أول اهتمامي للكتابة بهذا الموضوع كان عبر البحث الذي كتبته للترقية قبل أكثر من سنة، وعنوانه " زكاة الأسهم المتعثرة " وقد نشر بعد تحكيمه في مجلة العدل الفصلية، وفي بعض المواقع والمنتديات، وقد دفعني للكتابة في هذا الموضوع كثرة المساهمات المتعثرة التي شهدها بلدنا - وللأسف - هذه السنوات الأخيرة، وكثرة سؤال الناس عنها، مما دفعني للكتابة في هذا الموضوع حيث لم أقف على أي بحث أو كتاب عن هذه المسألة النازلة، وبعدما نشر هذا البحث، هاتفني أخي الفاضل الأستاذ عبد الحي شاهين الكاتب في موقع الإسلام اليوم طالباً الكتابة حول أي موضوع يتعلق بالأسهم، حيث كان تعلق الناس حينها بالسوق على أشده، وكانت رغبته تلك من أجل أن ينشر المقال في مجلة الإسلام اليوم، وكنت حينها أسمع ببعض السلوكيات الخاطئة في سوق الأسهم، فقررت أن يكون المقال حول هذا الموضوع، وحيث لم يكن لي سابق خبرة في هذا المجال فقد سألت بعض الإخوة المهتمين بالسوق عما يدور في الكواليس وفوق الطاولة وتحتها، فوقفت على تجاوزات يندى لها الجبين، فكتبت المقال حينها، ونشر في المجلة، وكان عنوانه "قراءة نقدية لواقع المساهمات في السوق المحلي" وكان له صدى طيب في أوساط المهتمين بالأسهم، حيث نشر في عدد من المواقع والمنتديات، وقد أشرت في ذلك المقال إلى ما يقع في سوق الأسهم من مخالفات شرعية، من نجش, وتدليس, وإشاعات كاذبة، حتى أصبح من المقولات السائدة "اشتر على الإشاعة وبع على الخبر!!" وهكذا أصبح السوق في الحقيقة مجموعة من السلوكيات الخاطئة، وزاد الطين بلة تلك المضاربات التي رفعت بأسعار بعض الشركات إلى معدلات غير حقيقية، حتى نطق المجانين قبل العقلاء، والبسطاء قبل العلماء، بأنها قمار، وأنها ستهوي بالسوق نحو القاع، وقد أشرت في المقال الآنف الذكر إلى هذه الحقيقة، ومن الطريف حقاً أن الأستاذ المحرر عبد الحي أضاف إلى هذا المقال شيئاً من السخونة، حيث أعطاه عنواناً آخر، وهو " سوق الأسهم على شفا انهيار " ونشر في المجلة في عددها الثامن، ثم نشر على الصفحة الرئيسية لموقع الإسلام اليوم قبل الانهيار بأيام قليلة، وكأنه صيحة تحذير للمضاربين في السوق !
هل تعتقد أن الاهتمام بقضايا الاقتصاد ونوازل العصر يحتاج إلى متابعة مستمرة؟
لاشك أن هذه القضايا المستجدة تحتاج إلى تتبع واستقراء؛ وذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والواقع أن عالم الاقتصاد، بل والعالم بأسره، أصبح يطل علينا يومياً بكل جديد، وهذا يحتاج من طالب العلم إلى أن يتابع كل ما يستجد في الساحة قدر الإمكان، حتى يضع الحكم الشرعي في محله الصحيح، ولهذا قرر ابن القيم في أعلام الموقعين أن المفتي لا يتمكن من الفتوى إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، والثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله تعالى الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يطبقه على هذا الواقع.
هل ترون أن هناك أموراً وضوابط لا بد أن يتعرف عليها المتعاملون في أي سوق تجاري ؟
أهم ما يجب تعلمه على المشتغلين بالسوق: التفقه في مسائل البيع والشراء، ولهذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا " بل استدل بعض المفسرين ومنهم القرطبي على ما قرره عمر بقوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) وعلق القرطبي على هذه الآية بقوله: "لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة"، وكثير من الممارسات الخاطئة الواقعة في أسواق المسلمين سببها الجهل بأحكام التجارة، وإن كان الدافع الأكبر لها هو الهوى وحب المال الذي يعمي ويصم .
يفتقد الناس الطرح التربوي الاقتصادي لمعالجة قضايا التعامل الساخنة بين المتعاملين في المجال الاقتصادي.
