وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( لو كان لي مثلُ أحد ذهباً ما يسرُّني أن لا يُمرَّ عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرصدُهْ لدين )) (32) .
ويجب أن تشارك الزوجة زوجها في الضراء كما أنها تشاركه في السراء ، ولذا فإنه ينبغي على الزوج أن يُخبرها بوضعه المالي وظروفه العصبية ، والزوجة العاقلة ستدرك أن عليها أن تقوم بترشيد المصروفات وتقليل الإنفاق والبذخ مراعاةً لظروف زوجها ، ولو استدعى الأمر إبلاغ الأبناء الكبار بذلك فلا بأس لتجتمع الأسرة جميعاً في الخروج من هذا الحرج العظيم .
أخيراً ، الوصايا والنصائح في هذا الباب كثيرة فأكتفي بما ذكرت حتى لا يطول بنا المقام ، والله تعالى أعلم
==============
قبل الحج
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه ، وعلى آله وصحبه أجمعين . . . وبعد :
كل مسلم حريص على أداء مناسك الحج ، لما للحج من فوائد عظيمة ، وآثار كثيرة ، تعود بالنفع على الأفراد والمجتمعات ، فالحج سبيل التقوى ، وبه النجاة من النار ، ولزوم أعمال الخير والبر ، وهناك أمور يجب على الحاج أن يتنبه لها قبل الحج ، لأنها من أسباب موانع قبول الحج والدعاء ، ومن أسباب عدم قبول العمل الصالح ، وسأذكر للحاج الكريم ، شيئاً من تلك الأمور ، حتى يدرك خطر فعلها ، وعظيم جرمها ، فيبتعد عنها ، ويسلك له حجه ، ويرفع له عمله ، ويقبل منه دعاؤه ، وهذه الأمور عبارة عن دروس مهمة ، وحبذا لو قرأ كل درس في ليلة مستقلة ، حتى لا تتكدس الدروس في يوم واحد ، فينس آخرها أولها ، فتفقد ثمرتها ، ولا تجنى نتائجها ، ومن تلك الدروس ما يلي :
الدرس الأول : تقوى الله عز وجل :
التقوى ملاك كل أمر وهي من أسس ودعائم الإيمان بالله تعالى وحقوقه جل وعلا على عباد فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل والرضا بالقليل .
فتقوى الله عز وجل أن تجعل بينك وبين عذابه وقاية وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي بفعل كل طاعة تقربه إلى ربه سبحانه باتباع ما جاء في الكتاب والسنة من أوامر وطاعات وقربات لأن غاية ما يتمناه الإنسان هو الفوز بالجنة والنجاة من النار فهذا هو الفوز الحقيقي والسعادة التي لا مراء وجدال فيها لقوله تعالى : " فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الإمتاع الغرور " [ آل عمران ] ، ومن ذلك أيضاً ترك كل معصية تبعد العبد عن ربه سبحانه وتعالى مما يبعده عن الجنات ويقربه من النيران وذلك باجتناب كل ما نهى الله عنه ورسوله r في الدستورين الكتاب والسنة المطهرة .
فالفوز والنجاة لمن خاف المولى جل وعلا وعمل بما جاء في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن بالقرآن الكريم فقد استمسك بالصراط المستقيم والنور المبين الذي من تمسك به لن يضل بإذن ربه أبداً يقول الله تعالى : " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً " .
والتقوى هي وصيت الله للمؤمنين الأولين والآخرين في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون " ، وقال تعالى : " ولقد وصينا الذين أتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " ، فمن أراد النجاة فعليه بالتقوى ومن أراد الصلاح فليه بالتقوى ومن أراد الجنة فعليه بالتقوى .
فتقوى الله عز وجل هي السبيل إلى ذلك كله .
فطوبى لمن كانت التقوى لباسه وزاده قال تعالى : " ولباس التقوى ذلك خير " ، وقال تعالى : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ، فتقوى الله عز وجل مفتاح كل خير ومغلاق كل شر وهي سبب تكفير السيئات ومغفرة الذنوب وزيادة الرزق وإعظام الأجر وفي التقوى يكون تيسير العسير وتفريج الكربات وغير ذلك مما يطلبه المسلمون والمسلمات يقول رب الأرض والسموات في محكم التنزيل : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا % ويرزقه من حيث لا يحتسب " ، ويقول جل شأنه : " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم " [ الأنفال ] ، وقال تعالى : " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً " [ الطلاق ] .
ولقد كان من دعاء الحبيب r أنه كان يقول : " اللهم أني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى " .
فما أجمل التقوى من لباس وما ألذ التقوى من زاد .
الدرس الثاني : أداء الأمانات على أهلها :
على الحاج وغير الحاج والحاج خصوصاً أن يقوم بأداء الأمانات إلى أهلها وإرجاعها إلى أصحابها حتى يكون في حل منها عندما يلقى ربه سبحانه عند موته وف قبره ويوم بعثه وحشره فمن أخذ شيئاً من الله فليه أن يبادر بإرجاعها وإعادتها إلى أصحابها حتى تبرأ ذمته منها ويسعى لذلك ما استطاع إليه سبيلاً ، يقول الله جل وعلا : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ، والأمانات من حقوق الخلق على بعضهم البعض وهي من الحقوق التي أساسها الشح فيوم القيامة يحتاج الإنسان إلى حسنة يدخل بها الجنة وينجو بها من النار فقد لا يجد هذه الحسنة ألا عند من له عنده أمانة لم يؤدها له فيأخذها يومئذ حسنات فذلك اليوم الذي لا ينفع فيه درهم ولا دينار وإنما هي حسنات وسيئات فطوبى لمن تجرد من أمانات الناس ولقي ربه طاهراً نقياً وويل لمن ضيع الأمانة وفرط فيها .
فبادر أخي الحاج بأداء الأمانات إلى أهلها وإيصالها إلى مستحقيها فإن صدقت الله عز وجل وأخلصت له في ذلك صدقك الله وجعل لك من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً وجعل لك مع العسر يسراً ، وسهل لك إلى أداء الأمانات طريقاً ومسلكاً .
الدرس الثالث : ترك الدنيا الزائلة والتعلق بالآخرة الباقية :
لقد حذر الله عز وجل من الاغترار بالدنيا وأنها دار ممر لا دار مقر ورهب من اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة فليحذرها المؤمن قال تعالى : " اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " .
وقال تعالى : " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " ، وقال تعالى : " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " .
فمتى استيقن الإنسان المؤمن أن الموت حق والساعة حق استعد لذلك اليوم الذي لا مفر منه ولا مهرب استعد بالأعمال الصالحة وتقرب إلى الله بالطاعات وفعل الخيرات وترك المنكرات والحذر من المحرمات والمكروهات وأطاع الرحمن وعصى الشيطان واتبع الهدى وما يقرب للجنان وابتعد عن الهوى وما يقرب للنيران .
وامتدح الله عباده المؤمنين الموحدين المتمسكين بتعاليم الدين قال تعالى : " والذين يمسكون وأقام الصلاة أنا لا نضيع أجر المصلحين " .(3/60)
ولقد حذر النبي r من الاغترار بالدنيا والركون إليها وأنها دار عمل ثم الانتقال إلى دار الجزاء والحساب قال r : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً " ، وقال r : " الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر ما تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء " .
أخي الحاج :
اعلم أن هذه الحياة الدنيا دقائق وساعات فما تلبث أن يفجأك الموت فاعمل لغدك واعلم أن ساعات عمرك ثلاث :
ساعة مضت لا تدري أقبل لك فيها أم لا .
وساعتك التي أنت فيها فاغتنمها بالأعمال الصالحة .
وساعة قادمة لا تدري أتدركها أم لا .
فأقبل على الله واشتر الباقي بالفاني وارغب في الكثير وازهد في القليل .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا اللهم أنا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول في جناتك جنات النعيم .
الدرس الرابع : الحذر من الدَّين :
إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته وحده دون شريك له ولهذا قال تعالى : " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " ، فالجميع مخلوق لله معبود لله والله جل وعلا قدر للناس الأرزاق ، قال تعالى : " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " .
وقال تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون " ، فالناس يتفاوتون في الأرزاق من حيث الكثرة والقلة فمنهم الغني ومنهم الفقير ومنهم بين ذلك والكل فقير إلى الله والله هو الغني سبحانه له ملك السموات والأرض وبيده خزائن السموات والأرض .
فعلى الغني أن يسعى جاهداً لمساعدة الفقراء والمحتاجين والأرامل والمعزين واليتامى والمساكين هذه هي صفات المؤمن كما قال الله تعالى : " إنما المؤمنون اخوة " وقال r : " المسلم أخو المسلم " وهكذا هي حياة المسلمين تعاون وتراحم وتعاطف فالمسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
وإن بعض الناس لم يحسن التوكل على الله في طلب الرزق الحلال بل تعدى ذلك إلى أخذ أموال الناس وأكلها بالباطل فتراه لم يقنع بما آتاه الله من فضله بل طمع لما في أيدي الناس .
وان كان ما عنده يكفيه لو صرفه حسب حاجته فقط ولم يتعد ذلك إلى الكماليات فأوقع نفسه في ديون الناس وأخذها ولم يدر بخلده يوماً أنه سيرجعها بل قابل الإحسان بالنكران والله يقول : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " ، وما علم ذلك المسكين أن تلك الأموال التي أخذها ممن أحسن إليه أنها ستكون وبالاً عليه في قبره ويوم محشره يقول النبي r : " إن رجالاً من أمتي يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار " .
وقال r : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أد الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " .
فالأمر خطير والخطب جسيم فاتقوا الله أيها المسلمون واتق الله أيها الحاج برد أموال الناس إلى أصحابها قبل أن يكون يوم لا دينار فيه ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات .
الدرس الرابع : العلم تعلمه وتعليمه :
للعلم منزلة عليا ورتبة كبرى فلقد امتدح الله العلماء وميزهم عن غيرهم لأنهم عرفوا الحق فاتبعوه وعرفوا الباطل فاجتنبوه لقد أفنوا أعمارهم في طلب العلم لما له من فضل عظيم عند الله تعالى .
وفي طلبه وتعلمه رفعة في الدرجات وسعادة في الدنيا والآخرة لمن ابتغى به وجه الله تعالى قال تعالى : " يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " ، وقال تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " .
فالعالم ليس كالجاهل فالعالم عرف الله حق معرفته فهو يعبد ربه سبحانه على بصيرة وعلى هدى يعمل الطاعات ويجتنب الزلات واعلم أن من خاف الله لا يعصه أبداً فالعلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر فأتقى الناس لله الأنبياء ثم العلماء ولهذا قال الله تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " .
واعلم أيها الحاج أن طلب العلم فريضة وضرورة على كل مسلم حتى يعبد الله على بصيرة ويحذر الوقوع في الخطيئة فالعلم من أشرف ما يتقرب به إلى الله تعالى وكم من الناس قد أهلكوا أنفسهم بطغيانهم وتماديهم في العصيان وعدم إقبالهم على العلم تعلماً وتعليماً وأشرف العلوم كتاب الله عز وجل فلا بد للمسلم من حفظه كاملاً أو حفظ ما تيسر منه ومن ثم تعلم ما في كتاب الله من الأوامر والنواهي ولهذا كانت الخيرية لمن تعلم القران وعلمه كما جاء ذلك عن النبي r ، في قوله r : " من يرد الله به خيراً فقه في الدين " [ متفق عليه ] ، وقال r : " فضل العلم خير من فضل العبادة " [ ] ، وهذا أمر معلوم فمن عبد الله على غير علم فقد يوقع نفسه في كثير من المحاذير بل قد يقع في الشرك .
كمن يحلف بغير الله ومن ينذر لغير الله ومن يذبح لغير الله ومن يتقرب إلى الله عن طريق دعاء الأموات وغير ذلك كثير فلا بد للمسلم أن يتعلم العلم الشرعي حتى يتقرب إلى ربه بما شرعه له نبيه r وبما نقل عنه العلماء ولقد بشر النبي r طالب العلم ببشارة عظيمة يسعى لها كل إنسان ويتمناها كل أحد من الناس ألا وهي الجنة فقد قال r : " ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، وقال r : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " [ أخرجه ابن ماجة وغيره ، وهو حديث صحيح ] .
فطوبى لأهل العلم لما وعدهم به نبيهم r حيث قال : " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره وولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورَّثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته " [ رواه ابن ماجة بسند حسن ، ورواه البيهقي وابن خزيمة ] ، وقال r : " إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جاريه أو علم ينتفع به أو لد صالح يدعو له " [ أخرجه مسلم ] .
لأجل هذا فضل الله العلماء وأهل الأنفاق والتربية الحسنة فالعالم يخلف وراءه علماً ينتفع به الناس وينتفع به حيث يصله بإذن ربه أجر ذلك العمل لقوله r : " أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : رجل مات مرابطاً في سبيل الله ورجل علَّمَ علماً فأجري عليه ما عُمل به ورجل أجرى صدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له " [ أخرجه أحمد والبزار ، والطبراني في الوسط ، والحديث صحيح لغيره ] .
فهذه هي منزلة العلم والعلماء عند الله تعالى .
الدرس الخامس : الحذر من الدنيا :
قال r : " الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر ما تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء " [ أخرجه مسلم والترمذي وأحمد ] .
أخي الحاج :
اعلم أن هذه الحياة الدنيا دقائق وساعات فما تلبث أن يفجأك الموت فاعمل لغدك واعلم أن ساعات عمرك ثلاث :
ساعة مضت لا تدري أقبل لك فيها أم لا .
وساعتك التي أنت فيها فاغتنمها بالأعمال الصالحة .
وساعة قادمة لا تدري أتدركها أم لا .
فأقبل على الله واشتر الباقي بالفاني وارغب في الكثير وازهد في القليل .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا اللهم أنا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول في جناتك جنات النعيم .
الدرس السادس : الحذر من أمراض القلوب :(3/61)
من خصائص هذه الأمة أنها خير الأمم وهي الأمة الوسط فلا إفراط ولا تفريط قال تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، وقال تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " . ولهذا كان أهل هذه الأمة خير الناس لتمسكهم بدينهم وعدم اتباعهم للأهواء فهم اخوة متحابين وعلى الخير متعاونين وعن الشر متناهين فسمتهم الألفة والمحبة والتعاون والتعاطف والتراحم ، ولكن للأسف فقد شذ البعض لاتباعهم الهوى والشهوات فأوقعوا أنفسهم في أمراض القلوب وأدوائها فأذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا فهم ما بين غيبة ونميمة وسخرية واستهزاء وكراهية وبغضاء وكذب وشحناء وغير ذلك من أدواء القلوب التي من نتائجها ضيق القلوب وغضب علام الغيوب .
فكل تلك الأمور محرمة منهي عنها شرعاً .
فأما الغيبة فيقول الله تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " ، وقال r : " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " [ متفق عليه ] .
وجاء تحريم الغيبة صريحاً في الكتاب والسنة لتحذير المسلمين من الوقوع فيها لأنها من أسباب العذاب وهي من كبائر الذنوب كما عدها الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر وأوردها بن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر وعدها من الموبقات المهلكات والعياذ بالله وقد جاء تعريف الغيبة صريحاً في الحديث الذي رواه أبو هريرة t أن رسول الله r قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " [ أخرجه مسلم ] .
وأما النميمة فهي أشد خطراً وأعظم فتكاً من الغيبة لأنها تسبب التفكك الأسري والاجتماعي فكم من أسر تفككت وكم من بيوت دُمرت وكم من نيران اشتعلت وكل ذلك بسبب النميمة والتي قال الله فيها : " هماز مشاءٍ بنميم " [ القلم 11 ] ويقول النبي r : " لا يدخل الجنة نمام " [ متفق عليه ] .
وعن بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r مر بقبرين فقال : " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " [ متفق عليه ] .
قال العلماء: معنى وما يعذبان في كبير : أي كبير في زعمهما وقيل كبير تركه عليهما .
فالنميمة هي : نقل الكلام من شخص إلى آخر بقصد الإفساد والتفريق بين الناس .
الدرس السابع : تذكر الآخرة والتزود لها :
جعل الله تعالى الدنيا ميدان سباق يتسابق فيه الناس بالخيرات لأجل الفوز بالجنات والنجاة من يوم الحسرات فالناس في هذه الدنيا فريقان شقي وسعيد فأما من عصى الله ورسوله واتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني فهو الهالك ، من رضي الدنيا وطناً وسكناً ومقراً هو الخاسر ، من طغى وآثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى فإن الجحيم هي المأوى ، من ركن إلى الدنيا وبهرجتها من رضي الهوى إله من دون الله وأعطى نفسه هواها فهو صاحب التجارة المزجاة ، من اتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد باْ بعذاب الله .
قال تعالى : " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني بئس للظالمين بدلاً " [ الكهف 50 ] ، ويقول تعالى : " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق % خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " [ هود 106 - 107 ] ، وقال تعالى : " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " [ العنكبوت 64 ] ، وقال تعالى : " ألهاكم التكاثر % حتى زرتم المقابر ......) [ التكاثر ] ، وقال r : " إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها " [ متفق عليه ] ، وقال r : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " [ متفق عليه ] .
فاحذر أيها الحاج من الدنيا وزينتها وأحذر من الدنيا وزخرفها فإنها براقة خداعه جميلة مكارة فانظر كم مات قبلك من الرفعاء والوضعاء وكم فارق الدنيا من الصغار والكبار فهل تحسب أنك ستخلد في هذه الدنيا ؟ لا والله مصداقاً لقول ربنا جل وعلا ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون % كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " [ الأنبياء 34-35 ] .
وأما من عصى الهوى وكبح جماح النفس وأرضى الرحمن وأغضب الشيطان فأولئك هم المفلحون .
من خاف مقام الله عز وجل وأطاع الرسول r أولئك هم الفائزون أولئك الذين يبشرهم ربهم برحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً.
من تمسك بعُرى الدين والتزم أوامر الشريعة وترك مجالات الأهواء واعتصم برب الأرض والسماء فأولئك هم السعداء أولئك الذين تاجروا مع ربهم التجارة الرابحة التجارة التي لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله .
من تركوا الدنيا واتجهوا للآخرة من تركوا الشهوات وأقبلوا على الطاعات راجين الحسنات وجلين من السيئات أولئك هم حزب الله حافظه وراعيه أتراه يضل؟ كلا والله قال تعالى : " فالله خيرُُ حافظاً وهو أرحم الراحمين " [ يوسف ]
فهلا أقبلت أيها الحاج على الأعمال الصالحة؟ فإنك والله مرتحل من هذه الدنيا ومقبل على رب رؤوف رحيم شديد العقاب .
واحمد الله عز وجل أن أبقاك إلى هذا العمر فقد أعذرك الله وسيؤاخذك على أقوالك وأعمالك فتزود بالتقوى والإخلاص وتجرد من الهوى والشيطان قال r : " أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة " [ أخرجه البخاري ] .
وأكثر من ذكر الله عز وجل على كل حال فأنت مرتهن بعملك، قال r : " يتبع الميت ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ، ويبقى معه واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله " [ متفق عليه ] .
الدرس الثامن : وسائل الفساد :
يجب على المسلم أن يطهر بيته من كل شائبة وقادحة فالبيت عنوان أهله فإن وجدت البيت يضج بكلام الله تعالى وكلام سيد المرسلين r ونسمع أزيز القراء في البيت فبشر أهله بخير بإذن الله تعالى لأن هذا هو البيت المسلم حقاً من التزم أهله الآداب الإسلامية وتحلوا بالأخلاق الإيمانية فتجد هذا البيت من دروس يومية أبوية إلى سماع لإذاعة القرآن الكريم إلى تسميع لحفظة كتاب الله العظيم إلى حفظ المتون إلى قراءة في كتب الصالحين وحفظ للأذكار فهو بيت كله ذكر وقرآن فأهله مع الله ومعلقة قلوبهم بالله ومن كان مع الله فالله معه ولن يضيعه أبداً .
أما البيت الآخر فأهله جياع عراة من العلم فالبيت تعلوه الكآبة وترتسم عليه العبوسة فما إن تمر بجانبه إلا ودندنة خبيثة محرمة أو صوت مسلسل ساقط ماجن أو حفل ساهر ساخط ولعب لورقة محرمة أو مشاهدة لفضائية مدمرة فأهل البيت أغرتهم المنكرات وألهتهم المنكرات وألهتهم المحرمات فشرب للدخان والشيشة وقول للحرام من غيبة ونميمة واستهزاء وسخرية فهم ما بين قيل وقال وكلام بطال والأدهى والأمر من ذلك من يفعل هذه المنكرات أثناء الحج .
فأهل ذلك البيت ساهرون بالليل نائمون بالنهار والله يقول : " وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً " [ الفرقان 47 ] .(3/62)
والمصيبة العظمى والطامة الكبرى تركهم للصلوات والجمع والجماعات وربهم يأمرهم ويقول لهم : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " [ البقرة 238 ] ، فكم سمعنا ورأينا بيوتاً قلبها الله على أهلها بؤساً وجحيماً فأهلها من نكبة إلى أخرى ومن فاجعة إلى كبرى فإلى الله المشتكى من حال يكون آخرها نار تلظى ، فأهل تلك البيوت ينامون في سخط الله ويقومون في غضب الله والأعمال بالخواتيم .
أخي الحاج : طهر بيتك وقلبك من الفاحشة ورذيلة واحذر من كل عادة سيئة ودخيلة فأنت مقبل على ربك سبحانه راجياً رحمته وخائفاً من سطوته فاحرص رعاك الله على تطهير بيتك من دواعي الفساد والإفساد من منكرات البيوت والأخلاق حتى تتجه إلى الحج طاهر الظاهر والباطن وحتى لا تقع في السؤال فلا تجد للسؤال جواباً . فاتق يا رعاك الله واحفظ نفسك وأسرتك وبيتك من الحرام والمكروه والمتشابه، نسأل الله تعالى لنا ولك حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً متقبلاً مبروراً وعوداً حميداً وذنباً مغفوراً ونفساً طيبة نقية وعيشة هادئة هنيئة .
الدرس التاسع : الحذر من الربا :
لقد حد الله سبحانه وتعالى حدوداً من تعداها وقع في الحرام وأدى بنفسه للهلاك والدمار وفي تعدي حدود الله ظلم للنفس وهذا الظلم من أشد أنواع الظلم إذ كيف بإنسان وهبه الله عقلاً وحكمة وعلماً وخط خطوطاً لا يتعداها إلى غيرها ثم يترك أمر ربه غير آبه بما أعد له من العقوبة من جراء تركه لأمر ربه سبحانه بل يتعدى ذلك إلى معصية الخلاق العليم وإن مما نهى الله عنه في كتابه عز وجل وحذر من عاقبته السيئة ونهايته المؤلمة ( الربا) فقد قال الله تعالى : " وأحل الله البيع وحرم الربا " [ البقرة ]، وشبه الله آكل الربا بالمجنون عندما يخرج من قبره إلى محشرة فهو يتخبط في الأرض لا يدري ما الخطب وما الأمر كما كان يتخبط في مال الله بغير حق : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " [ البقرة ] ، فأكلة الربا يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع لأنهم أكلوا الربا الحرام في الدنيا حتى زاده الله في بطونهم حتى أثقلهم يوم القيامة فهم كلما أرادوا النهوض سقطوا ويريدون الاسراع مع الناس فلا يقدرون0ثم بين المولى عز وجل أن الربا حرب لله ولرسوله r وأمر عباده بالتقوى لأنها خير لباس وأفضل زاد من تحلى بها ترك المحرمات وأقبل على الطاعات ولكن وللأسف : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )1 فكيف يخوض عبد ضعيف لا حول له ولا قوة حرباً ضروس مع رب الأرض والسماء الذي له جنود السموات والأرض بل له جنود ولا يعلمها إلا هو سبحانه إنها حرب غير متكافئة من أقدم عليها من البشر فقد أهلك نفسه وأذاقها ألم العذاب ومر العيش في الدنيا والآخرة قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين% فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) 2فكم نرى ونسمع من أهل الربا وآكليه والمتعاملين به عما حل بهم من جنود الله عز وجل فالسرطان من جند الله وأمراض الشرايين من جند الله والفقر من جند الله والموت من جند الله ( وما يعلم جنود ربك الا هو)3 فالله جل وعلا رغب عباده في الحلال وحذرهم من مطبة الوقوع في الحرام حتى يرضوا ربهم سبحانه ويخشوا سطوته وعذابه0ثم جاء التحذير من الربا ولعن صاحبه وطرده من رحمة الله عز وجل وإبعاده عن مرضاته سبحانه وتعالى في قول بن مسعود t قال: ( لعن رسول الله r آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) 40وقال r: ( الربا سبعون باباً أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه) 50وقد رأى النبي r حين أسري به رأى رجلاً سابحاً في بحر أحمر كالدم وعلى شاطئ البحر رجلاً واقفاً معه حجارة فيأتي الذي في البحر حتى إذا وصل الشاطئ ألقمه الذي على الشاطئ حجراً ثم يسبح حتى يصل وسط بحر الدم ثم يعود فيفقر فاه فيلقمه حجراً وهكذا فعندما سأل النبي r جبريل عليه السلام عن ذلك أخبره أن الذي في وسط البحر آكل الربا والعياذ بالله0واعلم أيها الحاج أيها المسلم أن الربا وإن كثر فهو إلى قِلّ وأن بركته ممحوقة يقول الله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ) 60فآكل الربا كافر كفر نعمة فخير الله إليه نازل وشره إلى الله صاعد قال تعالى : ( أفبنعمة الله يكفرون) 7وكفران النعمة سبب لتغير الحال وكثرة الأرض والجنون والموت وسبب لزعزعة الأمن وعدم الاستقرار قال تعالى:( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) 8 فأكل الربا يترتب على أكله للربا الحرام أموراً عدة منها :
1. الذم والبغض من الناس حتى ممن يأكلون الربا مثله .
2. سقوط عدالته فلا يعد من الشهود العدول لارتكابه أمراً حراماً وكبيرة من كبائر الذنوب العظام ألا وهي أكل الربا .
3. زوال الأمانة فلا يمكن لذو عقل أن يأتمن آكل الربا ولو على حضيرة دجاج فكيف بما أكبر من ذلك .
4. اتصافه باسم الفسق والقسوة والغلظة .
5. زوال الخير والبركة عن نفسه وماله .
6. كثرة المحن والمصائب على آكل الربا من الظلمة واللصوص لأنه لا حق له في هذا المال لجمعه من الحرام .
7. إذا مات آكل الربا ترك ماله كله وحل العذاب الأليم والعقوبة الشديدة بسبب آكله للربا،فقد ورد: ( مصيبتان لن يصاب أحد بمثلها أن تترك مالك كله وتعاتب عليه كله ) .
8. يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث وذلك لأن الأغنياء يحاسبون على أموالهم من أين اكتسبه وفيما أنفقه وهذا في المال الحلال فما ظنك بذي المال الحرام0
فوالله إن ذلك هو المحق والنقصان والذل والهوان والمبين من الخسران0
فمن أستحل الربا وأصر على أكله وتعاطيه واستمر على ذلك أدى به إلى الكفر وسوء الخاتمه والعياذ بالله ، قال r: ( اجتنبوا السبع الموبقات ( آي المهلكات ) قالوا يارسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المومنات ) 9 .
ففي التعامل بالربا مخالفة لأمر الله تعالى وأمر نبيه r قال تعالى ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم ) 10 .
وفيه معصية لله عز وجل ولرسوله r وتعد لحدود الله تبارك وتعالى وارتكاب لمحارمه وقد قال الله تعالى( ومن يعص الله ورسوله ويتق حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) 11 .
فتأمل أيها الحاج ما ذكره الله عز وجل في الآيات من وعيد لآكل الربا وعظيم ما يترتب على فعل ذلك المنكر العظيم من العقوبات والدخول في النيران فيا من تتعامل بالربا تب إلى المولى جل وعلا قبل أن يحل بساحتك هادم اللذات ومفرق الجماعات ثم تقول ( ياليتني لم أوت كتابيه % ياليتها كانت القاضية% ما أغني عني ماليه% هلك عني سلطانية) فيقال لك ( خذوه فقلوه % ثم الجحيم صلوه % ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فأسلكوه ) 12 .
فاحذر يا مسكين من عاقبة التعامل بالربا وأقبل على الله بتوبة نصوح تجب ما قبلها من الذنوب والعصيان .
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك اللهم أبعد عنا الغلا والوبا والربا والزنا اللهم اصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابليها .
الدرس العاشر : التحذير من الرشوة :(3/63)
اعلم أيها المسلم وأيها الحاج: أن في الحلال غنية عن الحرام ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله يتركون المباح خوفاً من الوقوع في المكروه وكانوا يجتنبون الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات وكل ذلك من زهدهم وورعهم وتقواهم لله وخوفهم من الله ولهذا قال الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً % ويرزقه من حيث لا يحتسب ) 13 .
وقال r ( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )14.
ولقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم فيعرفون الحلال فيقبلون عليه ويعرفون الحرام فيجتنبونه خوفاً من عذاب ربهم وسخطه وشديد عقابه وأليم حسابه0
وإن مما حرمه الله ورسوله r ( الرشوة) فقد قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) 15 .
وقد جاء اللعن صريحاً على لسان رسول الله r لأهل الرشوة والمتعاملين بها لما في ذلك من إبطال الحق وإحقاق الباطل والعياذ بالله وكثير من الناس لا يتورع عن أكل المال الحرام نعوذ بالله من الخذلان وبعض الناس لا يهمه من أين اكتسب المال أمن حرام أم من حلال فالأمر لديه سيان قال r ( لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم) 16 .
واعلم أن الرشوة سحت وكل جسد نبت من السحت أي من الحرام فالنار أولى به .
فكم من حق ضاع وكم من ظلم شاع وكم من باطل ذاع بسبب أخذ الرشوة وأكل مالها الحرام و والله ليسأل صاحب الرشوة عن ماله في قبره قبل وقوفه بين يدي ربه سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء بل بركة المال الحرام ممقوته ممحوقة وصاحبها يعيش في نكد وهم وضيق وغم خوفاً من افتضاح أمره وانكشاف سره وهتك ستره فانظر كيف حال أهل الرشوة وأكله المال الحرام خوفاً من العباد ونسياناً لرب العباد .
إن الغنى هو غنى النفس وتطهيرها من الحرام وليس الغنى بكثرة العرض من الدنيا .
ولقد تعددت أسماء الرشوة وأصبح الناس يسمونها بغير اسمها فمنهم من يسميها (هدية) أو (إكرامية) أو غير ذلك وكل ذلك مخادعة لله تعالى الذي يعلم السر وأخفى الذي يعلم ما تخفيه الضمائر وتسره السرائر يقول تعالى ( يخادعون الله وهو خادعهم ) 170
ومن أشد أنواع الرشوة جرماً وغلظة وتحريماً ما كان أخذها يسبب ظلماً للناس والظلم حرام بجميع أنواعه وأشكاله وصوره فالله جل وعلا يقول ( وما للظالمين من نصير) 18 .
وجاء التحذير من الظلم العباد على لسان المصطفى r حيث قال ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) 19 .
واعلم أيها الحاج وأيها المسلم أن أخذ الرشوة من أسباب دخول النار والعياذ بالله لما فيها من أكل لحقوق الناس وإزهاق للحق وإظهار للباطل وذلك تخوض في مال الله بغير حق وأكل له بالباطل واقتطاع لحقوق المسلمين قال r ( إن رجالاً يتخوضون (يتصرفون) في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) 20 .
ومهما بلغ الإنسان من مال من جراء كسب من الحرام من رشوة أو غيرها فهو خبيث عند الله وصاحبه ملعون مطرود من رحمة الله وعليه وزر ذلك المال وعليه دعاء من وقع في مظلمته حتى يردها إلى صاحبها قبل أن تكون يوم القيامة ثم لا درهم ولا دينار وإنما هي الحسنات والسيئات فأحذر يا آكل الرشوة من عاقبتها الوخيمة وخاتمتها السيئة فقد تقع فريسة للموت قبل التوبة فتقول ياليتني تبت قبل فوات الفوت .
ومن أعظم وأفظع أنواع الرشوة ما يُعطاه الحكام ليحيفوا في حكمهم ويجوروا في عدلهم فيحقون الباطل ويبطلون الحق فهم بذلك أخبث الناس وفي أسفل المنازل وأقبح الخلق عند الله ولهذا حذر ربنا تبارك وتعالى من إعطاء الأموال للحكام لأكل أموال الناس بالباطل أو الحصول على حق امرئ مسلم بغير حق فقال تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) 21 .
وقال r ( لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) 220فالإسلام حرم الرشوة في كل صورها وبأي أسم سميت ولا يخرجها ذلك من دائرة الحرام إلى الحلال .
فاتقوا الله أيها الحجاج واتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى الله جميعاً لعلكم تفلحون وترشدون خلصوا أنفسكم من المال الحرام قبل أن تحاسبون عليه في قبوركم وعند ربكم فالأمر خطير والخطب جسيم والله سميع بصير وبكل شئ عليم ولا يظلم مثقال ذرة واعلموا أن الله يمهل ولا يهمل فإذا أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر فاعتبروا يا أولي الأبصار .
اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء وشماتة الاعداء وسوء القضاء ونعوذ بك من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ومن بطن لا يشبع ومن دعوة لا يستجاب لها0 وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين .
الدرس الحادي عشر : الظلم :
إن الله جلا وعلا عليم حكيم لا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة بالغة قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمونها ومما كان له حكمة بالغة تدل على خالق عظيم رؤوف رحيم تواب حكيم تحريمه تعالى للظلم فقد جاء في الحديث القدسي قوله تعالى ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)23 .
وقال r ( اتقوا الظلم فأن الظلم ظلمات يوم القيامة ) 24 .
فالظلم حرام بجميع صوره وأشكاله ولهذا أوجب الله طرد الظلمة من رحمته سبحانه وإبعادهم من مغفرته وذلك بلعنهم فقال تعالى ( ألا لعنت الله على الظالمين ) 25وأعلم أيها الحاج الكريم أن الظلم أنواع ثلاثة :
أولها: ظلم العبد لربه وذلك بكفره بربه سبحانه .
ثانيها: ظلم العبد لنفسه بإهلاكها وإقحامها ما لا تطيقه من الأعمال والأقوال وتعدي حدود الله عز وجل وارتكاب النواهي والمحرمات .(3/64)
ثالثها: ظلم العبد للعبد ،وحدث عن هذا النوع ولا حرج وهو صلب موضوعنا الذي سنتحدث عنه ولهذا النوع صور شتى فها هو ظلم الأزواج بعضهم لبعض فالزوج يرى نفسه بطلاً مغواراً ويفرد عضلاته على تلك الزوجة المسكينة والأبناء الضعفاء فيضرب ويكسر ويعنف ويشتم وربما قتل والعياذ بالله وكل ذلك بدافع من عدو البشرية إبليس وذريته نعوذ بالله من شره وكيده وهمزه ونفثه ونفخه ، ونسي الأب انه صاحب القلب الكبير والعائل الأول والمربي الفاضل وصاحب الرأي السديد وهو من يلجأ إليه الأبناء في الشدائد بعد الله لتشتيتها وتفريجها وتذليل الصعوبات وإزالة العقبات ثم تقع الكارثة ويصبح الجميع من زوجات وأبناء وبنات تحت وطأة جبار من الجبابرة إذا دخل المنزل لا تكاد تسمع صوتاً ولا نفساً خوفاً من ذلك المتسلط المتعنت وإذا خرج تنفس الجميع الصعداء بل قد تتجه الأيدي إلى الله الواحد القهار بأن يطلق أسرهم وينقذهم من عدوهم لأنه أصبح كالعدو بل أشد واعتي ، والأدهى من ذلك والأمر أن البعض قد ينتقم من والده إما بقتل أو بفعل دسيسة من أجل الخروج من حبائل الظلم والعدوان ثم إن من الأزواج من يعامل الزوجة معاملة سيئة دنيئة لا يرضاها دين ولا عقل ولا يقبل بها ذو همة ولا رأي فضرب وأوامر ونواهي وسهر خارج المنزل وإذا دخل منزله عبس وكشر وغضب وزمجر ، وأما مع الأصدقاء والأصحاب فضحك وسمر وبشاشة واتساع صدر، فسبحان الله ألم يأمر الله تعالى بالنساء خيراً فهن الزوجات والأمهات والبنات والخالات والعمات يقول تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذرها كالمعلقة) 26فحرم المولى جل وعلا متعددي الزوجات بعدم الميل إلى واحدة وترك الأخرى معلقة أو الضحك مع واحدة والعبوس في وجه الأخرى فلا بد من العدل وعدم الظلم وإلا جاء يوم القيامة وشقه مائلاً والعياذ بالله علامة يعرف بها أنه كان ممن لم يعدل بين زوجاته فيأتيه من ربه ما يستحق . وقال r ( استوصوا بالنساء خيراً )27 ولقد ضرب النبي r أروع الأمثلة في التعامل مع الزوجات من حسن خلق ولين جانب وحسن معاشرة فلنا من نبياً نحن معاشر الأزواج والأباء القدوة الحسنة والأسوة الطيبة فلقد حرم الإسلام الضرب على الوجه أو الحرق بالنار والضرب المبرح أياً كان، لأنه ( لا يعذب بالنار إلا رب النار)28 كما جاء ذلك صريحاً عن النبي r وقال r ( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس )29 فاحذر من الظلم واعلم أن للمظلوم دعوة عند ربه لا ترد فإن أصابتك في الدنيا فهي الكارثة والخسارة ، وإن أجلت لك إلى يوم القيامة فالكارثة أعظم والخسارة أكبر لأن هناك سيكون التعامل بالحسنات والسيئات فهل تتوقع أن يترك لك غريمك ومظلومك حسنة واحدة فالأمر خطير جد خطير والخطب جسيم والله سميع بصير .
ومن صور الظلم ظلم العمال والخدم والأجراء وظلم المعلم لطلاب وظلم الرئيس لمرءوسيه والظلم لإحقاق باطل وإبطال حق وإليك تفصيل ذلك :
فمن ظلم العمال أن يؤتى به من بلده بعد تكبده المشاق والمتاعب وكثرة المصاريف ثم تباع له التأشيرة ويترك داخل البلد يجوب الشوارع والأرصفة لإيجاد عمل وقد يجد وقد لا يجد وكل ذلك بطريقة غير نظامية أو يوجد للعامل عملاً على أن يأخذ الكفيل من العامل مبلغاً شهرياً وهذا عين السحت والحرام والعياذ بالله ، وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى به كما جاء ذلك عن النبي r ومن صور ظلم العمال المماطلة في إعطائهم مستحقاتهم من رواتب وحوافز وإجازات ولا يخفى على المسلم ما لذلك من ضرر على الكفيل ومكفوله من حيث العداء والتحدي مما قد ينتج عن ذلك الظلم عواقب لا تحمد عقباها .
ومن صور ظلم الخدم والأجراء ما يحصل لكثير منهم من قبل كفلائهم من سوء معاملة وضيق خلق وتعدي بالكلام الفاحش والبذيء ورديء الأخلاق وقد يصل الحمق والغطرسة بالبعض إلى استخدام العنف من ضرب وغيره أو تهديد بإلغاء العقد مع ما تحمله الخادم من مشاق ودفع نقود وبيع أثاث من أجل القدوم إلى هذه البلاد الطيبة المعطاء وإلى أهلها أهل الخير والوفاء راجياً الخير مقبلاً على الإسلام ومبتعداً عن الشر وتاركاً للشرك والبعد عن الآثام ، ثم يقابل كل ذلك بوصمة عار يضعها كثير من الناس في جباههم بسوء أخلاقهم وسيئ معاشرتهم وقلة حيائهم وزاد الأمر خطورة وصعوبة باستقدام الخادمات اللاتي حضرن من أجل لقمة العيش والكفاف وإعفاء نفسها عما حرمه الله عليها ثم يأتي أناس لا يمتون للأخلاق والقيم الدينية بصلة وينتهكون أعراضهن وضياع حيائهن وقتل عفتهن ونحن والله سفراء هذا الدين فإن حصل للدين ثلمة من قبلنا كان عاقبة ذلك عند ربنا خسراً فكونوا معاشر المسلمين خير سفراء لهذا الدين وكونوا أدوات بناء ومفاتيح خير واحذروا أن تكونوا معاول هدم ومفاتيح شر فكل العالم ينظر إليكم بأنكم القدوة الحسنة التي يقتدي بها ، والأسوة الطيبة التي يحتذي بها فالله الله بالعلم والعمل وحسن الخلق وطيب المعاملة فديننا هو دين المعاملة وأكثر ما يدخل الناس الجنة حسن الخلق والتقوى .
ومن أنواع الظلم ظلم المعلم لطلابه ، وذلك بإعطائه ما لا يستحق أو بخسه ما يستحق فكل ذلك ظلم وعدوان وتعد وطغيان .
ومن أنواع الظلم أيضاً ظلم الرئيس لمرءوسيه بعدم إعطائهم حقهم من الدرجات أو هضمهم ما هم أهل له من العلاوات أو الإساءة إلى أحدهم في تقرير أو نقل بظلم وسوء تدبير والله هو العلي الكبير .
ومن أنواع الظلم محاباة شخص على آخر من أجل واسطة محرمة فيتم بذلك هضم الحقوق وإيقاع المفاسد بين الناس فيبطل الحق ويحق الباطل وهذا ظلم واضح لا يخفى على إنسان ذو عقل راجح0
فلنتق الله عباد الله وأخص بذلك حجاج بيت الله الحرام ولنكن اخوة متحابين متعاونين على البر والتقوى متناهين عن الإثم والعدوان وعلينا بحسن الخلق وعلينا بالرفق ولين الجانب فكما جاء عن النبي r حيث قال ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه )30 .
المؤلف من يرجو فضل ربه وعفوه
يحيى بن موسى الزهراني
==============
فتوى في حكم بطاقات الاعتماد
السؤال :
نرجو إبداء الرأي الشرعي حول إصدار البنك بطاقة الاعتماد المعروفة عالمياً باسم ( فيزا ) لعملائها مع ملاحظة ما يلي :
أولا : تصدر الشركة بطاقات بلاستيكية بناء على رغبة أحد عملائها بشروط محددة تحمل اسم عميلها و شعار شركة ( فيزا ) و اسم الشركة المصْدرة للبطاقة .
ثانيا : يقوم العميل عند حاجته لبضاعة أو خدمة بإبراز هذه البطاقة لدى المتاجر و المحالّ التي تقبل التعامل بهذه البطاقة و يحصل على ما يريده و تدفع الشركة قيمتها بعد اطلاعها على الفاتورة الموقعة من العميل المتضمنة استلامه البضاعة أو الخدمة و بيان قيمتها و تسجل الشركة المبلغ على حساب عميلها الذي استلم البطاقة منها و ترسل له كشف حساب يسدده خلال مدة معلومة ( غالباًًً ما تكون 56 يوما ) .
ثالثا: في حالة تأخر حامل البطاقة عن الدفع ، فان البنك يقوم باحتساب نسبة ربوية زائدة على قيمة المشتريات .
فإذا علمت أنّ باستطاعتي تسديد كافة المبالغ قبل نهاية المهلة ، هل يجوز لي استصدار بطاقة من هذه البطاقات ، أم تدخل في الحرمة لوجود احتمال الوقوع في الربا ؟
و جزاكم الله خيراً .
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعد(3/65)
فإنّ موضوع التعامل ببطاقات الاعتماد أو الائتمان ( و منها : فيزا و ماستر كارد و أميريكان إكسبريس و غيرها ممّا اتّحد وصفُه و اختلف مُسمّاه ) من الأمور المصرفيّة المعقّدة غاية التعقيد ، و من أسباب ذلك أنّ شروط إصدارها قد تختلف من مصرف إلى مصرف ، أو باختلاف النظام النقدي من بلد إلى بلد ، أو الاختلاف في حدّ الصرف و مهلة السداد بين عميل و عميل ، و حسب سعة ذات يده أو ضيقها ، و مقدار ما يودعه في المصرف ، و قد عُرضت هذه المسألة على مجامع و لجان فقهيّة عديدة فلم يحظ أيٌّ من آرائها على إجماع .
و إليك خلاصة ما أراه فيصلاً بين الحلال و الحرام في هذه المسألة :
أوّلاً : إذا كان تعاملك مع مصرف إسلامي معروف بتحكيم الشرع في تعاملاته الاقتصاديّة ، من خلال لجنة شرعيّة ترسم سياساته ، و توجّه تعاملاته ، فالأمر فيه سعة إذ إنّ هذه المصارف لا ترتّب على عملائها زيادةً ربويّةً و إن تأخّروا في تسديد ما بذمتهم من ديون لها ، بل غاية ما تلجأ إليه هو الاقتطاع التلقائي من حساب العميل لاستيفاء الدين الثابت في ذمّته من جرّاء الشراء أو السحب النقدي بواسطة بطاقته الائتمانيّة ، فإن لم يفِ رصيده بدَينه أوقِفَت بطاقته لحين السداد .
ثانياً : المعروف عن المصارف الإسلاميّة أنّها تقبض مبلغاً رمزيّاً مقطوعاً على كلّ عمليّة سحب نقدي بواسطة بطاقة الاعتماد ، و هذا المبلغ إن كان محدداً مهما اختلف المبلغ المسحوب فلا بأس ، لأنّه من باب الجعالة ، و يأخذ حُكم أجرة تحويل المال أو إيصاله من بَلَدٍ إلى بَلد ، أمّا إن اشترط المصرف نسبةً مئويّةً تتأثر بالمبلغ المسحوب زيادةً و نُقصاناً ، فهذه صورة من صور الربا ، و لا يجوز التعامل بها ألبتّة ، و الله أعلم .
ثالثاً : الغالب في تعاملات المصارف و شركات الاستثمار الربويّة أنّها تشترط لإصدار بطاقات الاعتماد لعملائها واحداً - على الأقل - من الأمور الثلاثة التالية :
• إمّا أن يكون لديه حسابٌ جارٍ يتم الإيداع فيه بشكل دَوريٍّ دائم كالراتب الشهري ، أو الدخل المستمر ( و من أمثلته الإيجار و عائد الضمان الاجتماعي و النفقة المُلزِمة ) .
• أو أن تكون لديه وديعة استثماريّة محدودة الأجل في المصرف ، بحيث لا يحق له السحب منها إلاّ بعد مضيّ الأجل المتفق عليه ، و أقلّه - فيما أعلم - ثلاثة أشهر .
• أو أن يحبس مبلغاً من حساب التوفير ( أو الادّخار ) العائد له لدى المصرف ، فلا يكون له حق التصرّف فيه بالسحب أو التحويل إلاّ بعد إجازة قسم البطاقات الائتمانيّة للعمليّة , أو مضي أجل على إنتهاء صلاحيّة بطاقته ، أو إلغاء اشتراكه فيها ، أو توقيفها بسبب السرقة أو الضياع .
و يهدف المصرف من اشتراط توفر أحد هذه الأمور أو أكثر ضمان استرداد حقّه ، في حال تأخر العميل عن السداد أو تهرّبه منه أو تنكّره له .
و عليه فإن أوّل الشروط للحصول على البطاقة من مصرف رِبَوي هي التعامل مع ذلك المصرف بفتح حسابٍ أو أكثر فيه ، و إيداع مبلغ نقدي لا يقل عن الرصيد المتاح لمستخدم البطاقة في ذلك الحساب ، و هذا حرام لا يجوز إلاّ لمضطر ، و الضرورة تقدّر بقَدَرها ، و لا يجوز التوسّع فيها بحال .
أضف إلى ذلك أنّ المصرف يُفرّق بين تعاملات عميله بالبطاقة ، حيث يشترط نسبةً مقطوعة محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها العميل ببطاقته ( و هي تتراوح غالباً بين رُبع العُشر و نِصفِه ) و هذا عين الربا .
أمّا في عمليّات الشراء فغالباً ما يقتصر المصرف على اقتطاع المبلغ المصروف بدون زيادةٍ و نقصان ، و لا مُراباة في ذلك .
و بناءً على ما تقدّم فلو كان الحصول على البطاقة مشروعاً ( و هذا ما لا أتوقّعه من مصرف يتعامل بالربا ) ، و ليس فيه حُرمةٌ أو ما يترتب على عمليّة محرّمة ؛ فلحاملها أن يستخدمها في عمليات الشراء فقط ، شريطة أن لا يتأخّر في السداد عن المدّة المسموح بها ، و أن لا يؤدي ذلك إلى سداد أي مبالغ زائدة عن المبلغ الذي أنفقه ثمناً لمشترياته ، أو للخدمات الأخرى ( غير السحب النقدي ) .
و ليحذر المتعاملون مع المصارف الربويّة من الوقوع تحت طائلة حرب أعلنها الله تعالى عليهم ما لم يبادروا بالتوبة ، فقد قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة ] .
و لا يظن أحدٌ منهم أنّ تنازله عن الزيادة الربويّة لصالح المصرف أو إخراجها في وجه من وجوه البر و الصلة بدون توبةٍ ، يخرجه من المحظور ، و يبيح له متابعة تعامله مع ذلك المصرف ، لأنّ التعامل بالربا أو المساعدة عليه أو المساهمة فيه سواءٌ في الحرمة ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
هذا و اللهَ أسأل أن يغنيني و السائل و المسلمين بحلاله عن حرامه ، و بطاعته عن معصيته ، و بفضله عمّن سواه .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
=============
الكسب الحرام
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد،الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عدد،الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينس منهم أحد، أحمده سبحانه وأشكره حمداً وشكراً كثيراً بلا عدد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:فأوصيكم معاشر المؤمنين ونفسي بطريق الرزق الحلال والكسب الطيب ألا وهو التقوى يقول ربكم جل وعلا:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا()وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}([1]) .(3/66)
يا أتباع خير رسالة عرفتها البشرية أمر الكسب والدخل المالي من أكبر الأمور التي ينشغل بني البشر علىجهة العموم بها فلو نظرت إلى حياة الفرد من صغره إلى كبره فهو يدخل المدرسة ويختبر ويحرص على الدرجات العلى وأبواه يحثانه على المزيد من الجهد والدافع والمبرر لذلك هو الوصول إلى مكانة مرموقة ودخل أكبر ، فهاهو يبذل جهده من صغره إلى كبره من أجل هدف واحد هو تحقيق الدخل ، ولو نظر أحدنا إلى يومه فإنه يجد أن أغلب ساعات اليوم بل قد يكون أغلب حديث اليوم عن هذا الموضوع! واكتسبت عملية الكسب هذه الأهمية في حياة البشر لأنها ترتبط بتوفير أساسيات حياة الإنسان من طعام وشراب ولباس ونكاح وسكن ونحوها ، وقد علم العليم الخبير الذي خلقنا وصورنا والذي هو أعلم بنا منا هذا التعلق البشري بالمال وحب بني الإنسان له فبين لنا في كتابه الخالد هذه القضية واستمعوا حينما يحدثكم الخلاق العليم عن ذلك فيقول : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(2).وقال :{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}(3). ويقول الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه عن هذه الخصلة في بني آدم فيما أخرجه البخاري في صحيحه ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ))(4).ولذلك وضع لنا الكريم سبحانه تطمينات تطمئن الإنسان على هذا الجانب فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ()فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(6).ويقول سبحانه:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(7). أيها الأحبة في الله ولأن ديننا دين الفطرة دين وضعه لنا الذي خلقنا وسوانا سبحانه وهو أعلم بما يصلحنا وما يفسدنا فلم يحرم علينا طلب الرزق ، لم يطالبنا بالجلوس في الزوايا وترك الرزق بل حثنا على العمل والضرب في الأرض طلباً للرزق يقول الرزاق الكريم:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(5).وفي سنن ابن ماجة جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ))(8).هل سمعتم أيها الأحبة دعانا حبيبنا صلى الله عليه وسلم للعمل ولكن بشرط (خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ) هذا الشرط مع الأسف غفل عنه من سيطر حب الكسب والمال على قلوبهم فما عادوا ينظرون هل يكسبون من حل أم من حرام هذا الشرط ناداكم الله به نداءً خالداً يوم أن قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(9).أسمعوا وتأملوا أيها الأحبة قال طيبات فهل الرزق الحرام من الطيبات ؟ فهل علم من يكسب من حرام أنه عصى من بيده رزقه ورزق الخلق أجمعين؟ فعجباً نرى في أمة الإسلام نرى موظفين يعرقلون مصالح المسلمين حتى يحصلوا على رشوة دراهم معدودة يقبضونها ويحصلون معها في نفس اللحظة على لعنة من رسولهم صلى الله عليه وسلم حيث قال كما عند الإمام الترمذي وابن ماجه وغيرهماL(لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي))(10).وعند الإمام أحمد: ((لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا))(11).من أمة الإسلام من يفتح مقاهي للأنترنت وحتى يكسب المزيد تجد أن العاملين في تلك المقاهي يدلون الشباب على المواقع الإباحية ومواقع الفسق والفجور،من أمة الإسلام من يفتح محلاً يبيع فيه أشرطة الغناء الماجنة التي تدعوا للزنا والرذيلة ، من أمة الإسلام من يفتح محلات لبيع اللواقط الفضائية(الدشات)ويعمل في مجال صيانتها وإصلاحها لتلتقط الفحش والفجور تبثه في أمة الإسلام فأين هؤلاء من قول الجبار العظيم:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(12).من أمة الإسلام من يفتح صوالين للحلاقة يزيل فيها لحاً أمر رسولنا بتوفيرها فعند البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ((خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ ))(13).فنقول لصاحب الصالون أطابت نفسك أن تزيل فريضة من وجه مؤمن؟ ثم نسائله كيف طابت نفسك أن تأخذ على عملك ذلك مالاً؟ ومع الأسف هناك من
الصوالين من لم يكتف بعملته الشنيعة تلك بل قام ينشر بين شباب المسلمين أخر قصات حثالة الغرب فتجد عنده كتاباً يحتوي على صور آخر تلك القصات ليختار منها الشاب ما يعجبه! ومن أمة الإسلام خياطين يخيطون لرجال الإسلام ثياباً طويلة تتجاوز الكعبين ورسولنا وحبيبن صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِزْرَةُ الْمُؤْمَنِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَمَا كَانَ إِلَى الْكَعْبِ فَلَا بَأْسَ وَمَا كَانَ تَحْتَ الْكَعْبِ فَفِي النَّارِ))(14).ومنهم من أمسى يفصل للشباب ثياباً مماثلة لثياب النساء شديد الضيق من أعلى شديدة الوسع من أسفل.ومن أمة الإسلام صاحب البقالة الذي يبيع للمسلمين الدخان والمجلات الفاضحة فيهدم في صحتهم وفي أخلاقهم،ومن أمة الإسلام من يأكل الربا أو يكتب الربا أو ينشر الربا ويكسب مع كل خطوة في ذلك غضب الله وغضب رسوله فالنبي صلى الله عليه وسلم ((لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ))(15).وقال الجبار فيهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ()فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(16).ومن أمة الإسلام من تقول زوجته أوابنته أو أخته بكل وقاحة وعلى رؤوس الأشهاد أخرج للعمل من بعد المغرب إلى الفجر ثم أعود وحقيبتي مملؤة بالنقود من الشباب ،ومن أمة الإسلام..ومن أمة الإسلام…ومن أمة الإسلام نماذج في مجتمعنا يتفطر القلب منها وعليها حسرات يوم أن بعدت عن هدي الإسلام في الكسب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(17).
الخطبة الثانية
الحمد لله{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}،وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .(3/67)
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله واجتنبوا طرق الكسب المحرم تفلحوا . أيها الأحبة في الله هاأنتم قد سمعتم فهل أنتم منفذون فهذا دأب المؤمنين وصفهم الله بذلك بقوله:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(18).ولقد ذم الله قوماً قبلكم بقوله:{مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}(19).واعلموا رحمني الله وإياكم أنه قد يأتي الشيطان لأحدنا ممن عزم على التوبة فيقول له تخلي تلك التجارة الرابحة أنظر إلى فلان وفلان تركوا فافتقروا وأنت ليس لك مصدر رزق سواها فأقول لهم إن الله قد أخبرنا عن ذلك بقوله:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(20).وقد وعدكم من لا يخلف الميعاد بقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا()وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(21).وفي مسند الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ))(22). هناك أيها الأحبة في الله من ترك الكسب الحرام ولم يسع في الكسب الحلال فافتقر فظن قوم أنه بسبب تركه للرزق الحلال ، أيها الأحبة في الله إني أخاطب كل من عصى الله في كسبه فأقول له أعلمت من عصيت؟ ماذا تفعل لو غضب الله عليك لا قدر الله وأمسك عنك رزقه؟من ذا الذي يرزقك؟من ذا الذي يعطيك؟{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}(23).
---------------
([1]) الطلاق:2،3.(2)الفجر:20.(3)العاديات:8.(4)البخاري،الرقاق،ح(5958).(5)الملك:15.(6)الذاريات:22،23.
(7)هود:6. (7)ابن ماجة،التجارات،ح(2135).(9)البقرة:172.(10)ابن ماجة،الأحكام،ح(2304).(11)أحمد،باقي مسند الأنصار،ح(21365).(12)النور:19.(13)البخاري،اللباس،ح(5442).(14)أحمد،باقي مسند المكثرين،ح(10826). (15)مسلم،المساقاه،ح(2995).(16)البقرة:278،279.(17)الأنفال:25.(18)النور:51.(19)النساء:46.(20)البقرة:286.(21)الطلاق:2،3.(23)يونس:31.
==============
شاكر النابلسي ..! ( حقائق عنه )
سليمان بن صالح الخراشي
بمناسبة استكتاب " منتدى الندوة " لشاكر النابلسي ؛ فقد أحببت أن أذكر هنا شيئًا من أفكاره وتوجهاته من خلال كتبه ومقالاته ؛ لكي يعلم المسلمون حقيقة هذا المحتفى به عند أصحاب الندوة ؛ وحقيقة ليبراليتهم التي يريدون نشرها في مجتمعنا :
- شاكر النابلسي كاتب أردني من مواليد 1940م ، درس الآداب في مصر ، مكث زمنًا ليس بالقصير في المملكة العربية السعودية ؛ يكتب في بعض صحفها ؛ ويدعم الحداثيين السعوديين الناشئين ذاك الوقت من خلال كتبه النقدية ؛ ككتابه " نبت الصمت " الذي تهجم فيه كثيرًا على الدكتور عوض القرني ؛ لفضحه حداثيي هذه البلاد .
- توجهاته القديمة ماركسية ؛ كحال معظم الحداثيين ؛ إلا أنه سرعان ما أدار الوجهة تجاه الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ! أيضًا كحال بعض الماركسيين الذين يدورون مع الموجات العالمية ؛ غير آبهين بدينهم وأمتهم . ( ينظر في هذه التحولات الجذرية للماركسيين كتابًا مهمًا بعنوان " خيانة المثقفين " للدكتور عبدالحكيم بدران " وقد ذكر نماذج منهم ) .. فأصبح شاكر يصف نفسه بأنه ( باحث ليبرالي في الفكر العربي ) !! كما في كتابه ( الفكر العربي في القرن العشرين ، 2/696) .
- انتقل إلى أمريكا في السنوات الأخيرة ليخرج لنا تحت مسمى " الليبراليين الجدد " ! وهم قوم قد انسلخوا من دينهم وأمتهم ؛ وحتى عروبتهم كما سيأتي ، وأصبحوا مجرد طابور خامس للغازي الأمريكي ؛ يروجون لمشروعه ، ويمهدون العقول لقبوله ، ويدافعون عن جرائمه ؛ خابوا وخسروا . وقد بين خيانتهم كثيرون ؛ كما سيأتي .
- له مؤلفات عديدة ؛ من أهمها : فدوى تشتبك مع الشعر (دراسة في شعر فدوى طوقان) . رغيف النار والحنطة (دراسة في الشعر العربي الحديث) . الضوء واللعبة (دراسة في شعر نزار قباني) . مجنون التراب (دراسة في شعر محمود درويش) . نَبْتُ الصمت (دراسة في الشعر السعودي الحديث) . قامات النخيل (دراسة في شعر سعدي يوسف) . مذهب للسيف ومذهب للحب (دراسة في أدب نجيب محفوظ) . فضٌّ ذاكرة امرأة (دراسة في أدب غادة السمّان) . مدار الصحراء (دراسة في أدب عبدالرحمن منيف) . النهر شرقاً (دراسة في الثقافة الأردنية المعاصرة) . الزمن المالح (أوراق في جدلية السياسة والثقافة العربية) . عصر التكايا والرعايا (المشهد الثقافي للشام في العهد العثماني) . الثقافة الثالثة (أوراق في التجربة الثقافية اليابانية) . ثورة التراث (دراسة في فكر خالد محمد خالد) . الرجم بالكلمات (دراسة لمجموعة من المفكرين العرب المعاصرين) . الفكر العربي في القرن العشرين (1950 - 2000) (ثلاثة أجزاء) . النار تمشي على الأرض (شهادات في الحياة العربية) . قطار التسوية (دراسة لكافة مبادرات التسوية الفلسطينية) . محاولة للخروج من اللون الأبيض (أوراق في السياسة العربية) . وسادة الثلج (العرب والسياسة الأمريكية) . السلطان (دليل السياسة لحفظ الرئاسة) . سعودية الغد الممكن (بحث استشرافي تنموي) . طَلْقُ الرمل (أوراق في التنمية والثقافة الخليجية) .(3/68)
- يقول في كتابه " الفكر العربي .. " ( ص 3/142-147) مبينًا أمنيته التي يرجوها : ( ونحن نتصور بأن يستمر تجاذب الأطراف على هذا النحو طيلة القرن الحادي والعشرين بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة العلمانية، مع يقيننا بأن التيار العلماني هو الذي سيتغلب في النهاية، ولنا في ذلك أسبابنا التالية : .. - ثم ذكر منها بفرح واستبشار - : إلغاء المحاكم الشرعية في معظم الدول العربية وإنشاء المحاكم المدنية بقوانين وضعية، وفي بعض الدول بقيت المحاكم الشرعية ولكن قُلصت صلاحياتها بحيث اقتصرت على النظر في القضايا التي لها علاقة بالدين كالزواج والطلاق والإرث ومسائل الوقف وخلاف ذلك - إلغاء إقامة الحدود والعقوبات الشرعية من رجم وجلد وتعزير وقطع رقبة في معظم البلدان العربية، واستبدالها بعقوبات مدنية موضوعة - زوال العهد العثماني رمز الدولة الدينية، وزوال الاستعمار الغربي الذي من أجله حوربت الدولة العلمانية - وأخيراً، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي وانمحائه من الخارطة السياسية العالمية وانفراد أمريكا -والغرب العلماني إلى جانبها- في قيادة العالم والتأثير عليه سياسياً وعلمياً واقتصادياً، ووقوف أمريكا ضد الدولة الدينية ..، كذلك محاربتها ومعاقبتها ومطاردتها للجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط والأقصى قد شدَّ من ساعد التيار العلماني في العربي، وسوف يشدُّ من ساعده أكثر فأكثر في القرن الحادي والعشرين ويشجع الدولة العربية الحديثة على المزيد من التطبيقات العلمانية ) !! ( تلك أمانيهم ) ؛ وللعلم فقد قال هذا قبل الاستعمار الأمريكي للعراق !
- كشف النابلسي عن وجهه القبيح كاملا في كتبه الأخيرة بعد استقراره في بلاد أسياده ؛ واختياره طريق الخيانة لأمته ، ورضاه بأن يكون مجرد بوق إعلامي بيد الأعداء ؛ ( يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) ؛ فأصبح " الخائن " لا يتورع في كتبه الأخيرة عن التطاول على الإسلام والقرآن وأحكام الشريعة مرددًا مقولات المستشرقين ؛ ومؤديًا بذلك دوره الجديد الذي اختاره له الأسياد . ولا مانع عند هذا " الليبرالي " المتأمرك أن يتقمص شخصيته الماركسية القديمة عندما يريد التطاول على الإسلام . وقد كفره الشيخ ابراهيم الخولي على قناة الجزيرة بسبب مقولاته الأخيرة وتطاوله على القرآن ومطالبته بحذف الآيات التي تعرضت لأسياده من اليهود والنصارى .
وفيما يلي أستعرض بعض أقواله في كتابيه الأخيرين : " المال والهلال " و " لولم يظهر الإسلام ماحال العرب الآن ؟ "
أما كتابه الأول " المال والهلال " فقد ألفه بنظرة ماركسية ابتغى من خلالها تشويه الإسلام ، وعزو جميع أحداثه منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العامل الاقتصادي ! مقتاتًا على المستشرقين الحاقدين ، والماركسيين العرب الذين يرددون هذه الأفكار البائدة في كتاباتهم ؛ من أمثال حسين مروة وخليل عبدالكريم وسيد القمني وعبدالله العلايلي وغيرهم ممن حشا كتابه بالنقل عنهم . زائدًا عليهم ببجاحته في التصريح " بكفرياته " ؛ من تشكيك بالقرآن ولمز في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام . وأعتذر للقراء عن نقل وقاحاته ؛ لأن هدفي أن يعلموا حقيقة الرجل وحقيقة من يلمعه .
يقول " الخائن " : ( فالقرآن الكريم، هو أهم مصدر تاريخي/ وعظي/ عجائبي/ أخلاقي لنا ولغيرنا من المؤرخين ومن الباحثين -حيث كان الكلام التاريخي المكتوب الوحيد الدال في صدر الإسلام المبكر-، من الصعب أن يكون مصدراً تاريخياً علمياً، لسبب بسيط جداً وهو أن الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها.
فالقرآن جاء على دفعات متفرقة، خلال مدة طويلة بلغت حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، وتاريخ مجيء معظم آيات القرآن غير موثق تاريخياً باليوم والشهر والسنة والمكان المحدد، ، وترتيب القرآن توفيقي، لم يراعَ فيه تاريخ النزول ولا اتخاذ الموضوع ، ولا سيما أن في القرآن الكريم آراء متضاربة حول كثير من المواقف نحو الأحداث والأديان الأخرى، وعلى رأسها اليهودية ، وبالتالي فإن القرآن لم يكُ "كتاب تاريخ" بقدر ما كان كتاب "موعظة تاريخية" ) . ( ص 9-10 ) .
- ويقول مدافعًا عن أسلافه من مشركي قريش : ( من الصعوبات التي يواجهها الباحث في هذا الشأن، إشكالية أنه قد تمَّ التعتيم على تاريخ ما قبل البعثة المحمدية تعتيماً يكاد يكون تاماً على اعتبار "أن الإسلام يجبُّ ما قبله"، أي أن الإسلام يُلغي ما قبله، ولم يكُ بين أيدينا غير شعر ما قبل الإسلام (ق.س) ، وبعض روايات الإخباريين، وهذا هو حال صراع الأيديولوجيات في التاريخ، فكلما جاءت أيديولوجيا ألغت سابقتها، ورمتها بالجهل والتخلف والانحلال، وتصدرت هي واجهة التاريخ وحدها، وكان كل ما سبقها جهلاً وجهالة وسفهاً وسفاهة، ومن العهود البائدة، والأزمنة الفاقدة ) . ( ص 11) . وأي تاريخ كان عند الجاهليين يا جاهل غير عبادة الأوثان والنهب والسلب والحروب ووأد البنات الخ أمورهم الجاهلية التي ذكرت في القرآن نفسه ؟! فأين التعتيم المزعوم ؟! أم أنك لا تثق في كتاب ربك ، وتتهمه بظلم أسلافك الجاهليين ؟! "
- التوجه لبيت المقدس سببه العامل الاقتصادي ! : ( وفي الجانب الديني الآخر، ربما يقرأ بعض القراء حادثة قرار الرسول التوجه إلى بيت المقدس في صلاته ودعائه كقبلة يرضاها طيلة خمس عشرة سنة من بدء البعثة قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة، قراءة عابرة من دون أن يخطر بباله أن الرسول منذ البداية، قرر أن يطعن قريشاً في خاصرتها التجارية الموجعة، وأن مكان هذا الطعن هو الذي سيؤدي بقريش في النهاية إلى الخضوع والاستسلام له، وهذا ما حصل وتمَّ بالفعل في ما بعد. فقرار الرسول أن يكون بيت المقدس، قبلة المسلمين طوال هذه الفترة، يعني أن تتحول أماكن العبادة من مكة إلى بيت المقدس، وتتحول معها بالتالي المواسم الدينية والتجارية التي تستمر أربعة أشهر (من بداية ذي القعدة حتى نهاية رجب) وما تدرها من دخل كبير، إلى بيت المقدس، وينصرف العرب عن مكة وينصرف معهم باقي المسلمين من غير العرب عن مكة ويتوجهون إلى بيت المقدس ) . ( ص 45-46) . حسنًا ؛ لكن فاتك أيها الماركسي الجاهل بأحكام دينك أن التوجه لبيت المقدس لا يعني أن تتحول المواسم الدينية إليها !! لأن الحج والعمرة باقيان في مكة مهما تغيرت القبلة !!(3/69)
- تحريم الربا سببه توجيه ضربة مالية لليهود !! : ( هل سكوت الإسلام الطويل عن تعاطي قريش الربا كان مرده إلى أن الإسلام كان لا يريد أن يُغضب قريشاً كثيراً ويُصيب تجارتها في مقتل ما، حتى لا تقاوم الإسلام أكثر فأكثر، وتؤذي رسوله أكثر فأكثر؟ والدليل على ذلك أن أول سورة مكية (سورة الروم) جاءت في شأن الربا، لم تُحرّم الربا، وإنما دعت بالحُسنى إلى إقراض المال للمحتاج ولوجه الله، علماً بأن مكة كان فيها كثير من المرابين من عرب ويهود أيضاً، وكان فيها ربا فاحش شأنه شأن ربا المدينة، وإن تحريم الربا هذا التحريم القاطع المانع المتأخر جداً، قد صدر في المدينة بعد هجرة الرسول إليها بزمن طويل، وبعد خصامه مع اليهود الذين كانوا من أكبر المرابين في المدينة. وهل كان تحريم الربا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة بوقت طويل، وقبل وفاة الرسول بتسع ليال فقط، جاء بعد خلاف الرسول المالي الطويل مع اليهود، وكيداً باليهود ، وذلك بتوجيه ضربة مالية قوية لهم ) . ( ص 54-56) . قبل قليل تدعي أن جعل بيت المقدس قبلة كان " طعنًا لقريش في خاصرتها التجارية " ! وهنا " لا يريد إغضابها وإصابة تجارتها في مقتل " !! ما هذا التناقض ؟!
- ترديده لمقولات المستشرقين القديمة : ( علينا أن نعلم جيداً أن جانباً من خلاف الرسول مع اليهود في المدينة وطردهم منها كان لأسباب مالية بحتة، برغم تأثير العقيدة اليهودية الواضح في العقيدة الإسلامية والذي كان أكبر من تأثير العقيدة المسيحية ) . ( هامش ص 55) . (لم يقاوم العرب الإسلام إلا عندما حاول فرض الدين بالقوة، وتهديد مصالحهم التجارية بإثارة الطبقات الدنيا على الطبقات العليا ) . ( ص 75) . ( يُقال إن الإسلام أخذ عدد الصلوات الخمس كل يوم عن الصابئة، فالصابئة كانوا يعبدون الكواكب السيارة الخمسة: المشتري والزهرة وزحل وعطارد والمريخ، وكان الصابئة يتوجهون لكل كوكب بصلاة في كل يوم، فيصبح المجموع خمس صلوات في كل يوم ) ( هامش ص 81) . ( وقد قضى هذه الفترة في التأمل والاستماع والدرس والتفكّر والتعلّم، وإن نصوص التوراة كانت بين يدي الرسول ومتوفرة لمن شاء القراءة والدرس، ولابد من أن الرسول في هذه الفترة كان قد اطلع على التوراة –أو قُرئت له- بإمعان، وفهمها وصدَّقها ) . ( ص 84) . ( كان الفاتحون المسلمون يعتبرون أن كل ما تمَّ فتحه بالسيف أصبح ملكاً خاصاً لهم، ولا سيما أن معظم البلاد المفتوحة أو التي خُطط لفتحها مستقبلاً كانت بلداناً غنية جداً بالثروات المنقولة والثابتة كالشام والعراق ومصر وبلاد فارس وغيرها، ومن هنا، اندفع المسلمون تجاه الفتح هذا الاندفاع الكبير والمثير في فترة زمنية قصيرة ) . ( ص 149-150) .( إن حروب الردة هذه لم تكُ كلها على أقوام ارتدت عن الإسلام وكفرت به، فقسم من هذه الطوائف والأقوام لم تكفر ولم تُلحد، ولم يكُ ما يستوجب حربها ومقاتلتها على ذلك النحو الشرس، وإنما تمَّ قتالها لا لأنها كفرت أو ألحدت، ولكن لأنها امتنعت عن أداء الزكاة وامتنعت عن التقيد بالنظام المالي الذي كان سائداً في عهد الرسول، وقد كان لهذا الامتناع أسبابه ومبرراته التاريخية). ( ص 161). (فلو لم يكُ الدافع لهذه الفتوحات السريعة والمتلاحقة، المال، لما حمل العرب السيوف وقاتلوا، ولدعوا إلى الإسلام بالحُسنى، ولأرسلوا الدعاة والهُداة والمبشرين به، من دون إرسال الجيوش والسيوف والمحاربين، أو لفتحوا ما فتحوا من بلاد وتركوا المال والسبايا والغنائم الأخرى لأهلها، فهم قد ذهبوا للتبشير بدعوة دينية وليس لنهب ثروات الشعوب الأخرى على النحو الذي جرى) . ( ص 162-163) . (يرى بعض المؤرخين أن الحضارة العربية الإسلامية قد شاخت بسرعة، وفي رأينا، إن سبب هذه الشيخوخة المبكرة للحضارة العربية الإسلامية يعود إلى ارتباط هذه الحضارة ومنها الاقتصاد بدين له ثوابته التي لا تتغير، فالإسلام كان في البدء ديناً ولم يك حضارة، ولكن ارتباط الحضارة العربية الإسلامية كان ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، في حين أن الحضارة العربية الإسلامية في حقيقتها لم تأت من النصوص القرآنية الإسلامية، ولكن من جهد البشر الذين دخلوا الإسلام من أجناس مختلفة، وبرغم ذلك فقد تمَّ ربطها بالإسلام كدين ذي ثوابت لا تتغير، ومن هنا جاءت الشيخوخة المبكرة للحضارة الإسلامية ) . ( ص 182-183) . ( ظهور معظم الصحابة بمظهر الأغنياء الحقيقيين الذين اغتنوا وأثروا بفضل الإسلام، كما سبق ، واغتنوا وأثروا بفضل التجارة، فلم تنقض ثلاثون سنة على ظهور الإسلام إلا وكان التاريخ يقدم لنا قائمة طويلة بأسماء أغنياء قريش الجدد الذين أثروا بفضل العطايا والهدايا والغنائم من الأنفال والفيء وخلاف ذلك، وكانت تلك القائمة الطويلة تشمل أسماء وتبين ثرواتهم التي تحققت خلال خمس عشرة سنة من تاريخ فتح مكة، من دون تجارة أو صناعة أو زراعة) . ( ص158) . ( نلاحظ أن الآيات التي لعنت اليهود (يهود المدينة على وجه الخصوص) وهي ثماني آيات –في سور البقرة والمائدة والتوبة- كانت كلها مدنية، وبعد أن اختلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بالذات على أمور مادية وعقائدية، وكان الرسول قبلها على وفاق مع اليهود، وأشركهم في أول دولة إسلامية أقامها في المدينة، في حين أن الآيات التي كرّمت موسى والكتاب والعقيدة اليهودية التي جاء بها كانت كلها آيات مكية قبل هجرة الرسول إلى المدينة ، وقبل خلاف الرسول مع يهود المدينة خاصة، علماً بأن اليهود كانوا في مكة ولم يلعنهم القرآن طيلة ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة الإسلامية في مكة وحتى سنة الهجرة إلى المدينة، ذلك أن الرسول لم يكُ على خلاف مع يهود مكة في ذلك الوقت كما صار عليه الحال بعد هجرته إلى المدينة ) . ( هامش ص 10 ) . وقد تركت كثيرًا من مخازيه ؛ كتطاوله على الصحابة رضي الله عنهم ؛ اكتفاء بما سبق .وللرد على هذه المقولات الاستشراقية التي يقتات عليها النابلسي وبيان تهافتها ؛ ينظر " تعقبات العلامة أحمد شاكر لدائرة المعارف الإسلامية " التي وضعها المستشرقون ، وكتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار " للمستشار سالم البهنساوي ، و كتاب : " افتراءات المستشرق كارل بروكلمان على السيرة النبوية " للدكتور غيثان جريس ، وكتاب " افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على
التاريخ الإسلامي " للأستاذ عبدالكريم علي باز ، وكتاب " مركسة التاريخ النبوي " للأستاذ منصور أبوشافعي، وكتاب " المستشرقون والإسلام " لمحمد قطب .
أما كتابه الآخر " لو لم يظهر الإسلام .." فقد ابتغى من خلاله التقليل من شأن الإسلام ، والطعن والتشكيك في القرآن ، والدفاع عن أسلافه الجاهليين الذين ظلمهم الإسلام وطمس " حضارتهم " !! وإليك بعض أقواله ( الكفرية ) :(3/70)
- ( إن الوثنية كعقيدة دينية لم تكن بتلك القوة التي صورها لنا القرآن ) . ( ص 39) . ( إن الإسلام عندما ظهر لم يصطدم مع المسيحيين المساكين البعيدين عن لعبة المال والسياسية ولم يتحارب معهم كما اصطدم وتحارب مع اليهود القابضين على زمام الاقتصاد المديني والذي كان سبب العداء بين المسلمين واليهود ) . ( ص 82) . القرآن طمس نثر الجاهلية - بزعمه - خشية ( أن يكون لهذا النثر من سحر البيان ما كان ينافس سحر بيان القرآن ) ! ( ص 96) . ( هذا الشعر القوي لم يظهر لنا ولم يصلنا وتم على ما يبدو طمسه ومنعه من التداول من قبل السلطة الإسلامية الجديدة حتى يكون القرآن هو البيان الساحر الوحيد في أيدي العرب في ذلك العهد ) !! ( ص 120) . أحاديث تحريم التماثيل : ( يميل بعض مؤرخي الفن العربي إلى أنها أحاديث غير صحيحة ) ! ( ص 133) . ( في صدر الإسلام كانت هناك حياة سياسية وكانت هناك أحزاب سياسية، ولكنها أحزاب نفعية.. الحزب الأموي النفعي ومن مؤسسيه في عهد الرسول أبو سفيان ومن قادته عثمان بن عفان ) ! ( ص 195) . ( من المعروف أن الإسلام وضرورة نشره بالقوة المسلحة دفع المسلمين إلى ارتكاب مجازر سياسية عنيفة ) ( ص 221) . عام الرمادة أثبت - كما يزعم - ( فشل الإدارة المالية لعمر بن الخطاب فشلاً ذريعًا ) ! ( ص 283وما بعدها ) .
أما مقالاته في السنوات الأخيرة التي تُنشر في عدة صحف عربية في وقت واحد !! فأنتقي منها ما يزيد القارئ بصيرة بهذا " الخائن " ؛ وأذكر عنوان المقال بعد كل نقل ؛ مع تعليق يسير باللون الأزرق :
- لم يعد عداؤه لأهل الإسلام فقط : ( إن قسماً كبيراً من الإعلاميين الأردنيين ومن كتاب الأعمدة اليومية والأسبوعية هم من حركة فتح ومن الجناح الموالي لياسر عرفات. إضافة إلى وجود عدد كبير من البعثيين الموالين للنظام العراقي السابق والموالين للنظام السوري الحالي، ووجود عدد آخر من جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وبقية الجماعات الإسلاموية الأخرى . ومن هنا نرى أن الإعلام الأردني في معظمه هو مجموعات من الجزر الموبوءة من الأيديولوجيين القومجيين والسلفيين ) ( الملك عبد الله والإعلام الظلامي ) .
- كتب مستبشرًا بالانتخابات التي أقامها أسياده في العراق مقالا بعنوان : ( العراقيون يؤدون الأحد صلاة العيد! ) اضغط هنا
- الإرهاب لا علاقة له بإسرائيل : ( أن الإرهاب العربي - وليس الإسلامي - اليوم لا علاقة كبيرة له بسياسة (أمريكا) تجاه اسرائيل، ولا علاقة كبيرة له بالظلم الذي يحيق بالفلسطينيين من قبل اسرائيل ) . ( لا شك أن التعليم الديني الظلامي قد لعب دوراً كبيرا في هذه الأسباب، فغسل أدمغة التلاميذ والطلبة يومياً بالهوس بالماضي، وبالنرجسية الدينية) . ( أسئلة الأعراب في أسباب الإرهاب )
- الاستعمار له فضائل على النابلسي !! : ( فدساتيرنا العربية هي مقتطفات واسعة المساحة من الدساتير الغربية، وهي من صنع الاستعمار ومن فضائلة الكثيرة علينا) !! ( الإصلاح من الداخل دعوة طفولية ساذجة لتطييب الخواطر وتقليل المخاطر) .
- الفرح بتدمير الفلوجة على أيدي الصليبيين : ( صباح الخير يا فلّوجة.. صباح الخير يا مقبرة الارهابيين .. صباح الخير يا عدّامة المقاولين المرتزقة..صباح الحرية والآمان..صباح الخير والنماء..صباح الحب والرخاء..عندما انفلج صباح الحرية في الفلّوجة أمس، وتحررت الفلّوجة من حكم طالبان العراقي كما تحررت بالأمس كابول من حكم طالبان الأفغاني وهو حكم القرون الوسطى، لم نكن نتصور أبداً أن حكم طالبان العراقي يريد للفلّوجة الحمامة البيضاء أن تصبح "كابول القرون الوسطى" التي كانت تحت حكم طالبان الظلامي ) . (انفلاج الصُبح في الفلّوجة ) .
- النابلسي يهنيئ بانتصار بوش ، ويذكر شيئًا من فضائله !! : ( مبروك للرئيس جورج بوش هذا النجاح الساحق في الانتخابات الرئاسية. ومبروك للحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الكونجرس بمجلسيه: النواب والشيوخ.وهذه أول مرة في تاريخ أمريكا يحقق الحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الرئاسة وفي الكونجرس معاً.وهذا النجاح الساحق هو نجاح للسياسة الأمريكية الخارجية وخاصة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وأفغانستان ومحاربة الارهاب..إن الرئيس جورج بوش أعطى للعرب من الفرص والمبادرات والأفعال السياسية ما لم يعطه أي رئيس أمريكي سابق. فهو الذي أعلن تعهد بقيام دولة فلسطينية في عام 2005 وكان على العرب الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه لكي يحقق ما وعد به، شرط أن يكون السياسيون العرب على مستوى المسؤولية لمثل هذا الوعد. وهو الذي حرر افغانستان من حكم القرون الوسطى المتخلفة، وأقام نظاماً سياسياً فيها،كانت أبرز مظاهره الانتخابات الأفغانية الحرة لأول مرة في أكتوبر 2004. وهو الذي حرر العراق من طغيان واستبداد الديكتاتورية، ولم يكن العراق وحده بمستطيع ذلك ولو امتدت به السنون. وهو الذي يجهز العراق الآن لانتخابات حرة في مطلع 2005 . وهو الذي يحارب الارهاب حرباً لا هوادة فيها في الشرق الأوسط دفاعاً عن مصالح أمريكا، وعن مصالح دول الخليج كذلك. وهو الذي سيحاول في ولايته الثانية نزع أسلحة الدمار الشامل من إيران وكوريا الشمالية كما فعل في العراق وليبيا. وهذه كلها انجازات في الشرق الأوسط لم يفعل مثيلاً لها أي رئيس أمريكي سابق ) . ( خيبة العُربان والإرهابيين في الانتخابات الأمريكية) .
- في مقاله ( سجن "أبو غريب"أقامته الديكتاتورية وفضحته الديمقراطية ) يحاول الخائن تلميع جرائم أسياده في العراق ، مخادعًا الناس بأنهم ديمقراطيون إنسانيون حضاريون !! عندما عاقبوا بمن قام بتعذيب العراقيين في أبي غريب ! أنصح هذا الخائن ومن قد يغتر به بقراءة كتاب " أمريكا وحرب الإبادة " لمعرفة جرائم الكاوبوي الأمريكي في معظم دول العالم ، وكتاب " أمريكا التي تعلمنا العدل .. " للدكتور فهد العرابي .
- في مقاله ( الإجابة على سؤال: لماذا دولة "الرسول" و"الراشدين" لا تصلح لنا الآن؟! ) يشوه النابلسي المتأمرك الدولة الإسلامية ويُنفر المسلمين منها ؛ ثم يختم مقاله بقوله : ( فمن أراد منكم أيها القراء أن يعيش في مجتمع يُطبّق مثل هذه الأحكام، فليصوت للجماعات الإسلامية والأحزاب الإسلامية في أول انتخابات تجرى في بلده ) .
- في مقالته ( المحافظون الجدد والليبرالون الجدد بين الواقع ومهاترات الغوغاء ) يدافع عن الصهاينة الأمريكيين الذين ينفذون تعاليم اليهود ومخططاتهم .(3/71)
- وفي مقالته ( من هم الليبراليون العرب الجدد،وما هو خطابهم؟ ) أبان بوضوح عن حقيقة حاله في هذه الفترة ، وعن أهدافه ومن معه من حزب " الخونة " وإليك شيئًا منها : ( - المطالبة باصرار بالإصلاح التعليمي الديني الظلامي - تأكيد اخضاع المقدس والتراث والتشريع والقيم الأخلاقية للنقد العميق - اعتبار موقف الدين العدائي من الآخرين موقفاً جاء بناء على ظروف سياسية واجتماعية معينة قبل خمسة عشر قرناً، ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن - اعتبار الأحكام الشرعية أحكاماً وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاماً عابرة للتاريخ كما يدعي رجال الدين، ومثالها الأكبر حجاب المرأة، وميراث المرأة، وشهادة المرأة.. الخ - عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، - لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج، ولكن بالطرق الديبلوماسية، والمهم أن يأتي سواء أتى على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية - الايمان بالتطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء ) .. تكفيكم هذه لمعرفة مدى ما وصل إليه الرجل من مهانة وانسلاخ . - قبحه الله - .
أما الردود عليه من قبل الشرفاء الذين هالهم ماوصل إليه النابلسي من خسة ودناءة ؛ فهي كثيرة ؛ أنتقي منها هذه الروابط التي قد تجد بعضها لقوميين أو غيرهم ممن قد لانرتضي جميع أفكارهم ؛ لأن هدفي بيان أن الرجل قد تجاوز كل الحدود التي يقف عندها من لديه ذرة من حياء أو شرف :
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما "تحت" الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني
aahassan*fupm.edu.sa
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي لحدّها المعرفي، ولكنها عند التناول والاستعمال تشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق.فالليبرالية بشكل عام كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَينْ الاقتصادي والسياسي ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية، أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فمصطلح الحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً في الحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه.
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنيَّ الحداثة بجميع أشكالها يجده حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنى كثيراً الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري للليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات على تبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً، فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما اصطلح عليه فلسفياً ب"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخص فيه "الليبراليين العرب الجدد"، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية "أنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا (ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعني الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفرادها نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاق مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتع تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية".
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث(4).
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله المزعوم الحداثة الذي قُدسَّ في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب، أمثال: الفيلسوف الفرنسي (ليونار) في كتابه الشهير (الظرف ما بعد الحداثي) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني (هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) (وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيره.
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.
المانفستو الليبرالي(3/72)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني في الليبرالية والحداثة الغربية حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكا ً وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية، والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكرالنابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد. وما خطابهم؟" وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير التي جاءوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاءوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودةً أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة؟! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي، والتأكيد على إخضاع المقُدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التى جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره، والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضية أو الأساطير الظلامية؟!.
كما نصت المبادئ الأخرى (الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية؟!!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء، ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها، كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.
حصان طروادة
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية.
وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم : العفيف الأخضر، وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة على تفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذين يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي تروج له الإدارة الأمريكية في المنطقة والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الصهيوني من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن (إسرائيل) وحماية حدودها الإقليمية.
نتائج عكسية
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم إلى تحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويصلي المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها : "إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة".
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب بمفهوم المحافظين الجدد والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم.(3/73)
لم أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم دعاة الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً؟!.
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهي سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تتجرد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهما الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، إن بناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد. ولا أعتقد أن هذه المشاريع التي يريد الليبراليون الجدد تسويقها في المنطقة إلا ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات. ولو فكّروا بشكل جاداً في تقديم مشاريع إصلاحية للمجتمع بدلاً من توجيه التهم ونقد من في القبور والسعي فقط في استيراد مشاريع الاحتلال الغربي دون تقديم مشروع حقيقي ينهض بالمجتمع ويعالج مشكلاته ويقترب من همومه لتصبح هذه المشاريع ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات.
000000000000
شاكر وعلي في موقعهما المناسب
رشاد أبو شاور/روائي من فلسطين يقيم في الأردن
ترافق المتعوسان، والتقيا بخائبي الرجاء الوافدين من بلاد العرب وهم من النكرات.
شاكر هو شاكر ما غيرو، شاكر النابلسي نسبة إلى نابلس المدينة الفلسطينية الكنعانية العريقة ذات الأسماء المتعددة ومنها شكيم (الكتف)، ودمشق الصغيرة، جبل النار كون أهلها القدامى كانوا يشعلون النار على قمّتي جبلي عيبال وجرزيم عندما يدهم المنطقة خطر أعداء طامعين، فيعود المزارعون من حقولهم ويحملون سلاحهم ويشتبكون مع عدوهم.
شاكر هذا ليس من نابلس فهو حالياً يحمل الجنسية الأمريكية، ولا أدري إن كان قد تخلّى عن جنسيته الأردنية وما عاد ينتمي لمدينة السلط الأردنية العريقة المرتفعة على الجبال كشقيقتها نابلس.
عندما تواجهت معه في (الاتجاه المعاكس) الذي يديره الدكتور فيصل القاسم لم أكن أعرف أو أتوقع ما آل إليه تفكير وخيار شاكر، ذلك الذي ألّف كتاباً سميكاً عن الفنان ناجي العلي، وكتاباً في جزئين عن ظاهرة الشيخ إمام ونجم، مّما أوحى بأنه مع الظواهر الثورية المعادية للرجعية والإمبريالية الأمريكية والصهيونية.
لقد وصف شاكر الصهيونية في كتابه عن ناجي العلي - لم يأكله الذئب - بأنها وباء، يعني ساواها بالطاعون!
وإذ كشف أوراقه بع أن استقر به المقام في أمريكا، وبعد حصوله على الجنسية الأمريكية، فقد شنّ في حلقة (الاتجاه المعاكس) هجوماً بائساً ينسجم مع الخطاب الأمريكي للمحافظين الجدد، ممكيجاً أفكاره بطلاء (الليبرالية) مدعياً أنه شيخ (الليبراليين الجدد) - على وزن المحافظين الجدد - على المقاومة في فلسطين والعراق، وامتدح الاحتلال الأمريكي للعراق بحجّة إسقاط الدكتاتورية.
تطاول شاكر على كل من يؤمن بشعارات وحدة الأمّة، وتحرير ثرواتها، ومجابهة الاحتلال العنصري في فلسطين والعراق، ولم يوفّر الإسلام كدين خالطاً بينه وبين بعض الجماعات الإسلامية.
لقد نقل لي بعض الأصدقاء أن نفراً من عائلة (النابلسي) العريقة في الأردن يفكرون في إعلان براءتهم منه، هذه العائلة التي أنجبت سليمان النابلسي الشخصية الوطنية الكبيرة ورئيس الوزراء الأردني للحكومة الوطنية في العام 56، ولكنني رأيت أن وزر شاكر يرتد عليه وحده فلا يعيب عائلة عربية |أن يخرج بينها من يروّج للأمير كان واحتلالهم، أو حتى يتجسس على شعبه كما يحدث أحيانا في فلسطين (فلا تزر وازرة وزر أخرى).
لم أفاجأ وأنا أقرأ في موقعي "دنيا الوطن" و"إيلاف" عن مشاركة شاكر النابلسي في مؤتمر إعلامي بدعوة من مركز (حاييم هرتزوغ) لدراسات الشرق الأوسط والدبلوماسية، التابع لـ"جامعة بن غوريون" في (النقب)، والندوة مخصصة في "الإعلام الجديد في الشرق الأوسط" (الفضائيات والإنترنت).
شاكر من هناك، من مركز الجنرال - وهيرتزوغ جنرال كبير سابق في جيش الكيان الصهيوني، وهو المعلّق العسكري إبّان حرب أكتوبر 73 والذي اشتهر بعبارته النارية: سنطحن عظام المصريين والسوريين! - حمّل الفضائيات العربية مسؤولية الإرهاب في "الشرق الأوسط" كونها تعرض العمليات الانتحارية وتعتّم على عمليات الإعمار في العراق! (لا يسأل شاكر نفسه عمّن سبب الخراب، عمّن شنّ الحرب على العراق بحجج كشفت كلّها كأكاذيب ومبررات، عمّن كمم عيون الكاميرات وأفواه المراسلين، عمّن قتل الصحفيين اغتيالاً بدم بارد وهم يقومون بمزاولة واجبهم بشرف في ميادين المعارك).
لا تستحق آراء شاكر الرّد عليها، فهي مثله تماماً، تسخّر لخدمة الخطاب الاحتلالي الأمريكي، والاحتلالي العنصري في فلسطين.
شاكر في الموقع السياسي المناسب له، كتابع ومروّج لذلك الخطاب، وهو يوهم نفسه الأمّارة بالسوء أنه مفكّر، ولا يفر ق عن عزّام عزّام الذي ما أن أفرجت عنه السلطات المصرية حتى اتشح بالعلم الصهيوني وانكّب على يدي الجنرال شارون مقبّلاً يدي ولي نعمته!.
لا فرق، شاكر وعزام عزام، كلاهما في خدمة العدو الصهيوني والأمريكي!
الفضائيات العربية، بخّاصة "الجزيرة" بجبروت حضورها على المستوى العربي والعالمي هي التي أتاحت لشاكر أن يعرف، وأن يسوّق نفسه، وهي التي عاملته كصاحب رأي، ومعتنق فكر، وها هو حيث هو على حقيقته.
شريك شاكر في حضور ذلك المؤتمر هو علي سالم المسرحي المصري، والذي كان موهوباً وكبير الحضور ومحترماً في مصر والوطن العربي ولكن موهبته جفّت، فما كان منه إلاّ أن اندلق في حب "إسرائيل" والترويج "للشرق الأوسط الجديد" كما بشّر به (شمعون بيرس) وحش مجزرة (قانا)، وصاحب مشروع مفاعل (ديمونة) النووي. أنصح بقراءة كتاب سيمور هيرش (الخيار شمشون).
يشتم شاكر الفضائيات العربية هناك في الكيان الصهيوني، في جنوب فلسطين، في صحراء النقب، وهو على مقربة من قطاع غزّة، ودوي الطائرات التي تقلع صّابة الموت على أهلنا في (خان يونس) و(رفح) يعلو على صوت شاكر فلا يرتعش له جفن، ولا يخفق قلبه حزناً على الفلسطينيين، فهو منشغل جداً بالحصول على رضى ومباركة تلاميذ الجنرال (هيرتزوغ) والجنرال شارون، والإعلام الصهيوني الذي يصف العرب بأنهم دود لا يستحق الحياة!
أحسب أن فضائية محترمة كـ"الجزيرة" ستلام كثيراً لو قدمت هذا الشخص من جديد، فالفرق كبير بين صاحب فكر يطالب بالعدالة، وتناوب الحكم، وحرية الانتخاب والترشّح، وحقوق المرأة، ورفض تحوّل الجمهوريات إلى ملكيات، وضرورة أن تتحوّل الملكيات المتوارثة في بلاد العرب إلى ملكيات دستوريّة.(3/74)
من ينظّر للاحتلال ويشتغل مزوّراً، بل وأبعد من ذلك ليس صاحب رأي قطعاً، إنه (يخون) دور المثقف كتنويري، كداعية لتحرير للعقل، كمواطن مخلص لوطنه وأمّته و.. إنسانيته.
في مؤتمر الجنرال (هيرتزوغ) التقى المتعوس شاكر على خائب الرجاء علي الذي قطع أهلنا في مصر كل صلة به، أهملوه وأسقطوه من حسابهم، وهو نفس ما يستحقه شاكر (مع عدم كتابة كنية عائلته الكريمة، العربية الأصيلة، إنه شاكر ولكن لأسياده، وقديماً قالت العرب: قل لي من أصدقاؤك أقل لك من أنت، وشاكر اختار أصدقاءه وهو يصدقهم العداء للعرب وبخّاصة من يقاومن سطوة أمريكا والصهيونية).
0000000000000
الإيدز الاجتماعي" ...هو السبب! …
بقلم:سري سمور
(1)
يحلو للكثير منا أن يعزو كل ما يحدث في بلادنا العربية والإسلامية من فتن في الدين والدنيا إلى المؤامرات الخارجية؛ونعلل كل ما يجري من أحداث تراق فيها الدماء وتهدر في سياقها الكرامة وتنتهك الحرمات والأعراض وتضيع معها الثروات بوجود مخطط أجنبي ومشروع للشخصية الفلانية المسئولة في الدولة سين أو صاد أو... ،وأن ثمة نوايا مبيتة وأمور دبرت بليل كي ينال هؤلاء منا ويضعوا الشقاق في ما بيننا بشتى أشكاله السياسية والعرقية والمذهبية والإقليمية.
وقبل أن أتهم بأنني أقلل من حقيقة وجود الخطط الخبيثة والمؤامرات الشريرة ،والصراخ في وجهي بأن تفاصيلها أو عمومياتها نشرت علنا في الصحف المطبوعة والإلكترونية وتحدث عنها الخبراء والمطلعون عبر شاشات الفضائيات ،ولم ينف القائمون المفترضون عليها وجودها بل أكدوها تصريحا أو تلميحا،قبل هذه الرزمة الهجومية العاطفية،أقول بأنني لست بصدد نفي أو مناقشة تفاصيل الخطط وحيثيات المشاريع ،لأننا بتنا نحفظ ما يقال عن ظهر قلب،وأيضا لست بصدد وضع "مشاريع مضادة" هنا أو تقديم برامج تصدي ،ولكن الهدف من هذا المقال هو الحديث عن السبب الحقيقي والأهم لنجاح هذه المخططات والمشاريع بنسبة كبيرة ربما حتى أذهلت القائمين عليها على مدى سنوات طويلة،علما بأنه من الطبيعي والبديهي في عالم تحكمه المادة وتسيطر عليه القيم الاستهلاكية أن نجد مثل هذه الخطط والبرامج،وسأتناسى هنا الآراء التي تنفي وجود مثل هذه الخطط انطلاقا من رفض نظرية المؤامرة جملة وتفصيلا.
إني قد ترجّح عندي أن النجاح المذهل للمشاريع المضرة والمهددة لكياننا كعرب ومسلمين في الماضي ،والنجاح المتوقع بنسبة أكبر لمشاريع الحاضر والمستقبل؛يعود إلى أننا مصابون بـ"الإيدز الاجتماعي" ؛فإذا كان مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز أو السيدا) يصيب جسم الإنسان-لأسباب نعرفها- فيجعله فريسة سهلة للأمراض الفتاكة القاتلة ،فإن "الإيدز الاجتماعي" أصاب المجتمع بأسره بكافة مجاميعه السياسية والمذهبية والإقليمية وجعله عرضة لفتك الآخرين وحقل تجارب لبرامجهم ومخططاتهم المعلنة منها والمخفية ،وبوجود واستمرار وتفاقم فتك الإيدز الاجتماعي بنا فستنجح الخطط بمتوالية حسابية عاما بعد عام وجيلا بعد جيل ،وأبشر بطول فشل وإحباط يا مسلم ويا عربي!
قلت إن التآمر أمر طبيعي في عصرنا،وهو أيضا يدخل في باب الصراع ضمن سنة المدافعة منذ الأزل ،ولكن المؤامرات والنوايا المبطنة لم تكن تفلح فيما مضى وإن صدف ونجحت هنا أو هناك فبشكل محدود التأثير والوقت.
(2)
صخر بن حرب بن أمية ،أبو سفيان،رأس قريش في مكة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار ،توجه وقد بيّت أمرا بعد أن نقض حلفاؤه صلح الحديبية إلى المدينة المنورة ،وكانت المدينة مفتوحة له وترك له المجال للحديث مع من يشاء وبما يشاء ،فسحبت أم حبيبة بساط زوجها النبي من تحته،رغم أنها ابنته،ولم يكن تقبله بأفضل حالا مع علي وفاطمة وعمر وغيرهم ،لم يُمنع أبو سفيان من الحركة ولم يحدد له مع من يتفاوض ويتكلم ،لكن ذاك المجتمع كان برجاله ونسائه بمن فيهم أقرب الناس إليه موحدا متماسكا ثابتا،لماذا؟ببساطة لأنه مجتمع لم يصب بالإيدز الاجتماعي،وعليه فمهما كانت نوايا أعدائه ومهما رسموا من خطط وحاكوا من مؤامرات فإن "جهاز المناعة الاجتماعي" كفيل بحفظه بإذن الله سبحانه وتعالى الآمر بالأخذ بالأسباب والبناء والاستعداد وتحري العدل والصدق،وإلا كيف ستنجح هذه الثلة في يثرب المحاطة بالأعداء والمتآمرين وبمن لا يقبلون معتقدها الجديد في حال كان المجتمع اليثربي الجديد (مجتمع المدينة المنورة) مصابا بالإيدز الاجتماعي؟! هذا محال طبعا.
سيقول قائل:ذاك مجتمع كان فيه محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه،محفوظ وعين الله ترعاه،صحيح، ولكن الله سيحفظنا إذا اقتدينا بهم بقدر ما نستطيع ،نحن فقط نسمي أولادنا وبناتنا بأسمائهم ويحاول بعضنا محاكاتهم في لباسهم ومظهرهم دون ملامسة جوهر مجتمعهم السليم من داء الإيدز الاجتماعي،ولأن مجتمعهم سليم من هذا الوباء فقد تحققت العدالة الاجتماعية وغاب عنهم شبح الاستبداد وتبعاته الكريهة.
وحتى بعد هذا بسنين حين امتشقت السيوف ووقعت الفتنة،لم يكن التشخيص هو الإصابة بالإيدز الاجتماعي ،بل ربما تكون تلك حالة من الحمى الشديدة أصابت الأمة،فملك الروم خاطب معاوية بن أبي سفيان قائلا:" من ملك الروم الي معاوية :لقد غاضني خصام هذا الرجل لك (يقصد علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه)ومنافسته لك على الملك وبحق تجاور بلدي لبلدك. فقد كتبت إليك إعلانا عن استعدادي أن حارب معك وان أكون جنديا لك أنا وجميع جنود الروم كلهم تحت أمرك فأمر بنا بأمرك لكي نقاتل معك عدوك . والسلام" فرد معاوية على ملك الروم :" من معاوية إلى (...) الروم:لا يغرنك ما حدث بيني وبين ابن عمي ولن يجعلني الخلاف معه استعين بك عليه.فو الله لئن تحركت من مكانك لأسلمن هذا الأمر له ولأكونن جنديا عنده ثم نقاتلكم قتال عاد وثمود، قتالا لا طاقة لكم به فالحذر الحذر" ،ولو جرب ملك الروم الحديث مع علي بن أبي طالب لوجد ذات الجواب وأقسى وأشد:،أولئك أناس عافاهم الله مما أصبنا به بعد 14 قرنا وهو داء الإيدز الاجتماعي،فقد كان ما يعرف بلغة اليوم بـ "الأمن القومي" أو "المصلحة الوطنية العليا" كما رأينا فوق كل خلاف سياسي أو شخصي أو قبلي أو خلافه مهما بلغ من شدة و اقتتال.
سلامة السلف من الإيدز الاجتماعي جعلت مجموعة منهم تموت عطشا لأن كل فرد حريص على سد رمق أخيه قبل نفسه،وجعلت منهم سادة في الحرب والسلم والعلم والأدب،حملوا سيوفهم فانتصروا على أعدائهم ،وحملوا أقلامهم فأبدعوا وبهروا الدنيا بمعارفهم،جابوا البحار تجارا فاعتنق من خالطهم دينهم،ولأنهم بشر فقد اختلفوا وأحيانا اقتتلوا لكن لم يخطر ببالهم تهديد أمن أمتهم والتآمر مع الأغيار ،وتقبل كل ما هو من الخارج بلا تمحيص أو رفضه بغباوة وجهالة لمجرد الشك،ربما أصاب مجتمعهم الحمى أو شلل بعض الأطراف أو بعض السرطانات المحدودة هنا وهناك ولكن الإيدز الاجتماعي ظل بعيدا عنهم!
لكننا اليوم نتشدق بالأمن القومي والمصالح العليا والمصير المشترك وعوامل الوحدة الأكثر من عوامل الفرقة ،ثم تجدنا في تناقض رهيب نقتل وبلا رحمة كل هذه المعاني وبلا تردد،أيا كان من يتآمر أو يخطط أو يحمل مشاريعا أو له أطماع فإنه سيلاقي عندنا من يرحب به ويتعاون معه ويساعده بل يكون متحمسا أكثر منه،وقد يحدث صراع بيننا أينا يكسب وده وثقته...أليس هذا من أعراض الإيدز الاجتماعي؟!!
(3)(3/75)
إسرائيل تعتبر أمنها في سلم أولوياتها وصلب اهتماماتها ،ولا تخطو أي خطوة تشك ولو لحظة أنها قد تضر بأمنها يوما ما،وحين أذكر إسرائيل تحديدا فلأننا نتفق أنها فسيفساء اجتماعي،ولكن هذا الفسيفساء بيمينه ويساره ووسطه يتوحد ويتفق ضد كل من يمس بأمنه،أما الولايات المتحدة فهي بتشكيلتها الفسيفسائية المعروفة دائما ما تفرز ساسة وخبراء يسعون للحفاظ على تفوق كيانهم وإبقائه على رأس الأمم في الأرض،ثم نأتي ونتشدق بأن مجتمعاتنا ليست فسيفساء بل هي "قطعة واحدة" ،وننسى أن هذه القطعة يفتك بها الإيدز الاجتماعي وليته حولها لفسيفساء متناسقة بل تشظت وتبعثرت وتحولت إلى صورة شوهاء قبيحة!