في الواقع هذا الطرح موجود، ولكنه بشكل محدود جداً, وينبغي تفعيل هذا الطرح، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل على جميع المستويات، فمراعاة الجانب التربوي هي من صميم وظيفة الأنبياء والرسل، ولهذا نجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد أعطى هذا الجانب حقه من الاهتمام، ففي مجال السوق والبيع والشراء نجده عليه الصلاة والسلام يدخل السوق بنفسه, ويراقب سلوك الباعة, ويقوِّم ما اعوج منها بأسلوبه الحكيم, ولهذا حين دخل مرة السوق, ومر على صبرة طعام، أدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال ما هذا يا صاحب الطعام ؟ فقال : أصابته السماء يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني، والحديث في صحيح مسلم. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وفي صحيح مسلم"ولا يسم الرجل على سوم أخيه " فهذه الأحاديث القولية, والعملية, كلها تغرس في نفس المسلم حس المراقبة، وتحمله على الأخلاق الفاضلة في السوق وخارجها، ولهذا ورث منه أصحابه الكرام هذا الأسلوب التربوي العملي, فكان عمر يمارس هذا الأسلوب ذاته، فقد روي عنه أنه دخل السوق مرة، فرأى رجلا يحمّل جمله أكثر من طاقته، فقال له عمر منكراً عليه: "حمّلت جملك ما لا يطيق!" ومرة دخل السوق فمر بحاطب بن أبي بلتعة وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعّر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حدّثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت. فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع " وبتأمل هذا الأثر نجد عمر قد اهتم بشأن السوق حين دخله وقام فيه بجولة, رغم مكانته رضي الله عنه، ثم إن هموم الناس قد خالطت شغاف قلبه، حين خشي أن يؤدي تخفيض سعر البيع إلى الإضرار بالباعة، ولهذا أمر حاطباً أن يبيع بسعر السوق، وبعد أن خرج من السوق لامته نفسه، وخشي أن يكون قد تدخل فيما ليس من شأنه، فرجع إلى السوق ثانية، وقال له ما قال معتذراً، وهذا من تواضعه رضي الله عنه، ثم صرح له بالبيع كيف شاء، وترك سعر السوق يخضع لقانون العرض والطلب دون تدخل منه، أو من غيره. ومما روي عنه رضي الله عنه أنه رأى مرة رجلاً خلط اللبن بالماء، ويبيعه على هذه الصورة، فأراقه عليه. فهذه المواقف ونحوها، تعطي المتعاملين في السوق دروساً عملية في التربية، واستحضار مراقبة الله تعالى في البيع والشراء، وتحريم إلحاق الأذى بالناس .. إلخ، وهكذا ينبغي أن يكون ورثة الأنبياء، وهم العلماء، فينبغي أن يكرسوا الجهد في سبيل الدعوة, والتربية, والإصلاح.
يقف المستفتي حائراً في أحيان كثيرة بسبب تضارب الفتوى، فكيف يمكن للمستفتي أن يتجاوز هذا المأزق؟(5/116)
الاختلاف بين المفتين ظاهرة طبيعية وجدت منذ عصور متقدمة، ولهذا لا ينبغي أن ينتقد أهل العلم في ذلك، وقد شعر العامة بهذا المأزق بسبب كثرة برامج الفتاوى التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة، وهي ظاهرة صحية وليست مرضية، ما دام المفتي المستضاف على قدر من العلم والحكمة، وقد كتبت مقالاً في موقف العامي من خلاف المفتين - منشور في موقع الإسلام اليوم - بينت فيه المخرج من هذا المأزق بكلام مفصل، حاصله: أن المستفتي لا يجوز له أن يتتبع الآراء الشاذة ولا أن يتتبع رخص الفقهاء بإجماع أهل العلم كما حكاه الحافظ ابن عبد البر، وإذا اختلفت عليه الفتوى فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أن العامي يجتهد حسب تمييزه، ويتقي الله حسب استطاعته، فإن ترجح له قول أحد المفتين لكونه الأعلم الأورع أخذ بفتواه، فإن استويا في العلم والورع، أو شق عليه معرفة الأعلم منهما، وكانت نفسه تسكن لفتيا أحدهما ويطمئن لها قلبه دون فتيا الآخر، أخذ بهذا المرجح، وكذا لو ترجح له قول أحدهما لكثرة من أفتى به من أهل العلم.
كيف ترى أهمية دراسة الاقتصاد والاستفادة مما فيه من إيجابيات، وهل هناك أخطاء يتم تصديرها للعالم الإسلامي؟
أرى أن هذا من الأهمية بمكان؛ إذ لا ينبغي أن نبدأ من حيث بدأ غيرنا، وإنما نبدأ من حيث انتهوا، وهذا يعني أن نستفيد مما لديهم من حسنات وإيجابيات، لا أن نستورد ما عندهم بعجره وبجره، بمعنى أن نؤسس اقتصاداً إسلاميا مستقلاً لا تابعاً، مع الاستفادة من الخبرات والتجارب الأخرى, لا أن نقوم بعملية ترقيع للاقتصاد الشرقي أو الغربي، مع الاحتفاظ بالأسس التي تقوم عليها تلك الأنظمة، فيصبح التعديل في الشكل لا في المضمون، والنتيجة اقتصاد مسخ، كما هو الحال في برامج الأطفال الكرتونية التي تستورد من هنا وهناك، ثم يجرى عليها بعض اللمسات الإسلامية التي لا تغير المضمون، وهكذا نعتمد على عقول الآخرين، ونستغني عن عقولنا وإبداعاتنا، ونكون عالة على غيرنا، ونبقى متخلفين في ركب العالم الثالث.
وبالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فإنه لا شك أن هناك أخطاء كثيرة تم تصديرها لعالمنا الإسلامي بقصد أو بغير قصد، ومن أبرزها هذا الربا الذي يمارسه عدد من البنوك في بلادنا الإسلامية، مع كونه كبيرة من أكبر الكبائر، والغريب أنه بدأت تظهر هناك في الغرب بعض النداءات المطالبة بإلغاء الربا؛ لأنه لأن الواقع أثبت فشله أمام التعاملات المصرفية الإسلامية، وأنها أكثر جدوى ربحية منه، وقد نشر في جريدتكم الاقتصادية خبر أو تقرير عن هذا الموضوع، وأنه قامت بعض المصارف الأوروبية بافتتاح فروع إسلامية في بلادها لما ثبت لديها من الجدوى الاقتصادية لهذه المصارف، ومع هذا كله نجد من بني جلدتنا من يأكل الربا بكلتا يديه، ويؤكل غيره، بل ويحرم كثيراً من أبناء الوطن من الدخول في بعض الشركات المساهمة؛ لأنه أبى إلا أن يأكل الربا ويدعو الناس معه على مائدته!!