(4)
السؤال الجاهز الآن هو كيف نشفى أو "نخترع" لقاحا مضادا للإيدز الاجتماعي؟من وجهة نظري ليس هذا المهم الآن ولكن المهم أن نقتنع أننا فعلا مصابون بهذا الداء ،بشجاعة وبلا محاولة للتبرم والهروب بتوجيه اللوم للآخرين فقط ،ثم –وهذا أهم- أن نجمِع على أن هذا الداء هو سبب نجاح أي مشروع أو خطة تستهدفنا وبنسبة كبيرة،وبأنه ما لم نبرأ منه فلا نلومن إلا أنفسنا وسنكون عرضة لأنواع أخرى من الإيدز مثل الإيدز السياسي والتربوي العلمي والثقافي والاقتصادي... ،وفي حال برأ مجتمعنا منه فكل خطط وبرامج ومشاريع ومؤامرات دهاة ودهاقنة السياسة والمال في العالم لن يكتب لها النجاح بالمفهوم الاستراتيجي،اللهم إلا برهة من الزمن على نطاق ضيق من الجغرافيا...فهل هذه القناعة متوفرة وهل ذاك الإجماع ممكن؟!
،،،،،،،،،،،،،،،
سري سمور
جنين-فلسطين
جمادى الأولى 1428هـ،حزيران 2007م
SARI_SAMMOUR@YAHOO.COM
00000000000
حتى لا يخرب الدفاع الاعمى عن سياسات بوش وروح الليبرالية
د. ثائر كريم
يلوث روح الليبرالية ويخربها كل من يدعي تبنيها ويدافع بنفس الوقت عن سياسات جورج بوش الابن ورؤيته للمنطقة والعالم. اجد هذا التلويث بارزاً في مقالات اللبراليين الجدد، مثل د. شاكر النابلسي.
فكيف تتواءم الليبرالية (العلمانية في صلبها) مع منطق سياسي يستند في جوهره وتطبيقاته (كما يعلن جورج بوش الابن ويبين بلا مواربة) على تصورات اصولية دينية بحتة؟ تصورات مسيحية بأفكار يهودية سلفية. هنا تكمن واحدة من المثالب الكبرى لهذه الادارة الامريكية: تطرح رؤيتها للعالم والمنطقة وسياساتها لمواجهة الاصولية والارهاب والعنف انطلاقاً من اصولية تتبنى العنف وسيلة حاسمة للتغيير.
بعد 11 ايلول بدأ بوش مسيرته " الاخلاقية" بالإفصاح عن شعار استعلائي معاد لروح الديمقراطية مفاده من ليس معنا هو ضدنا وراحت هذه الادارة الامريكية تطالب الجميع بالمساعدة غير المشروطة في حربها ضد الارهاب. وعلى الكل ان يصطف مع الادارة ومنهجها لكيفية محاربة الارهاب. وهو منهج عادة ما يبدأ بالوعيد والتهديد وينتهي بالحرب. هي رؤية لا ترى غالباً الا الحرب اسلوباً على الارهاب. الحرب والعنف هما الوسيلة وخصوصاً ضد العرب والمسلمين جرياً على زعم همجي، مغلوط بجوهره ان العرب والمسلمين لا يعرفون الا لغة العنف.
أية مجموعة بشرية تقبل في صلب اخلاقها ان يتعامل الاخرون معها بهكذا منطق؟ وهل يمكن للعنف حقاً ان ينهي ارهاباً تمتد جذوره عميقاً في اللاعدل والفقر والتهميش والحاجة؟ وهل تتواءم اللبرالية مع المراقبة الدقيقة التي تقوم بها المؤسسات الامنية الامريكية لانواع الكتب (غير المستحسنة) التي يقرؤها الناس؟ وما يستعيرون من كتب من المكتبات؟ وهل تتواءم مع اقامة معسكرات اعتقال ضخمة لا يعرف من ينقل اليها كيف ومتى وبأية طريقة سيحاكم؟
في الوقت الذي تغدق فيه الادارة الامريكية مئات الملايين بل مئات المليارات من الدولارات على هذه الحروب يبقى الانسان فقيراً. الانسان العربي والمسلم وحتى الامريكي نفسه ففي زمن بوش زاد الاغنياء من غناهم وانحدر الفقراء في هاوية اعمق من الفقر والحاجة. ويعيش ملايين الامريكيين بعيداً عن متطلبات الحياة الكريمة وصارت الولايات المتحدة الان ابعد عن ان تكون مثلاً عالياً يتطلع اليه الناس الحالمون ببناء مجتمعات انسانية والعاملون على تحقيق ذلك. لعل البلدان الاسكندنافية كالنرويج هي اقرب ما يكون من هذا المثال مرات كثيرة مما تفعل الولايات المتحدة.
لم يأل خيرة الكتاب والمثقفين والفنانين الأمريكيين في تبيان ان زمن النقد البناء والحوار الاجتماعي والسياسي المفصل حتى الملل المعروف في الولايات المتحدة الان مهدداً بكل معنى الكلمة فالنقد ضد الادارة وسياساتها سرعان ما يفسره المنافحون عنها الى اصطفاف مع الارهاب.
هذا النفاح هو الارهاب الفكري بذاته وهو يذكر بالدفاع الاعمى عن الاتحاد السوفياتي ( الاصطفاف مع السوفيات هو معيار الوطنية)و (من لا يقف في معسكر الاتحاد السوفياتي فهو امبريالي وليس وطنياً) الا يذكر هذا الارهاب ايضاً بالسيف الاسرائيلي القبيح (من ينتقد دولة اسرائيل وسياسااتها العنصرية ومن يعارض احتلالاتها الاستيطانية فهو معاد للسامية والدين اليهودي).
تتناقض سياسات بوش في جوهرها مع حق ابداء الرأي وتوسيع الحوار. الحق الذي لا تقم للديمقراطية قيامة بدونه. اريد من كل قلبي ان ارى ان امريكا تريد الديمقراطية للعراق ولكل المنطقة لكنني اعرف بكل جوارحي ان هذه الديمقراطية لا يخلقها الا ابناء البلد بأنفسهم وليكن بمساعدة الاخرين ومن بينهم الامريكان واهلاً وسهلاً بالجميع للمساعدة في هذا المضمار ولكن وفقاً لقواعد واصول وكيلاً بمكيال واحد، وانطلاقاً من مبادئ واضحة صريحة تشمل الجميع.
اتمنى ان تسهم الادارة الامريكية ببناء الديمقراطية في العراق لكنني ارى في الواقع شيئاً آخر ارى ان الامريكان لا يزالون يتخبطون خلصوا البلاد من ابشع استبداد عرفته في جل تاريخها لكنهم ادخلوها في فوضى طاحنة عرفوا كيف يزيلون طاغية لكنهم في عجلتهم لم يفكروا بعواقب فترة ما بعد الاستبداد ولم يكل ممثلوها في القول انهم اعرف من الآخرين بطريقة ترتيب البيت وكيفية العيش.
تريد هذه الادارة الامريكية الديمقراطية للعراق لكنها زادت من معاداة الايرانيين والسوريين والكثير من الخليجيين لنا في وقت نحن بأمس الحاجة فيه للاستقرار السياسي. تريد الادارة الامريكية الديمقراطية للعراق مدخلاً لتغيير خارطة المنطقة لمصلحة المساواة السياسية والعدل. ولكنها ذاتها لا تعدل في القضية الفلسطينية لننتقد بكل قسوة كل القادة الفلسطينيين لنزد من نقدنا مرة واخرى اليوم وغداً لنطالب بالإصلاح والتغيير. لكن القضية الفلسطينية تبقى قضية عادلة قضية شعب يعاني الملايين منه قسوة ما بعدها قسوة، من معاناة إنسانية تدمي القلب صورة معاناة ليست على البال والخاطر. فكيف تريد هذه الادراة بناء مجتمع عادل في العراق وهي لا تعدل في قضية عادلة؟(3/76)
لا نريد طابوراً خامساً في بلادنا حتى وان سمى نفسه ليبرالياً، نريد، على العكس تماماً ليراليين يوجهون بشجاعة نور الحرية في زوايا منطقتنا المظلمة، ليبراليين يحبون امريكا حين تكون سياساتها عادلة وغاياتها خيرة، امريكا المحبة للعلم والبحث والتقدم ، امريكا المساهمة في تعزيز الامم المتحدة والانخراط بها سلمياً وسواسية مع الآخرين امريكا الساعية بكل جد مع المخلصين في الامم المتحدة الى اعتبار حقوق الانسان هدفاً سياسياً ثابتاً يجب على كل الدول احترامه امريكا العاملة ، سليماً، على الوصول الى عالم خال من اسلحة الدمار الشامل ، ثمة الملايين من يمثل هذه الامريكا الجميلة. لا اعتقد ان بوش واغلب طاقمه ورؤياه وسياساته هم من يمثلون هذا الوجه الانساني لأمريكا.
لا تفعل تبريكات الليبراليين
غير الوطنيين في اعادة انتخاب بوش ودفاعهم الاعمى عن سياسات بوش المعادية للديمقراطية الا في تشويه روح الليبرالية العلمانية. هو دفاع لا ارى أي معنى له ابداً. دفاع ياتي في وقت نحن بأمس الحاجة فيه الى توسيع الهجوم الليبرالي الوطني على اعداء الحرية وحقوق الانسان.
فيما يتعلق بي شخصياً، كنت واحداً من اوائل الكتاب الذي يدعون لمعرفة عوامل تخلفنا قبل ان نلقي اللوم على الآخرين ومن بينهم الامريكان وكنت و (لا ازال) واحداً من اشد المدافعين عن اقامة علاقة سليمة وراقية مع الولايات المتحدة و لكنني ايضاً اريد هذه العلاقة مبنية على احترام متبادل واستقلال انساني، علاقة تعترف بي انساناً مستقلاً كامل الحق في معرفة مستقبلي ما يهمني وما يضرني ليست علاقة مبنية على الاستعلاء والاكراه على قاعدة انني - اعرف بمصلحة نفسك اكثر من نفسك-.
ايها الليبراليون الجدد، نريدكم معنا ليبراليين علمانيين ووطنيين نكافح بروح العدل والمساواة ضد اعداء الحرية وحقوق الانسان اينما كانوا وليس بوقاً لاحد.
نظرية في فوز بوش بالانتخابات الرئاسية
علاء خالد غزالة
في يوم الانتخابات الامريكية، الثلاثاء 2 تشرين الثاني، نشرت في احد المواقع الالكترونية على الانترنت مقالا تنبأت به بفوز الرئيس الحالي جورج دبليو بوش في تلك الانتخابات، وبنت هذا الاستنتاج على حقيقة ظهور اسامة بن لادن في شريط مصور موجها كلمته الى الشعب الامريكي.
ولا ادعي انني الوحيد الذي تكهن بنتيجة الانتخابات استنادا الى هذا الحدث بالذات، فقد نشرت في مواقع عديدة، وفي بعض الصحف المطبوعة، تكهنات مماثلة في النتيجة، وان كانت مختلفة في طريقة التناول. فقد عزا الكثير من الباحثين ظهور ابن لادن في هذا الوقت إلى تخطيط مسبق مع القيادة الامريكية لمساعدة الرئيس بوش على اعادة صور احداث ايلول وبطلها ابن لادن الى الواجهة. وطالما كانت رهان بوش الاول والاخير يقوم على حربه على ما يسمى بالارهاب، الذي يفترض ان يكون ابن لادن زعيمه المطلق، فان مثل هذا الشريط كفيل باحداث اكبر الاثر على الناخبين باتجاه التصويت لبوش.
والواقع انني لا املك دليلا حسيا يفند هذه النظرية. ولا اعتقد ان احدا يستطيع ذلك بأي حال. ذلك ان التآمر يقوم اساسا على تحقيق غاية ما باستخدام اساليب ووسائل قد لا تكون سليمة او حتى معقولة. فبالامكان دائما رد أية نتيجة او حدث الى تخطيط تآمري مسبق. ونادرا ما استطعت ان اثبت لمن يجادل باستخدام مثل هذه النظريات ان نظرية المؤامرة ليست صالحة دائما لتفسير المعطيات والحوادث. الا انني اتفق انها، على تعقيدها في بعض الاحيان، تساعد معتنقها على الوصول الى راحة نفسية من جهة معرفة الاسباب في الاقل.
ولكنني لا اجد مبررا كافيا للاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الاحداث التي يمكن تفسيرها بشكل اكثر سلاسة بالطرق الطبيعية. واشير هنا الى نظرية علمية تقول ان أي تفسير (علمي) لحدث ما يجب ان يكون (سهلا)، واذا كانت هناك نظريتان لتفسير حدث واحد، فالاصح منهما هي (الاسهل)، أي التي تعتمد طرقا بسيطة وغير معقدة في التفسير. فاذا قلت لصاحبي الذي ينتظرني في الطابق الارضي من بناية ما انني (سأنزل) اليه، فربما سينتظرني عند السلم، رغم ان هناك وسائل اخرى (للنزول)، منها التدلي بالحبال مثلا.
وبالعودة الى موضوعة فوز بوش بناء على شريط ابن لادن، فان التفسير البسيط الذي اعتمدته ان ابن لادن رغب فعلا في ازاحة بوش عن السلطة، وان الرسالة وصلت الى الناخب الامريكي على هذا النحو، وبالتالي دفعت بعض المترددين الى التصويت لصالح بوش، واستدللت بتغير اسلوب اسامة بن لادن في الخطاب الحماسي الثوري. ولو كان بوش هو من طلب من ابن لادن فعل ذلك، لطلب منه ان يظهر كما عهده الشعب الامريكي، مهددا متوعدا مزمجرا، لا هادئا ساكنا بل وديعا ايضا.
كما ان مروجي نظرية المؤامرة لا يقولون لنا لماذا يعرفون هم تلك (الحقائق) التي يدعون معرفتها على وجه اليقين، ولا يعرف غيرهم بها، خصوصا أولئك الذين تمسهم بشكل مباشر (الأميركيين في هذه الحال)، اذ لماذا لا يتهم احد الرئيس الامريكي انه يقيم علاقات مع الارهابيين وانه يستخدمهم في حملته الانتخابية؟ اليس اثبات مثل هذا الاتهام كفيلاً بإسقاط ترشيحه؟ بلى، لو استطاع معارضو الرئيس الامريكي، او مؤيدو خصومه اثبات هذه النظرية، ولو من جهة كونها نظرية صالحة للبحث، لما ترددوا في ذلك ابدا.
ان الفشل في تفسير الاحداث على المدى القريب، واساليب الدعاية الموروثة عن الحرب الباردة، والتعتيم وعدم الشفافية الذي تتميز به الانظمة العربية، واستخدام كل وسيلة ممكنة لابعاد تفكير المواطن العربي عن واقعه غير السار، هي باعتقادي مسببات رئيسة لاعتناق نظرية ترجح عملاً تآمرياً، بدل استكناه الحدث وتحليله منطقيا للوصول الى مسببات حقيقية للاحداث. وطالما وجد من يؤمن بتلك النظريات فلن يكون ممكنا البحث في الواقع العربي بشكل عام.. فالنتيجة التي يصل اليها اولئك (المحللون) هي ان هذا شيء مخطط له، وان ما سيأتي بعده مخطط له ايضا، وهكذا دواليك.. ولسنا الا أحجارا في رقعة الشطرنج الكبيرة التي يلعب بها الكبار.
فهل هناك واقع اكثر بؤسا من تصور حال الشعوب لا حول لها ولا قوة؟ ومن يستفيد من غسل الادمغة هذا؟
خيبتنا بالانتخابات الامريكية
د. شاكر النابلسي
-1-
لا يوجد لوبي عربي فعال ومؤثر وضاغط في أمريكا. الموجود الآن في أمريكا تجمعات عربية لا رابط بينها، ولا قوة لها. والمرشح الأمريكي لا يهتم كثيراً بالأصوات العربية في امريكا لا احتقاراً لهذه الأصوات ولكن لأن الماكينة الانتخابية الأمريكية الهائلة والدقيقة لا تُدخل العرب الأمريكيين (حوالي 6 ملايين) في حساباتها، وذلك للاعتبارات التالية:
1- العرب الأمريكيون يكرهون العمل السياسي عامة، ويبتعدون عنه. وما زالوا يرددون ما سمعوه من الآباء والأجداد في أوطانهم الأصلية من أن (السياسة نجاسة) وأن (السياسة وجع رأس) وانها (شباك الريح الذي على المرء أن يسدّه ويستريح). لذا نرى أن العرب في أمريكا من أقل الفئات عملاً ونشاطاً سياسياً. ومن هنا، فإن العرب الأمريكيين لا يشاركون حتى في الانتخابات البلدية على مستوى الولاية التي يقطنون فيها.(3/77)
2- العرب الأمريكيون قادمون من بلدان لم تمارس الانتخابات الديمقراطية. لذا، فهؤلاء لا تربية ديمقراطية سياسية لديهم. وهو منصرفون عن الانتخابات وعن اللعبة الديمقراطية لاعتقادهم - كما كانت في بلادهم الأصلية - لعب بلعب وكذب بكذب وتزوير بتزوير. والعرب الأمريكيون في نشاطهم السياسي – إن وُجد – في أمريكا يطبّقون نفس المناهج السياسية العربية السائدة في الأحزاب العربية المتهافتة، والتي أثبتت فشلها في تحقيق أي مطلب شعبي طوال خمسين عاماً من رحيل الاستعمار، وبدء مرحلة الاستقلال.
3- اللوبي العربي – إن وُجد – من أكثر اللوبيات العربية تدنياً في المستوى الثقافي والوعي السياسي. فهو لا يحتفظ بأي ارشيف أو معلومات أو دراسات عن الانتخابات الأمريكية، ولا عن المرشحين للرئاسة. وعلاقاته مع الماكينة الانتخابية الأمريكية علاقة تكاد تكون واهية جداً ، أو مفقودة في معظم الأحيان، فيما لو علمنا أن أكثر من خمسين بالمائة من العرب الأمريكيين هم من العاملين في أعمال بسيطة ومتدنية الأجر كمحطات الوقود والمطاعم والفنادق والمتاجر وغيرها.
4- اللوبي العربي، لوبي فقير جداً قياساً للوبي الصهيوني الغني جداً ، والذي يعتبر من أكثر اللوبيات الأمريكية غنى وتأثيراً في الانتخابات الأمريكية. وليس للوبي العربي أية مساهمات مالية تذكر في الحملة الانتخابية الحالية، أو في الحملات السابقة، اللهم ما عدا ما يأتي من الأنظمة العربية المؤيدة لهذا المرشح أو ذاك. وهذا عسير الوصول في معظم الأحيان لدقة تتبع مصادر التمويل للانتخابات الأمريكية، ومنع أية تبرعات تأتي من الخارج، وخلوها من أية مخالفة قانونية ما أمكن ذلك.
5- واللوبي العربي بوضعه التعيس والضعيف الحالي وبوضع العالم العربي التعيس والمشتت يريد من المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية أن يفعلوا المعجزات في الشرق الأوسط لشعوب شرق أوسطية لا تؤمن إلا بالمعجزات. وقد لا يكون بمقدور السياسيين الأمريكيين أن يقوموا بمعجزة إلا عن طريق قيام انقلاب عسكري أمريكي داخل أمريكا يقفز فيه الجنرالات إلى الحكم، ويحكمون اللوبي الصهيوني المسيطر بالحديد والنار، عائدين بعجلة التاريخ إلى عهد هتلر والرايخ الثالث، وربما كما قال بابكر مكي المحلل السياسي في 1986 سوف تستمر الإدارات الأمريكية في عدائها للعرب إلى أن تحكمها الديكتاتورية العسكرية. وهذا الانتظار لمعجزة أسطورية كهذه معناه أن يضمر العرب غضبهم على واشنطن وغبنهم من واشنطن حتى يوم القيامة، فيدخل الأمريكيون النار وندخل نحن الجنة. وقبل أن يحين موعد القيامة فإن العرب مطالبون بمحاسبة النفس على ما فعلت من عجب عُجاب يبدأ برفض ما يُقدم لهم من عروض سياسية منذ نصف قرن، وتفويت فرص سياسية ثمينة كان آخرها ما عُرض على عرفات في كامب ديفيد 1999، وينتهي بمطالبة أمريكا بأن تعطيهم ما لا يملكون، وما لا يستطيعون تحقيقه لأنفسهم بأنفسهم.
6- اهتمام المرشح الرئاسي الأمريكي باللوبي العربي – إن وُجد – وزيارة مواقع القرار العربي – إن وُجدت – كالجمعيات والنقابات والمدارس والمراكز الدينية وغير ذلك، يعني حرمان المرشح الرئاسي من صوت اليهود المؤثر والقوي، وكذلك حرمان المرشح من أموال اللوبي الصهيوني الكريم مع المرشح الكريم مع مصالح هذا اللوبي. والمرشح الرئاسي لا يريد أن يفقد أصوات هذا اللوبي لا سيما أن اللوبي الصهيوني تقليدياً يصوّت دائماً للديمقراطيين لأسباب مختلفة منها أن هاري ترومان الرئيس الديمقراطي (1945-1953) كان هو الذي اعترف بدولة اسرائيل بعد اعلانها بدقائق في 1948 ، ودعمها دعماً كبيراً.
-2-
من جهل معظم العرب وخاصة العرب الأمريكيين بآليات الإدارات الأمريكية وعدم قراءتهم المتمعنة للتاريخ الأمريكي يظنون بأن ذهاب رئيس وتولي رئيس جديد سوف يُشكِّل فارقاً كبيراً في السياسة الأمريكية الخارجية. ربما يكون هذا في دولة "الزعماء الضرورة"، وفي دولة القادة المُلهَمين، آباء الشعوب وملهميهم. ولكن لا أثر كبيراً للرئيس في دولة المؤسسات الديمقراطية التي تحكمها هذه المؤسسات، ولا يحكمها الأفراد. فأمريكا كباقي دول العالم الديمقراطية تسير فيها الدولة، وكأنها طائرة بلا طيار. وعندما اختفى بعض الرؤساء الأمريكيين فجأة عن طريق الاغتيال كأبراهام لينكولن في عام 1856 وكجون كيندي في عام 1963، لم يتغير شيء في السياسة الخارجية الأمريكية، ولم تهتز امريكا سياسياً كما اهتزت وتغيرت السياسة العربية الداخلية والخارجية مثلاً عندما غاب زعيم كعبد الناصر عن مصر، وحافظ الأسد عن سوريا. والسياسة الأمريكية نحو مشاكل الشرق الأوسط وخاصة ما يتعلق بفلسطين والعراق، والموقف من دول الخليج التي يعوّل العرب المصممون على انتخاب جون كيري على تغييرها وتعديلها ليست مرتبطة بشخصية الرئيس وطريقة تفكيره بقدر ما هي مرتبطة باستراتيجية أمريكية، تنظر أولاً أين مصلحتها في الشرق الأوسط وتتبع هذه المصلحة بغض النظر عن مصالح الآخرين. وهذا ما لم يفهمه العرب وما لم يجتهدوا فيه لكي تلتقي مصالحهم مع المصالح الأمريكية ولكي تتحقق مصالحهم، وهو ما قامت به اسرائيل بذكاء كبير، وحصافة سياسية.
-3-
لماذا كان على العرب الأمريكيين وغير الأمريكيين تأييد الرئيس بوش وليس كيري في هذه الانتخابات؟
إن العقل السياسي السليم يقول لنا:
1- أن التاريخ الأمريكي يخبرنا بأن عدد الرؤساء الأمريكيين (1789-2000) بلغ 42 رئيساً، وأن الذين أُعيد انتخابهم من الرؤساء الأمريكيين كان 24 رئيساً منهم 13 رئيساً جمهورياً و 4 رؤساء ديمقراطيين فقط، والبقية كانوا فيدراليين كجورج واشنطن (1789-1797) وجون آدمز (1797-1801) وجمهوريين ديمقراطيين كتوماس جيفرسون (1801-1809) وجيمس ماديسون (1809-1817) وجيمس مونرو (1817-1825). ومن هنا نرى أن حظ الجمهوريين في ولاية ثانية كان أكبر بكثير من حظ الديمقراطيين في تاريخ الانتخابات الأمريكية.
2- إن الرئيس الأمريكي في ولايته الأولى لا يفعل الشيء الكثير خاصة بالنسبة للسياسة الخارجية البالغة التعقيد والكثيرة المشاكل. وقد لاحظنا أن الرؤساء الذين أُعيد انتخابهم هم الذين كانوا فاعلين وفعّالين في السياسة الأمريكية الخارجية كأيزنهاور (1953-1961) ونيكسون (1969-1974) وكلينتون (1992-2000). ففي الولاية الأولى يقضي الرئيس السنة الأولى للتعرف على المفاتيح والطرق والأفكار والرجال من صانعي القرار الدولي. وفي السنة الثانية والثالثة يصرف جُلَّ اهتمامه إلى الشؤون الداخلية والقليل القليل إلى الشؤون الخارجية. وفي السنة الرابعة يُركّز الرئيس كل جهوده على الانتخابات للفوز بولاية ثانية. وفي الولاية الثانية، يلتفت إلى الشؤون الخارجية والقضايا المعلقة ويكون أكثر عدلاً وانصافاً وهدوءاً مما كان عليه في الولاية الأولى، حيث لا يخشى من تأثير اللوبيات عليه.(3/78)
3- أن الرئيس جورج بوش أعطى للعرب من الفرص والمبادرات والأفعال السياسية ما لم يعطه أي رئيس امريكي سابق. فهو الذي أعلن تعهداً بقيام دولة فلسطينية في عام 2005 وكان على العرب الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه لكي يحقق ما وعد به، شرط أن يكون السياسيون العرب على مستوى المسؤولية لمثل هذا الوعد. وهو الذي حرر افغانستان من حكم القرون الوسطى المتخلفة، وأقام نظاماً سياسياً فيها،كانت أبرز مظاهره الانتخابات الأفغانية الحرة لأول مرة في أكتوبر 2004. وهو الذي يجهز العراق الآن لانتخابات حرة في مطلع 2005 . وهو الذي يحارب الارهاب حرباً لا هوادة فيها في الشرق الأوسط دفاعاً عن مصالح أمريكا، وعن مصالح دول الخليج كذلك. وهو الذي سيحاول في ولايته الثانية نزع أسلحة الدمار الشامل من إيران وكوريا الشمالية كما فعل في العراق وليبيا. وهذه كلها انجازات في الشرق الأوسط لم يفعل مثيلاً لها أي رئيس أمريكي سابق.
ولو كان العرب الأمريكيون منصفين وعقلاء لا يتبعون الغوغاء الأمريكية التي تكره بوش لشخصه، لكونه من أبناء الدماء الزرق، وابن عائلة غنية ارستقراطية، وابن رئيس جمهورية سابق، وشقيق حاكم ولاية كبيرة كفلوريدا، وخطيب عيي لا يُجيد الكلام، ومحافظ في الدين والأخلاق والسلوك... لو كان العرب الأمريكيون منصفين لانتخبوا بوش لا كيرى، لأن التاريخ الأمريكي يقول أن الديمقراطيين منذ عهد ايزنهاور إلى الآن، لم يقدموا للعرب ربع ما قدمه الرؤساء الجمهوريون، وعلى رأسهم جورج بوش الأب والأبن، رغم أنني لست جمهورياً ولا ديمقراطياً .
0000000000000
الانتخابات العراقية !!!
بين السطو الهمجي - والسطو المنظم
عبد الحميد حاج خضر*
I
بقي حوالي 100 يوماً تقريباً على موعد الانتخابات العراقية المزمع عقدها في نهاية شهر يناير ( كانون الثاني ) من مطلع العام القادم . يبلغ عدد سكان العراق حوالى 25,4 مليون نسمة ، وحسب القواعد المتبعة في الإحصاء يبلغ عدد من يحق لهم الانتخاب ممن بلغ 18 من العمر حوالي 15 مليون ناخب ، وحسب القواعد المرعية عالمياً يجب أن لا يزيد عدد أعضاء المجلس النيابي ( المجلس الوطني ) على أكثر من 255 عضواً ، أي بعدل 100 ألف نسمة لكل عضو . إلا أن عدد النواب المقرر انتخابهم في " المجلس الوطني " هو 275 عضواً ، وهذا العدد من النواب يقوم على افتراض ، غير موثق ، يجعل عدد سكان العراق حوالي 27,5 مليون نسمة ، وهذا ما يدعوا المراقب الحيادي للتشكك في نوايا القائمين على الانتخابات بدأً من هذا التلفيق المتعمد . الانتخابات المزمع إقامتها تجعل من كافة التراب الوطني منطقة انتخابية واحدة ، والغاية من هذا الإجراء هو فرض نسبة التمثيل المطلوبة للمكونات العرقية والدينية والطائفية والجهوية دون بينة إحصائية دقيقة . لا يوجد سلطان علي من يوزع الحصص إلا مروءاتهم ونزاهتهم ، وهذا غير مقبول قانونياً وعقلياً ، ويحق لكل مواطن عراقي أن يطعن بمطابقتها للواقع ويتسأل : هل من جاء بحماية حراب المحتل وعاش على جعالة منه يملك الحد الأدنى من المرؤءة والكرامة والقيم التي تخوله التصرف في هذا الشأن الجلل . الأمريكان ؛ وانطلاقاً من تقاليدهم في تنظيم الانتخابات سواً في بلادهم أو في البلاد التي وقعت تحت سلطانهم لا يقيمون وزناً لإراة الناخب إلا إذا انسجمت مع ما يريدون ، ونستطيع أن نقدم عشرات الأدلة على ما ذهبنا إليه ، من أمريكا نفسها ومن البلاد التي احتلتها ، بدأً من ألمانيا وانهاء بأفغانستان . الانتخابات بالنسبة لليانكي Yanqui ، ( اللقب الذي يطلقه سكان أمريكا الوسطى والجنوبية على رعايا الولايات المتحدة الأمريكية حنقاً واحتقاراً ، وأفضل تعريب لهذا اللقب المقيت هو المتطففون : الذين إذا اكتالو على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) ، عباره عن لعبه Game) ( الفائز فيها معروف سلفاً . ولولا الخوف من الإطالة والتشعيب ، الذي قد يخرجنا عن إطار البحث ، لقدمنا من تاريخ ألمانيا السياسي الحديث ، أي خلال وبعد الحرب الثانية ، قرائن ودلائل تثبت ، بما لا يدعوا إلى الشك ، إن الحلفاء وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، لم يكن لديهم أي رغبة في إقامة نظام ديمقراطي يمثل إرادة الأمة الألمانية أو الحفاظ على وحدة ترابها الوطني ، الذي رسمته معاهدة فرساي نفسها . مساحة ألمانيا الموحد اليوم هي في أحسن الحالات تمثل فقط 75% من مساحة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وحتى اندلاع الحرب الثانية ( قارن خارطة ألمانيا بعد معاهدة فرساي مع خارطة ألمانيا بعد الوحدة الألمانية عام 1989 - 1990 ) . التمنطق والتشدق من قبل حزب الولايات المتحدة الأمريكية في عراق اليوم ، بالتجربة الألمانية ، وفضل الولايات المتحدة في إقامة دولة ديمقراطية مزدهرة اقتصادياً ، على أنقاض نظام ديكتاتوري وعنصري ، جهل مطبق وسوفسطائية مقيتة . وللتدليل على حسن نوايا الويلايات المتحدة . يدعي الدكتور شاكر النابلسي إن ما قامت به أمريكا ليس احتلالاً Occupation أو استعمار Colonization وإنما هو إحلال Supplantation أو Supplantism ، كما يتفيقه علينا الدكتور شاكر النابلسي ، ولعله يظن أنه وحيد عصره في اللسانيات وفقه اللغة . إن كلمة Supplantism التي عربها إلى إحلال ليلطف من كلمة استعمار الكريهة هي في مدلولها اللغوي والسياسي أفضع من كلمة استعمار وتعني : الاحتلال بالخديعة والمكر لتحقيق غرض لئيم وخبيث ، ولهذا فهو أصاب عندما استعمل كلمة Supplantism وخاصة منهية بالمقطع ism الذي يؤدلج المعنى الأصلي الحيادي للكلمة ، وهو من قبيل ما يستعمله " اللبراليون الجدد " عنما يطلقون كلمة " قومجي " ، عذراً لا أعرف آلية الاشتقاق التي يستعملونها ، وكما تبدو لي خليط من العربية والتركية على غرار ما تلوكه ألسنة العامة ، مسايرة لأهل الرطانة من الأعاجم والترك لمفردات كثيرة ، ولكن عند الشعوبين الجدد هي للحط واللمز من القوميين . إن كلمة Supplantism مأخوذة من الكلمة اللتينية Suplantare وتعني الاحتلال لغرض الإحلال ، بالخديعة والمكر ، كأن يستغل المحتل وثيقة أو معاهدة سابقة ويؤولها حسب رغبته لإزاحة صاحب الأرض ليحل محله . كان الإحلال أحد السياسات التي اتبعتها الإمبراطورية الرومانية إلى جانب سياسة الاحتلال والضم ، وسياسة الاستعمار ، وكان سياسة الإحلال هي الأقبح والأكثر لئماً وقسوة وتتطابق تماماً مع سياسة الأمريكان التي انتهجها المهاجرون البيض مع الهنود الحمر أو ما فعل ويفعل الصهاينة مع الفلسطينين استناداً على أسطورة أرض الميعاد . لقد قالت العرب بمثل هؤلاء الجهلة المتفيقهة : رب رمية من غير رامي ، ولهذا لا نجد حاجة لشكر الدكتور شاكر النابلسي على جهده " العلمي " .
II(3/79)
القاعدة " القانونية " التي تستند عليها الانتخابات العراقية المزمع قيامها في نهاية شهر يناير ( كانون الثاني ) في مطلع العام القادم هي فقرة من " قانون " إدارة الدولة وتنص : إن العراق دائرة انتخابية واحدة ، ويتحدد عدد المقاعد في البرلمان لكل من الأحزاب أو القوائم من خلال عدد الأصوات التي يحصل عليها ، وتعتبر الفقرة التي تدعوا إلى إجراء إحصاء سكاني في شهر اكتور ( تشرين الأول ) من هذا العام شرط لازم وضروري ، ليس لتهيئة القوائم الانتخابية فحسب ولكن أيضاً لحسم الخلافات حول البنية العرقية والدينية والطائفية للشعب العراقي في المحافظات وخاصة المحافظات الأكثر جدلاً ، مثل محافظة التأمييم التي تبلغ نسبة الأكراد فيها حوالي 47% بينما تبلغ نسبة الأكراد في مدينة كركوك نفسها 35% وتبلغ نسبة التركمان فيها 40% ، فيما يشكل العرب والآشورين نسبة 25% ، حسب إحصاءات عام 1957 التي جرت في العهد الملكي . إن نموذج كركوك يقدم صورة لما يراد للعراق في العهد الأمريكي ، وهو تأهيل حزب امريكا للاستحواذ على السلطة في مجموع التراب الوطني العراقي بادعاءات وفرضيات لا تمت للواقع والحقيقة بصلة . ولهذا وجد " قانون " إدارة الدولة ، وخاصة ما يتعلق بالانتخابات العامة . إن القاصي والداني يعرف أن إجراء إحصاء سكاني في العراق ، وتحت ضروف الاحتلال والإحلال ، أمر مستحيل وغير مرغوب من قوى الإحلال التي هيمنت على مفاصل الدولة العراقية وفق المعادلة التفاضلية التي حددت النسب في مجلس الحكم ، وها شهر تشرين الأول يكاد ينقضي دون أن يحصى سكان قرية واحدة على أرض العراق . والإحصاء شرط لازم وضرورة لتحديد أو للتأكد من النسب المدعاة ، للأعراق والأديان والطوائف ، من قبل حزب أمريكا وترتيب المرشحين وفق هذه النسب على سلم القوائم الانتخابية ، خاصة في الانتخابات التي تجري وفق النظام النسبي الذي اعتمد في "قانون " إدارة الدولة ، وهذا أول الغيث في عالم التزوير والخداع والتضليل المرسوم سلفاً . اعتمد " قانون " إدارة الدولة النظام النسبي واعتبر مجموع التراب الوطني دائرة انتخابية واحدة . هذه الصيغة ، كما هو معرف ، اعتمدت في " إسرائيل " عام 1949 حيث كان سكان الأراضي المغتصبة عبارة عن شذاذ الأفاق الذين تداعوا من كل حدب وصوب لإقامة دولتهم الأسطورية على مساحة لا تزيد عن 20 ألف كيلو متر مربع وعدد السكان قد يصل إلى 1,5 مليون نسمة ، أي أقل مساحة وسكاناً من محافظة واحدة من محافظات العراق 18 . هنا أيضاً تتجلى العقلية الصهيونية التي اعتبرت العراق ، بعد سقوط النظام ، حالة مشابهة " لإسرائيل " بعد فرضها من قبل الأمم المتحدة . العراق المحتل يجب أن يأخذ بهدي الصهاينة ونصائحهم ويقتفي أثرهم في بناء الديمقراطية ، ولهذا كان لكل وزير أو مسؤول " عراقي" بعد الاحتلال ناكر ونكير من الأمريكان الصهاينة يشدد به أزره ويشركه في أمره . إنه الإحلال حسب نظريةالدكتور شاكر النابلسي . نظام الانتخابات النسبي جيد من حيث المبدأ ، وقد يصبح الأسواء إذا لم يطبق بدقة وحصافة ، وقد يصبح أشبه بعملية سطو همجية على إرادة الأمة إذا طبق على الطريقة العلاوية أو البرازانية . ويبدوا لنا ، من خلال المعطيات على أرض الواقع ، أن الشروط اللزمة والكافية لعملية السطو أخذت تتكامل منها : اعتبار العراق مركز انتخابي واحد ، عدم وجود احصاءات يعتد بها ، استفزاز القوى الوطنية والاسلامية ودفعها إلى العنف أو الاستسلام المهين . محاولات مستمرة لشراء الذمم والضمائر ، مستغلين الوضع الاقتصادي المتردي ، مما يخفض اسعار سلعة الضمير في سوق النخاسة الدولية . السؤال الذي لن يلقى جواباً مقنعاً لأحد هو : لماذا لم يطبق نظام الانتخاب النسبي معتبراً كل من المحافظات العراقية الثمانية عشر ( الأنبار، البصرة ، المثنى ، القادسية ، النجف ، أربيل ، السليمانية ، التأميم ، بابل ، بغداد ، داهوك ، ذي قار ، ديالا ، ميسان ، صلاح الدين ، واسط ) مركزاً انتخاباً قائماً بذاته ، حيث يتمتع الناخب بصوتين ، الأول يعطى لأحد قوائم مرشحي المحافظة ، والثاني يعطي لأحد قوائم مرشحي القطر ، كما هو الحال في كل الدول التي تأخذ بالنظام النسبي ، ألمانيا مثلاً ؟ . هذه العملية البسيطة ستكشف زيف وكذب كل الادعاءات التي أطلقها الحزب الأمريكي عن بنية العراق العرقية والدينية والطائفية ، كما تضع بعض العلاقيل في وجه عملية السطو المبيتة . إن هناك خمس شروط أو معاير عالمية يجب توفرها لاعتبار العملية الانتخابية نزية وشرعية . في مقدمة هذه الشروط : أن تكون عامة ، أي توفير كل التسهيلات لكي يدلي كل من يحق له التصويت بصوته ، وعندما يعلن المحتل على لسان وزير الحرب دونالد رمسفيلد أن الانتخابات قد تكون جزئية فهناك احتمالان لا ثالث لهما . الأول أن تجرى الانتخابات في جزء من العراق لينتخب 275 نائباً يمثلون أرادة الشعب العراقي ككل وهذا يعني إقصاء جزء من الشعب العراقي وبالتالي فالانتخابات غير عامة أي باطلة أصلاً ، والاحتمال الثاني أن تجرى الانتخابات في جزء من العراق
لينتخب جزء من المجلس النيابى وبالتالى يمثل جزء من إرادة الشعب العراقي ولهذا لا يحق له أن يعطي الثقة لحكومة تمثل الشعب العراقي ، ثم ماهي القاعدة الاحصائية التي تخول تحديد عدد النواب للجزء الذي ستجري فيه الانتخابات ، وعدد النواب الذين سينتخبون فيما بعد " عندما تستقر الضروف " ، وإذا ضربنا صفحاً عن كل هذه الاعترضات ، التي لا يمكن أن يضرب الصفح عنها ، ألا يدعونا كل هذا التضليل إلى الاعتقاد الاستنتاجي العقلاني أن نجزم أن حزب أمريكا يبحث عن فذلكة أمريكية لتقليص دور جزء أساسي ومهم في بنية العراق الاجتماعية والحضارية والسياسية . كل هذا يرسخ اعتقادنا أن العملية الانتخابية والديمقراطية الأمريكية عبارة عن لعبة Game الفائز فيها معروف سلفاً . برقيات التهنئة وعبارات الاعجاب وهيصة الفرح ، والتهليل للشعب العراقي الحضاري العريق الذي اجتاز المخاض الديمقراطي العسير بكل جدارة ، أعتقد أنها معدة سلفاً ، ربما أن هناك كذاب أشر حصل على جائز نوبل يتدرب الآن على أيدي خبراء في الإعلام كيف يؤدي انحناءة الأكبار والتبجيل للشعب العراقي العظيم الذي فاز بالديمقراطية الأمريكية ، ولله في خلقه شؤون .
III(3/80)
هذا بعض مكر أمريكا وحزبها "النجيب" ، ولكن ما العمل ؟ هناك شريحة من الشعب العراقي استبد بها اليأس والقنوط ، بعد أن ضاقت أرض العراق الرحيب بهم فولوا مدبرين ، من شدة الهول والفزع ، وشحة الرزق وقلة الحيلة ، ولم يعد لهم أمل في عيش يحفظ لهم رمق حياتهم ورزق عيالهم ، فاكتفوا بالتضرع والتوسل أن تعود الحياة إلى سابق عهدها وبسيط عيشها ، بماء لا يقطع ، وكهرباء لا تمنع ، وكأن لسان حالهم يقول ليحكم من يحكم المهم أن تعود الخدمات ويسود الأمن . اللهم لا شماتة ولا سخرية أو هزواً . إن أمريكا وحزبها اللعين جاء إلى العراق بسياسة معهودة ، ليزرع كل هذا البؤس والفاقة ، وإن ما يعاني منه الناس في العراق كان له مثيل في دول كانت أشد قوة وأكثر تمكيناً . الاتحاد السوفيتى " العظيم " الذي أصبح هشيماً تذره الرياح ، البطالة والبؤس ، المرض والمخدرات ، الدعارة والتسول ، وحاكم يترنح جذلاناً مخموراً لا يعي ما يقول ، وملياردات الدولاراة تطير لتحط في بنوك الغرب وأمريكا ، وعصابات المافيا والمخدرات تأخذ " الخوة " طوعاً او كراهية . كل هذا حدث تحت سمعنا وبصرنا وبفضل حزب أمريكا الذي يبشر بالدقراطية وحقوق الإنسان . لقد استسلم الشعب الروسي كالحمل الوديع ، فلم تكن هناك الفلوجة أو سامراء أو النجف تعيق عملية "الاعمار" وبناء "الديمقراطية" ، ومع ذلك ذاق الشعب الروسي ويلات وويلات وانتقل من فاقة إلى بؤس ومن تسيب إلى إهمال ، وقد رأيت ذلك بأم عيني . ومثال آخر على الطرف الآخر من المعمورة ، من أمريكا اللاتنية ، وكان موقع أمريكا الجنوبية هو الزريبة في المزعة الأمريكية ، ولنأخذ البرو Peru في 28/7/1990 " فاز " السيد البرتو فوجيموري ، Alberto Fujimori مهاجر من أصول يابانية سوقته دعاية العولمة على أنه الخبير بالمال والأعمال وصناعة المعجزات الصناعية على الطريقة اليابانية ، وكانت تطلق عليه من قبيل الدلع التشنو el Chino لتقربه إلى عقول وقلوب البسطاء . لم تمضي سوا أيام حتى كانت الطامة Shock therapy العلاج بالصدمة ، ارتفاع أسعار المواد الأساسية إلى أضعاف مضاعفة ، الخبر إلى 12 ضعف ، البنزين إلى 31 ضعف وهكذا بقية المواد الضرورية الأخرى ، وذلك بين عشية وضحاها . الإنسان محدود الدخل أو متوسط الدخل لم يعد لديه من المال ما يكفي لسد حاجياته الأساسية لنصف شهر ليقضي نصف الشهر الأخر خاوي الأمعاء ، أما الفقراء فقد اضطروا أن يسيحوا في البراي والغابات والجبال ، ليقتاتوا مما تنبت الأرض من أعشاب وفطريات . ألا يذكر هذا الشعب العراقي بما حل بهم بعد سياسة الحصار وما تلاها من احتلال ؟ إذن التجويع والقهر والإذلال وانعدام الخدمات الضرورية هي كنه وماهية سياسة " الديمقراطية وحقوق الإنسان " الأمريكية أما آلية التنفيد قد تختلف من بلد إلى آخر بالجزئيات والتفاصيل حسب معتطيات الواقع . لقد قدمنا هذين المثالين ، أحدها في شرق المعمورة والآخر في غربها ، وكلاهما انتهجا في الماضي سياسات مختلفة ، ومع ذلك لم يشفع لهما التمسكن والخنوع والخضوع والخلود إلى الراحة من بطش مقصلة العولمة التي تمسك بها يد " الصهيونية الأمريكية الدمقراطية " . أن الدعوة إلى وقف المقاومة والخلود إلى السكينة الدمقراطية التي تبشر بها أمريكا أو إعطاء الفرصة لحزب أمريكا اللعين لتنفيذ وعوده وتطلعاته نحو حياة أفضل عل وعسى أن تعود على الأقل الخدمات الضرورية إلى سابق عهدها وهم باطل وعجز قاتل . أما الدعوة إلى ما يشبه استراحة المقاتل وانتظار الضروف المواتية وفرص أفضل تتغير فيها موازين القوى المادية لصالح أهل الحق . فهذا وهم آخر . أن الضروف المواتية تصنع بالجهاد والمواضبة على طريق الهدف الصحيح . الحرب والمقاومة والجهاد هي أكثر المواضيع جدلية ولا تحسم بالتنظير والتأمل والفلسفة . إن الأمة المسلمة بغنى عن فتاوى الجهاد ، لطالما احتاج المستبد لمثل هذه الفتاوى ، ليستر عورته وعجزه عن الدفاع عن ملكه أمام مستبد آخر يريد النيل منه ويستبد بالإنسان لحسابه . إن آيات الجهاد وهدي النبي (ص) من الوضوح والصراحة ما لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل أو تفيقه . يفهمها المسلم بحسه السليم وفطرة الخير فيه . إن ما يحتاج المسلم من العلماء هو قول الحق وتبيان حددود العدوان فقد حرم الله سبحانه العدوان والظلم وأباح الجهاد لدفعه وما على العلماء إلا أن يبينوا للأمة حد العدوان ويتركوا للأمة أن أن تجتهد وتجاهد في رده ، فليس للمستبد العاجز أو الفقيه القاعد حق الحجر على الأمة في الدفاع عن بيضة الإسلام ورد العدوان . أمام هذه الوقائع الماثلة أمام أعيننا بشكل حسي ، وكذلك مضارعة الماضي القريب والذي ينسحب زخمه الفظيع على الحضارة والإنسان ، لا يسعنا إلا أن نجعل من كل يوم وليد نقطة انطلاق لغد ندعوا الله سبحانه أن يمن علينا به بالنصر ، وما النصر إلا من عند الله .
IV
كيف يواجه الشعب العراقي ألعوبة Game الانتخابات العامة المعرفة النتائج سلفاً ؟ هل على القوى الوطنية والإسلامية أن تدعوا الشعب العراقي إلى مقاطعة الانتخابات ؟ هل من الحكمة المشاركة بالانتخابات العامة رغم أنها معروف النتائج ومحسومة لصالح حزب أمريكا ؟
هذه بعض الأسئلة التي تطرحها القوى الوطنية والإسلامية المعادية للإحتلال على نفسها وعلى الشاع السياسي في العراق وعلى امتداد الساحة العربية ولإسلامية .(3/81)
إن البرقراطين أدلوا بدلوهم في شأن الانتخابات العراقية المقبلة وفرضوا النموذج الإسرائيلي الذي طبق مع قيام " إسرائيل عام 1949 ، وكأن الشعب العراقي مجموعة من شذاذ الأفاق يجمعم الدولار والحلم بالحياة الأمريكية American way of live وتفرقهم الدبابات والقصف العشوائي للمدن والبيوت الآمنة. يتجاهل البرقراطيون الصهاينة والأمريكان وحزبهم من أصحاب الجعالة الواقع الديمغرافي( العرقي والديني والطائفي ) وهم الذين ملأوا الدنيا ، وبكل اللغات والرطانة ، عن الموزايك العراقي " الجميل " ، حتى إذا جاء واجب مراعات هذا الواقع تنكروا لكل ما لهجت به ألسنتهم السليطة والبذيئة أحياناً ، وفرضوا على العراق الانتخابات النسبية بأقبح تجلياتها وجعلوا من العراق من زاخو إلى أم القصر دائرة انتخابية واحدة . شرذمة العراق وتفتيته إلى شيع وطوائف عندما يكون لهم مصلحة عينية بذلك وخلط الحابل بالنابل عندما تكون مصلحتهم العكس . هذا جزء من لعبة Game السطو المبيتة . أما الجزء الثاني والثالث والرابع....الخ فسوف نعرفه عندا ينقشع غبار التضليل والتزوير . أعتقد أن هناك تناقض بين الإدارة الأمريكية وحزبها في العراق في شأن الانتخابات ، فالإدارة تريد سطو منظم انسجاماً مع تجاربها " الناجحة " في مناطق عديدة من العالم ، حيث تهيء الضروف التي تمكن حزبها من ترسيخ أقدامه على أرض الواقع ، وخلق ضروف خارجية تجعل الناخب يصوت لحزبها على أنه أهون الشرين ، كما حدث في اليابان وألمانيا ومصر بعد معاهدة كامب ديفيد . أما حزب أمريكا في العراق ، الذي يتكون من مجموعة من النكرات التي تقوم يومياً بشاذ الأعمال وغريب التصرفات لتكتسب ( ال ) التعريف ، فترى أن تجري الانتخابات بأسرع وقت ممكن حتى ولو كانت عملية السطو فجة وفظة وبدائية ، لأنها ترى ببساطة أنها فرصة " تاريخية " قد لا تعود مرة ثانية ، وربما فريق من الإدارة الأمريكية يشارك هؤلاء المغامرين الرأي . إذن القوى الوطنية العربية والإسلامية أمام أمرين أحلاهما مر : السطو المنظم أم السطو البدائي الهمجي . إن الذي أضعف القوى الوطنية هو : الدعوة للانتخابات قبل التحرير ، التي تبنتها بعض الشخصيات اللبرالية وبعض المرجعيات الدينية . المتتبع للتاريخ السياسي الحديث يجد بكل سهولة أن هذا الرأي أو ما يناظره من آراء كانت جرثومة البلاء وأصل الشقاء في مسيرة حركة التحرر العربية والإسلامية ؛ بدأً من سياسات فيصل الأول ، ومروراً بحركة سعد زغلول في مصر ، وانتهاءً بمعاهد أسلو . هذا " الاجتهاد " يقوم على واقع حسي من جهة ووهم من جهة أخرى . الواقع الحسي هو موازين القوى المادية الذي يقود إلى القول " لا طاقة لنا بجالوت " التي تلقى قبولاً " حسناً عند شريحة واسعة من الشعب المغلوب على أمره ، ولكن هذه الشريحة لم تجاهد أو تناضل أو تحدث نفسها في الجهاد أو النضال ، وإذا كان البعض ينحدر من مدارس التعليم الديني الاسلامي فعليهم أن يعلموا قبل أن يتذرعوا بفتاوى وأراء بعض " الفقهاء " أن يعودوا إلى صريح النص القرأني ، فالدين ليس اتباع رجل ، وإنما اتباع الحق والنص القرآني أحق أن يتبع وهو الذي يدعوا صراحة أهل الملة إلى العزة " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران 139 . " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم " . محمد 35 . " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيما " النساء 104 . إن مراعاة موازين القوى أمر معتبر عند كل ذي حس سليم وفطرة سوية ، والأخذ به أمر واجب في حالة الخروج لملاقاة القوم أو غزوهم في عقر دارهم . هنا يجب مراعات موازين القوى المادية والمعنوية التي يمكن أن يستنفرها عدو الله عندما يهاجم في عقر داره . أما عندما يدافع الإنسان عن حقه وحق عياله وأهله في الحياة فهذا شأن آخر . عندما يكون الأمر أما أن يذبح ويهتك عرضه وتحرق عياله وماله وما بنى وزرع ، أو أن يفعل ما بوسعه لدفع غائلة وصولة العدو ولو بجرح يشفي به غليله ، فيصبح الحيث عن موازين القوى صخب يراد منه إنكار العقل والنقل والفطرة السليمة . لو كان الأمر يقتصر على طرد الاحتلال لكانت المسألة محسومة ، فلا مجال لطرد الاحتلال إلا بالمقاومة وهذا ما فعله المجاهدون على امتداد الساحة العربية والإسلامية ، في تركيا والجزائر وتونس والسودان وسورية والعراق وأخيراً أفغانستان ثم آلت قيادة البلاد والعباد إلى طغمة عسكرية أو سلطة متغربة سلوكا ومنهجاً ، حيث كانت تمارس سياسة المستعمر
بأسلوب آخر . الجيش الوطني عبارة عن مرتزقة لا يختلفون عن جيش علاوي والجلبي وبريمر ، المهم عندهم الجعالة ودورات عسكرية في الغرب أو الشرق تزيد من جعالتهم وبعدهم عن أمتهم وشعبهم . إداريون ورثوا النمط الاستعماري وتشبثوا بصغائر الأمور ، وطبقة سياسية نرجسية أقصي أمانيها الالتحاق بالغرب ومحاكاتهم بالمطعم والملبس والمشرب ، والشذوذ على القاعدة أسوء من القاعدة نفسها ، فقد يخرج القائد على الملاء بثياب مزكشة وكأنه طاؤوس أو نبات الخنفشار ، حرصاً على التقاليد الوطنية . فيجعل التقاليد نفسها هزواً وسبة ، وجد المستعمر بهؤلاء الحكام ظالته المنشودة فأغدق عليهم القروض والعروض حتى أصبحت البلاد رهينة المحبسين ؛ الدّين والفساد . أغدق الحكام على أنفسهم وأعوانهم من هذه القروض فبنوا القصور وتوسعوا بالفجور ودفعوا بما اقتطعوه لأنفسهم من المال إلى حساباتهم السرية في البنوك الأجنبية ، لتعود أموال القروض سيرتها الأولى Recycling . أما الدولة والشعب فهما يرسخان تحت وطأة الفوائد والأقساط ، أي رهن البلاد والعباد للأجنبي . لقد غيبت إرادة الشعب بالانقلابات العسكرية والعنجهيات الثورية . إن على الشعب العربي في العراق وفلسطين واجب مضاعف ، دحر الاحتلال واستعادة الأرض والكرامة من جهة ، وتقدم القيادة الواعية الحذرة والجسورة التي تمثل إرادة الأمة حتى لا تعاد مأساة ما بعد رحيل الاستعمار ويستحوذ أهل الرطانة و " الكياسة " على قيادة الأمة باسم " الدراية " وحسن خطاب الأجانب . من هنا يكون لزاماً على كل غيور أن يقدم النصح الصادق للقوي الوطنية العربية والإسلامية لمجابة أمريكا وحزبها اللعين ، لتقديم بديلاً سياسياً يمثل إرادة الأمة ويعبر عن تطلعاتها لمستقبل واعد بالخير والسلام والكرامة .
V(3/82)
من الجلي الواضح أن حزب أمريكا يريد أن يستحوذ على السلطة ، ويقصي كل القوى الوطنية حتى عن مواقع المعارضة والمراقبة والمحاسبة . يريدها خالصة له ومحاصصة بين فرقاء هذا الطابور ، وقد بدأوا منذ اليوم الأول للاحتلال تحت شعار " اجتثاث البعث " فاغتالوا العلماء والكوادر الفنية وطاردوا أهل الخبرة والدراية تماماً كما فعل الحلفاء والروس بعد احتلال ألمانيا تحت شعار مشابه تماماً " اجثاث النازية " Entnazifizierung ، ولكن بصورة أكثر "عقلانية " مما فعل الجلبي وعصابته ، فقد نقل الحلفاء والروس العلماء الألمان وأصحاب الخبرة إلى أمريكا أو الاتحاد السوفيتي للاستفادة من خبرتهم في تطوير الصواريخ والصناعات الحربية الأخرى ، كما نقلت مراكز البحث العلمي والمعامل بكامل أجهزتها إلى الدول الحليفة وخاصة الاتحاد السوفيتي . أما حزب أمريكا فقد اتبع سياسة الاغتيالات والسرقة وبيع المعامل العامرة ، كحديد خردة ، 30 دولار للطن ، إلى الدول المجاورة . حتى تيمورلنك كان أكثر تحضر من أعوان الجلبي والبرزاني والطلباني ، فقد حمل تيمورلنك معه كغنيمة حرب ، بعد أن استباح دمشق ، المهندسين والبنائين ، إلى وسط أسيا والهند ، ليقيموا له الصروح والقصور . لا أعتقد أن الشعب العراقي سيغفر للمغول الجدد فعلتهم . يصر حزب أمريكا على إقصاء كل عراقي غيور من مواقع القرار ، وقطع الطريق على كل مصالحة وطنية ، وإلا كيف نفسر إصرار مسعود البرزاني استبعاد أي تمثيل سياسي للمقاومة العراقية في المؤتمر الدولي حول العراق المزمع عقدة في 22-23 نوفمبر ( تشرين الثاني ) في شرم الشيخ ، سيء الصيت ، وبعد أن وافق حسني مبارك ، عراب التأمر ، على استبعاد تمثيل القوى الوطنية بالمؤتمر بحجة أن المؤتمر يقتصر على ممثلين حكوميين فقط ، يبدوا لنا أن الكفة بدأت ترجح لصالح من يريدون السطو الهمجي البدائي على إرادة الشعب العراقي ، وبالتالي على السلطة ، ذالك الوثن الذي يقدم اليه كل أنواع القرابين بدأ بالإنسان وانتهاء بالقيم وأبسط قواعد العدل . دعى الدكتور الشيخ حارث الضاري ، كرئيس لهيئة علماء المسلمين ، إلى مقاطعة الانتخابات في حالة استمرار قصف المدن العراقية أو تنفيذ خطط الاجتياح المعدة سلفاً . بينما دعى مكتب السيد السستاني إلى الاكتتاب في القوائم الانتخابية للمشاركة في عملية الاقتراع . النكرات التي تحتاج إلى ( ال ) التعريف تدعوا إلى تحالفات شعوبية مشبوهة للترشح ، وتراهن على ما لديها من مال حرام وكرنفالات أمريكية للتغرير بالبسطاء والسذج . أما القراصنة من أمثال العلاوي والبرازاني فهم لا يريدون لا هذا ولا ذاك وإنما تنظيم عملية سطو مسلح واكتساح للمدن " المتمردة " في يوم الاقتراع وإشعال فوضى عارمة ، ثم تفتح الصناديق المعلبة سلفاً في اليوم التالي ، حيث " اضطرت " طائرات الأباتشي للقيام بهذه المهمة الصعبة لنقلها إلى بغداد ، عفواً إلى المنطقة الخضراء ، لتجنب هجمات " الإرهابين " من جماعة الزقاوي ، وتحت " راقبة " الأمم المتحدة ، وتحت أعين "المراقبين الدوليين " تفتح الصناديق المعلبة ويفوز حزب أمريكا ب 72% كما في أفغانسان ؛ أما باقي أعضاء " المجلس الوطني " فهي عناصر " مستقلة " و " يسارية " ساهمت في التصدي للنظام السابق . إننا لا نرجم بالغيب عندما عندما نضع هذا السينارو الذي يذكرنا بأفلام السطو على البنوك من قبل محترفي السطو . لقد مارست أمريكا هذه اللعبة Game في كل الدول التي خضعت لسلطانها . إن المتتبعين للعمليات الانتخابية التى جرت في دول خاضعة للنفوذ الأمريكي يروون قصص يشيب لها الولدان . أذكر هنا قصة الديمقراطية في ألمانيا الغربية قبل توحيدها وباختصار شديد . قبل استسلام ألمانيا بدون قيد أو شرط ، كانت هناك قوي ليبرالية وطنية تسعي إلى إسقاط الحكم النازي عبر انقلاب عسكري يطيح بالنظام النازي ويعقد معاهدت صلح مع الحلفاء يضمن وحدة الأراضي الألمانية ، حسب معاهدة فرساي ، وليجنب البلاد الاستسلام بدون قيد أو شرط . قامت هذه المجموعة ، التي عرفت بمجموعة شتاوفنبرغ Stauffenberg نسبة إلى العميد كلاوس غراف شينك فون شتاوفنبرغ ، رئيس الأركان العامة للجيش الاحتياطي ، والقريب من هتلر ، بالاتصال بالحلفاء ، عبر دبلماسيين متعاونين مع المجموعة ، لإقناعهم بالعدول عن اجتياح ألمانيا وفرض الاستسلام بدون قيد أو شرط ، مع القبول التام بشروط الحلفاء الأخرى . كان جواب تشرشل وترمان الرفض التام لشروط المجموعة ، إلا إذا قبلت الاستسلام بدون قيد أو شرط ، وبعد أن يئست المجموعة بإقناع الحلفاء ، وحرصاً منها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، بعد أن بدأ الحلفاء بالقصف الاستراتيجي الذي يستهدف البنية الأساسية والمعامل والمدن ، قامت المجموعة بتنفيذ خطة الانقلاب التي بدأت بمحاولة اختيال هتلر نفسه بوضع قنبلة موقوته تحت المنصه التي كان يجلس عليها هتلر وأركان حربه ، من قبل قائد المجموعة نفسه ( شتاوفنبرغ ) ، الذي كان قد خرج من الاجتماع قبل انفجار القنبلة ببضع دقائق ، إلا ان الانفجار لم يؤدي إلى مقتل هتلر نفسه ، ولكن(3/83)
أصيب ببعض الجروح . ألقي القبض على قائد المجموعة والضباط المتعاونين معه وأعدموا بعد محاكمة ميدانية في 20/7/1944 . استمر القصف الاستراتيجي وبدون رحمة أو شفقة وفاقت آثاره ما وقع في اليابان بعد إلقاء القنبلة الذرية على هوريشيما وناغازاكي ، في درسدن وحدها كان عدد القتلى دون الجرحي حوالي 200 ألف ، وتحول وسط المدينة ولأحياء العمالية إلى أطلال . لقد منع الدارسين الألمان من توثيق آثار الدمار الذي لحق بالبلاد ، وأول وثيقة تاريخية حول الموضوع صدرت منذ سنة ونصف تقريباً . احتلت ألمانيا من قبل الحلفاء وقسمت إلى أربع مناطق احتلال ( فرنسية ، بريطانية ، أمريكية ، روسية ) بعد أن سلخ من ألمانيا حوالى 25% من أراضيها ، ضمت إلى كل من بولندا وروسيا وتشكوسوفاكيا . وحد الحلفاء ( فرنسا ، أمريكا ، بريطانيا ) المناطق المحتلة من قبلهم وأطاقوا عليها ( ألمانيا الاتحادية ) BRDوأقام الاتحاد السوفيتي على المنطقة المحتلة من الروس ما سمي بجمهورية ألمانيا الديمقراطية DDR ، حيث طبق النظام السوفيتي الاشتراكي وبصرامة ألمانية . كيف أقامت أمريكا "الديقراطية" في ألمانيا الغربي ؟ . الأمة الألمانية ككل الأمم الأوربية كان لها دور معتبر فى إزاحة النظم الاستبدادية التي كانت تحكم " بالإرادة الألهية " وإقامت نظم ديمقراطية تستلهم شرعيتها من إرادة الشعب عبر انتخابات عامة وحرة ومتساوية ومباشرة وسرية ، وحتى استيلاء النازين على السلطة كانت ألمانيا تحكم بنظام برلماني ليبرالي وتعددي ، وظلت الشخصيات السياسية المرموقة وفية للتقاليد الديمقراطية . بعد الحرب عادت هذه الشخصيات إلى ممارسة السياسية والعمل على تحرير كامل التراب الوطني من المحتل وإقامة نظام برلماني تعددي ، ولكن تطلعات الطبقة السياسية الألمانية لم تكن منسجمة مع سياسة الحلفاء ، وخاصة بعد مؤتمر ( يالتا ) الشهير من جهة ، ورغبة أمريكا في وضع ألمانيا التي تقع في منتصف القارة العجوز ( أوربا ) في مجابهة الاتحاد السوفيتي . أطلقت أمريكا خطة مارشل Marshall المعروفه ، بنفس الوقت جمعت ما تستطيع جمعه من الساسة الموالين لها ، دون اعتراض ، وشجعتهم لإقامة حزب سياسي من ساسة الدرجة الثانية أو الثالثه من بقايا الأحزاب اليمنية التي لم يكن لها ماض يذكر في مقارعة النازية ، وهكذا قام حزب ( الوحدة الديقراطي المسيحي ) CDU ووضعت عمدة مدينة كولونيا المغمور سياسياً رئيساً للحزب ثم مستشاراً ألمانيا ، بعد الانتخابات التي جرت تحت إشراف قوى الاحتلال . عملية السطو المنظمة هذه بقيت الصيغة المفضلة ، عند الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، تطبق على كل الدول التي تقع تحت سيطرتها بل هي الصيغة المرغوبة عند الكثير من الساسة المغامرين ، خاصة بعد أن حققت ألمانيا ما عرف " بالمعجزة الاقتصادية الألمانية " . وقد كان الرئيس أنور السادات أكثر المتحمسين لهذه السياسة ، يسوقه الوهم والجهل ، ذلك أن " المعجزة الاقتصادية الألمانية " كانت وليدة عوامل اقتصادية وسياسية وتقنية واجتماعية ودولية وحضارية لا تملك مصر 5% منها . ظن السادات بمجرد عقد صلح مذل مع " إسرائيل " ، وتبديل الاتحاد الاشتراكي إلى الحزب الوطني ، واتخاذ كيسنجر عراباً لسياسته " الطموحة " وملئ الصحف المصرية بالمشاريع الخيالية التي ستتحقق ، بعد سلخ مصر الكنانة عن الأمة ، سيحقق معجزة الرفاه للشعب المصري ، الذي يستحق كل خير . إن هذه الأوهام تسيطر على أحلام الكثيرين من الذين يسيرون في ركاب أمريكا ، والشعوب تدفع ثمن جهلهم وأوهامهم السقيمة . لا أستغرب أن الكثير من أحلاس أمريكا يعيش هذا الوهم وهذا الجهل . أريد أن أذكر بعامل واحد ، من عشرات العوامل ، التي أسهمت في المعجزة الاقصادية الألمانية : لقد أدرك الساسة الألمان من البداية أن العدو الأول لإعادة بناء ألمانيا هم الصهاينة ، وذلك عندما أشار مورغنتاو Morgenthau الصهيوني على ترومان تجريد ألمانيا من السلاح والصناعات الثقيلة وتحويها إلى دولة زراعية وحقول للبطاطا ، ولهذا كانت السياسة الألمانية ، وعلى مدى ، عقود تمارس بذكاء ودهاء عجيب سياسة الحرباء ، حتى لا يصيبها الأذى من قبل الصهاينة ، كما لاقت دعماً قوياً من الساسة وأصحاب النفوذ الأمريكان من أصول ألمانية ، وكانت حاجة العالم وخاصة أمريكا إلى الصناعة الألمانية Made in Germany عظيمة . ماهو رصيد العلاوي والجلبي والبرزاني ليقنعوا أمريكا " وإسرائيل " ، اللذان جاءا إلى العراق لتدميره ، لأن يغيرا هذه السياسة إلى إصلاح وإعمار . الانتخابات العراقية المزمع عقدها في نهاية يناير ( كانون الثاتي ) ، هذا إذا عقدت أصلاً ، لن تكون إلا عملية سطو همجية بدائية ، لأن الوقت والضروف على أرض الواقع لن تسمح بعملية سطو منظم على الطريقة الألمانية، فضلاً أن تكون انتخابات عامة وحرة ونزيهة تعبر عن إرادة الناخب العراقي الحقيقية . عشرات الأسئلة والاستفسرات التي تطرح على قانون الانتخابات وطريقة الاقتراع لا تجد جواباً من " اللجنة العليا " التي ستشرف على الانتخابات وكأن العملية كما يقول(3/84)
العراقيون ( سلق بيض ) . إذا كان الحزب الديمقراطي بقيادة كيري قد جند 10 ألاف محامي لمراقبة الانتخابات كما أعد " مجموعات طوارئ قانونية " مزودة بطائرات نفاثة لمنع تزوير الانتخابات أو التلاعب بنتائجها ، فكيف للعراق الذي يخوض شعبه حرب تحرير مريرة يتمكن من إجراء انتخابات عامة وحرة ، والمشرفون عليها لا يؤتمنون على درهم أو دينار ، ومعظمهم من أهل السوابق والعمالة المكشوفة . إن نزاهة الانتخابات وعدالة قوانينها شرط لازم وضروري لمسيرة ديمقراطية شرعية ، فأي خلل ولو كان محض صدفة قد ينسف ثقة الشعب بشرعيتها وجدواها . كل الدلائل تشير أن هناك عملية سطوا همجية معدة سلفاً ، ولكن هناك جهات ينطبق عليها المقولة المأثورة : إذا كنت لا أدري فتلك مصيبتي وإن كنت أدري فالمصيبة أعظم . هناك طائفة من أهل العراق يصعب تصنيفهم في خانة المتعاونين مع الاحتلال ، لأنهم يعلنون جهاراً رفضهم للاحتلال ويدعون لإنهائه بالطرق السلمية ، وأحد هذه الطرق السلمية هو إجراء انتخابات عامة بالبلاد ، وقد دعوا اشعب العراقي إلى الاشتراك بهذه الانتخابات . هناك احتملان ؛ إما إن تكون هذه الجهات على علم دقيق ومسبق بالقانون الانتخابي الذي ستنظم الانتخابات على أساسة ، وقد بينا ، كما بين آخرون ، أن هذا القانون هو عبارة عن " تقنين " عملية السطو الهمجية ، وبالتالي تفقد هذه الجهة أي مصداقية ، بل يجب أن نعتبرها شريك أو متواطئ مع عملية السطو الهمجية . وإما أنها لا تدري بحقيقة القانون الانتخابي ، وهاهي الآن قد بلغت خطورة وفداحة الأمر وعليها أن ترفع صوتها في وجه من يريدون السطو على إراة الشعب ، ونحن والشعب العراقي ينتظر الفتوى في هذا الأمر الخطير . إن الإقرار بمبدأ الانتخابات العامة والحرة لا يعفي أهل الرأي من التأكد أن الآليات التي ستجري بها عملية الانتخاب والاقتراع أمينة وعادلة وسليمة ، من كل صنوف التلاعب . وكما لا تصح صلاة المسلم إلا إذا كانت وفق الهدي النبوي ، فكذلك لاتصح الانتخابات إلا وفق قواعد العدل وآليات الضبط والربط - هذا إذا قبلنا أصلا بجواز الانتخابات تحت ظل الاحتلال ، وهي مسألة خلافية لم تحسم بعد . الخديعة والحيلة في هذه المسالة هي : إن إجراء الانتخابات والمشاركة فيها عن قناعة أو عدم قناعة سيزيل الاحتلال أو يسرع في زواله وهذه مغالطة سوفسطائية ، وكأن الاحتلال جاء ليقيم انتخابات ثم يرحل عن أرض العراق !! إن مثل هذه الحجة مثل من يقول 1+ 1 = 3 . ألا يحق للشعب العراقي أن يصرخ في وجوه هؤلاء المضليلن : كفى استهتاراً وابتزازاً للإنسان العراقي ، أو كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي ، صاحب العروض : الناس أربع . رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاتبعوه ، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك نائم فأيقظوه ، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك مسترشد فرشدوه ، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهل فارفضوه .
VI
إن الاستعداد للانتخابات وإجراء الانتتخابات قد تكون من أدق المراحل التي يمر بها العراق ومعه الأمة ، بل إنه المخاض العسير حيث سيلقي التاريخ بكل ثقله على كاهل الشعب العراقي والشعب الفلسطني تبعاته . لقد استنفرت الإدارة الأمريكية المتصهينة كل جوارحها ، في الداخل والخارج ، لكسب هذه المعركة ، ولعل أحد تجليات هذه المعركة الدبلماسية المؤتمر الدولي الذي سيعقد في شرم الشيخ " لشرعنة " الواقع سواء تمت عملية السطو على إراة الشعب العراقي عبر الانتخابات أو بدونها ، والأرجح بدون انتخابات ، حسب معطيات الواقع . هذا مكر أعداء الأمة وحزب أمريكا ، فأين مكر وتدبير القوى الوطنية العربية والإسلامية ؟ لقد كان لبعض أطراف القوى الإسلامية اجتهادها في هذا الشأن الذي لا يخلو من الأخطاء ، كما نعتفد . إن عقد اتفاق ، مع حزب أمريكا الذي يقود الحكومة المؤقتة ، بوقف القصف العشوائي على النجف ومدينة الصدر أمر فيه مصلحة ، أما الدخول في العملية السياسية فمسألة خلافية ، قد ترجح المفسدة على المصلحة . أما تسليم الأسلحة التي في يد أبناء الشعب التي قد تضطرهم الضروف ، لدفع العدوان عن أنفسهم والمستضعفين من الرجال والولدان فهو خطأ بالمطلق . إن الدولة ، وبالتالي السلطة ، التي يحق لها احتكار القوة والعنف ، هي السلطة المنتخبة من قبل الشعب عبر انتخابات عامة وحرة ، وتتيح ، أي السلطة ، آليات سلمية لتداول السلطة ضمن مدة دستورية معينة أو حالة استثنائية معتبرة . هذا ما أجمع عليه فقهاء القانون . أما السلطة المستبدة التي جاءت عن طريق غير الانتخابات العامة والحرة ، ولا توفر آليات سلمية حقيقية لتداول السلطة فلا تمتلك حق احتكار القوة والعنف . مقاومة الاحتلال حق مشروع على الإطلاق . حكومة العلاوي والاحتلال من ورائها هي من الحالات الصارخة التي لا يحق لها ادعاء حق احتكار القوة والعنف ، الفقه الإسلامي يوجب مقاومة الاحتلال والسلطة المعينة من قبله ، وعلى كل المذاهب السنية والشيعية وبدون استثناء . اقتناء السلاح من قبل المواطنين وخاصة مع انعدام الأمن ليس محرم قانونياً أو شرعياً ، بل أن المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية يملكون من الأسلحة الفردية ما يكفي لتسليح جيش يفوق عدد الجيوش العربية مجتمعة ، والإسرائيليون يملكون من الأسلحة المتنوعة ما يفوق عدد سكان " إسرائيل " نفسها . إذاً ماهي الأسباب الموجبة لتسليم الأسلحة أو الاتفاق على تسليمها ؟ القناعة التي لا أقبل المساومة عليها هي : أن تجريد الشعب من أسباب القوة هو حجر الزاوية في بناء صرح الاستبداد ، والسلاح في يد الشعب الأعزل يدفع المستبد وأعوانه لمراجعة حساباتهم . هذه القناعة هي خلاصة تجارب الشعوب والأمم المقهورة لخصتها المقولة التي رفعتها شعوب أمريكا اللاتينة المغلوب على أمرها من قبل أمريكا وأحزابها . يرفع المناضلون في أمريكا اللاتينية الشعار التالي : الشعب المتحد لن يغلب - الشعب المسلح لن يسحق . El pueblo unido jamas sera`vencido , el pueblo armado jamas sera` plastado . لقد أضاع المستضعفون فرصة تاريخية للدفاع عن حقوقهم المسلوبة ، قد لا يمن بها التاريخ بها مرة ثانية .(3/85)
إن تسارع الأحداث وتداخل المصالح يفرض على القوى الوطنية العربية والإسلامية أن تسير في محاور متعددة وبآن واحد . أما ترتيب الأولويات فستفرضها طبيعة المعركة القادمة وأهل مكة أدرى بشعابها . المحور الأول هو محور المقاومة المسلحة للاحتلال والعدوان ، وهذا أمر متروك لأهل الغيرة والحمية . المحور الثاني هو محور التعبئة والحشد الجماهري . إن حزب أمريكا لا يجمعهم إلا المصلحة الآنية والكسب السريع ، أما قادتهم فهم من المغامرين ، الذين استحوذ عليم حب الرياسة وشهوة السلطان ، أما أتباعهم فهم من طلاب الجعالة وأحلاس الوظائف ، أما الجوارح التي يبطشون بها فهو جيش الاحتلال . أمام هذا اللفيف ، غير المقرون ، والذي يفتقد أبسط مؤهلات القيادة والحس الوطني ؛ يقف الشعب العراقي بكل تطلعاته نحو عراق مستقل يأخذ أبناؤه زمام المبادرة والعمل الحضاري البناء . لقد أثبتت الأيام الأولى للاحتلال أن البنية الحضارية العراقية الأصيلة هي الملاذ الأخير القادر على مجابهة الفتن والكوارث ، فمؤسسات المجتمع المدني العصرية ، هي في حقيقة الحال بيوت كرتونية ، تتداعى مع أول نفخة ريح عاتية ، هذا إذا وجدت ، وقد يكون وجودها على الورق فقط ، أو مجرد مصطلح يتبضع أصحابه في أسواق وحوانيت الإعلام . عندما عمت الفوضي والهلع والنهب والسرقة ، لم يجد المواطن العراقي ملاذاً آمنناً إلا المساجد ودور العبادة ، ولم يجد من يثق بهم إلا أهل التقوى والعلم ، الذين يحاول أهل الحداثة والعصرنة تهميشهم . لقد كان المسجد ودور العباد المرسى للسفينة العراقية التي تقاذفتها أمواج الفتنة والفوضي . إن البنية الأسرية التقليدية ، التي لم تهرع إلى وسائل الاعلام ، تشكوا بؤسها وتندب حظها ، بل حملت مالحق بها من ظلم وطغيان بصبر عجيب ومروءة وعزة ، كانت الملاذ الآخر للشعب العراقي ، ثم تلاها ملاذ القبيلة وصلة الرحم المتجذرة في الشعب العراقي وفي اعماق بنيته الحضارية ، هذا بالإضافة إلى مرؤءات فردية نادرة . من هنا كان الانطلاق نحو بناء إرادة الصمود ، لتقديم بديل وقور للخضوع الذليل . اليوم والشعب العراقي يجابه عملية سطو همجية على إرادته من قبل حزب أمريكا ، نرى لزاماً علينا أن نضارع أيام الاحتلال الأولى من جديد ، لنجد إلى جانب استمرار المقاومة ووجوب دعمها ، أن على القوى الوطنية أن تقدم البديل وتجمع أهل الحمية والنخوة على على قائمة انتخابية ، تمثل العراق من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، الأحزاب الإسلامية الكردية وأهل الفضل والمروءة من الكرد مع إخوانهم العرب والتركمان شيعة وسنة ، يتقدمهم أهل الفضل ممن يطمئن الشعب إليهم ويرى فيهم القوة والأمانة . إن من ضرورات الحشد ؛ العودة إلى تقاليد العشيرة والقبيلة الأصيلية ، والتعامل معها كما تعامل رسول الله (ص) مع قبائل العرب . أن نحترم سراتها ومن ترتضيه ناطق بأسمها ، خاصة وأن سراة القبائل تلقوا من العلم والمعرفة ما يؤهلهم لإدارة دولة عصرية حديثة . القبائل هي في حقيقة الحال من مؤسسات المجتمع المدني ، بل أقدر من مؤسسات المجتمع المدني الحديثة على إيجاد تسويات مقبولة للخصومات والخلافات التي قد تنشب بين الناس . إن المسجد والأسرة والعشيرة والقبيلة وصلات الرحم المتعددة بنية يعتد بها في مجابهة الأزمات وأكبر دليل على ذلك ما أنجزه الشعب الفلسطني من لحمة وترابط مكنته من الصمود والتشبث بالأرض والحق الفلسطيني . إن مؤسسات المجتمع المدني الحديثة صورية وغير قادرة أن تدافع وتصد العدوان عن مكتسبات العمال والفقراء والمساكين ، حتى النقابات أبدت عجزاً واضحاً في الدفاع عن حقوق العمال ، التي تنهب كل يوم من قبل قادة العولمة ، حتى في الدول الغربية ذات التقاليد النقابية العريقة .
المحور الثالث هو المحور السياسي . إن إقامة نظام نيابي تعددي يمثل إرادة الأمة ؛ هو هدف استراتيجي يجب أن تسعى إلية القوى الوطنية العربية والإسلامية ، وهو الصيغة العصرية لولاية الأمة في الشأن السياسي وتنزيل الآية الكريمة " وأمرهم شورى بينهم " على الواقع السياسي والاجتماعي تنزيلاً يضارع الواقع القائم ، لستبعاد الاستبداد والتفرد بالرأي . إن هناك فرق واضح بين رجل السياسة ، ورجل الفكر أو الفلسفة أو الفقه ، إن السياسي الحصيف هو الذي : يأخذ من هؤلاء جميعاً ويعيد صياغته بشكل حسي عملي لا تخطئه أفهام العامة ، ويكون لها دليل عمل وفعل ، لهذا يجب على القيادة الوطنية في العراق أن تحزم أمرها في المرحلة القادمة وتقدم البديل الوطني في مقابل حزب أمريكا وجلاوزة الاحتلال . إننا ندعوا سراة العشائر والقبائل العراقية العربية والكردية والتركمانية إلى تعاون أوثق مع هيئة علماء المسلمين الأفاضل التي يرأسها الشيخ حارث الضاري ، وكذلك مع إخواننا علماء الشيعة الذين يتقفون خطى الإمام علي ( رضي الله عنه ) ، الذي يمثلهم الشيخ جواد الخالصي ، حفظه الله ، ليتمكن الساسة العراقين ، من عرب وكرد وتركمان وأشورين وكلدان ، من تقديم قائمة انتخابية مشتركة تراعي التوزيع السكاني في المحافظات العراقية شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً ، وتعطي كل ذي حق حقه ، وتضع وراء ظهرها العقلية الحزبية الضيقة والتناحر على الصغائر ، وكل متاع الدنيا صغائر ، وتجعل كل فقهها وعلمها في خدمة الإنسان العراقي المعذب . المواطنة العراقية هي المدخل إلى المساوات بالحقوق والواجبات ، أما الخصوصيات العرقية أو الدينية أو الطائفية فهذا شأن المتبضعين في أسواق الخصوصيات لتحقيق مآربهم الأنانية . المسلم مطالب بالعدل بين الناس في الشأن العام ومتاع الحياة الدنيا ، وكلما اقترب من العدل اقترب إلى تقوى الله وعمل لآخرته . إن من ضروريات العمل السياسي الميداني ، أن تقدم القوى الوطنية العربية والإسلامية قائمة انتخابية موحدة من 275 مرشحاً على الأقل ، موزعة على محافظات القطر بالعدل والقسط ، وتعمل على تعبئة القوى الوطنية ، وكأن الانتخابات ستجري في موعدها المحدد ووفق أدق المعاير الدولية ، وتبقي الباب مفتوحاً للانسحاب ومقاطعة الانتخابات عندما تتوفر القرائن المادية الدامغة لعملية السطو " المبيته " كما نعتقد . ليس لمجرد إحراج وفضح حزب أمريكا فحسب ، ولكن لتقديم بديل سياسي وطني يضطلع بالشأن السياسي في مسيرة التحرير التي قد تطول ، لا سمح الله . إن الإعلان عن مقاطعة الانتخابات تحت كابوس الاحتلال من قبل القوى الوطنية اجتهاد سلبي ، قد يستفيد منه حزب أمريكا ، وهو اجتهاد قد تتبناه وتأخذ به النخب المسيسية وأولو العزم من الناس دون العامة ، ولكن الهدي النبوي يأمرنا أن نسير على خطى الضعيف منا ، هذا في مجال الخروج لملاقاة العدو ، وهو يصح في مجال السياسة وجدليتها ، فالناس تجد السير ولا تخطئ الطريق عندما تصبح البينة حسية .(3/86)
المحور الرابع هو المحور الدبلماسي . إن إقامة علاقات مع القوى العربية والإسلامية الداعمة لتحرير العراق أمر مهم وضرورة جهادية ، وإن في خارج العراق قوى عربية وإسلامية تعيش الهم العراقي بكل جوارحها ، كما أن خارج العراق قوى تكيد للعراق وأهله ، وفيهم من العبيد الغلاظ الذين لا يعصون لأمريكا أمراً ويفعلون ما يؤمرون ، وغالبية هؤلاء في الجانب الرسمي في البلاد العربية والإسلامية وأجهزتها " الأمنية " . هم سدنة الاحتلال ورسل الشر والجريمة في الخارج ، وتجربة الجزائر غنية بالنماذج الاخطبوطية التي شوهت الجهاد والعمل السياسي الجزائري حتى كبر الفتق على الراتق . من هنا يجب على الذين يكتبون عن الشأن العراقي أن يتأكدوا من المعلومة قبل نشرها ، وأن يتعاونوا فيما بينهم لتمحيص الخبيث من الطيب ، ويسهموا بتوعية الناس بأساليب التضليل والخداع ويكونوا ، على الأقل ، لسان صدق لشعب مجاهد وأمة مناضلة ، وكل مانفعله هو قليل فيما يجب فعله . لو صرف أهل الثراء بعض فضول أموالهم في دعم الكلمة الصادقة والبيان الحصيف ، لبارك الله لهم في مالهم ، وأسدوا للأمة خيراً .
أثناء كتابتي هذا البحث طالعتني الصحف بخبر يثير الدهشة ويبعث عل الحيرة وهو : أن مكتب السيد آية الله السيستاني دعا إلى المشاركة الكثيفة في الانتخابات المزمع عقدها في العراق قبل زوال الاحتلال . وهذا اجتهاد له وعليه . أما أن يعلن المكتب أن عدم المشاركة بالانتخابات المقبلة يدخل صاحبه في جهنم ، والعياذ بالله ، فهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلاً . من ضرورات الإيمان بالغيب التسليم به ، والقول : هذا في الجنة وذاك في النار من الأمور الغيبية التي لا يملك أحد من الناس أن يجزم أو يتأول بها ، حتى الإنبياء المعصومين ، لا يحق لهم قول مثل هذا القول ، ولا أعتقد أن رجلاً مثل السيستاني ، قضي حياته بالعلم والفتيا يسمح لنفسه أو لغيره أن يتفوه بمثل هذا القول المرفوض شرعاً وغير المقبول عقلاً ، فضلاً أنه يعيد للأذهان قصة صكوك الغفران التي قصمت ظهر الكنيسة الكاثوليكية ، وأفقدتها المصداقية . . إن كل مسلم ، شيعي أو سني ، يعرف أن الأمام علي ، كرم الله وجهه ، لم يسمح لنفسه أن يقول بالخوارج ، الذين خرجوا عليه وناصبوه العداء قولاً مماثلاً لما نقل عن مكتب السيستاني : أن عدم المشاركة بالانتخابات العامة تدخل صاحبها جهنم . بل قال فيهم مقالته المشهورة " طلبوا الحق فأخطؤه " . صحيح أن الرجل بلغ من العمر عتياً ، ولكن لا نسمح لأنفسنا أن نقول أن الرجل أصبح خرفاً لا يعي ما يقول ، والدين على كل حال ليس اتباع رجل ، بل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال ، كما قال الإمام علي ، رضي الله عنه . ويبدوا لنا أن بعض القوم أخذوا بفقه اليهود وجعلوا الدين اتباع رجل يصنعونه على أعينهم وحسب أهوائهم ويكرهون الناس على اتباعه بزخرف قولهم وخبث مكرهم . من قال أن الانتخابات ؛ عقدها والمشاركة بها أو عدم المشاركة بها من أمور العقيدة يكون عدم المشاركة بها من الكبائر التي تدخل صاحبها بالنار ؟ من أين جاء هذا العلم ؟ . الانتخابات من الأمور المحدثة ، وقد تكون من الطيبات ، التي يندب الأخذ بها ، لمعرفة من ترتضيه الأمة ليقوم بدور الولاية نيابة عنها ، كما كان شأن سراة القوم في العهد النبوي والراشدي . إذا استمر هؤلاء القوم بالإستخفاف بعقول الناس وعقائدهم وجعلوا الدين مطية الدنيا وأفتوا لأنفسهم مالم ينزل الله به سلطاناً ، فسيتبؤون خزي الدنيا ، ونوكل أمرهم إلى الله .
* باحث في الفقه السياسي الاسلامي المعاصر
000000000000000…
مخبرون على كبر..!! / ياسر الزعاترة
…
28-10-1425 هـ
ليبراليونا العظام يطالبون بإنشاء محكمة دولية تحاكم الإرهابيين من أفراد وجماعات، وعلى رأسهم العلماء، لكنهم لا يتحدثون أبداً عن إرهاب شارون، ولا إرهاب القوات الأمريكية في العراق ولا عن "أبو غريب"، ولا عن أفغانستان، ولا عن كل ممارسات القتل التي تنفذها الولايات المتحدة بحق أبناء هذه الأمة.
لا أحب الانشغال بتلك النخب العلمانية المتطرفة، أو بتعبير أدق، الأمريكية الصهيونية المتطرفة، التي تتحدث بلغتنا في بعض الأحيان، فيما هي غريبة عن هذه الأمة؛ لغة وحضارة وقلباً وعقلا.
لكن بيان من أسموا أنفسهم الليبراليين العرب كان مثيراً للفضول، فكان أن أضعت بعض الوقت في استخراجه من الإنترنت ومن ثم قراءته للتعرف على مضمونه الذي أثار الكثيرين فكتبوا عنه تأييداً أو تحفظاً أو شتماً وازدراءً.
والحال أننا إزاء بيان يثير الكثير من الازدراء لمن كتبوه، وهم ثلة من خريجي مدرسة اليسار الذين تأمركوا "على كبر" كما يقال، وحين أرادوا التكفير عما سلف من ذنوبهم، لم يكن أمامهم سوى التحول إلى مخبرين من العيار الرخيص.
ونقول من العيار الرخيص، لأن ثمة فئة أخرى من المخبرين لا تعمل إلا وفق ما يطلبه المعلم، لكن عناصر هذه الفئة التي نحن بصددها غالباً ما يتطوعون باجتراح سخف وهراء لم ولن يتوقعه حتى الذين وظفوهم.
من العفيف الأخضر، ذلك المخبر التونسي الرخيص الحاقد على كل ما يمت إلى الإسلام والمسلمين والعروبة بصلة، خريج مدرسة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وصاحب شعار "كل السلطة للمقاومة" هاهنا في الأردن نهاية الستينات، إلى صاحبه الفلسطيني شاكر النابلسي الذي كان حتى سنوات قليلة يلبس الدشداشة البيضاء والغترة والعقال ويعيش في السعودية ويكتب عن محمود درويش والشعر الرافض في "رغيف النار والحنطة"، وعن الغناء الرافض أيضاً، كما في "الأغاني في المغاني" الذي يؤرخ لتجربة الشيخ إمام، وذلك قبل أن يرحل إلى الولايات المتحدة ويعمل مخبراًُ رخيصاً للأجهزة هناك، مع أن طبيعة العمل لا تغير الكثير إذ يكفي أن يكون لأحدهم تاريخ ما حتى يشرع في مسابقة الزمن لتأكيد ولائه الجديد!!
البيان في جوهره لا يستحق النقاش، فهو عبارة عن نداء تحريض ضد علماء المسلمين بوصفهم الركن الأساسي في صناعة الإرهاب، وبالطبع من دون أن يقول لنا أصحابه الليبراليون الأشاوس ما هي المقاومة وما هو الإرهاب، لأن المقاومة في فلسطين والعراق بحسب تعريفهم هي إرهاب، وكل شكل من أشكال التحدي للإرادة الأمريكية الإسرائيلية هو إرهاب، بل إن كل نشر للقيم الدينية في الأمة هو نشر للإرهاب وللتخلف أيضاً.
ليبراليونا العظام يطالبون بإنشاء محكمة دولية تحاكم الإرهابيين من أفراد وجماعات، وعلى رأسهم العلماء، لكنهم لا يتحدثون أبداً عن إرهاب شارون، ولا إرهاب القوات الأمريكية في العراق ولا عن "أبو غريب"، ولا عن أفغانستان، ولا عن كل ممارسات القتل التي تنفذها الولايات المتحدة بحق أبناء هذه الأمة.
لا حاجة لذلك كله، فالموت الذي تصنعه أمريكا هو موت من أجل الحياة والرقي والتقدم، أما الموت الذي نصنعه نحن فهو موت فقط من أجل الجنة، ولا يملك أي هدف نبيل على
الإطلاق. تلك هي خلاصة الرأي الذي تتبناه وتروجه هذه الحفنة من العملاء. سيقولون إننا نمارس التخوين والتكفير، ونقول نعم بالفم الملآن، وإلا فهل يكون من حقهم ممارسة الكفر والخيانة في وضح النهار، ولا يحق لنا بالمقابل أن نشير بأصابعنا أو نرفع أصواتنا ونقول إن ذلك خيانة وكفر.(3/87)
إننا أمة تواجه قتلة يريدون إذلالها، وحين تكون الأمم في ساحات المواجهة فإن من العبث أن تقبل هذا اللون من العهر والطعن في الظهر على أنه وجهة نظر، فما بين الخيانة والكفر والتحريض على الأمة وما بين حرية الفكر والرأي بون شاسع يعرفه العقلاء.
قلم : ياسر الزعاترة
===============
النهي عن بيعتين في بيعة
دراسة في الحديث النبوي الشريف
بحث تمهيدي لمرحلة الماجستير
إعداد الطالب
سيف هشام صباح
بإشراف الدكتور
مسلم اليوسف
1427-1428هـ
2006-2007م
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، و على آله و صحبه أجمعين، و التابعين و من تبع هداهم إلى يوم الدين، و بعد:
فلقد أكرم الله جلّ و عز البشرية عامة والعرب خاصة برسالة سماوية فاضلة، أتمت الشرائع السابقة لها و أكملتها، فانتظمت فيها حياة الإنسان عبادة بانتظام العلاقة مع الخالق، و معاملة بضبط العلائق مع المخلوقات، واجتهد علماء المسلمين و برعوا في بيان الشريعة الإسلامية وتحديد العلاقات و ضبطها لتكون منهجاً للحياة يرقى في التطبيق لينتظم مع أركان هذه الشريعة.
و يأت بحثنا كواحد من المحاولات الجادة لبيان بعضٍ مما اجتهد به علماؤنا الأفاضل في حديثٍ نبويٍ تلقوه عمن أوتي جوامع الكلم سيدنا محمد r في النهي عن بيعتين في بيعة، و الاستدلال من خلاله على وجهٍ مشرق من وجوه نظرية اقتصادية إسلامية، فشرعنا الإسلامي قد حض في الكثير من مفرداته على أهمية جلب المنافع و درء المفاسد، و هذا لن يكون بحال من الأحوال إلا من خلال منهج اقتصادي أخلاقي واضح و متكامل، فاعتمد الاقتصاد الإسلامي في جوهره على الأخلاق في المحافظة على مصالح الأطراف ذات العلاقة و حقوقها. و قد بينت فيه ملامح متعددة لما فصله الفقهاء و بينوه و استدلوا به في حكمهم على البيوع الواردة في إطار الأحاديث التي بينتها السنة النبوية في النهي عن بيعتين في بيعة.
أهمية البحث و هدفه:
جاء في سنة النبي r مجموعة من الأحاديث التي تبين أمر الشارع في تشريع بعض البيوع أو النهي عنها، واجتهد علماؤنا في بيانها و بيان الأحكام المتعلقة بها، و تأتي أهمية البحث في استعراض بعض الأحاديث عن النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة، و بعض الروايات الأخرى ذات العلاقة، مع دراسة لغوية و فقهية موجزة تعرض أراء المذاهب المعتمدة. و ذلك بغية تزويد القارئ والمهتم بالاقتصاد الإسلامي بمادة علمية تجمع في طياتها عرض و شرح تفصيلي لهذه المسألة الدقيقة فالبيوع كواحدة من المعاملات حل في أصلها، و جاء النهي عن بيعتين في بيعة لتحقيق العدالة و منع الغرر و لما فيه مصلحة المتعاقدين خاصة و المجتمع بشكل عام.
فرضية البحث
إن النهي الشرعي عن بيعتين في بيعة يحقق العدالة للطرفين المتعاقدين و يمنع الغرر.
منهجية البحث
اعتمدت في هذا البحث على منهج استدلالي استنباطي، فابتدأت بتجميع ما أوردته المراجع الأصلية من أمهات كتب الفقه عامة و كتب فقه المعاملات خاصة، و ما اجتهد به أصحاب المذاهب الأربعة المعتمدة ( الشافعي، والحنفي، والحنبلي، و المالكي ) في بيانها لأحاديث عن النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة و ذلك في إطار اقتصادي إسلامي.
مخطط البحث
مقدمة
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة.
المطلب الأول: حديث النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة.
المطلب الثاني: الدراسة اللغوية.
المبحث الثاني : فقه الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة.
المطلب الأول: الإطار العام للفقه الاقتصادي
المطلب الثاني: مذاهب الفقهاء في حكم الحديث
المطلب الثالث: فقه الأحاديث الأخرى المرتبطة بالنهي عن بيعتين في بيعة
ثبت المصادر و المراجع
الفهرس العام
المبحث الأول : الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:
المطلب الأول: حديث النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة:
عن أبي هريرة( t) قال: " نهى النبي r عن بيعتين في بيعة" (1)
وفي رواية ثانية لعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله r: " مُطْلُ الغني ظلم , وإذا أَحَلْتَ على مليء فاتبعه, ولا تبع بيعتين في بيعة " (2)
وفي رواية لعبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال : " نهى رسول الله r عن سلف وبيع، وعن بيعتين في بيعة ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن" (3)
المطلب الثاني: الدراسة اللغوية:
* البيعة (لغة)(4):
الصَّفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، وقد تبايعوا على كذا.
والمراد بالبيعة أيضاً: العقد و"في" إما للظرفية أو السببية، بيعتين : عقدين، والبَيِّعان: البائع والمشتري.
* البيع (شرعاً):
عقد معاوضة مالية تفيد مِلك عين على التأبيد، أو مبادلة المال المُتقوَّم بالمال المتقوم تمليكا وتملُّكا(5). و أضاف بعض الفقهاء الحنفية شرط التراضي، فقالوا " مبادلة المال بالمال بالتراضي"(6)
و قيد التراضي يلغي كذا نوع من العقود لافتقارها للرضا كالبيع بالإكراه.
و البيوع إما أن تكون بمبادلة النقود بسلعة، أو بمبادلة سلعة بسلعة أو بمبادلة نقد بنقد،وعناصر البيع أربعة: العاقدان (البائع والمشتري)، و صيغة العقد (القبول و الإيجاب)، و السلعة، والثمن.
ويتم البيع بواحد من الأشكال الآتية:
1. بالأفعال: بأن تكون السلعة مسعرة أو معروفة الثمن فيأخذ المشتري السلعة و يدفع ثمنها (المعلن عنه) للبائع دونما كلام.
2. بالأقوال: فيتساوم المشتري مع البائع على الثمن غير المعلن، و في حال الاتفاق يؤدي المشتري الثمن المتفق عليه للبائع.
3. بالأفعال والأقوال: و تجمع النوعين السابقين.
المبحث الثاني : فقه الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:
المطلب الأول: الإطار العام للفقه الاقتصادي
نظمت الشريعة الإسلامية المعاملات الاقتصادية بفقه خاص عُرف بفقه المعاملات فالمسلم يلتزم بالمأمورات الشرعية و ينتهِ بالمحظورات الشرعية، و كما أرادها الشارع لا كما حبذها المسلم أو فهمها، و ميز علماؤنا بين العبادات و العادات، فبينوا أن العبادات منصوص عليها بأمر الشارع و لا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى و بينته سنة النبي r ، أما العادات فقد ظهرت تلبية لحاجات دنيوية الأصل فيها عدم الحظر و المحظور منها ما حظره الله تعالى و بينته سنة النبي r. و ليس المقصود من هذا أبداً التضييق على الناس و إنما إيجاد إطار اقتصادي إسلامي للعلاقات يكون ضابطاً للناس و مانعاً لهم من الانزلاق في المحظورات. و من أهم أركان هذا الإطار :
1. منع بعض عمليات الاتجار أو الاستصناع المرتبطة بسلع ضارة: فبالرغم من أن الإسلام دين يحض على العمل إلا أنه قد منع العمليات المرتبطة بسلع ضارة و فاسدة و مفسدة، فمنع حيازتها و تجارتها و استصناعها كالخمرة و لحم الخنزير.
2. منع كل العمليات المشوهة لأصلها: فالغش أو الكذب سبب هام للخلاف، و لما فيهما من إضاعة للحقوق. فكان الإسلام واضحاً و رادعاً في ذلك فمن غش ليس منا، سواءاً كان الغش للمسلمين أو لسواهم.
3. منع بعض المعاملات: و قد اجتهد علماؤنا في بيان موقف الإسلام من معاملات يشوبها الغرر والربا، و ميزوا بين الضرر الذي لا يمكن الاحتراز عنه و الغرر الذي يمكن الاحتراز عنه، و ذلك بهدف منع الظلم في المعاملات بين الناس. و كذلك الأمر بالنسبة للاحتكار و ما فيه من استغلال لحاجات الناس و خاصة إذا كان متعلقاً بالأقوات.(3/88)
4. وضع ضوابط للمعاملات: فقد بين الفقهاء مجموعة من الضوابط كتحقيق العدل لضمان مشروعية المعاملة، فالمضاربة مثلاً و على النحو الذي شُرعت به تضمن تحقيق العدل بين الأطراف المشتركة فيها ( العمل و رأس المال) فليس لهما ضمان دخل دون النظر إلى نتيجة المشروع، والمتفق عليه شرعاً أن المضاربة تصبح باطلة إذا ما جعل صاحب العمل أو صاحب رأس المال لنفسه مبلغاً معيناً معلوماً.
المطلب الثاني: مذاهب الفقهاء في حكم الحديث: اختلف العلماء في حكمه:-
فقال الشافعي إن " بيعتين في بيعة" له تأويلان :(7)
أولهما : أن يقول : بعتك بألفين نسيئة وبألف نقداً ، فأيهما شئت أخذت به ( يعني يفترقا من دون أن يحددا على أي شيء استقرا)، وهنا توجد الجهالة بالثمن. والثاني: أن يقول : بعتك عبدي على أن تبيعني فرَسك.
وعلى أي من التفسيرين فالبيعُ فاسد. وعلة النهي والفساد:
* على الأول : عدم استقرار الثمن، وجهالته ، لما فيه من الإبهام والتعليق. فيكون فاسداً عند الحنفية ، وباطلاً عند الشافعية ،والحنبلية ،وأجازه المالكية ، وجعلوه مثل الخيار.
* وعلى الثاني : لتعلقه بشرط مستقبلي يجوز وقوعه ، وعدم وقوعه ، فلم يستقر العقد.
وقال الحنفية:(8)
البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً. فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد. والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة.
وقال الحنابلة: (9)
إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة،لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه كأنه قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي.
وقالوا(10):إن باعه سلعة بعشرة دنانير صحاحاً أو أحد عشر مكسرة لم يصح، مالم يفترقا على أحدهما، أو باعه بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح البيع لعدم الجزم بأحدهما، وقد فسر جماعة حديث النهي عن بيعتين في بيعة بذلك لما ذكر مالم يفترقا على أحدهما فان افترقا على الصحاح أو المكسرة في الأولى، أو على النقد أو النسيئة في الثانية صح، لانتفاء المانع بالتعيين، ولا يصح البيع أيضاً إن جعل مع الثمن رطلاً من خمر أو كلباً ونحوه. ولا يصح إن قال اشتريت بمائة على أن أراهن بها أي بالمائة التي بها الثمن،وبالقرض الذي لك أو نحوه مما له عليه من دين (هذا) الشيء؛ لان الثمن مجهول لكونه جعله مائة ومنفعة، وهي الوثيقة بالدين الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه بمنزلة بيعتين في بيعة؛ لأنه باع بشرط أن يرهنه على الدين الأول، وكذا لو أقرضه بشرط أن يرهنه عليه وعلى دين له آخر كذا فلا يصح القرض؛ لأنه شرط يجر نفعاً.
وقال المالكية: (11)
وذلك يتصور على وجوه ثلاثة:
* مثمونين بثمنين: فإن ذلك يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا، والثاني: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار، أو هذه الأخرى بدينارين.
* مثمون واحد بثمنين: فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين:
أحدهما: أن يكون أحد الثمنين نقداً، والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقداً بثمن كذا، على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا.
* مثمونين بثمن واحد على أن أحد البَيْعَين قد لزم: فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا. و فيه عدة وجوه:
أما الوجه الأول: وهو أن يقول له: أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا، فهو لا يجوز، لان الثمن في كليهما يكون مجهولا، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد.
الوجه الثاني: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز ، وسواء أكان النقد واحدا أو مختلفا، وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك، فأجازه إذا كان النقد واحدا أو مختلفا، وعلة منعه الجهل، وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار، وذلك لا يجوز على أصل مالك.
أما الوجه الثالث: وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز وأما إذ لم يكن البيع لازما في أحدهما فأجازه مالك، وجعله مالك من باب الخيار، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع، وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لامكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنقاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا.وأما إذا قال: أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل .فهو عند مالك لا يجوز ، لأنه من باب العينة وهو بيع الرجل ما ليس عنده، ويدخله أيضا علة جهل الثمن.
وأما إذا قال له: أبيعك أحد هذين الثوبين بدينار وقد لزمه أحدهما أيهما يختار وافترقا قبل الخيار، فإذا كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف عند مالك في أنه لا يجوز، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إنه يجوز، وعلة المنع الجهل والغرر.وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك،فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك.أ.هـ
المطلب الثالث: فقه الأحاديث الأخرى المرتبطة بالنهي عن بيعتين في بيعة:
عن أبي هريرة, قال : قال رسول الله r: " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا "(12)
أوكسهما : أقلهما(13).
فهذا الحديث ينطبق على بيع العينة : أن يبيع شيئاً بمائة إلى أجل ثم يشتريه ممن اشتراه بثمانين نقداً فهنا بيعتان أوكسهما الثمن الحال ، وأن اخذ بالأكثر أخذ الربا . وقد نزله الخطابي على بعض صور العينة(14).
وهذه الصورة هي عبارة عن وسيلة تتضمن الربا المحرم ولكن بحيلة تأخذ صورة البيع حيث يعود حاصل البيعين إلى أن يبدل نقوده بنقود أكثر وهذا ما موجود في الربا فلا يكون له الحق
إلا في أوكس الثمنين وهو النقد ، فأن أصر على الزيادة فقد أربى.
وقال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها كأنه أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال بعني القفيز الذي لك على إلى شهرين بقفيزين فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل فان تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا والله سبحانه وتعالى أعلم .(15)
وهنا يأخذ شكلا آخرا الحديث فهو يدخل في ضمن صورة بيع الدين بالدين أو الكالئ بالكالئ
والذي نهى عنه الرسول r ، فعن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) أن النبي r" نهى عن بيع الكالئ بالكالئ "( 16)يعني : الدين بالدين.(3/89)
فقد تبين أن صورة الرواية الثانية من خلال تطبيقها في صورة بيع العينة أو صورة بيع الدين بالدين ففي كلا الحالتين إن لم نأخذ بأوكس الثمنين فان الحالة ستؤول إلى الربا الفاحش وان البيع يتضمن العلة الربوية.
ويتوجه الحديث إلى معنى آخر من الصور أي نحو البيع الذي يتم على سعرين أو ثمنين من دون تعيين واحد منهما وهذا ما تكلمنا عنه في تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة فان إضافة أوكسهما أو الربا يتوافق مع فكرة السعرين إما النقد أو النسيئة فأيهما شئت أخذت فان هنا العلة لم يتم تحديد أي السعرين تم الأخذ به ويغادر المجلس المتعاقدان دون الاتفاق على أي الثمنين ويفترقا على الإبهام والجهالة في المثمن وعدم استقرار الثمن ، فان أتى بعد مدة وطلب المشتري أخذ المثمن بسعر النقد ورفض البائع ذلك فعليه أن يعود إلى أوكسهما ( انقصهما) وهو النقد فان أبى إلا النسيئة فالموضوع دخل في حيز الربا، كأنه أخذ الزيادة في بيع النسيئة كمنفعة يشترطها دون رضى الطرف الآخر ؛ وبذلك لا يصح البيع .
وفي رواية أخرى تسند الحديث الذي يدعم فكرة وقوع المتعاقدان في الربا هو ما رواه عبد الله بن مسعود (t) ، قال : " الصفقة في الصفقتين ربا "، وقال "صفقتان في صفقة ربا".(17)
وفي رواية أخرى عنه في نفس الصدد قال: " لاتحل صفقتان في صفقة إن رسول الله r، لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه".(18)
الصفقة : البيعة ، صفقتان: بيعتان .
وقد ورد تفسير في الرواية الأولى والثانية لمعنى الصفقتان في صفقة وهو أن يقول الرجل : إن كان بنقد فبكذا ، وإن كان بنسيئة فبكذا.(19)
وقال سفيان : " يقول : أن باعه بيعا ، فقال : أبيعك هذا بعشرة دنانير ، تعطيني بها صرف دراهمك ".(20)
وقال سماك : " الرجل يبيع البيع ، فيقول : هو بنساء بكذا وكذا ، وهو بنقد بكذا وكذا*.(21)
وتكون شبهة الربا واضحة ، ووجه ذلك أنه إذا ملك السلعة أو العين بدينار نقداً وبدينارين لأجل وقد وجب عليه أحدهما كأنما وجبت عليه بدينار نقداً فأخره فجعله بدينارين إلى أجل ، أو كأنما وجبت عليه بدينارين إلى أجل فعجلهما فجعلهما بدينار نقدا (ضع وتعجل).
وان الزيادة هنا في بيع النسيئة تصبح في محل ربا لان التحديد لم يكن واضح ، والجهالة في عدم التقدير ، فقد كان القول في محل الصفقتان في صفقة من باب أكل الربا .
وقد نقل عن زين العابدين علي (t)انه كان يرى حرمة بيع الشيْ بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، على الرغم من أن هذه الصورة مشروعة في الصحيح من قولى العلماء .
والموضوع هنا يدخل في أمر البيع بالتقسيط والذي أجازه الكثير من أهل العلم وفرقوه عن بيعة في بيعتين التي تتجه إلى منحى الربا .
وقد قال الثوري: " إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا ، وبالنسيئة بكذا وكذا ، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما ، فإن وقع البيع هكذا، فهذا مكروه، وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود ، وهو الذي ينهى عنه ، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته ، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين.(22)
وفي رواية أخرى تتعلق بنفس الموضوع الذي نبحث فيه وهو النهي عن بيعتين في بيعة :
فعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده (رضي الله عنهما) قال : قال رسول الله r: " لا يحل سلف وبيع , ولا شرطان في بيع , ولا بيع ما ليس عندك , ولا ربح ما لم تضمن ".
أخرجه الخمسةوصححه الترمذي والحاكم(23)
وهذا الحديث هو صورة من صور البيعتين في بيعة أو يدخل ضمن محتواها.
وقد أختلف في تفسيرها :(24)
فقيل : هو أن يقول بعت بكذا نقدأ. وبكذا نسيئة ، فيكون كالبيعتين في بيعة ، وهو مروي عن زيد بن علي وأبي حنيفة.
وقيل هو أن يقول : بعتك هذه السلعة على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا،
وقيل : هو أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة ، أو لا يهبها.
ولا يخفى القول أن القول الثاني إنما هو بيع مجزوم بشرط واحد ليس بشرطين فهو من قبيل النهي عن بيع وشرط ، وان القول الثالث : لو اشترط أحد الشرطين يفسد البيع ، فلا موضع لذكر الثاني، فالراجح هو الأول لأنه تحقق فيه ظرفية العقد لشرطين يدور العقد بينهما.
ولتوضيح الشروط يقتضي الأمر أن نشير لتقسيماتها فهي تنقسم إلى ثلاثة أنواع كما وردت في المذاهب
أولا : الشرط الصحيح: وهو ما يقتضيه العقد ، أو يلائمه أو ورد به الشرع أو العرف
ثانيا: الشرط الباطل: وهو ما كان فيه ضرر لأحد المتعاقدين ، كأن يشترط على المشتري ألا يبيع سلعة ، ومثل اشتراط الولاء للبائع في بيع العبد ، فهذا الشرط باطل والعقد صحيح.
ثالثاً: الشرط الفاسد :وهو الذي لا يقتضيه العقد ولا ورد به الشرع، ولاجرى به العرف، لكن فيه منفعة لأحد المتعاقدين ، كشراء الدقيق على شرط أن يخبزه ، والدار على أن سكناها شهراً أو سنة ولم يكن بذلك عرف، وكذا شراء الدابة على أن يستخدمها البائع أسبوعا أو شهراً، وليس فيها أي عرف.فجميع هذه الشروط وأمثالها فاسدة والعقد يفسد بها عند الحنفية على اصطلاحهم (25). وان فساد العقد عند الحنفية يعني البطلان عند غيرهم ؛ لأن الفساد والبطلان واحد عند غير الحنفية ، سوى قول عند الحنابلة يصح العقد بشرط واحد فيه منفعة لأحد المتعاقدين ويبطل بشرطين.(26)
أما ما يخص الحديث الذي نحن بصدده فان خلاصة القول فيه أن المراد من ((شرطان في بيع)) هو نفس معنى ((بيعتين في بيعة)) وهو أن بيعه السلعة بثمنين أي شرطين واحد مؤجل وواحد معجل، وكذلك أن يبيعه السلعة بثمن مؤجل ب(200) مثلاً، ثم يعود ويشتريها من نفس الشخص نقداً ب(150)، فهذا البيع معروف ببيع العينة، فهو ((بيعتين في بيعة))ويتحقق به ((له أوكسهما أو الربا))، وهذا هو ((الشرطان في بيع))، وقد تبين انه احد ذرائع الربا من خلال سياق الحديث فقد جاء بعد (( لايحل سلف وبيع )) لمافيه من شبهة الربا.
وكلا التفسيرين لشرطان في بيع مقبول،وهما ممنوعان، لاشتمال كل منهما على الربا، ففي التفسير الأول أن اخذ ببيع النسيئة بدون النقد فتحقق معنى الربا، وفي التفسير الثاني هو بيع ربوي واضح من خلال شراء نقداً بأقل من سعر بيعها مؤجلاً وان الفرق بين البيعين الذي سيتحصل عليه البائع في فترة انقضاء الأجل هو الفائدة المادية أو الانتفاع المحرم بعينه وعلى ضوء ذلك يكون الشرطان في بيع في محل شبهة الربا.
بيع التقسيط أو البيع لأجل وبماذا يختلف عن ((بيعتين في بيعة)) :
لابد كان من التطرق اولاً إلى موضوع بيع التقسيط أو البيع لأجل بسعر أعلى من سعر النقد أو الحال، ولذلك سنورد آراء العلماء في هذا البيع، فقد كانوا يمثلون اتجاهين في بيع التقسيط(27):
الأول : اتجاه المانعين(وهم قلة):
أنكر بعض العلماء مشروعية بيع التقسيط أو لأجل وهم زين العابدين علي بن الحسين،والناصر والمنصور بالله،والهادوية،والإمام يحيى،واحتجوا بما رواه أبو داؤد عن أبي هريرة (t) قال:قال رسول اللهr "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا".أي(( انقصهما أو أقلهما)).
الثاني: اتجاه المجيزين (وهم جمهور العلماء):
منهم زيد بن علي والمؤيد بالله،والمذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)،ويعتبرون أن البيع لأجل أو البيع بالتقسيط جائز ولو كان بسعر أعلى من سعر النقد، أي بثمن مؤجل أو مقسط يزيد على سعر البيع بالثمن المعجل، بأن يكون البيع بثمن أكثر من ثمن السلعة الذي تباع به نقداً.(3/90)
فمن باع سيارة أو دابة، أو أي نقود رائجة كالنقود الورقية المتداولة الآن في كل بلد،بثمن مؤجل إلى ستة اشهر أو سنة مثلاً، جاز البيع .
فبيع التقسيط أو البيع لأجل بثمن أكثر من ثمن النقد أو الحال،لايدخل في معنى حديث البيعتين في بيعة لسبين(28).
الأول؛وحدة العقد:
إن بيع الأجل أو المقسط هو عقد واحد وبيع واحد، وثمن واحد،اتفق عليه البائع والمشتري بصفة حاسمة،ولم يوجد بينهما عقدان،كل مافي الأمر وجد عرض من البائع لنوعين من البيع،فإذا تم العقد ولابد من أن يتم على نحو واحد وهو بيع التقسيط،صح البيع ولا إشكال، فلا يكون ذلك داخلاً في نطاق النهي عن بيعتين في بيعة،فهذا في حال قبول المشتري على الإبهام من غير تحديد ثمن بيعه.
الثاني؛ انتفاء الجهالة:
إن جهالة الثمن في بيع التقسيط أو لأجل غير موجودة، فانه يتم بثمن محدد مقطوع لا يزيد مع مرور الزمن، وينعقد البيع حينئذ على ثمن معلوم واحد، يتراضى عليه البائع والمشتري، ولا أشكال أيضاً.
ومن التطبيقات على ذلك:
_ من اشترى ثلاجة أو مذياعا أو أي متاع آخر، بسعر مؤجل كله أو بعضه لأجل في المستقبل، أو مقسط بأقساط شهرية أو سنوية معينة، جاز الشراء والبيع، ولو كان الثمن مقسط أو المؤجل أكثر من النقد.
_ الموظف أو العامل أو غيرهما الذي يشتري حوائجه من البقال أو السمان أو الجزار من سكر وزيت وصابون ونحو ذلك، على حساب الشهر، أي انه يشتري ذلك، ولايدفع الثمن إلا في أخر الشهر عند قبضه راتبه، يعتبر شراؤه صحيح.
فبذلك أعطى الباحث بيان واضح لمعنى بيع التقسيط وكيف يراه العلماء كوجه من أوجه الاختلاف عن بيعتين في بيعة وهو مضمون حديثنا هنا وانه شيء صحيح في التعامل لا غبار عليه ولاتنتفيه الجهالة أو عدم استقرارية الثمن وان بيع التقسيط هو صورة من البيع التي يأخذ نمط واحد بدون ترك المجلس على اختيارين بلا تحديد.
العلل التي تناولها الحديث
اولا: الجهالة في السعر ( بالنسبة للمثمن) :
إن حقيقة الأمر؛ إن السعر الذي ينطلق على البيعين في وقت واحد وفي الزمن الواحد لا يوضح ماهية التحديد بشكل بيني ومتوافق مع طلب السعرين، فهنا عندما يذكر السعران في آن واحد سيكون المشتري في وضع التائه الذي لا يعرف ضالته أين في سعر النقد أم الأجل أم كلتا الحالتين، وبذلك لا يتحقق الغرض المفاد من عملية البيع وهو تحديد سعر ثابت من دون غموض أو جهالة.
ثانياً: عدم الاستقرار في البيع:
إن حالة عدم الاستقرار التي ستحصل في حالة عدم فهم طريقة البيع ستولد مشكلة بين العاقدان وهما (البائع والمشتري)، وذلك لعدم وقوع الاثنين على سعر مستقر لا يتغير،وسيكون هناك تلاعب بالكلام ينشأ مستقبلاً بين طرفي العقد عند حالة البيع، فالوضع الغير الثابت والغير الواضح الذي تولد نتيجة عدم تحقيق مجلس عقد يجمع كل مقومات العقد السليم سيوصل في نهاية الأمر إلى حالة غبن لأحد الطرفين أو يثير تخاصم مستقبلا في أثناء طلب المشتري للسلعة التي اتفق عليها مع البائع.
ثالثاً: وسيلة بيع تؤول إلى الربا: وهذا ماتكلم عنه البحث في الرواية الثانية التي تعتبر البيع طريقة احتيال لمعاملة ربوية تأخذ مسمى البيع وهذا كان واضحا في موضوع (بيع العينة)، وكيف إن السبيل لإعطاء قرض ربوي يكون في طريقة إنشاء ما يسمى ببيع صوري بين اثنين، ولكن في حقيقته هو أحد أساليب الربا وصورة من صوره، فعند بيع بضاعة أو سلعة معينة بسعر معين إلى أجل معين، ثم يطلب صاحب السلعة المشتراة أن ترد نفس السلعة إلى البائع وبسعر نقدي يدفع بالحال ولكن بأقل من ثمن الشراء، على أن يعود في الوقت والأجل المحدد ليدفع ما اتفقا عليه في حالة البيع الأول، ويكون الفرق بين البيعتين هو ربا محرم (منفعة بدون مقابل)، كذلك الربا موجود في حالة (بيع الدين بالدين)،وهو عندما يحل أجل البيع الأول، فيطلب المشتري تأجيل المبلغ إلى فترة أخرى لقلة الحال أو ضعف الإمكانية، يقابله زيادة في المبلغ المدفوع لأجل التأجيل،وذلك من خلال عملية بيع ثانية تحصل فيما بينهم تتضمن الزيادة المطلوبة وهو من البيع المحرم ويعتبر من ربا الجاهلية. أ.هـ
قائمة المصادر والمراجع
1. ابن رشد محمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ،تحقيق :طه عبد الرؤوف سعد ،دار الجيل بيروت،ط/2004م.
2. أبو جيب سعدي، القاموس الفقهي، دار الفكر،دمشق ،2003م
3. بدائع الصنائع، علاء الدين الكاساني، دار إحياء التراث العربي،بيروت،ط2،1998م
4. الجامع الصحيح سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بلا ت.
5. رد المحتار على الدر المختار: للشيخ محمد أمين عابدين،تحقيق:عادل أحمد عبد الموجود،وعلي معوض، دار عالم الكتب،الرياض،طبعة خاصة 2003م
6. السنة، محمد بن نصر بن الحجاج المروزي أبو عبد الله، تحقيق : سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،ط1، 1408هـ .
7. سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت،بلا ت.
8. سنن أبي داؤد، سليمان بن الأشعث أبو داؤد السجستاني الأسدي، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بلا ت.
9. سنن البيهقي الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة،1414هـ-1993.
10. سنن الدار القطني، علي بن عمر أبو الحسن الدار قطني البغدادي، تحقيق : السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، ط 1386 .
11. سنن النسائي الكبرى، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق : د.عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1، 1411هـ-1990.
12. شرح بلوغ المرام من أحاديث الأحكام، الإمام احمد بن علي بن حجر العسقلاني ، تحرير:نور الدين عتر، دار الفرفور، دمشق، ط7، 1421هـ-2000.
13. شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة أبو جعفر الطحاوي، تحقيق : محمد زهري النجار، دار الكتب العلمية،بيروت، ط1، 1399هـ .
14. صحيح ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي،تحقيق:شعيب الأرنوؤط،مؤسسة الرسالة،بيروت ، 1414هـ-1993.
15. العين، الخليل بن احمد الفراهيدي، تحقيق : مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بلا ت.
16. فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، بيروت، بلا ت.
17. كشاف القناع، منصور بن إدريس البهوتي، ، تحقيق هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر ، بيروت، ط1402هـ .
18. المجموع شرح المهذب :للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي،تحقيق،محمد نجيب المطيعي،دار إحياء التراث العربي،ط/1995م
19. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري،تحقق: مصطفى عبد القادر عطا،دار الكتب، بيروت، ط1، 1411هـ-1990.
20. مسند الإمام احمد، أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، مؤسسة قرطبة، القاهرة، بلا ت.
21. مصنف عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ .
22. المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق:كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1409هـ .
23. معالم السنن ومعه تعليق ابن القيم/ مقتبس من شرح بلوغ المرام من أحاديث لابن حجر العسقلاني، تحرير نور الدين عتر ،1421هـ .(3/91)
24. المعاملات المالية المعاصرة، وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1427ـ-2006.
25. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل،ط2، 1404هـ-1983.
26. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج:الشيخ محمد الشربيني الخطيب،دار إحياء التراث العربي،بيروت
27. المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، دار الفكر، بيروت،ط1، 1405هـ .
28. موسى كامل، 1994، أحكام المعاملات، مؤسسة الرسالة، ط2،بيروت .
=============
ما حكم الاكتتاب في شركة ينساب؟.
الجواب ( للدكتور. يوسف بن عبد الله الشبيلي )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن نشاط شركة ينساب في صناعة البتروكيماويات، ومن خلال دراسة نشرة الإصدار المفصلة الخاصة بها تبين أنها حصلت على عمولات بنكية، كما وقعت على اتفاقية تمكنها من الحصول على قروض تجارية بالفائدة ومرابحات إسلامية من عدة بنوك، فالشركة بهذا تعد من الشركات المختلطة، والخلاف في الشركات المختلطة بين العلماء المعاصرين معروف، والأقرب -والله أعلم- أن الشركة إذا كانت لا تعتمد في نشاطها على المعاملات المحرمة فإن ذلك لا يقتضي حرمة السهم كله، بل يتخلص من الجزء المحرم منه ويبقى ما عداه مباحاً، وبالنظر إلى الإيراد المحرم الموجود في الشركة وقت الاكتتاب فإنه يسير جداً بل لا يكاد يذكر ( أقل من واحد بالألف من أصول الشركة)، وأما التمويل فلم تلتزم به الشركة إلى الآن، ومتى ما ارتبطت الشركة بشيء محرم منه فسيتم بيانه في حينه.
وبناء عليه فالذي يظهر هو جواز الاكتتاب في الشركة، وإذا حصل المساهم على شيءٍ من الأرباح التي توزعها الشركة فيلزمه أن يتخلص من نلك الأرباح بقدر نسبة الإيرادات المحرمة فيها، أما الأرباح الناتجة من بيع السهم فلا يلزم التخلص من شيءٍ منها.
وإني أدعو القائمين على الشركة إلى أن يكون جميع التمويل الذي ستحصل عليه تمويلاً إسلامياً، وأن تحول ودائعها إلى ودائع استثمارية موافقة للشريعة،فنحن-ولله الحمد- في بلدٍ قائمٍ على تحكيم شريعة الله. وكل ما يخالف هذه الشريعة الغراء فهو مرفوض شرعاً ونظاماً، وما تمارسه أي شركة من اقتراضٍ أو إيداعٍ بالفائدة يعد من التجاوزات غير النظامية التي يحق لأي مساهمٍ أن يعترض عليها، وهذا هو الحد الأدنى من الواجب على من ساهم في الشركات المختلطة، أن يعترض على تلك التجاوزات عند حضوره الجمعية العمومية للشركة. والله أعلم.
عشرة أسئلة حول ينساب
د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد كنت كتبت فتوى بينت فيها جواز الاكتتاب في شركة ينساب، وقد ورد إلى الموقع استفسارات كثيرة جداً عن بعض النقاط المتعلقة بالفتوى، وفيما يلي أبرز هذه الأسئلة وإجاباتها:
1- هل سبقكم أحد إلى القول بجواز المساهمة في مثل هذه الشركة؟.
نعم، فهذا هو رأي العلامة الشيخ محمد العثيمين، والشيخ عبد الله بن بسام رحمهما الله، وعليه العمل في معظم الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية، وأنصح الإخوة الذين اكتتبوا أن يحضروا الجمعية العمومية الأولى التي ستعقد بعد الاكتتاب مباشرة لحث المسئولين على التقيد بالضوابط الشرعية.
2- جاء في نشرة الإصدار أن الشركة وضعت أموالها بودائع ربوية، فهل يعد المساهم بذلك موكلاً للشركة بهذا التصرف؟ وهل يعتبر الاكتتاب إعانة للشركة على التعامل بالربا؟
لا يعد موكلاً لها بذلك. فالوكالة منتفية هنا؛ لأن هذا الإيداع سابق لإنشاء الشركة وللاكتتاب، وهو تصرف من شركة سابك -المؤسس الرئيس للشركة- .ولا يعد المساهم بذلك معيناً على التعامل بالربا؛ لأن الأموال التي وضعت في الودائع هي الأموال الخاصة بالمؤسسين، كما نصت على ذلك نشرة الإصدار. وأما أموال المكتتبين ( المساهمين)، فإنها توضع في حسابات جارية -( أي بلا فوائد)- لدى البنوك المستلمة، وحيث إن الشركة لم تتأسس إلى الآن، فسيتم ضم أموال المساهمين مع أموال المؤسسين وقت التأسيس -أي بعد التخصيص- ثم تصرف تلك الأموال في تنفيذ المشروع الذي بدأت به شركة سابك.
3- إذا كانت أموال المؤسسين قد حققت فوائد، فهذا يعني أن بعض موجودات الشركة محرمة، فهل يحرم الاكتتاب؟ لأن المساهم سيملك هذا الجزء المحرم.
هذا غير صحيح؛ لأمرين: الأول: أن المساهم لا يملك موجودات الشركة، إذ إن من خصائص الشركة المساهمة أن لها شخصية اعتبارية مستقلة عن المساهمين، وموجوداتها ملك لها وليست ملكاً للمساهمين، والمساهم يملك أسهماً تعطيه حقوقاً في الشركة وليست حصة شائعة فيها، ولو قيل: إن الأسهم حصص شائعة في موجودات الشركة المساهمة لكانت أسهم البنوك الإسلامية أشد تحريماً من أسهم الشركات ذات النشاط المحرم؛ لأن أغلب موجودات البنوك الإسلامية نقود وديون، فالذي يبيعها إنما يبيع نقوداً وديوناً، وهو
أمر لا يجوز، بل ويلزم على ذلك تحريم تداول أسهم أي شركة، إذ لا تخلو موجودات أي شركة من نقودٍ وديونٍ مقصودة فيها.
والثاني: وعلى فرض أن موجودات الشركة مملوكة للمساهمين، فإن نسبة الجزء المحرم في الشركة لا يتجاوز واحد بالألف من أصولها ( الفوائد 4.3 مليون، والأصول 5 مليار) وهذه النسبة ضئيلة جداً لا تقتضي تحريم السهم كله، بل يتخلص من الجزء المحرم منه ويبقى ما عداه مباحاً، فعلى هذا متى ما حصل المساهم على شيءٍ من إيرادات الشركة التي توزعها والودائع باقية بحالها فإنه يخرج واحد بالألف من تلك الإيراد، وبذا لايكون قد دخل ماله شيء محرم.
4- هل يفهم من الكلام السابق أن الربا اليسير مباح؟
حاشا لله من ذلك، فالربا محرم كله يسيره وكثيره، وإنما الإثم على المؤسسين والقائمين على الشركة، وأما المساهم الذي لم يرض بذلك فإنه لم يملك هذا الربا ولم يعن عليه؛ لأن الأسهم صكوك مالية تتأثر بالعرض والطلب لا بنشاط الشركة، وتداولها منفصل عن الشركة.
5-ذكرتم أن نسبة الربا في أموال المؤسسين واحد بالألف مع أنه ذكر في نشرة الإصدار أن نسبة الفائدة على أموال المؤسسين 4.85%.
النسبة التي ذكرت في السؤال وهي 4.85% هي الفائدة السنوية المستحقة على أموال المؤسسين، إلا أن مدة بقاء هذه الأموال في الودائع إلى وقت التأسيس لا تتعدى بضعة أسابيع، فالفائدة المستحقة عليها خلال هذه الفترة لا تتجاوز واحداً بالألف.
6- هل صحيح أن نسبة الاستثمارات المحرمة 80% ونسبة الإيرادات المحرمة 100% ؟ وبهذا لا تنطبق على الشركة المعايير التي يضعها المجوزون للشركات المختلطة.
هذا الكلام غير صحيح، فإن الشركة لا تخرج عن المعايير التي يضعها القائلون بالمختلطة؛ لأمرين: الأول: أن من العلماء من يرى جواز المساهمة في الشركات المختلطة التي نشاطها في أغراضٍ مباحة بصرف النظر عن نسبة القروض أو الاستثمارات المحرمة التي عندها، ومن هؤلاء العلامة الشيخ محمد العثيمين والعلامة الشيخ عبد الله بن بسام رحمهما الله.(3/92)
والثاني: أن الهيئات الشرعية التي تضع معايير لاستثمارات الشركة وإيراداتها المحرمة تقصد من ذلك التأكد من أن الشركة لا تعتمد في دخلها على الاستثمارات النقدية المحرمة وإنما تعتمد على الأنشطة التشغيلية، وشركة ينساب لم تتأسس بعد فضلاً عن أن تكون قد بدأت نشاطها، وهذه المرحلة هي مرحلة تجميع الأموال للبدء في النشاط. فمعاملة الشركة تحت التأسيس بالشركة القائمة بمعيار واحد حرفية تدل على عدم فهم المقصود من هذا المعيار.
ومع ذلك فإن استثمارات شركة ينساب وإيراداتها المحرمة لا تتعارض مع معايير الهيئات الشرعية؛ لأمور:
1-أن الإيرادات والاستثمارات المذكورة في نشرة الإصدار متوقعة في لحظةٍ زمنيةٍ قادمة، ومن المؤكد أن تلك التوقعات ستتغير بشكلً جذري قبل تلك اللحظة و بعدها، بينما معايير الهيئات الشرعية تتحدث عن بنودٍ محققة في فترة سابقة.
2- أن الشخص حين يكتتب فإنه يدفع المال مقابل أسهمٍ خاليةٍ تماماً من أي فائدة أو استثمار محرم؛ لأن أموال الاكتتاب هي زيادة في رأس المال، وليست شراءً لحصةٍ موجودة في شركةٍ قائمة.
3-أننا حين نقيم الشركة من الناحية الشرعية فإننا ننظر إلى الأموال التي تدفقت على خزينة الشركة خلال فترة معينة، والأموال المتدفقة على الشركة خلال فترة التأسيس منها خمس مليارات أموال مباحة -وهي رؤوس أموال المؤسسين والمساهمين- وتعادل تسعمائة وتسعة وتسعين بالألف من أموال الشركة، وأربعة ملايين -وهي فوائد على أموال المؤسسين- وتعادل واحد بالألف من أموال الشركة.
7- هل صحيح أن الشركة اقترضت من سابك مبلغ مليار ومائتي مليون ريال وسترد هذا القرض بفائدة تساوي عشرة ملايين ريال، وأن نسبة القرض المحرم 17% ، ونسبة الفائدة إلى المصروفات 7.5%؟
هذا غير صحيح، فسابك بدأت بتنفيذ المشروع لصالح ينساب وستخصم تكلفة المشروع الذي نفذته من حصتها في الشركة الجديدة، فالعقد هنا ليس عقد قرضٍ أصلاً، ويدرج هذا التعامل في جميع الشركات تحت بند ( ديون تجارية دائنة) ويدخل تحته عقود التوريد والمقاولات والبيوع الآجلة ونحوها من المديونيات. وفرق كبير بين القرض والدين، فالدين أعم من القرض، ولو اعتبر هذا قرضاً لحرمت جميع الشركات إذ لا تخلو أي شركة أو مؤسسة تجارية من ديون مستحقة. وأما العشرة ملايين فهي خدمة إسناد مستحقة للجهة المشرفة على تنفيذ المشروع فلا تكيف لاشرعاً ولا نظاماً ولا محاسبياً بأنها فوائد.
وأما ما ذكر في السؤال من أن نسبة الفائدة إلى المصروفات 7.5% فهي مبنية على فهمٍ خاطئ، إذ يجب أن تنسب الفوائد المدفوعة -على فرض وجودها- إلى جميع المصروفات لا أن يقتصر على بندٍ واحدٍ من بنود المصروفات. فالشركة الجديدة ستدفع لسابك مليار ومائتي مليون ريال، فلو فرضنا أن العشرة ملايين ريال فوائد كما ذكر في السؤال -مع أنها ليست كذلك- فإن نسبة الفوائد 8.% أي أقل من واحد بالمائة.
8-هل صحيح أن الشركة ستأخذ تمويلاً من بعض البنوك بعد الاكتتاب بمقدار 13 مليار؟
نعم هذا صحيح، إلا أن هذا التمويل قد يكون بقروض تجارية، وقد يكون بمرابحات إسلامية، كما ذكر في نشرة الإصدار، ولن يكون هذا التمويل إلا بعد تداول أسهم الشركة بثلاثة أشهر . فعلى هذا لا بأس بالاكتتاب ولكن من أراد أن يبيع أسهمه خلال الأشهر الثلاثة الأولى من بدء التداول فلا شيء عليه، وأما إن احتفظ بها إلى ما بعد ذلك فعليه أن يتابع وضع الشركة فإن كان التمويل الذي أخذته إسلامياً - وهذا هو المؤمل في القائمين على الشركة- فلا شيء عليه، وإن كان غير ذلك فقد يلزم المساهم أن يبيع أسهمه في ذلك الوقت وله ثمنها كله، ولا يلزمه إخراج شيء منها.
وسيتم بيان نوع التمويل الذي أخذته الشركة في حينه على الموقع :www.shubily.com
وإني لأرجو الله أن يكون جميع التمويل الذي ستأخذه الشركة تمويلاً إسلامياً، وأدعو القائمين على الشركة إلى تذكر الأمانة التي أنيطت في أعناقهم وأنهم سيحاسبون عليها يوم القيامة.
9- هل يجوز الاكتتاب باسم شخصٍ آخر؟
إذا كان ذلك على سبيل المشاركة كأن يقول: خذ هذا المال ولي نصف الربح ولك نصفه فيجوز، وأما إذا كان على سبيل المعاوضة كأن يقول، ساهم باسمك عني ولك ألف ريال، فلا يصح.
10- هل يجوز بيع الأسهم بعد طرحها للتداول؟
نعم، يجوز ذلك؛ لأن الأسهم صكوك متداولة، ولأن للشركة موجودات متعددة غير النقود، فقد بدئ بتنفيذ المجمع الصناعي منذ أكثر من سنة وما صرف فيه يزيد على مليار ومائتي مليون، فضلاً عن الحقوق المعنوية للشركة، ومنافع الموظفين فيها وقت التأسيس الذين يصل عددهم إلى المئات.
وختاماً فإني أوجه النصيحة لإخواني القائمين على الشركة بأن يتقوا الله في الأموال التي تحت أيديهم، وأن يبادروا بتحويل أموال المؤسسين إلى ودائع استثمارية موافقة للشرع، وأن يكون التمويل الذي ستحصل عليه الشركة تمويلاً إسلامياً، وقد كتبت مذكر تشتمل على مقترحات لصيغة تمويل شرعية وبعثت بها إلى المسئولين في الشركة من خلال موقع شركة سابك على الانترنت، فأرجو أن يعتنوا بهذا المقترح لعله يكون أنموذجاً لتمويل شرعي يفي بحاجة الشركة وتحذوها به الشركات الأخرى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
السؤال
ما حكم الاكتتاب في شركة ينساب؟
الاجابة ( للدكتور. محمد العصيمي )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لقد اطلعت على النشرة المفصلة للاكتتاب في شركة ينساب، ومع أنها شركة حديثة تحت التأسيس، ولكنها أودعت الجزء الخاص من رأس المال الذي اكتتب به المؤسسون ومقداره [5.5 مليار ريال] في حسابات ربوية [وديعة لأجل، ص61] بفائدة ربوية بنسبة 4.85% واستحقت مبلغاً مقداره 4.3 مليون ريال، فهي بذلك ليست نقية، فلا أرى جواز الاكتتاب بها ما دامت على وضعها الحالي.
وقد حز في نفسي جداً أن يحرم المواطنون الذين يبحثون عن الرزق الحلال من المشاركة في اكتتاب بمثل هذه الضخامة بسبب الإيداع الربوي السابق ذكره، وقد كان بإمكان الشركة أن تستثمر هذه الوديعة عن طريق أحد المنتجات الإسلامية مثل الاستثمار المباشر المنضبط بالضوابط الشرعية أو الاستثمار بالوكالة، وهما يقدمان عند أكثر من بنك سعودي الآن. والشركة مقدمة على تمويل بمبلغ يقارب 13 مليار ريال، وقد نصت الشركة مشكورة [ص29] على أن البنك الملتزم بتدبير القروض يقوم "حاليا بالتفاوض مع المصارف الدولية والإقليمية والمحلية وبعض الجهات الشبه حكومية لتقديم قروض تجارية وإسلامية عادية للمشروع"، وحيث ذكر في "تكلفة المشروع وتمويله" [ص28]، على اشتمال التكلفة على الإنشاء والتوريد وشراء قطع الغيار. فلعل الشركة تقتصر على التمويل الإسلامي فقط، وهو متاح في البنوك السعودية سواء الإسلامية أو البنوك ذات النوافذ الإسلامية، مثل: الاستصناع، وعقود التوريد الإسلامية، والشراء بالأجل، وغيرها.
ولا يفوتني أن أشكر الشركة على نصها في النشرة على خضوع "عقود الإنشاء والهندسة والتوريد والبناء للقوانين المعمول بها في المملكة العربية السعودية" [ص48]، ولا شك أن ذلك يشمل كذلك عقود التمويل.
وفي الختام، فإني أدعو مسؤولي الشركة للإعلان عاجلاً عن تخلصهم من الربا المستحق على الودائع لأجل السابق ذكرها، وعن عزمهم على التمويل الإسلامي حتى يتيحوا المجال لكافة الشعب السعودي للاكتتاب، وأؤكد أنه ما لم يعلنوا ذلك فإن الشركة في وضعها الحالي ليست نقية، ولا يجوز الاكتتاب بها. والله أعلم.(3/93)
فتوى الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي
الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للقضاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فشركة ينبع الوطنية للبتروكيماويات "ينساب" شركة مساهمة تحت التأسيس تقوم بأغراض صناعية مباحة لإنتاج بعض المشتقات البتروكيماوية، ومن خلال دراسة نشرة الإصدار المفصّلة عن هذه الشركة -كما في موقع هيئة سوق المال- تبيّن أنها قد حصلت على وديعة لأجل (قرض بفائدة) من بعض البنوك المحلية على الأرصدة الموجودة في البنك من رأس المال الذي اكتتب به المؤسسون والذي يُقَدّر بـ (5.566.657.000) مليار ريال سعودي، وقد نصّت نشرة الإصدار أن هذه الوديعة تحقق فائدة ربوية سنوية بنسبة (4.85%)، ولا شك أن هذه الفائدة الربوية محرّمة بإجماع العلماء.
والعمولة التي تحصّلتها الشركة جرّاء هذه الوديعة، والتي ذُكرت في نشرة الإصدار بأنها (4.375.000) مليون ريال كانت يسيرة تقدّر بواحد من الألف؛ بسبب أن أموال المكتتبين لم تكتمل بعد، وبسبب قصر وقت الاستثمار بها، بدليل أن الفائدة قد تقرر بأنها (4.85%) سنوية، مع العلم بأن الشركة قد نصت في نشرة الإصدار بأن إنتاجها سوف يتم فعليًا خلال عام 2008م. ومن ثَمّ فسوف تكون أرباحها -إذا استمر الأمر على هذا الوضع- كلها من القرض بفائدة إلى حين الإنتاج تقريبًا.
وبالتالي فلا يسوغ تجويز ذلك؛ بحجة أن هذه الفائدة يسيرة تقدّر بواحد من الألف. علمًا بأن الشركة قد حصلت على التزام واتفاق من قبل بعض البنوك تمكنها من الحصول على قروض تجارية (فوائد ربوية)، ومرابحات إسلامية عادية، ولا شك أن هذا الالتزام والاتفاق على التمويل بالربا، وإن لم يتحقق فعليًا فإنه محرّم، لأن كلّ اشتراط أو التزام يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- فهو باطل، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطُ الله أوثق" متفق عليه. ومعنى (ليس في كتاب الله) أي مخالف لما جاء به الوحيين، وقد جاء النصّ الجلي الصريح بقوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون".
وإذا كان الأمر كذلك فإن المساهمة في شراء أسهم شركة (ينساب) محرّم لأجل القرض الربوي، وقد ذهب جماهير أهل العلم المعاصرين، وغالب المجامع الفقهية -كالمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخنا ابن باز -رحمه الله -، إلى حرمة المساهمة في شراء أسهم الشركات، التي أصل تعاملها مباح، غير أنها أقرضت أو اقترضت بالربا قلّ الربا أو كثر، لأن المساهم يُعَدُّ شريكًا في رأس مال الشركة، والسهم يمثل حصيلة مشاعة من صافي موجودات الشركة.
ولم يأت دليل شرعي، أو نصٌّ فقهي يبيح ربا النَّسأ، وغالب الشركات المساهمة التي تُقرض أو تقترض بالربا، إنما هو ربا النسأ المجمع على تحريمه.
ثم إن غالب استدلال من جوّز يسير الربا، إنما احتج ببعض القواعد الفقهية والضوابط المذهبيّة، ولا شك أن الاحتجاج بالقاعدة الفقهية غير الكلية، والتي ليست هي نصّا شرعيًا، محلُّ اختلاف عريض بين أهل العلم أكثرهم على منعه، واستدلال بعض الفضلاء بجواز هذه الشركات لأنها مما عمّت به البلوى، وعمومُ البلوى من أسباب التخفيف على المكلفين.
فيقال: إن إعمال هذه القاعدة، إنما هو فيما لا يمكن صونه، ولا التحرّز منه، وهذا إنما يتأتّى في بلد لا يكاد يوجد فيه استثمارات مباحة، أو في بلد لا تموِّل بنوكها إلا بالقرض بفائدة، وكل هذا غير متحقق في بلادنا حرسها الله وحفظها من كلِّ مكروه، فكل البنوك المحلية سواء التقليدية منها أو الإسلامية كلها تموِّل بالتمويل الإسلامي مع اختلافٍ في بعضها بالضوابط التي تلتزمها.
ثم إن القائلين بجواز شراء أسهم الشركات المختلطة قد اشترطوا بألا يتجاوز الاستثمار المحرم عن (30%) أو (15%) على اختلاف بينهم من إجمالي موجودات الشركة أو من القيمة السوقية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الاستثمار المحرم في شركة (ينساب) يزيد عن (80%)، وبالتالي فهو لا يتوافق حتى مع القائلين بجواز شراء أسهم الشركات المختلطة، فيلزم أن تكون محرمة عندهم.
وقد تألمت كثيرًا حينما اطلعت على نشرة الإصدار، وما فيها من استثمارات محرّمة وتسهيلات بنكية، كان لهذه الشركة مندوحة في استثمارها بالطرق الشرعية المباحة، والمتوفرة في جميع البنوك المحلية.
فهذا الأمر مخالف للنصوص الشرعية والأنظمة المرعية في هذه البلاد التي جعلت الكتاب والسنة هما مصدر التشريع والتحاكم.
ولا شك أن هذا التصرف سوف يحرم أناساً كثيرين يتطلعون إلى الرزق الحلال النقي من المساهمة في مثل هذه الشركات المختلطة، وكم كانوا ينتظرون مثل هذه الشركات العملاقة للمساهمة فيها لزيادة مدّخراتهم في السوق الأولية للأسواق المالية لضعف خبرتهم في السوق الثانوية، غير أنهم فوجئوا بمثل هذه القروض المحرّمة.
وكم هو جميل وحسن أن يُعلن مسؤولو الشركة عن تخلّصهم من القروض الربوية، وتحويلها إلى استثمارات إسلامية، حتى يتمكن سائر المواطنين من الاكتتاب في مثل هذه الشركة العملاقة، وليكونوا قُدوة صالحة لغيرهم من مؤسسي الشركات المساهمة في الشجاعة للرجوع إلى الحقِّ والخير، ولا غرو فهذه البلاد بلادٌ مباركة، وأهلها خيرون.
بلادٌ أعزَّتها جيوش محمد *** فما عُذرها أن لا تعزَّ محمدًا.
أسأل الله أن يكلل هذه الجهود بالنجاح، وأن يعين أهل الخير للرجوع إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
فتوى الشيخ الدكتور: سعد بن تركي بن محمد الخثلان
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
أفادت نشرة الإصدار عن هذه الشركة بأنها قد حصلت على عمولات بنكية كما وقَّعت اتفاقية مع بعض البنوك تمكنها من الحصول على قروض تجارية (بفوائد ربوية) ومرابحة إسلامية، فهي بهذا تعد من الشركات المختلطة، وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم الشركات المختلطة، فمنهم من أجاز بضوابط، ومنهم من منعها، والقول بالمنع هو الأقرب –والله تعالى أعلم- وهو رأي جماهير العلماء المعاصرين، وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، وجاء في قرار مجمع الفقه بالرابطة –برئاسة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى-: (.. والتحريم في ذلك واضح؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا -مع علم المشتري بذلك- يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا، لأن السهم يمثل جزءاً شائعاً من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة أو تقترضه بفائدة فللمساهم نصيب منه؛ لأن الذين يباشرون الاقتراض والإقراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز) ا.هـ.(3/94)
ومع أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا أن الشريعة الإسلامية قد شددت في الربا تشديداً بالغاً، ولو كان الربا يسيراً لا يكاد يذكر، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) قالوا: نعم، فنهى عن ذلك. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح، فلم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيع الرطب بالتمر، ولو مع التماثل في الكيل والتقابض -فلا يجوز بيع صاع تمر بصاع رطب ولو مع التقابض- لأن الرطب سوف ينقص إذا يبس، مع أن الفارق يسير، بل يسير جداً، ومع ذلك منع منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا مما يرجح القول بمنع الاكتتاب وتداول الشركات المختلطة ولو كانت نسبة الربا فيها قليلة، وبهذا يتبين تحريم الاكتتاب في هذه الشركة.
وإنني أدعو القائمين على هذه الشركة أن يتقوا الله -تعالى- ويذروا الربا؛ فإن الربا من كبائر الذنوب، وقد آذن الله تعالى فيه بالحرب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
رسائل عاجلة في شركة ينساب
د. يوسف بن عبدالله الأحمد
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام . الرياض
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد .
فقد واجهت كما واجه غيري من المشايخ وطلاب العلم كماً هائلاً من أسئلة الناس عن حكم الاكتتاب في شركة "ينساب" ، وهي ظاهرة طيبة تتزايد ولله الحمد مع نشر الوعي في المجتمع ، وهي دلالة على حرص الناس على البعد عما حرم الله ، وقد وجد الناس فراغاً واضحاً في الفتيا الجماعية، حتى بادر بعض المشايخ وفقهم الله بالفتيا الفردية المكتوبة ، أو الشفوية في القنوات الفضائية، فرأيت من المناسب أن أبعث حول هذا الموضوع بثلاث رسائل :
الأولى: رسالة عامة في بيان حكم الاكتتاب فيها .
والثانية: إلى طلاب العلم المهتمين بهذه المسائل .
والثالثة: إلى رئيس أعضاء مجلس إدارة شركة "ينساب".
أما الأولى : فبعد النظر في نشرة الإصدار لشركة ينبع الوطنية للبتروكيماويات " ينساب" الصادرة في 5/11/1426هـ، تبين أنها قائمة على النظام الرأسمالي الربوي، وأنها لم تلتزم بشرع الله تعالى في معاملاتها المالية، ويظهر ذلك من خلال الآتي :
أولاً : أعلنت "ينساب" عزمها على إيداعات ربوية في بنوك محلية، وأن النسبة الربوية مقدارها (4.85% )، ومقدار الإيداع الربوي بالريالات (5.556.657.000) والذي يمثل (98.58%) من مجموع رأس مال الشركة (5.625.000.000) ، وأن رأس المال يشمل أسهم المكتتبين المؤسسين وعموم الناس .
وقد صرحت الشركة بأنها بدأت مزاولة النشاط المالي لها بإيداع ما تحصل لها من أموال المؤسسين، وقد عاد إليها من الفوائد الربوية حتى صدور النشرة (4.375.000ريالاً).
ثانياً : التزمت "ينساب" بفائدة ربوية لشركة سابك مقدارها (10.000.000ريال ) مقابل قرض مالي مقداره (1.208.510.000ريال ) .
ثالثاً : حصلت سابك لصالح "ينساب" التزاماً خطياً من أحد البنوك الربوية العالمية ABN AMRO على قرض ربوي صرف قيمته (13.125.000.000) ثلاثة عشر ملياراً، ومائة وخمس وعشرون مليون ريال سعودي .
ثم ذكرت النشرة بأن البنك - وليس الشركة - يقوم الآن بالتفاوض مع المصارف الدولية والإقليمية والمحلية لتقديم قروض تجارية وإسلامية عادية للمشروع .
وهذا يعني أن البنك سيحصل هذه القروض مع من سيتم الاتفاق معه، ثم سيقرضها البنكُ للشركة بفائدة ربوية، وعليه فإن البنك لو حصَّل بعض التمويل بالمرابحة الإسلامية فإنه سيقرضها للشركة " ينساب " بقرض ربوي .
وبناءً على ما سبق؛ فإن الاكتتاب في شركة ينساب محرم شرعاً.
ووجه التحريم : أن المكتتب شريك معهم، ومفوض لهم في الإدارة المالية، وموافق على ما تضمنته نشرة الإصدار، الذي وقع العقد معهم بناءً عليها، ولا فرق في التحريم بين المكتتب والمساهم بعد التداول والمضارب .
والربا أعظم ذنب في الإسلام بعد الكفر بالله، وقتل النفس التي حرم الله، حتى لو كان يسيراً، ومن تأمل النصوص الواردة في حرمة الربا أدرك عظم هذه الجريمة، ومن هذه النصوص :
قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)) (البقرة 278، 279) .
وحديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: ((لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه. وقال: هم سواء)) أخرجه مسلم .
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية)) أخرجه أحمد بسند صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ..)) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. والحديث صحيح بمجموع شواهده .
وليس من المناسب بعد هذه النصوص تخفيف كلمة الربا عند الناس كتسمية الفوائد الربوية بالعوائد البنكية، وتسمية الشركات الربوية بالمختلطة، وتسمية البنوك الربوية بالتقليدية، والصواب أن تسمى الأمور بأسمائها الشرعية؛ فيقال بنك ربوي، وشركة مختلطة بالربا، ونحو ذلك، حتى لا يغرر الناس في دينهم .
الرسالة الثانية : إلى أهل العلم الذي أفتوا بالجواز أو المنع أو توقفوا .
إن الأيسر للناس، والأصلح لهم، والأرفق بهم، ما كان في شرع الله حتى لو كان الحكم بالتحريم، والعلماء إنما يبينون الحكم للناس وفق الكتاب والسنة، ولا يقدمون الرأي على النص، وكل مصلحة تعارض النص فهي ملغاة كما هو مقرر في علم الأصول .
ثم إن الفتيا بالجواز في هذه الشركة وأمثالها أوسع من أن تكون جواباً على سؤال، بل يترتب عليها عدد من المفاسد الكبرى؛ فإن الإصلاح في الميدان الاقتصادي وإبعاده عن الربا، وما حرم الله لا يزال متأخراً جداً مقارنة بغيره، وهذه الشركة وأمثالها قد وضعت مؤسسات ضخمة في الاستشارة المالية والقانوية، ودراسة السوق والعلاقات العامة، بينما لم تضع جهة أو لجنة للاستشارة الشرعية ؛ فهي تتبنى الإعراض عن اللجان الشرعية ، ويبقى مجلس الإدارة على وجل حتى يتقدم واحد أو أكثر من أهل العلم بالفتيا بالجواز، فيقبل الناس أفواجاً على الاكتتاب، وقد ظن المفتي بالجواز أن في ذلك المصلحة ، والرفق بالناس، والتدرج في الإصلاح .
وليس الأمر كذلك ، فإن الفتيا بالجواز من أهم أسباب تأخر المشروع الإصلاحي في الميدان الاقتصادي؛ لأن الفتيا بالجواز سبب أساس في بقاء الشركات الربوية؛ وإضعاف الشركات الإسلامية الناشئة، وقد شهد الواقع بأن الفتيا بالجواز: أكبر وسيلة تسويقية للاكتتاب، وارتفاع الأسهم بعد التداول، وضخ الأموال الطائلة في جيوب أكلة الربا من المكتتبين المؤسسين، أو البنوك الربوية ؛ لأن معظم الناس يقدم أو يحجم بناءً على الفتوى .
ولما كان الأمر بهذه المثابة، فإني أدعوا أهل العلم والفضل إلى الفتيا الجماعية في هذه القضية وأمثالها، واشتراط وضع اللجان الشرعية والرقابية المستقلة، والتي ترشحها المجامع الفقهية، أو دار الإفتاء ، أو الأقسام الفقهية في الكليات الشرعية .(3/95)
الرسالة الثالثة : إلى رئيس مجلس إدارة شركتي "سابك" و "ينساب" وأعضائهما، فإني أوصيهم بتقوى الله تعالى، وأدعوهم إلى إعلان التوبة إليه من جريمة الربا وإشاعته، والمسارعة في التزام شرع الله ، فإن الدنيا فانية، والآخرة هي دار القرار، وأن يتذكروا بأنهم داخلين في وعيد حديث جابر مرفوعاً: ((لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)) أخرجه مسلم.
وأن إصرارهم على هذا العمل إيذان بحرب من الله ورسوله.
قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))(البقرة:278).
وبهذا تنتهي الرسائل ، والحمد لله رب العالمين,,,
=============
حكم الاكتتاب بشركة البحر الأحمر
المجيب : خالد بن إبراهيم الدعيجي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أولاً: معلومات عن الشركة مستقاة من نشرة الإصدار:
1. نشاط هذه الشركة في تطوير العقارات وبيعها، وفي تصنيع المباني الجاهزة وتسويقها. وهو نشاط مباح. ويبلغ رأسمالها 300 مليون ريال.
2. ارتبطت الشركة بعقود سحب على المكشوف (اقتراض بفائدة) مع بعض البنوك.
3. أودعت 25مليون ريال تمثل ما لا يقل عن ثمانية في المائة من إجمالي أصول الشركة لدى البنوك في ودائع لأجل.
4. بلغ صافي الإيرادات الربوية (835 ألف ريال) تمثل ما نسبته 0.29% أي أقل من 1% - من إيرادات الشركة البالغة 276 مليون ريال.
ثانياً: حكم الاكتتاب بشركة البحر الأحمر للأسكان:
اختلف مشايخنا في حكم الاكتتاب في هذه الشركة على قولين:
القول الأول: جواز الاكتتاب. وهذا ما رجحه شيخنا الدكتور يوسف الشبيلي - حفظه الله - بناء على أن المحرم فيها يسير، ولا يمنع المشاركة. ويلزم من اكتتب فيها التخلص من هذا المحرم متى ما استحق شيئاً من الأرباح الدورية التي توزعها الشركة.
القول الثاني: تحريم الاكتتاب. وهذا ما رجحه شيخنا الدكتور محمد العصيمي وشيخنا الدكتور عبد العزيز الفوزان.- حفظهما الله تعالى - بناء على أنه لا فرق بين قليل الربا وكثيره، فمتى تعاملت الشركة بالربا إيداعا أو إقراضا واقتراضاً فإنه يحرم الاكتتاب فيها، سواء كان المبلغ قليلا أم كثيراً.
والذي يظهر جواز الاكتتاب بهذه الشركة بشرطين:
الأول: أن يحتسب المكتتب على أعضاء مجلس إدارة الشركة، ويناصحهم بالتي هي أحسن، وينهاهم عن منكر الربا، الذي تمارسه الشركة. وأعلى درجات المناصحة هي زيارة أعضاء مجلس الإدارة ومشافهتم ومطالبتهم بتنقية الشركة، فإن هذا من أقل حقوق المساهم عليهم. فإن لم يستطع زيارتهم فعليه حضور الجمعية العمومية التي تعقدها الشركة، والمطالبة بتنقية الشركة من الربا، فإن لم يستطع ذلك فلا أقل من الاتصال الهاتفي بأعضاء مجلس الإدارة. ومطالبتهم بذلك. وقد تكون هناك أساليب كثيرة للاحتساب على هذه الشركة يمكن طرحها في المنتديات.
الشرط الثاني: إذا لم تستجب الشركة لمطالب المساهمين، وأصرت على منكر الربا، فيلزم بيع أسهم الشركة، وأخذ رأس المال، والتخلص من الزائد وصرفه على جمعيات البر، وتحفيظ القرآن الكريم، أو الفقراء والمساكين.
فمن وجد في نفسه القدرة على هذين الشرطين فلا بأس له بالاكتتاب في هذه الشركة، بل يستحب له ذلك لأن هذا من التعاون على البر والتقوى. وأرجو أن يؤجر على هذه النية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
خالد بن إبراهيم الدعيجي
19/7/1427هـ
الإيميل: aldoijy@awalnet.net.sa
ما حكم الاكتتاب في شركة البحر الأحمر لخدمات الإسكان؟
المجيب : د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد
فإن نشاط هذه الشركة في تطوير العقارات وبيعها، وفي تصنيع المباني الجاهزة وتسويقها. وهو نشاط مباح. ويبلغ رأسمالها 300 مليون ريال. وبناء على ما جاء في نشرة الإصدار فقد ارتبطت الشركة بعقود سحب على المكشوف (اقتراض بفائدة) مع بعض البنوك، كما أودعت جزءً من أموالها لدى البنوك في ودائع لأجل، وبلغ صافي إيرادات الفوائد (835 ألف ريال) تمثل ما نسبته 0.29% -أي أقل من 1% - من إيرادات الشركة البالغة 276 مليون ريال.
وبناء على ما سبق فالذي يظهر هو جواز الاكتتاب فيها؛ لأن الأسهم صكوك مالية مباحة، فمتى خالطها الحرام اليسير فلا يحرم السهم كله بل يتخلص من الجزء المحرم منه، ويبقى ما عداه مباحاً، وإثم التعامل المحرم على من أذن به، لا سيما وأن أموال المكتتبين لن يذهب منها شيء في دعم نشاط الشركة بل ستدفع جميعها للمساهم البائع وفق ما جاء في نشرة الإصدار.
ويلزم المساهم التطهير متى ما استحق شيئاً من الأرباح الدورية التي توزعها الشركة، أما الأرباح الناتجة من بيع الأسهم فلا يلزم التخلص من شيء منها. وهذا القول في خكم هذا النوع من الشركات هو اختيار شيخنا العلامة محمد بن عثيمين والعلامة الشيخ عبد الله بن بسام رحمهما الله والمجلس الشرعي للمعايير المحاسبية ومعظم الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية. والله أعلم.
ماحكم الاكتتاب في شركة البحر الاحمر
المجيب : الشيخ: محمد بن سعود العصيمي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن نشاط الشركة نشاط جائز، ولكن للأسف نصت نشرة الاكتتاب على أن للشركة ودائع بنكية بأجل بقيمة 25مليون ريال تمثل ما لا يقل عن ثمانية في المائة من إجمالي أصول الشركة، كذلك هناك قروض ربوية وإن كانت يسيرة، إلا أنها محرمة، وهناك مبالغ مماثلة حصلت عليها الشركة عبارة عن فوائد ربوية.
وحيث إن المجامع الفقهية واللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء تمنع من الاكتتاب في مثل تلك الشركات التي تستثمر وتقترض بالربا، فإني لا أرى جواز الاكتتاب بها.
وأنصح القائمين عليها بتقوى الله عز وجل، وشكر نعمه في تمكينهم من الاكتتاب والاسترباح منه حيث إن السهم سيكون بعلاوة إصدار، وشكر النعم يكون بطاعة المنعم بها، كما أنصحهم بتشغيل المسلمين من الموظفين، فقد طفحت النشرة بأسماء غير مسلمين مع أن كثيرا من تلك الأعمال يمكن توظيف المسلمين فيها.
قال الله تبارك وتعالى: [وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ]. وأنصح الشركة كذلك بتعديل بعض الفقرات في النظام الأساسي للشركة خاصة الفقرات الخاصة بإمكانية إصدار السندات والأسهم الممتازة، والنص على أن تلك الأدوات يمكن أن تصدر فقط بالطريقة الشرعية، وهي الصكوك وبعض أنواع الأسهم الممتازة الجائزة شرعا.
كذلك أنصحهم بتقوى الله وترك التأمين التجاري والعمل على اختيار التأمين التعاوني المجمع على جوازه.
أسأل الله أن يمن علينا وعلى كل مسلم بالهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============
مغالطات الأستاذ عبد العزيز القاسم في قناة العربية في برنامج " إضاءات "
خالد بن عبدالله الغليقة
رقم (1) حول البنوك(3/96)
يقول المحامي عبد العزيز القاسم: " في الستينات كان الفقهاء يقولون: البنوك كلها حرام، وبهذا الإجمال تأخرت البنوك الإسلامية في السعودية حوالي 25 سنة، في بلاد أخرى سمح الفقهاء بتفصيل معنى البنوك، وبالفعل تطور مفهوم البنك التعاوني ثم البنك الإسلامي المتعامل مع السلع ثم تطور لدينا الآن قطاع كبير وهو من أسرع القطاعات نمواً في العالم الإسلامي وهو المصرفية الإسلامية،الخيار الأول الذي هو حجز أنواع البنوك ومصطلح البنوك حجزاً احتياطياً تحفظياً أدى إلى سيادة البنوك، لما انفتح المجال الفقهي لمناقشة المعاملات البنكية مناقشة موضوعية وإيجاد المخارج والحلول التي تلبي الاحتياجات تحول جزء كبير من النظام المصرفي سواء في المملكة أو في بلدان أخرى إلى أن يكون متوافقا مع الشريعة هذا نموذج " .
هذا الكلام فيه مغالطة تاريخية ومنطق معكوس يتبين ذلك من عدة أدلة:
الدليل الأول : المغالطة التاريخية وهي دعواه " أن العلماء حرموا كلمة " بنك " فكان السبب في إنشاء البنوك الربوية وعدم إنشاء البنوك الإسلامية " .
أولاً : العلماء في هذه البلاد كانوا متمسكين بالدعوة الى تطبيق الشريعة ورافضين أن تقام أنظمة تخالف الشريعة، وداعين إلى اقتصاد إسلامي، ولم يكن همهم ذات النظام أو شكله ، أو كلمة بنك، بل كانوا يحرصون على المضمون ، وهذا الأمر هو الغالب على ما يسمى المؤسسة الدينية، ولهذا جاء نظام مؤسسة النقد منسجماً مع هذه الرغبة ومتمشياً مع هذا المطلب وهو تحريم ( الفائدة الربوية ) كما في نظام المؤسسة الصادر بتاريخ 25 رجب 1371هـ حيث قرار مجلس الوزراء رقم 103 الصادر بتاريخ 20جمادى الأولى 1377هـ :
ونصت المادة الثانية أنه ( لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة ؛ إنما يجوز لها فقط فرض رسوم لقاء الخدمات التي تؤديها للجمهور أو للحكومة وذلك لسد نفقات المؤسسة ) [1]. وينص في المادة السادسة منه على أنه " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال" [2].
وتقييدي لهذا الأمر بالغالب من علماء هذه البلاد؛ حتى لا يأتي كاتب أو متكلم ويأتي بشخص غير معتبر من هذه المنظومة ، أو معتبر لكن اجتهاده لا يمثل الغالب؛ فيعلن أمام الملأ سقوط هذا الغالب وهذه القاعدة بهذا الفرد وبذاك الاجتهاد الفردي.
وإذا أسقطنا القاعدة أو الغالب بالشاذ النادر لا يبقى لدينا منهج سليم أو شريعة نبي ومنهاج رسول ، فضلاً عن طريقة مجموعة من ورثة الأنبياء. ولا يقول بهذه الحجة، أو يستعمل هذا الأسلوب، إلا شخص لا يدرك بعد هذا الإيراد، ولا يفهم أثر هذا الاستدلال، أو ذاك الأسلوب على المسائل العلمية، وفي الأمر يقدح في عقلية المورد والمستدل.
ومما يبين ويوضح أن علماء هذه البلاد لا يهمهم المصطلح بحد ذاته وان لا مشاحة في الاصطلاح أو في النظام عندهم ما دام أنه لا يؤثر في المضمون، وبشرط عدم وجود آثار جانبية على المسلم الفرد أو على المجتمع بأكمله من جراء هذا المصطلح أو ذاك النظام ، يبين ذلك قبولهم نظام القضاء الغربي كآلية وهيكل ، ولا على هيئته مواد.
يقول الشيخ صالح الحصين في ذلك : " نظام القضاء في المملكة هو نفسه يرجع في مصدره التاريخي إلى الفقه الغربي وقد اقتبس من بعض التقنينات العربية المقتبسة بدورها من التقنينات الأوروبية. وقبل صدور هذا النظام عرض على هيئة كبار العلماء للمناقشة ، وكان حين عرضه على الهيئة مسبوقاً في أذهان عدد كبير من الأعضاء بجريدة طويلة دونها أحد العلماء من خارج المجلس تنتقد النظام في الجملة ، وتناقشه مادة مادة حاكمة على كثير من مواده بأنها مخالفة للشريعة أو غير موافقة لها.
وقد درست الهيئة النظام وتداولت الرأي حوله مادة مادة، وانتهت إلى الموافقة عليه دون تغيير ، عدا مادة واحدة جرى تعديلها صياغة ، وبقي مضمونها من دون تعديل [3].
ثانياً : أن سبب عدم إنشاء بنوك إسلامية ليس تحريم العلماء لكلمة (بنك) أو تحريمهم ( للنظام البنكي ) ؛ بل لقد نادى العلماء بإنشاء بنوك إسلامية وإن كانوا يسمونها أحياناً بتسميات أخرى ( كالمصارف الإسلامية ) .
ولو راجعنا تاريخ إنشاء البنوك الإسلامية في المملكة لتبين لنا أن القول بأن العلماء كانوا عقبة أمام إنشاء هذا النوع من البنوك " المصارف " فيه مغالطة تاريخية. فلو أخذنا شهادة متخصص وخبير وصاحب تجربة كبيرة في هذا المجال ، بل صاحب أول تجربة سعودية أيضاً وهو رجل الأعمال صالح كامل ، فقد شهد بأن الأمير محمد الفيصل هو رائد فكرة البنوك أو المصارف الإسلامية حيث قال: ( قولكم بأن صالح كامل هو رائد الاقتصاد الإسلامي فهذا افتراء على الحقيقة وللأمانة التاريخية فأول من بدأ فكرة البنوك الإسلامية هو الأمير محمد الفيصل وكنت أنا صالح كامل في ركابه ، وللتاريخ يجب أن تثبت هذه الحقائق ... صحيح أنا واصلت المسيرة ببعض الجهود المتعلقة في ذلك المجال، ولكن يظل فضل الريادة للأمير محمد الفيصل ) [4].
هذه الشهادة قد تكون من شخص ممارس، لكن هناك شهادة من شخص منظر وهو الشيخ عبد الله بن منيع حيث شهد لمحمد الفيصل بأنه أول من خاض تجربة المصارف الإسلامية أو الاستثمار الإسلامي من خلال البنوك حيث قال " من آثار دعوة الملك فيصل الى التضامن الإسلامي أن تبنى ابنه البار سمو الأمير محمد الفيصل اتجاهاً جاداً نحو الاستثمار الإسلامي " [5].
نرجع إلى شهادة محمد الفيصل في هذا المجال وحكايته لتاريخ فكرة إنشاء المصارف أو البنوك الإسلامية ، حتى يتضح لنا من هو الداعم والمساهم لفكرة البنوك أو المصارف الإسلامية ، ومن هو غير المقتنع بجدواها أو صدقها أو نجاحها وغير ذلك من الغايات الاقتصادية والسياسية والدينية . فالمعارضة والرفض للبنوك الإسلامية جاءت من عدة توجهات وجهات وهي كالتالي :
1. الاتجاه العلماني التغريبي :
يقول محمد الفيصل : " أنه في الوقت الذي ظهرت فيه فكرة البنوك الإسلامية في نهاية الستينات وبداية السبعينات الميلادية كان هنالك زخم كبير في الاتجاه العلماني التغريبي ؛ فاجتمع سوء الغرض والعداء لكل ما هو إسلامي من الأعداء في الداخل والخارج مع الجهل بالإسلام من جانب المسلمين" [6].
2. صندوق النقد الدولي :
يقول أحمد صلاح جمجوم متحدثاً عن مشروع محمد الفيصل وفكرته في البنوك الإسلامية: ( كانت هناك ضغوط من صندوق النقد الدولي ضد فكرة المشروع ) [7].
3. البنوك الربوية وممانعة القوى الغربية :
يقول محمد الفيصل : " لا ننسى معارضة البنوك الربوية وممانعة القوى الغربية التي كانت تدرك أبعاد الفكرة وتأثيرها على الاقتصاد الدولي بتعاظم الدور الإسلامي وتفعيل الاقتصاديات الإسلامية بشكل أكثر استقلالية عن الاقتصاد الربوي الذي يسيطر الغرب عليه" [8].
4. صحيفة الشرق الأوسط ورئيس تحريرها الأستاذ جهاد الخازن :
يقول محمد الفيصل: " هاجمتنا جريدة الشرق الأوسط ورئيس تحريرها جهاد الخازن وأطلقوا علينا اسماً جديداً هو " الإسلاربوية " [9].
5. اللجنة المكونة من الأمير مساعد بن عبد الرحمن وأنور علي ومحمد أبالخيل وهشام ناظر :
يقول محمد الفيصل تحت عنوان ( اللجنة التي رفضت مشروع المصرف ) :(3/97)
واخيراً شكلت لجنة من الأمير مساعد وأنا وأنور علي وهشام ناظر لدراسة المشروع ، فعقدت اللجنة اجتماعاً واحداً فقط ، وقالوا لي فيه إنهم غير موافقين وقال لي محمد أباالخيل بالنص : " ما عندي استعداد أسمح لك بالتلاعب باسم الإسلام !! ) طلبت أن نعمل محضراً للاجتماع فرفضوا وخرجوا " [10].
6. الدكتور إبراهيم الناصر في بحثه ( موقف الشريعة الإسلامية من المصارف )، فمن آرائه في البحث والتي تبين موقفه من المصارف أو البنوك الإسلامية فهو يعتبر من المساهمين في عدم أسلمة البنوك ، ومن الداعمين نظرياً في إضفاء الشرعية على البنوك التقليدية ، فعلى هذا جعلته سادس المواجهين لأسلمة البنوك أو إنشائها أو فكرتها .
يقول الدكتور الناصر " لن تكون هناك قوة إسلامية بدون اقتصاد، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون بنوك بلا فوائد ) وقال في خاتمة بحثه " " نستخلص ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة.... بذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو خطر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في تعزيز وهوية الاقتصاد الوطني ؛ فالعائد سيصبح ثابتاً ومضموناً " [11].
7. بعض المسؤولين في وزارة المالية ومؤسسة النقد :
حدثني الأستاذ عبد الرحمن بن عقيل قال: كان هناك فكرة تأسيس (بنك إسلامي). فقد اجتمعنا عدة مرات أنا والشيخ صالح الحصين والشيخ محمد الجميح والأستاذين عبد الله الغليقة وصلاح أباالخيل، وكانت الاجتماعات في مكتب الجميح في الملز، واجتمعنا بأحد المسؤولين في المالية وطلب أن نرفع له خطاباً في ذلك لكن لم يُرد على الخطاب .
يقول أحمد صلاح جمجوم : " لكن مشروع الأمير محمد ووجه بمعارضة شديدة من مؤسسة النقد ووزارة المالية التي كانت عضواً في اللجنة السعودية الأمريكية وكان موقف اللجنة نفسها معارضاً بنفس القدر، كما كانت هناك ضغوط من صندوق النقد الدولي ضد فكرة المشروع " [12].
وكما ذكر أيضاً أحمد صلاح جمجوم : " علمت أن المعاملة – معاملة مشروع محمد الفيصل - في مؤسسة النقد؛ فذهبت إلى محافظ المؤسسة وكان وقتها عبد العزيز القريشي ، وقلت له: علمت أن الموضوع أحيل إليك وكل ما أطلبه منك هو أن تقدم تقريرك من الناحية المالية الصرفة فحسب، بغض النظر عن كون المشروع إسلامياً ، وألا تدخل الجوانب السياسية أو الحسابات الدولية في التقرير. فاعتذر لأنني قلت له بأن رأيه إذا كان إيجابياً سوف يكون دليلي الذي سأجادل به من أجل الترخيص للمشروع " [13].
فسيستفاد من هذا التاريخ والتاريخ الذي دونه صاحب أول تجربة لإنشاء مصرف إسلامي وكما مر من قبل شهادة رجل الأعمال صالح كامل والشيخ عبد الله بن منيع فيه وكلاهما متخصص في هذا المجال فشهادتهم مقدمة وراجحة على من لم يدرك ذاك التاريخ. بل قد يكون لم يخلق في ذاك الزمن فنلاحظ من خلال هذا التاريخ الذي دونه وحكاه الأمير محمد الفيصل أنه لم يذكر من الرافضين لفكرة البنوك الإسلامية جهة علماء الشريعة في السعودية أو لجنة شرعية مع أنه اهتم بذكر اللجان التي عرضت عليها الفكرة وصرح برأيها .
يقول محمد الفيصل : " تقدمت بطلب للملك فيصل بإقامة بنك على أسس تجارية عام 1969م فحولني للأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية وقتها الذي حولني بدوره الى هيئة كبار العلماء لأدرس معهم الأمر ، ولم أطلع معهم بشيء فلم يكن بينهم متخصص أناقش معه المشروع " [14].
محمد الفيصل هنا يحكي عن حالته مع العلماء فلم يورد لهم رأياً ولم يذكر لهم قول في فكرته ، فلا ينسب لساكت قول مع أنه حريص كما قلت على تدوين ما قيل في الاجتماع حتى لو اقتضى الأمر باللهجة العامية ، كما حصل مع اللجنة الأخرى التي جابهته بالرفض .
الدليل الثاني على أن بعض العلماء كانوا مؤيدين لهذه الفكرة ومتحمسين لها في زمن الرفض قول محمد الفيصل متحدثاً عن تأسيس اتحاد البنوك الإسلامية : " كان أول اجتماع لنا في مكة وتبرع لنا الشيخ محمد بن علي الحركان بفيلا يملكها كمركز رئيسي وحضر حفل الافتتاح أمير المنطقة فواز بن عبد العزيز والشيخ عبد العزيز ابن باز وأثناء إلقاء الشيخ ابن باز كلمته جاءنا أمر بإلغاء الحفل ، فشكرت الحضور وأنهيت الحفل " [15].
يستفاد من هذه الحكاية دعم بعض العلماء ومساهمتهم ؛ فالشيخ محمد الحركان كان من العلماء البارزين المعروفين وقد منحهم فيلا ، والشيخ عبد العزيز ابن باز خطب فيهم فالأمر لا يحتاج الى تعليق أو دليل على وقفتهم مع المشروع وإلى جانب الفكرة .
الدليل الثالث : رأي مجلس هيئة كبار العلماء حكى عنهم الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ حيث قال : " لقد درس مجلس هيئة كبار العلماء هذا الموضوع ـ الربا في البنوك ـ وتبادل فيه الرأي مع ولي الأمر وبينّا له أنه لا يجوز الإبقاء على هذه البنوك الربوية ، وأن الواجب إيجاد بنوك إسلامية تقي الناس من الربا ويضعون بها أموالهم واستجاب وفقه الله ووعد بإيجاد مؤسسة عظيمة واسعة تكون فرجاً , للناس من هذا الربا وتوجد بها أموال المسلمين وتشغيل أموال المسلمين بالطرق الشرعية والطرق المباحة ، وسوف ينتهي أمرها قريباً إن شاء الله وذلك في مصرف الراجحي المعروف ؛ فإن مصرف الراجحي قد تأسس ليكون بنكاً إسلامياً وأن توضع فيه أموال المسلمين المساهمين وأن تستعمل ما شرع الله من المعاملات الإسلامية وأن يبتعد عما حرمه الله وسوف ـ إن شاء الله ـ يفتح قريباً ويستغنى به عما حرم الله من هذه المعاملات الربوية وسوف يقضي على هذه المعاملات المحرمة في هذه البلاد ونرجوا أن يقضى عليها في جميع البلاد الإسلامية ويرجع الناس للعقل والصواب فإن دين الإسلام فيه كل خير لهم ، وفيه كل سعادة وفيه كل عاقبة حميدة في الدنيا والآخرة " [16] .
الدليل الرابع: فقد صدر عن مجلس هيئة كبار العلماء فتوى يتضح فيها دعم العلماء ومساندتهم للعمل المصرفي والنظام البنكي الإسلامي وهذا نصها:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ الكريم نائب رئيس مجلس الإدارة التنفيذي للشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي (سلمه الله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد،
فأشير إلى الاستفتاء المقدم إلى مجلس هيئة كبار العلماء من الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي عن الأعمال التي تقوم بها الشركة وأفيدكم أن المجلس درس المضاربات السبع التي وردت في المذكرة المقدمة منكم أثناء انعقاده في الدورة الاستثنائية الخامسة واتخذ فيها القرار رقم 80 بتاريخ 1/3/1401هـ ونصه ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم ؛ وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداءً من العشرين من شهر صفر 1401هـ حتى غرة ربيع الأول منه اطلع المجلس على المذكرة الصادرة من الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي في الحادي عشر من ربيع الأول عام 1400هـ المرافقة لهذا القرار واستعرض المضاربات التالية مما تقوم به الشركة:
1- المضاربة الإسلامية الأولى ، ومدتها سنة ، من يناير 1979م حتى 1980م.
2- المضاربة الإسلامية الأولى ، ومدتها ثلاث سنوات ، من يناير 1979م حتى 1982م.
3- المضاربة الإسلامية الثانية ، ومدتها خمس سنوات ، من يونيو 1979م إلى يونيو 1984م.
4- المضاربة الإسلامية الثالثة للاستثمار والادخار والتكافل بين المسلمين ، ومدتها عشرون سنة ، من أكتوبر 1979م إلى أكتوبر 1999م.(3/98)
5- المضاربة الإسلامية الرابعة للاستثمار الجاري ومدتها خمسون سنة تبدأ من يناير 1980م.
6- المضاربة الربع سنوية للمؤسسات المالية الإسلامية ، يونيو 1979م.
وبعد دراسة هذه المضاربات ومناقشتها وتداول الرأي فيها رأى المجلس ما يلي:
1- يوصي المجلس المسلمين عامة ، وأهل الحل والعقد منهم خاصة ، أن يعملوا ما في وسعهم لحماية مجتمعاتهم من الربا والتعرض لمحاربة الله ورسوله. وأن يبادروا إلى إقامة البنوك والمصارف الإسلامية وتنشيطها حتى يتمكن الناس من إيداع أموالهم واستثماراتها بالطرق التي أباحها الله ويتقلص نشاط شركات التأمين والبنوك الربوية الموجودة الآن بين أظهر المسلمين.
2- يقرر المجلس بالأكثرية أنه لم يظهر له في هذه المضاربات ما يخالف الشريعة الإسلامية.
والله ولي التوفيق..وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. فآمل الإحاطة..وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.،،
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد [17]
ومما يدل على أن ليس للعلماء في السعودية موقف من كلمة ( بنك ) أو من النظام البنكي بل موقفهم ينصب على المضمون ، وهو نوع التعامل هل هو بالربا أم بالبيع الحلال إفتاء بعضهم بجواز العمل في البنوك الربوية وأخذ الراتب منه ، لكن بشرط أن لا يكون عمله يدخل في مسيرة الأعمال الربوية ، أما الراتب بشرط أن لا يكون من الربا يقيناً ، فمن هؤلاء العلماء الشيخ العلامة عبد الله بن حميد ( رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء ) رحمه الله فقد سئل السؤال التالي : أتيحت لي فرصة عمل في بنك بأن أعمل على الآلة الكاتبة ، وهذا البنك يتعامل في الربا ويتقاضاه ، فما حكم عملي به ؟ وما حكم ما أتقاضاه مع العلم بأني لا أكتب شيئاً يمس هذا الربا ؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً .
الجواب : نعم . لا بأس بذلك ما دام أن راتبك لم يكن من الربا عيناً ، بل هو مختلط ، يحتمل أن يكون من الربا ويحتمل أن لا يكون من الربا ؛ فما دام أن الأمر مشتبه فيجوز لك أخذه ، وخاصة أنك لا تساعد على كتابة الربا ولا تكتب النقود المشتبه بها للربا . فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله آكل الربا وموكله وكتابه وشاهديه " ، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم : " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " ؛ فالربا أمره عظيم وشأنه كبير وقد قال ابن دقيق العيد : " إن أكلة الربا تكون خاتمتهم سيئة والعياذ بالله كما هو مشاهد . والحاصل أنه إذا اشتبه الأمر عليك ودفع لك راتبك ولا تدري هل هو عين الربا أو من غيره فلا بأس بأخذه ، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " وإذا كنت لا تكتب الربا ولا تساعد في كتابته ، وإنما تكتب أشياء أخرى كما هو ظاهر سؤالك فلا حرج إن شاء الله عليك ، والله أعلم " [18].
فيستفاد من هذه الفتوى أن بعض هؤلاء العلماء أجازوا العمل في البنوك الربوية بشروط فما بال البنك غير الربوي ؟ فسيكون دعمهم له أكثر ومساهمتهم له أكبر؛ فلم يتوقف هؤلاء العلماء على التسمية أو على النظام ، بل الرفض على المضمون وهو المساهمة في المعاملة الربوية كما ورد في النهي .
وقبل أن أتجاوز التاريخ إلى المنطق أنبه إلى قضية تاريخية أخطأ فيها الأستاذ القاسم وهو قوله : " كان الفقهاء ـ يقصد في السعودية ـ يقولون : البنوك كلها حرام ، وبهذا الإجمال تأخرت البنوك الإسلامية في السعودية حوالي 25 سنة ، في بلاد أخرى سمح الفقهاء بتفصيل معنى البنوك وبالفعل تطور مفهوم البنك التعاوني ثم البنك الإسلامي المتعامل في السلع ... " .
التاريخ في الحقيقة لا يدعم هذه الشهادة ؛ بل قد يحكم بأنها شهادة غير موثوقة وليست من جهة المعلومة بل من جهة تفسيرها ؛ فالمعلومة صحيحة ! فقد نشأ نظام البنك الإسلامي في خارج السعودية قبل السعودية ، لكن ما هو تفسير هذا النشوء ؟ وهل النظر الفقهي ـ والذي يسميه القاسم تفصيلي في معنى البنوك ـ هو الذي ساهم في نشوئها أم أن هناك دوافع أخرى لا تمت للنظر الفقهي بأي صلة هي التي ساهمت في ذلك النشوء كما سبق ؟؟ لا أنا ولا هو أدركنا تلك الأيام بحيث نشهد على هذا التاريخ لكن لنترك من أدرك وعاين وجرب يشهد ويحكم ويفسر ؛ يقول محمد الفيصل: " ولما جاء أنور السادات وأراد أن يضرب الناصريين الاشتراكيين وجد في الإسلاميين مؤيداً له.وفي الأثناء تقدمنا بطلب لثلاث جهات بتأسيس بنك إسلامي: المملكة، ومصر، والسودان ، بعد أن عملنا نظاماً مفصلاً للمشروع. وجاءت الموافقة من حكومة الرئيس السادات، وحكومة الرئيس جعفر النميري، وكان يمر بظروف مشابهة ويعيش مزاجاً إسلامياً وقتها" [19]. ويؤكد هذه الحقيقة ويوضحها أحمد صلاح جمجوم بقوله: " ... أما الأمير محمد فإن نشاطه لم يتوقف بل ازداد إصراره على تنفيذ المشروع رغم العقبات . وقام ـ حفظه الله ـ بعمل اتصالات على أعلى المستويات في مصر والسودان وتمكن من الفوز بموافقة الرئيسين أنور السادات وجعفر نميري في العام نفسه ، ولأسباب سياسية مواتية ؛ فالرئيس المصري كان متحالفاً مع الإسلاميين في ذلك الوقت ضد القوى اليسارية ، والرئيس السوداني تخاصم مع التيار الشيوعي الذي جاء به إلى الحكم ، واستعان عليهم بالإسلاميين . وهكذا فقد صدرت الموافقة من السلطات الرسمية في البلدين عام 1979م، وبدأنا على الفور في إنشاء بنكين : الأول في الخرطوم تحت اسم بنك فيصل السوداني والثاني في القاهرة باسم بنك فيصل المصري" [20].
ومما يبين أن الأمر لم يكن عن نظر فقهي، اعتراض بعض الجهات الدعوية العلمية في بعض هذه البلدان التي نشأت فيها؛ يقول الأمير محمد الفيصل " هاجمتنا مجلة " الدعوة " صوت حزب الإخوان المصري متصورين أنها لعبة سعودية أمريكية ، خصوصاً أن البنك لم يرخص له في المملكة " [21].
ومثل هذا الكلام قاله الأستاذ أحمد صلاح جمجوم ، ومما يبين حقيقة المقاصد التي كانت وراء هذا النشوء عند المنشئين، المآلات التي كادت تعصف بالفكرة؛ يقول الأمير محمد الفيصل " ومن التحديات التي واجهتنا أن رئيس الوزراء المصري الراحل محيي الدين أعد مذكرة كاد أن يوقعها بتأميم بنك فيصل المصري ، ولكن المنية عاجلته بأزمة قلبية ، ومن المصادفات أن الرئيس جعفر نميري كاد يعتمد قراراً مماثلاً في السودان ، إلا أن الانقلاب العسكري الذي أخرجه من السلطة أوقف ذلك ، وكانت هناك أزمة مرت بسلام ـ والحمد لله ـ مع حكومة مصرية لاحقة " [22].(3/99)
أما المنطق المعكوس في رأي الأستاذ عبد العزيز القاسم فقوله بأن تحريم كلمة بنك أو النظام البنكي ساهم في إنشاء البنوك الربوية!! فهذا كلام غريب واستنتاج أغرب ؛ فالعلماء لم يصدروا التحريم إلا على واقع مشاهد سبق فتواهم . وفتاواهم تتكلم على نظام قائم ويتعامل به ومتداول . فكيف تعكس القضية ، ويقال إن العلماء حرموا كلمة بنك أو النظام البنكي قبل أن يفد إليهم وقبل أن يعرفوا مبادئ ذاك النظام وأساسياته!؟، فتحريمهم هو الذي ساهم في إنشاء النظام البنكي المحرم !؟ . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إن فتاوى التحريم هي التي ساهمت في تقويض النظام البنكي المحرم ، وأفسحت المجال ودعمت وأنجحت النظام البنكي الحلال والشرعي . وتاريخ إنشاء البنوك الإسلامية في هذه البلاد كان بدعم أصحاب فتاوى التحريم واقتراحهم ومساهمتهم كما مر معنا. أما مفعول فتاوى التحريم في عملية إنجاح البنك الإسلامي، فقد حدثني المهندس منصور الغليقة نائب مدير عام شركة الراجحي بأن من أكبر عوامل إنجاح شركة الراجحي المصرفية هو اختيار ما يقارب الخمسمائة ألف موظف من موظفي الحكومة تحويل رواتبهم إلى شركة الراجحي من دون البنوك التقليدية.. هذا منذ عشر سنوات .
والمعروف أن هؤلاء المحولين لم يقوموا بذلك للخدمة المتميزة التي يوجد مثيلاتها في البنوك التقليدية المحول عنها ، بل قد تكون الأفضل احياناً في الامتيازات والخدمات ، وغير ذلك مما يحتاجه العميل . لكن سبب التحويل هو تقوى لله وإبراء للنفس وطلب للمال الحلال ، ومن باب التعاون على البر والتقوى . وهذه الفضائل قويت بالتعبئة القوية من هؤلاء العلماء تجاه البنك الربوي وذلك بالفتاوى والبيانات المحرمة والمنفرة ، يقول الشيخ صالح الحصين :" لا شك أن المصارف الإسلامية نجحت في الجملة ـ بالنسبة للمصارف الربوية ـ فهي لا تشكو من شح الودائع تحت الطلب، ولكن العامل الذي ساعدها في ذلك عامل خارجي هو التفضيل العاطفي الناشئ لدى المودعين عن كراهية الربا ومؤسساته" [23]. وينقل الدكتور محمد عمر شابرا عن تقرير أعدته (د.تراوت واهلرز شارف) لمركز التنمية التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن المصارف الإسلامية "اجتذبت حتى الآن قطاعات جديدة من المسلمين، كانت لأسباب دينية خارج الدارات المالية" [24]. وذلك ما شهد به الرئيس التنفيذي لبنك (آركابيتا) في البحرين عاطف أحمد عبدالملك في حوار معه إذ يقول: " ..وأنت كمستثمر تحكم رأيك، فقبل 30 سنة لما بدأت الفكرة ـ يقصد فكرة البنوك الإسلامية ـ كانت بسيطة ليست من قبل رجال أعمال أو رجال بنوك، لكن بسبب الوازع الديني، وكان هناك تشكيك في تلك الفترة، انظر إلى البنوك السعودية الآن يطورون منتجاتهم وأصبحت جميع منتجاتهم إسلامية، كذلك في الإمارات والكويت وقطر، فهذه لم تأت من فراغ، لكن من الاقتناع في الطلب " [25].
ومن المعلوم من تاريخ التحولات التي طرأت على البنوك التقليدية ذات النظام الربوي إلى النظام الشرعي والتي ما زالت تشهد تحولاً أكبر في ذلك ، من المعلوم من هذا التاريخ أن أكبر عوامل هذه التحولات واسبابها نجاح التجربة الأولى للبنك الإسلامي ، وسبب نجاح هذه التجربة ـ كما مر معنا ـ هو دعم الناس لها وتحويل أموالهم واستثماراتهم تجاهها ؛ وسبب هذا التحويل من المستثمرين والمودعين هو البعد عن المال الحرام وطلب الحلال ، وهذا البعد سببه تحريم وتشديدهم العلماء على العملية الربوية ؛ فكيف تُعكس هذه المعادلة ويقلب التاريخ ويتجنى على الحقيقة ؟ !
كتبه/ خالد بن عبدالله الغليقة
مكتبة الملك فهد الوطنية
تابع .. مغالطا ت الأستاذ عبد العزيز القاسم في قناة العربية في برنامج " إضاءات "(2) حول القانون
------------------------------
[1] الحاج علي ، محمد سعيد . مؤسسة النقد العربي السعودي : إنشاؤها ، مسيرتها ، إنجازاتها ، الرياض 1991م ، ص 271 .
[2] المصدر السابق، ص273 .
[3] منتدى الفيصل ، مجلة الفيصل العدد ، 246 ص 26 .
[4] صحيفة المدينة ، ملحق الرسالة ، الجمعة 28شوال 1425هـ .
[5] صحيفة الجزيرة ، اقتصاد ، 29صفر 1424هـ .
[6] باطرفي ؛ خالد محمد . الأمير محمد الفيصل يتذكر : الرياض 1425هـ ، ص 253 .
[7] باطرفي ، خالد محمد . أحمد صلاح جمجوم يتذكر : الرياض 1425، ص 109 .
[8] باطرفي ؛ خالد محمد . الأمير محمد الفيصل يتذكر : الرياض 1425هـ . ص 253 .
[9] نفس المصدر السابق ، ص254 .
[10] المصدر السابق، ص 248 .
[11] عن رد الشيخ صالح الحصين على الدكتور الناصر، ص129 مجلة البحوث الإسلامية، العدد 23، 1408- 1409هـ .
[12] باطرفي ، خالد محمد . أحمد صلاح جمجوم يتذكر ، الرياض ، 1425، ص 109 .
[13] المرجع السابق ، ص 110 .
[14] باطرفي ؛ خالد محمد . الأمير محمد الفيصل يتذكر ، الرياض 1425هـ ، ص 248 .
[15] باطرفي ، خالد محمد . أحمد صلاح جمجوم يتذكر ، الرياض ، 1425، ص 260 .
[16] شريط صوتي ؛ ندوة الجامع الكبير .
[17] يعقوب، موسى . محمد الفيصل آل سعود..ملامح من تجربته الاقتصادية الإسلامية . الدار السعودية للنشر والتوزيع ، ص 302-303 .
[18] القاسم ، عمر بن محمد بن عبد الرحمن . فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد . الرياض : دار القاسم ، 1420هـ ، ص 187 .
[19] باطرفي ، خالد محمد : الأمير محمد الفيصل يتذكر ، الرياض ، 1425هـ ، ص 249 .
[20] باطرفي ، خالد محمد : أحمد صلاح جمجوم يتذكر ، الرياض : 1425هـ ، ص 111 .
[21] باطرفي ، خالد محمد : الأمير محمد الفيصل يتذكر ، الرياض ، 1425هـ ، ص 253 .
[22] المرجع السابق ، ص 260 .
[23] مجلة الجسور، س 1 ، 34 . شعبان-1424هـ ، ص 33.
[24] شابرا، د.محمد عمر . تحريم الفائدة..هل هو متصور في عصرنا هذا؟ . ترجمة د.رفيق يونس المصري، جدة: 1424هـ ، ص66 .
[25] جريدة الشرق الأوسط، عدد 9632 ، الثلاثاء 3/3/1426 هـ ، ص 19 .
==============
حكم السحب ببطاقة السحب الآلي من جهاز غير مصدر البطاقة
د. يوسف بن عبدالله الأحمد
فضيلة الشيخ يوسف الأحمد سلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد أولاً أُشهد الله تبارك وتعالى على حبك فيه،
ثانياً أشكر لك المحاضرة القيمة التي أُلقيت في إحدى المستشفيات في عُنيزة ،حيث كان لها صدىً كبيراً ولله الحمد والمنة.
ثالثا جزاك الله خيراً وأحسن إليك على ردك على شبهة الاختلاط في المطاف.
أخيراً آمل من فضيلتكم التكرم والتلطف بالرد على من له شبهة واعترض على الفتوى في تحريم استخدام صراف آخر غير الذي استخرج منه البطاقة .(علة التحريم) والله أسأل أن يبارك لك في وقتك وعمرك وذريتك وأهلك ومالك وان ينفع بك البلاد والعباد ويتولاك بحفظه ويمدك بعونه وتوفيقه ويحيطك بعنايته ويسددك في أقوالك وأفعالك اللهم آمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والسلام عيكم ورحمة الله وبركاته. أخوك المحب عبد الله بن طويرش الطويرش
الجواب :
جزاك الله خيراً على مشاعرك الطيبة . والمحاضرة ألقيتها من منزل أحد الفضلاء عبر الأنترنت من غرفة حامل المسك ، وكانت عن مستشفى جمعية البر الخيرية للنساء والولادة والأطفال بمحافظة عنيزة ( وهو مستشفى بطاقم نسائي متكامل 100 % ) وأنا أناشد الأخوة الفضلاء جميعاً إلى مناصرة هذا المستشفى .(3/100)
أما الجواب على السؤال فأقول : البنوك نوعان ( إسلامية ، وربوية ) . والبنوك الربوية لا يجوز إيداع الأموال فيها حتى لو كان الإيداع من غير فوائد ، و الإيداع أنواع كتحويل الرواتب إليها أو تسديد الفواتير فيها ، وغير ذلك ؛ لأن الإيداع عندها إعانة لها على باطلها وهو الربا . فهل يجوز للمؤمن أن يقرض أحداً وهو يعلم أن المقترض سيرابي بما اقترضه ؟! قال تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ..
أما البنك الإسلامي فيجوز التعامل معه وأخذ بطاقة الصراف منه ، ومن البنوك الإسلامية القائمة : شركة الراجحي .
فإذا كان لديك بطاقة الصراف الآلي من الراجحي مثلاً فهل يجوز أن تسحب بها من أجهزة بنوك أخرى ؟
الجواب : لابد أن نعلم أولاً أن من سحب من جهاز غير مصدر البطاقة فإن البنك مصدر البطاقة يؤخذ منه ( أربع ريالات وستون هللة ) على كل عملية سحب ؛ ستون هللة لمؤسسة النقد مقابل المقاصة ، وأربع ريالات للبنك صاحب جهاز الصرف الآلي .
و هذه العملية محرمة لاشتمالها على عدة محاذير :
أولاً : الوقوع في شبهة الربا ؛ فإذا كان للإنسان بطاقة صرف آلي من شركة الراجحي ، وسحب بها (500) ريال من صراف البنك الأمريكي ، فإن حقيقة السحب يجمع عقدين ، الأول : القرض ، والثاني : الحوالة . أما القرض فلأن الساحب قد أخذ المال من صندوق البنك الأمريكي ، ويتحول البنك الأمريكي إلى غريم صاحب البطاقة وهو شركة الراجحي فيستوفي البنك الأمريكي من الراجحي (504) ، وهذا ظاهره الربا ، لأن القرض في الربويات كالأوراق النقدية صورته ربوية ، وإنما استثناه الشرع للإرفاق ، ولذلك قرر أهل العلم : أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا . وأخذ الأربع ريالات منفعة صريحة فتدخل في المنع .
وقد كنت مع سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في بيته في مناقشة بعض المسائل العلمية ، وطرحت عليه هذا السؤال ، فقال : هذا ربا .
ثانياً : إذا كان البنك صاحب الصراف ربوياً ، فلا يجوز السحب منه ، لأن في السحب منه إعانة له بالأربع ريالات ، ولا يجوز إعانة البنك الربوي بشيء مطلقاً ، بل الواجب هجره ، وأنا أدعو الإخوة جميعاً إلى هجر البنوك الربوية كلها ، وهذا من أقوى وسائل إنكار الربا فيها .
ثالثاً : أن العقد بين أطراف الشبكة مشتمل على الغرر ؛ لأن المؤثر في العقد بين البنكين طرف ثالث وهو حامل البطاقة ، وهو المؤثر في غرم البنك أو غنمه ، أما طرفا العقد فيجهلان العاقبة . وقد خسرت شركة الراجحي عدة ملايين ولعدة سنوات بسب هذا .
فالذي يظهر لي والعلم عند الله أن هذه المحاذير تتضافر في منع هذه الصورة المذكورة ، وخصوصاً في حال الاختيار .
وبهذا ينتهي الجواب ، وجزاكم الله خيراً ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
===============
حكم الاكتتاب بشركة المراعي
خالد بن إبراهيم الدعيجي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد
كثر السؤال حول الاكتتاب في شركة المراعي ، وبالرجوع إلى قوائم الشركة المالية المنتهية في عام 2004م ظهر لدي ما يلي:
إجمالي الموجودات: 2399972000 ريال سعودي
القروض الربوية المحرمة: 535000000 ريال سعودي ونسبنها للموجودات 22.29%
الودائع الربوية البنكية 46109000 ريال سعودي.1.93%
وبالتالي فإن الشركة ليست من الشركات النقية، وتعتبر من الشركات ذات النشاط المباح ولكن تتعامل بالربا اقتراضاً وإيداعاً. والخلاف في هذه المسألة مشهور. والورع كل الورع ترك هذا النوع من الشركات.
اللهم اكفني بحلالاك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك
كتبه خالد بن إبراهيم الدعيجي
جوال 0503653838
aldoijy@awalnet.net.sa
حكم المساهمة في شركة المراعي للشيخ يوسف الأحمد
المساهمة في شركة المراعي
أجاب عليه فضيلة الشيخ د.عبد الله بن ناصر السلمي
السؤال
شركة المراعي سوف تطرح 30% من أسهم الشركة للاكتتاب فما حكم الاكتتاب فيها؟
الاجابة
شركة المراعي من الشركات ذات المسؤولية المحدودة وقد تحولت إلى شركة مساهمة بموجب القرار الوزاري رقم 773 وتاريخ 6/5/1426هـ الموافق 13/6/2005م.
وشركة المراعي من الشركات ذات الأنشطة المباحة، ونص عقدها التأسيسي على ذلك حيث تقوم بتسويق أنواع متعددة من المنتجات الغذائية والمشروبات تحت العلامات التجارية (المراعي) و(اليوم) و(سموذي) و(زادي). وتشمل هذه المنتجات الألبان قصيرة وطويلة الأجل المصنوعة من الحليب الطازج وكذلك الأجبان والزبدة، وبعض المنتجات الغذائية من غير الألبان.
وبناءً على نشرة الإصدار الخاصة بالشركة وقوائمها المالية لعام 2004م الموجودة في موقع هيئة سوق المال يتبين الآتي:
1 - أنه بلغ مجموع أصول الشركة (2.400.000.000) ريال سعودي.
2 - حصلت الشركة على قروض لبرامجها الاستثمارية الرئيسية من بعض الجهات الحكومية وبالتحديد من كل من صندوق التنمية الصناعية السعودي والبنك الزراعي العربي السعودي وبعض البنوك التجارية على النحو الآتي:
أ - صندوق التنمية الصناعية السعودي (220.300.000).
ب - البنك الزراعي العربي السعودي (12.100.000).
ج - البنوك التجارية (535) مليون ريال.
وقد صرحت الشركة أن هذه القروض كلها التزامات عليها تنشأ عنها فوائد ربوية ما عدا التمويل الذي حصلت عليه الشركة من صندوق التنمية الصناعية فقد صرّحت بأنها بدون فوائد، ولو استبعدنا القرض من صندوق التنمية لكان مجموع القروض الربوية التي اقترضتها الشركة تبلغ (547.100.000) خمسمائة وسبع وأربعون مليون ومائة ألف ريال سعودي.
وتبلغ نسبة هذه القروض الربوية من إجمالي أصول الشركة (22.796%).
وتبلغ نسبة القروض الربوية إلى حقوق المساهمين والتي تبلغ (1.292.700.000) = 42.32%.
وهذه التسهيلات التمويلية (القروض الربوية) هي القروض المستغلّة الفعلية التي استغلتها الشركة لبرامجها الاستثمارية، علماً بأن الشركة قد حصلت على حق الاقتراض بفائدة من البنوك والبنك الزراعي، قابلة للتجديد تصل إلى (1.067.100.000) أي بنسبة 44.46% من مجموع أصول الشركة.
وهي ما يسمى بالمحاسبة التسهيلات المتاحة. علماً بأن الشركة لم تصرح بأنها سوف تنهي القروض البنكية المحرّمة لتجعلها بطريق المرابحة الشرعية.
وبناءً على ما سبق، فالذي يظهر لي هو عدم جواز الاكتتاب في شركة المراعي لأنها تتعامل بالمعاملات الربوية، وشراء أسهم الشركات المساهمة التي نصّ عقدها التأسيسي على التعامل المحرّم أو كان غرضها الأنشطة المباحة ولكنها تقرض أو تقترض بالربا - وهو غالب الشركات المساهمة في البلاد الإسلامية مع بالغ الأسى والأسف - أن ذلك كله محرّم ولا يجوز وهذا ما ذهب إليه المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة شيخنا العلامة ابن باز وعضوية أكثر من خمسة عشر عالماً من علماء الإسلام ومجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة برئاسة الشيخ بكر أبو زيد واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وبعض الهيئات الشرعية في بعض البنوك الإسلامية وهذا هو قول أكثر الفقهاء المعاصرين، وذلك لأن المساهم بقبوله المساهمة بالشركة، قد فوض أعضاء مجلس الإدارة ووكلهم في التصرف بالمال، وهذا أمر مشروط في لائحة الاكتتاب وهو ما يدل عليه أيضاً نظام الشركات المساهمة.(3/101)
وبناءً عليه فأي عمل تقوم به إدارة الشركة من أعمال مباحة أو محرمة فيكون المساهم كأنه عمل هذا العمل لأن الشركة فيها معنى الوكالة، ولا يغني هذا من قول بعضهم بأن المساهم لم يرض بذلك ولا علم، لأن المساهم إما أن يكون راضياً في تصرف الشركة أو غير راض، فإن كان راضياً في إدارتها فلا شك في أن أي تعامل بالمحرم يكون رضىً منه بذلك، وإن كان غير راضٍ في ذلك فليس أمامه إلا أحد أمرين:
الأول: أن يمنع هذا التصرف، ولا شك أن القادر على ذلك ولم يفعل، أنه آثم وواقع في الإثم والعدوان، فكل الذين يملكون أسهماً في شركة تتعامل بالأنشطة المحرمة فرضاً أو افتراضاً يجب عليهم حضور الجمعية العمومية العادية والإدلاء بأصواتهم بمنع هذه التصرفات المحرمة، خاصة وأن مثل هذه القروض البنكية وجد في المعاملات المصرفية الإسلامية، ما يغني عن مثل هذه التعاملات البنكية المحرمة، فإن لم يستطع ذلك أو كانت أسهمه قليلة لا يؤثر في قرارات الشركة فعليه القسم الثاني وهو الخروج من هذا السهم واستمرارية ملكية السهم مع تعامل الشركة بالربا لا يخرج المرء من إثمها بأن يخرج نسبة المحرّم؛ لأن بقاء التعامل بالحرام قائم وهو وإن لم يأكل الربا ولكنه أعان على أكله كما قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبيه وشاهديه وقال هم سواء» رواه مسلم.
ثم إن التفريق بين ملكية الشركة وملكية السهم بحيث يجعل السهم عروض تجارة، مما يترتب عليه جواز المضاربة بأسهم الشركات التي تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً، ما لم ينص عقدها التأسيسي على المتاجرة بالمحرمات تفريق شكلي وليس جوهرياً، فالعبرة بحقائق الأشياء ومقاصدها ومآلاتها، لا بأشكالها وألفاظها ومعانيها، علماً بأن جميع الشركات المساهمة ذات الأنشطة المباحة التي تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً كلها تتعامل بربا النسأ وهو محرم تحريماً غائياً ولم يرد من الشرع نص صريح ولا ظاهر في إباحة جزء يسير من ربا النسأ، مع العلم أن الربا حرام كله لا فرق بين ربا النسأ وربا الفضل، إلا ما ورد النص الشرعي باستثنائه ولعله يكون ثمة بسط لأدلة الفريقين في مقام أوسع من هذه الفتوى المختصرة.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،
الاكتتاب في شركة المراعي
فضيلة الشيخ د. محمد العصيمي
السؤال
ما حكم الإكتتاب في شركة المراعي؟
الاجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فبعد قراءة نشرة الإصدار المفصلة الخاصة بالشركة (133 صفحة)، والمشتملة على جميع التفاصيل الخاصة بالاكتتاب، ومنها ملخص النظام الأساسي للشركة، وتقرير مراجعي الحسابات عن القوائم الشركة المالية عن المدة المنتهية في 31/3/2004م مقارنة بسنتين ماضيتين هما 2003، و2002. وأثني على الشفافية العالية في نشرة الإصدار هذه، وأتمنى أن تحذو الشركات المساهمة حذوها.
وحيث إن نشاط الشركة مباح، لكن تبين لي أن الشركة قد اقترضت قروضا ربوية، واستثمرت استثمارات محرمة، وتعاملت في بيوع العملات الآجلة. ومن المعروف أن الأصل عند العلماء تحريم المشاركة في شركة يعلم أنها اقترضت أو استثمرت في الربا، لأن المساهم موكل لمجلس الإدارة بالتصرف، ولا يصح مثل ذلك التوكيل. فلا أرى جواز الاكتتاب في المراعي في وضعها الراهن لأنها ليست من الشركات النقية من الربا في قروضها واستثماراتها.
وإني أدعو الله لهذه الشركة بالتوفيق في عملها، وأن تسد حاجة كبيرة في الصناعة التي أنشئت لها، وأسأله تعالى أن يوفقها على تحويل القروض الربوية والاستثمار المحرم إلى معاملات إسلامية، خاصة في ظل المسيرة المباركة للبنوك التجارية في المملكة التي تقدم منتجات التمويل الإسلامي بمختلف أنواعها، وفي ظل التحول الكبير في الشركات المساهمة السعودية نحو أسلمة القروض والاستثمارات.
كما أسأل الله جلت قدرته أن يوفق القائمين على الشركات المساهمة السعودية لاتباع سبل التمويل الإسلامي المتاحة في المملكة بفضل الله تعالى، حتى يستقيموا على أمر الله، وحتى تؤتي تجربة البنوك الإسلامية ثمارها المرتجاة.