ومن الأخطاء التي تم تصديرها إلى بلادنا الإسلامية هذا النظام الغربي لسوق الأسهم, الذي ضحاياه اليوم أكثر من مليوني شخص مابين قتيل وجريح ! وهذه الضحايا كما تهاوت في سوقنا، فقد تهاوت قبل في نيويورك، وفي الكويت، وفي دول جنوب شرق آسيا، وغيرها، ولا عجب مما حل في سوقنا إذا علمنا أن هذه الصالات تدعى في بعض البلاد الغربية بصالات القمار، وما حرم الله تعالى الرحيم بعباده على خلقه شيئاً إلا لما يشتمل عليه من ضرر في العاجل والآجل، ولو لم يكن فيه من ضرر إلا أنه أدى إلى ركود اقتصادي في البلد، بل أدى إلى نقيض ما أسست الشركات من أجله وهو الاستثمار، حتى قامت بعض الشركات باستثمار 60 في المائة من السيولة التي لديها في هذه السوق التي تلقف ما صنعوا، ولهذا فالواجب أن نستلهم الدروس والعبر مما يمر بنا من أزمات، حتى لا نلدغ من جحر واحد مرتين، أو أكثر!! ومن الخطأ أن نعتقد أن هذا النظام القائم هو قدرنا الذي يجب علينا أن نختاره، فنلزم أنفسنا بتجربة أو تجارب أثبت الواقع فشلها، فكم سمعنا في وسائل الإعلام المختلفة أن هذه السوق قوية واقتصادنا واعد، فلا يمكن أن تنهار السوق، وخالف الواقع كل هذه القناعات! وانهارت السوق بين عشية وضحاها. والواقع أنه لا غرابة من هذا الانهيار، ولأضرب لذلك مثلاً: لو أن مجموعة من المضاربين اجتمعوا على سيارة أجرة قديمة مستعملة أكل عليها الدهر وشرب وتقيأ، وليس للناس رغبة للركوب فيها، فهي لا تدر على صاحبها ربحاً يذكر، بل ربما ينفق عليها أكثر مما يأخذ منها، كما هو ظاهر من حالها، ومع هذا كله أخذ هؤلاء المضاربون يبيعونها ويشترونها في اليوم أكثر من ألف مرة، وبأسعار لا تتفق مع الواقع، وهي واقفة لا تراوح مكانها ! وسبب هذا الغلاء لهذه السيارة المهترئة، أن المشترين كثر، فمهما اشتريتها بسعر غال فستجد من يشتريها منك، وهي واقفة لا تتحرك، فهل هذا بيع أسس على تقوى من الله ورضوان، أم هو قمار أسس على شفا جرف هار، فانهار به، وهكذا الأسهم حين هوت بأصحابها، حيث كانت المضاربات تتم على شركات تراوح مكانها، والمضاربون يساومون عليها وهي تغط في نوم عميق!!
هناك بعض الآراء لكم تشير إلى تشابه الأسهم مع القمار، هل بنيت ذلك على أسس معينة؟
أحب أن أنبه أولاً: بأن هذا الرأي سبقني فيه غيري من أهل العلم، ممن هم من مشايخي وأساتذتي في هذا المجال، وما أنا إلا تلميذ صغير من تلامذتهم، ومن أبرز هؤلاء العلماء: الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير وهو عضو في مجمع الفقه الإسلامي، والدكتور صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بالمسجد النبوي، وكذا الشيخ عبد الله المنيع عضو هيئة كبار العلماء الذي أشكره حقيقة على شجاعته حين أعلن هذا الرأي، وأراه اقتنع به أخيراً حين رأى وسمع هذه الآثار المدمرة للإنسان والاقتصاد على حد سواء، حتى أصبح البعض منا عالة يتكففون الناس!
وأما بالنسبة إلى الأدلة التي استندت إليها، فهي في مقالي الذي نشر في جريدتكم الموقرة، كما نشر في بعض المواقع والمنتديات، وعنوانه "المتاجرة بالأسهم مضاربة أم مقامرة ؟" فأحيل إليه القارئ الكريم، ففيه إجابة عن هذا التساؤل.
ظهرت لبعض العلماء أقوال ودعوات بخصوص الرغبة في انتهاء معاملات الأسهم إلى الأبد، ما رأيكم في ذلك؟(5/117)
في الحقيقة لا أؤيد هذا القول إطلاقا؛ لأن الشركات القائمة على أسلوب الاستثمار أثبتت جدواها، وكانت داعماً اقتصادياً قوياً للبلد، هذا بالنسبة إلى أسلوب الاستثمار. أما بالنسبة إلى أسلوب المضاربة، فهو بأسلوبه الحاضر قائم على مفهوم القمار, وينبغي إعادة هيكلته بما يجنب الناس الحرام والوقوع في شرك الانهيار والإفلاس، ولدينا ولله الحمد من الطاقات والخبرات، ما هي كفيلة بإذن الله بوضع الأسس السليمة لذلك وقد قرأت لأحد الخبراء في هذا المجال وهو الفقيه الاقتصادي (د. محمد الشباني) اقتراحاً جيداً لأسلوب المضاربة يساهم في تنشيط الاستثمار، ويضع حداً للمضاربات سيئة الصيت، وذلك أولاً: بأن يتم تحديد سعر السهم على أساس القيمة الدفترية للسهم مضافاً إليها نسبة مئوية على القيمة الدفترية للسهم، وتحدد هذه النسبة وفقاً لمؤشرات ربحية الشركة في الماضي والمستقبل، وتتغير هذه النسبة كل أربعة أشهر وفقاً للبيانات والمعلومات عن الشركة نفسها وعن القطاع الاقتصادي الذي تنتمي إليه هذه الشركة، وتتولى هيئة السوق المالية تحديد هذه النسبة. وثانياً: أن يتم تحديد مدة زمنية بين حركة البيع والشراء، بحيث يمنع بيع السهم إلا بعد مرور هذه الفترة؛ لمنع حمى المضاربة في الأسهم، ومن أجل العمل على استقرار السوق المالية، وقد أشرت إلى هذا كله في المقال الموسوم بـ "سوق المال وصورة طبق الأصل".
عودة بعض المهتمين بالاقتصاد في الغرب وخصوصاً المصارف إلى الاستفادة من النظام الإسلامي، إلام تعزو ذلك ؟
أعزوه إلى عدة أسباب، منها:
أولاً: النجاح الذي حققه عدد كبير من المصارف الإسلامية، وثبوت الجدوى الاقتصادية لمعاملاتها المصرفية، وأنها أكثر جدوى من المعاملات الربوية.
الثاني: رغبة كثير من الجاليات المسلمة هناك في المعاملات المصرفية الإسلامية، وقد حقق هذه الرغبة بعض البنوك، مما اضطر بنوكاً أخرى إلى الدخول في هذا المشروع الإسلامي الكبير نزولاً عند رغبة عملائها، ولا سيما وقد أثبتت جدواها الربحي.
==============
حول العملة الورقية
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 15/10/1425
28/11/2004
حول العملة الورقية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية، وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه قرر ما يلي:
أولاً: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة. وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل. وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوَّمُ الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلاً ونسيئةً، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسًا عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانيًا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس. وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسيئةً، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان. وهذا كله يقتضي ما يلي:
(أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة ريالات سعودية ورقًا، بأحد عشر ريالاً سعودية ورقًا، نسيئة أو يدًا بيد.
(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك، أو أكثر. وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية، أو أقل من ذلك، أو أكثر، إذا كان ذلك يدًا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر يدًا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، لا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثالثًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.
رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم، والشركات. والله أعلم. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
=============
بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 16/10/1425
29/11/2004
بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415هـ -21/1/1995م؛ قد نظر في هذا الموضوع وقرر ما يلي:
1- بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعًا.
2- لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها.
3- لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك.
4- إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم فالواجب عليه الخروج منها.
والتحريم في ذلك واضح، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك، يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا، لأن السهم يمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة، أو تقترضه بفائدة، فللمساهم نصيب منه، لأن الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. والحمد لله رب العالمين.
===============
بشأن موضوع بيع الدين(5/118)
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 16/10/1425
29/11/2004
بشأن موضوع بيع الدين:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 21-26/10/1422هـ الذي يوافقه: 5-10/1/2002م، قد نظر في موضوع: (بيع الدين). وبعد استعراض البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، وما تقرر في فقه المعاملات من أن البيع في أصله حلال، لقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)[البقرة: 275]. ولكن البيع له أركان وشروط لابد من تحقق وجودها، فإذا تحققت الأركان والشروط وانتفت الموانع كان البيع صحيحًا، وقد اتضح من البحوث المقدمة أن بيع الدين له صور عديدة؛ منها ما هو جائز، ومنها ما هو ممنوع، ويجمع الصور الممنوعة وجود أحد نوعي الربا: ربا الفضل، وربا النّساء، في صورة مّا، مثل بيع الدين الربوي بجنسه، أو وجود الغرر الذي يفسد البيع؛ كما إذا ترتب على بيع الدين عدم القدرة على التسليم ونحوه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. وهناك تطبيقات معاصرة في مجال الديون تتعامل بها بعض المصارف والمؤسسات المالية، بعض منها لا يجوز التعامل به؛ لمخالفته للشروط والضوابط الشرعية الواجبة في البيوع.
وبناء على ذلك قرر المجمع ما يلي:
أولاً: من صور بيع الدين الجائزة: بيع الدين للمدين نفسه بثمن حَالّ؛ لأن شرط التسليم متحقق؛ حيث إن ما في ذمته مقبوض حكمًا، فانتفي المانع من بيع الدين، الذي هو عدم القدرة على التسليم.
ثانيًا: من صور بيع الدين غير الجائزة:
أ- بيع الدين للمدين بثمن مؤجل أكثر من مقدار الدين؛ لأنه صورة من صور الربا، وهو ممنوع شرعًا، وهو ما يطلق عليه (جدولة الدين).
ب- بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنها من صور بيع الكالئ بالكالئ ( أي الدين بالدين ) الممنوع شرعًا.
ثالثًا: بعض التطبيقات المعاصرة في التصرف في الديون:
أ- لا يجوز حسم الأوراق التجارية ( الشيكات، السندات الإذنية، الكمبيالات )؛ لما فيه من بيع الدين لغير المدين على وجه يشتمل على الربا.
ب- لا يجوز التعامل بالسندات الربوية إصدارًا، أو تداولاً، أو بيعًا؛ لاشتمالها على الفوائد الربوية.
ج- لا يجوز توريق (تصكيك) الديون بحيث تكون قابلة للتداول في سوق ثانوية؛ لأنه في معنى حسم الأوراق التجارية المشار لحكمه في الفقرة(أ).
رابعًا: يرى المجمع أن البديل الشرعي لحسم الأوراق التجارية، وبيع السندات، هو بيعها بالعروض (السلع) شريطة تسلم البائع إياها عند العقد، ولو كان ثمن السلعة أقل من قيمة الورقة التجارية؛ لأنه لا مانع شرعًا من شراء الشخص سلعة بثمن مؤجل أكثر من ثمنها الحالي.