كما أدعو إخواني وأخواتي القراء لهذه الرسالة أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أمورهم كلها، وأن يجتنبوا الأمور المشتبه، كما هي وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن النُّعْمان بن بشير رضي اللّهُ عَنْهما قال: سمعتُ رسُولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنَّ الحرَامَ بيِّنٌ وبينَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النّاس، فَمن اتّقى الشُّبُهات فقد استبرأَ لدينهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرَام؛ كالرَّاعي يرْعَى حوْلَ الحمى يوشِكُ أنْ يقعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى إلا وإنَّ حمى الله محارمهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةٌ إذا صَلَحتْ صلحَ الجسدُ كُلُّهُ وإذا فسدتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهي القلبُ".
وفق الله الجميع لهداه، وجنبنا سخطه، وجعل رزقنا حلالا مباركا فيه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الاكتتاب في شركة المراعي
فضيلة الشيخ د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
السؤال
ما حكم الاكتتاب في شركة المراعي؟
الاجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد
فمن خلال دراسة نشرة الإصدار الخاصة بشركة المراعي وقوائمها المالية المعلنة في موقعها على الانترنت تبين أن نشاط الشركة قائم على إنتاج المواد الغذائية من الألبان وغيرها، وأن على الشركة قروضاً بنكية تبلغ 535 مليون ريال في عام 2004م، وهي تعادل 22.3% من مطلوبات الشركة البالغة 2400 مليون ريال.وهذا يعني أن الشركة من الشركات المختلطة، وهي الشركات التي أصل نشاطها مباح، ولكنها تقترض أو تودع بالربا. وقد اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين:
القول الأول: تحريم المساهمة فيها مطلقاً، وممن اختار هذا القول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، واللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة في بعض فتاويها السابقة.
والقول الثاني: جواز المساهمة فيها بشرط أن يتخلص المساهم من الأرباح المحرمة التي تأتيه من الشركة، وممن اختار هذا القول فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله، وهيئة المعايير المحاسبية الشرعية، ومعظم الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية.
والاختلاف في هذه المسألة من الخلاف المقبول، إذ إن المسألة اجتهادية، للمجتهد المصيب فيها أجران، وللمجتهد المخطئ أجر واحد بإذن الله.(3/102)
والأقرب -والله أعلم- أنه إذا كان النشاط الأساس للشركة مباحاً وكانت معاملاتها المحرمة يسيرة عرفاً فلا حرج على المساهم من الدخول فيها لاسيما إذا قصد تخليصها من تلك المعاملات المحرمة، والإثم على من باشر العقد المحرم أو أذن أو رضي به؛ لأن الشركة بشخصيتها الاعتبارية مستقلة عن المساهمين، وتصرفاتها المحرمة لا تعد تصرفاً للمساهمين.يؤيد ذلك أن الأسهم صكوك مالية قابلة للتداول، وتداولها منفصل عن نشاط الشركة، فلا ترتبط قيمة الأسهم بنشاط الشركة بل بالعرض والطلب، كما أن ارتفاع قيمة الأسهم أو انخفاضها لا يؤثر بشكلٍ مباشرٍ إيجاباً أو سلباً على نشاط الشركة؛ لأن ما يدفعه المساهم لشراء الأسهم بعد طرحها للتداول لا تأخذ منه الشركة ريالاً واحداً، ولا يدعم به نشاط الشركة، بل يذهب جميعه للمساهم البائع، وكذلك المساهم البائع لا يأخذ ثمن أسهمه من الشركة بل من المساهم المشتري، ولا يختلف الأمر في الأسهم المطروحة للاكتتاب في هذه الشركة- شركة المراعي- حيث نصت المادة الثامنة عشرة من نشرة الاكتتاب على أنه "سيتم توزيع جميع الأموال المتحصلة من الاكتتاب على المساهمين البائعين فقط ولن تستلم الشركة منها أي شيء".
وبالنظر في نسبة المعاملات المحرمة في شركة المراعي إلى إجمالي نشاطها فإنها تعد يسيرة؛ لأن الجزء الذي يحرم على الشركة دفعه من القروض التي عليها هو الفوائد المستحقة على تلك القروض، أي الربا، أما أصل القرض فإنه يجب على الشركة دفعه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط".ومجموع الفوائد التي دفعتها الشركة في عام 2004 على جميع القروض والتسهيلات البنكية لا تتجاوز 2% من مجموع مصروفاتها البالغة ملياراً وخمسمائة مليون ريال.
وخلاصة القول هي جواز المساهمة في هذه الشركة. ومع ذلك فالذي أنصح به إخواني المستثمرين في الأسهم هو ترك المساهمة في الشركات المختلطة عموماً -مع قولنا بجوازها- والاقتصار على الشركات النقية؛ لأمرين:
الأول:أن هذا هو الأحوط والأسلم، إذ إن الخلاف في هذه المسألة قائم، والأقوال متقاربة في القوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:" ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
والثاني:أن في ذلك دعماً للشركات النقية، وتشجيعاً للشركات الأخرى على تطهير معاملاتها من الحرام، فيرجى لمن لمن كانت هذه نيته أن يثاب على ذلك؛ فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وجواز الاكتتاب في الشركة لا يعني أن الربا الذي فيها أصبح مباحاً، فالربا محرم قليله وكثيره، وإنما الإثم على من باشر تلك المعاملة المحرمة أو أذن أو رضي بها، أما المساهم فإنه إذا أخذ شيئاً من الأرباح التي توزعها الشركة فعليه أن يتخلص من الأرباح الموزعة بقدر نسبة الإيرادات المحرمة منها، وذلك بصرفها في المشاريع الخيرية، أما الأرباح الناتجة من بيع الأسهم فلا يلزم التخلص من شيءٍ منها، والله أعلم.
===============
التوضيح والبيان في ذكر بعض الأعمال الموجبة لغضب الرحمن
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
وبعد
(وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)
ثم أما بعد
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)صححه الألباني
فبعد أن أوردنا مجموعة من فضائل بعض الأعمال نقوم الآن بذكر بعض الأعمال التي نهى الله عتها وجزاء ذلك العمل
عمل إذا عمله الإنسان يحرم الله عليه الجنة ويكون مأْواه النار
العمل هو : الشرك بالله والعياذ بالله تعالى قال تعالى (إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)المائدة 72
عمل إذا عمله الإنسان لا يدخله الله الجنة
العمل هو : أن يكون في قلب الإنسان ذرة من كبر، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)ُسلِمٌ
عمل إذا عمله الإنسان يحرم الله عليه الجنة
العمل هو : غش الرعية ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللَّه عليه الجنة)مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
عمل إذا عمله الإنسان مات ميتة جاهلية
العمل هو : الخروج على السلطان ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهليةً)مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
عمل إذا عمله الإنسان يجرجر في بطنه نار جهنم
العمل هو : الشراب في آنية الفضة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
عمل إذا عمله الإنسان لا ينظر الله إليه
العمل هو : جر الإزار بطراً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا ينظر اللَّه يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا)ًمُتَّفَقٌ عَلَيهِ
عمل إذا عمله الإنسان فقد حبط عمله
العمل هو : ترك صلاة العصر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)البخاري
عمل إذا عمله الإنسان ينقص من أجره كل يوم قيراطان
العمل هو : اقتناء الكلاب ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان)مُتَّفَقٌ عَلَيْه
عمل إذا عمله الإنسان لا يدخل الجنة
العمل هو : النميمة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يدخل الجنة نمام)مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عمل إذا عمله الإنسان يكون من أشد الناس عذاباً يوم القيامة
العمل هو : التصوير ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
عمل إذا عمله الإنسان يقوم يوم القيامة وعليه سربال من قطران
العمل هو : النياحة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جَرَب)مُسْلِمٌ
عمل إذا عمله الإنسان يوجب الله عليه النار ويحرم عليه الجنة
العمل هو : اقتطاع حق مسلم وان كان يسيراً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللَّه له النار، وحرم عليه الجنة فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رَسُول اللَّهِ؟ فقال وإن قضيباً من أراك)مُسْلِمٌ
عمل إذا عمله الإنسان لم تقبل له صلاة أربعين يوماً
العمل هو : الذهاب إلى العراف ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)مُسْلِمٌ
عمل إذا عمله الإنسان لا يدخل الجنة
العمل هو : قطع الرحم ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يدخل الجنة قاطع قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم)مُتَّفَق عَلَيْهِ
عمل إذا عمله الإنسان لا يرحمه الله
العمل هو : عدم رحمة الناس ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من لا يرحم الناس لا يرحمه اللَّه)مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(3/103)
عمل إذا عمله الإنسان يبعث يوم القيامة مجنونا يتخبط
العمل هو : أكل الربا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من آكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ثم قرأ ((الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس))البقرة 275)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يحجز الله عليه التوبة
العمل هو : الابتداع ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يسمع الله به ويحقره ويصغره
العمل هو : الريا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه يوم القيامة وحقره وصغره)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لأن يطعن في رأسه بمخيط خير من أن يعمله
العمل هو : مس المرأة التي لا تحل ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان قلده الله قوسا من نار يوم القيامة
العمل هو : اخذ الأجر على تعليم القران ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أخذ على تعليم القرآن قوسا قلده الله قوسا من نار يوم القيامة)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لقي الله وهو عليه غضبان
العمل هو : الاختيال في المشي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لا تقبل له صلاة أربعين صباحا
العمل هو : شرب الخمر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يشرب الخمر رجل من أمتي فتقبل له صلاة أربعين صباحا)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان تبوأ مقعده من النار
العمل هو : من أحب أن يقف الناس له ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان أشرك
العمل هو : تعليق التميمة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من علق تميمة فقد أشرك)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يخشى أن يجعل الله رأسه راس حمار
العمل هو : مسابقة الإمام ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله
العمل هو : إعانة الظالم ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أعان ظالما بباطل ليدحض بباطله حقا فقد برىء من ذمة الله عز وجل وذمة رسوله)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان هو أشد عند الله من ستة وثلاثين زينة
العمل هو : أكل الربا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زينة)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لا ينظر الله إليه يوم القيامة
العمل هو : الزنا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا ينظر الله يوم القيامة إلى الشيخ الزاني ولا إلى العجوز الزانية)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يسقيه الله عز وجل من عصارة أهل جهنم
العمل هو : ترك الصلاة سكرا أربع مرات ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال . قيل وما طينة الخبال يا رسول الله قال عصارة أهل جهنم)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يهتك ما بينها وبين الله من ستر
العمل هو : نزع المرأة ثيابها في غير بيتها ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما من امرأة تنزع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله من ستر)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يمرق من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
العمل هو : الابتداع والغلو في الدين ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لن يرح رائحة الجنة
العمل هو : الانتساب إلى غير الأب ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من ادعى إلى غير أبيه فلن يرح رائحة الجنة وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاما)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يدخله الله النار
العمل هو : بغض أهل البيت ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان يغضب عليه الله
العمل هو : عدم دعاء الله ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من لم يدع الله يغضب عليه)صححه الألباني
عمل إذا عمله الإنسان لم يرح رائحة الجنة
العمل هو : قتل النفس المعاهدة بغير حق ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة توجد من مسيرة مائة عام)صححه الألباني
==============
بيع وشراء الأسهم في البُرصة
خالد بن إبراهيم الدعيجي
السؤال
السلام عليكم.
هل يجوز بيع وشراء الأسهم في البورصة؟ وشكرًا لكم.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذا السؤال من الأسئلة العامة، ولكي يجاب عليه لابد من التفصيل، فنقول وبالله التوفيق:
هناك شرطان إذا توفرا في عقود البورصة جاز التعامل بها، وهما:
الشرط الأول: أن يكون الأصل محل التعاقد جائزًا شرعًا.
ومعنى ذلك أن العقود في البورصة تجري على الأسهم والسندات والسلع والعملات وغيرها.
فلا يجوز التعامل بالسندات الربوية، ولا يجوز التعامل بأسهم شركات البنوك الربوية، وشركات التأمين التجارية، وكذلك شركات الخمور وغيرها من المحرمات.
أما الشركات ذات النشاط المباح، فيجوز شراء أسهمهما بشرط ألَّا تتعامل بالربا إيداعًا أو اقتراضًا.
الشرط الثاني: أن يكون إجراء العقد جائزًا شرعًا.
والحكم على عقود البورصة يختلف باختلاف أنواعها، وسوف أذكر أنواعها وأقسام كل نوع، بذكر تعريف مختصر، والحكم الشرعي، بدون ذكر الأدلة طلبًا للاختصار.
و إجراء العقود في البورصات ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: العقود العاجلة.
ويراد بها: المعاملات التي يتم فيها تسليم الأوراق المالية المباعة، وتسليم ثمنها بعد تنفيذ العقد مباشرة، أو خلال مدة قصيرة.
وهذه العقود لها ثلاثة أنواع:
النوع الأول: البيوع العادية.
وهي البيوع التي يلتزم فيها كل من البائع والمشتري بإتمام الصفقة نقدًا، وذلك بأن يستلم المشتري الأوراق المالية، ويسلم ثمنها حالًا، أو خلال مدة وجيزة جدًّا، تقدر في بعض الأسواق الغربية بيومين، وفي مصر بأربعة أيام، وفي بورصة نيويورك يلزم أن تصفى العملية في موعد أقصاه ساعة قبل افتتاح الجلسة التالية.
الحكم الشرعي:(3/104)
البيع بهذه الطريقة جائز لا غبار عليه، بل إنه الأصل في البيوع في الشريعة الإسلامية. فإذا كان السهم المراد بيعه مستوفيًا لشروطه وضوابطه المعتبرة شرعًا فالبيع صحيح. وممن أفتى بجواز تداول هذا النوع من الأسهم: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، واللجنة الدائمة للإفتاء، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، والحلقة الفقهية الأولى للبركة.
النوع الثاني: الشراء بالهامش ( Margin Buying)
فالشراء بالهامش: شراء الورقة المالية بسداد جزء من قيمتها نقدًا، بينما يسدد الباقي بقرض، بشرط ضمان الأوراق محل الصفقة.
الحكم الشرعي:
وقد تتبعت صور الشراء بالهامش في البورصات فلم أجد إلا صورة واحدة هي الجائزة، وهي:
أن تكون الأسهم مملوكة للسمسار، وصورتها:
أن يقوم العميل بشراء الأسهم محل الصفقة من السمسار، وهذه الأسهم مملوكة له، وذلك بدفع 60 % من قيمتها نقدًا، والباقي مؤجلًا، ومن ثم يقوم السمسار برهن جميع الأسهم محل الصفقة، إلى أن يسدد العميل المبلغ المتبقي عليه.
وأما باقي الصور فهي محرمة؛ لاشتمالها على الربا.
النوع الثالث: البيع على المكشوف (البيع القصير Short Sell)
والمراد به: (قيام شخص ببيع أوراق مالية لا يملكها، عن طريق اقتراضها من آخرين، مقابل الالتزام بإعادة شرائها، وتسليمها للمقرض، في وقت محدد).
وهذا النوع محرم لاشتماله على الربا والغرر.
القسم الثاني: العقود الآجلة.
وهي: (عمليات تنعقد في الحال، ولكن يتراخى تنفيذها لتاريخ تالٍ، هو ما يعرف بيوم التصفية).
وهي على نوعين:
النوع الأول: العقود المستقبلية .Futures
تعريفها: عقود تعطي لحاملها الحق في شراء أو بيع كمية من أصل معين، (قد يكون سلعة أو ورقة مالية) بسعر محدد مسبقًا، على أن يتم التسليم والتسلم في تاريخ لاحق في المستقبل.
الحكم الشرعي:
وقد صدرت قرارت المجامع الفقهية والهيئات الشرعية بتحريم هذا النوع من العقود، لاشتماله على الربا والغرر والقمار.
النوع الثاني: عقود الخيارات.
وهي: (عقود تعطي لحاملها الحق في شراء أو بيع ورقة مالية في تاريخ لاحق، وبسعر يحدد وقت التعاقد، على أن يكون لمشتري الاختيار الحق في التنفيذ من عدمه، وذلك في مقابل مكافأة يدفعها للبائع، والذي يطلق عليه محرر الاختيار).
الحكم الشرعي:
وقد صدرت قرارت المجامع الفقهية والهيئات الشرعية بتحريم هذا النوع من العقود، لاشتماله على الربا والغرر والقمار.
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر : الإسلام اليوم
=============
أسهم الشركات المتعاملة بالربا
د. راشد بن أحمد العليوي
السؤال
ما حكم الاستثمار بأسهم الشركات التي تتعامل بالربا أحياناً بالأخذ والعطاء ؟ وما حكم الأسهم المملوكة بأيدي المستثمر الآن ؟
الجواب
لا يجوز شراء أسهم الشركات التي يكون أصل نشاطها محرماًُ كأسهم شركات لحوم الخنزير، أو تصنيع الخمور ونحوها مطلقاً ، ولا يجوز مطلقاً شراء أسهم الشركات القائمة على الربا كأسهم البنوك ( الربوية ) .
وأما الشركات التي يكون أصل نشاطها مباحاً كالشركات الزراعية، أو الصناعية، أو الخدمية التي تزرع ما يباح، أو تصنعه ، أو تقدم الخدمات المباحة الجائزة فلا بأس بشرائها، والمتاجرة فيها . ولكن إن كانت هذه الشركات تتعامل بالربا أحياناً أخذاً أو إعطاءً ، وذلك بأن تقوم بتوظيف السيولة النقدية المتوفرة لديها في بعض الأوقات في البنوك وتأخذ فائدة (ربا) عليها، أو تحتاج مثلاً إلى توسعة نشاطها ومصانعها فتقوم بالاقتراض من البنوك بفائدة (ربا)؛ فهذا النوع من الشركات اختلف فيه العلماء والباحثون، فمن العلماء من منع شراء أسهمها؛ نظراً لوجود الربا فيها، وإن كان عارضاً غير أصيل في نشاطها . ومن العلماء من أجازها بشروط تتمثل فيما يلي:
الشرط الأول: ألا ينصّ نظام الشركة على أنها سوف تفعل ذلك، بأن تقرض بالربا أو تقترض به .
الشرط الثاني : ألا يتجاوز المبلغ المقترض لتمويل النشاط أو المبلغ المقترض ثلث رأسمال الشركة، وإنما حددوا نسبة الثلث قياساً على تحديد الشريعة لهذه السنة في بعض المعاملات المالية.
الشرط الثالث : أن يتم التخلّص من الأرباح المتولدة والناشئة عن هذه العمليات الربوية. فهذا النوع من الشركات تتولّد أرباحه من عمليات جائزة، ومن هذه العمليات المحرمة. وأما كيف يعرف مالك الأسهم مقدار الربح المحرم من الربح المباح حتى يتخلص منه، ويصرفه في المجالات الخيرية فهذا صعب جداً، ويستلزم دراسة محاسبية دقيقة لكل شركة على حدة، وتختلف هذه النسبة من عام لآخر، ومن شركة لأخرى، ولكن غالب الأرباح الربوية لا تتعدى نسبة 20% في الأحوال العادية. فإذا أخرج المساهم هذه النسبة -وكانت الأحوال عادية في الشركة- فأرجو أن تكون قد برئت ذمته . والمقصود بالأحوال العادية ألا تكون الشركة استثمرت كل أموال المساهمين في بنوك ربوية كما حصل في بعض الشركات العقارية في بداية تأسيسها، حيث كانت كل أرباحها من الربا؛ لأنها لم تباشر نشاطها إلا بعد مضي فترة زمنية طويلة، وقد نص الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أنه إذا اختلط الربح المحرم بالربح المباح، وجهلت النسبة مطلقاً بحيث لم تعرف تحديداً أو تقريباً، فإن الشخص يقسم الأرباح إلى نصفين: فيتخلص من النصف أي 50%، ويأخذ 50% وبهذا تبرأ ذمته.
وأرباح المساهمين تكون من طريقين : الطريق الأول : الأرباح السنوية التي توزع في نهاية كل سنة . والطريق الثاني : الفرق بين سعر شرائه للأسهم وسعر بيعه لها . فكل هذين الطريقين يتعين على المساهم أن يتخلص من الربا الموجود منهما .
وينبغي أن يعلم أن أكثر من 90% من الشركات العاملة في السوق الصناعية والكهربائية والزراعية والخدمية هي من هذا النوع الذي يحصل فيه التعامل بالربا أخذاً وإعطاء على النحو المذكور ، ولا توجد سوى شركات معدودة لا تتعامل بالربا .
وأما حكم الأسهم الموجود عند المساهم في الوقت الحالي فهو على الخلاف الفقهي الذي ذكرناه، فمن أجاز التعامل بأسهمها قال بأنه يجوز له أن يبقيها بيده بالشروط المذكورة، ومن أهمها ضرورة التخلص من الأرباح الربوية فيها وصرفه في المجالات الخيرية. ومن منع منها مطلقاً أوجب على المساهم فسخ البيع ورجوعه على البائع الأول، وأخذ رأسماله أو طلب استقالة البيع من إدارة الشركة . ولكن هذا الجواب نظري غير عملي، ولا توجد آلية لتطبيقه وهو متعذر من الناحية العملية. وعلى هذا فإننا نقول : إنه يبيعها في السوق ويتخلص من الربح الربوي المتحصل منها ويكون المساهم قد اتقى الله ما استطاع كما قال تعالى : (( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا)). والله أعلم.
المصدر : الإسلام اليوم
=============
الربا شر المكاسب
الشيخ / صالح بن عبد الرحمن الخضيري
الحمد لله الذي لا مانع لما وَهب، ولا واهب لما سَلب، طاعتُه أوصلُ مكتَسَب، وتقواه للمتَّقي أعلى نَسب، والمعاصي من خوفه تُجتنب، والمصائبُ في سبيله تُحتسب، والعَطايا من فضله تُرتقب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، هو المؤمَّل لكشف الكُرَب، وهو الرَّزَّاق ومع هذا أمر بفعل السَّبب، ونهى عن تجاوزِ حدود الشرع لئلاَّ نقع في العَطب. وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله، الذي اختاره الله وانتخب- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه سادةُ العجم والعرب.(3/105)
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله عباد الله، فإن التَّقوى لباس الإيمان، ومن أحبَّ أن يكون أكرمَ الناس فلْيلزم تقوى الله في السرِّ والعلن، ألا فطوبى للمتقين وحسن مآب.
أيُّها المسلمُون:
السَّعيُ على العيال، وتحرِّي لقمة الحلال، من أشرف الخصال، الأرزاق مقدَّرة، والآجال مكتوبة، والعبد مأمورٌ بفعل السبب مع اعتماد قلبهِ على الله وصدق التوكل عليه.
هذا ولقد أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات، والبعدِ عن المكاسب الخبيثة والأموال المحرَّمة، يقول الله - تعالى -: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) (سورة البقرة: 172).
ويقول - تعالى -: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ})) (سورة المؤمنون: 51).
فأكل الحلال طريق الرسل وطريق أتباعهم من المؤمنين، كما أن الشَّرَهَ في جمعِ المال وطلبه من المتشابَه والمحرم يسبب الغفلة، ويقسي القلب، ويوجب غضب الربِّ.
عبَاد الله:
ألا وإن شرَّ المكاسب التعامل بالرِّبا وأكله وتوكيله، فهو من كبائر الذنوب، ومن أسباب منع القَطْرِ ونزع البركات، بل إنَّ المُرابي محاربٌ لله ملعونٌ في سنة رسول الله ، واستمعوا معاشر المسلمين إلى آيات عظيمة تزلزل القلوب الحية، كلها وعيدٌ شديدٌ لأهل الربا، يقول - جل وعلا - في أواخر سورة البقرة: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)) (سورة البقرة: 275 -276). فهم يقومون يوم القيامة من قبورهم كالمجانين، ((إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)).
قال قتادة: (وتلك علامة أهل الرِّبا يوم القيامة، بُعِثوا وبهم خبلٌ من الشيطان).
ثم قال - تعالى -: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (سورة البقرة: 278 -279).
فما ظنُّكم بهذا الإنسان الضعيف، هل يقوى على محاربة القويِّ العزيز؟ ما ظنكم بمن يفعل مثل فعل اليهود وأهل الجاهلية.
يقول الله عن اليهود: ((وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ)) (سورة النساء: 161).
ألا ما أعظم الأمر، وما أفدح الخطب، وما أشدَّ الخسارة على أهل الربا في الدنيا والآخرة،
روى ابن ماجة عن ابن مسعود عن النبي قال: ((مَا أحدٌ أكثرَ منَ الرِّبَا إلا كانَ عاقبةُ أمرِهِ إلى قِلَّة)). [صححه البوصيري والحاكم والذهبي وحسنه ابن حجر، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، بواسطة التفسير الصحيح لحكمت البشير 1/386].
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: لعن رسول الله آكلَ الربا ومُوكِله وكاتبَه وشاهدَيْه وقال: ((هُمْ سَوَاء)).
وفي مسند الإمام أحمد (3809) عنه أنه قال: ((لعنَ اللهُ آكلَ الرِّبَا ومُوكلَهُ وشاهدَيْهِ وكاتبهُ)) قال: وقال: ((مَا ظهرَ في قومٍ الرِّبا والزِّنا إلا أحلُّوا بأنفسهِم عقابَ اللهِ - عز وجل -)). [التفسير الصحيح حكمت بشير 1/387].
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((اجتنبُوا السَّبعَ الموبِقات. قالُوا: ومَا هنَّ يا رسولَ الله؟ قال: الشِّركُ، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفسِ التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات)). [أخرجه البخاري ومسلم].
عبَاد الله:
تأمَّلوا قولَه - تعالى -في شأن أهل الرِّبا: ((فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)) فهو وربِّي وعيدٌ شديد، لكلِّ مرابٍ عنيد، قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: (يُقال يوم القيامة لآكلِ الربا: خُذْ سلاحَك للحرب تهكُّماً به).
وذكر القرطبيُّ في تفسيره: (أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام مالك بن أنس- رحمه الله - فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلًا سكراناً يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالقٌ إن كان يدخل في جوف ابن آدم شرٌّ من الخمر، فقال له مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغَدِ فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفَّحت كتاب الله وسنَّة نبيِّه فلم أرَ شيئاً أشرُّ من الربا، لأن الله أذِنَ فيه بالحرب). [تفسير القرطبي 3/364].
وروى عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((فمن كان مقيماً على الرِّبا لا يَنْزِعُ عنه فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستَتِيبَه، فإن نزع وإلا فضرب عنقه)). [أخرجه الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن التفسير الصحيح حكمت بشير 1/387].
أيُّها المسلمُون:
الربا في اصطلاح الفقهاء يتناول أمرين في الجملة:
الأول: ربا الجاهلية (ربا القرض):
وهو الزِّيادة في الدَّيْن مقابل تأجيل المدة، سواء اشتُرطت الزيادة عند حلول الأجل أو في بداية الأجل.
الثاني من أنواع الرِّبا: ربا البُيوع وهو نوعان:
الأول: ربا الفضل: وهو الزيادة في أحد البدلين الربويَّيْن المتفقين جنساً، كأن يبيع صاعاً من البُرِّ بصاعين منه فهذا حرام، أو مائة مثقال من الذهب بمائة وعشرين وإن اختلفا في الجودة.
النوع الثاني: ربا النَّسِيئَة: يعني تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي.
مثال ذلك: برٌّ ببُرٍّ بعد شهر، أو ريال بريالين بعد شهر مثلاً، وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة في مثل هذه الحالة، وهي: مائة ريال بمائة وعشرة بعد شهر مثلاً.
وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة على هذا بقول النبي : ((لا تبيعوا الدينارَ بالدينارينِ، ولا الدِّرهمَ بالدرهمينِ))، [رواه مسلم 1585].
وقال : ((الذَّهبُ بالذَّهبِ والفضَّةُ بالفضَّةِ والبُرُّ بالبُرِّ والشَّعيرُ بالشَّعيرِ والتَّمرُ بالتَّمرِ والمِلحُ بالملحِ مثلاً بمثل يداً بِيَدْ فمَن زادَ أو اسْتزادَ فقد أبَى الآخذ والمعطي فيهِ سوَاء)). [رواه مسلم 1584].
وعن عبادة بن الصامت t قال: قال رسول الله : ((الذهبُ بالذهبِ والفضةُ بالفضةِ والبرُّ بالبرِّ والشعيرُ بالشعيرِ والتمرُ بالتمرِ والملحُ بالملحِ مثلاً بمثل وسواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذهِ الأصنافُ فبيعوا كيفَ شئتم إذا كان يداً بيد)) [رواه مسلم 1587].
وعن أبي سعيد قال: جاء بلال بتمر بُرْنِيٍّ (تمر جيِّد)، فقال له رسول الله:
((من أين هَذا؟ فقال بلال: تمر كان عندي رديء بعت منه صاعين بصاعٍ لمطعَم النَّبي فقال رسول الله عند ذلك: أوّه عينُ الرِّبَا لا تفعلْ ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ فبِعْهُ ببيعٍ آخرَ ثمَّ اشترِ بِهِ)). [رواه البخاري ومسلم].(3/106)
من هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها نعلم: بأنه يحرم بيع الذهب بالذهب مع الزياد، ويجوز بيع الذهب بالفضة، ولو زاد أحدهما على الآخر، وكذلك التمر بالبر لكن بشرط التقابض في مكان البيع قبل التَّفرق.
أيُّها المسلمُون:
يحرم على المرء أن يقترض مبلغاً من المال على أن يردَّ أكثر منه، سواء كان من بنك أو غيره، فالقرض عقد إرفاقٍ وإحسان، واشتراط ردِّ زيادة عليه ربا محرم، واستغلال سيئ، وكل قرضٍ جرَّ نفعاً فهوَ رِبَا.
هذا ومن أغلظ أنواع الربا ما تفعله كثيرٌ من البنوك من القرض بفائدة، وكذلك ما تعطيه لعملائها من فوائد بنكيَّة، وهي الرِّبا بعينه، فليحذر المسلم من التورُّط في معاملاتٍ مشبوهة، وليتحرَّ لقمة الحلال، لئلا ينبت جسمُه على سحتٍ فيكون خاسراً، دعاؤه مردود، وإثمه مضاعف، وهذا ما يفعله بعض الناس اليوم عياذا بالله، وصدق رسول الله حين قال: ((ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ لا يبالِي المرءُ بما أُخذَ المالُ أمِن الحلالِ أم منَ الحرَام)). [رواه البخاري مع الفتح 4/313].
فيَا أيُّها العُقَلاء:
لا تغرنَّكم الحياة الدنيا، ولا يحملنكم طلب المال على ارتكاب الحرام، فلا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
أيُّها المسلم:
دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، واسأل عمَّا أشكل عليك، وإياك أن تأخذ الربا، أو تشهد عليه، أو تعين على ذلك بأي وجهٍ من الوجوه، وتذكر بأن المال الحلال ليس لبركته حدٌّ ولا نهاية، أما أموال الربا والمعاملات المحرمة فهي سحتٌ ومحق، وحسرةٌ وندامةٌ، وخزيٌ يوم القيامة، وصدق الله ((يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبسنة إمام المتقين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات، من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ مما يُعلم بالضَّرورة أنَّ الإسلام لا يحرِّم شيئاً إلا لحِكَمٍ عظيمة، أو منافع تعود على العباد، ولهذا حرم الله الربا، لما يفضي إليه من انقطاع المعروف بين الناس، من القرض الحسن، ولما يؤدي إليه ممن أخذ أموال الناس بغير عوض، وتعطيل الطاقات البشرية، لتحلَّ البطالة محل العمل والإنتاج.
كما أن الربا يزرع الأحقاد في القلوب، وينزع منها الرحمة، وبذلك تموت الأخوَّة، ويتفكَّك المجتمع، وإلى غير ذلك من الحكم التي اختص بها العليم الحكيم.
ألا فسحقاً للمُرابي فهو مطرودٌ من رحمة الله، محاربٌ لله، مقرونٌ بين معصيته وهي الربا مع الزِّنى، لتشابههما في الآثار السيئة على المجتمع.
آكل الربا دعاؤُه مردودٌ، وباب الخير في وجهه مسدود، وسوء الخاتمة تنتظره، وفي حديث أبي هريرة t أن رسول الله قال: ((ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبَرَ، يمدُّ يديهِ إلى السَّماء: يا ربّ يا ربّ ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يُستجابُ لذلك)). [أخرجه مسلم 1014].
معاشِرَ المُسلمين:
إنَّ الله لمَّا حرَّم الرِّبا حرَّم جميع الوسائل الموصلة إليه سدَّاً للذَّريعة، ومن ذلك بيع العِينة: وهي أن يبيع سلعة بثمن معلوم مؤجَّل، ويسلمها إلى المشتري، ثم يشتريها هذا البائع قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل. مثال ذلك: أن يبيع شخصٌ سلعةً على شخص آخر بمائة ريال مؤجلة لمدة سنة، ثم في نفس الوقت يشتري هذا البائع سلعته من المشتري بخمسين ريالا نقداً، وتبقى المائة في ذمة المشتري الأول، وهذا محرم، فقد جاء عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله : ((إذَا تبايَعتم بالعِينةِ، وأخذتُم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ، وتركتُم الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذلَّاً لا ينزِعُه حتَّى ترجِعوا إلى دِينكم)). [رواه أبو داوود 3/275برقم3462 وصححه الألباني لكثرة طرقه السلسلة الصحيحة 1/15 برقم]11.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذروا المكاسب الخبيثة، فإن أجسامكم على النَّار لا تقوى. عن سمرة بن جندب t قال: قال النبي : ((رأيتُ الليلة رجلينِ أتَيَاني فأخرجاني إلى أرضٍ مقدسةٍ، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجلٌ قائمٌ، وعلى وسط النَّهر رجل بين يديه حجارةٌ، فأقبلَ الرَّجل الذي في النَّهر، فإذا أراد أن يخرجَ رَمى الرجلَ بحجرٍ في فِيهِ فَرُدَّ حيثُ كان، فجعلَ كلما جاءَ ليخرجَ رمى في فيه بحجرٍ فيرجع كمَا كان، فقلتُ من هذا فقال: الذي رأيته في النَّهر آكلُ الرِّبا)). [رواه البخاري في حديث طويل].
اللهم ارزقنا رزقاً حلالاً وبارك لنا فيه، اللهم ارفع وادفع عنَّا الرِّبا والزِّنى والزلازل والمحن، وأعذنا من مضلات الفتن.
6/6/1426 هـ
13/7/2005
http://www.islamlight.net المصدر:
==============
مستقبل الربا
يحيى بن موسى الزهراني
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد المعبود، عم بحكمته الوجود، وشملت رحمته كل موجود، أحمد - سبحانه - وأشكره وهو بكل لسان محمود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الودود، وعد من أطاعه بالعزة والخلود، وتوعد من عصاه بالنار ذات الوقود، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم من المؤمنين الشهود، وسلم تسليماً كثيراً إلى اليوم الموعود...أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
أمة الإسلام: في مثل هذه الأيام من كل عام، يحزم الناس أمتعتهم، ويجهزون حقائبهم، استعداداً للسفر، ولكل منهم مقصده، فمن كان قصده الترويح البريء كان مأجوراً، ومن كان قصده غير ذلك، فالأعمال بالنيات، وكل هجرته إلى ما هاجر إليه، ثم توفى إليهم أعمالهم يوم القيامة وهم لا يبخسون، قال - تعالى -: " إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون "
أيها المسلمون: الناس في هذه الإجازة الصيفية، فرق شتى، منهم من يستعد للسفر، ومنهم من أخذ أهبته للزواج، ومنهم من عزم على شراء سيارته، ومنهم من يريد تشييد منزله، وغيرهم كثير، فكل يحتاج إلى النفقات، وتأمين الحاجيات، ولا يتأتى ذلك إلا بوجود المال، وإن مما تأسف له النفوس، ونذير حرب ضروس، ما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم، من تهافت على البنوك الربوية، والمصارف المحرمة، لاقتراض المال الحرام، من أجل متعة دنيوية ما تلبث أن تزول وتذهب، ويكون وبالها على فاعلها، قال - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين "، فلربما كان البيت قبراً، والسيارة تابوتاً، والزوج وبالاً، فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا دخول الربا في تعاملاتكم وأموالكم، فذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.(3/107)
أمة الإسلام: الربا من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، وأشد العظائم، الربا يهلك الأموال، ويمحق البركات، ويجلب الحسرات، ويورث النكسات، قال - تعالى -: " يمحق الله الربا ويربي الصدقات "، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " [أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح]، آكل الربا ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، خارج من رحمة الله، داخل في عذاب الله، ما لم يتب ويستغفر الله، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء " [أخرجه مسلم]، فأي ذنب أعظم من ذنب ملعون صاحبه؟ وأي مصيبة أكبر من مصيبة اللعن والطرد من رحمة الله - تعالى -؟ فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أنكم محاسبون، وعن أموالكم مسؤولون، ولن تنفعكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئاً.
أمة الإسلام: الربا حرام كله، قليله وكثيره، قال - تعالى -: " وأحل الله البيع وحرم الربا "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها، وأكل الربا " [متفق عليه]، الربا حرب لله ولرسوله، قال - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله "، والعجيب والعجائب جمة، أن من الناس من يأكل الربا عالماً بحرمته، عارفاً بعقوبته، متذرعاً برحمة الله ومغفرته، ونسي المسكين أن الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز: " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم "، ويقول - سبحانه -: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب "، الربا دمار للأفراد والشعوب، وإشعال لفتيل الحروب، الربا هلاك للأمم والمجتمعات، صغار وذلة للمتعاملين به، ولا أدل على ذلك من هذه النكبات التي حطت رحالها بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، من حروب مدمرة، وفيضانات عارمة، وكسوف وخسوف، ورياح عاتية، وقتل وسرقات، وجرائم واغتيالات، ونهب للممتلكات، كوارث وحوادث، ليس لها من دون الله كاشفة، ولا منجي منها إلا بتوبة صادقة، ورجوع إلى الله الواحد القهار.
أيها المسلمون: في خضم معترك هذه الحياة، وفي بحرها المتلاطم الأمواج، هناك فئة من المسلمين، تجرءوا على الحرمات، وارتكبوا المنهيات، دون ورع ولا خوف، فأكلوا الربا، ودعوا الناس إلى أكله، مجاهرين بالمعصية، وقد توعدهم الله بعقاب من عنده، على لسان نبيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: " من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " [أخرجه البخاري]، ومن تعامل بالربا فقد خالف أمر الله وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعصى الأوامر، واقترف الزواجر، وقد قال الله - تعالى -: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "، وقد بين الله - تعالى -مآل العصاة والمذنبين، والمتعاملين بالربا، والآكلين له، فقال - تعالى -: " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين "، إن أمراً هذه نهايته، وتلكم عاقبته لواجب على كل عاقل أن يجتنبه ويحذره، ويحذر الناس من خطره وشره، قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [أخرجه الحاكم وحسنه الألباني].
أيها المسلمون: آكل الربا لا يستجاب لدعائه إذا دعا، ولا تفتح له أبواب السماء، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك " [أخرجه مسلم في صحيحه]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم حرام، فإذ ذاك لا تجاب لهم دعوة " [أخرجه البخاري]، فالربا شؤم على صاحبه، ظلم للمتعامل به، فيه ارتكاب لما حرم الله ورسوله، وربما سلط الله على صاحبه الآفات المهلكة، والكوارث المدمرة، من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه، وكم رأى الناس وعاينوا، وشاهدوا وباينوا، عاقبة الربا على أصحابه، فكم من الأثرياء المرابين، والأغنياء المحاربين، الذين محق الله ما بأيديهم، حيث علقتهم الديون، فأخذهم الله بعذاب الهون، فصاروا عالة على الناس يتكففون، وصدق الله العظيم القائل: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً "، وصدق عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، القائل في الحديث الصحيح: " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " [أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني 2 / 28].
أمة الإسلام: للربا أثار مخيفة، وعواقب عنيفة، منها ما تم بيانه، ومنها: أن الربا سبب لظهور الأمراض المستعصية، وكثرة الأدواء والأوبئة، وتسلط الحكام، وانتشار الفقر والبطالة، وكثرة الجريمة، وشيوع الفساد في البلاد بين العباد، وهذا ما تعانيه الأمة اليوم، فهل من مدكر ومتعظ؟ في الحديث، ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا ظهر فيهم الفقر، والأمراض المستعصية، وظلم السلطان، ومن أعظم آثار الربا فتكاً، وأشدها ضرراً، أنه سبب لعذاب القبور، ففي الحديث الصحيح الطويل الذي أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، أن آكل الربا، يُعذب من حين موته إلى يوم القيامة، بالسباحة في بحر الدم، ويلقم حجارة من نار، وهذا عذابه في قبره مع لعنة الله له، ألا فاتقوا الله عباد الله، وذروا ما بقي من الربا، واتركوا كل تعامل به، واهجروا كل من تعامل به، واحرصوا رحمكم الله على تحري المال الحلال، ففيه غنية عن الحرام.
أيها المسلمون: لما كثرت البنوك الربوية، وانتشرت الدعايات الصحفية، تحت شعارات مضلله، وروايات باطلة، بأسماء منمقة، كالخدمات البنكية، والنظام المصرفي، والمداينات، والقرض والفائدة، وحساب التوفير، وودائع الائتمان، ونحو ذلك، لما تغير مسمى الربا بتلكم المسميات، انساق الناس وراء ترهات الأحلام، وسفهاء الأقلام، فوقعوا في الربا عياناً بياناً، فيا حسرةً على العباد، تاهوا في كل واد، قال - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكله أصابه من غباره " [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة]، والناظر في واقع المسلمين اليوم، يدرك مصداقية هذا الحديث، وأي موظف لا يمر راتبه بأحد البنوك الربوية، فسبحان الله ما أحلمه على خلقه، وما أرأفه بعباده، وما أصبره على أذاهم، ينزل عليهم نعمه ومننه وخيراته، ويقابلون ذلك بالمعاصي والجحود والكفران، قال - تعالى -: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ".(3/108)
أيها المسلمون: إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأجمع العلماء على تحريمه، ولم يُحل في ملة قط، فمن اعتقد حله وقد جاءته الآيات والأحاديث، فإنه مفارق للإسلام، وخارج منه، لكونه مكذباً لله ورسوله، راداً على الله ورسوله، قال - تعالى -: " قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ "، فانظروا عباد الله كيف أذن الله - جل وعلا - بقتال من لم يُحرم ما حرمه الله ورسوله، بل وأذن في حربهم، وأخرجهم من دائرة الإيمان والعياذ بالله، فالربا حرام لما يحتويه من ظلم للبشرية، وأكل لحقوق الإنسانية، في الربا تجتمع جميع الشرور، بفعل الربا تصبح الأمم طبقتان، طبقة غنية، وأخرى فقيرة، الربا من أسباب الكسل والخمول، الربا حرام كله، مهما كانت أسبابه ودوافعه، فليس هناك مسوغ يجيز لعبد من عباد الله أن ينتهك حرمات ربه وخالقه، الربا حرام في الأمور الاستهلاكية والإنتاجية، الربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين، الربا حرام ولو حصل التراضي بين الطرفين، لأنه عدوان لله ولرسوله، ومعصية ظاهرة الحجة والبيان.
أمة الإسلام: احذروا سخط الله ومقته وغضبه، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل الطاعات، واجتناب المنهيات، ألا وإن أعظم المنهيات بعد الشرك بالله التعامل بالربا، ولا يغرنكم من هلك مع الهالكين، فتلكم سبيل الغافلين، وعاقبة المجرمين، وتعاملوا فيما بينكم بالمعاملات الطيبة النافعة، وكونوا عباد الله إخواناً، فرأس المال والخبرات، تورث المنافع والخيرات، فاحذروا الربا أيها الناس، لا يغرنك تسهيلاتهم، فهم والله لم يسهلوها محبة لكم، وإنما يريدون اقتناصكم، فاليوم تكون الأمور سهلة، وغداً تجتمع الديون، ويكثر المطالبون، فلا تستطيعون وفاءها، فيعود الغني فقيراً، والمترف مفلساً، فاتقوا الله - تعالى - في أموالكم، واحذروا دخول الربا فيها، وابتعدوا عنها طاعة لله، وخوفاً من عقوبته، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
أيها المسلمون: كل الناس يعلم حرمة الزنا، ولقد جعل الله الربا أشد من الزنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: " درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية " [أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " [أخرجه الحاكم وصححه الألباني]، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن، وسوء المحن، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فأستغفر الله منه، واستغفروه إنه كان للأوابين غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، له الحمد كله، وله الشكر كله، وله الفضل كله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أهل هو أن يعبد، وأهل هو أن يشكر، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع سنته، واهتدى بهداه... أما بعد:
فيا أيها المسلمون: لقد كثرت الدعايات للعمل بالربا، وتعددت مجالاته، وتنوعت أساليبه، فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقه، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم القيامة، فمن معاملات الربا المحرمة اليوم وأكثرها شيوعاً:
*** القرض بفائدة، وصورة ذلك، أن يقترض شخص من آخر أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة، فهذا هو عين الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه قال - تعالى -: " وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
** ومن صور الربا المحرمة، بيع العينة، وصورة ذلك، أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل، فهذه معاملة ربوية محرمة، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط، يتحايلون على الله - تعالى -كما يتحايلون على الأطفال، - تعالى -الله عن ذلك علواً كبيراً، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لئن تركتم الجهاد، وأخذتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم، حتى تتوبوا إلى الله، وترجعوا على ما كنتم عليه " [أخرجه أبو داود].
** ربا الدين، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر، وهذه هو الربا أضعافاً مضاعفة، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله - سبحانه -: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله ".
** ربا النسيئة، وله صورة متعددة، منها: أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن يرده وزيادة، ومنها: بيع النقود بالنقود، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة، أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس، ولو لم يكن هناك زيادة، فهذا عين الربا الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء " [أخرجه مسلم]، وفي رواية: " مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " [أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض " [متفق عليه] ولا تفضلوا بعضها على بعض، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الأصناف الستة المذكورة: " ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " [متفق عليه]، وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة جارفة، وتكثر في المصارف، وعند باعة الذهب والحلي، وإذا اختلفت الأصناف حال البيع، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم، يداً بيد " [أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود]، ولفظ أبي داود: " ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا ".
** ومن صور الربا اليوم، أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل فائدة مالية، يسمونها عمولة البطاقة، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية، يرى الناس ظاهرها، ويخفى عليهم باطنها، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل بها، فاحذروا عباد الله من تلك الألاعيب المكشوفة، التي يتحايلون بها على الناس، ليدخل الربا في أموالهم، فتمحق بركاتها، وتزول خيراتها.
** ومن صور الربا، استبدال الذهب القديم بذهب جديد، ودفع الفرق بينهما، وهذا عين الربا، والصحيح في ذلك، أن يبع القديم ويقبض ثمنه، ثم يشتري جديداً.(3/109)
** ومن وصر الربا، أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً، وهذا رباً لا يجوز التعامل به، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء " [أخرجه مسلم]، فليحذر تجار العملات، وتجار السبائك الذهبية، ألا يبيعوا حاضراً بغائب، فلابد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد.
** ومن صور الربا، الإيداع بفائدة، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية، ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ، وهذا حرام، وفيه تعاون على الإثم والعدوان، ومعصية الرحمن.
أيها المسلمون: لا ريب أن المسلمين أخوة، يساعد بعضهم بعضاً، ويعين أحدهم أخاه، بشفاعة حسنة، أو واسطة لا ظلم فيها، أو غير ذلك من أوجه المنفعة، فمن شفع لأخيه أو قضى له منفعة، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً، ومن فعل فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، قال - صلى الله عليه وسلم -: " من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا " [أخرجه أبو داود]، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت "، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " كل قرض جر نفعاً فهر ربا ".
أمة الإسلام: ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم، فمن كان كذلك، وجب عليه رد الحقوق إلى أهلها، وترك الربا فوراً، لأنه من أسباب سخط الله، ومن وقع في الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية، ليتبين الحق من الباطل، ألا فاعلموا أيها الناس أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً، فالعقد باطل، لحديث بلال - رضي الله عنه - أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر جيد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أين هذا؟ "، فقال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا ربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا " [متفق عليه واللفظ لمسلم]، وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه، والموافقة من قبل المتعاقدين، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا.
أمة الإسلام: لقد كان سلفنا الصالح - رحمهم الله - تعالى -ورضي عنهم أجمعين، أبعد الناس عن الحرام، بل وتركوا المباح، خوفاً من الوقوع في الحرام، عرفوا قدر الأموال، وأمعنوا النظر في سبيلها، وطرق الحصول عليها، فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة، سلكوا في تحصيلها سبيل الورع، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر - رضي الله عنه - غلاماً، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر - رضي الله عنه -، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ لقد كان ثمناً للكهانة، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه، وشرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟، قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء، هكذا أيها المسلمون كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم، بعد أكله وهم جاهلون به، وما ضرهم ذلك الفعل، بل ملكوا زمام الدنيا، ومفاتيح الآخرة، وكانت حياتهم طيبة، وعاقبتهم حميدة، الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم، وقوم عرفوا الحرام، وقرءوا كتاب الله، وتدبروا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أقدموا على أكل الحرام، شتان بين الفريقين، فريق ملكوا الأرض وخيراتها، وفريق ضاع ملكهم اليوم، فأصبحوا عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات، قال الله - تعالى -: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من الله من وال "، وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة، رجل توضع تحت قدميه جمرتان من النار، يغلي منهما دماغه، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله بالخلود في النار، فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الله - عز وجل - ختم آيات النهي عن الربا، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله - تعالى -: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "، فهل بعد هذا البيان من النصوص الشرعية بيان؟ لهي أعظم دليل وبرهان، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد "، وقوله - سبحانه -: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً "، وفي الموضوع أدلة كثيرة، وأخبار غزيرة، وفيما ذكرت كفاية، لمن أدركته العناية، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المختار، صادق الأخبار، سيد الأبرار، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار، فقال الواحد القهار: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً "
http://www.saaid.net المصدر:
==============
الربا
يحيى بن موسى الزهراني
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كثير الخيرات، وعظيم البركات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى والرحمات، عليه من ربه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وأصحابه أهل التقى والكرامات، ومن تبعه بإحسان إلى يوم العرصات...أما بعد:
لقد بعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فأبطل الله به مسالك الجاهلية، وقضى به على معالم الوثنية، فاستأصل شأفتها، واجتث جرثومتها، وفي طليعة ذلك الكبيرة العظيمة، والجريمة الشنيعة، والمعصية المتوعد عليها بالحرب من الله ورسوله، ألا وهي جريمة (الربا)، فهيهات أن تُعمر الحياة وتشاد الحضارات وأناس يتعاطون الربا، ولا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة، ولا للدين صيانة.
فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد الخالصة لله، وأشرقت أنوارها في جميع أصقاع المعمورة، حررت القلوب من رق العبودية لغير الله، ورفعت النفوس إلى قمم العز والشموخ، وسمت بالعقول عن بؤر المال وحبه، وعلت بالقلوب عن مستنقعات المال الحرام. كيف لا وعقيدة المسلم أعز شيء عنده، وأغلى شيء لديه، بها يواجه أعتى التحديات، وبها يصبر على الابتلاءات، وبها يترك الإغراءات، ويقاوم موجات القلق والأرق، والاكتئاب النفسي والاضطرابات، وبها يقيم سداً منيعاً، ودرعاً متيناً أما زحف المال الحرام، والغزو الفكري والعقدي، ويحذر من بضاعة اليهود الحاقدين، أكلة الربا المغرضين، من هنا كانت أنبل معارك العقيدة، تحرير العقول الإنسانية من كل ما يصادم الفطر، ويصادر الفكر، ويغتال المبادئ والقيم.(3/110)
لقد حد الله - سبحانه وتعالى - لعباده حدوداً من تعداها وتخطاها إلى غيرها وقع في الحرام وأدى بنفسه للهلاك والدمار، وعرض نفسه للعذاب والعقاب، ففي تعدي حدود الله ظلم للنفس البشرية، ومعصية لرب البرية، وهذا من أشد أنواع الظلم، ظلم الإنسان لنفسه، إذ كيف بإنسان وهبه الله عقلاً وحكمة وعلماً وخط له خطوطاً، وأرسل له رسلاً، وأنزل له كتباً، فتبين له الحق من الباطل، ثم يصر على المعصية وفعل الذنب، واقتراف الصغيرة والكبيرة، فمن تعدى حدود الله، وانتهك محارمه غير مراع لأمر ولا نهي، فقد أعد الله له من العقوبة جزاءً وفاقاً و {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون}، ولقد جاء الكتاب العزيز، مرغباً في الخير، ومرهباً من الشر، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، فيه وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، فيه الأوامر والنواهي، فنأى بأتباعه عن أوهام الجاهلية، وطهر نفوسهم من رجز الوثنية، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف، وبؤر الاستخفاف في كل صوره وأنماطه، ويأتي في طليعة ذلك (جريمة الربا) لما يمثله من طعنة نافذة في صميم العقيدة، وشرخ خطير في صرح التوحيد، وتمزق مزر يضعف القوة، ويذهب العزة، ويجلب الانتكاسة، وسوء الخاتمة، ويلحق الهزائم، ويقضي على العزائم، فتقع الاضطرابات في المجتمع، وتحصل الفوضى في الأمة، فتغرق سفينتها في مهاوي العدم والردى، ولذا فقد نهى الشارع الكريم عن (الربا) في محكم التنزيل، وحذر من عاقبته السيئة ونهايته المؤلمة فقال الله - تعالى -: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، فالربا حرام كله، كثيره وقليله، بجميع أشكاله وأنواعه، وصوره ومسمياته، ولم يأذن الله في كتابه العزيز بحرب أحد إلا أهل الربا، فالناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود، والعجز عن تسديد الديون، وشلل في الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس، فأصبح ناتج الكدح اليومي يصب في خانة تسديد الربا، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا فقال - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} إنها بضاعة مزجاة، وتجارة كاسدة، وحرب خاسرة مع الله - تعالى -، حرب لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات، فهي مع خالق الأرض والسموات، الذي يقول للشيء كن فيكون، فكيف يخوض عبد ضعيف لا حول له ولا قوة حرباً ضروساً مع من له جنود السموات والأرض، وله جنود لا يعلمها إلا هو، إنها حرب غير متكافئة من أقدم عليها من البشر فقد أهلك نفسه وأذاقها ألم العذاب ومرارة العقاب، وضنك العيش في الدنيا والآخرة.
فكم نرى ونسمع عن أهل الربا وآكليه والمتعاملين به وما حل بهم من جنود الله - عز وجل - فالسرطان وأمراض الشرايين والذبحة الصدرية وموت الفجأة من جنود الله {وما يعلم جنود ربك إلا هو}، وقال - تعالى -: {ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}، واستمعوا لعظمة جندي من جنود الله - تعالى -، أخبر عنه الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فقال: [أُذن لي أن أُحدث عن ملك من ملائكة الله - تعالى -من حملة العرش، ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة] (رواه أبو داود وغيره وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة)، سبحان الله العظيم، إذا كان هذا ملك من ملائكة الرحمن - عز وجل -، وخلق من خلقه، وعبد من عباده، فكيف بالخالق - تعالى -وتقدس، يقول الله - تعالى -: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه - سبحانه وتعالى - عما يشركون}، ويقول - تعالى -: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب} ويوم القيامة يقال لآكل الربا خذ سلاحك واستعد للحرب مع الله، استعد لخوض غمار الحرب مع من بيده ملكوت كل شيء، مع من له جنود السموات والأرض، وما يفعل ذلك الإنسان صاحب اللحم والعظم في مثل ذلك الموقف الرهيب العصيب ولكن {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
معاشر المسلمين: لقد شبه الله - عز وجل - آكل الربا بالمجنون والمصروع عندما يخرج من قبره إلى محشره فهو يتخبط في الأرض لا يدري ما الخطب ولا يعلم ما الأمر كما كان يتخبط في مال الله بغير حق (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) فأكلة الربا يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع لأنهم أكلوا الأموال رباً وحراماً في الدنيا، فانتفخت به بطونهم حتى أثقلتهم عن الخروج من قبورهم يوم القيامة فكلما أرادوا النهوض سقطوا، يريدون الإسراع مع الناس فلا يستطيعون. قال - صلى الله عليه وسلم -: [إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة] (رواه البخاري)، ولكن وللأسف: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: [كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به] (رواه البخاري) فالمال الحرام سبب لدخول النيران، والبعد عن الجنان، فقد جاء في الحديث عند الترمذي [لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام]، فأكل المال الحرام من رباً وغيره من أعظم موانع الدعاء، ألا ترى آكل الربا يدعو ليلاً ونهاراً فلا يستجاب له، تتراكم عليه المصائب والمحن، فلا يستجاب له، إنه مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إن الله - تعالى -طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال - تعالى -: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} وقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له] (رواه مسلم).
ولقد جاء التحذير من تعاطي الربا أو التعامل به، ولعن صاحبه وطرده من رحمة الله - عز وجل - وإبعاده عن مرضاته - سبحانه وتعالى -، ففي حديث بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) (رواه مسلم) أي أنهم سواء في الإثم والمعصية، والجزاء والعقاب، قال - صلى الله عليه وسلم -: (اجتنبوا السبع الموبقات (آي المهلكات) قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) (رواه الشيخان).(3/111)
أيها المؤمنون عباد الله: عندما تنقلب الموازين، وتنتكس الفطر، وتتحطم القيم، ويقع الإنسان في أوحال الذنب والكبيرة، ويغوص في أعماق المعصية والرذيلة، ويتلطخ بأوصاف قذرة قبيحة، عند ذلك يصبح الإنسان في مصاف البهائم، وتلحقه لومة اللائم، ولكن العجيب والعجائب جمة قصة ذلك الساذج البسيط، الذي فقد عقله، وأسلمه لعدوه، الشيطان وأعوانه، فنأى بنفسه بعيداً عن التوحيد، ورمى بها في مستنقعات الجهل وحب المال الحرام، فلقد جاء شاب من أهل الغفلة والضياع، إلى المسؤول يطلب منه استقطاعاً من راتبه لعملية ربوية محرمة مع أحد البنوك الربوية، وعندما وجه إليه النصح والإرشاد، والتخويف من أجل الترك والابتعاد، مسنوداً بقول أفضل العباد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)، فبدل أن يقوم بشكر ذلك الناصح الأمين، وحاملاً له هم الأخوة في الدين، بل رد قائلاً: اعتبرني ناكحاً للأسرة كلها، إنه والله الخسران المبين، والران الذي غطى القلوب، وأعمى الأبصار، إن الزنا مع الغريبة عظيم، فكيف بذات الرحم؟ لقد انساق وراء الأوهام، واستسلم للأباطيل وتفاهة الأحلام، فهو كالفراش يتهافت على النار، إنه أمر مذهل، وجواب مخجل، إن من الحيوان الذي لا يفكر، ولا يمكن أن يقدر، من لا يمكن أن يقع على أمه، فذكر الدميري في حياة الحيوان الكبرى وفي طيات كلامه عن الجمل، فقال: لا يمكن للجمل أن ينزو على أمه، فكان رجل في سالف الدهر ستر ناقة بثوب ثم أرسل ولدها عليها فلما عرف أنها أمه قتل نفسه، فسبحان الله العظيم، جمل أعقل من رجل، وحيوان أفهم من إنسان، فهذا إنسان لا يبالي بأن ينكح أسرته من أجل حفنة من مال حرام، وذاك حيوان يقتل نفسه لأنه وقع على أمه، فشتان ما بين الإثنين، فاحذروا عباد الله من عاقبة الربا وأكله، فهو الطريق إلى النار، وبئس القرار.
معاشر المسلمين: إن الربا وإن كثر فهو إلى قِلّ وأن بركته ممحوقة يقول الله - تعالى -: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم). وقال - صلى الله عليه وسلم -: [الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل] (رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع)، فآكل الربا كافر كفر نعمة، وإن استحله فهو كافر خارج من الدين ومارق منه، يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً والعياذ بالله، فخير الله إليه نازل وشره إلى الله صاعد قال - تعالى -: {أفبنعمة الله يجحدون} وقال - تعالى -: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} فآكل الربا لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، بل يسعى في أكل الأموال بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، وأنواع العقود الخسيسة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل الحرام، ولذلك وصفه الله - عز وجل - بأنه كفار أثيم، وكفران النعمة سبب لتغير الحال وكثرة المرض والجنون والموت وسبب لزعزعة الأمن وعدم الاستقرار قال - تعالى -: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.
أيها المؤمنون: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث وذلك لأن الأغنياء يحاسبون على أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها وهذا في المال الحلال فما ظنك بذي المال الحرام. ولما سئل عيسى - عليه السلام - عن المال قال: [لا خير فيه، قيل: ولم يا نبي الله، قال: لأنه يُجمع من غير حِل، قيل: فإن جُمع من حِل، قال: لا يُؤدي حقه، قيل: فإن أدى حقه قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخُيلاء، قيل: فإن سلِم، قال: يُشغله عن ذكر الله، قيل: فإن لم يُشغله، قال: يُطيل عليه الحساب يوم القيامة]، فتأملوا رحمكم الله هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالماً.
فو الله إن ذلك هو المحق والنقصان، والذل والهوان، والمبين من الخسران.
فمن أستحل الربا وأصر على أكله وتعاطيه واستمر على ذلك أدى به إلى الكفر وسوء الخاتمه والعياذ بالله، ففي التعامل بالربا مخالفة لأمر الله - تعالى -وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال - تعالى -: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم}.
وفيه معصية لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتعد لحدود الله- تبارك وتعالى -وارتكاب لمحارمه وقد قال الله - تعالى -: {ومن يعص الله ورسوله ويتق حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين}.
فتأمل أيها المسلم ما ذكره الله - عز وجل - في الآيات من وعيد لآكل الربا وعظيم ما يترتب على فعل ذلك المنكر العظيم من العقوبات والدخول في النيران فيا من تتعامل بالربا تب إلى المولى - جل وعلا - قبل أن يحل بساحتك هادم اللذات ومفرق الجماعات ثم تقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه ? يا ليتها كانت القاضية?? ما أغني عني ماليه ? هلك عني سلطانية} فيقال لك: {خذوه فغلوه ? ثم الجحيم صلوه ? ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فأسلكوه}.
فاحذر من عاقبة التعامل بالربا وأقبل على الله بتوبة نصوح تجب ما قبلها من الذنوب والعصيان.
أيها المسلمون: لا بد لكل عاقل فطن، أن يعرف أن التعامل بالربا دسيسة ومكيدة من دسائس أعداء الله اليهود ـ قاتلهم الله ـ ومكيدة من مكائدهم العظيمة ـ لا كثرهم الله ـ ليبعدوا الناس عن دينهم، فقد باءوا بالغضب واللعن من الله - تعالى -لأكلهم الربا، واستحقوا الخزي والندامة، ومسخوا خنازير وقردة، يقول الله - تعالى -: {
إن العالم بأسره يئن من وطأة اليهودية الحاقدة، ويدعوا باللعنة والمقت لأهلها والقائمين عليها.
عباد الله: لقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف وغيرها، وإغراء الناس بإيداع أموالهم مقابل فوائد ربوية صريحة، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن تلك الفوائد حرام سحت وهي عين الربا الذي جاء تحريمه في الكتابين.
ومن كبائر الذنوب، فالربا يفسد المال على صاحبه، ويمحق بركته، ويسبب عدم قبول العمل الصالح.
وليعلم كل مسلم إنه مسؤول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به" (رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح).
والأدلة على تحريمه كثيرة، قال - تعالى -: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تعلمون "، وقال - تعالى -" وما أتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" (رواه مسلم).
فهذه الأدلة وغيرها تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة.(3/112)
وإن مما تأسف له النفوس أن ثلة من الناس لا يهتم بأحكام الإسلام وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان، وما ذاك إلاّ لضعف الإيمان وقلة الخوف من الله - تعالى -، وغلبة حب الدنيا على القلوب، نسأل الله السلامة. هذا هو الواقع المؤلم الذي آلت إليه مجتمعات الإسلام ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. فهذه الهزائم والخسائر، وهذه البراكين والزلازل، وهذا الهرج والمرج، وكثرة الحوادث والمرض، كل ذلك بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره. قال - عليه الصلاة والسلام -: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد). وقال - تعالى -: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي علموا لعلّهم يرجعون" وقال - تعالى -: "وما نرسل بالآيات إلا تخويفا".
وقال - تعالى -: "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبنها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذاباً شديداً فاتقوا يا أولى الألباب "، وقال ابن القيم - رحمه الله - " إذا ظهر الزنا والربا في قرية أُذن بهلاكها " فبدأت المحن تتوالى والمصائب تتابع من جرّاء التعامل بالربا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه فحُق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلاّ ضرب عنقه " وصدق - رضي الله عنه -، فالربا على شاكلة الزنا، فمن هو الذي يستطيع أن يزني أمام الناس جهرة وعلانية، ومن هو الذي يقر على نفسه بالزنا ثمّ لا يرجم ولا يجلد، فالربا كذلك من أعلن التعامل به أو علم عنه ذلك، فحقٌ على المسلمين هجره تأديباً وزجراً، وواجب على وليّ الأمر تأديبه وتعزيره عنوة وقهراً، حتى يعود إلى صوابه ويراجع دينه ويتوب إلى ربه ويعود عن غيّه وزيغه.
أيها المرابي.. يا من تتعامل بالربا: اتق الله، واجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، واحذر من مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون، استعمل عقلك وحكم دينك وشرع نبيك، الذي قال: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي، انطلق، وإني انطلقت معهما،.. فانطلقنا فأتينا على نهر قال أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلمّا رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجراً، قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، إلى أن قال: فإني رأيت الليلة عجباً؟ فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنا سنخبرك. أماّ الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا " (رواه البخاري).
وهذا عذاب أهل الربا في القبور إلى يوم البعث والنشور وذلك تنكيلاً لهم ومدّاً للعذاب، لاعتراضهم على الله في حكمه، فالله يقول: "وأحلّ الله البيع وحرّم الربا"، وهم يقولون: البيع مثل الربا، فاعترضوا على الله في حكمه ورفضوا شرعه، مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا، وهو - سبحانه - العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده وما يضرهم. ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "وكل رباً في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضع ربا العباس".
عباد الله: للربا صور عديدة،، وأشكالاٍ كثيرة، حري بكل مؤمن أن يسعى جاهداً لمعرفتها، وكشف حقيقتها حتى لا يقع في هذا الجرم العظيم، والخطر الجسيم، فمن صور الربا المتداولة بين الناس اليوم، وحسبنا الله ونعم الوكيل:
فمن صور الربا: أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجل من شخص أو بنك أو معرض، ثم يبيعها عليه بثمن حال أقل من ثمنها المؤجل قبل أن يسدد قيمتها كاملة، فهذه حيلة على الربا، يتحايلون على الله كما يتحايلون على الصبيان (وهذا يسمّى بيع العينة). قال - عليه الصلاة والسلام -: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (رواه أبو داود وهو حديث صحيح بمجموع طرقه السلسة الصحيحة).
ولماّ سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن مثل هذه المعاملة قال: هذا حرام، حرمه الله ورسوله. بل أخبرت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من فعل ذلك من الصحابة جاهلاً بأنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب.
ومن صور الربا: أن يستدين مبلغاً من المال على أن يعيده بزيادة، سواءً كان المتعامل معه شخصاً أو شركة أو بنكاً أو غيرها، فتلك المعاملة رباً، والربا حرام.
ومن صور الربا: أن يستبدل ذهباً قديماً بذهب جديد ويدفع الفرق بينهما وهذا عين الربا، والمعاملة الصحيحة في ذلك: أن يبيع ذهبه القديم ويقبض ثمنه، ثم يشتري ذهباً جديداً بثمن القديم ولو زاد نقوداً من عنده بعد ذلك.
ومن صور الربا: أن يشتري ذهباً حالاً بثمن مؤجل، فهذا ربا محرم التعامل به، ولا تجوز المحاباة فيه لا لقريب ولا لصديق، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان أقرب قريب.
ومن صور الربا: قلب الدين على المعسر، وهذا هو ربا الجاهلية وذلك أنه إذا حل الدين ولم يكن عنده سداد، زيد عليه الدين بكميّات ونسب معينة حسب التأخير وهو حرام بإجماع المسلمين.
ومن صور الربا: القرض بفائدة: وصورته أن يقرضه شيئاً، بشرط أن يوفيه أكثر منه، أو يدفع إليه مبلغاً من المال على أن يوفيه أكثر منه بنسب معينة، وهو ربا صريح، أو يقرضه مالاً على أن يعيده وشيئاً معه سواء من المال أو من غيره من الأواني وغيرها.
ومن صور الربا: الإيداع في البنوك بفائدة: وهو ما يسمّى بالودائع الثابتة إلى أجل، فيتصرف البنك في هذه الودائع إلى تمام الأجل، ويدفع لصاحبها فائدة ثابتة بنسبة معينة في المئة، وهذا ربا لا شك فيه، ولا ريب فيه.
عباد الله: يا من ترجون رحمة الله وتخافون عذابه: احذروا من دخول الربا في معاملاتكم، واختلاطه بأموالكم، فإن أكل الربا وتعاطيه من أكبر الكبائر وأخبث الخبائث وفيه الإذن من الله لمتعاطيه بالفقر والأمراض المستعصية وظلم السلطان، فالربا يهلك الأموال ويمحق البركات فكم تسمعون من تلفِ الأموال العظيمة بالحريق والغرق والفيضان فيصبح أهلها فقراء بين الناس، وإن بقيت هذه الأموال الربوية بأيدي أصحابها فهي ممحوقة البركة، لا ينتفعون منها بشيء، إنما يقاسون أتعابها، ويتحملون حسابها ويصلون عذابها، فالمرابي مبغوض عند الله وعند خلقه، لأنه يأخذ ولا يعطي، ويجمع ويمنع، ولا ينفق ولا يتصدق، شحيح جشع، جموع منوع، تنفر منه القلوب، وينبذه المجتمع، وهذه عقوبة عاجلة، وعقوبته الآجلة أشد وأبقى وما ذاك إلاّ لأن الربا مكسب خبيث، وسحت ضار، وكابوس ثقيل على المجتمعات البشرية، فيجب على المسلم الابتعاد عنه، والتحرز منه، لكثرة الوقوع فيه في هذا الزمان، لماّ طغت المادة، وضعف المسلمون، وفشا الجهل بأحكام الدين، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره" (رواه أحمد وأبو داود)
فمن تأمل حال الناس اليوم أدرك مصداق هذا الحديث الشريف وذلك أنه لماّ فاضت الأموال وتضخمت في أيدي فئام من الناس وضعوها في البنوك الربوية فأصابهم من الربا ما أصابهم، فمنهم من أكله ومنهم من لم يأكله لكن أعان على أكله فأصابه من غباره والله على ما يفعلون شهيد.(3/113)
أيها الأخوة كيف يأتي النصر والناس قد أكلوا الربا، ومن لم يأكله أصابه من غباره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا بد من مراجعة النفس، ورأب الصدع، واجتماع الكلمة، وتوحيد الصف.
http://saaid.net المصدر:
==============
خطورة الربا
عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله - تعالى - من ستة وثلاثين زنية)).
إن الصدقة هي الوجه المشرق الصالحة للمعاملة التي يتعامل بها الناس، ويقابلها الوجه الكالح الطالح وهو الربا، وشتّان بين الوجهين:
فالصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.
والربا شح وقذارة ودنس، وأثرة وفردية.
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد.
والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده، ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا.
ولهذا تحدث القرآن عن الصدقة ثم أتبعها بالحديث عن الربا، الوجه الآخر الكالح الطالح، وكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ من التهديد في أمر الربا.
ولما كان الربا قد شاع في عصرنا هذا شيوعا كثيرا جعل السلامة منه من الصعوبة بمكان، كان لابد من الحديث عن الربا وبيان خطره وخطر عقوبته لعل المرابين يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فنقول وبالله التوفيق:
الربا في اللغة: الزيادة:
قال - تعالى -: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " [الحج: 5].
وهو في الشرع: الزيادة في الدين على رأس المال قلّت أو كثرت، وهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " [آل عمران: 130].
وليس القيد هنا لإفادة الشرطية، ولكنه لبيان الواقع فلا يعتد به، بدليل قوله - تعالى -: " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " [البقرة: 279].
وقال النبي: ((اجتنبوا السبع الموبقات...)) وعدّ منها الربا.
وقال: ((الربا بضع وسبعون بابا، أهونها مثل إتيان الرجل أمه)).
وقال: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)).
وفي حديث الرؤيا الطويل عند البخاري: ((أن النبي أتى على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع فغر له فاه فألقمه حجرا، فقال: ما هذا؟ فقيل له: إنه آكل الربا)).
ولقد شن القرآن الكريم حملة شديدة عنيفة على المرابين نسوقها بلفظها ثم نأتي عليها بالبيان.
قال - تعالى -: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " [البقرة: 275-281].
إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس مبلغ هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة، صورة الممسوس المصروع وهي صورة معروفة معهودة للناس. والنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزّها هزّة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوبية وحدهم، إنما هم كل المتعاونين على إجراء العملية الربوية:
عن جابر بن عبد الله قال: ((لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء)).
والقرآن يصفهم بأنهم (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة، وهذا أمر أصبح مشاهدا في هذا العصر، فالناس مع الحضارة والرقي والتقدم والرخاء قلقون خائفون مضطربون، قد فشت فيهم الأمراض العصبية والنفسية، والسبب هو خواء الأرواح من زاد الإيمان، الذي هو سبب الطمأنينة والسكينة والهدوء والراحة (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28].
وحين يشقى العالم وهو في رخاء مادّي لابد أن يعلم أن السبب هو فقد الغذاء الروحي، الذي سببه الإعراض عن ذكر الله، كما قال - تعالى -: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124].
ولكن القوم لا يستحضرون هذا السر، ولا يهتدون إليه سبيلا، لأن (لهم قلوب لا يفقهون بها) [الأعراف: 179].
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله على تحريم الربا وتحليل البيع (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) وكانت الشبهة التي ركنوا إليها هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا، وهي شبهة أوهى من بيت العنكبوت.
فالعمليات التجارية قابلة للربح والخسارة، أما العمليات الربوية فهي محدودة الربح في كل حالة، هذا هو مناط التحريم والتحليل: إن كل عملية يضمن فيها الربح على أية وضع هي عملية ربوية محرمة، بسبب ضمان الربح وتحديده، ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداراة، ولذا (أحل الله البيع وحرم الربا).
ولما كان الله - تعالى - لا يؤاخذ إلا بعد إقامة الحجة قال: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف)، فمن سمع موعظة من ربه فلا يكلّف بردّ ما أخذ من الناس قبل ذلك، وحسبه أن لا يزيد عليهم بعد الموعظة، لكن انظر إلى خطر الأمر وهو قوله - تعالى -: (وأمره إلى الله) ليظلّ متوجّسا من الأمر خائفا منه يقول: كفاني ما مضى، ولعل الله أن يغفر لي إذا تبت وأنبت ولم أقع فيه بعد ذلك.
(ومن عاد) بعد بيان الله وتذكيره وتوعّده لأكلة الربا (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). وفي هذا التصريح بأن أكلة الربا في النار خالدون إلا من مات منهم على التوحيد، فإن خلوده ليس كخلود الكافرين، وإنما ينفعه التوحيد يوما ما، كما عُلم من النصوص الأخرى.
ولما علم الله أن من عباده من لا يقيم وزنا ليوم الحساب، ويسقطه من حسابه، فقد أنذرهم بالمحق في الدنيا (يمحق الله الربا).
والمحق: هو محو الشيء والذهاب به، وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة، فكم من آكل ربا حل به البلاء (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) [النحل: 26].
(ذلك لهم خزي في الدنيا) [المائدة: 33].(3/114)
(ثم يوم القيامة يخزيهم) [النحل: 27].
(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) [النمل: 52].
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج: 46].
والله - سبحانه - يعقّب على هذا الوعيد فيقول: (والله لا يحب كل كفار أثيم) والكفار هو الذي كفر نعمة الله وجحد منّة ربه. والأثيم من أثم بإصراره على المعصية، وفي هذا النص إشارة إلى أن الله يحب الشاكرين ويحب التوابين.
ثم أدخل هذه الآية وهي قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أدخلها بين آيات الربا ليبين أن أكبر الأسباب التي تعين على ترك الربا الإيمان، وأن آكل الربا لا يأكل الربا وهو مؤمن، قال - تعالى -: (إن الذين آمنوا) أي: صدّقوا إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة وغيرها (وعملوا الصالحات) التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم، ومنها مواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين (وأقاموا الصلاة) التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد في إيمانه وحبّه لربه، حتى تسهل عليه طاعته في كل شيء (وآتوا الزكاة) التي تزكي النفس من رذيلة البخل والحرص وتمرّنها على أعمال البر حتى تسهل عليها ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل.
وإنما ذكر الصلاة والزكاة لأنهما أعظم العبادة النفسية والمالية، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كل عمل صالح.
والله يعدهم بأن (لهم أجرهم عند ربهم) يحفظه لهم (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فهو وعد بالأمن فلا يخافون، وبالسعادة فلا يحزنون، في القوت الذي يتوعد فيه أكلة الربا بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف.
وفي ظل هذا للرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة التي تنبذ الربا من حياتها فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والصلاة والزكاة، في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا بالهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت، وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) فوصفهم بالإيمان، وذكّرهم بالتقوى، ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون.
ثم وصل ذلك بقوله: (إن كنتم مؤمنين) أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد من الأحكام فذروا بقايا الربا.
ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله - تعالى -عنه وتوعده عليه فلا يعدّ من أهل هذا الإيمان التام الشامل.
وهكذا يأخذهم بالترغيب أولا، ثم ثنىّ بالترهيب الذي يقصم الظهور، ويزلزل القلوب: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).
أي: إن لم تتركوا ما بقي لكم من الربا كما أمرتم فاعلموا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله.
ويا للهول: حرب من الله ورسوله!! إن الخصم ليعرف أن عدوّه يعدّ العدة ليشن الغارة عليه فلا يهدأ ولا ينام، مع احتمال أن يدفع عن نفسه، وأن يكون هو المنتصر. فكيف إذا أعلم بالحرب من الله ورسوله؟! وهي حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة، لا هوادة فيها، وأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القدرة الجبّارة الساحقة الماحقة؟!.
وهذه الحرب المعلنة أعمّ من القتال بالسيف والمدفع. إنها حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، حرب يسلط الله فيها بعض العصاة على بعض، حرب المطاردة والمشاكسة، حرب الغبن والظلم، حرب القلق والخوف، وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش، والدول، إنها الحرب المشبوبة دائما، وقد أعلنها الله على المرابين، وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس، والبشرية غافلة عما يفعل بها.
ثم عرّض بالتوبة فقال: (وإن تبتم) يعني من المعاملات الربوية (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون) الناس بأخذ الربا (ولا تظلمون) ببخسكم رؤوس أموالكم. فكل من تاب من الربا: فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف لا يكلّف ردّه ولا إضاعته، وأمره إلى الله ينظر فيه.
وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا.
ثم يرشد صاحب المال إلى ما يجب عليه نحو الذي عليه الدين فيقول: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
إنها السماحة النديّة التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي نادى إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب، إنها الرحمة للدائن والمدين، وللمجتمع الذي يظل الجميع.
إن المعسر في الإسلام لا يطارد من صاحب الدين أو من القانون والمحاكم، إنما ينظر حتى يوسر، ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين، فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه إن تطوع بهذا الخير، وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين، وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكالفة ولو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر.
وقد كثرت الأحاديث في الترغيب في إنظار المعسر والتجاوز عنه، ومنها: قوله: ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظلّه)).
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: ((أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلا أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر. فقال الله - عز وجل -: أنا أحق من ييسر، أدخل الجنة)).
ثم يجئ التعقيب العميق الإيحاء الذي ترجف منه النفس المؤمنة وتتمنى لو تنزل عن الدين كله ثم تمضى ناجية من الله يوم الحساب: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) فأنجع شيء لمرض القلوب تذكر يوم الدين وهو يوم عسير، له في قلب المؤمن وقع شديد، (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
كان هذا التحذير من ربا النسيئة: وهو الزيادة في الثمن من أجل الزيادة في الأجل.
ومن باب سد الذرائع حرّم الإسلام نوعا آخر من الربا وهو ربا الفضل.
وربا الفضل معناه: بيع جنس بجنسه متفاضلاً.
وهو محصور في أصناف ستة، بيّنها قوله: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيدا)).
فهذه الأصناف الستة لا يجوز بيع الجنس منها بجنسه متفاضلا: فلا يجوز بيع مائة جرام ذهبا قديما بتسعين جراما ذهبا جديدا، وكذلك الفضة.
ولا يجوز بيع كيلتين من قمح رديء بكيلة من قمح جيد، وهكذا بقية الأصناف.
ولا يجوز التأخير في القبض وإن كان هناك تماثل، بل لابد من التقابض في المجلس.
فإن اختلفت الأجناس والعلة جاز البيع والشراء متفاضلا وجاز التأخير، كأن تشتري قمحا بنقد، أو ملحا بنقد.
وإن اختلفت الأجناس واتحدت العلة جاز التفاضل دون التأخير: فيجوز أن تشتري عشرين جراما ذهبا بمائة فضة مثلا. أو تشتري كيلتين قمحا بأربع شعيرا، أو تشتري مائة ريال سعوديا بتسعين جنيها مصريا، فهذا التفاضل جائز شريطة التقابض في المجلس. فلا يجوز أن تشتري مائة ريال بتسعين جنيها وتبقى لك أو عليك بقية.(3/115)
وكذلك لا يجوز أن تشتري ذهبا بنسيئة، ولا أن تدفع بعض القيمة ويبقى عليك بعضها، بل لابد من دفع القيمة كلها نقدا قبل مغادرة المجلس. ومن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس عند استبدال الذهب القديم بجديد أنهم يبيعون القديم ولا يقبضون ثمنه، ثم يشترون الجديد ويدفعون الفرق، وهذا داخل في ربا الفضل، والصحيح أن تبيع ما معك وتقبض ثمنه، ثم تشتري الجديد وتدفع ثمنه.
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) وخذوا حذركم، وتفقهوا في دينكم، فإنه ((من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين)).
http://www.ibnbadawy.com المصدر:
==============
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا ( 1 ـ 2 )
خالد بن إبراهيم الدعيجي
جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
«بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%).
أما إجمالي عدد الأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (5.6) مليار سهم مقابل (1.7) مليار سهم لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (221%).
أما إجمالي عدد الصفقات المنفذة خلال عام 2003م، فقد بلغ نحو (3.76) مليون صفقة مقابل (1.03) مليون صفقة لنفس الفترة من عام 2002م محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (246%)»(1).
تأمل معي أخي القارئ هذه الأرقام الخيالية، والقفزات الهائلة في نسب القيم السوقية وعدد الأسهم المتداولة والصفقات المبرمة، إنها لتدل على أن السوق المالية السعودية مقبلة على مزيد من الاستثمار في الأوراق المالية، وما زال الأمر في بداية الطريق، ومن المتوقع أن يتم افتتاح سوق «بورصة» سعودية يتم فيها إجراء عدد من العقود المالية المتنوعة، كما هو الحال في الأسواق العالمية.
إن هذه الأرقام الناطقة في التقرير السابق تدعونا لقراءة قوائم المراكز المالية لهذه الشركات المتداولة أسهمها في السوق لمعرفة هل هذه الشركات قائمة على معاملات مباحة خالصة من المحرم، أما أنها تزاول المحرم في معاملاتها؟
وإن كانت الثانية فهل نسبة المحرم كثيرة أم قليلة؟ وما هو المحرم الذي تمارسه: هل هو الإيداع بفوائد، أم أنها تقترض بفوائد، أم أنها تستثمر جزءاً من أموالها في شركات محرمة؟
ومما يدعونا أيضاً لقراءة قوائم هذه الشركات الأسئلة الكثيرة التي ترد إلى طلبة العلم من قِبَل المساهمين مثل:
- ما هي الشركات التي يباح المساهمة فيها؟
- كيف يمكن أن أتخلص من المحرم إذا كانت الشركة تتعامل بالمحرم؟
- أنا لا أستثمر بل أتاجر؛ فكيف أتخلص من المحرم؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن نسبة عظمى ممن يساهم في هذه الشركات يتوق إلى الحلال، ولا يريد أن يطعم من يعول الحرام.
ولهذا قام الباحث بإجراء دراسة علمية لـ (16) شركة من شركات السوق السعودي، وكان الهدف من الدراسة معرفة المعاملات المالية المحرمة التي تجريها الشركات، وقد نشرت هذه الدراسة في موقع الإسلام اليوم، وقد خلص الباحث إلى ما يلي:
أن الشركات المساهمة تنقسم من حيث طبيعة عملها: هل هو مباح أو حرام؟ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان عملها مباحاً بالكامل، أي لا تزاول أي عمل محرم، وهذا مثل البنوك الإسلامية الجادة في أسلمة معاملاتها، وبعض الشركات؛ إذ توفرت الشروط السابق ذكرها أثناء دراسة قوائم هذه الشركات.
القسم الثاني: ما كان عملها محرماً بالكامل أو بالأغلب، وهذه مثل البنوك الربوية.
القسم الثالث: ما كان عملها في الأصل مباحاً، ولكنها تتعامل بالمحرم من إيداع بفوائد أو تقترض وتقرض بفوائد، أو تستثمر أموالها بمعاملات محرمة قطعاً كالسندات، وهذا القسم يمثل أكثر شركات السوق، وهذه الشركات تتفاوت فيما بينها ما بين مقل ومكثر في تعاملها بالمحرم.
فما حكم هذه الأنواع الثلاثة من الشركات؟
أما النوع الأول فلا إشكال في إباحته.
والنوع الثاني كذلك لا إشكال في حرمته.
وأما النوع الثالث فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز بشروط.
القول الثاني: الجواز في شركات القطاع العام والتحريم في غيرها.
القول الثالث: أن ذلك يرجع إلى نية المساهم؛ فإن كان بقصد المتاجرة فإنه يجوز مطلقاً، وإن كان بقصد الاستثمار فيحرم.
القول الرابع: التحريم مطلقاً.
وقبل أن نذكر هذه الأقوال وأدلتها بالتفصيل يحسن بنا ذكر توطئة كمدخل لهذه المسألة النازلة:
* توطئة:
نشاط الشركة ـ كما سبق بيانه ـ لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يكون جميع نشاط الشركة محرماً:
والمقصود بهذه الحال أن يكون جل نشاط الشركة المساهمة في أمور محرمة.
ويدخل في هذه الحال:
1 - الشركات التي تتاجر بالخمور أو المخدرات أو القمار.
2 - المصارف الربوية بشتى أنواعها؛ لأن جل نشاطها في التمويل بفائدة.
3 - شركات التأمين التجاري.
4 - شركات الإعلام الهابط، أو الإعلام المحارب للعقائد والمبادئ الإسلامية.
«ولا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها»(1)؛ لأن من شرط صحة البيع أن يكون المبيع مباحاً، وهذه الأسهم محرمة.
الحال الثانية: أن يكون جميع نشاط الشركة مباحاً:
وهي الشركات التي تقع كل عملياتها في دائرة الحلال؛ حيث يكون رأس المال حلالاً، وتتعامل في الأنشطة المباحة، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً أو اقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصاً أو ضماناً مالياً لبعض دون بعض.
فهذا النوع من أسهم الشركات ـ مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية ـ لا خلاف في جواز إنشائها والاكتتاب بها وبيعها وشرائها.
ويمكن أن نمثل لهذا النوع بالمصارف الإسلامية التي ثبتت جديتها في أسلمة أعمالها المصرفية كلها.
الحال الثالثة: أن يكون أصل نشاط الشركة مباحاً، ولكن تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة:
ويقصد بها تلك الشركات التي لا يغلب على استثماراتها أنها في أمور محرمة، وإنما تنتج سلعاً وخدمات مشروعة، ولكن وجودها في بيئة رأسمالية قد يؤدي إلى أن تمول عملياتها عن طريق الاقتراض الربوي أو توظف سيولتها الفائضة توظيفاً ربوياً قصير الأجل.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء المعاصرون اختلافاً كبيراً، وقبل أن نبدأ في ذكر الأقوال في هذا النوع من الشركات يحسن بنا أن نحرر محل النزاع في هذه المسألة:
* تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين العلماء المعاصرين على الأمور التالية:
1 - أن المساهمةَ في الشركات التي يغلب عليها المتاجرة بالأنشطة المحرمة محرمةٌ، ولا تجوز لما فيها من الإعانة على الإثم والعدوان.
2 - وأن من يباشر إجراء العقود المحرمة بالشركة ـ كأعضاء مجلس الإدارة الراضين بذلك ـ يكون عملهم محرماً، قلّت نسبة الحرام في الشركة أم كثرت.
3 - وأن الاشتراك في تأسيس شركات يكون من خطة عملها أن تتعامل في جملة معاملاتها بالعقود المحرمة، أو كان منصوصاً في نظامها على جواز ذلك؛ فإن هذا الاشتراك محرم.(3/116)
4 - وأن المساهم لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يدخل في ماله كسب الجزء المحرم من السهم، بل يجب عليه إخراجه والتخلص منه، حتى على القول بجواز مساهمته.
واختلفوا في حكم المساهمة في الشركات المشروعة من حيث الأصل، لكنها تتعامل في بعض معاملاتها بالأنشطة المحرمة، أو تقترض أو تودع بالفوائد على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز.
وممن ذهب إلى هذا القول: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي(1)، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني(2)، والمستشار الشرعي لدلة البركة(3)، وندوة البركة السادسة (4)، وعدد من العلماء المعاصرين(5).
وقد اشترط أصحاب هذا القول شروطاً إذا توفرت جاز تداول أسهم هذا النوع من الشركات، وإذا تخلف منها شرط لم يجز، ومنها:
ما جاء في قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية رقم (485):
«يجب أن يراعى في الاستثمار والمتاجرة في أسهم هذا النوع من الشركات المساهمة الضوابط الآتية:
1 - إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك.
2 - ألا يتجاوز إجمالي المبلغ المقترض بالربا سواء أكان قرضاً طويل الأجل أم قرضاً قصير الأجل (25%) من إجمالي موجودات الشركة؛ علماً أن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه.
3 - ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم (5%) من إجمالي إيراد الشركة سواء أكان هذا الإيراد ناتجاً عن الاستثمار بفائدة ربوية، أم عن ممارسة نشاط محرم، أم عن تملك المحرم أم عن غير ذلك. وإذا لم يتم الإفصاح عن بعض الإيرادات فيجتهد في معرفتها، ويراعى في ذلك جانب الاحتياط.
4 - ألا يتجاوز إجمالي حجم العنصر المحرم ـ استثماراً كان أو تملكاً لمحرم ـ نسبة (15%) من إجمالي موجودات الشركة.
والهيئة توضح أن ما ورد من تحديد للنسب في هذا القرار مبني على الاجتهاد، وهو قابل لإعادة النظر حسب الاقتضاء».
وذهبت الهيئة الشرعية لدلة البركة إلى التفريق بين الأنشطة المحرمة التي تزاولها الشركة:
فإن كان أصل نشاطها مباحاً، ولكنها تتعامل بجزء من رأس مالها مثلاً بتجارة الخمور، أو إدارة صالات القمار، ونحوها من الأنشطة المحرمة، فلا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء.
أما إن كانت تودع أموالها في البنوك الربوية، وتأخذ على ذلك فوائد، أو أنها تقترض من البنوك الربوية، مهما كان الدافع للاقتراض؛ فإنه في هذه الحالة يجوز تملك أسهمها بشرط احتساب النسبة الربوية وصرفها في أوجه الخير(6).
واتفق المجيزون على أنه يجب على المساهم في هذه الحال أن يتحرى مقدار ما دخل على عائدات أسهمه من الإيرادات المحرمة، وذلك من واقع القوائم المالية للشركة، فيتخلص منها بتوزيعها على أوجه البر، دون أن ينتفع بها أي منفعة، ولا أن يحتسبها من زكاته، ولا يعتبرها صدقة من حُرّ ماله، ولا أن يدفع بها ضريبة حكومية، ولو كانت من الضرائب الظالمة؛ لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه(1).
ويمكن أن يستدل لهم بالأدلة الآتية(2):
الدليل الأول:
ما روى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «رخص في العرايا: أن تباع بخرصها كيلاً» متفق عليه(3).
وجه الدلالة منه:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعاماً، نهى عن ذلك كله» متفق عليه(4).
ثم إنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في العرايا يبتاعها أهلها بخَرْصها تمراً، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخَرْصَ عند الحاجة مقام الكيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة فيها ضرر أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد»(5).
وقال أيضاً: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها؛ لعموم الحاجة إلى ذلك»(6).
وقال أيضاً: «يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما يجوز بيع العرايا خرصاً بالتمر»(7).
وعليه: «فإن الشركات المساهمة التي ظهرت في العصور الحديثة نتيجة لتطور الحياة المعاصرة ومنجزاتها العلمية، وظروفها الاقتصادية، وتأمين المرافق الكبرى كالكهرباء وشبكات المياه والهاتف والنقل، واستثمار الثروات الطبيعية المختلفة على النطاق المجدي اقتصادياً، كل ذلك يجعل تأسيس الشركات المساهمة حاجة حيوية عامة. وهذا يستلزم جواز تأسيس هذا النوع من الشركات التي أصل نشاطها حلال لكن تتعامل بالربا للحاجة العامة، فيصبح امتلاك أسهمها للاستثمار وأخذ أرباحها حاجة عامة أيضاً، ولا سيما بالنسبة إلى صغار المدخرين وأموال الأيتام والأرامل وسائر العاجزين عن استثمار ما لديهم من وفر ولا يكفي ما لديهم لمشروع تجاري، أو شراء عقار واستغلاله»(8).
وقال الشيخ ابن منيع - حفظه الله -: «إن حاجة الناس تقتضي الإسهام في هذه الشركات الاستثمارية لاستثمار مدخراتهم فيما لا يستطيعون الاستقلال بالاستثمار فيه، كما أن حاجة الدولة تقتضي توجيه الثروة الشعبية إلى استخدامها فيما يعود على البلاد والعباد بالرفاهية والرخاء»(9).
وعليه تقاس مسألة الإسهام بشركات تتعامل بالربا بشرط أن يكون أصل تعاملها بالحلال، على مسألة العرايا، كما قال شيخ الإسلام: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها لعموم الحاجة إلى ذلك»(10).
ولهذا يرى هؤلاء العلماء:
أن الإسهام في هذه الشركات يلبي حاجة عامة للأمة، دولة وأفراداً؛ فتنزل منزلة الضرورة الخاصة، فيجوز الإسهام فيها وإن كانت تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضا(11).
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: أن قياس هذه الشركات على مسألة العرايا قياس مع الفارق من وجهين:
الوجه الأول: أن الربا الذي تقوم به هذه الشركات هو من ربا الديون وهو ربا الجاهلية الذي نز ل القرآن بتحريمه؛ فهو محرم تحريم مقاصد؛ فلا يباح بحال إلا عند الضرورة المؤدية للهلاك كالمضطر لأكل الميتة، وأما الربا الذي في العرايا فهو من ربا الفضل، وهذا تحريمه تحريم وسائل، فيباح عند الحاجة(12).
الوجه الثاني: أن أصل القياس على الرخص أمر مختلف فيه؛ فالحنابلة والحنفية وقول لدى المالكية لا يرون القياس على الرخص، ولهذا لم يقيسوا على ثمر النخل غيره، فاقتصروا على مورد النص، ولم يروا اطِّراد الحكم في الزبيب والزرع(13).
ثانياً: وأما دعوى أن الإسهام في هذا النوع من الشركات يجوز من باب أنها من الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة الخاصة، فلا يسلم بذلك لما يلي:
1 - أنها لم تتعين طريقاً للكسب؛ إذ يوجد طرق أخرى من الكسب المشروع الحلال تغني عنها، ومن ادعى أن الحرام عم الأرض بحيث لا يوجد طريق للكسب المشروع يغني عن المشبوه فعليه الدليل(1).
2 - وعلى فرض وجود الحاجة؛ فإن من شروطها التي توجب تدابير استثنائية من الأحكام العامة أن تكون عامة لجميع الأمة، وليست هناك حاجة لعموم الأمة لأسهم الشركات التي تتعامل بالربا، ونسبة المستثمرين في الأسهم من عامة الناس أقل بكثير من غير المستثمرين بها.
3 - وإن من شروط اعتبار الحاجة أن لا تصادم نصاً، وهذا الشرط منتفٍ هنا؛ إذ إن النصوص متوافرة على تحريم الربا قليله وكثيره(2).(3/117)
4 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن يقطع بارتفاع الحاجة بارتكاب المحظور، وفي الاستثمار بالأسهم قد يسهم الفرد في شركة تتعامل بالربا فيخسر فتزداد حاجته، أو لا يربح فتبقى حاجته(3).
5 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن تقدر الحاجة بقدرها؛ فإذا كانت الضرورة تقدر بقدرها؛ فما بالك بالحاجة التي هي أدنى من الضرورة؟ فهل يسوغ القول بأن تتعدى قدرها إلى أن نجعلها تشريعاً عاماً؟ (4).
6 - ولو صح العمل بمقتضى قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة للزم من ذلك القول جواز الاستثمار في السندات دفعاً للضرورة(5).
7 - وأيضاً للزم من ذلك فتح باب المحرمات بحجة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة؛ فهذه القاعدة قد تصبح محل استغلال، بل حجة في الخروج من الحرمة إلى الإباحة لدى كثير من المتفقهين المسايرين للتيارات المعاصرة؛ فالاستناد إليها في تحليل المحرم دائماً مع وجود بدائل وحلول شرعية أخرى يمكن الأخذ بها ليس من قبيل الرجوع إلى التشريع المقرر، بل يكاد يكون نابعاً من اتباع الهوى وإرضاء النفوس المريضة، والانقياد مع نزوات النفس.
8 - وأخيراً: لو فرضنا أن الاستثمار في الأسهم يحقق حاجة ومصلحة للبلد؛ فما القول في الاستثمار في الأسهم العالمية؟ والتي أصبحت تفوق في نفوذها وسيطرتها سوق الأسهم المحلية؟
«ويكفي أن نعرف أن استثمارات الصناديق في الأسهم المحلية في عام 1998م لم تتجاوز (1،3) مليار ريال، وهي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من حجم السوق الذي بلغ في العام ذاته (24،38) مليار ريال، في حين بلغت استثمارات الصناديق في الأسواق العالمية (9،8) مليار ريال، ولغة الأرقام هذه تعطي دلالة واضحة على التدفقات الضخمة الخارجة من البلد والتي تنعم بها الشركات الأجنبية، وتصنع بها الرفاهية في بلادها، كل ذلك تسوِّق له الصناديق متذرعةً بأنها لا تساهم في شركات الخمور والقمار وغير ذلك؛ فهل يكفي ذلك لاستباحة الفوائد بحجة أنها تحقق حاجة ملحة للبلد؟ »(6).
الدليل الثاني:
ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» متفق عليه(7).
وجه الاستدلال:
أن الحديث دل على جواز بيع العبد مع ماله بثمن نقدي دون مراعاة لشروط الصرف؛ لأن المال الذي مع العبد تابع لا مقصود.
وعلى ذلك: «فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك والتصرف»(8).
ومن هذا الحديث أخذ العلماء قاعدة عامة وهي: «يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً».
ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة منها: جواز بيع الحامل، والدار مع الجهل بأساسات الحيطان وغير ذلك(9).
«فيمكن اعتبار بيع سهم ـ من هذا النوع ـ من جزئيات هذه القاعدة»(10).
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الحديث ورد في مسألة منصوص أو مجمع على حرمتها استقلالاً وجوازها تبعاً، وهذا بخلاف ما معنا؛ فإن المحتج بهذا الدليل يريد أنه إذا حرم استقلالاً يجوز الاجتهاد في حله تبعاً، وليس هذا الذي عناه الفقهاء من الحديث، لا سيما في باب الربا المقطوع بتحريمه وضرره(11).
الوجه الثاني: بأن التبع الذي يغتفر مما كان أصله المنع يشترط فيه أن يكون غير مقصود، أما هنا فإن الإيداع أو الاقتراض بفوائد مقصود في عمل الشركة، ولذا تلحظ إصرار المجالس الإدارية للشركات على هذا العمل مع علمهم بتحريمه(1).
الوجه الثالث: أن قياس تملك الأسهم على تملك العبد ونحوه قياس مع الفارق؛ فإن المحظور في تملك العبد هو في البيع نفسه لا في العبد، بينما في السهم يظل التحريم ملازماً لملكية السهم حتى بعد العقد، فتعاطي العقود المحرمة سيظل باقياً حتى بعد امتلاك السهم، ويد المساهم هي يد شريك؛ فكون الشركة أكثر أعمالها مباحة لا يبيح لها ممارسة قليل الحرام، ولهذا لم يجوِّز أهل العلم - القائلون بجواز بيع العبد بماله ـ أن يستثمر الشريك ماله بأمور محرمة ولو كانت يسيرة غير مقصودة(2).
ونوقش استدلالهم بقاعدة (يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً) بما يلي:
أولاً: أن هذه القاعدة معارَضة بأدلة وقواعد قد تكون أقوى منها دلالة في هذا الباب؛ فمن ذلك:
1 - ما ثبت في مسلم من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تباع حتى تُفَصَّلَ»(3).
فلم يتساهل النبي - صلى الله عليه وسلم - في التابع الذي مع الربوي، مما يبين أن الربا قليله وكثيره حرام بخلاف غيره من المحظورات كالغرر ونحوه؛ فقد يتسامح في قليلها.
2 - قاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام».
3 - قاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
ثانياً: أن القواعد الفقهية ليست من الأدلة الشرعية المتفق عليها أو المختلف فيها التي نص عليها علماء الفقه والأصول، فلا يصح الاحتجاج بها(4).
الدليل الثالث:
الاستدلال بقاعدة: «اختلاط الجزء المحرم بالكثير المباح لا يصيِّر المجموع حراماً».
وقاعدة: «للأكثر حكم الكل».
ومفاد هاتين القاعدتين أن اليسير المحرم إذا كان مغموراً في الكثير المباح فإنه لا يؤثر في صحة التصرفات الشرعية من بيع وشراء وإجارة وغير ذلك.
والأصل في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل اليهود بيعاً وشراءً ورهناً وقرضاً مع أن الله وصفهم بأكل السحت والربا وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد ذكر العلماء لهاتين القاعدتين تطبيقات متعددة في أبواب الطهارة، والعبادات، والمعاملات والصيد والأطعمة واللباس كالحرير، وغيرها(5)؛ فمن ذلك:
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «الحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون محرَّماً لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المُذكّى بالميتة حُرِّما جميعاً.
الثاني: ما حرم لكونه غصباً، والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر؛ فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه»(6).
وسئل عن معاملة من كان غالب أموالهم حراماً، فقال: «إذا كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل بحل المعاملة، وقيل: بل هي محرمة. فأما المتعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال، إلا أن يعرف الكره من وجه آخر، وذلك أنه إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط»(7).
وبناءً على ذلك فإن «جزءاً يسيراً من أسهم الشركات التي هي موضوع بحثنا من هذا النوع حرام، والباقي منها وهو الكثير مباح»(8). أي فيكون الحكم للأكثر وهو المباح.
ونوقش هذا الاستدلال من خمسة أوجه:
الوجه الأول: لا يُسلّم بأن نسبة الربا في هذه الشركات قليلة جداً، لما يلي(9):
1 - ما توصل إليه الباحث من خلال دراسته لبعض الشركات في السوق من أن نسبة التعامل بالمحرم وصلت إلى 52%(10).
2 - أنه من الصعب إيجاد ضابط لذلك؛ فقد ترتفع نسبة الربا في سنة، وقد تهبط في أخرى، وما دامت الشركة لا تتورع عن الربا فإن نسبة تورطها فيه تخضع لمعايير تجارية ونظريات اقتصادية.(3/118)
3 - أن الشركات حديثة التأسيس التي لم تزاول نشاطها بعد قد ثبت من خلال الرجوع إلى ميزانياتها أنها تستثمر رأس مالها في الربا حتى يحين وقت توظيفه في مشروعها الأساسي، بل إن بعض هذه الشركات قد توزع أرباحاً للمساهمين وهي لم تزاول نشاطها بعد، وهذا يدل على أنها استخدمت أكثر رأس مالها في الربا.
4 - أن نظام الشركات يفرض على الشركات المساهمة أن تخصص جزءاً من ربحها سنوياً ليكون احتياطياً لها، وهذه النسبة تختلف باختلاف الأنظمة؛ ففي نظام الشركات السعودي تنص (م 15) منه على ما يلي: «تجنيب مجلس الإدارة كل سنة 10% من الأرباح الصافية لتكوين احتياطي يسمى الاحتياطي النظامي، ويجوز أن تقرر الجمعية العامة العادية وقف هذا التجنيب متى بلغ الاحتياطي المذكور نصف رأس المال».
وعلى هذا فإن هذه الشركات المساهمة التي لا تتورع عن الربا لو التزمت حرفية النظام فجنبت الاحتياطي لدى أحد المصارف، وأخذت عليه فائدة لأصبحت تستثمر ثلث مالها تقريباً في الربا وهي نسبة لا يستهان بها.
الوجه الثاني: أن قياس المشاركة في شركات تتعامل بالربا على معاملة من اختلط ماله الحرام بالحلال قياس مع الفارق(1).
ويظهر الفرق في ثلاثة أمور:
1 - أن معاملة من اختلط ماله بالحرام تُحمل على الجزء المباح من ماله؛ حملاً لتصرفات المسلمين على الصحة. أما المشاركة في شركات تتعامل بالربا فلا يمكن تصحيح الجزء المحرم؛ لأن المال المستثمر بالربا هو عين مال الإنسان؛ فلو ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاشاه من ذلك ـ وضع أموالاً عند اليهود لاستثمارها بطريق المشاركة، أو أن أحداً من أهل العلم استعمل القاعدتين في باب المشاركة كما في البيع لكان حجة في ذلك، ولكن كل ذلك لم يكن، بل جاء عنهم ما يفيد المنع كما سيأتي.