خامسًا: يوصي المجمع بإعداد دراسة عن طبيعة موجودات المؤسسات المالية الإسلامية، من حيث نسبة الديون فيها، وما يترتب على ذلك من جواز التداول أو عدمه.
والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد.
=============
بشأن حكم بيع التورُّق
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 16/10/1425
29/11/2004
بشأن حكم بيع التورُّق:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، التي بدأت يوم السبت 11رجب1419هـ الموافق 31/10/1998م قد نظر في موضوع حكم بيع التورُّق. وبعد التداول والمناقشة، والرجوع إلى الأدلة، والقواعد الشرعية، وكلام العلماء في هذه المسألة قرر المجلس ما يلي:
أولاً: أن بيع التورُّق: هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد (الورق).
ثانيًا: أن بيع التورق هذا جائز شرعًا، وبه قال جمهور العلماء، لأن الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)[البقرة: 275]. ولم يظهر في هذا البيع ربًا لا قصدًا ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج أو غيرهما.
ثالثًا: جواز هذا البيع مشروط بألاَّ يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة، المحرَّم شرعًا، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدًا محرمًا.
رابعًا: إن المجلس- وهو يقرر ذلك- يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم، طيبة به نفوسهم، ابتغاء مرضاة الله، لا يتبعه منّ ولا أذى، وهو من أجل أنواع الإنفاق في سبيل الله تعالى، لما فيه من التعاون والتعاطف، والتراحم بين المسلمين، وتفريج كرباتهم، وسد حاجاتهم، وإنقاذهم من الإثقال بالديون، والوقوع في المعاملات المحرمة، وإن النصوص الشرعية في ثواب الإقراض الحسن، والحث عليه كثيرة لا تخفى، كما يتعين على المستقرض التحلي بالوفاء، وحسن القضاء وعدم المماطلة.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه سلم تسليمًا كثيرًا. والحمد لله رب العالمين.
==============
حكم التعامل المصرفي بالفوائد
وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع - ع 2، ج 2/ص 735 و 813
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الآخر 1406هـ /22 -28 كانون الأول (ديسمبر ) 1985م .
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر ،
وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي ، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث ،
وبعد التأمل فيما جرَه هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئياً وكلياً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه ، وإلى الاقتصاد على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر ، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين ،
قرر ما يلي :
أولاً : أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله ، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد . هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً .
ثانياً : أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام هو التعامل وفقاً للأحكام الشرعية .
ثالثاً : قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية ، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كي لا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته .
والله أعلم
=============
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع - ع 3، ج 3/ص 1650 والعدد الخامس ج 3 ص 1609
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ /11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر ) 1986م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة،
قرر ما يلي :(5/119)
أولاً : بخصوص أحكام العملات الورقية : أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما .
ثانياً : بخصوص تغير قيمة العملة : تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفى دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة لمجلس .
والله أعلم
-============
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع - ع 2، ج 2/ص 527 والعدد الثالث ج 1 ص 77
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ /11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر ) 1986م .
بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع،
قرر ما يلي :
(أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية :
أولاً : يجوز أخذ أجور عن خدمات القروض على أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية .
ثانياً : كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً .
(ب) بخصوص عمليات الإيجار :
أولاً : إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً .
ثانياً : إن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها، هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك .
ثالثاً : إن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد .
رابعاً : إن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل .
خامساً : إن تبعة الهلاك والعيوب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه .
سادساً : إن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية، -كلما أمكن ذلك- يتحملها البنك .
(ج) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن :
أولاً : إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً .
ثانياً : إن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك .
ثالثاً : إن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها، وأن يبرم بعقد منفصل .
(د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية :
ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن .
(هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية :
يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته . ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث، وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية .
والله أعلم
================
المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع (ع 6، ج2 ص 1273 وع 7 ج 1 ص 73 وع 9 ج2 ص5)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان، بروناي دار السلام من 1- 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 حزيران (يونيو) 1993م،
بعد اطلاعه على توصيات الندوة الاقتصادية التي عقدتها الأمانة العامة للمجمع في جدة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية حول حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا، والأبحاث المعدة في تلك الندوة،
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه ،
قرر ما يلي :
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة . والله الموفق.
=============
بطاقة الائتمان
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 19/10/1425
02/12/2004
مجلة المجمع (ع 8، ج2 ص 571 وع 10 ج ص )
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23-28 صفر 1418هـ الموافق 28 - حزيران (يونيو) - 3 تموز (يوليو) 1997م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بطاقة الائتمان، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع من الفقهاء والاقتصاديين،
قرر ما يلي :
أ- تكليف الأمانة العامة إجراء مسح ميداني لجميع نماذج الشروط والاتفاقيات للبطاقات التي تصدرها البنوك .
ب - تشكيل لجنة تقوم بدراسة صيغ البطاقات لتحديد خصائصها وفروقها وضبط التكييفات الشرعية لها، وذلك بعد توفير المصادر العربية والأجنبية عن أنواع البطاقات .
ج - عقد حلقة بحث لمناقشة الموضوع في ضوء التحضيرات السابقة وإعداد نتائج متكاملة عنه لعرضها على الدورة القادمة .
ويوصي بما يلي :
أ- ضرورة إعادة صياغة المصطلحات الاقتصادية ذات العلاقة والأبعاد الشرعية فيما يتعلق بالمعاملات الجائزة والمحرمة بما يناسب حقيقتها، ويكشف عن ماهيتها .