2 - أنه لو صح هذا القياس ـ أي قياس الشركة على المعاوضة ـ لجاز للإنسان أن يستثمر أمواله في الشركات ذات الأغراض المحرمة، قياساً على جواز المعاملة معها بالبيع والشراء، وهو أمر ممنوع بالاتفاق.
3 - أن مشاركة من يتعامل بالربا فيها معنى الإعانة على الإثم، بخلاف التعامل معه بيعاً وشراءً واستئجاراً ونحو ذلك، فإن المشتري أو المستأجر يأخذ من المرابي ما يقابل عوضه المبذول.
الوجه الثالث: أن هاتين القاعدتين مردودتان بقاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام»، وقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
الوجه الرابع: أن إعطاء الكل حكم الأكثر ليس على إطلاقه؛ فالشراب المسكر محرم وإن كانت الخمرة التي فيه أقل من الماء، والنجاسة إذا غيرت لون الماء أو ريحه تنجس ولو كانت قليلة(2).
الوجه الخامس: وما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من جواز معاملة من اختلط ماله بالحرام لا يصح الاستشهاد به هنا لأمور:
1 - أن هذه النقول هي في حالة الاشتباه، والحالة التي نناقشها ليس فيها اشتباه، وإنما فيها علم وإقدام على شراء أسهم فيها حرام(3).
2 - ما ذكره شيخ الإسلام وغيره عن المحرم لكسبه إنما هو فيما إذا جاء الغاصب ونحوه بمال حرام فضمه إلى ماله الحلال وخلطه، فإن هذا الخلط لا يحرم ماله الحلال لا أن العقد الفاسد ـ كما في موضوعنا ـ يكون صحيحاً؛ فهو لم يحكم بتصحيح الغصب، ولا ذلك العقد الفاسد.
وحينئذٍ إذا أراد الخلاص من الحرام يميز كلاً منهما عن الآخر، فيصرف كلاً منهما إلى مستحقه؛ فالمغصوب إلى المغصوب منه، والحلال يبقى عنده.
وهذا الحكم متفق عليه؛ فلا يُحكم بحرمة جميع مال المساهم الذي اشترك في الشركة معتقداً أنها لا تودع ولا تقرض بفوائد ربوية، ثم يتبين له مستقبلاً أنها تفعل ذلك، وإنما يقدر نصيب أسهمه من الفوائد الربوية ويخرجها منه، أو من ربحها؛ لأنها محرمة عليه، والباقي حلال له، لكن نقول: إن المساهم الذي يعلم أن الشركة تأخذ وتعطي فوائد ربوية يحرم عليه البقاء فيها، كالغاصب أو المتعامل بعقد فاسد يحرم عليه الاستمرار فيه؛ فهذا هو مراد أهل العلم فيما نقل عنهم(4).
3 - أن في معاملة من في ماله حلال وحرام لا يجزم المتعامل معه بالبيع والشراء والاستئجار ونحو ذلك أن نصيبه وقع في الحرام قطعاً، بخلاف المساهم في الشركات التي تتعامل بالربا؛ فإنه بتملكه أسهماً في الشركة سيسهم قطعاً مع الشركاء فيما سيستقبلونه من أعمال تالية لتملك السهم؛ فإذا كانت هذه الأعمال محرمة؛ فبأي وجه يمكن تجويزها، ومن المعلوم أن السهم حصة شائعة في الشركة بجميع ما تشتمل عليه من أصول ثابتة أو منقولة أو حقوق أو أرباح ملوثة أو غير ذلك، ولا يمكن تمييز حصته عما عداه من الشركاء(5).
4 - على أنه قد ورد عن بعض السلف تحريم التعامل مع المرابي ونحوه، فقد سئل الإمام أحمد عن الذي يعامل بالربا، يؤكل عنده؟ قال: لا، «قد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله»(6)، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوقوف عند الشبهة(7) ا. هـ.
----------------------------------------
(1) ملحق في مجلة تداول، العدد السابع - شتاء عام 2003م.، وكذلك تجده في موقع تداولhttp://www.tadawul.com.sa.
(1) قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم: 65/1/7.
(1) قرارات الهيئة الشرعية للشركه، 1/241.
(2) الفتاوى الشرعيه للبنك الإسلامي الأردني، فتوى رقم (1).
(3) الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية، مجموعة دلة البركة، فتوى رقم (37). (4) الفتاوى الاقتصادية، ص 19.
(5) منهم فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع في بحثه المنشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع 7 لعام 1411هـ بعنوان: «حكم تداول أسهم الشركات المساهمة»، وكل من د. نزيه حماد، ومصطفى الزرقا، ومحمد تقي العثماني، انظر (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) ود. علي محيي الدين القره داغي في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة بعنوان: «الاستثمار في الأسهم».
(6) فتاوى الهيئة الشرعية للبركة، ص 110.
(1) قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية، 1/214.
(2) كل من كتب في هذا الموضوع ـ حسب علمي ـ يستدلون على الجواز بقواعد فقهية ذكرها الشيخ ابن منيع - حفظه الله -، وكما هو متقرر أن القاعدة الفقهية ليست دليلاً متفقاً عليه ولا مختلفاً فيه؛ فهي بعينها تحتاج إلى ما يستدل لها؛ لذا رأيت أن يكون منطلق الاستدلال في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، ويستأنس بالقواعد الفقهية والتطبيقات عليها تأييداً لهما لا اعتماداً عليها.
(3) أخرجه البخاري (كتاب البيوع/ باب تفسير العرايا، برقم 2192)، ومسلم (كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، برقم 3860).
(4) أخرجه البخاري (كتاب البيوع/ باب بيع الزرع بالطعام كيلاً، برقم 2205)، ومسلم (كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، برقم 3876).
(5) مجموع الفتاوى، 20/555. (6) مجموع الفتاوى، 20/555.
(7) مجموع الفتاوى، 29/480. (8) قرارات هيئة الراجحي الشرعية، 1/245.
(9) حكم تداول أسهم الشركات، للشيخ عبد الله بن منيع، ص 20 ـ 21، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع 7 لعام 1411هـ، الاستثمار في الأسهم، للدكتور القره داغي، ص 83، بحث منشور في مجلة المجمع الفقهي 9/2/47، قرارات الهيئة الشرعية للراجحي، 1/243.
(10) مجموع الفتاوى، 20/555.(3/119)
(11) انظر: في تأصيل قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، وتطبيقاتها ـ: الموافقات 2/11، المنثور في القواعد، 2/24، الفروق 4/70، قواعد الأحكام 2/161، مجموع فتاوى ابن تيمية، 29/49.
(12) انظر: تفسير آيات أشكلت لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/619، إعلام الموقعين لابن القيم، 3/405. (13) شرح تنقيح الفصول 415، المبدع شرح المقنع، 4/143.
(1) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. صالح المرزوقي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ع 21، 1414هـ. ص 120، الربا في المعاملات المالية المعاصرة، 1/725.
(2) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. صالح المرزوقي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ع 21، 1414هـ، ص 122.
(3) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، د. الشبيلي، ص 921، الربا في المعاملات المعاصرة، د. السعيدي، 1/725.
(4) انظر: حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. المرزوقي، ص 122.
(5) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 921. (6) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 922.
(7) خرجه البخاري (كتاب المساقاة / باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، برقم 2379) ومسلم (كتاب البيوع / باب من باع نخلاً عليها ثمر برقم 3882) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(8) الاستثمار في الأسهم د. علي محيي الدين القره داغي، ص 82.
(9) انظر في تأصيل هذه القاعدة وتطبيقاتها: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 228، القواعد للمقري 2/432، شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص 253.
(10) حكم تداول أسهم الشركات المساهمة، ص 19. (11) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص 118.
(1) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، ص 915. (2) الخدمات المصرفية، للدكتور الشبيلي، ص 916.
(3) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة / باب بيع القلادة فيها ذهب وخرز، برقم 4051) وأبو داود (كتاب البيوع / باب في حلية السيف تباع بالدراهم، برقم 3351) والترمذي (كتاب البيوع / باب ما جاء في شراء القلادة وفيها ذهب وخرز، برقم 1255) والنسائي (كتاب البيوع / باب بيع القلادة فيها الخرز والذهب بالذهب - برقم 4570).
(4) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص 118.
(5) انظر: في تطبيقات القاعدتين -: الأشباه والنظائر، لابن نجيم 1/343 - مع غمز عيون البصائر، قواعد الأحكام 1/84، المنثور في القواعد 2/253، قواعد ابن رجب ص 29، بدائع الفوائد 3/257.
(6) مجموع الفتاوى، 29/320. (7) مجموع الفتاوى، 29/272.
(8) حكم تداول أسهم الشركات المساهمة، ص 22، الاستثمار في الأسهم، ص 77. (9) الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة، 1/728.
(10) نشرت هذه الدراسة في بعض المواقع الإلكترونية، ومن هذه المواقع «موقع الإسلام اليوم» وموقع «تداول».
(1) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 925.
(2) الخدمات المصرفية، 925. (3) «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد»، ص 126.
(4) انظر: «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد»، ص 126.
(5) الخدمات المصرفية، ص 925.
(6) أخرجه البخاري (كتاب اللباس/ باب من لعن المصور، برقم 5962) من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -. ومسلم (كتاب المساقاة / باب لعن آكل الربا ومؤكله، برقم 4069) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
(7) القواعد والفوائد الأصولية، ص 97.
شعبان 1425هـ * سبتمبر/أكتوبر 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===============
لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة
د. عبد الحي يوسف
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 130)
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى -: ولعل الحكمة ـ والله أعلم ـ في إدخال هذه الآيات، أثناء قصة أحد أنه قد تقدم أن الله - تعالى - وعد عباده المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم، وخذل الأعداء عنهم كما في قوله - تعالى - ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)) ثم قال ((بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم)) فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى [1].
هذه عادة أهل الجاهلية أنه إذا حلَّ الدين على المعسر ولم يحصل منه شيء قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، وتزيد ما في ذمتك. فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك؛ اغتناماً لراحته الحاضرة، فيزداد بذلك ما في ذمته أضعافاً مضاعفة، من غير نفع وانتفاع.
ضعف الشيء: مثله الذي يثنيه، فضعف الواحد واحد؛ لأنه إذا أضيف إليه ثناه، وهذه المضاعفة إما في الزيادة فقط التي هي الربا، وإما بالنسبة إلى رأس المال، كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة [2].
________________
1- تيسير الكريم الرحمن /115
2- في رحاب التفسير 1/698
* رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم
http://216.55.137.18 المصدر:
==============
كيف بدأ الربا .. وكيف انتشر؟
لقد حرم الله الربا على اليهود، وهم يعلمون ذلك، وينهون عنه فيما بينهم، لكنهم يبيحونه مع غيرهم، جاء في سفر التثنية: الإصحاح الثالث والعشرين:
"للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بالربا".
ومنشأ هذا أنهم ينظرون إلى غيرهم نظرة استعلاء واحتقار، والتوراة وإن كانت قد حرفت إلا أن شيئا منها بقي كما هو لم يحرف، منها تحريم الربا، لكنهم حرفوا النص حينما أباحوه مع غير اليهودي…
والدين النصراني كذلك يحرمه، ففي إنجيل لوقا:
"إذا أقرضتم الذين ترجون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟…
ولكن افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرين عائدتها… وإذاً يكون ثوابكم جزيلا".
وقد أجمع رجال الكنيسة ورؤساؤها كما اتفقت مجامعها على تحريم الربا تحريما قاطعا، حتى إن الآباء اليسوعيين وردت عنهم عبارات صارخة في حق المرابين، يقول الأب بوني:
"إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة، إنهم ليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم"..
ولم يكن تحريم الربا قاصرا على أرباب الديانتين، بل كذلك حرمه من اشتهر في التاريخ بالعلم والفهم والحكمة كبعض الفلاسفة، منهم أرسطو، وأفلاطون الفيلسوف اليوناني الذي قال في كتابه القانون:
"لا يحل لشخص أن يقرض بربا"..
وأما العرب في جاهليتهم على الرغم من تعاملهم به إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة ازدراء، وليس أدل على ذلك أنه عندما تهدم سور الكعبة وأرادت قريش إعادة بنائه حرصت على أن تجمع الأموال اللازمة لذلك من البيوت التي لا تتعامل بالربا، حتى لا يدخل في بناء البيت مال حرام، فقد قال أبو وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم:"يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس"..
وإذا كان الأمر على هذا النحو، وأصحاب الديانات كلهم يحرمون الربا، كيف إذن بدأ وانتشر في العالم؟..
----------
لقد كانت الجاهلية تتعامل بالربا مع قبل الإسلام، فجاء الإسلام وحرمه كما هو معلوم بالنصوص، وسد كل أبوابه ووسائله وذرائعه ومنافذه، حتى ما كان فيه شبهة من ربا منعه وحرمه، كمنعه - عليه الصلاة والسلام - من بيع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد..
فامتثل الناس لذلك، وتلاشى الربا، وحل محله البيع والقرض الحسن والصدقة والزكاة..(3/120)
وكما قلنا كانت أوربا التي تدين بالنصرانية تحرم الربا وتنهى عن التعامل به، أما اليهود ـ والذين كانوا يمتنعون من التعامل بالربا فيما بينهم ـ كانوا ممنوعين من التعامل به مع غيرهم تحت وطأة الكراهية والذل الذي كانوا فيه..
لكن ومنذ أواخر القرن السادس عشر ميلادي بدأت أوربا بالتمرد على هذا الحكم الإلهي..
ففي عام 1593م وضع استثناء لهذا الحظر في أموال القاصرين، فصار يباح تثميرها بالربا، بإذن من القاضي، فكان هذا خرقا للتحريم..
ثم تبع ذلك استغلال الكبار لنفوذهم، فقد كان بعض الملوك والرؤساء يأخذون بالربا علناً، فهذا لويس الرابع عشر اقترض بالربا في 1692م، والبابا بي التاسع تعامل كذلك بالربا في سنة 1860م.
كانت تلك محاولات وخروقات فردية..
لكن الربا لم ينتشر ولم يقر كقانون معترف به إلا بعد الثورة الفرنسية، فالثورة كانت ثورة على الدين والحكم الإقطاعي والملكي..
وكان من جملة الأحكام الدينية في أوربا كما علمنا تحريم الربا، فنبذ هذا الحكم ضمن ما نبذ من أحكام أخر، وكان لا بد أن يحصل ذلك، إذ إن اليهود كانت لهم اليد الطولى في تحريك الثورة الفرنسية واستغلال نتائجها لتحقيق طموحاتهم، من ذلك إنشاء مصارف ربوية، لتحقيق أحلامهم بالاستحواذ على أموال العالم، وجاءت الفرصة في تلك الثورة، وأحل الربا وأقر:
فقد قررت الجمعية العمومية في فرنسا في الأمر الصادر بتاريخ 12 أكتوبر سنة 1789م أنه يجوز لكل أحد أن يتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون.
صدرت فرنسا التمرد على الدين وعزله عن الحياة إلى كل أوربا، ومن ذلك التمرد على تحريم الربا، وقد كان اليهود في ذلك الحين من أصحاب المال، وبدأت الثورة الصناعية، واحتاج أصحاب الصناعات إلى المال لتمويل مشاريعهم، فأحجم أصحاب المال من غير اليهود عن تمويل تلك المشاريع الحديثة خشية الخسارة..
أما اليهود فبادروا بإقراضهم بالربا، ففي قروض الربا الربح مضمون، ولو خسر المقترض، وقد كانت أوربا في ذلك الحين مستحوذة على بلدان العالم بقوة السلاح، فارضة عليها إرادتها، فلما تملك اليهود أمرها وتحكموا في إرادتها كان معنى ذلك السيطرة والتحكم في العالم أجمع، ومن ثم فرضوا التعامل الربا على جميع البلاد التي تقع تحت سيطرة الغرب، فانتشر الربا وشاع في كل المبادلات التجارية والبنوك، فاليهود كانوا ولا زالوا إلى اليوم يملكون اقتصاد العالم وبنوكه..
إذن.. اليهود هم وراء نشر النظام الربوي في العالم، وكل المتعاملين بالربا هم من خدمة اليهود والعاملين على زيادة أرصدة اليهود ليسخروها في ضرب الإسلام والمسلمين وكافة الشعوب..
انتشر الربا وانتشر معه كافة الأمراض الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الاجتماعية..
نبذة عن نشأة المصارف والبنوك:
المصارف جمع مصرف، وهو يطلق على المؤسسات التي تخصصت في إقراض واقتراض النقود، وتسمى أيضا بالبنوك..
ولفظ البنك مشتقة من اللفظة الإيطالية"بنكو"أي مائدة، إذ كان لكل صيرفي في القرون الوسطى مائدة يضعها في الطريق عليها نقود يتجر فيها، وقد كان معظم الصيارفة من اليهود، وصناعة الصيرفة ترجع إلى العهد الذي نشأت فيه العلاقات التجارية بين الجماعات البشرية..
وقد عرف البابليون والإغريق والرومان علميات البنوك، وبوجه عام كان الطابع الغالب على وظيفة البنوك في العصور القديمة حفظ الودائع الثمينة والنقود والمحصولات الزراعية، بالإضافة إلى الحوالات المالية..
فقد صارت البنوك على مر الأيام مكانا آمنا لحفظ المدخرات من ذهب وفضة وجواهر ثمينة نظير أجر معين، وكان هؤلاء الصيارفة يعطون كل من يودع شيئا من المال سندات فيها توثيق الودائع، تستخدم في سحب ما يحتاج إليه من نقود..
ثم تطورت العملية فبدأ هؤلاء التجار المودعون يتداولون هذه السندات بينهم في البيوع ووفاء الديون وتصفية الحسابات، لأن تداولها أخف من تداول الذهب والفضة، شعر الصيارفة بوجود المال الكثير في صناديقهم..
وقد ألف المودعون التعامل بالسندات قبضا وتسليما، والمال باق عند الصيارفة لفترات طويلة، قلما يأتي مودع يطلب نقوده، ففكروا في استغلالها والانتفاع بها بأنفسهم، فبدءوا يعطونها الناس قروضا بفائدة، ويتصرفون فيها، وكأنهم أصحابها..
وهكذا أصبح الصيارفة يأخذون على الذهب المودع أجرين: أجر على الحفظ، وأجر مقابل القرض، فلما تطورت هذه العملية وأصبحت السندات تقوم مقام الذهب في المعاملات..
بدأ الصيارفة يقرضون الناس السندات الورقية بدل أن يقرضوهم ذهبا..
وبهذه الطريقة تضخمت ثرواتهم التي لم تكن في أصلها إلا أموال المودعين، وبدؤوا يدفعون فائدة للمودعين لإغرائهم بالإيداع، وتحولت عملية الإيداع إلى علمية إقراض..
وبذلك أصبح دور الصيارفة هو التوسط بين الأشخاص الذين لديهم أموال لا يمكنهم استثمارها بأنفسهم، وبين الأشخاص المحتاجين إلى أموال لتثميرها ويستحلون الفرق بين الفائدتين..
وبتطور التجارة وأشكالها تعددت أعمال المصارف وأنواعها، فمنها المصارف التجارية، وهي التي تمارس جميع الأعمال المتصلة بالتجارة، وتتميز عن سواها من حيث استعدادها لقبول الودائع النقدية من الأفراد أو الشركات وتخويل المودع حق السحب عليها.. وهناك المصارف الزراعية والصناعية والعقارية، وهي التي تقرض نظير فائدة، ولا تستقبل الودائع النقدية.
هذا باختصار حقيقة المصارف..
http://www.saaid.net المصدر:
===============
هل الربا ضرورة اقتصادية عالمية؟
د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
أنا طالب مقيم في دولة غربية، وخلال إقامتي ناقشت بعض المسلمين الذين يجعلون العقل هو الحكم في قبول أدلة الشرع، فأخذوا يناقشوني في حرمة الربا وأن الحال الآن في العالم من العولمة والبورصة العالمية تستلزم التعامل بالفوائد، ولقد حاولت تبيين عظم حرمة الربا، ولكن للأسف من غير فائدة، أرجو من سماحتكم توجيهي في طريقة مناقشتهم والكتب التي تنصح في قراءتها لمناقشة مثل هذا الصنف من الناس. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فمن الممكن مناقشة هؤلاء من خلال عدة محاور:
الأول: بيان ما يجب على المسلم تجاه النصوص الشرعية من التسليم والانقياد لحكم الله، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً حتى يحكم النصوص الشرعية سواء وافقت عقله القاصر وهواه أو لم توافقه، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن يستسلم العبد لحكمه، يقول - سبحانه -: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما " [النساء: 65].
الثاني: على العبد أن يوقن دوماً أن حكم الله فيه غاية المصلحة والخير الدنيوي والأخروي للعباد، وأن العبد إذا ظهر له خلاف ذلك فإنما هو لقصوره البشري؛ لأن الله - تعالى - هو واضع هذه الأحكام، وهو أدرى بمصالح العباد من أنفسهم، يقول - تعالى -: "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " [المائدة: 50].(3/121)
الثالث: وأما كون النظام السائد في الأسواق العالمية هو نظام الفائدة فهذا لا يعني أنه أفضل من النظام الاقتصادي الإسلامي، لأن انتشار نظام الفائدة كان له أسبابه ومبرراته، ومنها الدعم الكبير الذي حظي به هذا النظام من قبل المؤسسات الرأسمالية وأصحاب النفوذ والسلطة، وهم المستفيد الأول منه، وصاحب ذلك ضعف سياسي عند المسلمين نتج عنه غياب أو انحسار البدائل الشرعية المناسبة، وكون الدول الرأسمالية قد حققت قدراً أكبر من الرفاهية مقارنة بالدول الأخرى لا يرجع ذلك بالضرورة إلى نجاح نظامها الاقتصادي، فثمة عدة عوامل ساعدت على ذلك من أهمها: الاستقرار السياسي، وبناء مؤسسات المجتمع المدني من سلطة تشريعية وقضائية وتنفيذية على نحو تفوقت فيه على كثير من الدول، والأهم من ذلك هو ابتزازها لخيرات الشعوب الأخرى، وتسخيرها لكافة إمكانياتها العسكرية والسياسية والاستخباراتية، لدعم نظامها الاقتصادي، تحت مسميات متعددة، فتارة باسم الاستعمار، وتارة بالضغوط الخارجية، وأحياناً بالحصار الاقتصادي، ومكافحة الإرهاب، وأحياناً بدعوى الإصلاح الإداري..، وقل ما شئت من المسميات التي لا تنطلي على عاقل، ويدرك اللبيب أن المقصود منها هو التضييق على بقية الدول وامتصاص خيراتها وإجهاض أي محاولة لمنافسة الدول الاستعمارية.
الرابع: ولا يخفى على الناظر بتمعن ما سببه النظام الرأسمالي من ويلات ونكبات على الشعوب والمجتمعات، حيث نجد دولاً برمتها تنهار اقتصادياتها في أيام معدودة بسبب الجو الملائم لمثل ذلك الذي أوجده هذا النظام، كما يكفي أن نعرف أن أكثر من نصف سكان الأرض في ظل النظام الرأسمالي - يعيشون تحت خط الفقر، وأن 5% فقط من العالم تعادل ثروتهم ثروة بقية العالم، بل نجد المؤشرات الاقتصادية داخل الدول الرأسمالية نفسها تشير إلى أن كفة الأغنياء في تصاعد مستمر على حساب الفقراء، ومرد ذلك إلى الآلية التي يسير عليها النظام الرأسمالي والتي من شأنها أن تزيد الغني غنىً والفقير فقرا، فكيف يؤمل بعد ذلك أن يعم الرخاء بسيادة هذا النظام في العالم.
الخامس: وقد ظهرت بعض البدائل المتفقة مع االشريعة الإسلامية في العقدين الماضيين في البلدان الغربية نفسها، فظهر ما يعرف ب (صناديق الاستثمار) (Investment funds) وهي في الحقيقة مبنية على نظام المشاركة في الربح والخسارة الذي عرفه الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وقد حققت تلك الصناديق نجاحاً منقطع النظير على حساب نظام الفائدة، مما حدا بكثير من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا إلى أن تجعلها من ضمن الأعمال الأساسية التي تمارسها البنوك التجارية، بعد أن كان مترسخاً في الأذهان لقرون متعددة أن دور المصارف يقتصر على الإقراض بالفوائد، ويكفي أن نعرف أن القيمة السوقية لصناديق الاستثمار في أمريكا وحدها تزيد عن ثلاثة ترليونات دولار، وفي اعتقادي أن صناديق الاستثمار خطوة في الاتجاه الصحيح للتخلص من نظام الفائدة والاعتماد على الاستثمار بنظام الربح المبني على عقد المشاركة.
السادس: وإتماماً للفائدة أشير إلى مقارنة سريعة بين نظام الربح المبني على المشاركة، ونظام الفائدة المبني على عقد القرض، فقد جاء تحريم الفائدة الربوية وإباحة الربح في الشريعة الإسلامية، لتحقيق مقاصد عظيمة، ومصالح كبيرة تعود بالخير على البشرية جمعاء، دفعاً للظلم عنهم، وتحقيقاً للعدل بينهم، إلا أن الإنسان ذلك الظلوم الجهول بما يعتري فطرته من الانتكاس والغفلة، لا يتوانى عن الخضوع ذليلاً لكل ما يشرعه أهل الأرض بما تحمله تلك التشريعات من ظلم وجور وطغيان.
فالإسلام حين حرم الفائدة فإنما حرمها لما تنطوي عليه من الظلم والفساد بين العباد، وحين أباح الربح فلما فيه من العدل والإصلاح بين الناس، ولنتأمل في بعض الآثار الاقتصادية لكل منهما:
1- فالربح يحقق الأهداف التنموية للبلاد على عكس ما تؤديه الفائدة، ذلك أنه من المعروف أنه فيما عدا بعض القروض التنموية الممنوحة من هيئات متخصصة فإن سوق القروض يعد سوقاً قصير الأجل بمعنى أن المقرضين في الغالب يتحاشون الإقراض طويل الأجل خوفاً من تقلب أسعار الفائدة أو تدني القوة الشرائية للنقود أو التغير في معدلات الصرف.
لذلك يبدو التعارض قائماً بين أهداف المقرضين وسلوكهم وبين الحاجة للاستثمار طويل الأجل في معظم المجالات الاقتصادية الحيوية، والتي لا تتحقق إلا باعتبار الربح معياراً للإنتاج.
2- ونظام الربح يضمن تحول رأس المال في المجتمع إلى رأس مال منتج يساهم في المشروعات الصناعية والزراعية وغير ذلك، بينما في نظام الفائدة يودع الناس فائض أموالهم النقدية في البنوك مقابل فائدة منخفضة السعر يقررها البنك لودائعهم، ثم يقوم بتحويل هذه الأموال إلى خارج البلاد واقتضاء فوائد مضمونة عليها، دون أن تشارك هذه الأموال في التنمية الاقتصادية.
3- الربح عامل توزيع للموارد الاقتصادية بخلاف الفائدة التي تعتبر أداة رديئة ومضللة في تخصيص الموارد، وذلك لأن آلية الربح تشجع على توجيه الأموال إلى الاستثمارات الأعلى جدوى والأكثر إدراراً للعائد، بينما تتحيز الفائدة بصفة رئيسية للمشروعات الكبيرة التي تحصل بحجة ملاءتها على قروض أكبر بسعر فائدة أقل، بصرف النظر عن إنتاجيتها، مما يساعد على تركيز الثروات في أيدي قلة قليلة من المرابين.
4- ولأن الربح ناتج عن ارتباط المال بالعمل فالتدفقات النقدية التي تتحقق وفقاً لهذا النظام مرتبطة بتدفقات مقابلة من السلع والخدمات الضرورية للمجتمع، وذلك بخلاف نظام الفائدة حيث تنطوي عمليات منح الائتمان في المصارف التقليدية على زيادة كمية النقود المعروضة بما يسمح بمزيد من الضغوط التضخمية.
5 - أن البنوك في استغلالها للودائع بنظام الفائدة إنما تخلق نقوداً مصطنعة هي ما يسمونه بالائتمان التجاري، وهي بهذا تغتصب وظيفة الدولة المشروعة في خلق النقود بما يحف هذه الوظيفة من مسئوليات، ولا ينفرد بهذا الرأي علماء المسلمين بل قد أجمع كثير من علماء الاقتصاد في الغرب على أن الائتمان الذي تقدمه البنوك سواء كان في قروض الاستهلاك أو الإنتاج من شأنه أن يزعزع النظام الاقتصادي لأن التعامل في البلاد الرأسمالية لم يعد بالذهب أو بالفضة أو بأوراق النقد إلا في القليل النادر، أما أكثر التعامل فيجرى بالشيكات، والثابت بحكم الواقع أن البنوك تميل في أوقات الرخاء إلى التوسع في الإقراض بفتح الاعتمادات التي تربو على رصيدها أضعافاً مضاعفه، وميلها في أوقات الركود إلى الإحجام عنه وإرغام المقترضين على السداد، فهذا البسط والقبض الذي تتحكم فيه إرادة القائمين على المصارف الربوية هو من أهم العوامل التي تهز الكيان الاقتصادي ويفضي إلى تتابع الأزمات.
6- ولا ينقضي عجب الإنسان حين نعلم أن من علماء المسلمين المتقدمين من تحدث عن الأضرار الاقتصادية للربا وكأنما هو يصف حالة التخبط التي يعيشها العالم الاقتصادي اليوم:
فيقول الإمام الغزالي - رحمه الله -: (إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة الربا من تحصيل درهم زائد نقداً أو آجلاً خف عليه اكتساب المعيشة فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعة والإعمار).(3/122)
ويتحدث ابن القيم - رحمه الله - عن الضرر الناشئ عند الاسترباح بالنقود وحكمة تحريم ربا الفضل فيقول: (والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع، وينخفض فتفسد معاملات الناس، ويقع الحلف ويشتد الضرر كما رأيت حد فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد منها التوصل إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس).
وفي تفسير المنار: (وثم وجه آخر لتحريم الربا من دون البيع، وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم فإذا تحول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال).
وختاماً فهذه بعض أسماء الكتب المفيدة في الموضوع:
1- نحو نظام نقدي عادل، للدكتور: محمد عمر شبابرا، وهو من مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وهذا المعهد موجود عندكم في أمريكا، وعنوانه على الشبكة العالمية هو: http: //www. iiit. org
2- موسوعة الاقتصاد الإسلامي للدكتور / محمد عبد المنعم جمال
3- بالإضافة إلى عدد من المطبوعات لدى معهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا، وهو موجود في ولاية فرجينيا، وعنوانه على الشبكة العالمية: www. iiasa. org وبإمكانك الاتصال بهم على الرقم: 7032073901 وسيقومون بإذن الله بتزويدك بما تحتاج إليه من كتب.
التاريخ 29/3/1425هـ
http://www.islamtoday.net المصدر:
==============
يمحق الله الربا
د. أحمد بلوافي
"إننا خسرنا في ليلة واحدة أتعاب وتضحيات عشرات السنين". [الرئيس الأندونيسي سوهارتو]
"لا يمكننا منافسة العالم على أساس نظامنا الحالي الذي يعتمد على الإفراط في الاقتراض ويتركز على التوسع الخارجي". [كيم يونغ سام - رئيس كوريا الجنوبية].
عند تصفح كتاب الله وبعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرت العقوبات أو الوعيد المتعلقة بكبائر الذنوب بعد الشرك بالله لا نجد كبيرة تحدث عنها المولى - جل وعلا - بمثل هذه الألفاظ القوية وهذا الوعيد الشديد، "المحق"(1)، "حرب من الله ورسوله"(2)، "الخلود في النار"(3)، إلا جرم الربا. وحديث المولى عن هذا الإثم المبين بهذه الصفة، قصد منه - والله أعلم -تنفير النفوس المؤمنة منه لكي تحترز أشد الاحتراز في الاقتراب منه أو تعاطيه؛ كما أريد منه تحذير الناس من العواقب الوخيمة للوقوع في حمأته.
وقد كان لهذه القوة في الأسلوب والتشديد في الوعيد تأثير على استنباطات علمائنا الأجلاء وتشديدهم في مسألة التعاطي بالربا، فعلى سبيل المثال، نقل القرطبي في تفسيره(4) عن ابن بكير قوله: "جاء رجل إلى مالك بن أنس، فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر. فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب" اهـ.
نعم إن الله أذن فيه بالحرب، وتوعد ما يحقق عن طريقه من كسب بالاستئصال وذهاب البركة، وأوردنا أثراً يوضح أن عاقبته إلى قل وإن ظهر أنه نما وترعرع، ويعلل ابن القيم - رحمه الله -هذا الأمر قائلاً(5): "فأما الجلي [من أنواع الربا]، فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، كلما أخره زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة؛ وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج؛ فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر" اهـ.
إن الذي ذكره ابن القيم - رحمه الله -من مضار الربا يمثل قمة التحليل الاقتصادي لمخاطر بناء الاقتصاد على هذا الأساس المعوج، وإن كان المثال الذي ذكره يدور حول آثار ذلك على الفرد، وهو ما يعرف في الاقتصاد بالتحليل الجزئي، فإن الصورة تكون أكثر وضوحاً لو طبقنا ذلك على مستوى الدول أو الشركات الكبيرة أي التحليل الكلي، وهذا ما سنقوم به من أجل تسليط الضوء على الاضطرابات المالية التي شهدتها اليابان وكوريا الجنوبية وقبلهما دول جنوب شرق آسيا الأخرى(6).
فمن خلال النظر في الكلام الذي ساقه ابن القيم يمكن الخروج بنتيجتين منطقيتين لآثار الربا، وهما: دفع المال من وقت إلى آخر واستغراق أموال الربا لجميع موجودات المدين.
الأثر الأول: دفع المال من وقت إلى آخر.
وهو ما كان يعرف في الجاهلية بعبارة "زدني وأربِ"، أي زدني في أجل الدين وارفع من سعره؛ فيستفيد المدين من الوقت والدائن من زيادة المال، وهذا الصنف من المعاملة وما يدور في فلكه يطلق عليه اسم "ربا النسيئة" حسب تصنيف الفقهاء، وهو محرم بالإجماع(7). وهو نفس التقنية التي تطبق اليوم وعلى نطاق واسع في جميع الاقتصاديات سواء على مستوى الأفراد أو الشركات بل وحتى الحكومات والدول. وما إعادة الجدولة التي تطلبها دول العالم الثالث من نادي باريس للحكومات الدائنة أو نادي لندن للبنوك التجارية العالمية إلا إحدى أساليبها. فعندما تعجز هذه الدول عن الوفاء بالأقساط المطلوبة منها كل سنة فإنه يمنح لها زيادة في الوقت مع تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي للإصلاحات الاقتصادية ويزاد في أسعار الفوائد (الربا) ثم تمنح لها قروض ربوية لتسديد ما اقترضته من قبل. وهكذا الحال بالنسبة للشركات الكبيرة أو الحكومات بشكل عام؛ فإن طرق تمويل نفقاتها أو مشروعاتها لا يخرج عن نطاق الشراكة أو الاقتراض الربوي. ويمثل الطريق الأول الأسهم والثاني السندات الربوية بمختلف أشكالها. وما يلاحظه الدارس لأوضاع الدول المتقدمة والشركات فيها بل وحتى الأفراد هو الاعتماد على الطريق الثاني بدل الأول، وهذا نتيجة لعوامل عدة ليس هذا مجال بحثها.(3/123)
هذا الوضع بالنسبة لليابان في الثمانينيات والدول الآسيوية الأخرى في التسعينيات أدى إلى انتشار ظاهرة اقتصاد الفقاعة ويقصد بها المبالغة في التفاؤل باستمرار أيام الازدهار وما صاحبها من إقدام الناس على شراء البيوت وغيرها من العقارات أو المنقولات بأسعار مرتفعة وتمويل ذلك عن طريق الإقراض الربوي. فبدأت الأموال الربوية تتراكم سنة بعد أخرى حتى تعرض قطاع العقارات في اليابان وأسواقها المالية إلى هزة عنيفة عام 1990 بسبب كبر حجم القروض التي لا يستطيع أصحابها سدادها مما أثر على النظام المالي، وخاصة البنوك، وظهر ما كان مخفياً لعدة سنوات من أن النظام المالي في اليابان يعاني من مشكلات ولابد له من إصلاحات لتجاوزها.
وكان من بين الحلول المطروحة أن تدع الحكومة اليابانية المؤسسات المعسرة تلاقي مصيرها المحتوم - وهو الإفلاس وإغلاق الأبواب - غير أنها لم تر العمل بتلك السياسة وأن لديها من الأموال ما يكفي لتغطية تلك الديون المعدومة وإنقاذ المؤسسات التي سيؤثر انهيارها على عملية استقرار النظام المالي برمته.
استمر الوضع على هذا المنوال حتى جاءت عملية إفلاس شركة ياماييشي في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1997، وهي رابع أكبر شركة سمسرة مالية في اليابان ويعد سقوطها أكبر حدث سلبي شهده الاقتصاد الياباني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تزامن سقوط ياماييشي مع انهيار مؤسستين ماليتين أخريين وهما: شركة سانيو للسمسرة المالية وبنك هوكايدو طاكوشوكو(8). وقد قدرت المستحقات التي على هذه الشركة عند إغلاقها(9) بـ 3509 مليار ين (27.8 مليار دولار) مع تسريح آلاف العمال في اليابان وخارجها.
وإذا كان سقوط ياماييشي لن يؤثر كثيراً على أداء الاقتصاد الياباني الذي لديه من الاحتياطات المالية ما يغطي مثل تلك المبالغ المستحقة عليها؛ غير أن هذه الجزئية لا يجب فصلها عن وضع النظام المالي في اليابان الذي أظهرت التقارير والتحاليل الرسمية وغيرها عن وضعه الأمور التالية:
1 - من المتوقع أن يعلن 13 مصرفاً من مجموع الـ 19 مصرفاً كبيراً عن خسائر في تقاريرها المالية هذا العام، وذلك نتيجة إسقاط القروض المعدومة الكبيرة من ميزانيتها. وإذا كان بنك اليابان - البنك المركزي - مستعداً لدفع مبالغ لأية مصرف يمكن أن يؤثر سقوطه على استقرار النظام المالي فإن حل مشكلة القروض المعدومة في التسعة عشر بنكاً الكبيرة سيكلف مبالغ تتجاوز قيمتها 8 تريليون ين (62.5 مليار دولار)(1).
2 - مجموع القروض التي قدمها بنك اليابان للنظام المصرفي ازدادت من مستوى 373 مليار ين (2.8 مليار دولار) إلى مستوى 3.6 تريليون ين (27.3 مليار دولار) مع نهاية شهر 11 عام 1997 (2).
3 - ولا يقتصر تأثير القروض المعدومة على البنوك لوحدها بل يتعداه إلى شركات التأمين على الحياة التي قدمت ما مجموعه 434 مليار ين (3.4 مليار دولار) من القروض غير المضمونة من قبل وزارة المالية (Subordinated Loans) لشركات السمسرة المالية، وما مقداره 14 تريليون ين (111 مليار دولار) للبنوك التجارية، فإذا ما أفلست البنوك أو شركات السمسرة معنى هذا أن شركات التأمين على الحياة ستتبعها في ذلك.
4 - نظراً للحصة الكبيرة، 320 مليار دولار حتى نهاية 8/1997، التي تملكها البنوك اليابانية في سوق السندات الأمريكية، فإن تعرضها لأزمة قد يضطرها إلى بيع تلك السندات، مما قد يؤدي إلى حدوث انخفاض في أسعار السندات والأسهم في سوق نيويورك ثم باقي الأسواق العالمية الكبرى.
وإذا انتقلنا إلى كوريا الجنوبية التي يحتل اقتصادها المركز الحادي عشر على المستوى العالمي، فإن الصورة أكثر وضوحاً وجلاء مما عليه وضع اليابان، وذلك لأن قاعدة الاقتصاد وهذا الازدهار الذي شهده بني على الاقتراض الربوي، بل الإفراط فيه وفي الاستثمارات الخارجية، وقد ذكرنا مقولة رئيسها في بداية المقال، هذه التركيبة جعلت وضعها الاقتصادي يخضع لرحمة مستوى أسعار الفائدة العالمية. وعلى المستوى الداخلي فإن الحكومة المركزية(3) ألزمت البنوك التجارية بإعطاء قروض للشركات الصناعية الكبيرة - وهي لا تستحق ذلك في كثير من الأحيان عند تطبيق المعايير المالية والاقتصادية - ومع مرور الأيام بدأت بعض هذه الشركات تعجز عن سداد ما عليها مما اضطرها إلى إعلان إفلاسها مثل شركة هانبو(HANBO) (صناعة الحديد)، وكيا KIA)) (قطاع السيارات) تاركتين البنوك بقروض ربوية معدومة كبيرة، مما أثر على وضع هذه الأخيرة التي كان يتطلب الوضع الذي آلت إليه في نهاية 1996 إلى إغلاق العديد منها بسبب حجم القروض المعدومة وخسائر الشركات الكبيرة التي تستحوذ على النصيب الأكبر في قطاع الاقتصاد، لكن هذا لم يحدث.
فبدأ الوضع يزداد سوءاً حتى وصلت نسبة القروض التي لا يمكن استردادها إلى مستوى 18% من مجموع القروض التي قدمتها تلك البنوك، ومع انهيار قيمة الوون (العملة الكورية) لم تجد الدولة بداً من التوجه إلى صندوق النقد الدولي وأخذ قرض مشروط بقيمة 20 مليار دولار من أجل عدم ترك الأمور تصل إلى وضع أسوأ مما هي عليه الآن، أما عملية إصلاح النظام المالي المتعفن على حد قول مجلة الإكونوميست فإنها تكلف ما بين 60 إلى 100 مليار دولار، ومن جهة أخرى فإن الديون الخارجية لكوريا تقدر الآن بـ 122 مليار دولار معظمها قصيرة الأجل - أي تستحق السداد في أجل لا يزيد عن السنة.
وما يدهش حقاً في مسألة كوريا الجنوبية هو أن اقتصادها نما بمعدل 8.6% خلال العقود الثلاثة الماضية، وأن صادراتها نمت من مستوى 33 مليون دولار عام 1960 إلى مستوى 130 مليار دولار العام الماضي، أي أن قطاع الصادرات نما بمعدل 3939% من عام 1960 إلى 1996. ومع كل هذا فإن هذه التطورات لم تصمد في وجه حقيقة الربا؛ لأن أصل البناء أقيم على جرف هار توعد الله بمحقه واستئصال بركته.
وبشكل عام فإن الأنظمة المالية - خاصة البنوك - في الدول الآسيوية تعاني من مشاكل جمة لعل أبرزها مشكلة القروض المعدومة التي تتراوح نسبها بالنسبة إلى مجموع القروض التي قدمتها بين 10 و 20% بينما في أمريكا لا تتعدى هذه النسبة مستوى 1%.
هذه هي النتيجة الحتمية والعاقبة المنطقية بالنسبة لمعالجة مشاكل الربا عندما تتفاقم كما يراها الذين يدافعون عنها والذين يقعون في حمأتها، وذلك بدفع الأموال المتراكمة من وقت إلى آخر حتى تحين اللحظة التي يتضح فيها أن عملية التأخير لا تسمن ولا تغني من جوع، فتحدث الاضطرابات والهزات كتلك التي شهدها العالم عام 1982 في ما عرف بأزمة ديون العالم الثالث، وشهدتها أمريكا في الثمانينيات بسقوط مئات المؤسسات المالية للقروض والمدخرات(4)، والمكسيك عام 1994، وغيرها من الدول الأخرى.
الأثر الثاني: استغراق أموال الربا جميع الموجود.(3/124)
وهذا أمر بدهي؛ لأن المرابي يطالب بدفع أمواله كاملة غير منقوصة، وتحميها القوانين الآن، بينما الحقيقة التي لا فكاك منها هي أنه في الواقع العملي وفي الجانب الحقيقي من الاقتصاد هناك ربح وخسارة، فكيف نضمن دفع أموال مع زيادة تحت مسمى القرض أو السند؟ ونفصلها عن الأموال التي تدفع تحت مسمى الشراكة أو السهم ونفرق بينهما في المعاملة فنضمن الأول ونخضع الثاني لمبدأ الغنم بالغرم، من شأن هذا الوضع المقلوب أن يعطي السلطة للمقرضين للاستحواذ على ممتلكات الدائن العقارية وغيرها حتى يتمكنوا من تسديد جزء من الأموال وليس كلها، فيتعرض أصحاب المهن والمهارات والأفكار إلى الظلم والحيف الشديد نتيجة هذه القوانين الجائرة ويتعرض الاقتصاد إلى الاضطراب والهزات على الدوام، وهذا أمر ملاحظ ومشهود.
فالجانب المالي - أي قطاع المال - من الاقتصاد الآن طغى ونما بمعزل عن الجانب الحقيقي: أي قطاع السلع والخدمات، فجميع الأسواق المالية مقومة بأكثر من الواقع الذي يجب أن تكون عليه. أي ما هو مسجل على الأوراق أو بواسطة الأجهزة الإلكترونية يفوق كثيراً قيمة السلع والخدمات الحقيقية التي كان يفترض أن يكون عمل الجانب المالي مثل المرآة يعكس صورة الحركة والمعاملات فيها. ولهذا يعزو كثير من المحللين حدوث الهزات المفاجئة إلى هذا الأمر ويقولون أن: قيمة الأسواق مرتفعة Overvalued Markets)) ولابد أن يصحح وضعها، إلا أن عملية التصحيح هذه لا يمكن التأكد من مفعولها وأثرها الإيجابي وذلك بسبب وجود العلة التي توجدها وتساهم في تفاقمها وهي الربا.
ونتيجة لتعارض الفلسفة التي يقوم عليها الربا مع بدهية الربح والخسارة فمن شأن ذلك مع وجود القوانين التي تحمي أموال الدائنين أن يؤدي إلى أن الأموال التي يجب سدادها للمرابين تفوق الممتلكات التي لدى المقترضين. فإذا كان الأمر شديد الوضوح بالنسبة للشخص الذي يقترض لغرض الاستهلاك - أي الاستخدام النهائي - فإنه لا يصعب إدراكه بالنسبة للذي يقترض لأغراض الاستثمار والاتجار. فلو افترضنا أن المستثمر الذي يقترض على أساس الربا ناجح وشديد الحذر والحيطة في عدم الوقوع في مشكلة تأخير سداد الدين، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك لمدة سنة أو عشر سنوات، لكن لا بد أن يحين الموعد الذي يعجز فيه عن الوفاء بجميع ما عليه من أموال دون اللجوء إلى الاقتراض مرة أخرى. لأن الأموال الربوية تزداد وبأضعاف مضاعفة على الدوام، بينما المشروع الاستثماري ليس كذلك. فحتى في حال تحقق الأرباح بصفة مستمرة إلا أن نموها ليس مطرداً على الدوام. وما عدم قدرة الحكومات في دول العالم الثالث على الوفاء بديونها في الأوقات والتواريخ المحددة وسقوط كثير من الشركات المالية وغيرها في البلاد المتقدمة مع تطور مستويات ديونها بصورة مرعبة إلا دليل على ذلك، ثم جاءت هذه الأحداث التي تعصف بنمور آسيا لتعضد هذا القانون البدهي.
وكما ذكرت في غير هذه المناسبة(5) فإن فرض سعر الفائدة (الربا) على النقود التي هي معيار لتقويم السلع والخدمات ابتداء يؤدي إلى كل هذه الاضطرابات وعدم الاستقرار الذي تشهده الاقتصاديات المعاصرة وما سبقها من اقتصاد دول وإمبراطوريات بني على أساس الربا. وقد وقعت على كلام نفيس لابن القيم - رحمه الله -(6)، يؤكد هذه المسألة، فيقول مرجحاً سبب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - للذهب والفضة مع باقي الأصناف الأربعة التي تحدثت عن ربا الفضل(7) بعلة الثمنية، أي أنها أثمان للمبيعات: ".. فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم [وكما هو واقع في عالمنا اليوم تحت مسمى المضاربات المالية]، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس.. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات" اهـ.
هذه بعض أضرار الربا وآثاره كما نشاهدها ونعايشها، فما بال أناس من بني جلدتنا يفرضون علينا الربا في عقر دارنا ويجعلونه ركناً أساسياً لا يتصورون قيام اقتصاد ولا إحداث نهضة تنموية من غير الاعتماد عليه، وما بال بعض المشايخ يبيح الربا لولي أمره أو لا ينكر عليه ذلك لأنه – حسب تصوره - ليس هو الربا الذي كان سائداً أيام جاهلية العرب عند بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاعتبر البنوك الربوية وأعمالها حلالاً مائة بالمائة، وتهاون في القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيال هذا الجرثوم العظيم الذي أضاع الكثير من مقدرات الأمة وثرواتها وكبل نمو اقتصادياتها. ولن نقف طويلاً عند ترهات الذين قدموا تجارب الغرب والدول الآسيوية ونهضتها الاقتصادية بحلوها ومرها نموذجاً يجب تتبع خطاه في كل صغيرة وكبيرة دون النظر إلى ما عند الأمة من ثوابت ثم عواقب ومآلات الأضرار التي يحدثها تطبيق الربا في اقتصاديات هذه الدول، فهذا الصنف من الناس لشدة ولوعهم وتقليدهم لنموذجهم المفضل لا نظن أنهم سيستخدمون عقولهم لإدراك ما نكتبه أو يكتبه غيرنا إلا إذا حدث تغيير جذري في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع مثلهم الأعلى.
وأخيراً ما بال آخرين بدأوا يتساهلون في مسألة الإفتاء بجواز بعض صور الربا المحرمة، مثل القروض العقارية (Mortgage) أو "المورغج" اللعين على حد تعبير الدكتور علي السالوس - حفظه الله -، وخاصة في بلاد الغرب بحجة الضرورة أو أن أبا حنيفة - رحمه الله -أباح التعامل بالعقود الفاسدة في غير دار الإسلام.
لهؤلاء وأولئك نقول: اتقوا الله في هذه الأمة وفي ثوابتها في مسألة الربا وغيرها من المسائل العظام فإن طريقكم هذا أحدث بلبلة عظيمة وهز كثيراً من المسلمات والقناعات لدى فئات كثيرة من الناس. فإن كنتم تتصورون أن في الأمر تيسيراً وتسهيلاً لحل المشاكل التي تعاني منها الجالية في بلاد المهجر نقول: ما هكذا يا سعد تورد الإبل، فإن كان ظاهر الأمر مثل ما تتصورون فإن حقيقته وعاقبته ومآله غير ذلك، لأن مصير الربا إلى قل ومحق وإن علا وانتفش. فلا يزال في الأمر متسع وبدائل وإن كان كثير منها فيه مشقة وعنت كما يظهر لنا بتقديرنا نحن البشر المتأثرين بضغوط الواقع من حولنا، فهذا أقل ما يمكن أن نصبر على مشاقة وتبعاته في زمن أصبح المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر. وعلى أية حال لي عودة إن شاء الله لهذا الموضوع لزيادة بيانه وتفصيله، فلعل الله ييسر أمر تنقيح ما عندي من مادة وإخراجها في كتيب تعميماً للفائدة وإبراء للذمة، ولا أملك إلا أن أختم هذا الموضوع بما ختم الله به الآيات التي تحدثت عن الربا في سورة البقرة، فيقول عز من قائل: ]واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون[ [البقرة:280]...(3/125)
----------------------------------------
(1) - المحق: النقص وذهاب البركة، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه، و ] يمحق الله الربا[، أي يستأصل الله الربا فيذهب ريعه وبركته، وعن ابن عباس قال عند هذه الآية: "لا يقبل الله منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلة"، وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قُل" اهـ [لسان العرب: 10/338، القرطبي: 2/364].
(2) - نقل القرطبي في تفسيره عن خُويز منداد قوله: "ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله - تعالى - قد أذن في ذلك فقال: ]فأذنوا بحرب من الله ورسوله[.." اهـ [القرطبي: 2/364]
(3) - قال - تعالى -: [فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون] [البقرة: 274].
(4) - الجامع لأحكام القرآن، المجلد الثاني، الجزء الثالث، ص 364.
(5) - إعلام الموقعين، 2/154، طبعة دار الجيل - بيروت.
(6) - حول اضطرابات هذه الدول يراجع مقالنا: "وجهة نظر"، السنة، العدد 70، ص: 42 - 47.
(7) - نقل ابن القيم عن الإمام أحمد - رحمه الله -أنه سئل عن الربا الذي لاشك فيه فقال: "هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل" اهـ [إعلام الموقعين: 2/154].
(8) - يحتل هذا البنك المركز العاشر ضمن التسعة عشر بنكاً الكبرى في اليابان، وقد أظهرت سجلاته المالية حتى مارس 1997 أن مجموع المبالغ المودعة عنده تصل إلى 6.8 تريليون ين (52.3 مليار دولار)، أما مجموع القروض المشكوك في تحصيلها فقد بلغ 934 مليار ين (7،18 مليار دولار).
(9) - الفايننشيال تايمز [FT]، 25/11/1997.
(1) - مجلة الإكونوميست 22/11/1997، وقد ذكرت الفايننشال تايمز بتاريخ 25/11/1997، أن نتائج نصف السنة المالية لثمانية مصارف قد تظهر أن قيمة القروض المشكوك في تحصيلها تصل إلى 9862 مليارين (75.9 مليار دولار).
(2) - نفس المرجع، 29/11/1997.
(3) - الإكونوميست، 29/11/1997.
(4) - هذه العملية أدت إلى إغلاق 747 مؤسسة قروض ومدخرات (Savings & Loans)، وقد كلفت هذه العملية دافعي الضرائب 91 مليار دولار، وهو مبلغ أقل بكثير مما كان يتوقعه المسؤولون الماليون.
(5) - السنة، الأعداد: 29، 31، 32.
(6) - إعلام الموقعين: 2/156.
(7) - هو أحد أنواع الربا كما قسمها الفقهاء في غالب تصنيفاتهم.
http://www.alsunnah.org المصدر:
===============
الربا
الحمد لله الذي هدانا إلى الصراط المستقيم، الحمد لله الذي جعلنا من أهل القرآن العظيم، هدى للمتقين، الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا القويم،"اليوم أكملت دينكم
الحمد لله نحمده
معاشر الإخوة:
إن الأمة الإسلامية أمة مستقلة متفردة تماما، لهم عقائدهم ولهم شرائعهم، تختلف عن عقائد وشرائع الآخرين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف هذه الأمة بأنهم"أمة من دون الناس"فعقيدتنا تختلف، وعبادتنا تختلف، ومعاملتنا تختلف، ومعاشرتنا تختلف، ومجاملتنا تختلف عن الآخرين تماما جسما وروحا ألا وإن الإسلام دين كامل متكامل، يشمل جميع جوانب الحياة: العبادة والسياسة، الاعتقاد والاقتصاد، المعاملات والمعاشرات إلى غير ذلك من جوانب الحياة الاقتصاد الإسلامي نقطة مهمة ومهمة في الحياة الإسلامية، الحياة التي ترضي الله ورسوله، فإذا كان الاقتصاد طهورا كانت الحياة طهورا وكان الله راضيا ورسوله، وإذا كان الاقتصاد نجسا فقد تنجس كل شيء، العقيدة لم تكتمل، والعبادة لا تقبل، والدعاء لا يستجاب، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (مسلم 1686)
فإن الكسب الحلال في قبول العبادة واستجابة الدعوة شرط مهم جدا، عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه (الترمذي 2341)
الاقتصاد الإسلامي لقد بني على الكسب الحلال، وترك الحرام، وقد أحل الله البيع وحرم الربا، وقد ظهر الربا في العالم ظهورا، امتنع المسلمون عن أداء الزكاة، وانهمكوا في المعاملات الربوية، وقد قال الله - تعالى -:"الذين يأكلون الربا ……………. وأحل الله البيع وحرم الربا"
"يمحق الله الربا ويربي الصدقات"
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا …………."
"يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون"
واعلموا يا عباد الله! ليس الربا إلا من صنع اليهود، يقول الله - تبارك و تعالى -:"وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ... "
عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (البخاري 2560)
عن جابر قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (مسلم 2994/95)
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من بخاره قال ابن عيسى أصابه من غباره (أبو داود 2893، النسائي 4379، ابن ماجه 2269)
عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"بين يدي الساعة يظهر الربا"
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام"
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه (ابن ماجه 2265)
إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها"حديث موقوف
عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت ما هذا فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا (البخاري 1943 / 1297)
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله ولعن المصور (البخاري 1944)
عن سعيد بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق (أبو داود 4233)
وقال - صلى الله عليه وسلم -"من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا"(أبو داود)(3/126)
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبرائيل قال هؤلاء أكلة الربا (ابن ماجه 2264)
عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة (ابن ماجه 2270)
عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوق قال عفان فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق قال فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت ما هذا يا جبريل قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب (أحمد 8286)
http://www.al-madeena.com المصدر:
-==============
الربا وآثاره
عثمان جمعة ضميرية
الخطبة الأولى:
وبعد: أيها المسلمون:
فإن من البديهيات المسلمة والتي يؤمن بها كل واحد منا أن الله - سبحانه و تعالى - هو مالك كل موجود لأنه هو خالقه وقد جعل الله - تعالى - هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض وفق منهج الله وحسب شريعته، فكل ما خالف هذه الشريعة والمنهج كان باطلا وكان ظلما وكان عدوانا، فإن لله - سبحانه و تعالى - على خلقه شروطا وعهودا وحقوقا.
وقد أوجب الله - سبحانه و تعالى - على المؤمنين أن يكونوا متعاونين متكافلين، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، فأوجب الزكاة، وشرع القرض الحسن، ثم أوجب عليهم أن يلتزموا في معاملاتهم جانب القصد والاعتدال ويتجنبوا السرف والتبذير والشطط فيما ينفقون، وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية هذه جملة من المبادئ العقائدية، والأخلاقية والاجتماعية التي أقام الإسلام نظامه الاجتماعي عليها، ومن ثم كان التعامل بالربا عملية تصطدم مع قواعد الإيمان، لا رعاية فيها لعقيدة، ولا خلق ولا مبادئ ولا غايات سامية.
إن الربا يقوم ابتداء على أساس أنه لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر، فكأن من يعامله به يجعل نفسه سيد هذه الأرض ابتداء، وهو غير مقيد بعهد من الله أو أنه غير ملزم باتباع أوامره في الكسب والعمل وتنمية المال، كما يجعل غاية الغايات في الوجود الإنساني هو تحصيل المال بأي وسيلة ومن ثم يتكالب عليه وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين، ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا لمصلحة جماعة من المرابين، ويحطمها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا عندما يجعل المال في النهاية بيد حفنة المرابين، هؤلاء الذين يمتصون جهود وعرق ودماء الآخرين المحتاجين للمال، ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة لهؤلاء المرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة المال الذي يقترضونه بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدون في أثمان السلعة الاستهلاكية، فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين.
ولذلك أيها المسلمون: يجب أن تذكروا أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي لأنه يتنافى مع أصل الإيمان، حتى ولو خادع بعض الناس أنفسهم في تبرير شيء من ذلك الربا.
وإن النظام الربوي بلاء على الإنسانية في إيمانها وفي أخلاقها وفي حياتها الاقتصادية، فهو أبشع نظام يمحق سعادة البشر محقاً، على الرغم من أنه يبدو كأنه مساعده من هذا النظام للنمو وسد الحاجات، واذكروا أن التعامل الربوي لابد أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة، ثم يفسد حياة الجماعة وتضامنها بما ينشره فيها من روح الطمع والجشع والأثرة والمغامرة.
لهذا كله أيها المسلمون: ولغيره من الأسباب وقف الإسلام من الربا موقف الحرب الساخنة التي لا هوادة فيها، وشنع على أصحاب هذه المعاملة أبلغ تشنيع، وحمل عليهم حملة مفزعة مرعبة وهددهم تهديدا معنويا وحسيا فقال - سبحانه و تعالى -: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم".
فأكلة الربا لا يقومون في الحياة لا يتحركون فيها إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا يستقر له قرار ولا طمأنينة ولا راحة، يعيش حياة القلق والاضطراب والخوف والأمراض النفسية والعصيبة والخوف على المال، والخوف من الخسارة والخوف من المحق، ثم الخوف من الكفر والله لا يحب كل كفار أثيم ثم ينادي الله - تعالى - الذين يريدون تحقيق إيمانهم فيقول: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ".
ثم يربط الله - تعالى - هذه الأحكام جميعا بتقوى الله والخوف من عقابه يوم الحساب "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".
ثم تواردت أحاديث النبي تحذر من الربا وتبين عواقبه ففي الصحيحين عن أبي هريرة: ((اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله السحر وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات)).
الربا سبب للعن والطرد من رحمة الله، يشترك في ذلك كل من له علاقة بالربا شهادة أو كتابة أو أخذا أو إعطاء، وفي الصحيحين عن ابن مسعود: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله)). وعن جابر: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)).
وإذا كان الجزاء من جنس العمل فاسمعوا إلى عقوبة أخروية تبدأ بعد الموت إلى قيام الساعة مع ما ينتظر صاحبها من عقوبة بعد البعث، فقال: ((رأيت الليلة رجلين (أي ملكين)، فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه، فرده حيث كان، فقلت: ما هذا الذي رأيت في النهر؟ فقال: آكل الربا)).
وفي الحديث الصحيح كذلك تشنيع لهذه المعاملة وجعلها في مستوى الزنا بل هي أشد من الزنا، فكيف إذا كان الزنا بالأم، فعن النبي قال: ((الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه))، وقال: ((الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام)).
وهو سبب لعذاب الله وسبب للعقوبات العاجلة في الدنيا، ففي الحديث: ((ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله))، وفي حديث عمرو بن العاص: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)).(3/127)
وقد رأى - عليه الصلاة والسلام - عقوبة رهيبة لآكلة الربا وهو في رحلة الإسراء والمعراج فقال: ((رأيت ليلة أسرى بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبروق وصواعق، فأتيت على قوم: بطونهم كالبيوت فيها الحيات (الأفاعي) ترى من خارج بطونهم قلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء آكلة الربا)).
فاحذروا ذلك كله على أنفسكم أيها المؤمنون فما من أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة، وليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره.
أيها المسلمون: فقد يقول بعض إني مضطر للقرض بربا كي أكمل عمارتي أو أوسع تجارتي، أو ما شابه ذلك والضرورات تبيح المحظورات، فاعلموا أن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات.
وقد يقول بعضهم كيف أعطي أموال للآخرين ينتفعون بها وأعطلها عن العمل ولا استفيد منها.
ونسي هؤلاء أن القرض يجب أن يكون منزها عن هذه المنفعة المادية ولا يراد به إلا وجه الله، وفيه ضمان للمال فسيرده صاحبه كاملا دون خسارة، ولو كان عندك لم يكن مضمونا.
أما إذا ردت النفع المادي مع ذلك فإن الإسلام شرع شركة المضاربة.
http://www.alminbar.net المصدر:
-=============
حكم بطاقات الائتمان
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاخوة الفضلاء القائمون على الموقع الموقر تحية من عند الله مباركة طيبة السؤال : لى حساب فى البنك ولى كارت فيزا، فهل كارت الفيزا حرام ؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعد
فإنّ موضوع التعامل ببطاقات الاعتماد أو الائتمان ( و منها : فيزا و ماستر كارد و أميريكان إكسبريس و غيرها ممّا اتّحد وصفُه و اختلف مُسمّاه ) من الأمور المصرفيّة المعقّدة غاية التعقيد ، و من أسباب ذلك أنّ شروط إصدارها قد تختلف من مصرف إلى مصرف ، أو باختلاف النظام النقدي من بلد إلى بلد ، أو الاختلاف في حدّ الصرف و مهلة السداد بين عميل و عميل ، و حسب سعة ذات يده أو ضيقها ، و مقدار ما يودعه في المصرف ، و قد عُرضت هذه المسألة على مجامع و لجان فقهيّة عديدة فلم يحظ أيٌّ من آرائها على إجماع .
و إليك خلاصة ما أراه فيصلاً بين الحلال و الحرام في هذه المسألة :
أوّلاً : إذا كان تعاملك مع مصرف إسلامي معروف بتحكيم الشرع في تعاملاته الاقتصاديّة ، من خلال لجنة شرعيّة ترسم سياساته ، و توجّه تعاملاته ، فالأمر فيه سعة إذ إنّ هذه المصارف لا ترتّب على عملائها زيادةً ربويّةً و إن تأخّروا في تسديد ما بذمتهم من ديون لها ، بل غاية ما تلجأ إليه هو الاقتطاع التلقائي من حساب العميل لاستيفاء الدين الثابت في ذمّته من جرّاء الشراء أو السحب النقدي بواسطة بطاقته الائتمانيّة ، فإن لم يفِ رصيده بدَينه أوقِفَت بطاقته لحين السداد .
ثانياً : المعروف عن المصارف الإسلاميّة أنّها تقبض مبلغاً رمزيّاً مقطوعاً على كلّ عمليّة سحب نقدي بواسطة بطاقة الاعتماد ، و هذا المبلغ إن كان محدداً مهما اختلف المبلغ المسحوب فلا بأس ، لأنّه من باب الجعالة ، و يأخذ حُكم أجرة تحويل المال أو إيصاله من بَلَدٍ إلى بَلد ، أمّا إن اشترط المصرف نسبةً مئويّةً تتأثر بالمبلغ المسحوب زيادةً و نُقصاناً ، فهذه صورة من صور الربا ، و لا يجوز التعامل بها ألبتّة ، و الله أعلم .
ثالثاً : الغالب في تعاملات المصارف و شركات الاستثمار الربويّة أنّها تشترط لإصدار بطاقات الاعتماد لعملائها واحداً - على الأقل - من الأمور الثلاثة التالية :
• إمّا أن يكون لديه حسابٌ جارٍ يتم الإيداع فيه بشكل دَوريٍّ دائم كالراتب الشهري ، أو الدخل المستمر ( و من أمثلته الإيجار و عائد الضمان الاجتماعي و النفقة المُلزِمة ) .
• أو أن تكون لديه وديعة استثماريّة محدودة الأجل في المصرف ، بحيث لا يحق له السحب منها إلاّ بعد مضيّ الأجل المتفق عليه ، و أقلّه - فيما أعلم - ثلاثة أشهر .
• أو أن يحبس مبلغاً من حساب التوفير ( أو الادّخار ) العائد له لدى المصرف ، فلا يكون له حق التصرّف فيه بالسحب أو التحويل إلاّ بعد إجازة قسم البطاقات الائتمانيّة للعمليّة , أو مضي أجل على إنتهاء صلاحيّة بطاقته ، أو إلغاء اشتراكه فيها ، أو توقيفها بسبب السرقة أو الضياع .
و يهدف المصرف من اشتراط توفر أحد هذه الأمور أو أكثر ضمان استرداد حقّه ، في حال تأخر العميل عن السداد أو تهرّبه منه أو تنكّره له .
و عليه فإن أوّل الشروط للحصول على البطاقة من مصرف رِبَوي هي التعامل مع ذلك المصرف بفتح حسابٍ أو أكثر فيه ، و إيداع مبلغ نقدي لا يقل عن الرصيد المتاح لمستخدم البطاقة في ذلك الحساب ، و هذا حرام لا يجوز إلاّ لمضطر ، و الضرورة تقدّر بقَدَرها ، و لا يجوز التوسّع فيها بحال .
أضف إلى ذلك أنّ المصرف يُفرّق بين تعاملات عميله بالبطاقة ، حيث يشترط نسبةً مقطوعة محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها العميل ببطاقته ( و هي تتراوح غالباً بين رُبع العُشر و نِصفِه ) و هذا عين الربا .
أمّا في عمليّات الشراء فغالباً ما يقتصر المصرف على اقتطاع المبلغ المصروف بدون زيادةٍ و نقصان ، و لا مُراباة في ذلك .
و بناءً على ما تقدّم فلو كان الحصول على البطاقة مشروعاً ( و هذا ما لا أتوقّعه من مصرف يتعامل بالربا ) ، و ليس فيه حُرمةٌ أو ما يترتب على عمليّة محرّمة ؛ فلحاملها أن يستخدمها في عمليات الشراء فقط ، شريطة أن لا يتأخّر في السداد عن المدّة المسموح بها ، و أن لا يؤدي ذلك إلى سداد أي مبالغ زائدة عن المبلغ الذي أنفقه ثمناً لمشترياته ، أو للخدمات الأخرى ( غير السحب النقدي ) .
و ليحذر المتعاملون مع المصارف الربويّة من الوقوع تحت طائلة حرب أعلنها الله تعالى عليهم ما لم يبادروا بالتوبة ، فقد قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة ] .
و لا يظن أحدٌ منهم أنّ تنازله عن الزيادة الربويّة لصالح المصرف أو إخراجها في وجه من وجوه البر و الصلة بدون توبةٍ ، يخرجه من المحظور ، و يبيح له متابعة تعامله مع ذلك المصرف ، لأنّ التعامل بالربا أو المساعدة عليه أو المساهمة فيه سواءٌ في الحرمة ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
هذا و اللهَ أسأل أن يغنيني و السائل و المسلمين بحلاله عن حرامه ، و بطاعته عن معصيته ، و بفضله عمّن سواه .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
==============
الفتاوى المتعلقة بموضوع الفيزا كارت
الأخ جودر بن عمر .
إليك بعض الفتاوى المتعلقة بموضوع الفيزا كارت ، ومنها ما يتعلق بسؤالك ، وأرجو أن يكون فيها الكفاية إن شاء الله تعالى .
محبك : عبد الله زقيل
السؤال :(3/128)
تقوم البنوك بمنح عملائها بطاقة تسمى ( الفيزا ) ، حيث تمكنه من سحب مبالغ نقدية من البنك ولو لم يكن في حسابه تلك اللحظة أي مبلغ ، على ان يقوم بردها للبنك بعد فترة زمنية محددة ، وإذا لم يتم التسديد قبل انقضاء تلك الفترة فإن البنك يطلب زيادة أكثر مما سحب العميل ، مع العلم أن العميل يقوم بدفع مبلغ سنوي للبنك مقابل استخدامه لتلك البطاقة ، أرجو بيان حكم استخدام هذه البطاقة . وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله
هذه المعاملة محرمة ، وذلك لأن الداخل فيها التزم بإعطاء الربا إذا لم يسدد في الوقت المحدد ، وهذا التزام باطل ، ولو كان الإنسان يعتقد او يغلب على ظنه أنه موف قبل تمام الأجل المحدد لأن الأمور قد تختلف فلا يستطيع الوفاء وهذا أمر مستقبل والإنسان لا يدري ما يحدث له في المستقبل ، فالمعاملة على هذا الوجه محرمة . والله أعلم .
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مجلة الدعوة العدد 1754 ص 37. (www.islam-qa.com)
السؤال : من شروط استئجار السيارات أن يكون عندنا بطاقات ائتمان. ليس من الواجب أن ندفع أي شيء من خلال البطاقة وإنما يجب إبراز البطاقة للضمان فقط. عند إرجاع السيارة ندفع نقدا ولا نستعمل البطاقة مطلقا.
فهل يجوز لي أن استخرج بطاقة ائتمان لهذا الغرض ؟
الجواب:
الحمد لله
الأصل أن المعاملات الربويّة محرمة ولا يجوز الدّخول فيها ومن ذلك الشّروط الرّبوية الموجودة في عقود البطاقات الائتمانية ، وفي بعض البلدان يكثر الاعتماد على هذه البطاقات حتى لا يكاد الشّخص ينفكّ عن استعمالها وقد عرضنا السؤال التالي على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين :
بطاقة الفيزا تشتمل على شرط ربوي إذا تأخرت عن التسديد جعلوا عليّ غرامة لكن المكان الذي أقيم فيه في أمريكا لا يمكن لي أن أستأجر سيارة ولا محلا وكثير من الخدمات العامة لا تمكن إلا ببطاقة الفيزا وإذا لم أتعامل بها أقع في حرج كبير لا أطيقه ، فهل التزامي بالتسديد في وقت معين حتى لا يصبح عليّ ربا يبيح لي التعامل بهذه البطاقة في وضع الحرج الذي أعيش فيه ؟
فأجاب - حفظه الله - بما يلي :
إذا كان الحرج متيقنا واحتمال التأخير عن التسديد ضعيف ، فأرجو أن لا يكون فيها بأس .
سؤال :
هل الشرط الربوي الفاسد يُبطل العقد أم لا ؟
الجواب :
وإن كان في العقد شرط باطل فإنه لا يُبطل العقد لأمور :
(1) الضرورة ،
(2) ولأنه لا يتحقق لأن الرجل غالب على ظنه أنه سيوفي ، فمن أجل أنه غالب على ظنه أنه سيوفي والشرط غير متحقق ومن أجل الضرورة - وهذه هي النقطة الأخيرة والمهمة - فأرجو أن لا يكون في هذا بأس ؛ لأن عندنا أمرا متحققا وهو الضرورة وعندنا أمر مشكوك فيه وهو التأخر ، فمراعاة المتيقن أولى .
والله أعلم .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين (www.islam-qa.com)
السؤال :
أنا أود أن اقدم طلب لبطاقة الفيزا من بنك الراجحي ,,, وللحصول عليها لابد أن تدفع مبلغ سنوي يسمى مبلغ رسوم البطاقة . لأستخدمها في عملية الشراء سواء عن طريق الانترنت أو عن طريق المحلات التجارية ,,, وقد ابلغني البنك بأنه لايأخذ أي عمولة بمعنى أن المبلغ الذي اشتريت به هو الذي سوف تدفعه للبنك بعد تسعين يوما من عملية الشراء . فهل يجوز لي اقتناء هذه البطاقة واستخدامها في غير الأصناف الستة المذكورة في حديث المصطفى صلى الله علية وسلم وهي الذهب والفضة ...الخ . أرجو افادتي في سؤالي وجزاكم الله خيرا.
الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا حرج في استخراج هذه البطاقات والتعامل بها، وما يأخذه البنك رسما لإصدار البطاقة لا حرج فيه كذلك. ويجوز لك أن تشتري بهذه البطاقة ما شئت من الأمتعة والأعيان. وإذا كان المبلغ المستحق يدخل في حساب البائع مباشرة عقب إتمام المعاملة أو يسجل في ورقة مشتملة على بيانات صاحب البطاقة تكون بمثابة الشيك المصدق الذي يستطيع البائع استحقاق مقابله في أي وقت شاء: جاز لك شراء الذهب والفضة وغيرهما من الأصناف الربوية بهذه البطاقة لوجود صورة القبض المعتبرة شرعاً، والله أعلم
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showsearchSingleFatwa?FatwaId=665&word=فيزا
السؤال :
اشترى أحدهم مواداً للأكل مستخدماً فيزا كارت وعلى حسب قوله إن هذه الشركة (التي حصل على الكارت منها) لا تقاضيه ربا أو زيادة على ما يسحبه من نقود لمدة ثلاثة أشهر ولكن بعد الثلاثة الأشهر سوف يكون هناك زيادة... فما حكم الأكل الذي اشتراه في هذه الحالة (حلال أم لا)؟ وما هو حكم الأكل إذا كان في الحقيقة زيادة (ربا) على ما دفعه قيمةً للأكل؟
أفيدوني جزاكم الله خيراً وجزى خيراً من أسس وأعان على تحسين هذا العمل.
وهذا الموقع واعذروني إن أطلت عليكم والسلام عليكم ورحمة الله .
الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم أما بعد:
المشتري الذي استعمل "الفيزاكارت" ينظر في حاله : فإن كان استعماله لهذه البطاقة مجانياً فيسوغ له ولغيره استعمالها.
وإن كانت الجهة التي صرفت له هذه البطاقة تتقاضى على ذلك فائدة (غير ثمن استخراج البطاقة) فلا يجوز استعمالها ولا الأكل مما اشترى بها ، إذا علم أنه اشترى هذا الاكل بعينه بها ـ لأن هذا الطعام مشترى بمال ربا محض ، فلا يجوز أكله لأنه عوض عن مال خبيث، أشبه ما لو اشترى طعاما بخمر. وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى ـ وبه قال الحنابلة .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showsearchSingleFatwa?FatwaId=2709&word=فيزا
نص السؤال :
ما حكم الفيزا كارت؟ ونظائرها من فيزا ماستر وغيرها. وما حكم استخدامي للبطاقة الائتمانية في المشتريات فقط دون أن أسحب بها مبلغاً نقدياً لعلمي أن عليه فوائد، لكن أحياناً أشتري من محل بالبطاقة، ثم أقوم بإرجاع المشتريات ويعطونني بدلها بدلاً نقدياً، فهل هذا حرام؟
نص الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فإن كثيرا من بطاقات الفيزا تشتمل على محظورين:
الأول : التوقيع في العقد على الإقرار بالربا، وأنه إذا تأخر العميل عن السداد في مدة محددة لزمه دفع مبلغ نظير التأخير. وهذا إقرار للتعامل الربوي المحرم .
الثاني : احتمال الوقوع في الربا، إذا تأخر عن السداد في الوقت المحدد. فمتى سلمت المعاملة من هذين المحظورين فلا إشكال ، فمن استطاع أن يحذف الشرط المذكور في العقد ، وحرص على السداد في الوقت جاز له التعامل بهذه البطاقات. وقد أصدرت البنوك الإسلامية نوعا من هذه البطاقات ولله الحمد.
وننبه إلى أنه لا فرق في الحكم بين أن تسحب بهذه البطاقة مبالغ نقدية أو تقتصر على استخدامها في المشتريات فقط، فالعبرة بأساس هذه البطاقة هل هو سالم من المحذورين أو لا ؟
فإذا وجد أحدهما أو كلاهما فلا يجوز استخدامها ولا إصدارها أصلاً ، والبدل النقدي عن البضائع المسترجعة يأخذ حكم البضائع من حيث الحل أو الحرمة ، ونظراً لأن البطاقة التي تتعامل بها إذا سحبت بها مالاً أخذ البنك عليه فائدة ربوية، فلا يجوز التعامل بها.
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showsearchSingleFatwa?FatwaId=2834&word=فيزا
نص السؤال :
بطاقة الفيزا أو الماستر كارد من البنوك التجارية ما حكمها بشكل عام و بشكل خاص ما حكم سحب نقد منها مقابل عمولة محددة مقدارها 3 .(3/129)
2- ما حكم سحب نقد من بطاقة فيزا صادرة من بنوك إسلامية علما أنهم يتقاضون عمولة مقطوعة مقدارها 3.5 دينار عن كل عملية سحب .
نص الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز التعامل مع البنوك التجارية القائمة على الربا، بأي شكل من أشكال التعامل حتى ولو لم تكن تلك المعاملة مشتملة على الربا، لأن ذلك من باب التعاون معهم على الإثم والعدوان . قال تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " [المائدة: 2] .
إلا ما دعت إليه الحاجة مثل : التحويل من مكان إلى آخر ، حيث لا يتوفر التحويل عن طريق بنك إسلامي .
وأما حكم إصدار بطاقة الائتمان (الفيزا) ، فلا حرج فيه إذا خلت من الموانع الشرعية ، كالتوقيع في العقد أنه في حالة التأخير في السداد فإنه يدفع قدراً من المال زيادة على المبلغ المستخدم . لأن ذلك ربا صريح وكل قرض جر نفعاً فهو ربا ، وقد أصدر المجمع الفقهي قراره رقم: 108 (2/12) بشأن بطاقة الائتمان غير المغطاة ، وحكم العمولة التي يأخذها البنك .
وإليك نص القرار :
(إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000) .
بناء على قرار المجلس رقم 5/6/1/7 ف ي موضوع الأسواق المالية بخصوص بطاقة الائتمان ، حيث قرر البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة .
وإشارة إلى قرار المجلس في دورته العاشرة رقم 102/4/10، موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي درات حوله من الفقهاء والاقتصاديين ، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم 63/1/7 الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه : " مستند يعطيه مصدره (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع ، أو الخدمات ، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع ، ويكون الدفع من حساب المصدر ، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية ، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة ، وبعضها لا يفرض فوائد .
قرر ما يلي :
أولاً : لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة ولا التعامل بها ، إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية ، حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجاني .
ثانياً : يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شروط زيادة ربو ية على أصل الدين .
ويتفرع على ذلك :
أ ) جواز أخذ مصدرها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجرا فعليا على قدر الخدمات المقدمة على ذلك .
ب ) جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه ، شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد .
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراضا من مصدرها ، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية ، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة .
وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً ، كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10/2) و 13 (1/3) .
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة. ) . انتهى نص قرار المجمع ، والله أعلم .
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showsearchSingleFatwa?FatwaId=6275&word=فيزا
عبد الله زقيل
==============
العقوبات الإلهية للشعوب والأمم
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) النساء:1[ . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيها المسلمون :
فيقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم : (( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ )) [النحل:113..112] .
في هاتين الآيتين الكريمتين يعرضُ القرآنُ الكريم مثلاً مضروباً, مُسَاقاً للعظةِ والعبرة, لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار, وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش, يأتيها رزقُها من كل مكان, لا يعرفُ أهلُها الجوعَ والخوف, ولا الفاقةَ والحرمان, فهم في أوجِ لذاتِهم, وغايةِ سعادتهِم, لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين حكاماً ومحكومين, ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم, ومكانتهِم عند الله تعالى, وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عند الناس, فتجرأَ المغفلون حكاماً ومحكومين, رؤساء ومرؤوسين, تجرءوا على انتهاكِ محارمِ الله, وتجاوزِ حدودهِ سبحانه, مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم, وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم, فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم, ويعترفوا بإحسانِه إليهِم, وتفضلِه عليهِم, ويلتزموا حدودَه ، ويعرفوا حقوقَه. إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم ويتجرءون في سفهٍ وغرور على العزيزِ الحكيم، الذي يقول: (( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)) ويقول : (( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)) فماذا كانتْ النتيجة, وما هي النهايةُ والعاقبة بعد ذلك الإمهالِ والصبرِ الجميل ؟! إنَّ القرآنَ الكريم يختصرُ العقوبةَ المدمرة, والنهايةَ الموجعة في كلمتين اثنتين, : (( فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )).(3/130)
إذاً فرغدُ العيش, وسعةُ الرزق, يتحولُ في طرفةِ عين, ولمحةِ بصر جوعاً يَذهبُ بالعقول, وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد, وإذا البطونُ الملأ والأمعاءُ المتخمة, يتضورُ أصحابُها جوعا, ويصطلون حسرةً وحرمانا, وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا, وينسونَ في عجبٍ وغرور المتفضلَ به سبحانه, والمنعمَ به جل جلاله, إذا به ينقلبُ رعباً وهلعاً, لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه, فضلاً عن مالهِ وملكه. فانتشر المجرمون والقتلة يسفكونَ دماءَ الناس, وينتهكونَ أعراضَهم, ويحوزونَ أموالهَم وحوا صلَهم, وأصبح باطنُ الأرض خيراً من ظاهِرها, في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة, والقرآنُ الكريم حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاءٍ مآلَ تلكَ القريةِ الظالمِ أهلُها, ويقررُ أنَّ ما أصابهَم هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم من التمردِ والجحود, ونكران الجميل, حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه, فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين, ويخاطبُ غيَرنا, حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها, يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ الذي وقعوا فيه, فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي ألوا إليه, ولقد ذاقت هذه الأمة ألوناً من العقوباتِ المدمرةِ التي يشيبُ من هو لهِا الوالدان, ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم, ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفا تِهم, هم أئمةُ الإسلامِ المحققون, كابن كثير, والذهبي,وغيرهِما.لظننا ذلك ضرباً من الخيالِ والتهويل, فإليكم طرفاً مما حدثَ لهذه الأمة حينَ كفرتْ بأنعمِ الله, واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان, لعلنا نتعظ ونعتبر, ونلجأ إلى ربنا إذ لا ملجأ من الله إلا إليه. ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ خبرَ الطاعون الذي أصاب مدينةَ البصرةَ العراقية قال : فمات في اليومِ الأول سبعون ألفا, وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا, وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفا, وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس. قال أبو النُفيد:وكان قد أدركَ هذا الطاعون قال : كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى, فلما كثروا لم نقوم على الدفن.فكنَّا ندخلُ الدار وقد مات أهلُها, فنسدُ بابهَا عليهم, وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة من الهجرة ذكر ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد, بحيث خلتْ أكثرُ الدور, وسُدَّت على أهلِها الأبواب لموتِهم وفناءِهم, وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتةَ من قلةِ الطعام, ووجُد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد أخضَّر, وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها, وسقطَ طائرٌ ميت فاحتوشته خمسةُ أنفسٍ فاقتسموه, وأكلوه, ووردَ كتابٌ من بخار ى أنَّه ماتَ في يومٍ واحد ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان, والناسُ يمرون في هذه البلاد, فلا يرون إلا أسواقاً فارغة, وطرقاتٍ خاليةٍ, وأبواباً مغلقةً, وجاء الخبرُ من أذربيجان أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد إلا العددُ اليسير جداً, ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها, حتى أطبق على البلاد, وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع, فكان الناسُ يشوونَ الكلاب, ويَنبشونَ القبور, ويشوونَ الموتى ويأكلونهم, وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم, وكان يدفنُ في القبرِ الواحد العشرونَ والثلاثون. وذكرَ ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة ما أصابَ بلادَ مصر من الغلاءِ الشديد, والجوعِ العظيم, حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب, فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير, وماتت الفيلة فأكلتْ ميتاتُها, وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء, ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم, ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه, وكانت الأعراب يقَدَمون بالطعام يبيعونَه في ظاهرِ البلد, لا يتجاسرون على الدخول لئلا يُخطفَ, ويُنهبَ منهم, وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهاراً, وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل, وفي سنةِ ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ من الهجرة, ورد كتابٌ من القاضي الفاضل: إلى ابن الزكي يخبُره فيه أنه في ليلةِ الجمعة التاسعِ من جمادى الآخرة، أتى عارضٌ ـ يعني سحاب ـ فيه ظلما تٌ متكاثفة, وبر وقٌ خاطفة، ورياحٌ عاصفةٌ، فقويَ الجو بها, واشتدَّ هبوبُها, فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ, وتلاقتْ على بعدِها واعتنقتْ,وثار السماء والأرض عجاجا, حتى قيل : إن هذه على هذه قد انطبقت, ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ, وعاد منها عادٍ, وزادَ عصفُ الريح إلى أن أطفأَ سُرجَ النجوم, ومَزَّقت أديَم السماء, فكنا كما قال الله تعالى: (( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ )) (البقرة: من الآية19) .
ويردونَ أيديهَم على أعينهِم من البوارق, لا عاصمَ لخطفِ الأبصار, ولا ملجأ من الَخطْبِ، إلا معاقلُ الاستغفار, وفرَّ الناس نساءً ورجالاً وأطفالا, ونفروا من دورِهم خفافاً وثقالا لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلا, فاعتصموا بالمساجدِ الجامعة، وأذعنوا للنَّازلة بأعناقٍ خاضعة، وبوجوهٍ عانية، ينظرون من طرفٍ خفي, ويتوقعون أيَّ خطبٍ جلي, قد انقطعتْ عن الحياةِ عُقولُهم, وعميتْ عن النجاةِ طُرُقهم, ووردتْ الأخبار بأنها قد كُسِرت المراكبُ في البحار، والأشجارُ في القفار، وأتلفتْ خلقاً كثيرا ًمن الأسفار, إلى أن قال:ولا يحسبُ أحدٌ أني أرسلتُ القلمَ محرفاً, والعلم مُجوفاً، فالأمرُ أعظم ولكنَّ الله سلم. انتهى كلامه رحمه الله .
أيها المسلمون : إن هذه العقوباتِ المهلكة, والكوارثَ المفجعة, ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويل والمبالغة، فالله يقول : (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )) (هود:102)
لكن الذي نشأ منذُ نعومةِ أظفاره في بحبوحةٍ من العيش, لم يذقْ مرارة َالجوع طرفةَ عين, حريٌ به أن يعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب, لكنْ سلوا الآباء والأجداد الذين اصطلوا بنارِ الجوع, ولهيبِ الظمأ دهراً طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطريق، وعصاباتِ السطو في وضحِ النهار, يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون :
فإن للعقوباتِ أسباباً كثيرةً, ورد ذكرُ بعضهِا في الكتابِ والسنَّةِ، وجامعُها المعاصي والذنوبُ, والتكذيبُ والإعراضُ, فمن أسبابِ العقوباتِ المدمرة, والفواجعِ المهلكة, إقصاءُ الشريعة عن الحكمِ والتشريع, أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق, مع المنةِ والأذى, والله يتوعدُ الأمة إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا, ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى, : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: من الآية85] .
ومن أسبابِ العقوباتِ في الدنيا قبلَ الآخرة, إشاعةُ الفاحشةِ في الذين آمنوا. وفي ذلك يقولُ ربنا جل جلاله : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) [النور:19] .(3/131)
ومن إشاعةِ الفاحشة: الدعوةُ للاختلاط, ونزعِ الحجاب, وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص, وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة, مما لا يتسعُ المقام لسرده وفي الأثر : « وما أعلن قومٌ الفاحشة إلا عمتهم الأوجاعُ, والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم » .
ومن أسبابِ العقوبات: منعُ الزكاة ، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها لما وجدتَ بين المسلمين فقيراً, ولا محتاجاً, وأسمع إلى عقوبةِ الأمة حين تبخل بزكاةِ أموالِها, قال عليه الصلاة والسلام : « وما منع قومٌ زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء ولولا البهائمْ لم يمطروا » .
وقد يستخفُ أقوامٌ بهذه العقوبة, ويستطرفونها, لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم, لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف, لعلموا أنهم كانوا واهمين, وعن الصراط لناكبين .
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر, والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة, وتعمُ الرذيلة, ويستطيلُ الشر, وتخربُ البلادُ والعباد, واسمع لعقوبةِ الأمة حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر: ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام : « والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر, أو ليبعثن الله عليكم عقابا منه, ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم» ([1]) ألا فضّ اللهُ أفواهاً, وأخرس ألسناً تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: انتشارُ الظُلم في المجتمع, وغيابُ العدلِ فيه,فيأكلُ القويُ الضعيف, وينهبُ الغنيُ الفقير, ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين, وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة, ولا تجدُ من يقولُ للظالِم أنتَ ظالم, فقد آن أوانُ العقوبة, واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام : « إن الناسَ إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه » ([2]) .
ومن أسبابِ العقوبات: فشو الربا وانتشارُه حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثر ون, وقلَّ له الناكرون, واللهُ يقول : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)) [البقرة:279] .
ويقول سبحانه : (( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)) [البقرة:276] .
وذهابُ بركةِ المال, ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد, يعترفُ به المرابون ضمناً أو تصريحاً, والعالمُ الإسلامي اليوم يعاني الأزماتِ الاقتصاديةِ الخانقة, لتورطهِ بتعاطي الربا, وإعراضِه عن الشرعِ المطهر, واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا, ومدمنيه .
أيها المسلمون: أسبابُ العقوباتِ كثيرةٌ, والموضوعُ متشعبٌ وطويلٌ, لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، وما لا يُدرك كلُه، لا يتُرك جُله .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين,
------------------
[1] - رواه الترمذي (2169) .
[2] -رواه الترمذي (2168) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
===============
المساهمة في الشركات التي أعلنت توقفها عن الأنشطة المحرمة
عبد المجيد بن صالح بن عبد العزيز المنصور
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فيحصل أحياناً من بعض الشركات أو البنوك أو غيرها من المؤسسات ذات الشخصية المعنوية أن تعزم على إيقاف التعاملات المحرمة كالإيداع والإقراض بالفوائد توبة منها إلى الله، ورجوعاً إلى الحق بإرادة جازمة، واقتناعاً منها بخطورة الربا ونحوه .
هذا الموضوع نحتاج إليه في هذا الوقت؛ لكثرة الأسئلة الواردة على طلاب العلم والمفتين عن الآثار المترتبة على إقلاع الشركات والبنوك عن التعاملات المحرمة من جواز المساهمة فيها وحكم الأنشطة المحرمة السابقة قبل التوبة.
وتزداد الحاجة إليه بعد أن بدأنا نسمع بين الفينة والأخرى احتمال توجه كثير من الشركات إلى الأسلمة الحقيقية والتوقف عن الأنشطة المحرمة.
وهذا البحث عبارة عن مشاركة متواضعة في هذا الموضوع ولا أزعم أني أوفيته حقه من كل جوانبه ولعله يكون مفتاح باب لمن أراد أن يلج بحثه بأوفى مما ذُكر فيه؟
فأقول: هل إذا تابت هذه الشركات وأقلعت عن التعاملات المحرمة يقضى لها بما سلف من الأموال المحرمة وبالتالي يجوز المساهمة فيها وتملُك أسهمها بعد إعلان توبتها أو أنه يجب عليها التخلص مما سبق من الأموال المقبوضة بالربا، ولا تملكها بالقبض والتوبة، وبالتالي لا يجوز المساهمة فيها وتَملُّك أسهمها حتى تتخلص من التعاملات المحرمة المقبوضة قبل التوبة كالربا وغيره؟
هذه المسألة يمكن تخريجها على العاصي الذي عاش مدة في مستنقع الفجور والكبائر، وقد تعامل بالحرام والمعاملات الفاسدة والباطلة دهراً من الزمن لا بجهل يعذر به ولا بتأويل سائغ، ولكن إعراضاً عن طلب العلم الواجب عليه الذي يجنبه الوقوع في هذه المعاملات مع تمكنه من العلم، أو سمع بتحريم هذه البيوع والمعاملات ولم يتركها إعراضاً لا كفراً بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيراً .
الأول: من ترك طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه حتى وقع في هذه المعاملات المحرمة غير عالم بتحريمها .
الثاني: من بلغه الخطاب بتحريمها، وعلم بالحكم الشرعي ولم يلتزم اتباعه، تعصباً لمذهبه أو اتباعاً لهواه وعصياناً لربه، وهذا هو الأكثر.
فهل يكون حال هذا إذا تاب إلى الله عز وجل ورجع وأناب، وأقر بالتحريم تصديقاً والتزاماً كحال الكافر إذا أسلم على أموال محرمة قد قبضها قبل إسلامه؛ لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام يجب ما قبله، وبالتالي لا يفسخ العقد، و يقر على أمواله التي قبضها حال فسقه، وليس عليه التخلص منها،وتكون له حلالاً طيباً، ويملكها كما في العقد الصحيح.
أو يجب عليه رد جميع ما اكتسبه من الأموال المحرمة، والتخلص منها، ويجب فسخ العقود الفاسدة المقبوضة، ولم يتملكها طوال تلك المدة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
أنه يجب عليه فسخ تلك العقود والقبوض، ولا يقر عليها، ويؤمر برد جميع ما قبضه من الأموال المحرمة من ربا وميسر ومخدرات ويانصيب ونحو ذلك، أو التخلص منها.
وعلى هذا القول يجب على الشركة رد جميع ما قبضته من الأموال المحرمة من ربا وميسر إن أمكن، وإلا تتخلص منها، ولا تقر عليها، وهذا قول في مذهب الحنابلة (1)، واختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2).
وهو قول المالكية (3) في الربا خاصة، فإنه مفسوخ أبداً فات أم لم يفت، وليس له إلا رأس ماله، أما غيره من العقود فإنه يجب فسخه ما لم يفت (4).(3/132)
قال ابن عبد البر: (قال مالك: ومن البيوع ما يجوز إذا تفاوت أمره وتفاحش رده، فأما الربا فإنه لا يكون فيه إلا الرد أبداً، ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ" (5).
ثم قال: (هذا قول صحيح في النظر وصحيح من جهة الأثر فمن قاده ولم يضطرب فيه فهو الخيِّر الفقيه...) (6).
وقال: ( وقد اتفق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا ) (7).
جاء في سؤال موجهٍ إلى اللجنة الدائمة :
(س: أنا كنت أساهم في البنوك، واستفدت منها بعض الشيء، فإذا هي حرام ونويت التوبة والابتعاد عنها، فهل هذا يكفي أو لا ؟
ج: أولاً: عليك التوبة والاستغفار من ارتكاب جريمة المشاركة في هذا الأمر المحرم، والإقلاع عن ذلك، وسحب مساهمتك عسى الله أن يتوب عليك، فهو سبحانه القائل: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى" (8).
ثانياً: عليك التخلص من الأرباح التي حصلت لك بسبب هذه المساهمة بصرفها على الفقراء والمساكين) (9).
وقالت في جوابٍ لسؤال آخر:
(إذا تاب العبد من المعاملة الربوية، وهي لا تزال قائمة بينه وبين الناس، فيجب عليه استلام رأس ماله فقط، ويترك الزيادة الربوية؛ امتثالاً لقوله تعالى: "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ" (10)، وإذا استلم قيمة المعاملة الربوية مع ربحها فيجب عليه تملك رأس ماله الأصلي فقط، والربح الربوي ينفقه في وجوه البر ) (11).
واستدل أصحاب هذا القول بأربعة أدلة:
الدليل الأول:
قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ" (12).
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الآية عامة في الجاهل والعاصي والكافر إذا أسلم وغيرهم، تجب عليهم التوبة، ويذرون ما قبضوه من الربا والأموال المحرمة، وليس لهم إلا رؤوس أموالهم.
وقد يناقش: بأن المقصود بالآية هو ما لم يقبض من العقود، فإن غير المقبوض يجب إبطاله وترك ما بقي منه، وليس للعاقد إلا رأس ماله، وليس المراد هو ما قبض من العقود بجهل وتأويل ونحو ذلك، فإن هذه له بقوله تعالى: "فله ما سلف"، أي: من العقود المقبوضة حال العذر.
الدليل الثاني:
استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (13).
وجه الدلالة من الحديث: أن هذا النص عام في العبادات والمعاملات فكل ما وقع منهما على خلاف الشرع يجب رده وإبطاله، والعقود المقبوضة بهذه الحال يجب ردها وإبطالها؛ لدخولها تحت هذا الحديث.
قال الخطابي: (في هذا الحديث بيان أن كل شيء نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود، فإنه منقوض مردود؛ لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير الظاهر فينزل الكلام عليه؛ لقيام الدليل فيه) (14). قال ابن حزم (ولم يستثن -صلى الله عليه وسلم- عالماً من غير عالم، ولا مكلفاً من غير مكلف، ولا عامداً من غير عامد (15)، والعقود المحرمة ليست من أمر الدين فيجب ردها).
الدليل الثالث:
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :((من أين هذا؟)) فقال بلال : تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع؛ لمطعم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك : ((أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به)) (16) وفي رواية لمسلم : ((فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)) (17)
قالوا: إذا أوجبنا فسخ العقود والقبوض على الجاهل المعذور فعلى العالم بالتحريم العاصي أولى وأحرى، فهو عاصٍ ظالم بترك التعلم والالتزام، ولا يلزم من العفو عن الجاهل العفو عن هذا .
ويجاب عنه:
بأن المسلم العاصي إذا تاب ليس بأشقى من الكافر، فإذا لم نوجب الفسخ على الكافر وصححنا عقوده وقبوضه فالمسلم التائب أولى .
القول الثاني:
أن تلك العقود والقبوض الفاسدة تملك بعد التوبة، ويقر عليها، ولا يجب عليه ردها، ولا فسخها والتخلص منها إلا من تاب من الحرام وكان بيده فإنه يجب عليه رده، فإن لم يعرف مالكه تصدق به عنه، أو صرفه في مصالح المسلمين، وعليه فإن تلك العقود والقبوض الفاسدة التي قبضتها الشركة تملك بعد التوبة، وتقر عليها، ولا يجب عليها ردها لأصحابها، ولا فسخها ولا التخلص منها إلا إن تابت من الحرام وكان بيدها، فإنه يجب عليها ردها إلى أصحابها إن أمكن، وإلا تتصدق به عنه، أو تصرفه في مصالح المسلمين، وهذا قول في المذهب (18)، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية (19).
واستدلوا على ذلك بأربعة أدلة:
الدليل الأول:
القياس على الكافر إذا أسلم قياساً أولوياً وبيانه:
أن هذا المسلم الذي تاب وأناب ليس بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبراً وحسداً وهوىً، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله، ولكن جحد ظلماً وعلواً كحال فرعون وأكثر أهل الكتاب والمشركين الذين لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (20)، فإذا عفي عن الكافر ما قبضه من المحرمات إذا أسلم، فالمسلم كذلك يعفى عنه إذا تاب بجامع أن كليهما رجع وأناب إلى الله وعرف الحق.
وقد يناقش: بوجود الفرق بينهما من حيث إن الكافر وقعت معاملته وهو غير مكلف، وغير مخاطب بآيات أصول الربا، بخلاف المسلم العاصي العالم، فإن معاملته وقعت في حال هو مكلف فيها.
الدليل الثاني:
أن التوبة كالإسلام (21) فإن الذي قال: ((الإسلام يهدم ما كان قبله)) (22) هو الذي قال: ((التوبة تهدم ما كان قبلها)) (23) وذلك في حديث واحد رواه مسلم في صحيحه .
فإذا عفي عن الكافر إذا أسلم أنواع المحرمات التي ارتكبها، وأبيحت له الأموال المقبوضة بالحرام، فكذلك المسلم إذا تاب إلى الله، ولا فرق، فالحديثان مخرجهما واحد، ولا يجوز تفسير أحدهما بخلاف الآخر.
ويناقش: بأن من مقتضى التوبة أن يتخلص من هذه الأموال المحرمة، ويبعدها عنه، ويعدل إلى غيرها من المكاسب (24)؛ فإن التوبة قول وفعل فالقول بإكثار الاستغفار، والفعل بالإقلاع عن هذه الأموال، والتخلص منها بالتصدق بها على المحتاجين.
الدليل الثالث:
ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه)) (25).(3/133)
وجه الدلالة من الحديث: أنه إذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلاً، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، فلا يكون بذلك فاعلاً لمحرم ولا تاركاً لواجب (26).
وقد يناقش: أن هذا حديث يحكي أحوال يوم القيامة، ولا يبنى على الأحكام الأخروية، أحكاماً فقهية في الدنيا، فلا تقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والله أعلم.
الدليل الرابع:
قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف"
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الآية عامة في كل من جاءه موعظة من ربه فقد جعل الله له ما سلف، ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا : "يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم برد ما قبضوه. فدل على أنه لهم مع قوله: "فله ما سلف وأمره إلى الله" والله يقبل التوبة عن عباده (27).
ونوقش: بأن هذا مختص بالكافرين (28).
وأجيب: بأنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك، إنما قال: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف" وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى (29).
الموازنة والترجيح:
هذه المسألة من أعقد المسائل لقوة أدلة الفريقين وتضاربها في نظر الباحث، وإن كنت أميل إلى القول الثاني، وهو أن تلك العقود معفو عنها وتقر عليها و تملكها بعد التوبة، وذلك لثلاثة أمور:
أولاً: أنه إذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، فهذا المعنى موجود في التوبة عن الجهل والظلم والعصيان، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات (30).
ثانياً: أن في عدم العفو عن تلك العقود والقبوض الماضية في حال العصيان تنفيراً عظيماً عن التوبة؛ لما يلزم الداخل فيه من الآصار والأغلال الثقيلة الموضوعة على لسان هذا النبي –صلى الله عليه وسلم- عن التائبين، فإن الأمر برد جميع ما كسبه التائب من الأموال والخروج عما يحبه منها تصير التوبة في حقه عذاباً، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة وتوبته -وهو مسلم عذاب- (31)، فإن كثيراً من الفساق أصحاب رؤوس أموال هائلة، وغالبها أو كثير منها من الحرام الفاسد، وقد يكون غير متميز عن الحلال، وقد يكون له مصادر تجارة متعددة، ومطالبته بردها، والتخلص مما قبضه في غاية الصعوبة والمشقة، ولو قيل له: من شرط توبتك أن ترد كل ما كسبته بالحرام ربما نفر عن التوبة، وكان هذا القول معيناً للشيطان عليه، لكن لو قيل له: بأن الله قد غفر لك بتوبتك كل ذنوبك المتعلقة في باب العبادات وباب المعاملات، وعليك بالإقبال على الله من جديد، وترك المعاودة لمثل ما سبق لكان هذا حافزاً ومشجعاً له إلى التوبة ومحاولة تصحيح وضعه الجديد، ويكف عن المعاملة بالحرام، وقد يكون هذا قدوة لآخرين مثله إذا رأوا ذلك منه .
وبهذه الطريقة نكون قد قضينا على كثير من المعاملات الفاسدة التي ربما كانت تستمر لولا القول بالعفو عما سلف مما قبضوه.
وكذلك يقال في الشركات والبنوك ونحوها أن في عدم العفو عن تلك العقود والقبوض قبل إعلان الشركة توقفها عن التعامل بالمحرم تنفير عظيم عن الإقلاع عن التعاملات المحرمة وتنفير عن التوبة؛ لما يلزم الشركة بعد توبتها وإعلان توقفها من الحرام من الآصار والأغلال الثقيلة الموضوعة على لسان النبي –صلى الله عليه وسلم- عن التائبين، فإن الأمر برد جميع ما كسبته الشركة من الأموال الربوية وغيرها، والخروج عما تحبه منها، تُصَيِّر التوبة وإعلان التوقف في حقها عذاباً، وكان الاستمرار على ما كانت عليه في السابق حينئذ أحب إليها من إعلان توقفها، ويضاف إلى ذلك أن التخلص منها أمر في غاية الصعوبة والمشقة، ولو قيل: من شرط توبتها أن ترد كل ما كسبته بالحرام ربما نفرت عن التوبة، وكان هذا القول معيناً للشيطان عليها، بخلاف ما لو قيل للشركة: لا يلزمك الخروج من الأموال الربوية المقبوضة في السابق، ويكون لكِ حلالاً إذا تبتِ، و أعلنتِ بصدق تصحيح وضعكِ من جديد، وتركتِ التعامل بالربا بكل أشكاله وأنواعه، فإن هذا يكون لها حافزاً إلى التوبة و الإعلان عنها، كما قد يكون حافزاً للشركات الأخرى أن تحذو حذوها.
ثالثاً: أننا بهذه الطريقة نكون قد قضينا على كثير من الشركات والبنوك المحرمة والمعاملات الفاسدة التي ربما استمرت على نشاطاتها وتعاملاتها المحرمة لولا القول بالعفو عما قبضوه مما سلف، بخلاف ما لو قيل لها: لابد لكِ – كشرط من شروط التوبة – أن تُخْرِجِي كل ما قبضتِ بالعقود الفاسدة المحرمة ما دمتِ تعلمين حرمتها وكنتِ عاصية بذلك (32)، ربما كان هذا في حقها شاقاً، وربما يترتب عليها خسائر مالية ضخمة كانت التزمتها في السابق، وبالتالي يكون هذا عائقاً لها، ومنفراً عن التوبة، فتحجم الكثير من الشركات عن التوبة بسبب هذا، وهذه نظرة ماراعاً فيها جانب المصلحة الراجحة مقابل المفسدة المرجوحة، قال ابن تيمية: ( ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق ) (33).
لكن قد يرد على هذه الحال – أعني توبة الشركات والبنوك – إشكال وهو أن توبة الشركات ونحوها عن التعامل بالحرام والفاسد غير متمكنة أو ضعيفة، فهي ليست كالأشخاص والأفراد الذين يملكون أموالهم بأنفسهم فالشركات والبنوك عبارة عن شخصية معنوية قائمة بعدد من الأشخاص، وكل عامل فيها لا يعنيه توبة الشركة من عدمها، فمن التائب فيها؟
ويجاب: بأن هذه طبيعة الشخصيات المعنوية لا يطالب فيها شخص بعينه، وإنما هي قائمة بإرادة الجميع ومتخذي القرار فيها، فإذا كانت الإرادة قائمة من الإدارة ومتخذي القرار فيها كانت هذه الإرادة – وأعني بها التوبة- مقبولة، فهي مثل توبة الفرد والشخص العادي.
ويؤيده إمكانية وجود شرائط التوبة في هذه الشركات والبنوك ونحوها المساهمة، وهي العزم على عدم العود إلى الحرام من ربا وغيره في المستقبل، والإقلاع عنه في الحال، وأن تكون صادقة لا بقصد التلاعب بعقول الناس ونحوه، والندم على ما صدر منها في السابق (34)، والعزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به (35).
وأما الأموال الربوية المقبوضة فهي محرمة لحق لله وقد عفى عنها، وليست حقاً لآدميين فيؤمروا بإرجاعها إلى أصحابها، والله أعلم.
وأخيراً أقول: أيضاً يمكن إرجاع الفتوى في هذه المسألة إلى المفتي فينظر في ذلك المصلحة، فإن رأى من الشركة القدرة والاستعداد للتخلص من الأموال الربوية المقبوضة وصدق في التوبة مهما كلفها ذلك، فإنه يفتيها بالتخلص من هذه الأموال بالتصدق بها في مصالح المسلمين بنية التخلص لا التطوع.
وإن رأى منها ضعفاً في هذا الباب وخشي نفورها من التوبة، فإنه يفتي بعدم وجوب التخلص من المقبوض الفاسد، ولا يجب رده باعتبار أن هذه الفتوى أخف المفسدتين.
فإنها-أي: الشركة- لو أفتي لها بوجوب التخلص، لم تتخلص من المقبوض بعقد فاسد ولم تعلن التوقف عن التعاملات المحرمة بخلاف ما لو أفتي لها بعدم الوجوب، فإنها لن تتخلص من المقبوض بعقد فاسد، وسوف تقلع عن التعاملات المحرمة في المستقبل بعد إعلان توبتها، والله تعالى أعلم.
ومن خلال ما سبق، فمن قال بصحة توبة الشركة، وتَملِك ما قبضته من العقود الفاسدة، فإن من لازم قولهم جواز المساهمة فيها، وأنها تملك أسهمها بعد إعلان توبتها .(3/134)
ومن قال بعدم صحة توبتها إلا برد جميع الأموال المحرمة أو التخلص منها فإن من لازم قولهم تحريم المساهمة فيها وتملك أسهمها حتى تتخلص من التعاملات المحرمة المقبوضة قبل التوبة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على بينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
------------------------------------------------------
(1) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها، والدرر السنية في الفتاوى النجدية (3/133).
(2) فتاوى اللجنة الدائمة (14/29)و(14/32)و(14/48)و(14/62).
(3) المدونة الكبرى (4/148)، ومواهب الجليل (4/381)، ومقدمات ابن رشد ص (503)، والتمهيد (5/129)، والاستذكار (19/146) و(21/139)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/355-356)، ومسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب الإمام مالك شرح العلامة الأمير على منظومة بهرام ص(49)، والفروق وحواشيه (2/164)، والمالكية أوجبوا على الجاهل التخلص منه، وبناء على ذلك فإنه من باب أولى أن يوجبوه على العالم العاصي .
(4) الفوات عند المالكية يعني أحد خمسة أشياء : الأول: تغير الذات وتلفها كالموت والعتق وهدم الدار وغرس الأرض وأكل الطعام ونماء المبيع ونقصانه . والثاني: حوالة الأسواق. والثالث: البيع. والرابع: حدوث عيب. والخامس: تعلق حق الغير كرهن السلعة . انظر القوانين الفقهية لابن جزيء ص(265) والشرح الصغير للدردير
(5) سورة البقرة، آية(279).
(6) الاستذكار (21/139).
(7) التمهيد (5/129)، والاستذكار ( 19/146) وهذا النقل لاتفاق الفقهاء في هذه المسألة فيه نظر، فإن جمهور الحنفية يرون أن المقبوض بعقد ربوي يملك وإن كان واجب الفسخ، وخالفهم شمس الدين السرخسي في هذه المسألة، فوافق الجمهور.
(8) سورة طه، آية(82).
(9) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/48).
(10) سورة البقرة، آية(279).
(11) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/51)، وانظر (13/400)و(13/429)وما بعدها.
(12) سورة البقرة، آية(278-279).
(13) رواه مسلم بهذا اللفظ من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (كتاب الأقضية -باب نقض الأحكام الباطلة ، ورد محدثات الأمور ) رقم 3243 (9/119).
(14) عون المعبود (12/234).
(15) المحلى (8/135).
(16) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الوكالة- باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود) 2188(2/613) ومسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) 1594(3/1215)
(17) رواه مسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) (3/1215)
(18) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها.
(19) مجموع الفتاوى (22/16) وما بعدها و(30/328) و تفسير آيات أشكلت (2/577-595).
(20) مجموع الفتاوى (22/17) بتصرف.
(21) المرجع السابق بتصرف.
(22) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان-باب كون الإسلام يهدم ما كان قبله وكذا الهجرة والحج) (1/112).
(23) المرجع السابق .
(24) انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء (14/62).
(25) صحيح مسلم (كتاب الإيمان- باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ) رقم 190 (1/177).
(26) مجموع الفتاوى (22/18) بتصرف.
(27) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(28) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(29) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(30) مجموع الفتاوى بتصرف (22/18).
(31) مجموع الفتاوى بتصرف (22/18-22)، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه يعرف طائفة من الصالحين من يتمنى أن يكون كافراً ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم قال: ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله، مجموع الفتاوى (22/22).
(32) هذه حال كثير من الشركات المحرمة في البلاد الإسلامية فإنها تعلم بتحريم الربا ولكن تتعامل به عصياناً وعن هوى -نسأل الله السلامة-.
(33) تفسير آيات أشكلت(2/595).
(34) انظر: شرائط التوبة في مدارج السالكين (1/182).
(35) المرجع السابق (1/305).
المصدر : الإسلام اليوم
==============
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية
عبدالعزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن ما يشهده العالم الإسلامي هذه الأيام من غضبة عارمة، وحملة مباركة لنصرة سيد البشر نبينا _صلى الله عليه وسلم_، والدفاع عن عرضه الشريف أمام الهجمة الشرسة القذرة التي يشنها الغرب الصليبي الكافر على نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_، وتتولى كبرها بلاد الدنمارك الحاقدة. إن في هذه القومة المباركة لنصرة نبينا _صلى الله عليه وسلم_ ما يثلج الصدر، ويسر الخاطر ويبث الأمل في النفوس ويؤكد أن امة الإسلام أمة مباركة ومرحومة ولازال فيها الخير، والرصيد العظيم في مقاومة أعدائها والنكاية فيهم حتى ولو كانت ذليلة مستضعفه؛ فكيف لو كانت قوية ومتمكنة.
ولقد ظهر في هذه الحملة قدرة الأمة على النهوض والتكاتف والتعاون على إلحاق الأذى الشديد بالعدو المتربص. وقد ظهر ذلك في هذه القومة الشاملة لمختلف شرائح الأمة رجالاً ونساءً, صغاراً وكباراً, أغنياء وفقراء, وعوام ومثقفون . وذلك في الكتابات الكثيرة المتنوعة لنصرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ , وكذلك في المقاطعة المباركة التي آتت أكلها وثمارها في إنهاك اقتصاد المعتدين.
أسأل الله _عز وجل_ أن يبارك في جهود القائمين بهذه النصرة سواء من كتب أو خطب أو قاطع وهجر منتجات القوم. وليس هذا بكثير في نصرة نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، والذي هو أولى بنا من أنفسنا، والذي قال لنا ربنا _سبحانه_ عنه: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"[ (128) سورة التوبة]. والذي بلغ الكمال الإنساني في الشمائل والأخلاق وفي عبادة ربه _سبحانه وتعالى_ ، وكل هذا يفرض علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأموالنا، وأن نفديه بالنفوس والمهج والأولاد والأموال .
وبما أن الحديث عن نصرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وعن حقوقه، وحقيقة أعدائه وحقدهم قد قام به المسلمون في شتى بلدان المسلمين بأقوالهم ورسائلهم وكتاباتهم ومقاطعتهم، فلن أكرر ما كتب وقيل ففيه إن شاء الله الكفاية. غير أن هناك بعض الوصايا التي أنصح بها نفسي وإخواني المسلمين في ضوء هذا الحدث الجلل أرى أنها من حقوق المصطفى _عليه الصلاة والسلام_، وهي من لوازم نصرته وموجبات محبته، ولكن قد تغيب عن بعضنا وتنسى في زحمة الردود واشتعال المشاعر والعواطف.
الوصية الأولى:
قال الرسول _صلى الله عليه وسلم_:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ]البخاري:1[ وعندما سئل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية, ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" البخاري (2810),مسلم (1904)(3/135)
والمقصود من إيراد هذين الحديثين الشريفين أن يحاسب كل منا نفسه، وهو يشارك في هذه الحملة المباركة للدفاع عن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ويتفقد نيته في قومته هذه، هل هي خالصة لله _تعالى_؟ أم أن هناك شائبة من شوائب الدنيا قد خالطت نيته كأن يظهر للناس غيرته وحرصه على الدين وعلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، أو تكون مجرد حمية وعصبية ومفاخرة أو إرادة دنياً ومكانة بين الناس، أو غير ذلك من الأغراض، وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله _عز وجل_، ومع إحسان الظن بالقائمين بهذه النصرة وأنهم إن شاء الله تعالى إنما قاموا بذلك حباً لله _تعالى_ ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ . إلا أن محاسبة النفس في هذا الشأن، وغيره من العبادات أمر واجب على كل مسلم حتى يبارك الله _عز وجل_ في الأعمال، ويحصل منها الأجر والثواب، وإلا ذهبت هباءً منثوراً؛ إن لم يأثم صاحبها ويعاقب على ذلك.
الوصية الثانية:
قال الله _تعالى_:" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [(31) سورة آل عمران] .
ويقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
[يقول الأمام أبن كثير _رحمه الله تعالى_ عند آية آل عمران .هذه الآية الكريمة حاكمه على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". ولهذا قال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه, وهو محبته إياكم؛ وهو أعظم من الأول, كما قال بعض الحكماء العلماء ؛ليس الشأن أن تُحِبَّ, إنما الشأن أن تُحَبَّ . وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ"[ (31) سورة آل عمران ].
ويقول الأمام أبن القيم _رحمه الله تعالى_: " لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي. فتنوع المدعون في الشهود. فقيل لا تٌقبل الدعوى إلا ببينة " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ " (31) سورة آل عمران فتأخر الخلق كلهم, وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه"] من مدارج السالكين 3/9[.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_:"فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب, ليست محبته لله وحده, بل إن كان يحبه فهي محبة شرك, فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله, فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب, فكانوا يتبعون الرسول, فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين , وهكذا أهل البدع فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه, فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى, بحسب ما فيه من البدعة. فان البدع التي ليست مشروعة، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلي كل ما يحبه الله . فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر"] الفتاوى 8/361,360[.
والمقصود من إيراد الآية التي في سورة آل عمران وكلام أهل العلم عندها, وكذلك الحديث، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه ويختبر صدق محبته لله تعالى ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ في قومته ونصرته لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذ أن علامة حبنا لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وصدقنا في نصرته أن نكون متبعين لشرعه وسنته، وأن لا يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وتؤذيه، فنقع في التناقض بين مانقوم به من النصرة لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وبين أحوالنا، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" [(2 -3 ) سورة الصف ] .
• فيا أيها الذي تعبد الله _تعالى_ بغير ما شرع الرسول _صلى الله عليه وسلم_، وقام لنصرة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ :زادك الله غيرة وغضباً لله تعالى، ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ . ولكن اعلم أن الذي قمت لنصرته هو القائل
• "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" [البخاري:2697] وعليه فإن أي ابتداع في الدين، سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال لمما يؤذي نبينا محمداً _صلى الله عليه وسلم_ ويسيء إليه. فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وهو في نفس الوقت يؤذيه و يعصيه؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والإتباع , ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته. وأشنع من هذا من يدعي محبة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله . أو يؤذي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بسب أزواجه أو أصحابه فإن كل ذلك يدل على كذب أولئك المدعين .
• ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسول _صلى الله عليه وسلم_.إن هذا منكم لعمل طيب مشكور؛ ولكن تفقدوا أنفسكم فلعل عندكم وفي بيوتكم وبين أهليكم ما يغضب الله _عز وجل_ ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ من آلات اللهو، وقنوات الإفساد ومجلات اللهو والمجون. فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لمما يسيء إلى الرسول ويؤذيه، ويتناقض مع صدق محبته. إذ أن صدق المحبة له تقتضي طاعته و اتباعه؛ لأن المحب لمن يحب مطيع.
• ويا أيها التاجر الذي أنعم الله _تعالى_ عليه بالمال والتجارة. إنه لعمل شريف، وكرم نبيل أن تهب لنصرة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وتهجر وتقاطع منتجات القوم الكفرة الذين أساءوا إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وآذوه، ولكن تفقد نفسك ومالك عسى أن لا تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله، أو ممن يقع في البيوع المحرمة، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم . فإن كنت كذلك فحاسب نفسك وراجع صدق محبتك للرسول _صلى الله عليه وسلم_ الذي قمت لنصرته .ألا تعلم أنك بأكلك الربا تعد محارباً لله تعالى ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_، وصدق القيام لنصرته قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ"] (279),(278)سورة البقرة[ ألا تعلم أن الأولى بالمقاطعة والهجر هو هجر ما حرم الله _عز وجل_ من الربا والبيوع المحرمة والسلع المحرمة التي قد استمرأها الكثير من التجار؟ قال الرسول _صلى الله عليه وسلم_ "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"[البخاري :10] . ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية، وعدم المصداقية.(3/136)
• ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة؛ وإذاعات وتلفا، وقنوات فضائيه في بلدان المسلمين. إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ . ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حاله من التناقض، إن لم يكن ضرباً من النفاق، وذلك عندما يدعي محبة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ونصرته ممن أساء إليه من الكفرة، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ويؤذيه، وذلك مما حرم الله عز وجل وحرمه رسوله _صلى الله عليه وسلم_ من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة، وبث الشبهات، والشهوات، و النيل من أولياء الله عز وجل وأولياء رسوله _صلى الله عليه وسلم_ والاستهزاء بهم وبسمتهم وهديهم وعقيدتهم والله _عز وجل_ يقول: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"[البخاري:11/292] فكيف تعرضون أنفسكم لحرب الله عز وجل وأنتم تدعون نصرة نبيه _صلى الله عليه وسلم_ والذب عنه . إن الذب عن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ انما تكون بالتزام سنته، والذب عنها والتوبة من كل ما يقدح فيها، والتزام طاعته _صلى الله عليه وسلم_ والصدق في محبته , وإلا كان هذا الانتصار مجرد ادعاء، ومفاخرة ونفاق _نعوذ بالله من ذلك_.
• ويا أصحاب الحل والعقد في بدان المسلمين إن أمانتكم لثقيلة فالحكم والتحاكم بأيديكم , والإعلام و الاقتصاد بأيديكم ،والتربية والتعليم بأيديكم، وحماية أمن المجتمع، وحماية الثغور بأيديكم فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم عز وجل وأمام أمتكم , فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله _عز وجل_ وأستحل ما حرم الله _عز وجل_ إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ والمناوئين له؟ وأن من أقام اقتصاده على الربا والمعاملات المصرفية المحرمة إنما هو من المؤذين والمحاربين لله _عز وجل_، ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ ؟ وأن من مكن لأهل الشر والإفساد والشبهات والشهوات في إعلام الأمة ليفسدوا عقائد الناس وعقولهم وأعراضهم إنما هو من أشد المؤذين والمبغضين لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ . وأن من تولى الكفرة و وادهم وقربهم من دون المؤمنين فهو من المحادين لله تعالى ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ ؟ إذا علمنا جميعاً هذه المسلمات , وعلمنا أن هذه الممارسات المسيئة لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ موجودة في أكثر بلدان المسلمين اليوم فما قيمة أن يقوم بعض حكام هذه البلدان بإظهار الشجب والغضب لمن أساء إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في أعلام الغرب الكافر، وهم من أعظم المسيئين إليه _عليه الصلاة والسلام_، برفض شرعه و موادة أعدائه؟ إن هذا لعمر الله لهوا التناقض والنفاق والتدليس والتلبيس,إذ أن من كان صادقاً في حبه لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وصادقاً في غضبه وانتصاره ممن أساء إليه يكون من أول المتبعين لسنته _صلى الله عليه وسلم_ وشريعته لا من الرافضين والمناوئين لها !!
وفي ختام هذه الوصية أرجو أن لا يفهم من كلامي أني أهون من هذه الحملة القوية لنصرة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، والدفاع عن عرضه الشريف أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين . كلا بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين، ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقد إيماننا، وصدقنا في محبتنا لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_، والانتصار له، بأن نبرهن على ذلك بطاعته عليه الصلاة والسلام واتباعنا لشريعته والذب عنها والاستسلام لها باطناً وظاهراً قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (208) سورة البقرة. وقال تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا" (36) سورة الأحزاب . وقال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا"[ (65) سورة النساء] .
الوصية الثالثة:
إن ما حصل من إساءة إلى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في الإعلام الدنماركي، والنرويجي جرم عظيم ينم عن حقد متأصل في قلوب القوم ,ولكن ينبغي أن لا تنسينا مدافعة هؤلاء القوم من هو أشد منهم خبثاً وحقداً وضرراً على المسلمين، ألا وهي طاغية العصر أمريكا حيث جمعت الشر كله، فوقعت فيما وقع فيه هؤلاء من الإساءة إلى نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_، و إهانة كتاب ربنا سبحانه وتنجيسه وتمزيقه على مرأى من العالم، وزادت على القوم بقتل أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق وفلسطين، وسامت الدعاة والمجاهدين سوء العذاب في أبي غريب وأفغانستان، وسجونها السرية في الغرب والشرق، فيجب أن يكون لها الحظ الأكبر من البراءة والانتصار منها لربنا _عز وجل_ ولكتابه سبحانه ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_، وأن ننبه الناس في هذه الحملة الميمونة إلى هذا العدو الأكبر وأنه يجب أن يكون في حقه من إظهار العداوة له والبراءة منه ومقطاعته كما كان في حق الدنمارك بل أكثر وأشد .
وأتوجه بهذه المناسبة إلى المنادين بمصطلح (نحن والآخر) والمطالبين بالتسامح مع الآخر الكافر وعدم إظهار الكراهية له، لأقول لهم : هذا هو الأخر الذي تطلبون وده وتتحرجون من تسميته بالكافر . إنه يرفض ودكم، ويعلن كراهيته لديننا ونبينا، وكتاب ربنا سبحانه فماذا أنتم قائلون؟! وهذا من عدونا غيض من فيض وصدق ربنا سبحانه إذ يقول في وصفهم "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" [(118) سورة آل عمران] .
الوصية الرابعة:(3/137)
إن من علامة صدق النصرة لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن لا نفرق في بغضنا وغضبتنا بين جنس وآخر ممن آذى نبينا _عليه الصلاة والسلام_، وأساء إليه أو إلى دين الإسلام؛ بل يجب أن تكون غضبتنا لله تعالى وتكون عداوتنا لكل من أساء إلى ربنا أو ديننا أو نبينا _صلى الله عليه وسلم_ من أي جنس كان ولو كان من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا . كما هو الحاصل من بعض كتاب الصحافة، والرواية، وشعراء الحداثة، والذين يلمحون تارة ويصرحون تارة أخرى بالنيل من أحكام ديننا وعقيدتنا، وإيذاء نبينا _صلى الله عليه وسلم_، بل وصل أذاهم وسبهم للذات الإلهية العلية تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا. فأين غضبتنا على هؤلاء، وأين الذين ينتصرون لله تعالى، ودينه، ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ من فضح هؤلاء والمطالبة باقامة حكم الله فيهم ليكونوا عبرة لغيرهم ؟ إن الانتصار من هؤلاء لا يقل شأناً من الانتصار ممن سب ديننا ونبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ في دول الغرب الكافر يقول الله _عز وجل_ "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[ (22) سورة المجادلة] .
الوصية الخامسة:
يقول الله _عز وجل_ : "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" [(36) سورة الإسراء].
يقول الإمام أبن كثير _رحمه الله تعالى_ عند هذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم: "ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم .بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ " [(12) سورة الحجرات ]. وفي الحديث "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وفي سنن أبي داود "بئس مطية الرجل زعموا".... وقوله: "كل أولئك" أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد "كان عنه مسؤولا" أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة وتسأل عنه وعما عمل فيها ) أ.هـ .
وفي ضوء هذه الآية الكريمة وما ورد في معناها نخرج بمنهج عادل وقويم في التعامل مع الأحداث، والمواقف ينصحنا الله عز وجل به، حتى لا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وحتى لا يقع المسلم في عاقبة تهوره وعجلته. وذلك بأن لا ينساق وراء عاطفته، وحماسته الفائرة دون علم وتثبت مما رأى أو سمع فيقول بلا علم أو يتخذ موقفاً دون تثبت وتروي.
إن المسلم المستسلم لشريعة ربه سبحانه محكوم في جميع أقواله ومواقفه وحبه وبغضه، ورضاه وسخطه بما جاء في الكتاب والسنة من الميزان العدل، والقسطاس المستقيم. فإن لم يضبط المسلم عاطفته وحماسه بالعلم الشرعي والعقل والتروي فإن حماسته هذه قد تجره إلى أمور قد يندم على عجلته فيها.
والمقصود هنا التحذير من العجلة، والجور في الأحكام، والمواقف خاصة عندما تكثر الشائعات ويخوض فيها الخائضون بلا علم أو عدل. بل لابد من التثبت ومشاورة أهل العلم والشرع وأهل الفهم بالواقع.
ومن أمثلة هذه المواقف المتسرعة في هذا الحدث مما تناقلته بعض المطويات ورسائل الجوال من وجوب المقاطعة لبضائع كثيرة بعضها ليست من منتجات القوم المقصودين بالمقاطعة , ومن ذلك التسرع في الحكم على من لم يقاطع بأنه آثم لا يحب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وكما جاء في قول القائل (قاطع من لم يقاطع ). ومن ذلك الإكثار من الرؤى و المنامات , والاستناد عليها في تصحيح موقف ما أو تخطئته.
وبعد: فهذا ما يسره الله _عز وجل_ من هذه الوصايا التي أخص بها نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان؛ مع التأكيد على ضرورة الصمود و المصابرة في البراءة من القوم، ومقاطعة منتجاتهم فما كان في هذه الوصايا من صواب فمن الله _عز وجل_ فهو المان بذلك. وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله _عز وجل_ وأتوب إليه والحمد لله رب العالمين
=============
وقفات مع تحول البنوك الربوية إلى إسلامية
عبد الله بن حميد الفلاسي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:-
أصبحت البنوك الإسلامية منافساً قوياًً للبنوك الربوية في العالمين العربي والإسلامي، إلى الحد الذي جعل الأخيرة تقوم بإنشاء فروع للمعاملات الإسلامية، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة تحوّل البنوك الربوية إلى بنوك تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
وتعتبر البنوك الربوية أفضل من أخذ في اعتباره أن هناك توجهات في المجتمع بدأت تطالب بالمعاملات الموافقة للشريعة، وبدأ كثير من الناس بتحويل حساباتهم إلى البنوك الإسلامية، للابتعاد عن المعاملات المحرمة، والوقوع في الإثم، ولذا تعتبر دوافع تحول بعض البنوك الربوية إلى إسلامية - في الغالب - لها أبعاد ربحية وتجارية بحتة، بسبب ما حققته البنوك الإسلامية من نتائج إيجابية، وارتفاع معدلات الربحية وعوائد عمليات التمويل مقارنة بعوائد التمويل الربوي.
وأن هذه المصارف التي تعلن التحول للتمويل الإسلامي يجب أن تكون موضع دعم وتأييد وتوجيه وترشيد، لا موضع استنكار واتهام، وخاصة البنوك التي تريد أن تتحول من العمل الربوي إلى العمل الإسلامي، هذه التي ينبغي تشجيعها، والتعاون معها على البر والتقوى.
أما البنوك المصرة على مزاولة الربا، لكنها بجانب ذلك تزاول شيئاً من المعاملات الإسلامية، ومزاولتها للعمل الإسلامي ليس من باب التوبة والاستغفار، لكن من باب التزود والاستكثار، فمقصودها منه الكسب والمنافسة التجارية، فهذه لابد من مقاطعتها، وعدم العمل فيها، أو التعامل معها، ولو في المعاملات الإسلامية.
وتتمثل الأسباب في تشجيع البنوك الربوية التي تتحول إلى إسلامية فيما يلي:-
السبب الأول: كان الناس يسلمون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأغراض شتى، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسألهم: أسلمتم لله أم للدنيا؟ وذلك لأن الإسلام يقود صاحبه إذا اتبعه إلى إحسان العمل وإخلاص النية، فعن جابر - رضي الله عنه- بإسناد صحيح أن وفد ثقيف لما بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترطوا ألا صدقة عليها ولا جهاد، فقبل منهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا".
السبب الثاني: لأن هذا صد عن سبيل الله وعن التوبة من الكبائر. وقاعدة الشرع هي تيسير طريق التوبة بكل ما يمكن، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق"، فمهما صاحب عملية التحول من ثغرات أو نواقص فمصيرها إن شاء الله إلى الزوال.
وتحتاج عملية التحول إلى بنك يقدم خدمات مصرفية وفقاً لأسس الشريعة الإسلامية لعدة خطوات جوهرية، أهمها:-(3/138)
1. التخلص من نسبة الربا الموجودة في رؤوس أموال البنوك الربوية ، وفقاً لقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)) [سورة البقرة: 278-279].
2. تشكيل هيئة للفتوى والرقابة الشرعية تقوم بالإفتاء الشرعي بشأن كل أعمال البنك وعملياته، ويكون لها حق منع أي معاملة تتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية.
3. مواءمة نظام الحاسب الآلي ليعمل وفق الخدمات المصرفية الإسلامية، وتحضير نماذج الحسابات والعقود حسب أسس الشريعة الإسلامية، بناء على اتفاق يبرم بين البنك وعملائه بعد موافقتهم.
4. تدريب الموظفين على أساليب العمل الجديدة، وقد يلجأ البنك إلى تغيير اسمه إلى اسم آخر يعبّر عن هويته الجديدة.
ويستغرق في العادة تحول البنك التقليدي إلى إسلامي مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، نظراً للإجراءات الفنية والقانونية التي لا يمكن للبنك التقليدي أن يتخطاها إلا خلال عدة سنوات، بل إن محاولة التحول السريع والمفاجئ قد يترتب عليه انهيار البنك.
وفي الختام فإن ما يعرف اليوم بتحول البنوك الربوية إلى إسلامية يعتبر نجاحاً للاقتصاد الإسلامي، غير أن من الواجب على المسلمين الحذر من مكر تلك البنوك وخداعها، ويحصل الحذر بالتأكد التام من مشروعية تعاملاتها التي تسميها إسلامية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
============
الفتاوى الذهبية
لفضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
* ما الحكم في أن كثيراً من أصحاب محلات الذهب يتعاملون بشراء الذهب المستعمل ( الكسر ) ثم يذهبون به إلى تاجر الذهب ويستبدلونه بذهب جديد مصنع وزن مقابل وزن تماماً ويأخذون عليه أجرة التصنيع للذهب الجديد ؟ .
- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل بسواء يداً بيد )) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من زاد أو استزاد فقد أربى )) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتي بتمر جيد سأل عنه ، فقالوا : كنا نأخذ الصاع من هذا بصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برد البيع وقال : (( هذا عين الربا )) ثم أرشدهم أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم ثم يشتروا بالدراهم تمراً جيداً .
ومن هذه الأحاديث نأخذ ما ذكره السائل من تبديل ذهب بذهب مع إضافة أجرة التصنيع إلى أحدهما أنه أمر محرم لا يجوز وهو داخل في الربا الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه .
والطريق السليم في هذا أن يباع الذهب الكسر بثمن من غير مواطأة ولا اتفاق ، وبعد أن يقبض صاحبه الثمن فإنه يشتري الشيء الجديد والأفضل أن يبحث عن الشيء الجديد في مكان آخر فإذا لم يجده رجع إلى من باعه عليه واشترى بالدراهم ، وإذا زادها فلا حرج ، المهم أن لا تقع المبادلة بين ذهب وذهب مع دفع الفرق ولو كان ذلك من أجل الصناعة ، هذا إذا كان التاجر تاجر بيع ، أما إذا كان التاجر صائغاً فله أن يقول : خذ هذا الذهب اصنعه لي (على ما يريد من الصناعة) وأعطيك أجرته إذا انتهت الصناعة ، وهذا لا بأس به .
* ما رأي فضيلتكم أن بعض أصحاب محلات الذهب يقومون باستبدال الذهب الجديد لديهم مقابل ذهب مستعمل من الراغب في الشراء منهم ويأخذون عليه أجرة التصنيع ؟ .
- لا يظهر لي فرق بين هذا السؤال والذي قبله ، والحكم فيهما واحد .
* بعض أصحاب محلات الذهب يقومون بشراء الذهب بالأجل معتقدين أن هذا حلال ، وحجتهم أن هذا من عروض التجارة ، ولقد نوقش كبارهم على أن مثل هذا العمل لا يجوز فأجاب بأن أهل العلم ليس لهم معرفة بمثل هذا العمل ؟ .
- بيع الذهب بالدراهم إلى أجل حرام بالإجماع لأنه ربا نسيئة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت حيث قال : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة ..)) الحديث ، قال :(( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )) .
وهكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما قوله ( إن أهل العلم لا يعلمون ذلك ) فهذا اتهام لأهل العلم في غير محله لأن أهل العلم كما وصفهم الرجل أهل علم ، والعلم ضده الجهل ، فلولا أنهم يعلمون ما صحّ أن يسميهم أهل العلم وهم يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله ويعلمون أن مثل هذا العمل عمل محرم لدلالة النص على تحريمه .
* ما الحكم في أن بعض أصحاب محلات الذهب يشترط على البائع للذهب المستعمل أن يشتري منه جديداً ؟ .
- هذا أيضاً لا يجوز ، هذا حيلة لبيع الذهب بالذهب مع التفاضل ، والحيل ممنوعة في الشرع لأنها خداع وتلاعب بأحكام الله .
* هل يلزم أن يكون التوكيل لفظاً بين أصحاب محلات الذهب ؟ أم يكفي بمثل أن يأخذه منه على ما اعتادوا بينهم من أنه سيبيعه بالسعر المعروف ؟ .
- الوكالة عقد من العقود تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل ، فإذا جرت العادة بين أهل الدكاكين أن السلعة التي لا توجد عند أحدهم إذا وقف عنده المشتري فذهب إلى جاره وأخذ منه السلعة على أنه يبيعها له وكان الثمن معلوماً عند هذا الذي أخذها وباعها لصاحبها بالثمن المعلوم بينهما فإن هذا لا بأس به لأن الوكالة كما قال أهل العلم تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل .
* ما الحكم فيما إذا أتى المشتري بضاعة الذهب ثم اشترط أنها إذا لم تصلح فسيردها للمحل للاستبدال أو استرداد قيمتها ، وما هي الطريقة المشروعة في مثل هذه الحالة حيث إن بعضهم قد يكون بعيد المسافة عن المدينة مما يستحيل العودة بنفسه إلى المحل في نفس اليوم أو اليوم التالي ؟
- الأفضل في مثل هذا والأحسن أن يأخذ السلعة الذهبية قبل أن يتم العقد ويذهب بها إلى أهله فإن صلحت رجع إلى صاحب الدكان وباع معه واشترى من جديد ، هذا هو الأفضل . أما إذا اشتراها منه وعقد العقد ثم اشترط الخيار له إن صلحت لأهله وإلا ردها فهذه محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من أجاز ذلك وقال : إن المسلمين على شروطهم ، ومنهم من منع ذلك وقال : إن هذا الشرط يحل حراماً وهو التفرق قبل تمام العقد على وجه لازم ، والأول ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والثاني هو المشهور من المذهب وأن كل عقد يشترط فيه التقابض فإنه لا يصح فيه شرط الخيار وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن تبرأ ذمته ويسلم فليسلك الطريقة الأولى وهو أن يأخذها ويشاور عليها قبل أن يتم العقد .
* ما معنى قولكم ( قبل أن يتم العقد ) ؟ .
- أي يعطيهم دراهم رهناً أو أي سلعة يستوثقون بها على أنها ثمن للذهب الذي اشتراه .
* ما الحكم في أن بعض أصحاب محلات الذهب يشتري ذهباً مستعملاً نظيفاً ثم يعرضه للبيع بسعر الجديد . فهل يجوز مثل هذا أو يلزم تنبيه المشتري بأنه مستعمل أو لا يلزم حيث إن بعض المشترين لا يسأل هل هو جديد أم لا ؟ .
- الواجب عليه النصيحة وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ومن المعلوم لو أن شخصاً باع عليك شيئاً مستعملاً استعمالاً خفيفاً لم يؤثر فيه وباعه عليك على أنه جديد لعددت ذلك غشاً منه وخديعة ، فإذا كنت لا ترضى أن يفعل بك الناس هذا فكيف تسوغ لنفسك أن تفعله بغيرك ، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يفعل مثل هذا الفعل حتى يبين للمشتري ويقول له : إن هذا قد استعمل استعمالاً خفيفاً أو ما أشبه ذلك .(3/139)
* ما الحكم في منْ سلّم ذهبه لمصنع الذهب ليصنعه ، فربما اختلط ذهبه مع ذهب غيره حال صهر الذهب في المصنع ولكن عند استلامه من المصنع يستلمه بنفس الوزن الذي سلمه ؟ .
- يجب على المصنع ألا يخلط أموال الناس بعضها ببعض وأن يميّز كل واحد على حدة إذا كان عيار الذهب يختلف ، أما إذا كان عيار الذهب لا يختلف فلا حرج أن يجمعها لأنه لا يضر .
* وهل يلزم تسديد أجرة التصنيع عند استلام الذهب أو نعتبره حساباً جارياً ؟ .
- لا يلزم أن يسدد لأن هذه أجرة على عمل فإن سلمها حال القبض فذاك وإلا متى سلّمها صح .
* بعض المشترين للذهب يسأل عن سعر الذهب الجديد ثم إذا علم بسعره قام وأخرج ذهباً مستعملاً وباعه وعند استلامه الدراهم يقوم ويشتري بضاعة جديدة فما الحكم ؟ .
- هذا لا بأس به إذا لم يكن هناك اتفاق ومواطأة من قبل ، إلا أن الإمام أحمد رحمه اله يرى أنه في مثل هذه الحالة يذهب ويطلب من جهة أخرى فيشتري منها ، فإن لم يتيسر ذلك رجع الذي باع عليه أولاً واشترى منه حتى يكون ذلك أبعد عن الشبهة ( شبهة الحيلة ) .
* ما حكم من باع ذهباً على صاحب ثم اشترى ذهباً آخر من صاحب المحل بمبلغ مقارب للمبلغ الذي باع عليه به مثلاً ، ثم يسدد له قيمة الذهب الذي اشتراه من قيمة الذهب الذي باعه عليه وهو لم يستلمها ؟.
- هذا لا يجوز لأنه إذا باع شيئاً بثمن لم يقبض واعتاض عن ثمنه ما لا بيعه به نسيئة ، فقد صرح الفقهاء بأن هذا حرام لأنه قد يتخذ حيلة على بيع ما لا يجوز فيه النسيئة بهذه الصيغة بدون قبض وإذا كان من جنسه صار حيلة على ربا الفضل وربا النسيئة .
* ما حكم من اشتري ذهباً وبقي عليه من قيمته وقال : آتي بها إليك متى تيسر ؟.
- لا يجوز هذا العمل وإذا فعل صح العقد فيما قبض عوضه وبطل فيما لم يقبض لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيع الذهب بالفضة : ((بيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )) .
* ما حكم من اشترى ذهباً وتم البيع عليه ثم سدد القيمة وبقي عليه جزء من المبلغ فهل يجوز أن يذهب إلى مكان ليأتي بالباقي بعد قليل ، مثلاً من ( السيارة أو البنك ) ولم يستلم الذهب إلا بعد أن أتى بالباقي ، فهل يصح هذا العمل ؟ أو يلزم إعادة العقد بعد ما أتى بالباقي ؟ .
- الأولى أن يعاد العقد بعد أن يأتي بالباقي وهذا لا يضر ؛ إنْ هو إلا إعادة الصيغة فقط مع مراعاة السعر نقص أو زاد ، وإن تم العقد على السعر الأول فلا بأس وإن ترك العقد حتى يأتي بباقي الثمن كان أولى لأنه لا داعي للعقد قبل إحضار الثمن .
* هناك بعض أصحاب محلات الذهب يذهب إلى تاجر الذهب ويأخذ منه ذهباً جديداً بوزن كيلو مثلاً ويكون هذا الذهب مخلوطاً به فصوص – سواء كانت من الأحجار الكريمة المسماة بالألماس أو الزراكون أو غيرها – ويعطيه المشتري مقابل هذا الكيلو ذهباً صافياً وزناً بوزن ولكنه ليس فيه فصوص ثم إن البائع يأخذ زيادة على ذلك تسمى أجرة التصنيع ، فيكون عند البائع زيادتان أولهما زيادة ذهب مقابل وزن الفصوص ، وثانيهما زيادة أجرة التصنيع لأنه تاجر ذهب وليس مصنع ذهب ، فما حكم هذا العمل ؟.
- هذا العمل محرم لأنه مشتمل على الربا والربا فيه كما ذكر السائل من وجهين . الوجه الأول : زيادة الذهب حيث جعل ما يقابل الفصوص وغيرها ذهباً وهو شيبه بالقلادة التي ذكرت في حديث فضالة بن عبيد حيث اشترى ، قلادة فيها ذهب وخرز باثنى عشر ديناراً ففصلها فوجد فيها أكثر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تباع حتى تفصل .
أما الوجه الثاني : فهو زيادة أجرة التصنيع لأن الصحيح أن زيادة أجرة التصنيع لا تجوز لأن الصناعة وإن كانت من فعل الآدمي لكنها زيادة وصف في الربوي تشبه زيادة الوصف الذي من خلق الله عز وجل ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن يشتري صاع التمر الطيب بصاعين من التمر الرديء )) ، والواجب على المسلم الحذر من الربا والبعد عنه لأنه من أعظم الذنوب .
* ما حكم العمل عند أصحاب محلات الذهب الذين يتعاملون بمعاملات غير مشروعة سواء كانت ربوية أو حيلاً محرمة أو غشاً أو غير ذلك من المعاملات التي لا تشرع ؟.
- العمل عند هؤلاء الذين يتعاملون بالربا أو الغش أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة . محرم لقول الله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة: من الآية2] ، ولقوله تعالى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [ النساء: من الآية140] .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه )) ، والعامل عندهم لم يغير لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه فيكون عاصياً للرسول صلى الله عليه وسلم .
* ما حكم التعامل بالشيكات في بيع الذهب إذا كانت مستحقة السداد وقت البيع ، حيث إن بعض أصحاب الذهب يتعامل بالشيكات خشية على نفسه ودراهمه أن تسرق منه ؟.
- لا يجوز التعامل بالشيكات في بيع الذهب أو الفضة وذلك لأن الشيكات ليست قبضاً وإنما هي وثيقة حوالة فقط بدليل أن هذا الذي أخذ الشيك لو ضاع منه لرجع على الذي أعطاه إياه ولو كان قبضاً لم يرجع عليه ، وبيان ذلك أن الرجل لو اشترى ذهباً بدراهم واستلم البائع الدراهم فضاعت منه لم يرجع على المشتري ولو أنه أخذ من المشتري شيكاً ثم ذهب به ليقبضه من البنك ثم ضاع منه فإنه يرجع على المشتري بالثمن وهذا دليل على أنه الشيك ليس بقبض وإذا لم يكن قبضاً لم يصح البيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببيع الذهب بالفضة أن يكون يداً بيد إلا إذا كان الشيك مصدقاً من قبل البنك واتصل البائع بالبنك وقال : أبق الدراهم عندك وديعة لي ، فهذا قد يرخص فيه .
* ما حكم بيع الذهب الذي يكون فيه رسوم أو صور مثل : فراشة أو رأس ثعبان وما شابه ذلك ؟.
- الحلي من الذهب والفضة المجعول على صورة حيوان حرام بيعه وحرام شراؤه وحرام لبسه ، وحرام اتخاذه وذلك لأن الصور يجب على المسلم أن يطمسها وأن يزيلها . كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة )) ، وعلى هذا فيجب على المسلمين أن يتجنبوا استعمال هذا الحلي وبيعه وشراءه .
* ما حكم حجز الذهب وذلك بدفع بعض قيمته وتأمينه عند التاجر حتى تسدد القيمة كاملة ؟.
- ذلك لا يجوز لأنه إذا باعها فإن مقتضى البيع أن ينتقل ملكها من البائع إلى المشتري بدون قبض الثمن كاملاً ، ثم إن شاء المشتري أبقاها عند البائع وإن شاء أخذها ، نعم لو سامه منه ولم يبع عليه ثم ذهب وجاء بباقي الثمن ثم تم العقد والقبض بعد ذلك فهذا جائز لأن العقد لم يكن إلا بعد إحضار الثمن .
* ما حكم إخراج الذهب قبل استلام ثمنه ، وإذا كان لقريب يخشى من قطيعة رحمه مع علمي التام أنه سيسدد قيمتها ولو بعد حين ؟.(3/140)
- يجب أن تعلم القاعدة العامة بأن بيع الذهب بدراهم لا يجوز أبداً إلا باستلام الثمن كاملاً ، ولا فرق بين القريب والبعيد لأن دين الله لا يحابى فيه أحد ، وإذا غضب عليك قريبك بطاعة الله عز وجل فليغضب فإنه هو الظالم الآثم الذي يريد منك أن تقع في معصية الله عز وجل وأنت في الحقيقة قد بررت حين منعته أن يتعامل معك المعاملة المحرمة ، فإذا غضب أو قاطعك لهذا السبب فهو الآثم وليس عليك من إثمه شيء .
* ما حكم أخذ التاجر ذهباً مقابل ذهب يريد المشتري أن يشاور عليه ، وهذا الذهب الذي أخذه التاجر رهناً إلى أن يرد المشتري ما أخذ منه ، مع العلم أنه لابد من اختلاف في الوزن بين ما أخذه وما رهنه ؟.
- هذا لا بأس به ما دام أنه لم يبعه إياه وإنما قال : خذ هذا الذهب رهناً عندك حتى أذهب وأشاور ثم أعود إليك ونتبايع من جديد ، ثم إذا تبايعا سلمه الثمن كاملاً وأخذ ذهبه الذي جعله رهناً عنده .
* رجل اشترى قطعة ذهبية بمبلغ مائتي دينار واحتفظ بها مدة من الزمن إلي أن زادت قيمة الذهب أضعافاً فباعها بثلاثة آلاف دينار فما حكم هذه الزيادة ؟.
- هذه الزيادة لا بأس بها ولا حرج ، وما زال المسلمون هكذا في بيعهم وشرائهم يشترون السلع وينتظرون زيادة القيمة وربما يشترونها لأنفسهم للاستعمال ثم إذا ارتفعت القيمة كثيراً ورأوا الفرصة في بيعها باعوها مع أنهم لم يكن عندهم نية في بيعها من قبل ، والمهم أن الزيادة متى كانت تبعاً للسوق فإنه لا حرج فيها ولو زادت أضعافاً مضاعفة .
لكن لو كانت الزيادة في ذهب بادل به في ذهب آخر وأخذ زيادة في الذهب الآخر فهذا حرام ، لأن بيع الذهب بالذهب لا يجوز إلا وزناً بوزن ويداً بيد كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا بعت ذهباً بذهب ولو اختلفا في الطيب - يعني أحدهما أطيب من الآخر - فإنه لا يجوز إلا مثلاً سواء بسواء يداً بيد ، فلو أخذت من الذهب عيار ( 18 ) مثقالين بمثقال ونصف من الذهب عيار (24) فإن هذا حرام ولا يجوز لأنه لابد من التساوي ، ولو أخذت مثقالين بمثقالين من الذهب ولكن تأخر القبض في أحدهما فإنه لا يجوز أيضاً لأنه لابد من القبض في مجلس العقد ، ومثل ذلك أيضاً بيع الذهب بالأوراق النقدية المعروفة فإنه إذا اشترى الإنسان ذهباً من التاجر أو من الصائغ لا يجوز له أن يفارقه حتى يسلمه القيمة كاملة إذ أن هذه الأوراق النقدية بمنزلة الفضة وبيع الذهب بالفضة يجب فيه التقابض قبل التفرق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )) .
المصدر مجلة الأسرة
===============
تدبروا القرآن يا عباد الله
هيثم بن جواد الحداد
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبصرة لأولي الألباب، وأودعه من فنون العلوم والحكم العجب العجاب.
وجعله أجل الكتب قدرا، وأغزَرها علما وأعذَبها نظما وأبلغَها في الخطاب، قرآنا عربيا غير ذي عوج ولا مخلوق ولا شبهة فيه ولا ارتياب،
وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، رب الأرباب، الذي عنت لقيوميته الوجوه وخضعت لعظمته الرقاب،
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المبعوث من أكرم الشعوب وأشرف الشعاب، إلى خير أمه بأفضل كتاب،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم المآب،
أما بعد،
فإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده إنزال هذا الكتاب الكريم، كتاب الهداية، والراحة، كتاب الطمأنينة، والسعادة، كتاب النصر والتوفيق، كتاب التسلية والترويح، كلام ربي كلام ربي، خرج من الله، وإليه يعود
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
وشهر رمضان يا عباد الله هو شهر القرآن، بل هو شهر الكتب السماوية كلها، ففضل هذا الشهر بإنزال كلام الله فيه
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )
(إنا أنزلناه في ليلة القدر )
ولذلك فقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل ليلة من ليالي رمضان كما ثبت ذلك في الصحيح.
ولهذا كان السلف الصالح إذا جاء رمضان تركوا الاشتغال بغير القرآن، وأقبلوا على القرآن، قراءة، وتدبرا وعملا، لما لقراءته في هذا الشهر الكريم من المزية العظيمة، والأجر المضاعف.
في سنن الترمذي عن مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَال سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ ).
في سنن الدارمي والإمام أحمد واللفظ للدارمي عن سَعِيدِ بْنَ الْمُسَيَّبِ أِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ عِشْرِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا ثَلَاثَةُ قُصُورٍ فِي الْجَنَّة)ِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ (إِذَنْ لَتَكْثُرَنَّ قُصُورُنَا) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ )
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنيك الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
عباد الله، أيها المؤمنون
هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلفه تنزيل من عزيز حميد، هذا الكتاب لا ينفع قارئه إلا إذا كان يعمل به، ولا يمكن أن يعمل به إلا إذا تدبره، ولا يمكن أن يتدبره إلا إذا فهم معانيه، وهذا هو الذي نريد أن نقف عنده في هذه الخطبة
قال الله جل وعلا (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
قال ابن جرير الطبري (ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع الله فيه من الشرائع، فيتعظوا ويعملوا به)
ولهذا فإن التدبر لا يحدث إلا إذا تمت للقارئ أربعة مراحل:
الأولى: معرفة معاني الألفاظ، وما يراد بها
الثانية: تأمل ما تدل عليه الآيات، مما يفهم من السياق أو من تركيب الجمل
الثالثة: اعتبار العقل بحججه، وتحرك القلب بزواجره، وبشائره،
الرابعة: اليقين بأخباره، والخضوع لأوامره.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا )(3/141)
قال الآجري في آداب حملة القرآن: فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة، يرى بها ما حسن من فعله وما قبح فيه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرن شاهدا وشفيعا وأنيسًا وحرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة)
(لو أنزلنا هذا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون)َ
قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله
وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه
فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح وقد ثبت عن النبي انه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .... ثم قال واسمع لما قال: فقراءة القرآن بالتفكر هي اصل صلاح القلب.
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بنورك هاديا
روى آبو أيوب عن آبى جمرة قال قلت لابن عباس أنى سريع القراءة إني أقرا القرآن في ثلاث قال لان اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها احب إلي من أن اقرأ القرآن كما تقرأ.
كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله صلى العشاء الآخرة فقرأ بهم الإمام (إذا زلزلت الأرض زلزالها) فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يفكر ويتنفس فقلت أقول لا يشتغل قلبه بي فلما خرجت تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيت قليل فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد أخذ بلحية نفسه وهو يقول يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرا ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا أجر النعمان عبدك من النار وما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك قال فأذنت فإذا القنديل يزهر وهو قائم فلما دخلت قال تريد أن تأخذ القنديل قال قلت قد أذنت لصلاة الغداة قال اكتم على ما رأيت وركع ركعتي الفجر وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل
ذم من لم يتدبر القرآن
يا عباد الله يا أمة القرآن: لقد ذم الله الذين لا يتدبرون كلامه ومثلهم بأقبح الأمثلة وأبشعها ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) قال الطرطوشي رحمه الله (فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه، ولا يعمل به)
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد جعل من أوصاف الخوارج تلك الفرقة المارقة، أنه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن، وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده، قال ابن حجر قال النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره، بوقوعه في القلب)
وهنا سؤال قد يطرحه بعض الأخوة: وهو أنه قد رتب الله الأجر عند قراءة القرآن، بكل حرف حسنة، وهذا يعني أنه كلما ازداد الحروف التي يقرأها الإنسان ازدادت الحسنات، الأمر الذي يدل على أن المطلوب لحصول الأجر الكثير هو الإكثار من القراءة، قالوا ويدل على ذلك ما ورد عن السلف الصالح رحمهم الله في ذلك، فالشافعي مثلا اشتهر عنه أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وكذلك ورد عن أبي حنيفة، بل ورد عن غيرهم من السلف نحو ذلك
فالجواب والله أعلم
أولا: لا نسلم بأنّ هذا الأجر العظيم يحصل لقارئ القرآن بمجرد القراءة، ولو كان قلبه غافل لاه، بل على الأقل لا بد من أصل حضور القلب في القراءة، ومعرفة المعنى على وجه الإجمال، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ دَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ , وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ وَإِنْ قَرَأَهُ دَائِمًا, وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } فَمُجَرَّدُ التِّلَاوَة وَالْحِفْظ لَا يُعْتَبَرُ اِعْتِبَارًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَرَاتِب الْعَلِيَّة فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَة).
ثانيا: قال بعض العلماء في بيان هذه المسألة (إن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كم تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون العكس)
وأما الجواب عن ختم السلف هذه الختمات الكثيرة، فيتضح بكلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (وأما الأفضل في حق الشخص فهو بحسب حاجته ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج، إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة، التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر، وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه، وأما من تعبد بتلاوة الفقه، فتبعده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج إلى تدبره)
فالشافعي أيها الأخوة، وكذلك غيره من السلف فهموا كتاب الله فهما عميقا، وتدبروه غاية التدبر، فكان شهر رمضان في حقهم فرصة لتكثير الحسنات، فإذا وصلنا إلى درجتهم في العلم والتدبر والفهم، حق لنا عندئذ أن نفعل ما يشبه فعلهم، مع أن هدي الرسول أكمل وأعلم وأحكم.
أيها المؤمنون: وبسبب خطأ كثير من الناس في فهم المقصود من قراءة القرآن، ولهذا فإننا نجد البون الشاسع بين حال المسلمين وبين ما يقرؤونه في كتاب ربهم، الأمر الذي يدل على أنهم لم ينتفعوا بما يقرؤون
أين من صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله وهو يقرأ صباح مساء في اليوم والليلة سبعة عشرة مرة، قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)، ولم يقل نعبد ونستعين بك، بل قدم المفعول، أي نعبدك ولا نعبد سواك، ونستعين بك، ولا نستعين بمن سواك، فأين الذين يستعينون بغير الله ويعتمدون على غيره، ويتوجهون إلى غير الله من هذه الآية.
أين الذين يذهبون إلى الغرب والشرق طالبين عونهم من دون الله، ونسو أن يمدوا أيديهم بطلب العون من الله، وأن تتوجه قلوبهم لطلب العون من الله، أين هم من قول الله جل وعلا (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)(3/142)
أين الذين يؤخرون الصلاة، أين الذين يستهزؤون بآيات الله، أين الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي، أين هم مما يقرؤونه من عذاب الله الذي أعد الله لمن خالف أمره، أين هم وهم يقرؤون قول الله جل وعلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) الجاثية 45
فلا إله إلا الله ما أحلم الله، ولا إله إلا الله ما أعظم عفوه، ولا إله إلا الله ما أوسع فضله
أين الذين يأكلون الربا، أين الذين يشرون المساكن بالربا من قول الله جل وعلا (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) {275
أين أصحاب الأخلاق السيئة، والطبائع الذميمة، من قول الله جل وعلا (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ) {53} الإسراء
أين المتكبرين على إخوانهم المسلمين، أينهم وهم يقرؤون قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) {54}
هل يقرؤون وهم غافلون، هل يقرؤون وهم ساهون، قال الله جل وعلا (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) قال محمد بن كعب القرظي (من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله)
فلا حول ولا قوة إلا بالله يا عباد الله، يكلم الله يقول لك، كف عن الربا، ولا تكف، يكلمك الله فيقول لك، امتنع عن شرب الخمر، فلا تفعل، يأمرك الله بإحسان أخلاقك واللين مع المسلمين، فتتمرد.
أقول قولي هذا ..........
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى:
أيها المؤمنون:
هناك أمور تعين على تدبر القرآن
أولها: تعلم اللغة العربية، وهنا نحن نقول تعلمها للعرب، وتعلمها لغير العرب، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فمن لا يفهم العربية، فإنه غير قادر على تفهم الكلام العربي
إلا أننا نزف بشرى هنا للأخوة الذين لا يتحدثون العربية بأنهم إذا قرؤوا الترجمات للقرآن الكريم، وتفكروا فيها، وتدبروا تلك المعاني، ثم عملوا بمقتضاها، مع محاولتهم لتعلم العربية، فإنه يرجى لهم الأجر العظيم، حيث حصل لهم جزء كبير من التدبر والعمل.
الثاني: أن لا يكون هدف الإنسان وهمه هم الإنسان هو تكثير الصفحات التي يقرأها، أو زيادة الختمات التي يختمها، بقدر ما يكون له هم في تدبر ما يقرأ ويفهم كما تقدم لدينا آنفا، وقد ذكرنا كيف يكون الآجر، لمكثر القراءة بدون تدبر، ولمقلها مع التدبر والفهم، قال ابن مسعود لا تهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الدقل {أَيْ يَرْمُونَ بِكَلِمَاتِهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَتَأَمُّلٍ كَمَا يُرْمَى الدَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَإِنَّهُ لِرَدَاءَتِهِ لَا يُحْفَظُ وَيُلْقَى مَنْثُورًا} وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
ألفاظه كعقود الدر ساطعة وآيه لظلام الجهل أقمار
رقت معانيه إذ دقت لطائفه فأمعنت فيه ألباب وأفكار
كفى به لأولي الألباب تبصرة أن أنصفوا وبحكم العقل ما جاروا
به هدى الله أقواما وأيدهم فأصبحوا وعلى المنهاج قد ساروا
الثالث: أن يقرأ القرآن بحضور قلب، فكثير من الناس يقرأ القرآن وهو غافل لاه، يقرأ بلسانه، وعقله وفكره وقلبه في واد آخر، وهذا لا ينتفع من القرآن البتة، لكن يثاب على نيته قصد القراءة والتقرب إلى الله جل وعلا.
عباد الله: إن المرء ليحزن حينما يرى أن كثيرا مما يقرؤون القرآن يقرؤونه على هذه الصفة، ومما يدل على ذلك أنك لو استمعت لبعض من يقرأ القرآن، لوجدته يخطئ في القرآن أخطاء تحيل المعنى بل ربما تقلبه، وهم مستمرون في القراءة دون انتباه.
وأذكر أني جئت للصلاة في أحد المساجد، وكان هناك رجل يقرأ القرآن، فقرأ في سورة آل عمران قول الله جل وعلا (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) آل عمران
الرابع: أن يتعلم تفسير القرآن ولو باختصار شديد، فعلى قارئ القرآن أن يقرأ بعض الآيات، ثم يذهب إلى تفسير القرآن فيتعلم تفسيرها، ولو أن قارئ القرآن اصطحب معه نسخة من القرآن التي بهامشها تفسير للقرآن الكريم لكان ذلك نافعا جدا
الخامس: أن يحاول تذكر آيات القرآن الكريم في دقائق يومه، وأن يربط بين تلك الآيات والتوجيهات القرآنية لما يواجهه، فمثلا حينما ينزغه الشيطان لمعصية، فليتذكر قول الله جل وعلا ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) الأعراف
وإذا أراد القيام بعمل ما فليحاول جهده أن يتذكر الآيات القرآنية الواردة بخصوص هذا العمل، فالمصلي منا لو تذكر عند صلاته قول الله جل وعلا (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون)
وكذا لو تذكر قول الله جل وعلا (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) العنكبوت آية 45
وإذا أصابته مصيبة صبر واحتسب، وتذكر قول الله جل وعلا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة
وهكذا، يعيش الإنسان بالقرآن، ويحيا بالقرآن، ويموت على القرآن، وعندئذ، وعندئذ يكون من أهل القرآن وخاصته، وكما ورد في المسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه، والدارمي، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِِينَ مِنْ النَّاسِ، فَقِيلَ مَنْ أَهْلُ اللَّهِ مِنْهُمْ: قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ .
ولن تنتصر الأمة حتى تكون أمة قرآنية، تعكف على كتاب الله قراءة وتدبرا، وعملا(3/143)
اللهم إنا عبيدك بنو عبادك ابناء إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته أناء الليل وأطراف النار على الوجه الذي يرضيك عنا.
=============
تأملا ت في سورة النساء ج1
الشيخ صالح بن عواد المغامس
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنين : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه سننتقل إلى سورة النساء بعد أن أنهينا مواقف ثلاث مع سورة آل عمران والمناسب في الانتقال واختيار آيات اليوم قبل أن نشرع في بيان أحكام عامة من سورة النساء أن نبين أننا تحدثنا فيما مضى في سورة آل عمران عن بعض من جرائم اليهود وتكلمنا عن مسجد الصخرة وما إلى ذلك , واليوم ننتقل إلى إتمام الحديث لكن من سورة أخرى هي سورة النساء .
وننتقي بعضها للعلم ببعض من عقائد النصارى بعد أن بينا شيء من عقائد اليهود ثم نُعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات .
فنقول مستعين بالله عز وجل .
مقدمة عن السورة وسبب تسميتها :
سورة النساء سوره مدنية ، جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن . ذكر الله فيها جل وعلا جملة من العقائد وجملة من الآداب وجملة من الأحكام . ولأن السورة من أكثر سور القران حديثاً عن أحكام النساء ، نُعتت بسورة النساء . وقد سبق أن بينا أن تسميت سور القران الراجح أنه توقيفي ، فعله الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم . وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق .
فإذا قيل عن سورة النساء إنها سورة النساء الكبرى فإن المقصود بسورة النساء الصغرى هي سورة الطلاق لأن كلا السورتين تحدثتا كثيراً عن أحكام النساء وما يتعلق بهن .
أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلاً فهي :
قول الله جل وعلا : (( يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) إلى قول الله عز وجل :
(( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً )) سورة النساء 153ـ162 .
فقد سبق أن بينا شيئا من جرائم اليهود في سورة آل عمران , وفي هذا السياق يُخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالاً , لا يختص هذا السياق بمرحلة دون عينها , فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالاً، لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة , فمنذ موسى عليه الصلاة السلام أنزلت عليه التوراة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قرابة أكثر من ألف عام , خلال الألف عام هذه كان اليهود يعيشون بُعث إليهم مابين موسى وعيسى عليهم السلام أنبياء ، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل . ولم يبعث أحد بعد عيسى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
عبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخُبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
(( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً{153} )) سورة النساء .
فالله يقول لنبيه هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن اليهود يطلبون منك كتاباً ينزل جملة قالوا أن موسى عليه السلام جاءته التوراة جملة واحدة ، فنحن يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتاباً جملة واحدة كما أُنزلت التوراة على موسى جملة , فرد الله جل وعلا عليهم لنبيه أن يقول لهم : (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ )) من باب التعزية , (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ )) . فلا تعجب يا نبينا ولا تستغرب من هذا الطلب ، لأنهم قد طلبوا طلباً أكبر منه، وهو طلبهم من موسى عليه السلام يوم قالوا له (( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )) . وهذا وقد قلنا أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ذكره الله مفصلاً في سورة البقرة قال الله جل وعلا : (( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ{55} ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{56} )) . فهذا أول وأعظم طلبهم ، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا مالا يخفى .
(( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ )) . لما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعد ما أماتهم كما قال جل وعلا في سورة البقرة : (( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) وهذا صريح بأن الله أماتهم ثم أحياهم .
وقد قال بعض العلماء من المفسرين : أن إماتتهم وإحيائهم كان في يوم وليلة .
(( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) . " اتخذ " هذه الكلمة تنصب مفعولين ، ذكر الله واحداً منهما ولم يذكر الآخر لدلالة المعنى عليه بمعنى (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) يظهر من السياق واضح أنهم اتخذوا العجل إلهً , فإلهاً هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله ولأن هذا سبب نقمة الله عليهم وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها ، أو دابة ينحرونها ليأكلوها ، أو لأعلافهم أو لأي شيء آخر لكان هذا أمر مشروع ، لكن القرآن يفسر بعضه بعضاً(3/144)
والعجل اتخذوه في الفترة التي ذهب فيها موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه وجعل عليهم أخاه هارون ففي تلك الفترة لما أبطأ عليهم موسى لأن الله وعد ه ثلاثين ليلة ثم جعلها الله أربعين ليلة , فلما جعلها الله أربعين أبطأ موسى عليهم ، فلما أبطأ عليهم ملوا فصنع لهم السامري عجلاً من ذهب وجعل له طريقين يدخل منهما الهواء ، فأخذ الهواء والريح إذا دخلت من القبل وخرجت من الدبر أحدثت صوتاً فخدعهم بقوله : (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ))( طه : 88 ) كما أخبر الله .
هذه من جملة ما نقم الله عليهم .
الأول : أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يروا الله جهرة (( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً )) .
الثاني : أنهم اتخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البينات (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) .
ثم قال سبحانه : (( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{154} )) سورة النساء .
فهذه ثلاث وقعوا فيها .
أما رفع الطور، فالطور يطلق على الجبل الذي به نبت ، فإن لم يكن عليه نبات يسمى جبلاً فقط ولا يطلق عليه طور .
وهل هو الطور الذي كلم الله عنده موسى عليه الصلاة و السلام أو أي جبل أخر ؟
الجواب :
كلا الأمرين محتمل .
لما أعطاهم الله التوراة رفضوا أن يقبلوها ، فرفع الله عليهم الجبل تهديداً بأن يلقيه عليهم فقبلوا . قال الله تعالى في سورة الأعراف : (( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ )) (171) . فهذا من جملة ما اعترضوا عليه وهي النقيصة الثالثة .
ثم أمرهم الله أن يدخلوا باب المدينة سجداً معترفين لله بالفضل وطلب المغفرة , فدخلوا يزحفون على مقاعدهم كما أخبر الله جل وعلا وهذه النقيصة الرابعة .
والنقيصة الخامسة : أن الله جل وعلا قال : (( وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ )) . السبت المقصود به يوم السبت . وهذه قصة القرية التي كانت على الشاطئ . عبر الله عنها بقوله : (( حَاضِرَةَ الْبَحْرِ )) . وهذه ذكرها الله في سورة الأعراف . وأنه كانت هناك قرية من بني إسرائيل حاضرة البحر أمرهم الله أن لا يصطادوا يوم السبت فكانت الحيتان تأتيهم شُرعاً ظاهره تدعوهم فتنة لهم يوم السبت ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا يلقون أشرعتهم يوم الجمعة ويأتون يوم الأحد ليجمعون فيحتالون على الله جل وعلا و بئسما فعلوا.
وهذا كله حدث في فترات زمنية متفاوتة ، وفي أماكن متفرقة ، وعبر تاريخ طويل لكن المقصود من هذا كله ، سياق بعض من جرائم اليهود بياناً وشفاءً لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه بعدها : (( وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً )) .
ثم قال سبحانه : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً{155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً{156} )) .
الآن السياق القرآني يأتي يبين هذه المعاصي ما الذي نجم عنها . يذكر القرآن المعصية إجمالاً ثم يأتي بها تفصيلا .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ ))
عدنا للباء السببية , أي بسبب نقضهم للميثاق , ما أخذه الله عليهم عن طريق أنبيائه ورسله من مواثيق وعهود نقضوها وهذا دأبهم في كل آن وحين .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ )) .
وهذا يسميه البلاغيون مجاز مرسل , ومعلوم أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء كلهم ، لكنهم لما استباحوا دم واحدٍ منهم كأنهم استباحوا دم الجميع . وأي إنسان يستبيح دم شخص واحد فإنه يستبيح الدماء التي توازيه . فالله عبر عن قتلهم لنبي بقتل الأنبياء جميعاً , هم قتلوا يحي وقتلوا زكريا عليهم السلام فهنا عبر الله عنه بقتل الأنبياء جميعاً لأن الأنبياء جميعاً يجمعهم دين واحد .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) .
هنا (( وَقَوْلِهِمْ )) لمن ؟ لنبينا . (( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) و الغلف جمع أغلف ، وهو الشيء المطبوع المختوم الذي فيه حجاب يحول بينه وبين وصول المعرفة إليه .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) .
هذه الأخيرة (( فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) لها وجهان في التفسير :
الوجه الأول : أنه أسلوب تستخدمه العرب في كلامها بمعنى عديم الأيمان .
الوجه الثاني : أنهم لم يؤمنوا ألا بقليل من أنبيائهم . فلما لم يؤمنوا بالكل كأنهم لم يؤمنوا , لأن الشرع يوجب الإيمان بالأنبياء جميعاً بلا استثناء ، ولعل هذا أظهر .
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
كرر الله الكفر ثم ذكر شيء من جرائمهم وسننتقل بعدها للنصارى .
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
القول الذي قالوه في مريم هو إنها زانية ، وبرأها الله جلا وعلا كما هو معلوم في كتابه .
(( وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
البهتان هو الكذب والإفك والقول بلا حق ولا علم ولا بينة كله يمكن تسميته بالبهتان . أما مريم فهي سيدة نساء العالمين ولم يذكر الله جلا وعلا في القرآن اسم امرأة باسمها الصريح إلا هي عليها الصلاة والسلام ، رغم أنها ليست بنبيه لأن الله جل وعلا قال في سورة يوسف : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم )) فلا يوجد نبي امرأة , ما بعث الله امرأة قط ، لكنها الوحيدة من النساء عبر التاريخ كله التي ذكرت باسمها الصريح في القرآن وهي سيده نساء العالمين كما جاء ذلك في صحيح السنة مريم البتول العذراء اسمها مريم بمعنى عابدة أو خادمة الرب . و قصتها أشهر من أن تعرف (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً )) (مريم : 16 )) . شرقي بيت المقدس . جاءها روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام و نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى , وبعد أن وضعته أتت به قومها فكذبوه واختلفوا فيه ، منهم من صدقها ومنهم من كذبها وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام .
فالله هنا يقول من جرائم اليهود رميهم لمريم المبرئة بالزنا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتناً عظيماً .
(( وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء : 157-158 )) .
هذا يقودنا للحديث عن النصارى، كما تحدثنا عن اليهود والتفصيل كالتالي :(3/145)
ولد عيسى ابن مريم فحملته أمه ، وأتت به للملأ من بني إسرائيل فأنكروه , وقالوا يا مريم لقد جئتِ شيئاً فرياً فأشارت إليه فأنطقه الله في المهد : (( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً )) سورة مريم (30) . وما اختلف الناس في رجل كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . أخذ يدعو إلى ربه ، فأسلم على يديه أقوام سُموا في القرآن بالحواريين وهم خاصة أصحابه عليه الصلاة و السلام , ثم لما ظَهُر أمره خاف خصومه وأعدائه من اليهود
فتآمروا على قتله فبعضهم يعرفه بعينه وبعضهم يعرفه باسمه , فلما أجمعوا أمرهم على قتله ، أخذوا معهم شخصاً يدلهم على مكانه ، فلما دخلوا عليه ليقتلوه رفعه الله جل وعلا إليه ، وألقى شَبَهَهُ على غيره .
مع اختلاف بين العلماء فيمن أُلقي عليه الشبه ، فقيل أنه عبد من الحواريين صالح ألقى الله عليه الشبه غير عيسى . وقيل أن الرجل الذي دلهم عليه وهو يهوذا عند بعض المفسرين هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى فقتله اليهود ظناً منهم أنه عيسى عليه الصلاة والسلام .
و جملة الأمر أن الله جلا وعلا شَبَّهَ لهم شخصاً غير عيسى ورُفِع عيسى إلى السماء ، كما قال ربنا في صريح القران : (( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ )) . وهذا الذي شبه بهِ اختلفوا فيه . فلما أخذوه قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وان كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟
فأخذوه وصلبوه وقتلوه اعتقاداً منهم أنهم ينتقمون منه . وكان هذا في بيت المقدس في المكان المسمى اليوم بكنيسة القيامة وتعظمه النصارى وسيأتي لماذا تعظمها النصارى .
رفع الله عيسى إلى السماء , فالله جل وعلا يقول إن اليهود تزعم أنها قتلت عيسى ، فالله أنكر ورد على اليهود قولهم أن عيسى قتل أو صلب، بل أنه سبحانه رفعه إليه فهو حيٌ جسداً وروحاً في السماء الثانية كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج . وسينزل كأمارة وعلامة من علامات الساعة .
معتقدات النصارى في عيسى :
نرجع للنصارى وعيسى . فبعد رفعه النصارى صدقوا اليهود في أن عيسى صلب وقتل , وقالوا إن الله جل وعلا ـ وعلى هذا تقوم عقيدة النصارى ـ يقولون إن الله عدل ومن عدله ألا يترك الخطيئة بلا عقوبة . فيقولون أن آدم أكل من الشجرة فارتكب الخطيئة فلما أكل من الشجرة وارتكب الخطيئة واهبطه الله ، كل ذريته ترث خطيئته . وقالوا لابد أن تُكفر الخطايا عن الذرية . ولما كان الله من صفاته مع العدل الرحمة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، بعث ولده الذي هو عيسى . وأنزله إلى الأرض وأحله في الناسوت بدل اللاهوت ، يعني أنسي . وصلب هذا وقتل حتى يكفر عن البشر كلهم خطيئة أبيهم آدم . فمن آمن أن عيسى ضحى من أجل البشر أصبح مؤمناً ينجوا يوم القيامة ، ومن لم يؤمن أن عيسى ضحى من أجل البشر لا يعتبر مؤمن .
كيف يُؤمِنون الناس ؟ عندهم ما يسمى بالتعميد . وصفته أن يأتوا بالطفل على خلاف في المذاهب عندهم ، لكن قد يأتوا بطفل شباب لكن غالب المذاهب عندهم يأتون بالطفل الصغير . إما أن يضعونه في مكان فيه ماء كحوض أو يرشون عليه الماء . ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس . فإذا قالوا هذه الثلاثة يعتقدون أن هذا الابن عُمِّد وإذا عُمِّد طهُر من الذنوب والخطايا فأصبح قابلاً للنجاة يوم القيامة . وهم عندهم جنة ونار وعندهم حساب ، لكن بناء على هذا الاعتقاد . ثم يختلفون هؤلاء النصارى على ثلاث طوائف رئيسية وهي الأرثوذكس وهؤلاء انفصلوا في عام 1054م عن الكاثوليك ، والكاثوليك هي الكنيسة الأم والبروتستانت هي الكنيسة الثالثة .
فأصبحت ثلاث كنائس رئيسيه . نفصل فيهم على النحو التالي :
1ـ الكاثوليك:
وهي الكنيسة التي في روما اليوم ، والتي تتبع البابا يوحنا بولس الثالث وجل كنائس العالم في النصارى تابعة للكاثوليك .
2- الأرثوذكس :
وهؤلاء أقل منهم ومعناها مستقيم المعتقد حسب ظنهم . و هذه خرجت عن الكنيسة الأم ويتبعها بعض الكنائس؛ كالتي في مصر تتبع البابا شنوده الثالث ، و هذا تابع لهذه الكنيسة .
3-حركة إصلاحية :
وقد خرجت من الكاثوليك في القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً على يدي مارتي لورثر و اسمها الكنيسة البروتستانت ، وهذه تؤمن بأن لليهود منّة على النصارى وهذه الكنيسة الثالثة هي التي يدين بها الرئيس الأمريكي المعاصر ورئيس الوزراء البريطاني المعاصر تورن بلير الذي يجمع بينهما ارتباطهماً حالياً بهذه الكنيسة . أما الكنيسة التي في روما فهي منفكة عنهم ولا علاقة لها بهم .
إذن ينجم عن هذا أن النصارى غالباً هم ثلاث فرق ، ويوجد فرق شتى غير هذه لكن هذه الفرق الثلاثة هي الأم يجتمعون في أمور ويختلفون في أمور أقل منها لكن جميعهم يتفقون على أن الأقانيم ثلاثة وهم الأب والابن وروح القدس تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا , وقد رد الله على الجميع في كتابه وسيأتي في الدرس القادم كيف رد الله جل وعلا عليهم اليوم فقط العرض .
أصل الصليب :
نأتي لقضية الصليب الأصل أن عيسى بعث لبني إسرائيل مثل موسى عليهما السلام . وقد قلنا في التأملات في سورة آل عمران أن بني إسرائيل يعودون إلى إسرائيل الذي هو يعقوب ؛ وقلنا أن يعقوب له أخ اسمه العيس وقلنا إن من ذرية العيس الروم . وأن هذا العيس كان فيه صُفرة ولذلك يسمون ببنوا الأصفر . فأبو سفيان لما رأى هرقل يخشى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد أصبح ملك محمد عظيماً فقد خافه بنوا الأصفر " .
فأصبح الروم الأصل ليس لهم علاقة بعيسى عليه الصلاة والسلام , إذن الآن الدين النصراني في بني إسرائيل أكثر أم في الروم ؟ في الروم في أوربا أكثر وكذلك في أمريكا فالنصرانية أكثر من اليهود . وهذا جاء بعد ثلاث قرون من رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حدثت حروب مابين الرومان وأشياعهم؛ فآمن ثلة من الرومان بعيسى عليه الصلاة السلام أي بالنصارى بما بقي من دين عيسى عليه الصلاة والسلام من المؤمنين الذين معه . وكانت اليهود كما قلنا تزعم أنها قتلته ويأتون للموطن والذي قلت لكم أن اسمه الآن كنيسة يوم القيامة فيأتون لهذا الموطن الذي قتلوا فيه عيسى عليه الصلاة والسلام فيرمون فيه القاذورات والقمامة حتى تجمعت . فجاء قسطنطين الثالث فآمن بدين عيسى عليه الصلاة السلام مع التحريف . فجاءت أمه واسمها هيلانه بعد أن جاء رجل يبحث في تلك القمامات حتى وصل إلى الصليب أي وصل إلى الخشبة التي صلب فيها من يعتقد اليهود أنه عيسى . فالصلب وقع لكنه ما وقع على عيسى . ولكن اليهود صلبوا رجلاً وقتلوه على هذه الخشبة . و لما أخذوا يفتشون هذا الرجل وجد تلك الخشبة وعليها حركة الصليب المعروفة الآن . وحصل هذا بعد عيسى بثلاث قرون .
ولما أخذ هذا الرجل هذا الصليب زعم أنه كان مريض فلما تمسح بها برئ . فلما علم الناس بذلك أخذوا يصنعون الصليب ويتبركون به ويعتقدون به إلى يومنا هذا . وهذا أصل فكرة خروج الصليب للناس .
ولما علمت تلك المرأة ــ هيلانه ــ بهذا أمرت بمحو القاذورات وما كان موضوعاً , وبنت عليها كنيسة أسمتها كنيسة القيامة .
ومعنى كنيسة القيامة هو : أنهم يعتقدون جهلاً أن عيسى بما أنه مات فإنه سيبعث من هذه الكنيسة . وهي موجودة في بيت المقدس . وإن لم أنسَ السادات ـ رئيس مصر المتوفى ـ لما زار إسرائيل ، تكلم أو ألقى خطاب في هذه الكنيسة المقصود سواءً ألقاها أو لم يلقيها أن هذه الكنيسة قائمة وتعظم إلى اليوم .(3/146)
وهذا سبب تسميتها بكنيسة القيامة وأحيانا تسمى بكنيسة القمامة بالنسبةً لما كان عليها .
هذه المرأة لما أمرت بإزالة هذه النفايات وضعوها على الصخرة التي تعظمها اليهود . وكان يصلي إليها موسى عليه الصلاة السلام وقلنا في الدرس الماضي أن هذه الصخرة من الذين محو القاذورات عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكنه صلى أمامها وجعلها خلفه. فأصبح بيت المقدس يضم الكنيسة التي يعظمها النصارى؛ ويضم الصخرة التي تعظمها اليهود ويضم المسجد الأقصى الذي يعظمه المسلمون .
و هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن عقيدة النصارى والتي ذكرنا أنها قائمة على سر التعميد والإيمان بأن الله كفر عن البشر خطاياهم ببعث ابنه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
والآن نعود للآية الله جل وعلا يقول : (( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
(( عَزِيزاً )) أن يقتل نبي من أنبيائه وهو جل وعلا غير مريد .
(( حَكِيماً )) بسبب رفعه لعيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء الثانية . والمحفوظ عندنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ظاهر القرآن أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان واضع يديه على أجنحتي ملك يخرج منه مثل بقايا الوضوء ؛ ويقتل الدجال بحربة تكون معه قال الله عز وجل : (( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )) (الزخرف : 61 ) .
قال الله جل وعلا بعدها :
(( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً{159} )) سورة النساء .
هذه الآية إحدى معضلات القرآن لأن تفسيرها غير واضح .
هذه الآية تحتمل عدة تفاسير لكن نكون معكم صريحين هذا درس علمي إلى الآن لم أقف على تفسير مقنع .
لكن نقول جملة ما قاله أهل العلم :
الله جل وعلا يقول : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) . المعنى لا أحد من أهل الكتاب , (( إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )) الآن يوجد ضميرين الهاء في (( بِهِ )) والهاء في (( مَوْتِهِ )) على من تعود ؟ هذا موضع الإشكال .
تحتمل الآية أن يكون معنى الآية أن الله يقول : ما من أحد من أهل الكتاب ألا يؤمن به أي بعيسى قبل موته أي قبل موت الكتابي . فيصبح الضمير في (( بِهِ )) عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام والثانية عائده على الكتابي . فيصبح معنى الآية أن ما من يهودي ولا نصراني تغرغر روحه إلا وهو مؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله لكنه لأنه يؤمن في ساعة الاحتضار فلا يقبل منه . وهذا مروي عن ابن عباس وقاله به كثير من العلماء , لكن يصعب تصوره وهذا الأمر الأول .
الأمر الثاني : قالوا أنه ليس من أحد من أهل الكتاب ألا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى أي ينزل مرة أخرى فيؤمنون به . لكن يأتي الإشكال أن الله قال : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) أي لا أحد من أهل الكتاب وقد مات جمع غفير من أهل الكتاب قبل أن يرى عيسى عليه الصلاة والسلام وقد نموت نحن قبل أن ينزل عيسى . وهذا هو الإشكال على التفسير الثاني .
الأمر الثالث : يبقى تفسير آخر و لعله يكون أقربها إلى الصواب يصبح معنى الآية إنه ما من كتابي يحضر ويبقى حياً إلى يوم عيسى إلا ويؤمن به وهذا تحدث إشكالية أخرى وهي أن اليهود من أهل الكتاب ولا يؤمنون بعيسى حتى بعد نزوله .
فيبقى تفسير الآية إلى يومنا هذا في علمنا غير واضح . إنما نقلنا ما ذكره أهل التفسير فإذا أوقفنا الله على شيء آخر سنخبركم به في حيينه .
(( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً{160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{161} لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
الكلام في هذه الآيات بوجوه عدة :
أولها : أن المعاصي من أعظم أسباب الحرمان ولذلك الله جل وعلا قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ )) .
فإذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فما أعظم أسباب العطاء ؟
الطاعات إذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فإن الطاعات من أعظم أسباب العطاء قال الله جل وعلا : (( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق : 3 ) . فالله يخبر أن ما حل على اليهود من تحريم كثير من الطيبات إنما كان بسبب معاصيهم .
)) فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) .
كذلك الآية تتكلم عن بعض من مظالم اليهود . ومنها الصد عن سبيل الله ومنها أكل أموال الناس بالباطل ومنها أكل الربا .
قول الله جل وعلا : (( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) من الناحية العلمية هذا عطف عام على خاص . لأن أكل أموال الناس بالباطل يدخل فيه الربا .
نتكلم الآن عن الربا :
الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
ومن الفوائد أن يقال إن هناك معصيتين حرمها الله على جميع الأمم ولم يبحها الله في أي شريعة قط , هما الربا والزنا . وهذا قول بعض أهل العلم .
والربا ينقسم إلى ثلاث أقسام وهي :
ربا الفضل وربا النسيئة وربا القرض .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الربوية فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر, والملح بالملح ، سواء بسواء يداً بيد . فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . معنى الحديث : أن هذه أصناف ربوية مابين مكيل وموزون إن كان مطعوماً يدخلها الربا .
القسم الأول: ربا الفضل
الفضل في اللغة : الزيادة .
سنأتي بصورة له حتى تفهمه :
إنسان يأتي مثلاً بالتمر والتمر كما ذكرنا صنف ربوي والتمر في بلادنا موزون ، يباع بالوزن بالكيلو . فلو جاء إنسان ومعه 3 كيلو من التمر، وآخر معه أربعة كيلو من التمر .
وهذان الصنفان ربويان فالتمر صنف ربوي كما ذكرنا ونقصد به أنه يدخله الربا وليس لأنه صنف ربوي يعني أنه محرم .(3/147)
والأربعة زيادة على الثلاثة . فلا يصح التبادل ولو كان أحدهما أفضل من الآخر . كأن يكون هذا تمر عجوة أو أعلى منه أو اقل . أو نقول هذا برني ـ أسماء أنواع للتمور ـ أو هذا رديء وهذا جيد فأعطيني أربع كيلو بثلاث كيلو أو كيلوين بخمس كيلو . فهذا لا يجوز ، وإذا وقع فهو ربا فضل .
ما معنى ربا فضل ؟
أي زيادة . لأنهما اتفقا في الصنف و اختلفا في الزيادة . وهذا هو معنى ربا الفضل وهو محرم .
القسم الثاني : ربا النسيئة
النسيئة تعني التأجيل و التأخير . قال الله جل وعلا في سورة التوبة : (( إِِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ )) أي التأجيل زيادة بالكفر .
كيف يقع ربا النسيئة ؟
تأتي بصنف ربوي واحد وبصنف ربوي آخر . والرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) لكنه قال : ( يدا بيد ) . هم يلغون ( يداً بيد ) فيؤخر واحد عن الآخر .
مثال:
الآن 375 ريال سعودي تساوي 100 دولار أمريكي , الدولار يعتبر صنف ، والريال يعتبر صنف . فلو قايضتهما بعضهما ببعض الـ100 دولار ليست مثل الـ375 , فـ 375 أكثر من الـ100 .حتى لو أخذتها بـ500 , أو لو أخذتها بـ 200 , أي لو كان واحد زائد والآخر ناقص أي أقل منه فإنه لا يضر . لأن الصنفين مختلفين فالدولار غير الريال ولكنها كلاهما صنف ربوي لأنها ذهب وفضه .
كيف يدخل الصورة السابقة ربا النسيئة ؟
الجواب أنه لو أتى للصراف فقال : أنا أعطيك 500 ريال سعودي بس أنا أبغى أسافر أعطيني 100دولار أمريكي فيعطيك 100 دولار ولا تعطيه الـ 500 . تقول الـ 500 بعدين ، أنا ما عندي الآن . فأنت تأخرت! فيكون هذا ربا النسيئة . أو هو لا يعطيك وأنت تعطيه . أي أحدكما يدفع والآخر لا يدفع . فهذا ربا النسيئة وهو محرم ، لكن إذا أخذ منك 100 وأعطاك 500 أو 375 أو قدرها أو أعلى أو أو ، حيثما اتفقتم بالحال يداً بيد فهذا ليس ربا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . يعني كله ناجز ولا يباع ناجز بغائب .
القسم الثالث : ربا القرض
وهو أصل الربا ، وهو الذي كانت تتعامل به العرب في الجاهلية . وهو يدخل في ربا الفضل والنسيئة ، ولكن ميزناه لوحده أفضل حتى يتضح .
وهو أن يأتي إنسان فيقرض إنساناً آخر شيء يجوز قرضه . ليس فقط ذهب وفضه بل أي شيء يجوز قرضه ، ثم يشترط عليه منفعة مقابل هذا القرض . وأكثر ما يقع في الأموال .
مثال :
شخص يأتي إنسان يطلب منه مال . فيعطيي10 آلاف إلى ثلاث شهور . فإذا انتهت المدة يأتي الدائن للمدين يقول أريد الـ 10 آلاف . فيقول له : لا أملك . فيقول له : إما أن تأتي بها في الحال وإما أؤخرها أنا لك شهر على أن تردها لي أكثر من 10 آلاف ريال ولو ريال واحد . فالريال الواحد مثل الـ 100 ألف في الحكم . هذا يسمى ربا القرض . وهو الذي قال الله جل وعلا فيه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) (آل عمران : 130 ) . وهو الذي قال فيه أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) وقال ( هم سواء ) أي هم في الإثم سواء . أخرجه مسلم من حديث جابر وأخرجه البخاري من طريق آخر لكن المعنى في الصحيحين . هذا ربا القرض .
و ينجم عن ربا القرض مسائله تسمى عند العلماء قلب الدَّين وهو من كبائر الذنوب.
قلب الدَّين :
إنسان يعطي إنسان قرض1000 ريال ويقول إلى شهر . ثم جاء بعد شهر و هذا ليس عنده الـ 1000 ريال فهو رجل مستور الحال الذي عنده شيء لا ينفك عن قوته يعني شيء تقوم به حياته . يعني مثلاً سيارة يذهب بها ويغدو على قدر مستواه الاجتماعي , أو بيت صغير مثلاً يسكنه . يعني أشياء خاصة لا يمكن أن يستغنى عنها لا فقير ولا غني . فيأتي هذا الذي له المال له الـ 1000 ريال وهو ليس معه الـ 1000 ريال فيأتي هو بالـ1000 ريال. ويقول له بيعني هذا الألف , ويأتي لشيء خاص عند هذا الرجل يحتاجه فيقول له بيعني إياه بـ 1000 ريال . فيأخذ الشيء الخاص ويعطيه ألألف , ثم يقول له رد لي هذه ألألف التي لي عندك ولأنه يعرف أنه لا يملك ألألف ريال يأتيه بالألف ويشتري منه مثلاً ثوبه وعمامته وساعته بالألف ريال أو السيارة التي يغدو بها ويذهب ويوصل بها أبنائه للمدرسة . قال هاتها أنا اشتريها منك بـ1000 على أنك تعطيني الألف لأن لي عندك 1000 ريال .
هذا يسمى قلب الدين وهو من كبائر الذنوب كما نص عليه العلماء ونقل العلامة الشيخ عبد الله بن البسام رحمة الله عن شيخه العلامة عبد الرحمن السعدي القول أنه من كبائر الذنوب .
هذه أصناف الربا وكلها محرمة ولا يوجد أحد ولله الحمد فيما نعلم من علماء المسلمين أباح الربا في أي قطر كان .
فلما تفهم أو تسمع أن أحد أباح الربا من علماء المسلمين ، فلا تصدقه .
هذا ليس بعالم .
لا يوجد أحد يتجرأ فيبيح الربا . لكن قد تفهم أنت المسألة خطاء , فهذه مسألة ثانية ، لكن الربا لا يحتاج أن تقول مسألة خلافية ويمكن ويأخذ و ما يعطى ما فيه . فالربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
مسائل :
نرجع للآية . ينجم عن الآية مسألة لها وضع خاص في عصرنا .
نحن نعلم أن اليهود هم من أكلت الربا ، بنص القران قال الله تعالى : (( فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا )) . هذا كلام رب العالمين ، ومع ذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى شعيراً من يهودي وليس عنده مال . فرهن درعه صلوات الله وسلامه عليه عند اليهودي ؛ بعد أن اشترى منه . إذن النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود بيعاً وشراءً . رغم أنهم أكلت ربا .
إذن ينجم عن هذا : أنه إذا سألت هل يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعاً وشراءً ؟
الجواب يكون نعم .
لأن اليهود أكلت ربا والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى منهم وباع إليهم وقَبِل هداياهم . وذلك مالم تعلم أن عين ما تتعامل به محرم . يعني رأيت إنسان يسرق سيارة أمام عينيك ثم يبيعك إياها فهذا لا يجوز .
لكن لو أن إنسان اشترى من أي بنك بماله شراء وبيعاً شرعيا فالبيع جائز باتفاق المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود ولأن الله قال في كتابه وهو يعلم أن اليهود حرفوا والنصارى حرفت قال جل وعلا في سورة المائدة : (( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ )) . ولن يكون طعامهم حلٌ لنا حتى يكون بالشراء . فطعامهم لن يأتينا هدية . بل لابد من الشراء . فأباحه الله لنا أكله , فإذا أباح الله لنا أكله إذن من باب أولى أن يبيح شرائه . وهذه المسألة تحتاجها كثيراً في العصر الحالي .
حتى لو كان محارباً ؟ هذه مسألة عصرية .عنون الإمام البخاري في الصحيح باب " الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب " وساق حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له اشترى قطيع غنم من رجل مشرك وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المدينة في حربه مع أهل الشرك .
ولو جاء إنسان بما يسمى اليوم بالمقاطعة . فما حكمها ؟(3/148)
لا شك أن المقاطعة إذا تبناها الإنسان قربة لله . وأراد بها قطيعة من يعين أهل الباطل وتعبد الله بها . فإنها قربة يثاب عليها بلا شك . لكن نحن لا نتكلم عن القربة من عدم القربة . نحن نتكلم عن صحة البيع وصحة الشراء . وأنت تُنَزِّل الأشياء على منازلها .
لكن الكلام بالحِّل أو الكلام بالحرمة هو توقيع عن رب العالمين . قال ابن القيم : " أعلام الموقعين عن رب العالمين " . والكلام عن رب العالمين بالحل والحرمة لابد أن يكون على بينةٍ وهدي من الكتاب والسنة ، ولا علاقة للعواطف به . ولن تكون أعظم ورعاً من رسولنا صلى الله عليه وسلم .
فاليهود يقول الله عنهم في سورة التوبة : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ )) ويذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يشتري من يهودي ، رغم أن أسواق المدينة مليئة بمن يبيعون الشعير ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للأمة جواز البيع .
مادمنا في قضايا العصر نأتي لقضية الاقتراض من البنوك .
الاقتراض بفائدة لا نحتاج لدليل لأنه حرام بإجماع علماء المسلمين وقد بيناه . لكن أحياناً البنوك تقول أنت إلى ثلاث أشهر إذا رددتها لا نطلب منك فائدة . ولكن إذا لم تستطع ردها نأخذ منك فائدة هذا يعود كالأول سواءً بسواء بمجرد توقيع العقد ولو كنت قادراً على السداد قبل نهاية العقد فإنه يعتبر عقد ربوي يدخل في اللعن الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه .
فالتعامل مع البنوك قرضاً أو إيداع الأموال عندهم وتعود إليك بفائدة هي من الربا الملعون صاحبه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم والمحرم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كما بينا .
(( فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ))
أكل أموال الناس بالباطل عام ، وقلنا أنه عطف عام على خاص . وكل شيء تتوصل إليه بالباطل فهو محرم . سواءً بالرشوة أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالنهب فأي طريق من طرائق الباطل تصل بها إلى أموال الناس يعتبر مالاً محرماً قد لا يكون رباً لكن أي طريقة حرمها الله فإنه يأثم صاحبها .
ثم قال سبحانه : (( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
هذه (( لَّكِنِ )) الأصل عند النحويين أنها حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر , لكنها هنا خففت لأن الأصل أنها مشدده " لكنَّ " فلما خففت جاز فيها عدم الإعمال . فأصبحت تعني الانتقال من جملة إلى جملة و تسمى باب الإضراب . أي الانتقال من حال إلى حال . فلا تعمل ولا تؤثر فيما بعدها عملاً . فيصبح الراسخون على أنها مبتدأ .
(( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ )) مِن مَن ؟
هم من أهل الكتاب وهذا يدخل فيه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ومن آمن من اليهود والنصارى .
(( وَالْمُؤْمِنُونَ ))
والمؤمنون المقصود بها المهاجرون والأنصار , أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
(( يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ))
أي القرآن .
(( وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ))
أي بجميع الكتب
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ))
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ )) نحوياً مفروض تكون والمقيمون مثل المؤتون والمؤمنون لكنها جاءت (( وَالْمُقِيمِينَ )) ويوجد قراءة (( والمقيمون )) لكن نحن نتكلم عن القراءة التي بين أيدينا وهي (( وَالْمُقِيمِينَ ))
وهذه للعلماء فيها ست تخريجات :
سنترك خمسة ونبقى على واحد وهي : أنها منصوبة على الاختصاص ، لبيان التعظيم والتفخيم . فيصبح المعنى وأخص المقيمين بالصلاة . وهذا تخريج إمام النحويين سيبويه وعليه أكثر العلماء . ونصب الصلاة على الاختصاص يبين أهميتها من الدين وعلى أنها أمر عظيم .
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ))
نّكر الله كلمة (( أَجْراً )) هنا لبيان التفخيم . لأنه لا يعلم مالهم من أجر إلا الله . قال تعالى : (( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (السجدة : 17 )
هذا ما أردنا الوقوف عنده . يصبح من هذا كله إجمالاً تكلمنا عن اليهود وتكلمنا عن النصارى في سورتين سورة آل عمران وسورة النساء . وقلنا إجمالاً إن اليهود يزعمون أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم ويفخرون بذلك ويفرحون به . وأن النصارى تقبل هذا وتدعيه لكنها تقول أن هذا خلاصاً للبشرية . وكلا الفريقين ضال ، فإن عيسى ابن مريم لم يقتل ولم يصلب بل رفعه الله جل وعلا إليه وكان الله عزيزاً حكيماً . وقلنا إنه سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً مقسطا .
هذا ما انتهى إليه الدرس والله تعالى أعز وأعلا وأعلم وصلى الله وسلم على محمد .
==============
ما حكم العمل في التعاونية للتأمين ؟
ما حكم العمل في وظيفة في التعاونية للتأمين؟
الجواب :
الأخ الأمس القريب .
كما تعلم أن الشركة تعمل في مجال التأمين التجاري الذي أجمعت على تحريمه الهيئات العلمية والمجامع الفقهية ، ومن أسباب تحريمه أنه يشتمل على الربا والميسر
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في " فتاوى إسلامية " ( 3 / 5 ) :
التأمين على الحياة والممتلكات : محرَّم شرعاً لا يجوز ؛ لما فيه من الغرر والربا ، وقد حرَّم الله عز وجل جميع المعاملات الربوية والمعاملات التي فيها الغرر ، رحمةً للأمة وحمايةً لها مما يضرها ، قال الله سبحانه وتعالى : (وأحلَّ الله البيع وحرَّم الربا) ، وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه نهى عن بيع الغرر ، وبالله التوفيق اهـ
فلا يجوز للمسلم أن يعمل في شركة تقوم على نوع من أنواع الربا والميسر المحرم ، وقد قال الله تعالى : " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " [ المائدة : 2 ] .
وعليه أن يبحث عن عمل آخر ليس فيه حرمة ، ومن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه .
http://www.saaid.net/Doat/Zugail/161.htm
القولُ المبينُ من فتاوى العصرِ في حُكمِ التأمينِ
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
==============
صُوْرَةُ فَتْوَى تَهمُ شَرِيحةً كَبِيْرَةً من موظفي الشركاتِ
الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ ؛
هَذِهِ فَتْوَى اللجنةِ الدَّائِمَةِ بِخُصُوْصِ نِظَامِ لادِّخارِ
صُوْرَةُ فَتْوَى اللجنةِ الدَّائِمَةِ الأُوْلَى
صُوْرَةُ فَتْوَى اللجنةِ الدَّائِمَةِ الثَّانِيَةِ مؤكَّدةً لِلأُوْلَى
نظام الادخار في أرامكوا والموقف من اختلاف الفتوى فيه
السؤال :(3/149)
نحن مجموعة من موظفي أرامكو السعودية ، يهمنا كما يهم أي فرد مسلم شرعية الأموال التي يحصل عليها، وإننا في الآونة الأخيرة وقعنا في حيرة عظيمة لا يعلم بها إلا الله عز وجل ، لعل عندكم شيئاً من علم عن نظام الادخار في أرامكو السعودية ، ( فالشركة تحفزني بأن أدخر عندهم بإعطائي مكافئة عند التقاعد أو عند ترك العمل في الشركة .
المساهمة هي نسبة مئوية من مساهمتي حسب بقائي في الخدمة ، مثلاً إذا كانت مساهمتي الكلية 100000 ريال وخدمتي في الشركة 10 سنوات فتكون مكافئتي من الشركة هي 100000 ريال .
وإذا كانت مدة خدمتي 7 سنوات فتكون مكافئتي 70% فقط من 100000 ريال وهي 70000 ريال . وإننا كما نعلم مسبقا أن هذا النظام محرم شرعا بحكم فتوى اللجنة الدائمة الصادر في ذلك، ولكننا في الآونة الأخيرة جاءتنا فتوى من الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله بجواز هذا النظام الادخاري، فوقعنا بذلك في حيرة ، فلا نعلم هل نتبع اللجنة أم نتبع الشيخ المنيع بحكم تخصصه في المجالات الاقتصادية .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
نظام الادخار المعمول به في شركة أرامكوا نظام محرم ، وهو ربا صريح ؛ لكونه قرضاً جر نفعاً ، فإن من دفع 100,000 ليأخذها بعد مدة عشر سنوات ، أو سبع ، أو غير ذلك ، مضافا إليها مكافأة قدرها 100,000 أو 70,000 ، أو ريالا واحدا ، فقد وقع في الربا الصريح ، المحرم بإجماع العلماء.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله : ( وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف . قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المُسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية ، فأسلف على ذلك ، أَنَّ أخذ الزيادة على ذلك ربا . وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرضٍ جرَّ منفعة ) المغني 6/436
ولا عبرة بتسمية الشركة لهذه المعاملة ادخارا أو استثمارا أو مضاربة ، فإن كل استثمار ضُمن فيه رأس المال لصاحبه ، فهو عقد قرض ، وإن سماه الناس غير ذلك ، فالعبرة بحقائق الأشياء لا بمسمياتها.
أما الاستثمار ، أو التوفير ، أو الادخار المشروع فيقوم على أسس أهمها :
1 - أن يكون المال منك ، والعمل من الطرف الآخر ، ولا مانع أن يدخل بحصة من المال مع العمل.
2 - أن يكون مجال الاستثمار مباحا ، معلوما لك ، فإن غالب هذه الشركات تستثمر المال بوضعه في بنوك الربا ، أو إقامة مشاريع غير مباحة.
3 - أن تتفقا على نسبة محددة من الربح ، لا من رأس المال ، فيكون لك 50 % أو 10 % من الربح مثلا.
4 - أن لا يضمن المضارب لك رأس المال ، بل متى وقعت الخسارة - بلا تفريط منها - فالخسارة في مالك ، ويخسر هو عمله .
وحيث كان رأس المال مضمونا فالمعاملة قرض يلزم سداده دون زيادة ، فإن اشتُرطت فيه الزيادة فهو ربا .
نسأل الله أن يصرف عنا الربا وشره وخطره ، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه .
والحاصل أن نظام الادخار في شركة أرامكو محرم ؛ لضمان رأس المال فيه ، ولكون الربح نسبة محددة من رأس المال ، فهو حينئذ قرض بفائدة ، ولجهالة الجهة التي تستثمر فيها الأموال .
وقد أشارت اللجنة الدائمة إلى بطلان الدعوى بأن ما يعطاه الموظف مكافأة من الشركة ؛ لأنها لا تعطي هذا إلا لمن يدخر ، ولو كانت مكافأة محضة لشملت جميع الموظفين .
- وكما ذكر السائل فقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله ومعه الشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ عبدالله بن غديان والشيخ عبدالله بن قعود - وهم من كبار العلماء - عن نظام الإدخار في شركة أرامكوا فأجابوا بما نصه : " الاشتراك في نظام الادخار بشركة أرامكوا حرام ؛ لما فيه من ربا الفضل وربا النسأ ، وذلك لما فيه من تحديد نسبة ربوية تتراوح ما بين خمسة بالمائة ومائة بالمائة من المال المدخر للموظف السعودي ، وكذا ما يُعطاه الموظف المُدَخِر من المكافأة دون من لم يدخر من موظفيها ، كما هو منصوص في نظام ادخارها . "
فتاوى اللجنة الدائمة 13/510-515
وكذا أفتى الشيخ محمد بن صالح العثيمين وغيره من أهل العلم بتحريم نظام الإدخار في شركة أرامكوا .
ثانياً :
إذا اختلف العلماء في الحكم الشرعي في مسألة شرعية فعلى المستفتي أن يجتهد في معرفة الحق بالنظر في أدلة كلا الفريقين فيعمل بما ترجح له . هذا فيما لو كان المستفتي طالب عالم له القدرة على الترجيح .
أما إن لم يتمكن من الترجيح نظراً لعدم تخصصه في العلم الشرعي فالواجب عليه أن يأخذ بقول الأعلم والأوثق عنده ، وليس له أن يتخير من الأقوال ما يشاء .
وفي مسألتنا هذه تبين أن كبار العلماء أفتوا بالتحريم ، و هم أعلم وأوثق ممن خالفهم - وليس هذا قدحاً في الطرف الثاني - ، لذا فالواجب عليك الابتعاد عن هذا النظام لما تقدم .
وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عن موقف المسلم من اختلاف العلماء فأجاب : " إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة ، والترجيح بينها ، ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك ، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة ، فقال : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) النساء/59. فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة ، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به ، لأن الواجب هو اتباع الدليل ، وأقوال العلماء يستعان بها على فهم الأدلة .
وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء ، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به ، قال الله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الأنبياء/43 . وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه .
فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم ، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره ، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا .
ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل ، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى .
بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علماً ، وأشد خشية لله تعالى " انتهى من كتاب اختلاف العلماء أسبابه وموقفنا منه ص23 ، أنظر السؤال (22652) .
وعلى المسلم أن يحذر من استفتاء من عُرف بالتساهل ومخالفة من هو أعلم منه من العلماء الثقات ، وليحذر المسلم من اتباع الهوى والأخذ بالفتاوى التي توافق ما تريده نفسه وتهواه فإن المسلم مطالب بمخالفة هوى النفس ، قال تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )
والله اعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
http://63.175.194.25/index.php?ln=ara&ds=qa&lv=browse&QR=30842&dgn=4
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
==============
الشركات النقية وحكم الصناديق الاستثمارية بالأسهم
د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
السؤال
فضيلة الدكتور/ يوسف بن عبد الله الشبيلي - وفقه الله- :
نرجو من فضيلتكم بيان الشركات المساهمة المحلية التي يجوز الدخول فيها والتي يحرم، وحكم الدخول في صناديق الاستثمار بالأسهم المحلية.
التاريخ2/3/1426هـ
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،(3/150)
فالواجب على المسلم تحري الكسب الطيب، والبعد عن المال الخبيث عملاً بقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"، وإن من أخطر المكاسب الخبيثة الربا، حيث أعلن الله الحرب على من تعامل به فقال سبحانه:" ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله"، ولذا كان من الواجب على المساهم أن يحتاط لهذا الجانب أشد مما يحتاط لمعايير الربح والخسارة في الأسهم، فالربح الحقيقي أن يسلم للمرء دينه.