وإيثار ما له وجود في المصطلح الشرعي على غيره، بحيث يترسخ لفظه ومعناه، خصوصاً ما تكون له آثار حُكْمية شرعية، لتقويم صياغة المصطلحات الاقتصادية، وانسجامها مع المصطلحات الفقهية، واستخراجها من تراث الأمة ومفاهيمها الشرعية .
ب- مناشدة الجهات المعنية في البلاد الإسلامية منع البنوك من إصدار بطاقات الإئتمان الربوية، صيانة للأمة من الوقوع في مستنقع الربا المحرم، وحفظاً للاقتصاد الوطني وأموال الأفراد .
ج- إيجاد هيئة شرعية ومالية واقتصادية تكون مسؤوليتها حماية الأفراد من استغلال البنوك والمحافظة على حقوقهم، في حدود الأحكام الشرعية، والسياسة المالية لحماية الاقتصاد الوطني، ووضع لوائح مُحْكمة لحماية المجتمع والأفراد من استغلال البنوك لتفادي النتائج الوخيمة المترتبة على ذلك . والله الموفق
==============
الأسواق المالية
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 21/10/1425
04/12/2004
مجلة المجمع (ع 6، ج2 ص 1273 والعدد السابع ج 1 ص 73 والعدد التاسع ج2 ص5)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7-12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م ،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الأسواق المالية الأسهم ، الاختيارات ، السلع ، بطاقة الائتمان ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولاً : الأسهم :
1- الإسهام في الشركات :
أ- بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز .(5/120)
ب - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها .
ج - الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .
2- ضمان الإصدار (under writing) :
ضمان الإصدار : هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره، وهذا لا مانع منه شرعاً، إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الإسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه-غير الضمان- مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم .
3- تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب :
لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه، وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة .
4- السهم لحامله :
بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها .
5- محل العقد في بيع السهم :
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة .
6- الأسهم الممتازة :
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة، لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح وتقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح .
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية .
7- التعامل في الأسهم بطريقة ربوية :
أ- لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه .
ب- لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع، وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض .
8- بيع الأسهم أو رهنها :
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة .
9- إصدار أسهم مع رسوم إصدار :
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعاً ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً .
10- إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار :
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة - حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة - أو بالقيمة السوقية .
11- ضمان الشركة شراء الأسهم :
يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
12- تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة :
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .
كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام . وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون، وشركاء محدودو المسؤولية .
13- حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها :
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل، لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة .
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية، لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة .
14- حق الأولوية :
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
15- شهادة حق التملك :
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
ثانياً : الاختيارات :
أ- صورة عقود الاختيارات :
إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين .
ب- حكمها الشرعي :
إن عقود الاختيارات - كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية - هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة .
وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعاً .
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها .
ثالثاً : التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة :
1- السلع :
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية :
الطريقة الأولى :
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضته .
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .
الطريقة الثانية :
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق .
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .
الطريقة الثالثة :
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم .
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز .
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها .
الطريقة الرابعة :
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس .
وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً .
2- التعامل بالعملات :
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع .
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة .
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة .
3- التعامل بالمؤشر :
المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية .
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده .
4- البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات :
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف ، والوعد بالبيع في وقت آجل، والاستصناع، وغيرها .
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة .
رابعاً : بطاقة الائتمان :
أ- تعريفها :(5/121)
بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري - بناء على عقد بينهما - يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع . ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف . ولبطاقات الائتمان صور :
-منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة . ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية .
-ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة . ومنها ما لا يفرض فوائد .
- وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسماً .
ب- التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان :
بعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
والله أعلم
==============
بيع الوفاء
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 21/10/1425
04/12/2004
مجلة المجمع (ع 7، ج3 ص 9)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7-12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م ،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بيع الوفاء،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته : "بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يردُّ المشتري إليه المبيع"،
قرر ما يلي :
أولاً : إن حقيقة هذا البيع (قرض جر نفعاً)، فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء .
ثانياً : إن هذا العقد غير جائز شرعاً .
والله أعلم
==============
حكم التراجع عن الوفاء بالعقد بعد توقيعه
قرارات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث 16/3/1426
25/04/2005
قرار المجلس:
توقيع العقد في أي صفقة ملزم للطرفين شرعًا، ولا يجوز لأحدهما أن يرجع فيه بإرادته المنفردة، دون رضى الطرف الآخر، فهذا مخالف لما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأكدته نصوص القرآن والسنة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: من الآية1]، وقال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: من الآية34]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: من الآية91].
وحمل القرآن بشدة على الذين يتهاونون بالعهود وينقضونها من بعد ميثاقها، في آيات كثيرة، منها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].
واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد من شعب النفاق، وخصال المنافق الأساسية: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها" وذكر منها: "إذا عاهد غدر" رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو(1).
وليس من الضروري أن يكون العقد مكتوبًا، فمجرد الإيجاب والقبول مشافهة يكفي في إيجاد العقد، ولكن له خيار المجلس على ما نرجحه، فلو تبين له عقد آخر، وهما لا يزالان في مجلس العقد، فمن حقه أن يرجع، كما جاء في الحديث الصحيح: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه عن ابن عمر(2). فقد جعل الحديث فرصة للتراجع لمن تسرع في التعاقد دون روية.
ومثل ذلك لو كان مغبونًا غبنًا فاحشاً يرفع أمره إلى جهة تحكيم تثبت له خيار الغبن إذا تبين لها ذلك، عملاً بمذهب الحنابلة وغيرهم.