ومن خلال دراسة آخر القوائم المالية للشركات المحلية يمكن تصنيف هذه الشركات إلى ثلاث فئات-مع التنبه إلى أن هذا التصنيف قابل للتغير في الفترات القادمة-:
أولاً- الشركات المحرمة : وعددها(23) شركة. أظهرت قوائمها المالية لآخر فترة قروضاً أو استثماراتٍ محرمة تعد كثيرة بالنظر إلى موجودات الشركة ونشاطها، فيحرم شراء أسهم هذه الشركات مطلقاً سواء أكان الشخص مضارباً أم مستثمراً ، وهذه الشركات هي:1-سامبا-2-العربي الوطني-3-البريطاني-4-الهولندي-5-الجزيرة-6-الاستثمار-7-الفرنسي8-الرياض-9-التعاونية-10-تهامة-11-التصنيع-12-المتطورة-13-جازان-14-أميانتيت-15-البحري-16-الكابلات-17-الأحساء للتنمية-18-الصادرات-19- الغاز-20-المجموعة السعودية-21-اسمنت القصيم-22- اسمنت الجنوبية-23-السيارات.
ثانياً - الشركات النقية : وعددها (20) شركة لم يظهر في قوائمها المالية لآخر فترة أي نشاطٍ محرم، فيجوز شراء أسهمها سواء أكان الشخص مضارباً أم مستثمراً ،وهي:1-البلاد-2- الراجحي-3-الصحراء-4- مكة-5-طيبة-6-النقل الجماعي-7- اتحاد اتصالات-8- اللجين-9-الجبس-10-فيبكو-11-التعمير-12-القصيم الزراعية-13-نادك-14-تبوك الزراعية-15-الجوف-16-حائل-17-مبرد-18-اسمنت ينبع-19-اسمنت العربية-20-الغذائية.
ثالثاً - الشركات المختلطة : وعددها( 32 ) وهي شركات أنشطتها في أغراض مباحة ، لكن قوائمها المالية لآخر فترة لا تخلو من بعض المعاملات المحرمة اليسيرة التي لا تعد من نشاط الشركة وإنما هي طارئة عليها، ولا تزيد نسبة الإيرادات المتحققة منها عن 5% من أرباح الشركة. فمن الورع تجنب هذه الشركات إذ إنها من المشتبهات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، ولكن من لم يأخذ بسبيل الورع فلا حرج عليه إن شاء الله في شراء أسهمها سواء أكان مضارباً أم مستثمراً بشرط أن يكون غير راضٍ بما فيها من الحرام ولو كان قليلاً، والإثم على من أذن أو باشر تلك المعاملة المحرمة. ويجب على المساهم أن يتخلص من هذه النسبة المحرمة بإخراج 5% من الأرباح السنوية الموزعة، وصرفها في المشاريع الخيرية كجمعيات البر وغيرها بنية التخلص منها، أما الأرباح الناتجة من بيع الأسهم فلا يجب إخراج شيءٍ منها.
وهذه الشركات هي: 1-سابك -2-سافكو-3-المصافي-4-الخزف-5-صافولا-6-الدوائية-7-صدق-8-زجاج-9-سيسكو-10-أنابيب-11-نماء-12-معدنية-13-كيميائية-14-الزامل-15-اسمنت اليمامة-16-اسمنت السعودية-17-اسمنت الشرقية-18-اسمنت تبوك-19-الفنادق-20-العقارية-21-المواشي-22-عسير-23-الباحة-24-ثمار-25-شمس-26-فتيحي-27-جرير-28-الكهرباء-29-الاتصالات-30-الأسماك-31-الشرقية الزراعية-32-بيشة.
وجواز الدخول في هذه الشركات لا يعني أن الربا اليسير مباح، فالربا محرم قل أو كثر، والإثم على من باشر تلك المعاملة المحرمة أو أذن أو رضي بها. وإنما جاز للمساهم شراء الأسهم المختلطة لأمرين:
الأول: أن السهم سلعة تباع وتشترى، اختلط فيه الحرام بالحلال، فإذا كان الحرام الذي فيه يسيراً وتابعاً غير مقصود فإن ذلك لا يقتضي حرمة السهم كله ؛ بناءً على القاعدة الشرعية " أن اليسير التابع مغتفر"، لا سيما مع عموم البلوى. وهذا كالنجاسة اليسيرة إذا وقعت في الماء فلم تغيره فإنه يبقى على طهوريته، وكالسلع التي لا تخلو من يسير محرم فإنه لا يحرم شراؤها وبيعها لوجود ذلك اليسير، مثل الصحف التي قد يوجد بها بعض الصور المحرمة، وكعقود الخدمات العامة مثل الكهرباء والاتصالات والنقل ونحوها، فإن من المعلوم أن بعض من يستفيد من هذه الخدمات قد يستعين بها على المعصية، ومع ذلك فلا تحرم هذه الخدمات ولا يعد العمل بها من الإغانة على المعصية لأن استخدامها في المعصية يسير بالنظر إلى جملة المستفيدين من هذه الخدمات.
والثاني: أن المساهم يلزمه التخلص من نسبة الحرام هذه ولو قلت وبذا لا يكون قد دخل ماله شيء من الحرام، والله أعلم.
وبما سبق يتبين حكم ما يعرف ب"الصناديق الاستثمارية الشرعية" بالأسهم المحلية التي تديرها البنوك، كصندوق الرائد والأمانة وصندوق الرياض رقم(2) وغيرها، فالواقع أن هذه الصناديق يدخل في استثماراتها شركات من النوع الأول، لأن الضوابط الشرعية التي تسير عليها هذه الصناديق أن الشركة تكون مباحة متى ما كان أصل نشاطها في أغراض مباحة وألا تزيد القروض الربوية التي عليها عن 30% من قيمتها السوقية أو الدفترية أيهما أعلى، وهذا يعني أن كل الشركات من الممكن أن تدخل في استثمارات هذه الصناديق عدا البنوك وشركتين أو ثلاث فقط، لأن القيمة السوقية لعامة الشركات المحلية مرتفعة بشكلٍ لا يعكس الواقع الحقيقي للشركات، وذلك بسبب ارتفاع المؤشر العام للأسهم. فبعض الشركات تصل قيمتها السوقية إلى أكثر من ضعف قيمتها الحقيقية، فإذا ربطت النسبة المغتفرة من القروض بالقيمة السوقية لا بالقيمة الحقيقية للشركة فهذا يعني أن الشركة مهما اقترضت أو استثمرت أموالها في شيءٍ محرم فلن تصل نسبة الحرام إلى النسب المذكورة إلا في حالاتٍ نادرة جداً.
فعلى سبيل المثال : بلغت نسبة الاستثمارات المحرمة إلى إجمالي الموجودات لشركة الصادرات 65% ولشركة اسمنت القصيم 41% ولشركة اسمنت الجنوبية 40% ولشركة الغاز 47% وللمجموعة السعودية 43%، ومع ذلك فجميع هذه الشركات لا تعد محظورةً لدى إدارات هذه الصناديق لأن أصل نشاطها في أغراضٍ مباحة، وهذا فيما أرى توسع في جانب الحرام. فكون نشاط الشركة في أغراضٍ مباحة لا يعني أن أرباحها قد تحققت من ذلك النشاط، فعلى سبيل المثال، حققت شركة جازان الزراعية خسارة صافية من نشاطها الرئيس تزيد عن سبعة ملايين ريال ، في الوقت الذي حققت فيه أرباحاً من استثماراتها في سنداتٍ محرمة وأسهمٍ بنكية ( بنك سامبا) تزيد عن خمسة عشر مليون ريال، وهذا يعني أن معظم الربح المستحق للمساهمين نتج من الإيرادات المحرمة.
وبناءً عليه فالذي يظهر لي -والله أعلم- هو حرمة الدخول في صندوق الرائد أو الأمانة أو الرياض(2)؛ لأن الأموال تستثمر فيها في شركات نسبة المعاملات المحرمة التي فيها كبيرة، والله أعلم.
المصدر : موقع المسلم
=============
حكم البيع و الشراء بالتقسيط مع الزيادة في الثمن
السؤال :
هل يجوز البيع و الشراء بالتقسيط بزيادة في كل قسط ، كأن أشتري مثلاً سيارة و يطلب البائع دفع جزءاً من ثمنها ، و الباقي يدفع بالتقسيط ، و لكن بزيادة في كل قسط ، فهل هذه الزيادة تعتبر من الربا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
البيع بالتقسيط لا بأس به من حيث الأصل ، بل هو عقدٌ صحيح و إن كان في الثمن زيادة عن سعر البيع نقداً ، و لكن ينبغي الاحتياط خشيةَ الوقوع في الربا ، أو الصيرورة إليه بحيلةٍ ما .
و قد أوجز أعضاء مجمع الفقه الإسلامي [ كما في ص : 109 من فتاوى المجمع المطبوعة ] في ما يلي :(3/151)
أولاً : تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال ، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً ، و ثمنه بالأقساط لمدد معلومة ، و لا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل ، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد و التأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد ، فهو غير جائز شرعاً .
ثانياً : لا يجوز شرعاً في بيع الأجل ، التنصيص في العقد على فوائد التقسيط ، مفصولة عن الثمن الحال ، بحيث ترتبط بالأجل ، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطها بالفائدة السائدة .
ثالثاً : إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط ، لأن ذلك ربا محرم .
رابعاً : يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ، و مع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء .
خامساً : يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها ، عند تأخر المدين عن أداء بعضها ، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد .
سادساً : لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع ، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة .
سابعاً : الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله ، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين ( وضع تعجيل ) جائزة شرعاً ، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق ، و ما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية ، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز ، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية .
ثامناً : يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسراً .
تاسعاً : إذا اعتبر الدين حالاًّ لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي .
عاشراً : ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار : ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه أو عيناً . اهـ . [ هذه الضوابط نشرها موقع الإسلام سؤال و جواب نقلاً عن المجمع المذكور ] .
قلت : فإذا كان العقد منضبطاً بالضوابط الشرعيّة المذكورة في هذا القرار ، فلا بأس فيه إن شاء الله .
و الله أعلم .
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
==============
التورقُ كما تجريهِ بعضُ المصارفِ في الوقتِ الحاضرِ
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
كنتُ أبحثُ في محركاتِ البحثِ عن موضوعٍ معينٍ ، ومن بين المقالاتِ التي وقعت يدي عليها خبرٌ نشر في جريدةِ " الرياض " بتاريخِ الخميس 24 شوال 1424 هـ - العدد 12963 - السنة 39 ،وعنوانُ المقالِ :
المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي يدعو رجال الفقه والقانون والسياسة في العالم للاتفاق على تعريف محدد للإرهاب
وقد أخذ القرارُ عن الإرهابِ نصيب الأسد ، من تلك الدورةِ .
ومن ضمن القراراتِ المهمةِ للمجمعِ الفقهي الإسلامي في تلك الدورةِ ، والتي لم تكنْ بذاتِ أهميةٍ بسبب أن القرارَ الذي أخذ نصيباً كبيراً هو ما سبق والمتعلق بـ " الإرهاب " ، قرارٌ يهمُ شريحة كبيرة من الناسِ ممن لهم اهتمامٌ بالتعاملِ مع المصارفِ في مسألةِ " التورق " ، وعنوانُ القرارِ :
التورقُ كما تجريهِ بعضُ المصارفِ في الوقتِ الحاضرِ
والمقصودُ بالمصارفِ هي التي فتحت فرعاً إسلامياً داخل البنكِ الربوي ، فيدخلُ الداخل إلى البنكِ الربوي والإسلامي من بابٍ واحدٍ ، كما تصبُ اموالُ الربوي والإسلامي لذلك البنكِ في خزينةٍ واحدةٍ .
وقد انتشرت في هذه المصارفِ معاملةٌ يطلقُ عليها " التورق " ، وهي أيضاً يطلقُ عليها " التورق المصرفي " ، وفرقٌ بين " التورق " الفقهي الذي أجازه جمهورُ أهلِ العلمِ ، وبين " التورق المصرفي " الذي أشار إليه قرارُ المجمعِ الفقهي الإسلامي .
والفرقُ بين التورقِ الفقهي الجائزِ والتورقِ المصرفي أن التورقَ الفقهي يحققُ حاجةَ السيولةِ النقديةِ للمتورقِ ، وهي حاجةٌ جائزةٌ كما ذهب لذلك الأغلبية ، ولكن البنك في التورق المصرفي إنما يدخل في تيسيير عملية التورق فقط بحاجة تنمية أمواله فهو يريد أن يحقق عوائد على رأسماله وشراؤه للسلعة نقدا لكي يبيعها بالأجلِ .
إن البنكَ في عملياتِ المرابحةِ إنما يحققُ مقصداً شرعياً مقبولاً وهو التيسيرُ على العملاءِ للحصولِ على السلعِ التي لا يستطيعون دفع ثمنها نقدا ، فيشتريها ويبيعها لهم بالمرابحةِ ويحققِ أرباحاً مشروعةً من هذا التداول المفيد للسلع ، أما مقصدُ البنكِ في عملياتِ التورقِ فهو ليس التوسط الاستثماري لمساعدةِ العملاءِ في الحصولِ على السلعِ وإنما مقصدهُ الأساسي هو توفيرُ السيولةُ النقديةُ لهم وتحقيقُ المكاسبِ من خلالِ ذلك، فشتان بين هذا المقصد وذاك. عميل البنك المشتري بالمرابحة من حقه أن يبيع السلعة إذا احتاج للنقد، وهذا هو التورق الفقهي أو الفردي المشروع، أما أن يتدخل البنك ليتاجر بحاجة الناس للسيولة ويحقق عوائد له عبر آليات شكلية وهمية فهذا هو الذي يكون محل نظر .
وقد أصدر المجمعُ الفقهي الإسلامي قراراً سابقاً بجوازِ بيعِ التورقِ ونصه :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ، أما بعد :
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة التي بدأت يوم السبت 11 رجب 1419 هـ الموافق 31 /10 / 1998 م قد نظر في موضوع حكم بيع التورُّق .
وبعد التداول والمناقشة ، والرجوع إلى الأدلة ، والقواعد الشرعية ، وكلام العلماء في هذه المسألة قرر المجلس مايأتي :
أولاً : أن بيع التورُّق : هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل ، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع ، للحصول على النقد ( الورق ) .
ثانياً : أن بيع التورق هذا جائز شرعاً ، وبه قال جمهور العلماء ، لأن الأصل في البيوع الإباحة ، لقول الله تعالى : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا " [ البقرة : 275 ] ولم يظهر في هذا البيع رباً لاقصداً ولا صورة ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين ، أو زواج أو غيرهما .
ثالثاً : جواز هذا البيع مشروط، بأن لايبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول ، لا مبارشة ولا بالواسطة ، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة ، المحرم شرعاً ، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً .
رابعاً : إن المجلس : - وهو يقرر ذلك - يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم ، طيبة به نفوسهم ، ابتغاء مرضاة الله ، لايتبعه منّ ولا أذى وهو من أجل أنواع الإنفاق في سبيل الله تعالى، لما فيه من التعاون والتعاطف ، والتراحم بين المسلمين ، وتفريج كرباتهم ، وسد حاجاتهم ، وإنقاذهم من الإثقال بالديون ، والوقوع في المعاملات المحرمة ، وأن النصوص الشرعية في ثواب الإقراض الحسن ، والحث عليه كثيرة لاتخفى كما يتعين على المستقرض التحلي بالوفاء ، وحسن القضاء وعدم المماطلة .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه سلم تسليماً كثيراً ، والحمد لله رب العالمين .
ثم جاء القرارُ الجديدُ من المجمعِ الفقهي الإسلامي ليس ناسخاً للقرارِ السابقِ ، وإنما تحذيراً وتنبيهاً للمصارفِ من استغلالِ هذه المعاملةِ في غيرِ وجهها الشرعي ، ونصُ القرارِ ما يلي :
القرار الثاني بشأن موضوع :(3/152)
التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه . أما بعد :
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة ، في المدة من 19-23 / 10 / 1424 هـ الذي يوافقه 13-17 / 12 / 2003 م ، قد نظر في موضوع :
( التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر )
وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع ، والمناقشات التي دارت حوله ، تبين للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو :
قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة ( ليست من الذهب أو الفضة ) من أسواق السلع العالمية أو غيرها ، على المستورق بثمن آجل ، على ان يلتزم المصرف - إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق .
وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي :
أولاً : عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية :
1 ) أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشترطها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة .
2 ) أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3 ) أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من اجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل.. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء ، وقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره.. وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة.. فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري ويقبضها قبضاً حقيقياً وتقع في ضمانه ، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حال لحاجته إليه ، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن ، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها ، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف .
ثانياً : يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالاً لأمر الله تعالى .
كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا ، فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلاً محضاً بزيادة ترجع إلى الممول .
وأترككم مع تفصيلِ الشيخِ محمدِ صالح المنجد لقرارِ المجمعِ الفقهي بصوتهِ لإيضاحِ ما قد يشكلُ على البعضِ
http://liveislam.com/iqa/av/jummaah001/twrog/tawarog.rm
للتحميل : حفظٌ باسم
نسألُ اللهَ أن يكونَ في هذا التنبيهِ الكفايةُ لمن كان لهُ قلبٌ .
التورق نافذة الربا في المعاملات المصرفية
د.محمد بن عبد الله الشباني
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
ورد بحثٌ في مجلةِ " البيان " في عددها الأخيرِ بعنوانِ " التورُّق نافذةُ الربا في المعاملاتِ المصرفيةِ " بقلمِ " د . محمد بن عبد الله الشباني " ، ونقلت المقالَ ووضعتهُ هنا لعلاقتهِ بالقرارِ الصادرِ من المجمع الفقهي .
? مقدمة:
الواقع المعاصر للمعاملات المالية يتسم بالولوغ في الربا، فلم يقتصر الأمر على الربا الصريح الذي تمارسه البنوك التجارية وغيرها من المؤسسات المالية، ولكن الأمر تعدى ذلك إلى توسيع نطاق الربا تحت مسمى المعاملات الإسلامية. فدخل التعامل الربوي حياة فئات كثيرة من الناس كانت تتحرج من الاقتراض والإقراض الربوي، ولكن وقعوا فيه من خلال ما تم طرحه من فتاوى صادرة من اللجان الشرعية لهذه البنوك تجيز الحصول على المال منها، حيث تتسم تلك الفتاوى بانتهاج أسلوب البحث عن مخارج شرعية لتحليل الربا بإضفاء صيغة البيع على الاقتراض والإقراض الربوي .
وظهرت مسمّيات تزعم بأنها معاملات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، وذلك بالاتكاء على الفتاوى الصادرة من اللجان الشرعية لتلك البنوك، وأصبح يُطلق على كثير من عمليات التحايل على التمويل الربوي مسميات مضللة؛ مثل «التورق المبارك»، و «التمويل المبارك»، و «تمويل الخير»، و «التيسير»، و «تورق الخير» و «برنامج أتقى وأنقى»، كبديل لما يعرف في البنوك التجارية بالودائع الآجلة، وكل هذه البرامج من الإقراض والاقتراض تحت تلك المسميات ما هي إلا أكل للربا وتأكيله.
ولقد تحقق ما أشار إليه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره)، وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا فمن لم يأكله ناله من غباره)، وقد ورد في هذا المعنى حديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؛ أم من حلال أم من حرام).
هذه الظاهرة بدأت في التجذر والاتساع في المعاملات المصرفية لتوسيع نطاق الربا باستخدام ما يعرف في الفقه الإسلامي بصيغة «التورق» في شراء السلع وبيعها، وإدخالها في جميع المعاملات المصرفية ذات الطابع الإقراضي والاقتراضي باعتباره مخرجاً من الربا، سواء فيما يتعلق بتمويل الأفراد والمؤسسات، أو بإعطاء الفائدة للمودعين فيما يُعرف في المصطلح البنكي بالفائدة على الودائع لأجل، واستُخدمت صيغة التورق أداة ومخرجاً للإقراض والاقتراض من قِبَل المصارف، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة حقيقة هذه الصيغة وما ينتج عنها من عقود يتم التعامل بها من قِبَل البنوك التجارية؛ بدارسة كيفية منحها التمويل من خلال بيع المرابحة باستخدام صيغة التورق كحيلة لاستحلال الربا، وهذا ما سنعرضه من خلال الجوانب الآتية:
أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة.
ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل الفقهية.
ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته.
رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك.
خامساً: ربوية صيغة التورق كما تتم في البنوك.
? أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة:
الحيل الفقهية أسلوب من الأساليب التي تُتبع؛ إما للوصول إلى ما حرّمه الله تحت غطاء الشرع، وإما للبحث عن مخارج تحل بعض القضايا التي قد تتعارض في ظاهرها مع القواعد والعلل التي يستند إليها الفقهاء في تحديد الحكم الشرعي لأي قضية من القضايا.(3/153)
المعنى اللغوي للحيل ـ والتي مفردها حيلة ـ: عرفت في المعجم الوسيط بـ (تحيل كان حاذقاً جيد النظر قديراً على دقة التعرف في الأمور)(1)، وقد استعرض صاحب كتاب الحيل الفقهية في المعاملات المالية المفهوم الخاص بالحيل، ووصل في تحليله لمفهوم الحيل إلى القول (بأن الحيلة تطلق ويراد بها عدة معان، فيراد بها التحول والانتقال من حالة إلى أخرى ومن شيء إلى آخر، أو بمعنى الحيلولة والحجز بين الشيئين أو الإنسان والشيء، أو بمعنى عدم الحمل بالنسبة لكل أنثى، وبمعنى طلب الحيلة؛ أي الاحتيال، وبمعنى الصفة)(2).
أما المعنى الفقهي فيقول ابن القيم: (فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه؛ بحيث لا يُفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فهذا أخص من موضوعها في اللغة، وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً. وأخص من هذا استعمالها في الغرض الممنوع شرعاً أو عقلاً أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس)(3). ومن هنا فإن الحيل لا تعتبر جميعها محرمة، وإنما المحرم ما كان وسيلة إلى الوصول إلى ما حرم أخذه أو فعله. ولذا لا بد من معرفة الفرق بين الحيل المحرمة والحيل الجائزة، يقول الشاطبي: (الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية، فإن فُرض أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي)(4)، وقد وضع الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ مقياساً يتبين به المتأمل نوع الحيلة، ومدى قبولها من رفضها، يقول: (فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب؛ حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً؛ فهذا التسبب يُسمّى حيلة وتحيّلاً)(5). ومن هنا يتضح أن أي أسلوب يُتخذ أو يُتبع يؤدي إلى إسقاط الواجب أو تحليل المحرم في الظاهر؛ فإنه يُسمّى حيلة عند الفقهاء.
إن التحايل على الأحكام الشرعية بقصد إرضاء النفس والتحايل لأكل الحرام وفعله؛ من الأمور التي حرمها الله ـ تعالى ـ في كتابه، وأجمع على تحريمها سلف هذه الأمة، ومن أجاز صوراً من العقود البيعية للبنوك (والتي سنناقشها لاحقاً)؛ بقصد توفير احتياجات الناس للمال بدون إيقاعهم في الربا ظاهراً، وبقصد إخراجهم من الضيق والحرج والتوسعة عليهم بحكم أن الشريعة دائرة أحكامها على التخفيف واليسر والأخذ بالرخص؛ فهذا أمر غير مسوَّغ شرعاً، فإن من الأمور التي يأمر بها الشرع تقوية الخوف من الله، وهذا من مقاصد الشرع، ولهذا نجد في كثير من الأمور أن الشريعة حرّمت كثيراً من البيوع سداً لذريعة الربا، كما نهت عن ممارسة كثير من الأمور المشتبهات بقصد تقوية الخوف من الله حذراً من الوقوع فيما حرمه، ولهذا فلا ينبغي تتبع حيل المذاهب من أجل تلبية رغبة الناس وإرضائهم، ومن الأمور المؤسفة تتبع الآراء الشاذة والحيل التي وضعها بعض الفقهاء للابتعاد عن تنفيذ أحكام الله وعن مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت الشريعة، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، كما هو حاصل الآن من إجازة عقود تتعارض مع مقاصد الشريعة تلبية لرغبات الناس، ومن الأمور المقررة شرعاً أن هناك تلازماً بين مقاصد الشريعة والنية والعمل، يقول ابن القيم: (فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهو قوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى)، فيبين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له ولا يعصمه من ذلك صورة البيع)(6).
وقد استشهد ـ رحمه الله ـ لما توصل إليه من ارتباط المقاصد بالأفعال بقصة أصحاب الجنة؛ (بأن حرمهم ثمارها لما توصلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، وكذا اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، فلم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك... وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه)، يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فإذا كان فيه منفعة أخرى، وكان الثمن في مقابلتها؟ لم يدخل في هذا. إذا تبين هذا؛ فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته؛ لم يستحقوا اللعنة لوجهين:
أحدهما: أن الشحم خرج بجمله (إذابته) عن أن يكون شحماً وصار ودكاً، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك، فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراه بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: «دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة»؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة البتة، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف، بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال وأزيد منها.
الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه.
ويلزم من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما لُعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه؛ علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة)(1).
? ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل:
التورُّق نوع من البيوع اختُلف في جوازه، فقد منعه كثير من العلماء، كما أجازه بعضهم مع تحفظ وشروط لا بد من توفرها عند التعامل بها، ومن أهمها توفر صيغة البيع الشرعي الصحيح، والبيع ـ كما عرفه الجصاص ـ هو: (تمليك المال بإيجاب وقبول عن تراض بينهما)، ومن هذا التعريف فالبيع الصحيح هو ما تم فيه نقل الملك، وتم فيه القبض، باستثناء بيوع الآجال المرخص فيها، وكان ذلك بعوض على وجه جائز شرعاً(2).(3/154)
والحيل في البيوع تأتي بفقدان عنصر من عناصر صحة البيع؛ إما بفقد التقابض أو التراضي الصحيح، أو عدم الجواز الشرعي في الثمن أو المثمن، ومن هنا تأتي الحيل لتصحيح المعاملة لتأخذ الشكل المباح. يقول ابن قدامة في المغني: (والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً؛ مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب)(3). ويعرّف مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ـ برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة بتاريخ 11 رجب عام 1419هـ ـ التورق بأنه (شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد)، ومن هذا التعريف ندرك شرط تملُّك السلعة وحيازتها بعينها لدى البائع قبل البيع، مع عدم شرائه لها مرة أخرى بأي أسلوب. وهذا البيع نوع من أنواع بيوع المضطر، وقد ورد في مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه، كما نقله ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين)، قال: (سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ... ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن يطعم). وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: (فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة؛ يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما حب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو آخية الربا ـ بوزن قضية، تربط إلى وتد مدقوق تشد بها الدابة ـ، وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. وكان شيخنا ـ رحمه الله ـ يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخِّص فيها، وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه)(4).
والتورق صورة من صور بيوع العينة، فبيع العينة كما عرّفه الفيومي في المصباح بقوله: (العينة بالكسر السلف، واعنان الرجل اشترى الشيء بالشيء بنسيئة، والاسم العينة بالكسر، وفسّرها الفقهاء بأنها بيع الرجل متاعه إلى أجل ثم يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم له، وقيل لهذه البيع عينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً؛ أي نقداً حاضراً)(5)، وقد عرف الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ العينة بقوله: (العينة في الأصل السلف، والسلف يتم بتعجيل الثمن وتعجيل المثمن وهو الغالب هنا، يقال اعنان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء بنسيئة، كأنها مأخوذة من العين (الدنانير والدراهم) وهو المعجل، وصيغت على «فعلة» لأنها نوع من ذلك، وقال أبو إسحاق الجوزجاني: إنها من العين؛ لحاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق)(6).
وهذا التعريف للعينة، والتي قد أجمع علماء المسلمين على تحريمها، ينطبق على بيع التورق، حيث إن القصد من بيع التورق هو الحصول على النقد، فيتم شراء سلعة مؤجلة السداد لبيعها بقصد الحصول على النقد، والإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عندما أجاز التورق في إحدى روايتيه إنما أجازه مع الكراهة، يقول ابن القيم: (وعن أحمد فيه (التورق) روايتان الحرمة والكراهة)، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه (المتعامل في التورق) مضطر. وبالتالي فإن للاضطرار أحكامه، فليس كل من رغب في المال لشراء ما تشتهيه نفسه أو يتوسع في تجارته يعتبر مضطراً، فيتم التعامل بصيغة التورق ليصبح الأمر حلالاً صرفاً، كما يتم الإعلان عنه في الصحف من قِبَل البنوك التي تدعو الناس إلى الاقتراض بأسلوب صيغة التورق، مع عدم الالتزام بقواعد التعامل في التورق وفق ما تمت إجازته من قِبَل أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي، حيث اشترط التملك والحيازة لبائع السلعة لمشتريها من البنك، فهذا الشرط مفقود في التعامل الذي تمارسه البنوك كما سوف نناقشه لاحقاً.
? ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته:
لإدراك علاقة بيع التورق بالربا المعاصر، وأنه وسيلة من وسائل استحلال الربا؛ فإن من الضروري تحديد ماهية الربا وحقيقته؛ حتى يمكن فهم حقيقة اندفاع البنوك لتبني هذا النوع من حيل لاستحلال الربا، وإشاعته، وتيسير أكله وتأكيله ضمن غطاء الإباحة الشرعية، وأنه تعامل تجيزه الشريعة وفق ما أفتت به اللجان الشرعية التي كونتها هذه البنوك. فهذه الصيغة من التحايل لا تختلف عن حقيقة ما تمارسه من تعامل ربوي صرف.
إن مادة كلمة الربا تعني الزيادة والنمو، فقد جاء في لسان العرب بأن الأصل فيه هو الزيادة من ربا المال إذا زاد، فالمعنى اللغوي المجرد يعتبر زيادة في ذات الشيء، وهذا المعنى قد ورد في القرآن الكريم عند الحديث عن الربا في قوله ـ تعالى ـ: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]، وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39].
والزيادة على المال المقرض إنما هو من أجل التأجيل كما أشار إليه أبو بكر الجصّاص في كتابه (أحكام القرآن)، يقول: (معلوم أن ربا الجاهلية إنما هو قرض مؤجل بزيادة مشروطة، وكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله تعالى)(1). وهذا المفهوم يؤكده الإمام الرازي في تفسيره بقوله: (إن ربا النسيئة ـ التأجيل ـ هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق بحاله، فإذا حلَّ طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل)(2).
وهذا المفهوم هو المتعارف عليه في العمل المصرفي، فالسلعة التي يتعامل بها البنك هي النقد، فهو يتجر في النقد، وبالتالي فإن النقد هو السلعة بدلاً من أن تكون مقياساً لأقيام السلع فيما بينها، فأصبح سلعة بذاته، فخرج النقد عن الوظيفة التي من أجلها تم قبوله بين الناس، ولهذا فإن وحدات النقد التي تضاف إلى نفس النقد إنما تتحدد بنسبة من هذه الوحدات مربوطة بالزمن الذي يبقى في ذمة المقترض، وبالتالي فإن مكونات الربا تتمثل في ثلاثة عناصر، هي زيادة على كمية النقد المقدم، وهذه الزيادة تحدد بالمدة، وهذه النسبة من الزيادة شرط في المعاملة، وبالتالي فأي تعامل تتوافر فيه هذه الصفات؛ فهو في حقيقته تعامل ربوي حتى لو سمّي بغير ذلك.
وقد أشار الإمام محمد بن رشد القرطبي في كتابه (بداية المجتهد) إلى أن أصول الربا خمسة، هي:
أنظرني أزدك، والتفاضل، والنسأ، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه.(3/155)
وعندما ناقش موضوع ضع وتعجل، أشار إلى حجة من لم يجز ضع وتعجل، والتي تؤكد حقيقة الربا، بقوله: (وعمدة من لم يجز «ضع وتعجل» أنه نسيئة بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه أنه هل للزمان مقدار من الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمناً، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً)(3). والشاهد من هذا أن الربا يرتبط بالزمن، فالقيمة المضافة على رأس المال ابتداء أو بعد انتهاء مدة القرض مربوطة بالزمن، فالزمن هو مقياس تحديد قيمة النقد باعتباره سلعة يتم بيعها وشراؤها، وهذا هو حقيقة الربا، وسوف نلاحظ عند مناقشة صيغ عقود التورق التي تجريها البنوك لاستحلال أخذ الربا ومنحه؛ أن تلك العقود ما هي إلا وسيلة لأخذ الربا وأكله.
? رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك :
الصيغ التي تتبعها البنوك لتوفير المال للمحتاجين إليه من الأفراد والشركات والمؤسسات، أو لجذب المال لها كبديل للودائع الآجلة التي تمنح عليها فوائد وفق ما يطلق عليه الصيغة الإسلامية للتعامل؛ تفاوتت فيها المسميات التي أطلقتها تلك البنوك مثل «تيسير الأهلي»، و «تورق الخير»، و «برنامج نقاء»، و «التورق المبارك».. وغير ذلك من أساليب الدعاية التي تضلل المتلقي لهذه الإعلانات بما توجهه له من أن ما يتم ممارسته لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. وأن صيغة العمل والمرتكز الذي تدور عليه عملية التمويل واحدة، وهو ما أطلق عليه صيغة التورق، والتي تأخذ شكلية شراء السلع وبيعها من خلال بورصة البضائع العالمية، أو من خلال الاتفاقيات مع عدد من نقاط البيع بالنسبة لما يطلق عليه بطاقة الخير الائتمانية وشبيهاتها من بطاقات الائتمان.
لقد تم التوسع باستخدام صيغة بيع التورق من قِبَل مختلف البنوك، حيث يوفر لها وسيلة جذب لإغراق الناس في الاقتراض والإقراض، وهذا يستدعي مناقشة العقود التي أمكنني الاطلاع على بعضها حتى يمكن التعرف على كيفية التعامل مع صيغة التورق التي تمارس من قِبَل هذه البنوك؛ حتى نتمكن من الحكم على مدى حرمة هذا التعامل، وسيتم مناقشة عقد التورق من جانبين:
الأول: جانب أن يكون البائع للسلعة هو البنك؛ أي أن البنك يقوم بتوفير السيولة النقدية من خلال صيغة التورق تحت مسمى عقد بيع بالتقسيط وبيع المرابحة.
والثاني: أن يكون البائع هو المودع الذي يرغب في إيداع أمواله في البنك وأخذ فوائد عليها، واستخدام صيغة التورق لأخذ الفائدة على المال المودع لأجل.
وفي كلا الحالتين فما يُتبع هو استخدام صيغة التورق من خلال شكلية بيع المرابحة بالأجل لسداد الثمن للبائع سواء للبنك أو للمودع لدى البنك.
أما في حالة قيام البنك بتوفير السيولة للمقترض من خلال بيع المرابحة المقسط ضمن صيغة التورق؛ فإن الإجراءات التي يتم اتباعها لتنفيذ هذه الصيغة من البيع تتمثل في الآتي:
1 - يتقدم طالب التمويل إلى البنك بطلب شراء سلعة بالتقسيط من السلع التي تعرض في سوق البورصة العالمية، والتي قد تم شراؤها من قِبَل البنك وفق آلية السوق المالية للسلع (البورصة)، وفي هذا الطلب يتم الحصول على معلومات عن طالب المال من حيث إمكانياته المالية؛ أي قدرته على السداد من حيث مقدار راتبه الذي سوف يكون المرتكز عليه في تحديد حجم المبلغ الذي سيتم دفعه له ضمن صيغة التورق التي يمارسها البنك بجانب معرفة تعاملاته مع البنوك الأخرى (أي مقدار الالتزامات التي عليه تجاهها) مع تحديد نوع السلع التي يتعامل البنك فيها في سوق البورصة، والتي يتم تداولها يومياً في أسواق البورصة العالمية، ويرفق بالطلب المستندات الثبوتية التي تساعد البنك على تحديد قدرة الطالب على السداد.
2 - وبعد دراسة الطلب يقوم البنك بتحديد عدد وحدات السلعة المباعة عليه ومواصفاتها، وثمن بيعها، ويرتبط تحديد عدد الوحدات التي سوف تباع عليه بقدرته على السداد، وإذا قبل العميل بما عرضه البنك من مقدار التمويل الذي يمكن للبنك منحه إياه؛ يتم توقيع عقد بيع سلعة بالتقسيط وفق ما تطلق عليه البنوك «بيع المرابحة».
3 - يقوم العميل بتوكيل البنك لبيع وحداته التي اشتراها وفق نموذج وكالة؛ يتم بموجبها تفويض البنك في بيع هذه الوحدات المباعة عليه في السوق الدولي، وإيداع المبلغ في حسابه مع تحمله لكل ما يترتب على التغير في السعر وما ينتج عن ذلك من خسارة، وإيداع المبلغ في حسابه لدى البنك.
هذه هي العملية التي يقوم بها البنك من شراء لوحدات في سوق العقود المستقبلية للبضائع (البورصة)، ثم بيعها مرابحة على العميل طالب التمويل، ثم بيعها في سوق السلع الدولية (البورصة) لصالح العميل (المشتري) مع تحمله لتقلبات الأسعار. وفي بعض عقود البيع بالتقسيط لدى بعض البنوك يجمع عقد البيع بالتقسيط مع عقد الوكالة بالبيع في عقد واحد.
بدراسة هذه العقود التي يتم بموجبها توفير النقد للأفراد والمؤسسات؛ وجد في بعضها أن البيع يتم على تملك السلعة المباعة على العميل بموجب ما يسمّى بشهادة التخزين، والتي يشار فيها إلى أن السلعة موجودة في البلد الذي يوجد فيه عادة سوق البورصة الذي يتعامل معها البنك، ويذكر في العقد إجمالي السلع ولا يشار إلى مقدار الربح بل يدخل ضمن مبلغ البيع مع الإشارة إلى أن البيع تم وفق بيع المرابحة. أما بعض العقود فيشار في طلب الحصول على المال حسب صيغة التورق أنه عند الموافقة على طلبه فيتم تحديد مقدار الربح وتكلفة السلعة مع التزامه بتحديد دفعة أولى لضمان جدية الشراء، والتزامه أيضاً بدفع رسوم إدارية لعملاء البنك؛ أي للمودعين. كما أن من ضمن الشروط في بعضها في حالة التأخر في سداد الأقساط؛ التزام المشتري بتعويض البنك عن الأضرار الناتجة عن التأخير، وفي بعضها يتم فرض غرامات عليه يتم احتسابها على أساس نسبة من المبالغ المستحقة مع مدة المطل، ويقوم البنك بصرفها في أوجه البر والخير.
وأما الحالة الثانية؛ فهي حالة معكوسة:
يقوم عميل البنك ببيع سلعة من السلع التي يتم تداولها في سوق البورصة على البنك بأسلوب ما يطلق عليه «بيع المرابحة»، ويتم سداد المبلغ من قِبَل البنك عند حلول الأجل (رأس المال مع الربح) في الحساب الجاري للعميل، ويشترط في العقدين نماذج عرض بيع سلعة، وطلب شراء سلعة، وطلب تعجيل، ووكالة شراء السلعة، وتفويض البنك ببيع السلعة جزء من العقد. وهذه النماذج تحدد الخطوات العملية التي يتم بموجبها قيام العميل بإيداع المبلغ والمبالغ التي يتم بموجبها قيام عميل البنك الذي يتوفر لديه سيولة نقدية ويرغب في إيداعها لأَجَل وأخذ فائدة عليها، ولكن بأسلوب ما أطلق عليه أسلوب التورق بادعاء تجنب الربا.
والإجراءات التي يتم اتباعها في هذه الحالة تتمثل في الآتي:
1 - يوقع العميل على اتفاقية ما يطلق عليه «برنامج نقاء».
2 - يطلب العميل عرض أسعار، ويقدم البنك عرض الأسعار مع تحديد نوع السلعة والعملة والأجل.
3 - يطلب العميل شراء السلعة بعد الموافقة على العرض مع تحديد المبلغ والعملة والأجل.
4 - يقوم البنك نيابة عن العميل بإتمام عملية شراء السلعة من سوق تبادل المعادن الدولي لصالح العميل مع إصدار البنك إيجاباً بشراء السلعة من العميل.
5 - يوافق العميل على بيع السلعة المملوكة له للبنك، ويتم سداده عند الأجل المحدد (المبلغ مع ربحه).(3/156)
6 - في حالة التعجيل بسداد المبلغ؛ يتم ذلك من خلال نموذج عقد تعجيل سداد بعد أن يتم خصم جزء من أو كل هامش الربح مقابل السداد المبكر. أما التملك فهو يتم من خلال تملك المستندات فقط دون الحاجة إلى أن يتم تملكها عيناً، وهذا في جميع عمليات البيع والشراء التي يتم التعامل بها على صيغة التورق في البنوك.
إن جوهر عملية التمويل فيما يعرف بصيغة التورق التي يتم ممارستها من قِبَل البنوك، والتي يتم فيها تداول السلع شراء وبيعاً؛ إنما هي سلع وفق ما يُعرف بسوق المعادن والبضائع الدولي (البورصة)، أو ما يطلق عليه بأسواق العقود المستقبلية؛ أي الاتجار في أوراق ومستندات غير مبنية على أساس الشراء والبيع القائم على أساس الاستلام والتسليم للسلع المباعة؛ أي لا يوجد حيازة تملُّك ولا قبض للسلع المشتراة والمباعة، وإنما يتم التداول حسب وثائق يتم تبادلها ضمن آلية معينة تتولاها بيوت السمسرة، ولهذا نجد أن البنوك التي تستخدم صيغة بيع التورق تحدد السلع في أنواع؛ هي الزنك والبرونز والحديد والصفيح والنحاس والألمنيوم، فالتعامل في البورصة إنما يتم على أساس التعامل في العقود المستقبلية، وما يتم من تداول للسلع إنما يتم على أساس بيع العقود في أسواق عقود السلع، وهي أسواق متخصصة تتعامل في عقود يتم تداولها فيما يعرف بالعقود المستقبلية، وهي عقود تعطي لحاملها الحق في شراء وبيع كمية من أصل معين محدد السعر مسبقاً على أن يتم الدفع والتسليم في المستقبل.
والبورصة العالمية للبضائع قد أبطلت ما كان يُعرف بالسوق الحاضرة؛ أي بالسوق النقدية، حيث يتم فيها استلام السلعة ودفع قيمتها نقداً فور التعاقد، وقد تحوّلت السوق الحاضرة إلى سوق للعقود المستقبلية منذ عام 6681م وحلّت محله السوق المستقبلية.
أما ما يُطلق عليه «شهادة التخزين»، والذي يشار إليها في بعض عقود صيغ التورق بأنها تمثل حصة محجوزة قيمة وكمية خاصة بسلعة لصالح البنك عن طريق السمسار لغرض التصرف فيها مستقبلاً، فهي لا تمثل شهادة من وكيل البنك تثبت فيها وجود سلع تم استلامها من المنتجين وتم تخزينها في مستودعات خاصة بالبنك أو مخازن مؤجرة لصالح البنك تحدد أن هذه السلع خاصة بالبنك، وما هذه الشهادة إلا شهادة يصدرها المنتجون لهذه السلع لبيوت السمسرة الذين يمارسون عمليات إنشاء وتداول العقود في سوق المعادن العالمي (البورصة)، حيث يحدد فيها مواصفات هذه السلع وكمياتها وتاريخ تسليمها، ويتم على ضوء هذه الشهادة تداول العقود بيعاً وشراء، ومن ثم فلا يوجد مجال للتعامل مع السلعة نفسها داخل سوق العقود.
? خامساً: ربوية بيوع التورق كما تجريها المصارف:
من خلال الاستعراض السابق لطبيعة صيغ التورق التي تمارسها البنوك حالياً، والتي أخذت في الانتشار وأصبحت وسيلة لجذب أعداد كبيرة من الناس للاقتراض من البنوك بمختلف الأساليب، سواء فيما يعرف بالتمويل للمتاجرة في سوق الأسهم المحلية، أو العالمية، أو ما يسمونه بتمويل المتاجرة بالأسهم بالمرابحة أو بالسلع، وكلها بيوع يتم فيها البيع بالأجل، وتوفير المال لمن يحتاج إليه، أو حصول البنك على المال من المودعين فيما يطلق عليه بالمضاربة الشرعية في السلع الدولية بالمرابحة، وكذا ما أطلق عليه «برنامج نقاء»؛ إنما هي عقود ووسائل لتحليل الربا ودفع الناس للاقتراض من البنوك، وإيداع أموالهم وأخذ فوائد عليها، وقد أطلقت مسميات توحي بأن هذا التعامل حلال ولا شبهة فيه، مثل «التورق المبارك»، و «التمويل المبارك»، و «الحساب المبارك»، و «بطاقة الخير الائتمانية»، أو «تيسير الأهلي»، وكل هذه الصيغ اتخذت من صيغة التورق نافذة للإقراض والاقتراض بفائدة، وإدخال الناس في دوامة الربا.
وحسب ما تمت مناقشته سابقاً حول علاقة بيع التورق بالحيل الفقهية لتحليل أنواع من البيوع توصلاً لتحليل ما حرم الله، وكذلك مناقشة صيغ العقود المستخدمة من قِبَل البنوك فيما يعرف بصيغة التورق من خلال التعامل مع البورصة العالمية للسلع والأوراق المالية؛ فإن جميع هذه الصيغ من التمويل التي تمارسها البنوك ضمن صيغة التورق؛ إنما هي صيغ محرمة لا يجوز التعامل بها؛ لأنها نوع من أنواع بيع العينة المحرم.
وذلك للأمور التالية:
أولاً: إن عقد التورق الذي أجازه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قد وضع قيوداً على هذا البيع، حيث عرف بيع التورق بأنه «شراء سلعة في حوزة البائع وملكه...»، وما يتم من قِبَل البنوك التي تقوم ببيع سلع يتم تداولها في سوق السلع (المعادن) العالمي (البورصة) لا يتوفر فيها هذا الشرط، فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه البنوك تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى البنك، وأن ما يطلق عليه «شهادة التخزين» لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة تملُّك، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي (البورصة) أن التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقاً مع المنتج؛ على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري. وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها، ولكون هذا التداول إنما يتم على أوراق، وليس حيازة وتملكاً للسلع، فإن بعض تلك البنوك أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكاً للسلع. أما بعض البنوك فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب «شهادة التخزين»، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد، ولتجنب الإلزام ومن أجل ترسيخ التحايل؛ لم يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض البنك بالبيع نيابة عنه، وإنما أشير إلى ذلك في نص الوكالة، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من البنك هي سلع يتم تداولها في سوق السلع (البورصة)، بخلاف بنوك أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة جزءاً من العقد، وهذا الأسلوب هو نوع من التهرب والتضليل ومحاولة إضفاء نوع من صحة البيع، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسده تفسد البيع. ولكن هذا الأسلوب من التحايل لا يغير من حقيقة الأمر.
ثانياً: إن من أجاز بيع التورق من العلماء السابقين، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، فقد أجازه مع الكراهة، وأشير في رواية الكراهة إلى إنه مضطر(1) (أي المتعامل بالتورق). أما الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقد وافق الإمام أحمد في الرواية الثانية بالحرمة، يقول ابن القيم: (وكان شيخنا ـ رحمه الله ـ يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخّص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء سلعة وبيعها والخسارة منها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأول وتبيح ما هو أعلى منه.... ودليل المنع قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع»، وقوله: «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا» رواه أبو داود، وذلك لا يمكن وقوعه إلا على العينة)(2).(3/157)
ولا شك أن أسلوب التورق المتبع من قِبَل هذه البنوك هو بيع العينة بعيَنْه، حيث يتولى البائع (البنك) شراء السلعة من السوق (البورصة)، ثم بيعها على المشتري، ثم بيعها مرة ثانية في سوق البورصة بقصد توفير المال الذي من أجله تمت صياغة هذا العقد، وهذا ما حرّمه ابن عباس، فقد نقل ابن القيم عن محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بحطين في كتابه (البيوع) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: «اتقوا هذه العينة؛ لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة»، وفي رواية «أن رجلاً باع من رجل حريرة بمائة ثم اشترها بخمسين». قال ابن عباس عن ذلك: «دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة»، وسئل ابن عباس عن العينة ـ يعني بيع الحريرة ـ فقال: «إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله ورسوله». وقد روى ابن بطة باسناده إلى الأوزاعي قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع»(3).
فواقع عقود التورق ينطبق على ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنه، حيث إن بيع المرابحة تحت مسمى التورق إنما هو بيع ريالات بريالات بينهما بيع مستندي لسلع لم يتم استلامها ولا تملُّكها، وإنما هي بيوعات مستقبلية في سوق بورصة البضائع، لا يتم فيها قبض للسلع ولا تسليم، وإنما هي بيوع آجلة يتم المضاربة فيها، فهي أشبه بالحريرة كما قال ابن عباس رضي الله عنه.
ثالثاً: بجانب ما روي عن الإمام أحمد في إحدى روايتيه بتحريم مسألة التورق باعتبارها صورة من صور بيع العينة، فقد روي عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ منع العينة بناء على عدم القبض من البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يُتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا(4). وتحريم الوسائل من الأمور التي جاء الشرع بها وقال بها الأئمة، فمن ذلك أن الشافعي ـ رحمه الله ـ يحرم مسألة «مد عجوة (نوع من التمر)»، و «درهم بمد ودرهم»، وبالغ في التحريم خوفاً من أن يتخذ حيلة على نوع من ربا الفضل، فالتحريم للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم «مد عجوة» بكثير، فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل؛ أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء(5) الذي هو الغاية التي تسعى إليها البنوك في تعاملها من خلال التعامل في شراء وبيع السلع في سوق السلع العالمي (البورصة) المستقبلية، فإن مفسدة ربا الفضل في مسألة «مد عجوة» أقل من مفسدة استخدام التورق لاستحلال ربا النسيئة. فلا يتعامل بالتورق إلا مضطر إلى الاقتراض، فالمستغني عنه لا يثقل ذمته بزيادة في شراء السلع مؤجلاً ثم بيعها بخسارة بدون ضرورة وحاجة، وقد روى أبو داود من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك». وقد أوضح ابن القيم أن شراء المضطر للسلعة ثم بيعها لبائعها بأنها العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بين البائع والمشتري، فهو محلل الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر ابن عبد العزيز وقال هو آخية الربا(6)، وتشبيه عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بأن التورق هو للربا بمثابة الحبل الموثق إلى وتد تُربط به الدابة، فالدابة لا يمكن لها الفكاك من هذا الرباط، وكذلك التورق هو مربوط بالربا.
رابعاً: إن استخدام صيغة التورق بالشراء والبيع في سوق البورصة، مع استخدام أسلوب المرابحة في تحديد مقدار الربا الذي سوف يؤخذ على المال الذي سوف يتم إقراضه للأفراد والمؤسسات والشركات، أو اقتراضه من المودعين؛ إنما هو حيلة لأخذ الربا وإعطائه، وتجويز ذلك يتناقض مع ما ورد من النهي عن الحيل لاستحلال الحرام، وهذا التحايل الذي تمارسه البنوك فتح الطريق لأكل الربا وتوسيع نطاقه بين المسلمين، ومعلوم أن الحيل تتناقض مع القاعدة الشرعية، وهو ما يعرف بـ «سد الذرائع»، فالشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل وسيلة ممكنة، والمحتال يفتح الطريق بالحيل، واستخدام صيغة التورق في التعامل مع البنوك من خلال البيع والشراء للسلع في سوق البورصة قد أدى إلى الوقوع في الحرام، يقول ابن القيم: (ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: (لعن الله المحلل والمحلل له)، و (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها)، (لعن الله الراشي والمرتشي)، (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده)، ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهرة.... وآكل الربا مستحله بالتدليس والمخادعة، فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يشمل الربا بالبيع، وذلك يستحل الزنا باسم النكاح، فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب)(1)، وهذه العقود التي تمارسها البنوك لا تعدو في واقع الأمر بأنها حيلة لاستحلال الاقتراض والإقراض بالربا باسم البيع والشراء.
خامساً: من القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي: أن العبر بالمقاصد والنيات، بدليل حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المشهور: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الحديث، ولهذا لا بد من النظر إلى المقصد والغاية من صيغة التورق في تعامل هذه البنوك في حقيقة أمرها، وبموجب التنظيمات التي تحكمها، وبموجب عقود تأسيسها، فإنها مبنية على أساس أن النقود هي مجال عملها، فهي تتاجر في النقود وليست تتاجر بالنقود، كما يمارس من قِبَل الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فهذه البنوك تخضع في أعمالها لأنظمة ومعايير البنوك المركزية، ومن تلك البنوك مؤسسة النقد التي تشرف على أعمال البنوك وفق المعايير الدولية، ومن مجالات الأعمال التي تمارسها هذه البنوك والمبنية على أسس ربوية: المتاجرة بالاستثمارات المالية في الأسواق الدولية، ومن ضمنها المضاربة في سوق السلع المستقبلية (بورصة البضائع)، حيث يتم احتساب أرباح المعاملات التي تمارسها وفق ما أطلق عليه المرابحة في سوق السلع المستقبلية وفق المعادلة الربوية في احتساب الأرباح، والمتمثلة في احتساب الربح على أساس القيمة، والمدة الزمنية للتمويل، ومعدل الربح (نسبة الفائدة).(3/158)
ومن هنا نلاحظ أن صيغة التورق المعمول بها من قِبَل البنوك في توفير التمويل لمن يحتاج إليه؛ إنما هي وسيلة لإيجاد المخرج لاستحلال الربا تحت مسمى الشراء والبيع في السوق الدولية للسلع، فالقصد من بيع المرابحة للسلع التي يتم التعامل بها في سوق المعادن الدولي (البورصة)، ومن ثم بيعها لصالح المشتري من البنك إنما قصد من ذلك استحلال الإقراض أو الاقتراض، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ فيما يتعلق بارتباط المقاصد بالأعمال: (ولعن اليهود إذ توسلوا بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه، وجعل أكل ثمنه لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه..... فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها، ومن لم يراع القصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر (أي عاصر الخمر)، وأن يجوز له عصر العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده الخمر.... وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات؛ كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة، أو صحيحة أو فاسدة)(2)، وقال في موضع آخر: (ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيّلوا على فعل ما حرمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، وأيضاً فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم «الودك»، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك)(3)، وهذا هو واقع ممارسة البنوك لصيغة التورق بالشراء والبيع، وتغير مسمى الربا (الفائدة) باسم الربح في المعاملات التي تجريها البنوك لا ينزع عنها صفة الربا، وأن ما يؤخذ من ربح هو ربا على المال المقرض، وكذا ما يعطى على المال المقترض؛ وإن تغيرت المسميات، وإن عمل عقود باسم بيوع التقسيط أو المرابحة أو شراء السلع وبيعها في سوق السلع المستقبلية (البورصة) لا يغير من طبيعة التعامل ومقصده وغايته.
إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها في نهاية هذه الدراسة هو أن ما يتم من استحلال للربا وتصويره للناس بأنه تورق جائز شرعاً، وأن ما يؤخذ من ربا تحت مسمى المرابحة أو بيوع التقسيط وإطلاق المسميات كالتورق المبارك، وتيسير التمويل، وبرنامج نقاء، وغير ذلك من المسميات؛ لا يغير من حقيقة هذه الصيغ من أن التعامل هو تعامل ربوي محرم لا يجوز للمسلم التعامل به؛ بأي صورة من صور التعامل التي تسعى البنوك إلى تصويرها للناس بأنها صيغ تتوافق مع الشريعة الإسلامية، حتى لو تم الادعاء بأنها قد أجيزت من اللجان الشرعية التي شكلتها تلك البنوك.
-----------------------------------------
(1) المعجم الوسيط، الجزء الأول، ص 802.
(2) الحيل الفقهية في المعاملات المالية محمد بن إبراهيم، ص 32، الناشر الدار العربية للكتاب 1983م، وهي رسالة علمية قدمها صاحبها للجامعة التونسية عام 8791م.
(3) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 252، المكتبة العصرية.
(4) الموافقات، للشاطبي، الجزء الثالث، ص 582.
(5) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 082.
(6) أعلام الموقعين، لابن القيم، الجزء الثالث، ص 321.
(1) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 421 ـ 621.
(2) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 331.
(3) المغني، لابن قدامة، الجزء الرابع، ص 26.
(4) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 281.
(5) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 431.
(6) الفتاوى، الجزء 3، ص 431، طبعة عام 1386 هـ.
(1) أحكام القرآن، الجزء الأول، ص 481.
(2) تفسير الرازي، الجزء الرابع، ص 58.
(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، الجزء الثاني، ص 441.
(1) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 281.
(2) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 281 ـ 381.
(3) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 871.
(4) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 641.
(5) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 741.
(6) أعلام الموقعين، لابن القيم، مرجع سابق، الجزء الثالث، ص 381.
(1) أعلام الموقعين، لابن القيم، مرجع سابق، الجزء الثالث، ص 271.
(2) أعلام الموقعين، لابن القيم، الجزء الثالث، ص 701 ـ 801.
(3) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 421.
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
=============
خلاصة الدروس والفوائد
من درس فضيلة الشيخ / محمد الفراج (فقه البيوع )
* الأصل في المعاملات الجواز إلا ما حرّمه الشارع ، بخلاف العبادات فالأصل فيها المنع إلا ما دلّ الدليل على مشروعيته ؛ لأن الشارع يسد باب البدعة .
والدليل على أن الأصل في المعاملات الحل قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } فاللام في قوله { لكم } للملك .
والدليل على جواز البيع { وأحل الله البيع } وقوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة } وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من بر وصدق » وفي الصحيح عن ابن عمر :« البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن بينا وصدقا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما » .
والإجماع منعقد على جوازه وحله والحاجة قائمة إليه ؛ لأن الإنسان بحاجة إلى ما في يد أخيه والإنسان لا يدفع ما معه إلا بعوض وثمن فشُرع البيع لتحصيل هذا وهذا .
الربا :
السلف رحمهم الله كانوا يطلقون على البيوع المحرمة : الربا ، كما جاء في تسمية الناجش مرابي .
تعريف الربا لغة : له معاني عديدة كلها ترجع إلى الزيادة .
اصطلاحاً : كثرت تعريفات الفقهاء له ، ومن أجمع التعاريف وأشملها ما ذكره الشربيني الشافعي صحب ( مغني المحتاج شرح المنهاج ) حيث قال : عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير البدلين أو أحدهما .
شرح التعريف :
على عوض مخصوص : لبيان أن الربا لا ينهى عنه في كل الحالات وإنما في أموال خاصة وهي التي وجدت فيها علة الربا .
غير معلوم التماثل : فأخرج معلوم التفاضل ومجهول التماثل ؛ لأن الأموال الربوية - كما قال العلماء - حالة مبادلتها لا تخلو من أحوال ثلاثة :
1- إما أن يعلم تماثلها ، مثل : صاع بصاع .
2- أو يعلم تفاضلها ، مثل : صاعين بصاع .
3- أو يجهل التماثل ، مثل : كومة تمر بكومة تمر لم تُكَلْ .
فالثانية والثالثة ممنوعة والأولى هي الصحيحة .
في معيار الشرع : لبيان أنه ليس كل تماثل معتبراً ، فالمكيلات حال بيعها ببعض تباع كيلاً والموزونات حال بيعها ببعض تباع وزناً ، والمعدودات حال بيعها ببعض تباع عداً ، فلا يصح : بيع كيلو ريالات بكيلو ريالات .
حالة العقد : فلو كان التفاضل فيما بعد انتهاء العقد غير مشروط فلا بأس ، مثل : صاع تمر بصاع تمر وبعد مدة زاد أحدهما الآخر صاعاً من غير شرط بينهما فإنه يجوز .
حكم الربا :
الربا حرام بالإجماع (1) وكبيرة من كبائر الذنوب .
دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع .
أقسام الربا :
1- ربا فضل : يعني الزيادة ، مثل : صاعين بصاع .
2- ربا نسيئة : يعني التأخير ، وهو نوعان :(3/159)
أ ) ما يقع في البيع : بيع ربوي بربوي يشتركان في علة مع عدم القبض ، مثل : صاع تمر بصاع بر .
ب ) ما يقع في القرض : قلب الدين على المعسر وهو أقبح وأشد وأفظع أنواع الربا وهو ما يقع في البنوك فيستدين 1000 ثم يقول له إذا حل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي.
ربا الفضل : عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد .
حكم ربا الفضل :
ربا النسيئة بنوعيه حرام ولم يخالف أحد في تحريمه بالإجماع غير من لا يعتد بخلافهم .
أما ربا الفضل فهو أيضاً حرام بالإجماع ولكن صح عن بعض السلف من الصحابة أنه تكلم في جوازه فلما بين لهم حرمته حرموه .
فقد روي عن ابن عمر وابن عباس وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد ولكن الجميع رجعوا إلى القول بالتحريم ، والسبب في خفاء هذا الحكم عليهم :
1- أن ربا الفضل لم يحرم إلا أخيراً وكان من آخر ما نزل الآيات في شأن ربا الفضل فظن ابن عباس أن الفضل لا ربا فيه حتى علم التحريم وهو قد روي عن أكثر الصحابة مثل : أبو هريرة ، عبادة بن الصامت ، أبو سعيد الخدري ، فضالة بن عبيد ، بلال بن رباح ، سواد بن غزية ، عمر بن الخطاب ، وثبت رجوع ابن عباس في مسلم وبوب البيهقي :« باب رجوع من قال من الصدر الأول بجواز الربا ورجوعه عنه أو كما قال .
كيفية تخريج حديث أسامة بن زيد « لا ربا إلا في النسيئة » :
1- من العلماء من ذهب إلى الجمع - وهو الأولى ما دام ممكناً ؛ لأن فيه عملاً بالنصوص كلها - فقالوا : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :« إنما الربا في النسيئة » هذا في حالة ما إذا اختلف جنسه كبر وتمر فهنا لا بأس بالفضل لاختلاف الجنس ويمنع النسأ .
2- من العلماء من قال بالنسخ فقال : في أول الإسلام نزل قوله تعالى { يآ أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } يعني ربا النسيئة .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا ربا إلا في النسيئة » ثم في آخر الإسلام نزل تحريم ربا الفضل في قوله تعالى { يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » .
وهذا قول له حظ من القوة والوجاهة . وإن كان لا يقال بالنسخ إلا عند الضرورة .
3- من العلماء من سلك مسلك الترجيح ، فرجح روايات النهي عن ربا الفضل على حديث ( إنما الربا في النسيئة ) ووجه الترجيح أمور :
أ - أن رواة التحريم أكثر عدداً وأكثر حفظاً منهم : أبو هريرة وأكبر سناً وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف حديث أسامة فإنه لم يروه إلا أسامة .
وابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إلا بضعة عشر حديثاً وقيل : بضعاً وثلاثين وأكثر أحاديثه مراسيل صحابة .
ب - أن التحريم نقل عن البراءة والتحليل بقاء على البراءة وإذا تعارض المبقي على البراءة والناقل عن البراءة قدمنا الناقل عن أصل البراءة ؛ لأنه أبرأ في الذمة وأحوط في الديانة .
جـ - أن حديث أسامة دل على إباحة ربا الفضل بالمفهوم وحديث عبادة وأبي سعيد « لا تبيعوا الذهب بالذهب » دل على التحريم بالمنطوق والقاعدة : أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم قدمنا المنطوق .
وبهذا يتبين ويزول الإشكال وأنه لا مستمسك لأحد في حديث أسامة .
من وجوه الجمع :
من العلماء من قال : القصر هنا ليس قصراً حقيقياً وإنما هو إضافي ؛ لأن الحصر والقصر منه حقيقي ومنه إضافي فالحقيقي مثل : لا إله إلا الله ، والإضافي ما سيق على سبيل المبالغة مثل : لا عالم إلا ابن باز فهنا القصر إضافي وليس حقيقي ؛ لأن هناك علماء آخرون ولكن هذا مسوق على سبيل المبالغة .
وهنا : إنما الربا في النسيئة يعني ليس قصراً حقيقياً وإنما هو إضافي : يعني : الربا الأشد والأعظم والأشنع هو النسيئة ربا الجاهلية وهناك ربا محرم لكنه دونه في التحريم وإن كان محرماً وهو ربا الفضل .
مسألة / الأموال التي يجري فيها الربا :
نصت الأحاديث على ستة أنواع من الأموال كما في حديث عبادة عند مسلم :« الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » فهذه الأموال مما يجري فيها الربا بالإجماع .
مسألة / هل يجري الربا في غير هذه الأنواع أم لا ؟
الجمهور : على أنه يجري في غيرها وأنه نبه بها على غيرها وذكرت تمثيلاً لا حصراً .
قال الجمهور : إن الربا في الأموال الستة معلل بعلة متى ما وجدت في غير هذه الأموال قسناها عليها وعدي الحكم إليها ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
وخالف بعض الفقهاء فقالوا : لا يجري الربا في غير هذه الأصناف الستة فقط لا غير ، وهو مروي عن قتادة وطاووس وأهل الظاهر وأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي .
وهؤلاء المخالفين انقسموا في تعليل قولهم إلى قولين :
1- فقال الظاهرية : لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها ولو كان يريد غيرها لذكر العلة فلما عدد عرفنا أنه يريد الحصر ، وهم يمنعون القياس ولا يقولون به .
وأما الآخرون فقالوا بالقياس ولكنهم عللوا قصر الربا على الأصناف الستة بقولهم : لم نر علة واضحة بينة ، ووجدنا الأقوال الأخرى متضاربة فجعلنا العلة قاصرة غير متعدية واشتركوا في القول بأن الربا لا يجري في غير الأصناف الستة .
وقول الجمهور هو الصحيح ، والدليل على هذا :
1- ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم أنه قال :« الطعام بالطعام مثلاً بمثل » فأتى بـ ( ال ) التي تدل على العموم فنبه على علة وهي الطعم .
2 - حديث النهي عن المزابنة ولعل هذا الحديث أصرح الأدلة ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة .
المزابنة عرَّفها راوي الحديث ابن عمر - والراوي أعرف بما روى - فقال : أن يبيع ثمر حائطه بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان طعاماً أن يبيعه بطعام كيلاً نهى عن ذلك كله .
يعني : يبيع الرطب الذي على رؤوس النخل بتمر كيلاً فيقدره مثلاً بـ 10 آصع ثم يبيعه بـ 10 آصع من تمر فهذا ممنوع ؛ لأنه مجهول التماثل والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
فالشاهد من الحديث : قوله « وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً » فهذا في الحديث أدخل نوعاً وهو الزبيب والعنب فدل على أن الربا لا يقتصر على الستة أنواع فقط .
بل كل ما كيل أو وزن من المطعومات ولذل قال ( كيلاً ) للتنبيه على العلة .
3- آثار رويت عن بعض الصحابة ، مثل : ما روي عن عمار بن ياسر أنه قال : إنما الربا في النسيئة إلا ما كيل أو وزن ، يعني : وفيه ربا فضل .
فأعطى علة عامة وهي الكيل والوزن .
وبهذا يترجح قول الجمهور بأن الربا يجري في غير الأصناف الستة مما وجد فيه علتها فلا بد أن نعرف العلة في الأصناف الستة التي حرم الربا لأجلها حتى نطبقها على الأموال الأخرى فنجري الربا فيها ، وهذا ما سنتطرق إليه في المسألة التالية .
مسألة / العلة التي حرم الربا لأجلها :
حصل خلاف طويل عريض بين الفقهاء ولكن نذكر أشهر الأقوال ونخلص إلى القول الراجح ، فنقول : إن الأموال التي نص الحديث على دخول الربا فيها ستة أنواع ، وهذه الأنواع الستة تنقسم إلى قسمين :
1- أثمان ، وهي الذهب والفضة .
2- مطعومات ، وهي : البر ، الشعير ، التمر ، الملح .
أجمع القائلون بتعليل الربا على أن العلة في النقدين غير العلة في المطعومات الأربع .
أولاً النقدان :(3/160)
نظر الجمهور فيهما لماذا حرم الربا فيهما ؟ فقالوا أقوالاً كثيرة ، ولكن القول الراجح فيها : مطلق الثمنية .
لأن الشارع أراد أن تكون أثماناً بحيث لا تقصد لذاتها – لأنها لو قصدت لذاتها لحصل الربا – فأراد أن يبثها ويفرقها في الناس ويفتتها فتكون وسيلة للتعامل وحصول الأشياء . حتى لا يؤدي تراكمها بيد معينة كما يحصل الآن عند المرابين .
وهذا قول المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة اختارها الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ورجحته هيئة كبار العلماء .
فعلى هذا ننقل العلة فنقول : كل مال وجدت فيه العلة حرم فيه الربا قياساً على النقدين حتى قال الإمام مالك – كما في المدونة - : لو تواضع الناس على أن يجعلوا الجلود أثماناً لكرهت الربا فيها . وهذا من فقه الإمام رحمه الله فإنه ما علم أنه سيأتي زمان الورق الذي هو أرخص الأشياء سيتخذ أثماناً .
فإذاً نقيس كل مال استعمل ثمناً جرى فيه الربا قياساً على النقدين ، فالريال يستعمل ثمناً فيجري فيه الربا وكذا كل العملات .
ثانياً : المطعومات ( البر ، الشعير ، التمر ، الملح ) :
أيضاً اختلف فيها العلماء في استنباط العلة فيها على أقوال عديدة ولكن أشهر الأقوال :
1- أن العلة فيها الكيل والوزن فقط ، فكل مكيل أو مووزون جرى فيه الربا قياساً على هذه المطعومات الأربع .
قالوا : نظرنا لهذه المطعومات الأربع فوجدناها مكيلة ، وأما الموزون فمن نصوص أخرى كما في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أنكر على الرجل الذي باع صاعين بصاع من تمر جيد قال الراوي كما في الصحيحين : وقال في الميزان مثل ذلك .
وكذلك قول عمار : إلا ما كيل أو وزن ، فالوزن مثل الكيل .
فكل مكيل أو موزون جرى فيه الربا سواء كان مطعوماً كالبر والملح والتمر وكاللحم أو غير مطعوم كالصابون والأشنان والحديد والرصاص ، وهذا مذهب الحنفية والمعتمد عند الحنابلة وقول بعض التابعين ، فهؤلاء وسعوا الدائرة .
2- أن العلة فيها هي الطعم فكل ما كان مطعوماً جرى فيه الربا ، ودليلهم حديث عمر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« الطعام بالطعام مثلاً بمثل » وقالوا : كما شرّف الشارع الثمنين وأراد أن تكون وسائل كذلك شرّف الأطعمة لئلا يحصل احتكارها فنهى عن الربا فيها .
وهذا قول الشافعية ورواية قوية عند الحنابلة .
وقالوا : العبرة بالطعام سواء كان مكيلاً أو موزوناً كالتمر والملح والبر واللحم والدهن والعسل أو غير مكيل ولا موزون يعني معدود مثل البطيخ والتفاح والكمثرى .
وهذا قول واسع .
3- أن العلة فيها هي الكيل والوزن مع الطعم ، وهو قول وسط بين القولين السابقين وضيقوا الدائرة قليلاً ولم يوسعوا الربا فسهلوا على الناس .
فيجري الربا في كل مكيل مطعوم أو موزون مطعوم ولا يجري الربا في المكيل غير المطعوم كالصابون ولا الموزون غير المطعوم كالحديد والرصاص ، ولا يجري في المطعوم غير المكيل ولا الموزون كالمعدود مثل البطيخ وغيره .
وهؤلاء أقرب إلى الدليل ؛ لأنهم جمعوا بين الأدلة ولم يفرقوا بينها وهذا قول قوي عند الحنابلة وقول الشافعية في القديم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والموفق والرأي الذي استقرت عليه هيئة كبار العلماء وهو الراجح إن شاء الله .
وعلى هذا فكل ما وجدت فيه العلة من غير الأصناف الأربعة مما هو مطعوم مكيل أو مطعوم موزون جرى فيه الربا مثل العنب الزبيب اللبن اللحم قوالب السكر .
مسألة / القاعدة في جريان الربا بنوعيه :
قبل هذه القاعدة نذكر أموراً :
يجب أن تعلم أولاً أنه لا يوجد عندنا إلا ثلاث علل للربا فقط وليس في الدنيا غيرها :
1- الأثمان .
2- المكيل المطعوم .
3- الموزون المطعوم .
ويدخل تحت العلة أجناس وتحت الجنس أنواع وتحت النوع أفراد مثال : الريال السعودي جنس وتحته من أنواعه الورقي والمعدني وتحت الأنواع أفراد يعني ريال وريال .
هذا في الأثمان .
وفي المكيل المطعوم تحت هذه العلة أجناس كالتمر والبر والشعير إلخ ، وتحت كل جنس أنواع فالتمر تحته : سكري ، برني ، خلاص ، وتحت النوع أفراد يعني تمرة وتمرة وتمرة .
وفي الموزون المطعوم تحت هذه العلة أجناس ، مثل : اللحم ، وتحته أنواع : البقر ، الغنم ، والنوع أفراد ، وهكذا .
بعد هذا نأتي إلى قاعدة جريان الربا ، فنقول :
* إذا اتحد الجنس فإنه يجري نوعا الربا : الفضل والنسأ .
فإذا بعتُ مالاً من جنس واحد ولو من نوعين حرُم الفضل والنسأ مثل تمر سكري بتمر خلاص ، فلا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد .
* إذا اختلف الجنس واتحدت العلة فإنه يجوز الفضل ويحرم النسأ .
مثل : ريال بدولار فإنه يجوز التفاضل ولا بد من التقابض .
* إذا اختلفت العلة فإنه لا يجري الربا في النوعين .
بمعنى أنه يجوز التفاضل والنسأ مثل : تمر بريال فلا بأس من التفاضل والتأخير .
* ومن باب أولى إذا بعت ربوي بغير ربوي فإنه لا يجري الربا في النوعين .
كالمعدودات كسيارة بريالات فلا بأس هنا بالفضل والتأخير فيها .
مسألة / ما يصلح المطعوم :
ذكرنا أن كل مطعوم مكيل أو موزون يجري فيه الربا ويقاس عليه غيره مما لم يذكر .
ومثل المطعوم ما يصلح المطعوم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أطعمة وهي : البر والشعير والتمر ، وذكر ما يصلح المطعوم وهو الملح فيقاس المطعوم على المطعوم فنقيس الذرة والرز والدخن على المطعومات .
ويقاس ما يصلح المطعوم على ما يصلح المطعوم ، فنقيس البهورات والكمون والفلفل على الملح ؛ لأنها تصلح المطعوم .
مسألة / بيع المكيل والموزون بجنسه :
في ربا الفضل لا يجوز أن تبيع مكيلاً بجنسه إلا كيلاً مثل تمر بتمر فلا يجوز أن تبيعها وزناً ولا عداً ؛ لأن الشارع حدد في الربويات الكيل لأنها قد تتساوى وزناً ولا تتساوى كيلاً .
ولكن إذا بعت المكيل بغير جنسه فلا يحجر الشارع عليك سواء بعتها وزناً أو كيلاً أو عداً كتمر ببر أو بأي طريقة .
وهكذا لا يباع الوزن بجنسه إلا وزناً كذهب بذهب فلا يباع كيلاً ولا عداً .
مسألة / هل هناك تأثير للجودة والرداءة أو القدم والحداثة في باب الربا؟
أجمع العلماء على أنه لا تأثير للجودة والرداءة أو القدم والحداثة في باب الربا بمعنى أنك إذا بعت تمراً جيداً بتمر رديء فإنه لا يعفيك الشارع من المماثلة وحديث بلال في الصحيح صريح في المسألة .
وكذلك إذا أراد الإنسان تغيير ذهب زوجته القديم بذهب جديد فإنه أيضاً لا بد في ذلك من التماثل دون النظر في هذا للقدم والحداثة .
وهكذا إذا أتى بذهب مكسر أو تبر وأراد أن يشتري به ذهباً مصنعاً فإنه لا يجوز التفاضل في هذا مقابل الصنعة .
والحل الصحيح والشرعي في جميع هذه الحالات : أن يبيع القديم بدراهم ثم يشتري بالدراهم ما يريد من الجديد سواء كان تمراً أو ذهباً أو غير ذلك كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً في الصحيح في قصة خيبر .
مسألة / الريال الورقي والمعدني :
قلنا سابقاً أن الجنس إذا اتحد فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً بل لابد في ذلك من التماثل والتقابض ولو اختلف النوع .
وهنا مسألة مشهورة في هذا المقام وهي : بيع الريال الورقي بمعدني أو المعدني بورقي متفاضلاً فقد أفتى بجواز ذلك بعض المشايخ والصحيح عدم الجواز ؛ لأن هذا من قبيل اختلاف النوع لا الجنس .
حجة المجيزين : ومنهم الشيخ ابن جبرين حفظه الله تعالى فقد أجاز تسعة معدن بعشرة ورق فهم نظروا إلى أنهما جنسان لا نوعان مثل : فضة وذهب وبر وتمر فلما اختلفا في الجنس جاز الفضل حسب القاعدة .(3/161)
وقالوا : جنس الورقي يختلف عن المعدني فالورقي : الفأر يخرقها والنار تحرقها والماء يتلفها وتلك لا ، فهي جنس آخر .
ولو فرضنا أن عندك ملء غرفة من الريال المعدني وأخرى من الورقي ثم سحب السلطان الثقة والتعامل بها ، فالحديد يمكن أن تصهر وتستعمل معادن وأواني وغير ذلك .
لكن الصحيح أن دليلهم هذا لا يستقيم فنقول : أنه لا قيمة للريالات من حيث هي معدن أو ورق فلا قيمة لها بذاتها وإنما قيمتها معنوية واكتسبت قوتها مما يسمونه بالقوة الشرائية وثقة التعامل بها في الأسواق ولذلك لا تختلف قيمة الورقي عن المعدني فكلاهما يشتري لك علبة مرطبات .
فالصحيح أنهما ليسا جنسين وإنما هما جنس واحد داخلان في جنس الريال لكن الاختلاف في النوع وهذا القول أبرأ في الذمة وأحوط في الديانة وفيه سد للذريعة أيضاً .
مسألة / بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما غيره :
قال العلماء : لا يجوز بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كما لو بعت ذهباً مرصعاً بأحجار كريمة بذهب خالص فإنه لا يجوز ؛ لأنه يخل بالتماثل في الوزن.
وفي هذه المسألة حديث صريح عند مسلم وهو حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه فإنه لما فتحت خيبر جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز وذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشتراها بدنانير ذهبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تباع حتى تفصل ) وفي رواية ( فرده حتى ميز بينهما ) ؛ لأن هذا يخل بالتماثل فإنك لو نزعت الخرز لوجدت أن هذا يزيد قليلاً .
وهذه المسألة لها صور كثيرة ذكرها العلماء رحمهم الله فقالوا : إنه لا يجوز بيع بر ببر مطحون ولا النيئ بالمطبوخ ولا الدقيق بالحب ولا الخالص بالمشوب لعدم المماثلة في كل هذه الصور .
مسألة / المزابنة :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهي مأخوذة من الزبن وهو الدفع ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه لإتمام الصفقة . وتعريف المزابنة هو : بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر على الأرض . فنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم لعدم العلم بالتماثل .
ورخص الشارع في صورتين من المزابنة تسمى العرايا أو العرية سميت بذلك من العري لأن البائع يترك النخل يعني يعريها للمشتري أو من الاعتوار وهو التكرر والتداول لأن هذه النخلة اختلفت عليها أيدي الملاك .
وهي نفس صورة المزابنة بيع رطب بتمر وأرخص الشارع فيها لحاجة الفقراء لها .
وصورتها : أن يكون هناك من الفقراء من يكون عنده تمر قديم من السنة الماضية ثم إذا جاء موسم الرطب اشتاقت نفسه للرطب الجني الجديد الطري وليس عنده دنانير أو دراهم أو شيئاً يشتري به غير هذا التمر القديم .
فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء للحاجة أن يشتروا بالتمر رطباً فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وأرخص في العرايا يأكلها أهلها رطباً .
ويشترط في المزابنة حتى تكون عرية جائزة شروطاً خمسة :
1- أن تكون لمحتاج إلى الرطب ( فقير ) .
2- أن لا يكون عنده ثمن آخر غير التمر القديم .
3- أن يكون فيما دون خمسة أوسق فهذه هي الحاجة وأما إذا زاد عليها فإنه يكون أراد بها المتاجرة لا الأكل ، والوسق ستون صاعاً .
4- التقابض ، فيشترط التقابض ولا يجوز التأخير ويحصل القبض في هذا التمر بكيله وفي الرطب الذي على رؤوس النخل بتخليته .
5- الخرص ، وهو الاجتهاد والتخمين فيجتهد غاية الاجتهاد في تقدير الرطب الذي على رؤوس النخل ويستعين بأهل الخبرة لمحاولة المقاربة بأكبر صورة ممكنة فإذا قالوا : إن الرطب يساوي 40 صاعاً فيعطيه 40 صاعاً من التمر القديم ؛ لأنه لما فات يقين المماثلة فإنه يجتهد في المقاربة من المماثلة غاية الإمكان .
مسألة / ضابط المكيلات والموزونات في باب الربا :
قد تقدم في مسألة سابقة أنه لا يجوز بيع المكيل بمكيل آخر إلا كيلاً ، وكذلك الموزونات لا تباع ببعضها إلا وزناً وهذا في الربويات إذا بيع بعضها ببعض .
فكيف نعرف المكيل والموزون في باب الربا ؟
المرجع في معرفة المكيل والموزون من الأطعمة إلى عرف أهل الحجاز على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما تعارفوا عليه في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم أنه طعام مكيل فهو مكيل أبداً ، وما تعارفوا على أنه موزون فهو موزون أبداً ، وما تعارفوا على أنه معدود فهو معدود أبداً لا يجري فيه الربا .
فمثلاً عرف الحجاز في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن التمر مكيل فهو مكيل يجري فيه الربا . واللحم موزون يجري فيه الربا ، والتفاح عندهم معدود فلا يجري فيه الربا ولو بيع هذا الزمان وزناً ! لأنه في عرف الزمان الأول معدود .
والدليل على ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم :« المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة » رواه مالك والنسائي بسند صحيح عن ابن عمر ، وفي رواية :« الوزن وزن أهل مكة والكيل كيل أهل المدينة » وفي رواية العكس وهذا لا يؤثر ؛ لأن المكيل عند أهل مكة هو المكيل عند أهل المدينة وكذلك الوزن .
ولكن أكثر الروايات نسبت الكيل للمدينة والوزن لمكة ؛ لأن أهل مكة يغلب عليهم التجارة فيستعملون الوزن كثيراً ، وأهل المدينة أهل حرث وزرع فيستعملون الكيل كثيراً.
وأما الذي لا عرف له عندهم كالبرتقال والطماطم والرز فيرجع فيها إلى عرف الناس فما تعارف الناس على أنه مكيل فهو مكيل وما تعارفوا على أنه موزون فهو موزون وما تعارفوا على أنه معدود فهو معدود لا يجري فيه الربا .
وإذا اختلفت الأعراف كأن يكون هناك ناس يبيعونه كيلاً وآخرون يبيعونه وزناً وآخرون يبيعونه عداً فإنه يُقضى بالعرف الغالب .
وإذا لم يكن هناك عرف غالب يرجع إلى القياس فيقاس الشيء بنظيره على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فمثلاً الرز هناك من يبيعه كيلاً وهناك من يبيعه وزناً لكن إذا تأملنا فيه وجدنا أنه : قوت تستقيم به بنية الآدمي ، ولا تفسد بالاقتصار عليه ، ووجدنا أنه أقرب إلى الذرة وأقرب إلى الشعير فنقيسه به ونقول بجريان الربا فيه .
واجتهد الفقهاء في حصر كثير من الأطعمة ومرجعها إلى كتب الفقه فيرجع إليها .
ربا النسيئة نوعان :
1- ما يقع في البيع : يقع في كل مالين اتحدا جنساً كتمر بتمر ، أو اتحدا علة كتمر بشعير كلاهما مكيل .
والدليل عليه : قوله تعالى { وحرم الربا } وهذا داخل فيه .
وقال عليه الصلاة والسلام :« إنما الربا في النسيئة » يعني : الأشد تحريماً .
وقال عليه الصلاة والسلام :« فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
وقال عليه الصلاة والسلام :« ولا تبيعوا غائباً منها بناجز » .
مسألة / المصارفة بين عين ودين :
صورتها : لو اقترضت من زميلك جنيهاً مصرياً في مصر ثم لما رجعت إلى الرياض طلب منك زميلك الجنيه ولم يكن معك إلا ريالات فهل يجوز أن تعطيه ريالات ؟ وهل تصارفه بسعر الجنيه في يوم القرض أو بسعر الجنيه في هذا اليوم ؟
جاء في هذه المسألة حديث رواه أبو داود وبعض أصحاب السنن وهو صحيح وإن كان ضعفه ابن حزم لكن الصحيح أنه ثابت كما ذكر النووي وغيره .
والحديث : أن ابن عمر كان يبيع الإبل يقول : كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدنانير – يعني الذهبية – ونأخذ عنها الدراهم – يعني الفضية – ونبيعها بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير .(3/162)
قال : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت : يا رسول الله رويدك أسائلك إنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير ونبيعها بالدنانير ونأخذ عنها الدراهم فقال : لا بأس أن تبيعها بسعر يومها إذا تفرقتما وليس بينكما شيء .
فأجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرطين :
1- أن تصرف الجنيه المصري بسعره الآن ؛ لأنه إلى هذه اللحظة والذي في ذمتي له جنيه مصري فأعطيه هذا الجنيه المصري فلو قال : هذا حيف ، فأقول : الواجب في ذمتي جنيهاً مصرياً فإن شئت أعطيتك الجنيه فاصرفه بما شئت فلن تجد إلا ريالين .
2- إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ، يعني تُقْبِضُه الريالات كاملة في المجلس لئلا يحصل ربا النسيئة لأنك إذا صارفت ربوياً بربوي من علة واحد فلا بد من التقابض يداً بيد .
قد يقول قائل : الجنيه المصري الذي في الذمة غير مقبوض مع أن الحديث يقول : لا بد من التقابض يداً بيد ؟!!
والجواب : أنه لا يعتبر القبض في الساقط ، فالدين الساقط لا يلزم فيه القبض ؛ لأنه في حكم المقبوض لكن الذي يشترط فيه القبض في الواجب ولذلك في مثالنا السابق لما وجب له ريالات سعودية اشترط الشارع تسليمها كلها .
فإذاً يجوز المصارفة بين عينين كريال حاضر بدولار حاضر ويشترط التقابض في الجميع ، وبين دين وعين كدينار في الذمة بريال حاضر ويشترط التقابض في الحاضر ، وأما الدين الغائب فهذا ساقط والساقط لا يشترط فيه القبض لأنه في حكم المقبوض .
والصورة الثالثة : مصارفة بين دينين .
مسألة / المصارفة بين دينين (2):
صورتها : إذا وجب في ذمتي لزيد 10 دنانير كويتية ثم وجب في ذمته لي 120 ريالاً سعودياً فهل يصح أن نتصارف في الذمتين ؟
يصح ذلك بشرط أن يكون بسعر اليوم وأن يكون التفرق وليس بينكما شيء في الذمة .
ففي المثال السابق يحسب كم يساوي الدينار الكويتي من ريال سعودي بسعر اليوم فنقول مثلاً يساوي 120 ريالاً وأنا أريد منه 120 ريالاً فيتقابل الدينان ويتساقطان .
قد يقول قائل : لم يحصل التقابض والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : يداً بيد ؟
فنقول : الساقط لا يشترط فيه القبض وإنما يشترط القبض في الواجب يعني الذي ثبت في الذمة وهو الذي يُسَلَّم لكن الذي يسقط من الذمة لا يشترط فيه القبض .
لكن إذا لم يتقابلا في القيمة وحصل فرق لأحد الدينين فالفرق لابد أن يدفع ولا بد أن يسلَّم في المجلس ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « ما لم تتفرقا وليس بينكما شيء » .
وبهذا نكون انتهينا من الجزء الأول وهو ربا النسيئة الواقع في البيع وبقي الجزء الثاني وهو ربا النسيئة الواقع في القرض .
القسم الثاني من ربا النسيئة الذي يقع في القرض :
هذا هو أشنع الربا وهو ربا الجاهلية الذي لعنه ا لله ومقته وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ووضعه تحت قدميه وقال :« ألا إن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب » فأشنع أنواع الربا ربا النسيئة الواقع في القرض وهو ربا البنوك اليوم .
مسألة / ضع وتعجل :
صورتها : زيد له في ذمة عمرو 1000 ريال تحل في رمضان ، فاحتاج زيد وجاء إلى عمرو وقال : اقضني الدين الآن وقَدِّم الأجل من رمضان وسلمه لي الآن وأسامحك من 200 ريال .
المسألة فيها قولان لأهل العلم ، والصحيح الجواز .
والذين تكلموا بالمنع اعتمدوا على أحاديث لا تصح رويت عن بعض الصحابة والصحيح أن هذه الأحاديث لا تثبت فلا يحتج بها .
وأيضاً قال المانعون : قياساً على ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) بجامع أنه جعل للأجل حصة في كل من المعاملتين .
لكن القول الصحيح وهو قول الأكثرين : الجواز .
والدليل على ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير قالوا له : يا أبا القاسم إن لنا على الناس ديوناً لم تحل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« ضعوا وتعجلوا» وهذا الحديث أصح من أحاديث المنع .
وأما ما ذكروه من التعليل فهو ممنوع ؛ لأن الممنوع أن يجعل للأجل حصة على حساب المقترض وهنا جعل للأجل حصة لمصلحة المقترض ، والشرع دائماً إلى جانب الضعيف والمقترض في الغالب هو الضعيف .
مسألة / بيع النخل والشجر عموماً :
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :« من باع نخلاً قد أُبِّر فثمرته للبائع الذي باعه إلا أن يشترطه المشتري » رواه البخاري ومسلم .
معنى التأبير : التلقيح ، فيؤخذ طلع الذكر فيوضع في طلع الأنثى .
منطوق الحديث : إذا بيعت النخلة المؤبرة فالثمرة تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري ويجب حينئذ على المشتري أن يبقي الثمرة إلى أوان صلاحها ليأخذها البائع ولا يلزمه المشتري بجزها الآن لأنه لا يستفيد منها قبل صلاحها .
والسقي يكون على البائع ولا يمنعه المشتري من سقيها وتعاهدها .
وقال جمهور الفقهاء : إن المراد بالتأبير : التشقق – وهي مرحلة قبل التأبير – وقال الجمهور : إن الحكم مربوط بالتشقق ، فإذا بيعت النخلة المتشقق أكمامها فالثمرة تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري .
واعترض عليهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« التأبير » ومعنى التأبير التلقيح .
فأجابوا : أن المراد هو التشقق وإنما عبر بالتأبير ؛ لأنه لازم للتشقق .
والصحيح القول الأول وهو التأبير وقال بهذا الظاهرية وشيخ الإسلام وقال : الرسول يقول : قد أبرت ونحن نقول قد تشققت ؟ إنما نربط الأمر بالتلقيح وليس مجرد التشقق .
وهو المناسب من ربط الحكم به ؛ لأنه إذا تشقق فليس للبائع عمل فيه حتى يستحقه لكن إذا أبره البائع فإن النماء يكون له لأنه بذل جهداً ومالاً فيه فيستحقه .
مسألة / اشتراط البائع للثمرة :
إذا بيعت النخلة قبل التأبير فإن الثمرة للمشتري فهل للبائع أن يشترط الثمرة كما اشترط المشتري الصورة السابقة ؟
قيل : له أن يشترطها لأنه أحد المتبايعين .
وقيل : ليس له أن يشترطها لأنه عقد على الثمرة قبل بدو صلاحها .
والصحيح : أن له أن يشترطها لأنه ليس بيعاً وإنما استثناء من البيع والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم .
مسألة / حكم غير النخل :
وغير النخل كالنخل ، فأشجار العنب وأشجار التين والتفاح والموز تقاس على النخل فإذا بيعت الشجرة قبل تلقيح الثمرة فالثمرة تكون للمشتري وإذا بيعت بعد التلقيح فالثمرة للبائع .
مسألة / ربط الحكم بالتلقيح ، والعمل في الأشجار التي لا تلقح ؟ :
بعض الثمار حساس جداً حتى إنه تكفي الريح في تلقيحه ولا يلقحه الشخص ولذلك تكثر الرياح في الصيف وهذا من آيات الله وأحياناً يلقح النحل من خلال تنقله بين الأشجار فيأخذ من هذه ويضعها في الأخرى .
فهناك من الثمار ما لا يحتاج إلى تلقيح بيِّن كالتفاح وهناك ما يحتاج إلى تلقيح من قبل الإنسان كالتمر ولو لم تلقح لخرجت شيصاً .
فهذه الثمار التي لا تحتاج إلى تلقيح نربط الحكم فيها بالتشقق فإذا تشققت فالثمرة للبائع وإذا بيعت قبل التشقق فالثمرة للمشتري .
وأما الثمر الذي لا يتشقق ويظهر ظهوراً كالتين والعنب فهذا إذا بيعت الشجرة قبل الظهور فالثمرة للمشتري وإن بيعت بعد الظهور فالثمرة للبائع إلا أن يشترطها المشتري .
مسألة / بيع الثمرة :
في المسألة السابقة تكلمنا عن بيع الأصل وهو النخلة أو الشجرة والآن نتكلم عن بيع الفرع وهو الثمرة كالتمر والعنب وغيرها .
هذه لها أحكام كثيرة ولها صور ممنوعة كثيرة وصور جائزة فيستحسن أن نفصل فيها تفصيلاً لابد منه :
أولاً : إما أن تباع الثمرة (3) مع أصلها أو بدون أصلها .(3/163)
فإذا بيعت مع أصلها فلا نسأل ولا نفصل ؛ لأنها حينئذ تكون تابعاً و ( التابع تابع ) ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في الأصول .
وأما إذا بيعت الثمرة دون أصلها ، فننظر : إما أن تكون بيعت بعد بدو صلاحها أو قبل بدو صلاحها .
فإن بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها جاز على كل حال ، يعني : جاز بيعها مطلقاً وجاز بيعها بشرط القطع في الحال ، وجاز بيعها بشرط التبقية يعني التبقية على النخل حتى يصرفها شيئاً فشيئاً حتى لا تفسد على المشتري .
أما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها ، فلا يخلو الأمر من ثلاثة تقاسيم :
1- إما أن تباع مع أصلها .
2- أو لمالك أصلها .
3- أو لغير مالك أصلها .
فإن بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها مع أصلها فالحكم الجواز ؛ لأنه تابع للأصل ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في الأصول والقاعدة الفقهية المقررة أن : ( التابع تابع ) .
أما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها لمالك أصلها - وصورتها أن يبيع النخلة بعد أن أبرها فينتقل الأصل للمشتري وتبقى الثمرة للبائع ثم يبدو للبائع أن يبيع النخلة لصاحب النخلة - فهل يجوز له ذلك أو لا يجوز ؟ قولان لأهل العلم .
من الفقهاء من قال : لا يجوز استصحاباً للنهي الشديد عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .
ومن الفقهاء من قال : يجوز ؛ لأنها صارت كالتابع في الصورة السابقة ولأنه يحصل التسليم للمشتري على وجه الكمال .
وهما قولان قويان ولكن النهي شديد كما يقول الإمام أحمد فلذلك وإن كان التعليل قوياً فلا اجتهاد مع النص فالأولى أن نقف حيث نهانا النبي صلى الله عليه وسلم ونقول : لا يجوز ؛ لأنه منهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بأدلة كثيرة كما سيأتي ولا دليل على التفريق بين بيعها لمالكها أو لغير مالك أصلها .
بقيت صورة ثالثة وهي : بيع الثمرة قبل بدو الصلاح لغير مالك الأصل .
صورتها : زيد من الناس عنده نخيل وأثمرت النخيل وبينما كان البلح أخضراً قبل أن يصلح أراد أن يبيعه لعمرو ، فهل يجوز له ذلك أو لا يجوز ؟
الأصل أنه لا يجوز ، وهذه المسألة فيها تقسيم آخر .
فإما أن تباع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط التبقية أو تباع بشرط القطع في الحال أو تباع بيعاً مطلقاً يعني بدون شرط من المتبايعين .
فالصورة الأولى : إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح وشرط المشتري أن يبقيه إلى أن يصلح فهذا لا يجوز بإجماع الفقهاء وبهذا جاء النص الثابت :« نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري » أو « المبتاع » ، وهذا الحديث في الصحيحين عن أنس .
وجاء أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن تطيب للأكل وهذا الحديث في الصحيح ، ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع البلح قبل أن يُزهي ، قيل لأنس وما زهوه ؟ قال : أن يحمار أو يصفار ، يعني : يبدأ فيه الحمرة أو الصفرة .(4)
فهذا النهي ينصب أول ما ينصب على ما شُرط فيه التبقية .
صورته : يشتري زيد ثمر هذه النخلة ويشترط على عمرو أن يبقيها حتى تصلح ثم يجزها ، هذا لا يجوز ؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها عرضة لأن تصيبها العاهة ( وهو التلف ) ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأمن العاهة فقال : أرأيت إن حبس الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق .
فالثمرة إذا تلفت تكون على المشتري فلذلك نهي عنه .
الصورة الثانية : أن يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشرط البائع على المشتري القطع في الحال وأن تُفرّغ النخلة له ، هل يجوز أو لا ؟
الجمهور على الجواز ومنهم أصحاب المذاهب وخالف آخرون فقالوا بالمنع ومن أشد من تمسك بالمنع الظاهرية .
وحجتهم في ذلك عموم أدلة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، وحتى تطيب ، وحتى تصلح للأكل ، وحتى تزهو .
وهذه الثمرة لم تتحقق فيها ذلك فلذلك قالوا : الأصل المنع .
أما الجمهور فاستدلوا على الجواز بأنه إذا شرط القطع في الحال فقد أمن العاهة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح ؛ لأنها لا تأمن العاهة قبل أن تصلح ، فإذا شرط القطع في الحال أمنت العاهة .
ولكن قد يقال : فماذا يستفاد منها ؟ يقال : تُطْعَم ولو لحيوان أو ليستفاد منها .
الصورة الثالثة : أن يبيع الثمرة قبل بدو الصلاح مطلقاً يعني بدون شرط من المتبايعين فما الحكم ؟
الجمهور : على المنع وقالوا : لأن مطلق العقد يحمل على الأصل وهو المنع لأن أكثر الصور محرمة والنهي عام عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح .
الحنفية : قالوا : بالجواز ؛ لأن قاعدة الحنفية التساهل في المعاملات ولذلك كانوا يقولون في قواعدهم : متى أمكن حمل العقد على الصحة لم يحمل على الفساد .
قالوا هنا : يمكن حمل العقد على ما شرط فيه القطع في الحال ، فإذا باع بيعاً مطلقاً وسكت ولم يشترط فنقول العقد صحيح ونشترط عليه أن يقطعه في الحال فتصير جائزة .
والاحتياط يقتضي بأخذ قول الجمهور وهو: المنع .
مسألة / بم يعرف صلاح الثمر ؟
لا بد من معرفة علامة صلاح الثمرة ؛ لأن الصلاح حد فاصل ، فما قبل الصلاح لا يجوز البيع في الأصل ، وما بعد الصلاح يجوز البيع في الأصل .
فنقول : الثمار منها ما يتلون كالبلح والعنب ، فالذي يتلون فصلاحه بابتداء تلونه ولهذا قيل لأنس رضي الله عنه وما زهوه ؟ قال : أن تحمارّ أو تصفارّ ، يعني : تبدأ شيئاً فشيئاً بالحمرة أو الصفرة ، فإذا تلون جاز بيعه وقبل ذلك لا يجوز بيعه .
وأما الذي لا يتلون كالعنب الأبيض ومثل التفاح فصلاحه بتغير طعمه ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يتموه حلواً .
وما لا يتلون ولا يتغير طعمه فيعرف صلاحه بطيبه للأكل ، فيرجع في هذا للعرف فمتى ما طاب للأكل فهذا صلاح ، ويرجع في هذا لحديث :« نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب للأكل » .
مسألة / بيوع الأجل والتقسيط :
الأجل هو : المدة ، وهو تأخير الوفاء مدة معينة .
وعقد البيع مع الأجل على أربعة أنواع :
1- بيع يفسده دخول الأجل ، باتفاق أهل العلم ، فيحرم الأجل والحالة هذه .
2- بيع يجب الأجل فيه ويعتبر شرطاً لصحة العقد .
3- بيع يباح فيه الأجل .
4- بيع اختلف فيه وهو الذي يندرج تحته بيوع التقسيط الموجودة الآن في السيارات والأراضي والعقارات وغيرها .
النوع الأول : بيع يحرم فيه الأجل ويفسده الأجل .
وهذا مثل بيع مالين ربويين من جنس واحد أو من علة واحدة ، وهو ربا النسيئة . مثل : بيع عملة بعملة صرفاً مع عدم التقابض .
ويلحق بهذا النوع أيضاً : بيع الدين بالدين ولو لم يكن في الأموال الربوية فيكون الثمن والمثمن مؤجلاً .
فإذا كان في الأموال الربوية فهذا أفظع وأشنع .
مثال : اشترى زيد من عمرو سيارة بخمسين ألف ريال ولم يسلِّم زيد المبلغ ولم يستلم السيارة من عمرو فهذا متفق على بطلانه ، وحكى الإمام أحمد فيه إجماع الناس وهو يسمى : بيع الكالئ بالكالئ .
ويلحق بهذا النوع أيضاً : بيع العينة ، ولأهميتها سنفرد لها وقتاً خاصاً للكلام عليها وتفصيلها .
النوع الثاني : بيع يجب ويشترط له الأجل :
فهذا النوع يجب له الأجل ولو لم يوجد الأجل لبطل البيع ، وهو بيع السَّلَم بلغة أهل الحجاز ويقال له : السلف بلغة أهل العراق .
وهو : عقد على موصوف في الذمة معلوم بصفته بثمن مقبوض في مجلس العقد .(3/164)
وأُرخص فيه لحاجة الناس إليه قديماً وحديثاً ، فكان المزارع إذا كان وقت البذار والزرع يحتاج إلى مال ليخلص الأرض وينقيها من الآفات والشوائب وليحرث الأرض ويسمدها ويشتري البذر ويحتاج إلى مال لأجر العمال .
وفي الزمان هذا تتضاعف الحاجة نظراً لشساعة الأراضي المزروعة ولحاجته إلى المعدات والآلات الزراعية .
فهذا المزارع لا يجد مالاً ، فيدخل في عقد السلم مع إنسان آخر يحتاج إلى شراء طعام مؤجل بثمن أرخص من الحال فشرع لسد حاجة هذا وهذا فيعطي المشتري صاحب الأرض مالاً ويجعل هذا المال المدفوع ثمناً لـ 1000 صاع مثلاً من البر أو الشعير .
من شروط صحة السلم : أن يكون المبيع مؤجلاً والمال مدفوعاً في مجلس العقد .
والسلم - إن قيل أنه بيع - مستثنى من بيع ما لم يوجد ؛ لأن الأصل أنه لا يجوز بيع ما لم يوجد وما ليس عندك ، فهو مستثنى للحاجة .
وإن قيل إنه عقد مستقل بذاته فلا يحتاج إلى هذا الاستثناء .
والسلم جائز بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله تعالى { يآ أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } استدل بها ابن عباس وغيره على السلم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وله شروط مذكورة في كتب الفقه .
النوع الثالث : بيع يباح فيه الأجل :
الأصل في العقود والشروط الإباحة ، والأصل في البيع جواز التأجيل لأحد الثمنين . فالبيع المطلق يجوز فيه التأجيل لكن بشرط أنه ما يلحق بالنوع الأول وهو بيوع الربويات وبيع الدين بالدين أو الذرائع الربوية كالعينة .
النوع الرابع : بيع اختلف فيه الأجل .
1- القرض :
إذا أقرضتَ زيداً من الناس 1000 ريال إلى شهر فهل يلزم الأجل أو لا ؟
الجمهور قالوا : أن القرض حالّ ولا يتأجل بالتأجيل حتى قال الإمام أحمد : القرض حالّ ولو أجله ، فيحق لك أن تطلب منه الألف الآن وتطالبه بها ولك الحق عليه فلا يلزم الأجل ولو أجله .
وذهب الحنابلة في رواية ومالك رحمه الله والظاهرية وبعض الفقهاء : إلى أن القرض يتأجل بالأجل بمعنى أنه إذا أقرضه 1000 ريال إلى أجل لا يحق له أن يطلبها قبل حلول الأجل .
أدلة المانعين : قالوا : لأنه لو أجل القرض لكان كبيع النسيئة مثل : بيع ريال بريال إلى أجل أو صاع بر ويرده بعد شهر كأنك بعته صاعاً بصاع إلى أجل .
أدلة المجيزين : قالوا : الصحيح أن القرض يتأجل بالتأجيل فلو أقرضه مالاً إلى أجل فلا نطالبه به قبل انتهاء الأجل .
ومن أدلتهم : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } .
وردوا على المانعين فقالوا : إن عقد القرض غير عقد البيع ، فعقد البيع معاوضة وعقد القرض إرفاق وإحسان فهو أشبه بالصدقة .
واستدل المجيزون : بدليل صحيح في البخاري : حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل استسلف من أخ له 1000 فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، و هذا هو الشاهد .
فدل على أن القرض يتأجل بالتأجيل وهذا هو الصحيح .
2- بيع التقسيط ، وهو نوعان :
أ ) أن يعرض السلعة بواحد من ثمنين ، إما حالة بـ 800 أو مؤجلة بـ 1000 ، فإن باعه السلعة وهو متردد ولم يجزم بواحد من البيعين ، فقال : خذها إما بـ 800 حالة أو بـ 1000 مؤجلة ولم يجزم بأحد السعرين فهذا لا يصح للجهالة بالثمن ، وقد قيل إنه معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة والحديث ثابت في السنن .