ويستطيع المسلم أن يخرج من ورطة التراجع في العقد بعد إتمامه إذا اشترط لنفسه الخيار أيامًا معدودة، يستطيع فيها أن يرجع في صفقته خلالها، وهذا ما نصح به النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة، حين شكا إليه أنه كثيرًا ما يخدع في البيع، فقال له: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" أي لا خداع، وهذا في الصحيحين(3)، وفي خارج الصحيحين: "ولي الخيار ثلاثة أيام"(4)، والمسلمون عند شروطهم.
[ القرار 6/6]
(1) هو عند البخاري (رقم: 34، 2327، 3007)، ومسلم (رقم: 58).
(2) أخرجه البخاري (رقم: 2001 ومواضع أخرى)، ومسلم (رقم: 1531) من حديث ابن عمر، كما أخرجه البخاري (رقم: 1973) ومواضع أخرى)، ومسلم (رقم: 1532) من حديث حكيم بن حزام.
(3) البخاري (رقم: 2011 ومواضع أخرى)، ومسلم (رقم: 1533) من حديث عبد الله بن عمر.
(4) يعني أذن له أن يكون له الخيار ثلاثة أيام، كما أخرجه الدارقطني (3/54-55)، والحاكم (رقم: 2210) والبيهقي (5/273) من حديث ابن عمر بإسناد حسن، وفي لفظه: "إذابعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال"
==============
الأسواق المالية
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 6/11/1425
18/12/2004
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 آذار (مارس)1990م،
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة الأسواق المالية المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410 هـ / 20 - 24 /10 / 1989 م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية ، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ،
وفي ضوء ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات على أسس الاستثمار الإسلامي القائم على المشاركة في الأعباء وتحمل المخاطر ، ومنها مخاطر المديونية ،
ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها ، ولكون الاهتمام بها والبحث عن أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية ويتلاقى مع الجهود الأصيلة للفقهاء في بيان أحكام المعاملات المالية وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق ، وتشمل الأهمية الأسواق الثانوية التي تتيح للمستثمرين أن يعاودوا دخول السوق الأولية وتشكل فرصة للحصول على السيولة وتشجع على توظيف المال ثقةً بإمكان الخروج من السوق عند الحاجة ، وبعد الاطلاع على ما تناولته البحوث المقدمة بشأن نظم وقوانين الأسواق المالية القائمة وآلياتها وأدواتها ،
قرر ما يلي :
أولاً : إن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية .
ثانياً : إن هذه الأسواق المالية - مع الحاجة إلى أصل فكرتها - هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية . وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة ، وما تعتمده من آليات وأدوات وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية .(5/122)
ثالثاً : إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية ، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية ، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرَف والمرافق الأخرى وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية .
ويوصي بما يلي :
استكمال النظر في الأدوات والصيغ المستخدمة في الأسواق المالية بكتابة الدراسات والأبحاث الفقهية والاقتصادية الكافية
والله الموفق .
==============
حكم الاكتتاب في بنك البلاد
أعضاء فريق العمل الشرعي في بنك البلاد 3/1/1426
12/02/2005
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد درس فريق العمل الشرعي في بنك البلاد في اجتماعه (المائة) المنعقد يوم الخميس 01/01/1426هـ، ما ورد إليه من أسئلة عديدة حول حكم الاكتتاب في بنك البلاد، وقرر ما يأتي:
أولاً: يجوز الاكتتاب في بنك البلاد؛ لأن البنك يخضع لسياسة شرعية تلزمه بعرض جميع أعماله على الهيئة الشرعية والالتزام بقراراتها، ومراقبة تطبيقها من خلال إدارة الرقابة الشرعية، وتنص السياسة الشرعية للبنك على ما يأتي: "بتوفيق من الله التزم بنك البلاد على نفسه منذ بداية تأسيسه تطبيق الشرع المطهر في جميع معاملاته. كما يحمل على عاتقه مراعاة مقاصد الشريعة وغايات الاقتصاد الإسلامي. ولتحقيق هذا الهدف السامي التزم في نظامه بوجود هيئة شرعية مستقلة عن جميع إدارات البنك، يعرض عليها البنك جميع أعماله؛ للتأكد من مدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى الآتي:
1. قرارات الهيئة الشرعية ملزمة لكل إدارات البنك.
2. لا يقدم أي منتج للعملاء إلا بعد عرضه على الهيئة الشرعية، وموافقتها عليه.
3. تقوم الهيئة بمراقبة أعمال البنك؛ للتأكد من موافقة الأعمال لقراراتها. وتتولى ذلك إدارة الرقابة الشرعية.
4. تعمل الهيئة الشرعية على تطوير المنتجات بما يتفق مع القواعد الشرعية، ويحقق أهداف الاقتصاد الإسلامي وغاياته.
5. على الهيئة الشرعية تحمل مسؤولية نشر الوعي المصرفي الإسلامي في البنك، وفي مختلف جهات المجتمع." أ.هـ نص السياسة الشرعية للبنك.
وقد بدأ فريق العمل الشرعي في تنفيذ هذه السياسة منذ تشكيله في شهر ربيع الآخر لعام 1425هـ فدرس النظام الأساسي للبنك، وعقد التأسيس، ونشرة الاكتتاب المفصلة، ونشرة الاكتتاب المختصرة، ونموذج الاكتتاب، واتفاقية البنوك المشاركة في الاكتتاب، واتفاقية البنك مع مدير الاكتتاب؛ فلم يجد فيها ما يمنع من جواز الاكتتاب فيه والتعامل معه.
هذا وقد فرغ فريق العمل الشرعي من دراسة عدد من عقود البنك وإجازتها، وأنهى عدداً من الضوابط الشرعية لمعاملاته.
ثانياً: يجوز بيع أسهم البنك وشراؤها وتداولها بعد الإذن بتداول الأسهم في السوق؛ لأنه يملك موجودات ذات قيمة معتبرة شرعاً، ومنها: التراخيص الممنوحة للعمل كبنك، ووجود مبنى رئيس للإدارة العامة للبنك، وعدد من الفروع العاملة للبنك بتجهيزاتها يعمل فيها أكثر من ستمائة موظف، فضلاً عن وجود العديد من الأنظمة والأجهزة، إضافة للعلاقات التعاقدية مع مؤسسة النقد العربي السعودي، ومع أكثر من مئة بنك مراسل على مستوى العالم، ولأن التغيرات في قيمة السهم بعد بدء التداول لا ترتبط ارتباطا كليا بالتغير في قيمة الموجودات العينية للشركة أو مطلوباتها فحسب، بل يؤثر فيها عوامل أخرى كالعرض والطلب على الأسهم والمؤشر العام، والحقوق المعنوية وغير ذلك.
ثالثاً: لا يجوز للمكتتب أن يستعمل اسم شخصٍ آخر في الاكتتاب، سواء أكان ذلك بعوض يدفعه لصاحب الاسم أم بغير عوض، لما في ذلك من تجاوز الحد المستحق له نظاما، وتعديه على حق غيره ممن التزم بالنظام، إذ إن مقتضى العدالة أن تتكافأ فرص المساهمين في الحصول على الأسهم، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يحدد لكل واحد من المكتتبين سقف أعلى لا يتجاوزه، فالمنع من استخدام الشخص اسم غيره من السياسة الشرعية التي تتفق مع مقاصد الشريعة من جعل المال دولة بين الناس كلهم فقيرهم وغنيهم، لا أن يكون محصوراً بأيدي فئة قليلة. وفضلا عن ذلك، فإن هذا التصرف نوع من التدليس، وهو مظنة الخلاف والخصومة بين الأطراف.
رابعاً: يجوز للمكتتب اقتراض قيمة الاكتتاب بقرضٍ حسنٍ يرده للمقرض بمثله بدون زيادة، فإن كان القرض مشروطاً بزيادة يدفعها المقترض للمقرض فهو محرم، سواء أكانت الزيادة المشروطة نسبية أم بمبلغ مقطوع، وسواء سمي ذلك تمويلاً أم تسهيلات بنكية أم غير ذلك، لأنه من الربا. وعوضاً عن ذلك يجوز للمكتتب الذي لا يجد ما يكفي من المال الدخول مع صاحب المال في عقد مشاركة، وما يتحقق من ربح بعد بدء التداول يتقاسمانه بينهما بحسب اتفاقهما. ويشترط أن تكون الحصة المشروطة لكل منهما من الربح شائعة كأن يقول: خذ هذا المال وما كان من ربح فيه فلك 20% منه، ولي 80%، أما لو حددت حصة الواحد منهما بمبلغ مقطوع فلا يجوز كما لو قال: خذ هذا المال فاكتتب به ولك ألف ريال من الربح ولي ما زاد على ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى قطع المشاركة في الربح، فقد لا تربح تلك الأسهم إلا المبلغ المذكور أو أقل، أو قد تربح أرباحا كبيرة فيشعر بالغبن.
ولا يخفى أن دخول صاحب المال في عقد مشاركة مع من سيسجل السهم باسمه أقرب إلى تحقيق العدل بينهما من استئثار صاحب المال بكامل الربح، لاسيما أن هذه المشاركة لا يظهر ما يمنع منها نظاماً، فقد نص نظام الشركات على جواز أن يكون السهم مملوكاً بالاشتراك لشخصين فأكثر، على أن يكون مسجلاً باسم شخص واحد في مقابل الشركة.
وفي الختام، نسأل الله أن يوفق القائمين على بنك البلاد للاستمرار بالالتزام بأحكام الشريعة، كما نحث القائمين على الشركات المساهمة على البعد عن المعاملات المحرمة في التمويل والاستثمار وغيرهما، ونحث المتعاملين في سوق المال على دعم الشركات المساهمة التي تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية.
وفق الله الجميع لهداه، وجعل العمل في رضاه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أعضاء فريق العمل الشرعي في بنك البلاد:
الشيخ أ.د عبدالله بن موسى العمار
الشيخ د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
الشيخ د. محمد بن سعود العصيمي
الشيخ د. يوسف بن عبدالله الشبيلي
===============
بيع الدين بالدين أقسامه وشروطه
راشد بن فهد آل حفيظ 6/5/1426
13/06/2005
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا بحث مختصر عن مسألة بيع الدين بالدين، جمعت فيه ما وقفت عليه من كلام بعض المحققين من أهل العلم، في هذه المسألة، مع بيان المذهب "مذهب الحنابلة" وذلك لأهميتها، وتعلقها ببعض أبواب البيوع، ولأنها مما يشكل على البعض، بل قد يخطئ فيها، وقد رتبته في مبحثين على النحو التالي:
المبحث الأول: أقسام بيع الدين بالدين، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: بيع الواجب بالواجب.
المطلب الثاني: بيع الساقط بالساقط.
المطلب الثالث: بيع الساقط بالواجب، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الدين الذي يجوز بيعه.
المسألة الثانية: بيع الدين لغير من هو عليه.
المطلب الرابع: بيع الواجب بالساقط.
المبحث الثاني: شروط جواز بيع الدين.(5/123)