وأما إن جزم بأحد السعرين بأن قال : خذها إما بـ 800 حالة أو بـ 1000 مؤجلة فقال المشتري : اشتريت مؤجلاً فهل يصح هذا ؟
هذا يدخل في الخلاف الذي سيأتي في النوع الثاني وهو بيع الأقساط .
بأن يبيع مثلاً السيارة إلى شهر بـ 100 وإلى شهرين بـ 200 وإن اختار أجلاً أبعد زاد في الثمن فهل يصح هذا أو لا يصح ؟
قيل بالجواز ، وقيل بالمنع ، وفيما أعلم أن ا لجمهور ذهبوا إلى الجواز ومنع منه بعض السلف ، وقد روي منع ذلك عن سليمان بن يسار وروي عن غيره من الفقهاء .
أما حجة من اختار الجواز ، فهو : الأصل ، فالأصل في البيوع الحل ولم يقم دليل ونص على منع هذا النوع من البيع ولا هو في معنى المنصوص .(5)
حجة المانعين : أنه في هذا البيع ما قصد توفير السلعة في السوق ولكنه قصد المال بدليل أنه زاد في مقابل الأجل فصار كأن قصده الأول هو المال ، فيصير هذا شبيهاً بمسألة : ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) وهو ربا الجاهلية . قالوا : لأن الثمن أصبح ديناً في ذمته فهو يضاعفه في كل شهر ، ولذلك منعوا هذا .
وبعضهم فسر حديث :« نهى عن بيعتين في بيعة » ببيوع الأجل هذه ( التقسيط ) فيضع للمال ثمناً وللمؤجل ثمناً آخر أكثر منه فمنعوا هذا البيع .
ولكن الذي يظهر والله أعلم : الجواز إن شاء الله تعالى ؛ لأنه الأصل كما ذكرنا ، وليس في معنى المنصوص ، وهو يختلف عن ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) لأن ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) هذا إذا كان ديناً في ذمته فلما جاء وقت السداد ولم يكن معي المال قال : هي إذا عليك بكذا ، يعني بالزيادة .
ولكن الصورة التي معنا بيع وليست ديناً ، فهو متفق على الزيادة قبل العقد قبل أن يصبح هذا الثمن ديناً في ذمة المشتري ودخل المشتري على بصيرة والشارع لا يمنع من هذا ؛ لأن في هذا تحقيق المصلحتين : مصلحة المشتري بالتأجيل ، ولا شك أن التأجيل لأنفع له من التنجيز ؛ لأنه قد لا يجد .
ومصلحة البائع بالزيادة لأنه لا يمكن - أيضاً - أن يبيع سلعة مؤجلة بالثمن نفسه حالاً فهذا عليه مضرة وعليه نوع خسارة فلأجل مصلحة الفريقين يحكم بجواز المسألة إن شاء الله تعالى خاصة وأنه لم يرد دليل يمنع منها .
أما مسألة أنه جعل للأجل مقابلاً ، فنقول : تقدم الكلام في مسألة ( ضع وتعجل ) أنه ليس كل أجل زيد في مقابلته من المال لا يعتبر هذا ممنوعاً بدليل ( ضع وتعجل ) أسقط مقابل إسقاط بعض الأجل .
إنما المنهي عنه من الزيادة في الأجل في صورة معينة معروفة ، وهي : صورة الدين المؤجل ، أما البيع المؤجل فلا مانع ، ولو جعل في مقابل الأجل زيادة في الثمن فمثل هذا لا يمنع منه الشارع .
والمسألة فيها كلام كثير وتفصيل طويل ، ولكن الراجح إن شاء الله تعالى والمعمول به ما اختاره كثير من المحققين : الجواز .
مسألة / العينة :
العينة داخلة في بيوع الآجال المحرمة ، وإن كانت مختلفاً فيها ، وذهب إلى جوزاها الشافعية ، وهو المذهب المعتمد عندهم لكن الجمهور على منعه ؛ ولذلك تكلمت عنها في بيوع الآجال المختلف فيها .
سميت العينة من العين . ولفظ ( العين ) مشترك لفظي ومن معانيه : النقد ( الدراهم ، الدنانير ) .
وسميت العينة بهذا الاسم : لأن أحد المتبايعين يقصد بالبيع العين ، ولا يقصد السلعة .
وتعتبر العينة ذريعة إلى الربا ، وهذا الربا ربا القرض الذي يجر نفعاً وتقدم أنه ( كل قرض جر نفعاً فهو ربا ) وقد ثبت هذا عن جملة من الصحابة كابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام في البخاري وغيره .
أحياناً يتوصل إلى القرض الذي يجر نفعاً بنوع من أنواع البيوع الصورية ، التي لا يُقْصَد فيها حقيقة البيع ، وإنما يُتوصَّل بها إلى القرض الذي يجر النفع ومن ذلك : بيع العينة .
والراجح : منع بيع العينة ، وهو قول جمهور الفقهاء وهو الصحيح الموافق للأصول الشرعية .(3/165)
وتفسير العينة صح عن الصحابة ، وأما النهي عن العينة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور حديث ابن عمر عند أبي داود وأحمد وهو ثابت قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم » .
في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبب لتسليط الذل فكان الظاهر أن تسليط الذل والعذاب إنما سببه هذه الأمور ومنها العينة ؛ لأن المجيزين وهم الشافعية قالوا : إن الرسول ما نهى العينة وغاية ما في الأمر أنه ذكر خبراً أنه يأتي أناس يكون من أمرهم كذا وكذا ويسلط الله عليهم عقاباً ولم يقل إن العينة حرام .
سبحان الله !! فإن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يصرح بمنع العينة فإنه يفهم من ربط الحكم بالعلة أن هذا سبب وعلة ، فحينما تقول مثلاً : عصى الناس ربهم فسلط الله عليهم عذاباً ، ألا يفهم أن سبب هذا العذاب هو المعصية ؟! بلى ، وبالتالي ألا يفهم منعها وتحريمها والتحذير منها ؟! بلى ، وهكذا العينة فيستفاد من ذلك المنع .
وصح عن عائشة رضي الله عنها أنها فسرت العينة بالصورة المعروفة لما جاءتها أم ولد لزيد بن ثابت كما في حديث سبيعة والحديث مختلف في صحته والراجح إن شاء الله تعالى الاحتجاج به كم رجح ذلك ابن القيم وغيره وهو عند الإمام أحمد ، جاءت أم ولد زيد بن ثابت وأخبرت عائشة أن زيداً اشترى سلعة مؤجلة بمائة وباعها حالة بثمانين - يعني نفس صورة العينة - فقالت : بئس ما شريت وما اشتريت ، أخبري زيداً أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبط إلا أن يتوب ، أو كما قالت .
فيستفاد من ذلك تصريح الصحابة بالمنع من هذه الصورة وتطبيق العينة على الصورة التي ذكرها الفقهاء .
صور العينة :
العينة الممنوعة ، التي هي ذريعة للقرض الذي جر نفعاً لها صور عديدة :
الصورة الأولى :
وهي من أشهر الصور مما هو موجود اليوم في سوق الدلالين ( الشريطية ) أن يأتي المحتاج إلى المرابي فيقول : أقرضني 80.000 ريال فيقول : ما عندي ، لكن أنا أبيعك سيارتي هذه بـ 100.000 ريال مؤجلة إلى سنة ثم تشتريها مني الآن حالة بـ 80.000 ريال فيأتي المرابي ويبيع السيارة على المحتاج بـ 100.000 ريال مؤجلة ثم يبيعها المحتاج على المرابي بـ 80.000 ريال حالة فيرجع المحتاج بـ 80.000 ريال حالة ويعيدها بعد سنة 100.000 ريال التي هي الثمن المؤجل ، فصارت ربا قرض جر نفعاً .
فحقيقة هذه المسألة قرض جر نفعاً والمؤدى والحاصل أن يقترض زيد من عمرو 80.000 ريال ويشترط عليه عمرو أن يردها عليه بعد سنة 100.000 ريال وهذا ربا الجاهلية .
وهذا البيع الصوري الذي يفعلونه إنما هو تحايل على الله عز وجل كما قال أيوب السختياني رحمه الله : يخادعون الله كما يخادعون صبياً .
ومعلوم أن الحيل حرام إلا ما أُرخص فيه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها ثم باعوها ثم أكلوا ثمنها » فكل من تحايل للوصول إلى حرام ففيه شبه من اليهود وهم أصل الحيل ، والحيل جاءت من طريقهم ؛ لأنهم أهل الجشع والطمع .
الصورة الثانية :
عكس مسألة العينة وهي داخلة في العينة على الصحيح .
فيشتري المرابي سيارة المحتاج بـ 80.000 ريال حالة ثم يبيعها على الفقير بـ 100.000 ريال مؤجلة فيرجع الفقير بسيارته و80.000 ريال ثم بعد الأجل يعيد له 100.000 ريال فصارت 80.000 ريال أُرجعت 100.000 ربا قرض جر نفعاً .
الصورة الثالثة :
أن يبيع المرابي على المحتاج السيارة بـ 100.000 ريال مؤجلة والفقير لا يبيعها على المرابي ولكن يبيعها على أبيه أو أخيه أو وكيله الذي اتفق معه ويظن أن هذا يخرجه من العينة ، وهذا في الحقيقة لا يخرجه من العينة ، فيدخل شخصاً ثالثاً ولا يخرجه هذا من العينة بحال .
الصورة الرابعة :
أن يدخلا بينهما محللاً ، يدخل معهما في الجريمة ، فيأتي الفقير المحتاج يسأل التاجر المرابي سلفاً فيقول : ما عندي سلف ، لكن اشتر السيارة من فلان من الناس وأنا اشتريها منك ، فيذهب الفقير المحتاج إلى فلان من الناس ( المحلل ) ويشتري منه السيارة مؤجلة بـ 100.000 ريال ثم يرجع إلى التاجر الأول فيبيعها الفقير عليه حالة بـ 80.000 ريال ثم التاجر المرابي يعيدها ثانية على المحلل بـ 80.000 ريال حالة وحينما يأتي الفقير يسدد الـ 100.000 ريال يقتسمان بينهما هذا الربح .
كل هذه من صور العينة .
على كل حال كل بيع توصل فيه إلى الوصول إلى القرض الذي يجر نفعاً فهو داخل في العينة وهو حرام .
وقد ثبت تحريمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة وعن كثير من السلف ، ثبت عن ابن عباس أن رجلاً اشترى حريراً بمبلغ حال ثم باعها مؤجلة بأكثر - يعني نفس صورة العينة - فقال ابن عباس : بيع ببيع دخلت بينهما حريرة ، يعني أن هذه لا تعدو إلا أن تكون وسيلة وإلا فإنها غير مقصودة .
الجاري الآن عند بعض الناس أنهم يتعاملون بالعينة كثيراً ويسمونها الدينة ولذلك تجد عنده مثلاً صناديق هيل أو أكياس بن ونحو ذلك ، ثم يبيعها على المحتاج بـ 100.000 ريال مؤجلة ويبيعها المحتاج عليه أو على شخص ثالث يتظاهرون أنه أجنبي عنهم وهو ليس بأجنبي بل متفق في السر مع البائع يبيعها عليه بـ 80.000 ريال حالة ، وهذه هي حقيقة العينة ، فالواجب الإنكار على أهلها لأنها موجودة بكثرة .
لكن قد يستعمل العامة ( الدينة ) بمعنى التورق ، والتورق فيه خلاف ، منعه بعض وأجازه البعض ، ولعل الراجح إن شاء الله تعالى أنه جائز ؛ لأنه فيه اتفاق .
والتورق بينه وبين العينة فرق دقيق ، فالتورق : أن يأتي ويشتري السيارة من صاحب المعرض بـ 100.000 ريال مؤجلة ثم يبيعها حالة بـ 80.000 ريال على شخص أجنبي ليس بينه وبين صاحب المعرض أي اتفاق ، فهذا هو التورق ويستعمله الناس كثيراً وذلك بقصد توفير السيولة بأيديهم ، فلا يكون معه دراهم وهو محتاج لعمار أو غيره فيشتري سيارتين إلى أجل ثم يبيعها حالة في السوق ويستفيد من السيولة لإكمال العمار أو مشروعه والمبلغ المؤجل يسدده على أقساط .
هذا على الصحيح أنه جائز وإن كان ورد الكلام فيه عن البعض .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
وأَفْرَغَه : أبو العنود
الدمام 30/2/1420هـ
===============
لقاء شبكة المواهب مع الشيخ حامد العلي
حكم الصور في التصاميم
س : كثر اتجاه بعض الشباب إلى التصميم ( مع الاعتذار لإخواننا المصممين في المنتدى ) .. لكن نجد البعض يضع صوراً بها ذوات الأرواح يف تصاميمه .. واستخدام المصممين للصور على أقسام :
أ.منهم من يضع الصورة كاملة ..
ب. منهم من يضع نصف الصورة .. أو يكتفي بالوجه ..
ج. منهم من يضعها كاملة لكن يزيل الوجه .. أو يظلل عليه ..
فما الحكم في هذا العمل .. في الأقسام الثلاثة .. ؟
ج : أما التصميم فالواجب أن يتجنب المصمم رسم ذوات الأرواح بحيث تكون الصورة كاملة أو الوجه كاملاً ، لكن لا حرج إن كان الوجه غير واضح , أو كانت الصورة للعين لوحدها مثلاُ ونحو ذلك مما لا تظهر فيه صورة الوجه كاملاً ، لحديث ( الصورة الرأس , فإذا قطع الرأس , فلا صورة ) .(3/166)
وأيضاً فإن الصورة في اللغة تطلق على الوجه ، هذا إن كانت الصورة مرسومة باليد أو بالكمبيوتر أي من فعل الإنسان ، أما الصور الفوتغرافية التي تنقلها الآلة فهي كالانعكاس في المرآه ، فيها خلاف معروف ، وفيها مندوحة في الإعلام الإسلامي عن الصور المرسومة باليد أو ببرامج التصميم لذوات الأرواح , والله أعلم .
بدعة شيعية
س : ما حكم أن يسبق اسم الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه .. لفظ " الإمام " ... لاسيما وأن عرفنا أن هذا مما ادخله الشيعة علينا في وقتنا الحاضر .؟
ج : وسنة السلف الماضين أن لا يخصوا علياً رضي الله عنه ، بلقب عن سائر الصحابة ، إما يقال الخليفة الرابع , أو يذكر مع الترضي عليه فحسب ، ولا يقال الإمام , أو كرم الله وجهه ، مخالفةً لمقصد الرافضة في تخصيصه بقصد تفضيله على مَن قبله من الخلفاء ، ومعلوم أن فضله يأتي بعد الخلفاء الثلاثة من قبله عند أهل السنة ، وما وقع من بعض علماء أهل السنة من تخصيصه بـ " عليه السلام " أو " كرم الله وجهه " أو " الإمام " ، خلاف ما ينبغي , ولَم يكن هذا معروفاً في عصر السلف فيما أعلم ، وكتب الحديث شاهد على ذلك ، قد يقع نادراً ، لكن المشهور عدم تخصيصه بهذه الألقاب ، مع أنه رضي الله عنه إمام هدى ، وخليفة راشد ، وفضله في الصحابة عظيم ، ومنزلته من النبي كمنزلة هارون من موسى عليهم السلام .
سؤال عن قرض دار الاستثمار ولمس رأس المرأة أثناء الرقية
س : ما حكم القرض الذي يمنحه دار الاستثمار وهو 2000 دينار وترجعه لهم 2500 دينار ... طبعا الظاهر في أنه ربا لكن بعد استفساري منهم قالوا أنه حلله المذكور والنشمي وذلك لأن هذا المبلغ أولاً أقوم بتوكيلهم ومن ثم يقومون هم الشركة بشراء أسهم في البورصات العالمية ويترابحوا فيها ومن ثم بعد عشرة أيام يقومون بتسليم المبلغ .. فما حكم هذا القرض والذي يسمونه على ما أعتقد اللويه أو قريب من هذا الاسم ...
أما السؤال الثاني : ما حكم لمس الرجل رأس المرأة بحجة القراءة عليها كما يفعل بعض القراء .. وكيف يتم القراءة على المرأة .. أفيدونا مأجورين .
ج : أما قرض دار الاستثمار ، فما تفعله الشركة غير مفهوم لديّ ، وأريد أن أتأكد هل تعطيك الشركة المذكورة مبلغاً من المال قرضاً ، ثم تعيده إليهم وتوكلهم في المضاربة به في البورصة ، ثم بعد مدة ترد عليهم المبلغ الذي أخذته وزيادة عليه في صورة أجرة الوكالة ؟!
إن كان الأمر كذلك فهي حيلة على الربا ، وللأسف الشديد أصبحت بعض الشركات الإسلامية والبنوك الإسلامية تتوسع في باب الحيل على الربا ، وكلما بينا خطورة ما يفعلون قالوا : لدينا رقابة شرعية ، والعجب أن الرقابة الشرعية ، يتقاضى أعضاؤها رواتبهم ومكافآتهم من الشركة نفسها أو المؤسسة نفسها ، فكيف يتاح لها أن تكون محايدة في الفتاوى ؟! ولهذا نوصي قبل التعامل معهم بالسؤال والتأكد وعدم الاغترار بانتسابها إلى المعاملات الإسلامية ، فقد اختلط الحابل بالنابل في ساحة الاقتصاد الإسلامي , وإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأما وضع الرجل يده على رأس المرأة بحجة رقيتها ، فلا يجوز ذلك ، ولا يقاس على ما ذكره العلماء من جواز لمس الطبيب لما يحتاج إلى لمسه عند العلاج ، لأن العلاج العضوي ، يحتاج الطبيب فيه أحياناً إلى اللمس فيعرف به المرض ، فأبيح للضرورة فقط
وأما الرقية فيمكن أن ترقى المرأة نفسها ، أو يرقيها أحد محارمها ، أو امرأة صالحة ترقيها ، أو يقرأ الراقي في الماء وينفث فيه وتشربه ، فليس ثمة ضرورة لأن يضع يده على رأسها .
ثم إن وضع يده على رأسها لا يتبين به الداء ، وليس هو سبب ظاهر للعلاج ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على الموضع عند الرقية ، فعل منه يدل على إباحة وضع اليد فيما يباح وضعها عليه أصلاً ، لا يدل على أكثر من ذلك .
ومعلوم أن فتح هذا الباب قد حصل بسببه فساد عريض ، وفتنة كبيرة ، وقد تجاوزت الأمور ـ كما حدث بذلك الثقات واستفاض ـ وضع اليد على الرأس ، إلى ما لا يحسن ذكره ، حتى أصبحت الرقية الشرعية فوضى لا يضبطها ضابط ، يخبط فيها كل خابط ، ويدعيها كل ساقط ولاقط .
الجواب عن قرض دار الاستثمار ولمس رأس المرأة :
إن كان المقصود أن تقرضك الشركة المذكورة مبلغاً من المال ثم ترد المبلغ إليهم وتوكلهم ليضاربوا به ، ثم ترد عليهم القرض مع زيادة ظاهرها أنها أجرة الوكالة وحقيقتها أنها فائدة ربوية فهي حيلة على الربا ، وعلى المسلم أن لا يغتر بما تفعله بعض البنوك الإسلامية والمؤسسات الإسلامية من معاملات مغلفة بفتاوى شرعية وهي في حقيقتها من المعاملات المحرمة ، لأن الرقابة الشرعية فقدت حيادها عندما قبلت أن يكون رواتب أعضاءها من المؤسسة نفسها !
وأمّا وضع يد الرجل على رأس المراة عند الرقية الشرعية فلا يجوز ، ولا يقاس على إباحة العلماء وضع الطبيب على ما يحتاج وضع يده عليه من جسد المرأة عند الضرورة ، فثمة فرق بين الأمرين ، ونبينه إن شاء الله بعد الصلاة ، فقد اقترب موعد إقامة صلاة العشاء الآن .
تردد العبد على المعصية بعد التوبة
س : 1 - يا شيخ أنا حالي مترددة فتارة تجدني سريعاً ما أعصي الله ثم أتوب ثم اعصي وهكذا يا شيخ , فما نصيحتك لي ولغيري من الناس ؟
السؤال 2 - بالنسبة للذكر بعد الصلاة هل يجوز لي أن أزيد عن 33 تسبيحة ونفس الشيء مع التكبير والتحميد أم لا ؟
ج : أما سؤال السائل عن تردد العبد على المعصية بعد التوبة ، فسببه اختلال في الباطن ، أي اختلال في صحة القلب ، والمقصود القلب الروحي العقلي ، وليس القلب الجسدي اللحمي ، ذلك أن القلب الروحي يموت تارة , ويمرض تارة , ويكون صحيحاً معافى تارة , والموت يكون نهائياً لا حياة بعده تارة ، ويعود إلى الحياة تارة أخرى بعد الموت ، كما قال تعالى : ( أوَمَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس .. ) الآية .
وكون العبد لا يستقيم على الطاعة هو أثر من آثار مرض القلب , ومرض القلب يكون بقسوة مع ضعف , كما أن صحته تكون بقوة مع لين , وذلك مثل اليد المريضة أحياناً تكون ضعيفة , ولكنها أيضاً قاسية متصلبة ، فتضعف فائدتها ، واليد القوية اللينة القادرة على الحركة بسهولة أعظم ما تكون نفعاً , وكذلك القلب المعافى يكون قوياً على الطاعات ، قوياً على الشيطان ، ليناً بحيث يتخلله ذكر الله تعالى ، ويستقر فيه نور الهدى .
والقلب المريض ضعيف عند الطاعات ، ضعيف أمام الشيطان ، قاس لا يتخلله ذكر الله ليستقر فيه الهدى .
ومرضى القلوب ، في مرض القلب درجات ، بعضهم فوق بعض ، وكلما زاد المرض , ازداد ضعف القلب ، وكلما كان المرض قليلاً ، راود القلب من آثار مرضه ما يراوده ، فيظهر على صورة التثاقل عند العبادات ، واستسهال المعاصي .
والكلام في هذا الباب يطول , والمقصود أن الحلّ يبدأ بعلاج العبد لباطنه ، أي معالجة قلبه الروحي .(3/167)
وأول ذلك يبدأ باجتناب الذنوب ، فإنها هي داء القلوب , ثم يكثر العبد من قراءة القرآن , ذلك أنه هو غذاء القلب وشفاؤه من كل داء . ولا أنفع للعبد من المحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة لاسيما صلاة الفجر . ويلهج بالاستغفار وتجديد التوبة , ويكثر من ذكر الله تعالى ، لاسيما في جوف الليل الآخر ، وصدقة السر تعمل العجائب في القلب المريض ، وكذا مجالسة الصالحين ، أعني بالصالحين الذين إذا جالسهم العبد , ذكّروه بالله والدار الآخرة ، ويستعين ربه في إصلاح قلبه ، ويلح بالدعاء ، ويطيل الوقوف بباب الله تعالى ، ذلك أن مَن أطال الوقوف بالباب , فلابدّ أن يأتيه يوماً الجواب .
ومادام العبد يجاهد شيطانه ولا يكل ، ولا يضع سلاحه ، فهو مؤيد منصور , والعاقبة له إن شاء الله .
أما الزيادة على التسبيحات التي هي إثر الصلوات المكتوبات ، فيقتصر العبد على ما ورد , ولا يزيد ، ثم إن أحب أن يكثر بعد ذكر ما ورد ، من قول " سبحان الله , والحمد لله , ولا إله إلا الله , والله اكبر " ، فهو أفضل ، هذه الكلمات صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هي أحب الكلام إلى الله " . والله أعلم .
تحنيط الحيوانات
س :
ـ ما حكم تحنيط الحيوانات من قبل معلم العلوم بعد قتله ؟
ـ ما حكم قتل الحيوانات بإبر التحنيط ( الفورمالين ) حيث أن العملية ينتج عنها تعذيب يصل بالحيوان إلى اختلال واضح في نظام جسمه , حيث بعد حقنه يبدأ بالتغيء دما ! حتى يموت ؟ إني أرفض تحنيط الأحياء ! ولكن عندما أجد حيوان ميتاً بنفسه أقوم بتحنيطه .
ـ ما حكم تحنيط الحيوانات الميتة ؟
ج : الجواب على سؤال السائل عن تحنيط الحيوانات
صح النهي عن تعذيب الحيوان ، أو قتله لغير سبب مشروع , ومن ذلك قتلها بالطريقة سأل عنها السائل , كما لا يجوز تحنيطها , لأنه يفضي إلى اتخاذه كالأوثان والأصنام , وقد ورد تحريم ذلك .
فإن كان الغرض للتعليم ، فتحنط الحيوانات الميتة فقط ، ويفصل رأسها ، ويجعل بحيث لا تتناوله نصوص التحريم الوارد في هذا الباب . والله أعلم .
العمليات الاستشهادية مشروعة
س : سؤالي فضيلة الشيخ حول " انتفاضة الأقصى " : السؤال : بالرغم من الإنجازات العظيمة التي حققتها انتفاضة الأقصى والعمليات الاستشهادية ، طيلة أكثر من عامين ، وتأثيراتها الضخمة على الكيان الصهيوني في جميع المجالات ، وذلك بشهادة الصهاينة أنفسهم ، وجدنا بعض الأصوات العربية والعلمانية التي تنادي بوقف العمليات ولصق الإرهاب بها , السؤال : ما رأي فضيلتكم بالعمليات الاستشهادية ؟ وماردك على المثبطين لها ؟
ج : كنت قد كتب مقالاً مطولاً , نُشر في الصحافة لدينا ، ووضعته في موقعي الخاص في أرشيف الفتاوى أو ركن المقالات لا أذكر ، وقد استفدت فيه مما كتبه قبلي ، وزدت أدلة وأقوال لأهل العلم تبين أن العمليات الاستشهادية مشروعة , بل هي من أفضل الجهاد ، بشرط أن يحصل بها النكاية بالعدو ، ورفع الروح المعنوية للمجاهدين ، وشأنها كذلك .
والحقيقة أن الأمة الإسلامية تحيي بفخر واعتزاز أبطال الانتفاضة الذين ينفذون العمليات الاستشهادية ، ولا يعارضها إلا مثبط أو جاهل بفائدتها العظيمة ، أو زنديق مغموس بالنفاق ، أو عدو حاقد على الأمة لا يريد لها العز .
وقد نشرت بعض الصحف لدينا لقاء مع عمافوديا يوسف زعيم شاس اللعين ، وندد فيه بالمجاهدين الاستشهاديين ، فرددت عليه , ونشر ردي أيضاً عليه في الصفحة الأولى من صحيفة الوطن الكويتية ، مع تكميل في الداخل ، وهو أيضاً في ركن المقالات في موقعي .
نعم ثمة علماء يحرمونها , ولكن ينطلقون من اجتهاد , نسال الله أن يكونوا ممن يثاب على اجتهاده , وإن أخطأ , والله أعلم .
استعمال الرموز وهي الابتسامات الموجودة في المنتدى
س : - ما حكم استعمال الرموز وهي الابتسامات الموجودة في المنتدى , وهل هي من ذوات الأرواح ؟
ج : أما الابتسامات , فليست صوراً فيما يظهر لي , والله أعلم .
الحج ممن عليه دين
س - ما رأيك بمن يحج وعليه دين , علماً أن حجه مع حملة مجاناً أي إداري ؟ وهل الأقساط تعتبر دين بالنسبة للحاج يمنعه ذلك ؟
ج : ومَن يحج مجاناً , جاز له , حتى لو كان عليه دين ، لأن الصحيح أن منع المدين من الحج لأجل أنه يحج بمال كان يجب أن يعطيه للدائن ، ولهذا لو كان لديه وفاء دينه ، وأعطى الدائن شيكاً مثلاً ، وذهب إلى الحج ، لكن الدائن تأخر في صرف الشيك ، فلا يضر ذلك الحاج المدين ، والذين قالوا إن علة منع الحاج المدين هو كون ذمته مشغولة بالدين ، يمنعون مثل هذا من الحج حتى يتم صرف الشيك ، وهذا بعيد .
وبهذا يعلم أن من عليه أقساط له أن يحج ، لأن الأقساط دين مؤجل ، يحل كل قسط وللمدين وفاء الدين من راتبه ، فمثل هذا لا يمنعه من الحج .
حكم المباهلة والمناظرة
س - هل هناك ضوابط لاستخدام المباهلة , ومع مَن تستخدم ؟ وما رأيكم فيمن يدخل غرف النصارى في البال توك .. علماً أنهم يسبون ويستهزءون بديننا الحنيف ؟ وما نصيحتكم للشباب الذي يزور هذه الغرف من باب المطالعة ؟
ج : وأما المباهلة , فهي مشروعة , ولكن تكون بعد إقامة الحجة على المبطلين ، فإن لَم ينقادوا إلى الحقّ ، فالمباهلة مشروعة .
وسبق لي جواب على مثل هذا السؤال جاء فيه :
الحمد لله , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه , وبعدُ :
* المباهلة من الابتهال ، وهو الاجتهاد في الدعاء ، ويراد بها الدعاءُ بلعن الكاذب عند التخاصم ، وكيفيتها أن المبتهل بعد أن يقيم الحجة على أهل الضلالة ، يدعوهم إلى المباهلة ، بأن يقول : هلموا ندعو أنا ، وأنتم ، أن الله تعالى يلعن الكاذب فينا ، ويجعل عاقبته الفضيحة والخسران ، أو نحو ذلك من الدعاء على الكاذب فيما يدعيه ، فيدعو هو ، ثم يطلب منهم الدعاء ، فإن خافوا من الدعاء , أفحموا , وعلم الناس أنهم في ريب مما هم فيه ، وإن دعوا ، فهم إنما يدعون على أنفسهم ، وسيجعل الله تعالى دعاءهم على أنفسهم لعنة عليهم ، ويفضحهم في الدنيا والآخرة ، إذ قد كذبوا على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
* وقد وردت المباهلة في القرآن ، قال تعالى في محكم التنزيل : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .
* قال الإمام القرطبي في تفسيره : وَأَصْل الابْتِهَال الاجْتِهَاد فِي الدُّعَاء بِاللَّعْنِ وَغَيْره .
*وقوله تعالى : ( فمن حاجك فيه ) أي في شأن عيسى عليه السلام .
* وكان سبب نزول هذه الآية ما في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه قال : جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يريدان أن يلاعناه ، قال فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلاً أميناً ، ولا تبعث معنا إلا أميناً ، فقال : لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين ، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح , فلما قام , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أمين هذه الأمة ) رواه البخاري كتاب المغازي باب قصة أهل نجران .(3/168)
* قال الحافظ بن حجر رحمه الله في فتح الباري : ( وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة ، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الاوزاعي ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء ، ومما عرف بالتجربة أن مَن باهل , وكان مبطلاً , لا تمضى عليه سنة من يوم المباهلة ، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة ، فلم يقم بعدها غير شهرين ) انتهى
* وقد ذكر ابنُ إسحاق في السيرة سبب النزول بأطول مما رواه الشيخان وغيرهما , قال : وَكَانَ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْمُبَاهَلَة وَمَا قَبْلهَا مِنْ أَوَّل السُّورَة إِلَى هُنَا فِي وَفْد نَجْرَان : أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا قَدِمُوا فَجَعَلُوا يُحَاجُّونَ فِي عِيسَى , وَيَزْعُمُونَ فِيهِ مَا يَزْعُمُونَ مِنْ الْبُنُوَّة وَالإِلَهِيَّة , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة رَدًّا عَلَيْهِمْ .
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَان , سِتُّونَ رَاكِبًا , فِيهِمْ أَرْبَعَة عَشَر رَجُلاً مِنْ أَشْرَافهمْ .
وَأَمْرُ هَؤُلاءِ يَئُولُ إِلَى ثَلاثَةٍ مِنْهُمْ ؛ وَهُمْ الْعَاقِبُ , وَكَانَ أَمِيرَ الْقَوْم وَذَا رَأْيهمْ وَصَاحِبَ مَشُورَتِهمْ وَاَلَّذِي لا يَصْدُرُونَ إِلا عَنْ رَأْيه , وَالسَّيِّدُ , وَكَانَ عَالِمَهمْ وَصَاحِبَ رَحْلِهمْ وَمُجْتَمَعِهمْ , وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة , وَكَانَ أُسْقُفَهمْ صَاحِبَ مُدَارَسَتهمْ , وَكَانَ رَجُلاً مِنْ الْعَرَب مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِل , وَلَكِنَّهُ تَنَصَّرَ , فَعَظَّمَتْهُ الرُّوم وَمُلُوكهَا وَشَرَّفُوهُ , وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِس , وَأَخْدَمُوهُ , لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ صَلابَته فِي دِينهمْ , وَقَدْ كَانَ يَعْرِف أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتَه وَشَأْنَه مَا عَلِمَهُ مِنْ الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة , وَلَكِنْ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الاسْتِمْرَارُ فِي النَّصْرَانِيَّة لِمَا يَرَى مِنْ تَعْظِيمِه فِيهَا وَجَاهه عِنْد أَهْلهَا .
فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ , قَالَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَسْلِمَا " . قَالا : قَدْ أَسْلَمْنَا . قَالَ : " إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فَأَسْلِمَا " . قَالا : بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلك . قَالَ : " كَذَبْتُمَا , يَمْنَعكُمَا مِنْ الإسلام اِدِّعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا وَعِبَادَتكُمَا الصَّلِيب وَأَكْلكُمَا الْخِنْزِير " . قَالا : فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّد ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا , فَلَمْ يُجِبْهُمَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهمْ وَاخْتِلافِ أَمْرهمْ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَان إِلَى بِضْع وَثَمَانِينَ آيَة مِنْهَا , ثُمَّ تَكَلَّمَ اِبْنُ إِسْحَاق عَلَى تَفْسِيرهَا - إِلَى أَنْ قَالَ - : فَلَمَّا أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَر مِنْ اللَّه وَالْفَصْل مِنْ الْقَضَاء بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلاعَنَتهمْ أَنْ رَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ , دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ , فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم ! دَعْنَا نَنْظُر فِي أَمَرْنَا , ثُمَّ نَأْتِيك بِمَا نُرِيد أَنْ نَفْعَل فِيمَا دَعَوْتنَا إِلَيْهِ , ثُمَّ اِنْصَرَفُوا عَنْهُ , ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ , وَكَانَ ذَا رَأْيهمْ , فَقَالُوا : يَا عَبْدَ الْمَسِيح ! مَاذَا تَرَى ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ ! يَا مَعْشَر النَّصَارَى , لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ , وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَر صَاحِبِكُمْ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ , فَبَقِيَ كَبِيرهمْ , ولا نَبَتَ صَغِيرهمْ , وَإِنَّهُ للاسْتِئْصَال مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ , فَإِنْ كُنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلا إِلْفَ دِينكُمْ والإقامة عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْقَوْل فِي صَاحِبكُمْ , فَوَادِعُوا الرَّجُلَ , وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلادكُمْ . فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم ! قَدْ رَأَيْنَا أَنْ لا نُلاعِنَكَ , وَنَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ , وَنَرْجِعَ عَلَى دِينِنَا , وَلَكِنْ اِبْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابك , تَرْضَاهُ لَنَا , يَحْكُمُ بَيْننَا فِي أَشْيَاء اِخْتَلَفْنَا فِيهَا فِي أَمْوَالنَا , فَإِنَّكُمْ عِنْدنَا رِضَا . قَالَ مُحَمَّد بْنُ جَعْفَر : فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اِئْتُونِي الْعَشِيَّة , أَبْعَث مَعَكُمْ الْقَوِيّ الأَمِين ) . ثم ذكر ابنُ اسحق بقيّةَ القصة ، وذكرتها هنا مختصرة . نقلاً عن تفسير ابن كثير رحمه الله .
* وقال العلامة الآلوسي في روح المعاني : ومَن ذهب إلى جواز المباهلة إلى اليوم على طرز ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم , استدل بما أخرجه عبدُ بنُ حُميدٍ عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء , فدعاه إلى المباهلة , وقرأ الآية , ورفع يديه , فاستقبل الركن , وكأنه يشير بذلك إلى كيفية الابتهال , وأن الأيدي ترفع فيه ، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك , وأنها ترفع حذو المناكب . انتهى , والله أعلم .
كما سبق لي جواب على سائل سأل عن مناظرة أهل الضلال جاء فيه :
الحمد لله , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه , وبعدُ :
الواجب في مَن يتصدّى لدعوة أهل الضلالة والبدعة ، أن يكون عالماً بالكتاب والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة ، وبمذهب الخصم ، بقدرٍ كافٍ يؤهله للمناظرة ، وأن يكون عارفاً أيضاً بضوابط المناظرة ، وعليه من لباس التقوى ما يحمله على قصد الثواب لا الرياء والسمعة ، ويلجمه عن قول الباطل أو اتّباع الهوى ، وأن يكون ذا فصاحة وبيان , قادراً على تجلية الحقّ في صورةٍ مفهومةٍ لا لبس فيها .
ولا ينبغي أن يقدم المناظر على مناظرة ذي هيبة يخشاه ، ولا وهو مشغول البال ، مشوش الذهن .
وإن لَم تكن المناظرةُ في مسألةٍ معينة , فالواجبُ أن يبدأ بالأصول التي يقوم عليها مذهبُ المخالف ، فينقضها ، ولا ينشغل بإبطال الفروع قبلها .
هذا وينبغي أن يعلم أن الجدال وسيلة متأخرة في الرتبة في مجال الدعوة الإسلامية ، ولهذا أخره اللهُ تعالى في قوله : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، ولَم يستعمل النبي صلى الله عليه سلم في دعوته الجدال إلا قليلاً ، بالنسبة إلى مجمل دعوته صلى الله عليه وسلم .
ذلك أن الحقّ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أبلج ، له منار ظاهر ، ونور باهر ، فإذا نشر في الناس ، وسمعوه كما أنزل ، هدى اللهُ تعالى به مَن شاء من عباده ، ففتح به قلوباً غلفاً ، وأبصاراً عمياً ، وأذاناً صماً .
فإن احتيج إلى الجدال ، فلا بأس أن يكون بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) هذا في اليهود والنصارى ، فكيف بأهل القبلة الذين ضلوا عن السنة ، إلا من ظلم واعتدى ، فذاك له مقام آخر .(3/169)
وأمّا هذه المناظرات التي انتشرت في المنتديات ، يخوض فيها مَن يخوض بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، يتصايحون فيها ، ويتشاتمون ، ثم يعودون من الغد ، فيفعلون كما فعلوا بالأمس ، فيسهرون ليلهم فيما لا فائدةَ فيه ، أو فيما ضرّه أكبر من نفعه ، أو فيما غيره أنفع للعبد في دنياه وآخرته ، فهذه ليست على هدى الأنبياء ، ولا هي من سبيل الأتقياء ، والله أعلم .
المشاركة في المسابقات في القنوات الفضائية
س : ما حكم المشاركة في المسابقات التي تقدم في القنوات الفضائية والتي تبدأ بـ(700) , حيث يكون سعر الدقيقة بخمسة ريالات .. هذا النوع من المسابقات يتطلب دفع مبلغ أكثر من المكالمة العادية للدقيقة الواحدة , وقد تصل إلى (9ريالات) لأن الرقم الذي يكون بعد الـ(700) يكون سعر الدقيقة .. يعود عائدها إلى صاحب المسابقة وشركة الاتصال .. ويوجد مثلها في الكويت على ما أظن .. والله أعلم .
ج : المسابقات كما وصفت في السؤال والتوضيح ، قمار محرم ، لأن المتصل يدفع مبلغاً مقابل أن يجرب حظه ، فقد يحصل على سؤال سهل , فيربح أضعاف ما دفع ويغنم ، وقد لا يحصل على شيء , ويذهب عليه المبلغ الذي دفعه سدى , فيغرم ، والقناة التلفزيونية تتقاسم الأموال التي تكسب من اتصالات الناس مع شركة الهاتف ، وبهذه الخدعة التي تشبه الميسر ، يضحكون على الناس ، ويأكلون أموالهم بالباطل ، لأن كل متصل يقول : لعلي أكون الكاسب ، ثم إنهم إن احتاجوا مَن يفتيهم بالجواز ، فسيجدون في هذا الزمان ، مَن يسارع إلى الفتوى بما يوافق أهواء أهل الأطماع , والله المستعان .
===============
(المنفعة في القرض) دراسة تأصيلية تطبيقية.
عبد الله بن محمد العمراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المنفعة في القرض) دراسة تأصيلية تطبيقية.
تعريف القرض في اللغة: أصل القرض في اللغة: القطع. ومعاني القرض في اللغة تدور على القطع، والمجازاة، والترك.
تعريف القرض في الاصطلاح: عرف الفقهاء القرض بتعريفات متقاربة تدل على أنه: «دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله».
• القرض مندوب إليه في حق المقرض، وهو من القرب التي حث عليها الإسلام، والأصل فيه أنه من عقود التبرعات التي يراد بها الإرفاق والإحسان إلى المقترض.
تعريف المنفعة: المنفعة هي قابلية الشيء على إشباع رغبة بشرية.
أنواع المنافع في القرض وأحكامها:
المنافع في القرض نوعان:
النوع الأول: المنافع المشروطة في القرض وأحكامها:
أولاً: الزيادة في بدل القرض:
الواجب في القرض رد البدل المساوي في الصفة والقدر. فقد اتفق العلماء على تحريم اشتراط الزيادة في بدل القرض للمقرض، وأن هذه الزيادة ربا، وسواء كانت الزيادة في الصفة (كأن يشترط على المقترض رد أجود مما أخذ)، أم عيناً (كأن يقترض مالاً ويشترط عليه رده مع هديه من مال آخر) أم منفعة (كأن يقترض مالاً ويشترط عليه رده مع عمل المقترض عند المقرض مده).
ولم يفرقوا في الحكم بين اشتراط الزيادة في بداية العقد أو عند تأجيل الوفاء.
وتسمى الزيادة المشروطة في القرض: ربا القرض، وهي من ربا الجاهلية.
وقد نقل الإجماع على تحريم الزيادة في بدل القرض(1 )، للأدلة الآتية:
الدليل الأول: النصوص التي دلت على تحريم الربا، ومنها:
1- قوله تعالى: (وحرم الربا…)(2 ).
2- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)(3 ).
3- قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله"( 4). وفي لفظ: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون"(5 ).
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا ربا إلا في النسيئة"(6 ).
وقوله صلى الله عليه وسلم : "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"(7 ).
ووجه الاستدلال منها:
أن صورة القرض في الحقيقة هي صورة ربا النسيئة، لكن لما كان مبنى القرض التبرع ومبنى البيع المعاوضة غاير الشارع بينهما في الحكم، فإذا اشترطت الزيادة في القرض خرج عن موضوعه وهو التبرع والإرفاق إلى المعاوضة فجرى فيه ما يجري فيها، فيشمله النهي في تلك النصوص وتتقيد بما يتقيد به البيع فيها وهو أن يكون "مثلاً بمثل، ويداً بيد".
الدليل الثاني:
حديث: "كل قرض جر منفعة فهو ربا"( 8).
وهذا الحديث روي مرفوعاً بإسناد ضعيف جداً، وموقوفاً بإسناد ضعيف، ولكن معناه صحيح إذا كان القرض مشروطاً فيه نفع للمقرض فقط أو ما كان في حكم المشروط، وقد تلقى كثير من العلماء هذا الحديث بالقبول، وعضده أدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول والآثار عن الصحابة والتابعين الدالة على تحريم كل قرض جر منفعة.
ثانياً: اشتراط الوفاء في غير بلد القرض.
محل الخلاف في مسألة اشتراط الوفاء في غير بلد القرض هو في المنفعة الإضافية إذا كان الاشتراط لمنفعة المقترض والمقرض معاً، والراجح الجواز، سواء انتفع المقرض أو لا ما دام القصد الإرفاق بالمقترض.وذلك لما يأتي:
1- أن ذلك هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم.
2- أن اشتراط الوفاء في غير بلد القرض مصلحة للمقرض والمقترض جميعاً من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، وإنما ينهى عما يضرهم، وهذه المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان عليها فهي من جنس التعاون والمشاركة.
3- أن الأصل في المعاملات الإباحة، واشتراط الوفاء في غير بلد القرض ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص على تحريمه حتى يقاس عليه، فوجب إبقاؤه على الإباحة.
ثالثاً: اشتراط الأجل في القرض.
اتفق العلماء على جواز التأخير في وفاء القرض من غير شرط، واختلفوا في حكم الأجل المشروط في القرض، وذلك حينما يتفق المقرض والمقترض عند الاقتراض على موعد لوفاء القرض، هل يلزم هذا الأجل، بحيث يلزم المقرض به فلا يطالب المقترض بالبدل قبل مضي الأجل المشروط أم لا؟ على قولين:
والراجح أنّ اشتراط الأجل في القرض جائز، ويتأجل القرض بالتأجيل. فليس للمقرض المطالبة بالقرض قبل الأجل، بل يلزمه الانتظار حتى يحين الوقت الذي اتفق على تسليم القرض فيه؛وذلك للأدلة على مشروعية الأجل، ووجوب الوفاء بالشروط والعقود،ولتحقيق المقصود من القرض،ولدفع الضرر.
رابعاً: اشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه.
صورة هذه المسألة:
أن يقترض شخص مالاً لغيره لا لنفسه، فلا يخلو:
1- أن لا يشترط المقترض أخذ جعل ثمناً لجاهه، وأن لا يلتزم بذلك المستفيد من القرض، فهذا جائز، بل مندوب إليه؛ لما فيه من الإعانة لأخيه، وتفريج كربته.
2- أن يشترط المقترض الجعل، بأن يقول: يا فلان اقترض لي مائة ولك عليّ عشرة، أو يلتزم به المستفيد بدون شرط، ففيه خلاف على ثلاثة أقوال: الأول: يجوز، والثاني: يحرم، والثالث: التفصيل: بأنه إن كان الأخذ لمجرد بذل الجاه والشفاعة حرم، وإن كان الأخذ لما يتكبده ذو الجاه من سفر ونفقة لتحصيل القرض جاز، لكن يشترط أن يكون الأخذ بقدر ما بذله من النفقة.(3/170)
والقول الثالث هو الراجح لحديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا"( 9). فإذا كان قبول الهدية غير المشروطة رباً فكيف إذا اشترط الجعل!.
وبالتأمل يتبين أن التحريم لا علاقة له بعقد القرض، وإنما حصل لمعنى خارج عن عقد القرض، وهو أخذ الجعل على الشفاعة والجاه.
النوع الثاني: المنافع غير المشروطة في القرض وأحكامها: وهي قسمان:
القسم الأول: المنافع المادية:
أ- المنافع المادية غير المشروطة عند الوفاء:
اتفق العلماء على تحريم الزيادة - في القدر أو الصفة - المشروطة في بدل القرض للمقرض، واختلفوا في حكمها إذا لم تكن مشروطة على أقوال، الراجح منها الجواز إذا كانت الزيادة على سبيل البر والمعروف، بل يستحب للمقترض ذلك، وهذا قول جماهير أهل العلم، سواء أعرف المقترض عند الناس بحسن القضاء أم لا، لما يأتي:
الدليل الأول: عن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: «أعطه إياه إنّ خيار الناس أحسنهم قضاءً»(10 ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: استقرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سناً فأعطى سناً فوقه وقال: «خياركم محاسنكم قضاءً»(11 ).
الدليل الثاني: عن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنهما- قال: «كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني، ودخلت عليه المسجد فقال لي صل ركعتين»(12 ).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أتى رجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأله، فاستسلف له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شطر وسق فأعطاه إياه. فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقاً، وقال نصف لك قضاء، ونصف لك نائل من عندي» (13 ).
وقد كان النبي معروفاً بحسن القضاء ومع ذلك لم يكن إقراضه محرماً ولا مكروهاً.
ب- المنافع المادية غير المشروطة قبل الوفاء.
إذا بذل المقترض للمقرض منفعة غير مشروطة أثناء مدة القرض -قبل الوفاء-، مثل: الهدية للمقرض -وهي أكثر ما يمثل به الفقهاء-، ومثل الاستضافة، وركوب الدابة، والمساعدة على عمل من الأعمال، ونحو ذلك من المنافع التي قد يبذلها المقترض قبل الوفاء، فقد اختلف الفقهاء في حكمها إذا كانت من غير شرط، على قولين ، والراجح المنع إن كانت تلك المنافع من أجل القرض أوفي مقابله، أي من أجل أن يؤخر المقرض استيفاء القرض، أو يقرضه مرة ثانية ونحو ذلك، أو كانت عوضاً عن الانتفاع بالقرض؛ لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير السداد من أجل هذه المنافع فتكون ربا، حيث يعود للمقرض ماله وزيادة هذا النفع الذي حصل عليه بسبب القرض.
أما إن كانت تلك المنافع ليست من أجل القرض، مثل ما إذا كانت العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض، أو حدث سبب موجب لهذه المنافع بعد القرض كالجوار و نحوه فإنه يجوز. ويدل على ذلك:
حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك »(14 )، كما أنه المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الثاني: المنافع المعنوية غير المشروطة في القرض
أ- شكر المقترض للمقرض ودعاؤه له.
هذه المنفعة التي تحصل للمقرض جائزة، بل يندب إليها في حق المقترض؛ لأنه من باب مقابلة المعروف بالمعروف، ومن باب مقابلة الإحسان بالإحسان. فيشكره المقترض ويدعو له، ويدل على ذلك ما يأتي:
الدليل الأول: عن عبداللّه بن أبي ربيعة - رضي الله عنه - قال: استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، فجاءه مال فدفعه إليّ وقال: «بارك اللّه لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء »( 15).
الدليل الثاني: عن عبداللّه بن عمر - رضي اللّه عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعاذ باللّه فأعيذوه، ومن سأل باللّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه»( 16).
ب- انتفاع المقرض بضمان ماله عند المقترض وحفظه حتى يسدده:
هذه منفعة أصلية في القرض لا إضافية، وهي من مقتضى عقد القرض وطبيعته لا تنفك عنه، فهي جائزة باتفاق؛ لأنه لا يمكن القول بمنعها وجواز القرض ، وإلى هذا المعنى أشار ابن حزم حيث قال: «ليس في العالم سلف إلا وهو يجر منفعة، وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله، فيكون مضموناً تلف أو لم يتلف ...».
جـ- انتفاع المقرض بشفاعة المقترض وجاهه.
فإذا أقرض الشخص لا لابتغاء الأجر والثواب والإرفاق بالمقترض، وإنما لتكون له يد عليه بحيث ينتفع من جاهه ومنصبه، أو من جاه ومنصب أقاربه، بشفاعة أو تيسير بعض أمور الدنيا فإن حكم الدين حكم الرشوة؛ لأن القرض بهذا القصد غيرتها، وعلى هذا فالقرض حرام، إلا أن يكون للمقرض حق لا يستطيع أخذه إلا بالقرض، أو ظلم لا يمكن دفعه إلا به جاز للمقرض وحرم على المقترض؛ لأنها بمثابة الرشوة للحصول على غرض ما.
ضوابط المنفعة في القرض.
بعد ما تقدم من بيان لأحكام المنفعة في القرض فإنه يمكن وضع ضابط للمنفعة المحرمة في القرض، وللمنفعة الجائزة، على النحو الآتي:
ضابط المنفعة المحرمة:
«كل قرض جر منفعةً زائدة(17 ) متمحضة ( 18) مشروطة للمقرض على
المقترض أو في حكم المشروطة فإن هذه المنفعة رباً».
وعلى هذا فالمحرم من المنافع نوعان:
1- المنفعة الزائدة المتمحضة المشروطة للمقرض على المقترض، أو ما كان في حكم المشروطة.
2- المنفعة غير المشروطة التي يبذلها المقترض للمقرض من أجل القرض.
وأما ضابط المنفعة الجائزة فهو:
«كل منفعة في القرض متمحضة للمقترض، وكل منفعة مشتركة بين المقترض والمقرض إذا كانت منفعة المقترض أقوى، أو مساوية».
مسألة: حكم قصد منفعة أصلية في القرض أو إضافية:
مثال المنفعة الأصلية: الإقراض بقصد حفظ المال وتضمينه.
ومثال المنفعة الإضافية: الإقراض مع اشتراط منفعة زائدة، كاشتراط الوفاء بزيادة على القرض.
إن موضوع القرض هو الإرفاق والمعروف، وهذا الأصل فيه، ولكنه ليس شرطاً لجواز القرض، وليس خروجه عن المعروف والإرفاق مناطاً للمنع، فإذا خرج عن المعروف فلا يلزم أن يكون ممنوعاً؛ إذ لا دليل على المنع حينئذ، بل قد جاء ما يدل على الجواز. وبذلك يتبين أن هذا الضابط وهو (القرض عقد إرفاق وقربة فمتى خرج عن باب المعروف امتنع) لا يسلم في جميع الصور، وإنما يسلم إذا كانت المنفعة محرمة، وأما إذا كانت جائزة فلا يمنع من القرض لهذا التعليل -والله أعلم-.
مسألة: الحيلة في أخذ المنفعة في القرض:
الحيلة لذلك لها عدة صور أهمها:
الصورة الأولى:
البيع بشرط أن البائع متى ما رد الثمن فإن المشتري يعيد إليه المبيع.
وذلك مثل: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه الدار بشرط أن تردها إليّ متى ما رددت إليك الثمن(3/171)
والراجح تحريمها؛وذلك لأنها حيلة على أخذ المقرض - وهو المشتري صورة- المنفعة في مقابل القرض؛ حيث إن المشتري - وهو المقرض حقيقة- دفع الثمن ثم عاد إليه بعد مدة مع انتفاعه بالمبيع -بإجارته أو سكناه ونحو ذلك إذا كان عقاراً مثلاً-، مدة بقاء الثمن في يد البائع - وهو المقترض حقيقة- فالمقصود في الحقيقة إنما هو الربا، وتسميته بهذا الاسم لا تخرجه عن حقيقته، وقد تقرر أن اشتراط المنفعة في القرض ربا
الصورة الثانية:
البيع بشرط الخيار حيلة ليربح في قرض. وذلك مثل أن يبيعه داراً ونحوها بألف بشرط الخيار، لينتفع المشتري - وهو المقرض حقيقة- بالدار مدة انتفاع البائع -وهو المقترض حقيقة- بالثمن، ثم يرد الدار بالخيار عند رد الثمن، فهذا محرم؛ لأنه توصل بهذا الخيار ليربح في القرض، فحقيقة الأمر: أنه أقرضه الألف بشرط الانتفاع بالدار مدة القرض.
الصورة الثالثة:
ومن صور التحايل على أخذ المنفعة في القرض أن يشترط في القرض عقد بيع أو نحوه، حتى يحابيه في الثمن فيأخذ زيادة على قرضه.
ثانياً: تطبيق معاصر للمنفعة في القرض.
الودائع الجارية.
تعريف الودائع الجارية وتكييفها الفقهي.
تعريف الودائع الجارية.
هي الودائع التي تُكَوِّن الحساب الجاري، بحيث يتملك المصرف المبالغ المودعة، ويمكن لصاحبها سحبها في أي وقت يشاء.
ومن الواضح أن عدم وجود قيود على السحب من هذه الودائع يعني تقييداً لحرية البنك في استخدامها بالمقارنة مع غيرها من الودائع.
حقيقة الودائع الجارية (تكييفها الفقهي):
اختلف الباحثون المعاصرون في حقيقة الودائع الجارية على أقوال أبرزها قولان. الأول: أنها ودائع، والثاني: أنها قروض، وهو الراجح، حيث ذكر أصحاب هذا القول أن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، والمتأمل للعلاقة بين المصرف والمودع يظهر له أن العلاقة بينهما إنما هي قرض لا وديعة ويدل لذلك ما يأتي:
الدليل الأول: أن المصرف يمتلك الودائع الحالة ويكون له الحق في التصرف فيها، ويلتزم برد مبلغ مماثل عند الطلب، وهذا معنى القرض الذي هو دفع مال لمن ينتفع به -أي يستخدمه ويستهلكه في أغراضه- ويرد بدله، وهذا بخلاف الوديعة في الاصطلاح الفقهي التي هي المال الذي يوضع عند إنسان لأجل الحفظ، بحيث لا يستخدمها ويردها بعينها إلى صاحبها.
الدليل الثاني: أن المصرف يلتزم برد مبلغ مماثل عند طلب الوديعة الجارية، ويكون ضامناً لها إذا تلفت سواء أكان بتفريط منه أو تعد أم لا وهذا مقتضى عقد القرض، بخلاف الوديعة في الاصطلاح الفقهي حيث تكون الوديعة أمانة عند المودع، فإن تلفت بتعدٍ منه أو تفريط ضمن، وإلا لم يضمن.
1- منافع المصرف من الودائع الجارية:
أ- استثمار ودائع الحساب الجاري:
وهذا جائز متى كان الاستثمار نفسه جائزاً؛ لأن الاستثمار منفعة للمقترض أصلية في القرض لا تنفك عنه؛ إذ إن المقصود من الاقتراض هو استهلاكه والانتفاع به. وبالتالي يحل للمصرف العائد المترتب على استثمار هذه الأموال، وليس لصاحب الحساب الجاري حق في عوائد الاستثمار؛ بل إن منح المصرف أي عائد لأصحاب الحسابات الجارية عوضاً عن أموالهم يدخل في نطاق المنافع المحرمة في القرض.
ب- توليد الائتمان:
تعريف الائتمان:
الائتمان في العرف الاقتصادي هو افتراض ثقة المقرض في أمانة المقترض وصدقه ولذلك منحه أجلاً للوفاء بدَيْنه.
إن قدرة المصرف على توليد الائتمان بدرجة أكبر من كمية الودائع ناتج عن وظيفته كوسيط بين المدخرين والمستثمرين، وبما يصدره من وسائل الدفع النقدية الحديثة. وتوليد الائتمان من حيث الأصل جائز شرعاً إذا وجد السبب الشرعي للدائنية وهو الإقراض الذي يتوفر فيه قبض المبلغ. لكن الحكم يختلف حسب نوع الاستثمار الذي يقوم به المصرف، وحسب الآثار المترتبة على ذلك، فإذا كان المصرف يقوم باقتراض الأموال -المودعة عنده- ويقوم بإقراض أغلبها بفوائد، إضافة إلى إقراض الأموال الناتجة عن قدرة المصرف على توليد الائتمان، فهذا العمل يترتب عليه مفاسد عظيمة متمثلة في وجود التضخم وزيادة الأسعار، نتيجة لميل المصارف إلى الإسراف في توليد الائتمان سعياً وراء تحقيق الربح في ظل تكلفة تكاد تكون معدومة. ولاشك أن هذا الفعل محرم لوجود الإقراض بالربا، إضافة إلى ما يترتب على ذلك من مفاسد.
وإذا لم يوجد الإقراض بفائدة ولكن وجد الإسراف في توليد الائتمان فإنه يترتب على ذلك مفاسد، فتحتاج المسالة إلى موازنة في تلك الحالة.
جـ- الأجور على الخدمات.
إن تقاضي المصرف أجراً -في الحساب الجاري ـ على الخدمات التي يقدمها جائز شرعاً؛ لأنه يستحق هذا الأجر مقابل الأعمال التي يقوم بها ويقدمها للمودع (المقرض).
فإن من الواضح أن هناك منفعة مقصودة بالنسبة للمودع (المقرض) متمثلة في رغبته في فتح حساب جارٍ يمكنه من تسهيل معاملاته بشكل يريحه من أعباء حمل النقود وتداولها. كما أن هناك عملاً يقوم به المصرف؛ حيث إن المصارف وهي في سبيل تقديم الخدمات والتسهيلات لعملائها تستأجر الأبنية التي تلزم لمباشرة أعمالها، وتدفع أجوراً للموظفين، وتقوم بإعداد السجلات والملفات، وتقوم بإصدار دفاتر الشيكات، وبطاقات الصراف الآلي، وهي تتكلف في سبيل ذلك نفقات. ومن المتقرر أنه إذا وجدت المنفعة المعتبرة من جانب، والعمل المؤدى من الجانب الآخر فإن الأجر يكون له سبب شرعي. خاصة وأن هذا الأجر في جانب المقترض، حيث إن المصرف في مثل هذه الحالات باعتباره مودعاً لديه يكون مقترضاً لا مقرضاً. وإذا كان كذلك فليس هناك مجال للشبهة في اختلاط الأجر بالربا؛ لأن الربا هو الزيادة التي يتقاضاها المقرض من المقترض.
2- التسهيلات.
هناك منافع وتسهيلات تتحقق لصاحب الحساب الجاري أهمها ما يأتي :
أ- دفتر الشيكات و بطاقة الصراف الآلي .
مر في المسألة السابقة جواز تقاضي المصرف أجراً على الخدمات التي يقدمها لصاحب الحساب الجاري مثل إصدار دفتر شيكات وبطاقة الصراف الآلي، وعلى ذلك فإنه يجوز انتفاع صاحب الحساب الجاري بذلك مقابل ذلك الأجر. ولكن ما الحكم في انتفاع صاحب الحساب الجاري بدفتر الشيكات وبطاقات الصراف الآلي دون مقابل؟
يتضح أنه لا يوجد في هذه المعاملة اشتراط التبرع بقيمة هذه الخدمة للعملاء، مما يعني أنه لا يوجد اشتراط زيادة في بدل القرض للمقرض.
ولكن هناك منفعة يحصل عليها المقرض ـ صاحب الحساب الجاري ـ وهي الحصول على خدمة إصدار دفتر شيكات وبطاقة الصراف الآلي دون مقابل قبل وفاء القرض من غير شرط، ولم يكن ذلك عن عادة جارية بين الطرفين قبل القرض، وإنما كان ذلك بسبب القرض الذي بينهما.
اختلف الباحثون في هذه المسألة على قولين ـ فيما وقفت عليه ـ : والراجح هو جواز انتفاع صاحب الحساب الجاري بدفتر الشيكات وبطاقة الصراف الآلي دون مقابل.
الدليل الأول:
أن المنفعة الإضافية في هذه المسألة مشتركة للطرفين ـ المقرض والمقترض ـ فكلاهما منتفع فتتقابل المنفعتان،بل إن المنفعة التي تعود على العميل من جراء استخدام دفتر الشيكات وبطاقة الصراف الآلي منفعة تابعة وليست أساسية، حيث إن المصرف وضع هذا النظام لخدمة مصالحه وأغراضه المتعددة، فمنفعة المصرف من هذا النظام منفعة أساسية، وأما تحقق منفعة العميل من هذا النظام فهي نتيجة من نتائج استخدام المصرف هذا النظام لتحقيق مصالحه وأغراضه.
الدليل الثاني:(3/172)
أن هذه المنفعة ليست منفصلة عن القرض، بل هي وسيلة لوفاء المصرف للقروض التي اقترضها، حيث إنه مطالب بسداد القروض لكل مقرض متى طلب ذلك.
ب- الأسعار المميزة لبعض الخدمات.
مثل بيع العملات على صاحب الحساب الجاري بسعر منخفض عن غيره من العملاء: فحكمها أنه إذا لم يكن للمصرف منفعة - في بذله هذه الخدمات أو تنازله عن بعض قيمتها- سوى القرض، فهي منفعة محرمة؛ لأنها منفعة للمقرض - صاحب الحساب الجاري- ولا يقابلها عوض سوى القرض. وهي وإن لم تكن مشروطة إلا أنها قبل الوفاء بسبب القرض.
جـ- القروض التي يحصل عليها العميل.
إن إقراض المصرف غيرَه مقابل فوائد ربا محرم، سواء أكانت الفوائد مقابل القرض أم مقابل تأجيله، وسواء كان القرض مباشراً، أم كان بمنح سقف ائتماني؛ لأن هذه الفوائد زيادة متمحضة للمقرض، مشروطة أو في حكم المشروطة، فتكون ربا.
وأما إذا كان المصرف يقرض بدون فوائد، فينظر: فإن كان المصرف يشترط أن يفتح المقترض حساباً عنده، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه إقراض بشرط الإقراض، فيدخل في مسألة أسلفني وأسلفك، وهي محرمة.
وأما إن كان المصرف لا يشترط ذلك، وكان القرض دون مقابل فإن ذلك جائز.
د- تنظيم حسابات العميل وضبطها.
إن هذه المنفعة التي يحصل عليها صاحب الحساب الجاري جاءت تبعاً لمنفعة المصرف من تنظيم حساباته، لضبطها وعدم تفويت حقوقه وحقوق الناس، ولذلك فإنه يجوز له الانتفاع بهذه الخدمة دون مقابل.
هـ- شهادة المصرف بملاءة العميل:
إن شهادة المصرف بملاءة صاحب الحساب الجاري وجدت بسبب طلب هذه الشهادة منه، بصفته الجهة المعتمدة -في غالب الأحوال- كمصدر لهذه المعلومات، وهو الذي يستطيع تحديد ذلك. وانتفاع صاحب الحساب الجاري بهذه الشهادة حسب الحقيقة انتفاع جائز وليس من المنفعة المحرمة في القرض.
3- تكلفة القرض الفعلية.
إنه يجب على المقترض وفاء القرض في المكان الذي اقترض منه،ولكن إذا كان المقرض سيتحمل تكلفة إيصال القرض له (كما في السحب النقدي ببطاقة الائتمان) فهل يجوز له أن يأخذ عوضاً عنها بقدر ما يعادل التكلفة الفعلية، أو على أنها خدمة(إجارة) يستحق عليها أجراً يتراضى عليه الطرفان.
والذي يظهر أنه يجوز للمقرض أن يأخذ ما يعادل التكلفة الفعلية فقط، ولايجوز له أخذ زيادة عليها؛لأنها تكون عوضا عن القرض حينئذ.
ولكن تنشأ إشكالات عند التطبيق (ما الذي يدخل في التكلفة الفعلية،وهل يحمل على العميل أو مجموع العملاء،وهل تحسب التكلفة التأسسيسية أو الدورية فقط)
وأما إذا قيل إن إيصال القرض خدمة مستقلة تستحق أجراً يتراضى عليه الطرفان دون اعتبار للتكلفة الفعلية، فإن هذا جمع بين القرض والإجارة وهذا لايجوزلأن الغالب أن يكون هناك محابة في الأجرة لأجل القرض،وفي الحديث:
(لايحل سلف وبيع)، والإجارة عقد معاوضة كالبيع.
4- الجوائز على القروض.
الجوائز والهدايا إذا كان سببها هو القرض، بحيث إن من يقرض البنك مثلاً يعطى من هذه الجوائز والهدايا، فقد تقدم أن الهدية للمقرض قبل الوفاء إذا كانت بسبب القرض فإنها محرمة.
---------------------------------------
الهوامش
(1) انظر: الإجماع لابن المنذر: (120،121).
المحلى لابن حزم (8/77).
المغني لابن قدامة(6/436).
(2) سورة البقرة (375) .
(3) سورة البقرة (278) .
(4) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم. .
(5 ) أخرجه: أبو داود، كتاب: البيوع، باب: في وضع الربا.
وابن ماجة: كتاب المناسك، باب: خطبة يوم النحر.
(6) أخرجه البخاري كتاب البيوع باب: بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم كتاب المساقاة باب: بيع الطعام مثلاً بمثل.
(7) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، والترمذي، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في أن الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، كراهية التفاضل فيه.
(8) روي الحديث مرفوعاً وموقوفاً:
إسناد المرفوع منه ضعيف جداً،وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي (141-142)، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر (1/411) ونصب الراية للزيلعي (4/130)، وأبو الجهم في جزئه كما في نصب الراية (4/130).
وممن حكم بضعفه: الصنعاني في السبل، والشوكاني في نيل الأوطار، والألباني في إرواء الغليل.
وإسناد الموقوف ضعيف وقد أخرجه: البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب: كل قرض جر منفعة فهو ربا.
وبنحوه عند ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب البيوع والأقضية، باب: من كره كل قرض جر منفعة، وقد أشار لضعف الأثر ابن حجر في البلوغ.
(9) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب: الهدية لقضاء الحاجة. وفيه ضعف.
(10) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه.
(11) أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب وكالة الشاهد والغائب جائز.
ومسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، وخيركم أحسنكم قضاء.
(12) أخرجه البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: حسن القضاء.
ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتها وأنها مشروعة في جميع الأوقات.
(13) أخرجه البيهقي، كتاب البيوع، باب: الرجل يقضيه خيراً منه بلا شرط طيبة به نفسه.
وفي إسناده محبوب بن موسى وهو متكلم فيه.
(14) أخرجه ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب: القرض، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب البيوع، باب: كل قرض جر منفعة فهو ربا.
والحديث ضعفه الشوكاني في نيل الأوطار، والألباني في إرواء الغليل، وغيرهما.
وللحديث عدة طرق، وله شواهد موقوفة يرتقي بها إلى الحسن لغيره.
وممن حسنه المناوي في فيض القدير (1/292)، وابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6/159).
(15) أخرجه النسائي، كتاب البيوع، باب الاستقراض. واللفظ له.
وابن ماجة كتاب الأحكام، باب: حسن القضاء.
وأحمد في مسند المدينين.
وصححه الألباني كما في صحيح سنن النسائي.
(16) أخرجه أبو داود _ واللفظ له _ كتاب الزكاة، باب: عطية من سأل.
والنسائي، كتاب الزكاة، باب: من سأل بالله عز وجل.
وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة.
وصححه النووي، وصححه الألباني في إرواء الغليل.
(17 ) أي المنفعة الإضافية لا المنفعة الأصلية في القرض، وقد أشار إلى هذا الماوردي في الحاوي 5/256 حيث قال: «وأما الشرط الثاني: فهو أن لا يشترط المقرض على المقترض نفعاً زائداً على ما اقترض».
(18 ) جاء في عقد الجواهر لابن شاس 2/566: «وإن تمحضت للمقرض منع؛ لأنه سلف جر نفعاً».
المصدر : موقع المسلم
===============
الأمة والتحديات المعاصرة في موروثها وأخلاقها
خطبة عيد الفطر المبارك ــ 1422هـ
خالد بن عبدالرحمن الشايع
الحمد لله مُكَوِّرُ النَّهارِ على الليل ، ومُكَوِّرُ الليلِ على النَّهار ، أحمدُه سبحانه، وهو لكلِّ حَمْدِ أهل ، وأشكره وأُثني عليه الخير كلَّه ، لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه ، الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً .
وأُصلِّي وأسلم على خير خلقه نبينا محمد ، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، وقد ترك الأمة على مَحَجَّةٍ بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، وآتاه الوسيلة والفضيلة ، وبعثه مقاماً محموداً الذي وَعَدَه ، وصلى الله وسلم على آله وصحبه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد :(3/173)
فالله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر، الله أكبر ، ولله الحمد .
أيها الإخوة والأخوات : أسأل الله أن يجعل يومَكم هذا مباركاً ، وأن يجعلنا جميعاً من المقبولين ، وأن يكتب لي ولكم السعادة في الدنيا والآخرة .
أيها المسلمون :
تستقبلون اليوم بفضل الله ونعمته يوماً مجيداً من أيام الله ، إنه يوم عيد الفطر ، هذا العيد الذي امتنَّ الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فشرعه على الكمال والتمام ، قال الله تعالى : ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ( [الحج : 34].
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال : " قد أبدَلَكُم الله تعالى بهما خيراً منهما: يومَ الفطر والأضحى ".
ولهذا قال العلماء: تُشرع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد، بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن، بما أحل الله ، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم ، ومما يدلُّ عليه ما روته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعَاث [1] ، فاضطجع على الفراش ، وحوَّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال : مِزمارةُ الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم ؟! فأقبل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " دعهما " ، فلما غفل غمزتُهما فخرجَتَا. رواه البخاري ومسلم[2] .
جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا بكر ، إن لكل قومٍ عيداً ، وهذا عيدنا ".
وفي رواية في " المسند " أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : " لِتَعْلَمَ اليهود أنَّ في ديننا فسحة ، إني أُرسلت بحنيفية سمحة " .
فالعيد إذاً من الدِّين … والعيد عبادة وقربة … والعيد شِرْعةٌ ونُسُك ، ألا ترون أنه لو أن أحداً من الناس أصبح اليوم صائماً لكان عاصياً لله ، ولأصبح مأزوراً غير مأجور .
قال الله تعالى : ) يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [البقرة : 185] .
فهذه والله نعمةٌ وأيُّ نعمة... ) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( [يونس : 58].
ولا يخفى أن ما يتعاطاه بعض الناس من مظاهر الفرح المشتملة على المنهيات من غناءٍ أو تبرج النساء واختلاطهن بالرجال ونحو ذلك إنما جهلٌ قبيحٌ ممن يقع منهم .
أيها المسلمون : اليوم يَحُلُّ عيدُنا أهل الإسلام … وإنها لفرصة أن يتأمل المرء في حال نفسه وحال أمته .
إنَّ أمة الإسلام اليوم مثخنةٌ بأنواع من الجراح، مكلومةٌ في مجالات شَتَّى...
ولكم أن تتأملوا في الكُلِّيات والضروريات الخمس التي لا قوام للأمة إلا بها ( الدين والنفس والعقل والعرض والمال ) تجدوا أن فيها ما فيها من الوهن والخلل .
فالناظر فيما عليه المسلمون من التمسك بدينهم وبعدهم يجد الخلل الكبير الذي طال كثيراً الناس في عقيدتهم، وما ألَمَّ بها من الشركيات والبدع ، وهكذا الشأن في المحافظة على شعائر الدين من الصلاة والزكاة والصيام والحج التفريط كبيرٌ وكثير .
وهكذا ما يمارس اليوم من أنواع الصد عن سبيل الله وشرعه ، فمن بني جلدتنا من يقف حاجزاً بين الناس وبين تمسكهم بالدين وخاصة بعض الكتاب الذين يحاولون تشويه معالم الشرع والتنفير منه.
وغير بعيد عنهم ما تمارسه طوائف من المشركين والكفار من تشويه لدين الإسلام ومحاولةٍ للنيل منه ،كما أخبر سبحانه : ) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( [آل عمران : 186] ،
ولذلك نشِطوا في محاولات الإساءة والاستهزاء بشرائع الدين وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولئن ساءنا ذلك وكدرنا إلا أن الأمر كما قال سبحانه : ) فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ( [النساء : 19]. فهو علامة على مدى ما للدين الحنيف من قبول في أصقاع الأرض حمل قادة أهل الكتاب على إعلان المعاداة للإسلام ، بل ومحاولة تشويهه في أنظار أتباعهم ، فبحسب دراساتهم أن الإسلام إن استمر الداخلون فيه على هذه الوتيرة فستكون أوروبا قارة مسلمة بأكملها خلال عقودٍ قليلة.
ولكن محاولات إساءاتهم نحو النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : ) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( [الحجر : 95].
وموقفهم من الإسلام لنا فيه وعدٌ صادقٌ من الله : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [التوبة : 32].
أيها المسلمون :
ومن نظر في جانب الأعراض يدرك كما ابتليت الأمة اليوم بأشياء تقود كثيراً من أفرادها إلى الإخلال بها.
أرأيتم أيها الناس لو أن أحداً مجَّد مومساً أو عاهراً وأثنى عليه أو عليها بعهره أو عهرها ألا يتنقصه الناس وينبذونه.
إن الواقع اليوم أعظم من هذا وأكبر ، إنَّ دهماء الناس اليوم وعامتهم لو حلت بينهم عاهرة من عواهر التمثيل والغناء لازدحموا حولها يتمنون مصافحتها... أو حتى الحديث إليها... إن هذا ليس ضرباً من الخيال... ولكنه الواقع والحقيقة ، فالقدوة الكبرى لدى عدد من الناس اليوم هم أرباب التمثيل والغناء، حتى باتت وسائل الإعلام متخمة بتلك النماذج السيئة، وصار لها المشاركة حتى في مجالات شتى ، والنتيجة لهذه السفاهات يدركها من نظر في الأرقام المتصاعدة لجرائم الاختطاف والفواحش والزنا وحمل السفاح وغيرها من الموبقات .
وأما عقول الأمة وفكرها فالحال مؤسفةٌ ومحزنة ، فالاعتداء على العقول من خلال المسكرات والمخدرات وما في حكمها كثيرٌ مستطير .
وثمت نوع آخر من الاعتداء على العقول تمثل في التفريغ الفكري لموروث الأمة العلمي والثقافي ، وباتت علوم الناس اليوم وثقافتهم تشطح كثيراً عما كان عليه سلف الأمة ، وبات عدد من ذكور الأمة وإناثها مشدوهاً بالمناهج والأفكار التي تلقوها من الغرب والشرق، وصاروا حانقين على آداب الإسلام وتشريعاته، ويحاولون الالتفاف عليها بأنواع من الشبهات والضلالات .
وفي جانب المال والمكاسب لا تزال الأمة مكلومة في قلب اقتصادها؛ بسبب استمراء الربا واستسهال أمره ، بل إن الدعوة إلى الربا والإعلان عن مكاسبه صار الناس يُسْتَجَرُّون إليه ويُغرَونَ به ويُخطط له من خلال الدعايات الضخمة عبر الصحف والشاشات والإذاعات بلا خوف من الله ولا وجل من وعيده : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ( [البقرة : 278 و 279].(3/174)
وتبع ذلك ما أشاعه عدد من المبطلين من المعاملات المحرمة من القمار ونحوه من المعاملات المحرمة ، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعِينَة ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذُلا ، لا يَنْزِعُهُ حتى ترجعوا إلى دينكم ".
وفي لفظ في المسند عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ـ إذا يعني ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعَينِ، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله ـ : " أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم "[3] .
وخرَّج البخاري وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ بِمَ أخذ المالَ ، أمِن الحلال أم من الحرام "[4].
وأما نفوس المسلمين فلا يخفى عليكم اليوم ما يراق من دماء المسلمين، وخاصة تسلط اليهود في فلسطين ، وتسلط النصارى في عدد من بقاع الأرض، واحتلالهم لعدد من بلدان المسلمين.
إنها لحالٌ مؤسفةٌ وأوضاعٌ محزنة ، والمعضلة الكبرى في كل ذلك هو ابتعاد الناس عن دينهم وتعاطيهم للدَّنايا من الأمور ومحرماتها .
أيها الإخوة والأخوات :
في مجتمعنا هذا في هذا البلاد المباركة أفاض الله علينا من الخيرات والبركات وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة ، وأساس ذلك ورأسه نعمة الدين وظهوره ، فالدين بحمد الله ظاهر وآداب الإسلام مرعية ، وأثمر هذا ما تفضل الله به من حصول الأمن والطمأنينة والوئام بين ولاة الأمر ورعيتهم بسمعهم وطاعتهم ، وهذه نعمة لا يدرك قدرَها إلا من ترحَّلت عنه ، والله سبحانه من سنته أن يقرن في الغالب بين رغد العيش وبين الاجتماع والاتفاق والأمن .
ومن الناس اليوم من يحسدنا على هذه النعم ويسعى لزوالها بإزالة أسبابها ، وخصوصاً سبَبَها الأكبر وهو المحافظة على تشريعات الإسلام وآدابه . ومن أعظم ذلك الاجتماع على من ولاه الله أمرنا والحرص الشديد على الاجتماع والائتلاف.
أيها الإخوة والأخوات :
قضية كبرى تكتنف مجتمعنا اليوم … إنها تلك المساعي الماكرة التي يراد من خلالها وأد الفضيلة ومسخها إلى مظاهر التمدن المأفون والتحضر الممقوت الذي تستساغ معه الرذائل.
لقد ظهر هذا في عدد من الدعوات التي يتزعمها من قلوبهم مرض ومن يتربص بالبلاد وولاتها وأهلها الشرور والآثام ، فالشباب يدعى للهيام بالرذائل وسفاسف الأمور والعادات ، والفتيات يُحرضن من قبل دعاة السوء لركوب موجة الرذيلة التي تعم العالم اليوم ، والناس يشغلون بالتوافه .
ومدار الأمر في هذه القضية على قضية الغيرة والهمة العالية .
أيها المسلمون : إنَّ رعايةَ الأخلاق الشريفة والعنايةَ بالفضيلة وإشاعتِها في المجتمعات من أهم المهمات وأوجب الواجبات ، ذلك أن انهيار الأخلاق وشيوع الرذيلة مُؤذِنٌ بأخطار فادحة تعم المجتمع برمته ، حتى يَشِبَّ على ذلك الصغير ويهرم الكبير .
ولهذا كان من المقاصد والأهداف الشنيعة التي يسعى من في قلوبهم مرضٌ لإشاعتها بين الناس صرفهم عن الهدى والعفاف إلى الفحش والإسفاف ، كما أخبر الله عنهم في كتابه الكريم إذ قال عزَّ من قائل: ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ( [النساء : 27].
قال الإمام المفسر الحافظ ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ عند تفسيره هذه الآية : " معنى ذلك : ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء ، وغير ذلك ، مما حرمه الله ) أَن تَمِيلُواْ ( عن الحق، وعمَّا أذن الله لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرَّم الله ، وتركِ طاعته ) مَيْلاً عَظِيماً (. انتهى تفسير ابن جرير " ( 8/214 ـ 215 ) .
وفي عدد من المجتمعات الإسلامية يشاهد اليوم ما حلَّ بكثيرٍ من الناس من التساهل بتوجيه أهليهم ، من جهة الحرص على العفاف والحشمة والحجاب والحياء ، ولم يزل التساهل يتوالى حتى بلغ الحال ببعض النساء أن رفضن الحجاب وأحللن مكانه التبرج والسفور وقلَّةَ الحياء عن علم واطلاع من أوليائهن من الآباء والإخوان والأزواج ، ثم تبع ذلك تعاطي الفواحش ومقدماتها بتقنينٍ رسميٍ في تلك البلاد الإسلامية وللأسف الشديد .
** ولو أردنا أن نتوقف عند أبرز الأسباب التي أدت إلى تلكم التداعيات الأخلاقية الاجتماعية المؤسفة فسنجد في جملة ذلك :
ما انتقل إلى المجتمعات الإسلامية من الأخلاق الرذيلة والتصورات البائدة التي تدعو إلى التحرر من كل ما يضبط التعاملات الحياتية بضوابط الأدب والحياء ومن كل ما يمنع النفوس من مشتهياتها المحرمة ، وصاحبَ ذلك رقةٌ في الدين وضعفٌ أو موتٌ للغيرة على المحارم .
ولا ريب أن الغيرة إذا ترحَّلت من القلب ترحَّل منه الدين ، لأن الغيرة هي الحامل على رعاية العرض والحفاظ عليه والمنافحة عنه .
ولما كان زوال الغيرة مؤذناً بتساهل المرء في تعاطي أهله ومحارمه للفواحش فإن من تكامل منه ذلك صار مستحقاً لما جاء من الوعيد في الحديث الصحيح من أن الجنة لا يدخلها ديُّوث: كما قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة " وذكر منهم الدَّيُّوث.
ومن كان ذا غيرة على أهله ومحارمه اقتضى ذلك منه مباعدتهم عن كل ما يخدش الحياء ويخل بالعفاف ، وهذه صفَّةُ عزٍّ وجلالةٍ وقَدْرٍ كبير ؛ إنما يحوزها النبلاء والفضلاء من الناس ، ولهذا كان سيد الناس ومقدَّمَهم فيها سيد الخلق محمدٌ صلى الله عليه وسلم .
وغيرة الرجل على أهله التي يؤمر بها هي : منعه لَهُنَّ عن التعلق بأجنبي بنظر أو حديث أو غيره ، مما يسبب لهن تعاطي الأخلاق الرذيلة والتعاملات الصفيقة " الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجاج " ( 4/125 ) للسيوطي.
والغيرة صفة كمال طالما تمدَّح بها الكرام منذ القدم ، وجاءت الشريعة المحمدية فوضعتها في مكانها المناسب بلا إفراط ولا تفريط ، ففي "المسند" و" السنن " إلا " الترمذي " عن جابر بن عتيك الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله … ، فأما الغيرة التي يحب الله : فالغيرة في رِيبة ، وأما التي يبغض الله فالغيرة في غير الرِّيبة … "[5] .
وقد كان من تمدُّح العرب باتصاف نبلائهم بالغيرة على المحارم ما جاء عنهم من استحبابهم عفاف النساء وحياءَهن وتسترهن وحفظهن لأزواجهن ووفاءَهنَّ لهم ، وقد أشادت بذلك منابر الإعلام ومناراته في زمانهم ، أعني فحول شعرائهم ، فهذا علقمة بن عبدة يقول :
مُنَعَّمةٍ ما يُستَطاعُ كلامُها *** على بابها من أن تُزارَ رَقيبُ
إذا غاب فيها البعلُ لم تُفشِ سِرَّهُ *** وترضى إياب البعلِ حين يؤوبُ
وقال الشنفريُّ الأزدي :
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعُها *** إذا ما مشت ولا بذات تلَفُّت
أُميمةُ لا يخزي فتاها حليلَها *** إذا ذُكر النسوانُ عفَّت وجلَّت
إذا هو أمسى آب قُرَّةَ عينه **** مآب السعيد لم يَسَلْ أين ظلَّت
إلى غير ذلك مما حفلت به الدوواين وكتب الأدب في حكاية تلك الأخلاق والخواطر التي اتصلت بحياتهم أيما اتصال .(3/175)
وفي هذا السياق يقول العلامة ابن القيم رحمه الله حول هذه المسألة مما فيه الذكرى للأزواج وأولياء أمور النساء وما يتوجب عليهم من رعايتهن وصيانتهن والبعد بهن عن كل ما يقلل من كرامتهن أو يهدر مكانتهن ، يقول ـ رحمه الله ـ " الطرق الحكمية " ( ص 239 ) :
" ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بَلِيَّة وشر ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة ، واختلاطُ الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا ، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة .
ولما اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أُرسل الله عليهم الطاعون ، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً ، والقصة مشهورة في كتب التفاسير .
فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعاً لذلك " .
وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال : " ... لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا " رواه ابن ماجة ( 4019 ) وحسَّنه العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ
وإذ قال صلى الله عليه وسلم : " ... ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلَّط الله عليهم الموت " رواه الحاكم في المستدرك "( 2/136 ) من حديث بريدة مرفوعاً وصححه . وجوَّد سنده الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في " فتح الباري "( 10/195 ) .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذا ظهر الزنا في قرية أَذِنَ الله بهلاكها .
وهاهو العالم اليوم يجني نتائج ترحل الغيرة التي يفترض أن تكون لدى كل رجل مسلماً كان أو غير مسلم ، لكن كثيراً من العالمين اليوم انفلت لديهم الزمام ، وبات الفحش والعهر والزنا يتعاطاه الخارجون عن الفضيلة تحت مسميات متنوعة من الفن والحرية والتمدن والعولمة وغير ذلمك من مصطلحات آفلة ، فماذا كانت النتيجة لما غارت الغيرة واضمحلت ؟؟؟؟.
لقد بات الفحش سمةً عالمية باء أهلُه بأنواعٍ من العقوبات الإلهية التي أشهرها مرض الإيدز ، ففي كل (اثني عشر ) ثانية مصاب ، أي (8500 ) شخص يومياً ، ( 7500 ) منهم من البالغين و( 1000 ) من الأطفال ، وفي كل ساعة يموت ما يربو على ( 60 ) طفلاً جراء فيروس الإيدز[6] .
والأيام حُبلى بأنواع من المآسي والمدلهمات ، فكلما ترحلت الغيرة على المحارم فإن الكوارث المتنوعة للناس بالمرصاد . ) وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( [آل عمران : 117].
فهل يتنبه أهل الإسلام إلى ما يتوجب عليهم من حفظ هذا الأدب المسلكي الذي يحفظون به محارمهم ويعنون بأهليهم ويقومون به نحوهم بواحد من أعظم الواجبات في الرعاية والتوجيه ، وتعزيز جوانب الحشمة والحياء والعفاف والحياء ، ذلك ما أرجوه ، والله المستعان .
أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
**********
الحمد لله ...
أيها المسلمون والمسلمات :
في مثل هذا اليوم الأغر خطب نبينا صلى الله عليه وسلم الرجال ، ثم خطب النساء فوعظهن وذكرهن ، يوضح هذا ما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، بغير أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ، ووعظ الناس وذكرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن ، فقال : " تَصَدَّقْنَ فإنَّ أكثرَكُنَّ حَطُبُ جهنم " فقامت امرأةٌ من سِطَةِ النِّساء سَفعاء الخدين فقالت : لِمَ يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير " قال فجعلن يتصدقن من حُلِيِّهِنَّ يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن " .
المرأة وما أدراكم ما المرأة … لقد أراد أهل الزيغ والضلال أن يجعلوها مطية لمشتهيات أنفسهم ، ينادون بتحريرها من كل ما يحول دون وصولهم إليها بالباطل والفواحش ، وحرَّضوها على اللحاق بركب بنات جنسها من المستعبدات في الغرب والشرق .
فما المرأة المسلمة قائلةٌ اليوم؟
هل تستجيب لما فيه حتفها؟ أم تتنبه للمكر الذي أعد لها.
أيتها الأخوات الكريمات : لقد ضلَّ أكثر النساء ، ولكن قد نَجَى كثيرٌ منهن ، لا بل إن منهن من كان عندهن ومن خلالهن تغيير مسار التاريخ بأمر الله تعالى .
هذه خديجة وسابقتها في الإسلام ، وتلكم عائشة وأثرها في تعليم الأمة ، ولم تزل ثلة الصالحات المصلحات متواكبة جيلاً بعد آخر إلى يومنا هذا ، وإن نسينا فلن ننس تلك المرأة الدينة الحصيفة العاقلة ، تلك التي مرَّ قطار الدعوة الإصلاحية في هذه الجزيرة العربية من خلالها ، تلك المرأة التي كانت إحدى محطات تجديد الدين مارة عبر مشورتها المباركة ورأيها السديد ، إنها موضي بنت بن وطبان ـ رحمها الله ـ زوجة الإمام محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ حين حضت زوجها الأمير محمد على تبجيل مجدد الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وإكرامه وإحسان استقباله ومساعدته لما قدم الدرعية ، بل وأشارت عليه بالتوجه إليه في مكان نزوله ليعلم الناس مكانته ، وقد أراد الله بالأمير الإمام محمد سعود الخير فاستجاب لذلك والتقى بالشيخ وقبل دعوته وتعاهدا على نصرة الدين الحنيف والجهاد في سبيل الله ، فما من خير ولا جهاد ولا دعوة ولا هدى ولا عملٍ صالح كان إثر هذا الاتفاق إلا ولتلك المرأة الصالحة موضي مثل أجور أهله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وفي مجتمعاتنا اليوم من الصالحات المصلحات في البيوت ودور تحفيظ القرآن والمدارس والكليات وغيرها ما هو مفخرة الأمة واعتزازها ، فياحسرة على من ضلَّت عن هذا الهدى واستهانت بأمر نفسها واغترَّت بمسالك الانحراف ، ويا بشرى أخواتنا اللاتي آثرن الهدى على الضلال والعفاف والحشمة والحياء على ما يخالفها .
أيها المسلمون : ودَّعنا شهر رمضان ، غير أن الأعمال الصالحة لا تودع ولا تهجر ، فلله في دهركم خيرات وبركات وأعمالٌ صالحات ، فمن عمل طاعةً من الطاعات وفرغ منها ، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى ، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية ، فما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها ، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها ، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها ، وأنتم تستقبلون شهراً شرع لكم صيام ست منه ، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر " .
وفي المسند عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر ، وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيام السنة " .
وهي سنة غير واجبة ، يصومها الشخص إن شاء متتابعةً أو متفرقة .
أيها المسلمون : من خير ما تبدأون به العيد صلة أرحامكم ، وخاصة الرحم القاطعة فوصلها أعظم وثوابها أجزل ، ولا تنسوا المساكين واليتامى والأرامل من إدخال السرور على أنفسهم فذلك عمل محبوب عند الله وثوابه جزيلٌ وعميم .
الله أكبر الله أكبر ، لا إله الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
------------------------------------------(3/176)
[1] قال الحافظ البغوي : ويوم بُعاث يومٌ مشهور كان فيه مقتلةٌ عظيمةٌ للأوس على الخزرج ، وقد مكثت هذه الحرب مائة وعشرين سنة ، حتى جاء الإسلام ، وكان شعر الجاريتين في غنائهما فيه وصف الحرب والشجاعة ، وفي هذا معونة ٌ لأمر الدِّين ، فأما الغناء بذكر الفواحش وذكر الحُرَم والمجاهرة بمنكر القول فهو المحظور من الغناء ، وحاشاه أن يجري شيءٌ من ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم فيُغفل النكير له .
[2] "صحيح البخاري " ( 949 ) . " صحيح مسلم " ( 892 ) .
[3] إسناده عند أحمد ( 2/28 ) قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا الأسود بن عامر أنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن بن عمر . وصححه ابن القطان .قال ابن حجر: صححه بن القطان بعد أن أخرجه من الزهد لأحمد كأنه لم يقف على المسند وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه بن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً لأن الأعمش مدلس ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور . ينظر " تلخيص الحبير " (3/19).
[4] " صحيح البخاري " ( 3/77 ) . ورواه أحمد في المسند " ( 2/505 ) ، والدارمي ( 2/246 ) . ورواه النسائي ( 7/243 ) بلفظ : " يأتي على الناس زمانٌ ما يُبالي الرجل من أين أصاب المال من حلالٍ أو حرام " .
[5] " المسند " ( 5/445 ، 446 ) . " سنن أبي داود " ( 2659 ) . " سنن النسائي " ( 1/365 ) (5/78 ) . " سنن ابن ماجة " ( 1996 ) . وحسَّنه العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ في " إرواء الغليل " ( 7/59 ) .
[6] جاء في الإحصائيات أيضاً :
ـ عدد المصابين بمرض الإيدز حتى عام ( 2001 ) يبلغ أربعين مليون شخص .
ـ حتى عام ( 2002 ) الإيدز قد يكلف الاقتصاد العالمي ما بين ( 356 ) و ( 600 ) مليار دولار.
ـ في بعض الدول التي تعاني من معدلات عالية في العدوى فإن ( 80% ) من أسرة المستشفيات مشغولة بمرضى الإيدز.
* هذه الإحصائيات وفق منظمة الصحة العالمية . وانظر : " جريدة عكاظ العدد (12880) السبت 16/9/1422هـ وكذلك جريدة الرياض عدد يوم السبت 16/9/1422هـ .
================
فاكهة المجالس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد :
فعادات سيئة وأخلاق ذميمة انتشرت بين قطاع عريض من الناس، ولعلَّ من أخطرها عادة أصبحت أساسية في كل مجلس لا يستغني عنها أصحابها - إلا من رحم الله - رغم أنها عادة ذميمة وعمل لئيم، وجريمة أخلاقية منكرة، لا يحسنها إلا الضعفاء والجبناء، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون، ولا ينتشر هذا العمل إلا حين يغيب الإيمان، وهي اعتداء صارخ على الأعراض، وظلم فادح وإيذاء ترفضه العقول، وتمجه الطباع وتأباه النفوس الكريمة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، ولقد جاء وصفها في كتاب الله تعالى بأبشع الصفات، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [ الحجرات : 12 ] .
ولعظم أمرها فقد جاء الوعيد الشديد في حق مرتكبها، قال صلى الله عليه و سلم: "لما عُرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت : مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
ولعلك أخي القارئ عرفت ما هي هذه العادة الذميمة والعمل اللئيم، إنها الغيبة التي قال عنها ابن حجر الهيثمي :"إن فيها أعظم العذاب وأشد النكال، وقد صح فيها أنها أربى الربا، وأنها لو مزجت في ماء البحر لأنتنته وغيَّرت ريحه، وأن أهلها يأكلون الجيف في النار، وأن لهم رائحة منتنة فيها، وأنهم يعذبون في قبورهم . وبعض هذه كافية في كون الغيبة من الكبائر" .
والغيبة بضاعة كاسدة وسلعة رخيصة لا يسعى لها ولا يحافظ عليها إلا ضعاف الإيمان، وهي في الوقت نفسه تجارة خاسرة للمغتاب حيث إنه يخسر كثيراً من حسناته، ويكسب كثيراً من الذنوب والسيئات .
وبعض الناس مع الأسف الشديد لا تراه دائماً إلا منتقداً، وينسى صفات الآخرين الحسنة، ويركز على أخطائهم وعيوبهم فقط، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج .
والغيبة هي كما بيَّنها رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هي ذكرك أخاك بما يكره، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" [ رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي ] .
وهي حرام لقوله صلى الله عليه و سلم : "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" [ رواه مسلم ] .
والغيبة تكون في القول، والإشارة والإيماء والغمز واللمز، والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة . تقول عائشة رضي الله عنها : دخلت علينا امرأة فلما ولَّت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "اغتبتيها".
بواعث الغيبة
يقول ابن تيمية رحمه الله في بواعث الغيبة :
(1) إن الإنسان قد يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس .
(2) ومنهم من يخرج الغيبة في قالب ديانة وصلاح ويقول : ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله، والله إنه مسكين، ورجل جيد، ولكن فيه كذا وكذا، وربما يقول : دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه .
(3) ومنهم من يخرج الغيبة في قالب سخرية ولعب ليضحك غيره بمحاكاته واستصغاره المستهزأ به .
(4) ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف فعل كيت وكيت .
(5) ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمَّني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي به .
(6) ومنه من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر .
خطورة الغيبة
إن هذا الأمر على خطورته في الدنيا والآخرة لم يأبه به كثير من الناس، وتهاونوا في أمره تهاوناً عظيماً، بل اعتبروه فاكهة مجالسهم، فإنك لا تكاد تجلس في مجلس إلا وهذا الوباء موجود فيه . وسبب انتشاره هو عدم إدراك خطورته . فانظر - يا رعاك الله- إلى هذه النصوص الكريمة ليتبين لك شناعة الغيبة وخطورتها :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله، حسبك من صفية أنها قصيرة، فقال صلى الله عليه و سلم : "لقد قلت كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته".
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلاً، فقالوا : لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يُرحل له، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : "اغتبتموه" فقالوا : يا رسول الله، حدثنا بما فيه، قال: "حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه".(3/177)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً اعترف بالزنا أمام رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع مرات، فأقام عليه الحد، فسمع الرسول صلى الله عليه و سلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم . ثم سار ساعة فمرَّ بجيفة حمار شائل برجله - أي قد انتفخ بطنه - فقال عليه الصلاة والسلام: "أين فلان وفلان؟" فقالا: ها نحن يا رسول الله، فقال لهما : "كُلا من جيفة هذا الحمار" فقالا : يا رسول الله، غفر الله لك، مَنْ يأكل من هذا؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوا الذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها" [ رواه أحمد وصححه الألباني ] .
وروى أنس رضي الله عنه قال : كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا مرة ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه : إن هذا ليوائم نوم بيتكم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقل : إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فذهب وأخبر الرسول صلى الله عليه و سلم ، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : "قد ائتدما"، فجاء الغلام وأخبرهما، ففزعا وجاءا إلى رسول الله فقالا : يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك فقلت: قد ائتدمتما، بأي شيء ائتدمنا . قال عليه الصلاة والسلام : "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما"، قالا : استغفر لنا يا رسول الله، قال : "هو بل يستغفر لكما".
فانظر أخي الكريم ما هي الكلمة التي قالاها، كلمة واحدة . قالا : إن هذا ليوائم نوم بيتكم، أي إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عاتبوه بكثرة النوم فقط فعاتبهما رسول الله .
إن كثيراً من الناس يهولون أمر الربا ويستعظمون أمره - وهو كذلك - ويتساهلون بما هو أعظم منه وهي الغيبة. قال رسول الله : "إن أربى الربا استطالة المسلم عرض أخيه المسلم".
أخي الكريم : إن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ذلك، سواء ذكرته بنقص في دينه أو في بدنه أو في نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله، حتى في ثوبه ونحو ذلك .
فأما البدن : فكذكر العمش والحول والقصر والسواد، وجميع ما تعلم أنه يكرهه من الصفات إلا أن يكون معروفاً بصفة من هذه الصفات ولا يميز إلا بها وهو لا يكرهها، فلا بأس بذلك .
وأما النسب : فكقولك : أبوه هندي، أو فاسق أو زبال أو أي شيء تعرف أنه يكرهه، أو انتقاصه في حسبه ونسبه .
وأما الخُلُق : فكقولك : هو سيئ الخلق، بخيل متكبر، شديد الغضب، متهور، متسرع وما شابه ذلك.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين : فكقولك : هو كذاب،أو خائن، أو شارب خمر، أو ظالم،أو متهاون بالصلاة، أو لا يحسن الركوع والسجود، أو ليس بارًّا بوالديه، أو لا يحفظ لسانه من الكذب والشتم والسب ونحو ذلك .
وأما فعله المتعلق بالدنيا : فكقولك : إنه قليل الأدب، متهاون بالناس ولا يحترمهم، ولا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو إنه كثير الكلام، وكثير النوم في غير وقت النوم .
وأما في ثوبه : فكقولك : إن ثوبه طويل، أو وسخ الثياب، أو رديء الملابس . وقس على ذلك باقي الأمور الأخرى .
إن بعض الناس قد يغتاب شخصاً فإذا قيل له : اتق الله ولا تتكلم في أعراض المسلمين . أجاب بقوله : أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه، أو أن فلاناً لا يغضب مما أقول . فما يدريك يا أخي أنه لا يغضب، فلعله يجامل عندك ولكن في قرارة نفسه يتألم كثيراً من ذلك القول ويكرهه .
أخي الحبيب إن حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس، ولكنه محص عليك، وأنت موقوف يوم القيامة حتى يقتص منك، فيؤخذ لمن اغتبتهم من حسناتك، فإن فنيت حسناتك، أُخذ من سيئاتهم فحطَّت عليك!!. وما أشدها من مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم العظيم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة .
وكما أنك أيضاً لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكذلك الناس لا يقبلون ذلك لأنفسهم، فطهر لسانك وطهر مجلسك من الغيبة، ولا تسمح لأي شخص أن يغتاب أحداً عندك في مجلسك، ولو تكلم أحد فأسكته وبيّن له حرمة ذلك، ودافع عن أعراض إخوانك المسلمين إذا اغتابهم أحد عندك، فإن في ذلك أجرًا عظيماً كما قال صلى الله عليه و سلم : "من ردَّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" [ رواه أحمد والترمذي ] .
واعلم أخي الكريم أن المغتاب لو لم يجد أذناً صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث، فأنت باستماعك الحديث وعدم إنكارك عليه تكون مشجعاً على المعصية، وإذا لم تنكر عليه ولم تترك المجلس إذا لم يرتدع وينتهي عن الغيبة فإنك تكون شريكاً في الإثم .
وأخيراً : فإن الغيبة كما تبين آنفاً أمرها خطير والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في الاحتراز منها .
لذا فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها والابتعاد عنها، وليحاول أيضاً أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه، فإن في ذلكأجراً عظيماً، قال تعالى : } وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ َا يُحِبُّالظَّالِمِينَ{ [ الشورى: 40 ] . ولعل ذلك أيضاً يكون سبباً في أن يسخر الله له قلبَ كل من اغتابه هو فيعفو عنه ويسامحه جزاء ما فعل هو مع غيره، ولن يخسر الإنسان شيئاً إذا عفى وسامح، بل إنه سيتضاعف له الأجر بهذا العفو، ولقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم ذلك فسارعوا إلى اغتنام مثل هذه الأجور فعفوا وسامحوا وصفت قلوبهم، ومن ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه حث يوماً على الصدقة، فقام علبة بن زيد، فقال : ما عندي إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك : أين عُلبة بن زيد؟ قالها مرتين أو ثلاثاً. فقام علبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : "أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك".
ويقول ابن القيم في مدارج السالكين : والجود عشر مراتب، ثم ذكرها فقال : والسابعة الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة، كان إذا أصبح قال : اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : "من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم".
فلنحرص كل الحرص على أن نكون كأبي ضمضم ونتأسى به ونحذوا حذوه فنعفوا ونسامح كل من ظلمنا أو اغتابنا، لعل الله أن يعفو عنا ويسامحنا، وليكن ذلك من هذه اللحظة قبل أن تضعف النفس ويثقل عليها الأمر فيما بعد.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إعداد
القسم العلمي بدار الوطن
===============
هل خسرت في الأسهم ؟
محمد بن عبدالله الخضيري
الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.... أما بعد :(3/178)
فيا أيها المسلمون : اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واعلموا أنه لا تخفى عليه خافية من أمر عباده ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ )) (الشعراء 219) .
يبتلي عباده بالسراء والضراء والنعمة والبأساء والصحة والمرض والغنى والفقر ((وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )) (الأنبياء : 35) .
أيها المسلمون : لقد جاءت هذه الشريعة الغراء بكل الخيرات والكمالات ، وحرمت جميع الأضرار والمفسدات ؛ فأباحت للناس الطيبات وحرمت عليهم الخبائث وشرعت لهم طرائق يطلبون بها المال الحلال والرزق المبارك فأباحت معاملات البيوع والشراء والإجارة والشركة وأنواع الحوالات والضمانات وغيرها من المعاملات وفق ضوابطٍ شرعية وآدابٍ مرعية .
وإذا كان لكل أمة فتنة فما هي فتنة هذه الأمة ؟ ، يجيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : ((إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ))[1].
وقد جدّت في عالم اليوم طرائق كثيرة لكسب المال وتحقيق الثراء السريع . من أشهرها كما يعلم الجميع هي : وسيلة الإتجار في سوق الأسهم المالية العالمية منها والمحلية .
وأصلها كما هو معروف أسلوب غربي رأسمالي أخذه المسلمون عن الدول الغربية التي يحكم أسواقها القانون المدني، وقد قامت هيئات شرعية في عدد من البنوك في البلاد الإسلامية بضبطه وتعديله ليتوافق مع الأحكام الشرعية وحصل بذلك خير كثير ولكن بقي فيه فجوات كبرى طالما حذر منها الناصحون والغيورون .
مثل آليات البيع والشراء وحركات المضاربة العشوائية والتضخم اللامنطقي، والكذب والتغرير،والنجش في بعض أوامر الشراء، والنجش المضاد ونحو ذلك مما شاب أسواق الأسهم وأفسدها....
وكانت تلك الشركات منها ما هي محرمة بلاخلاف كالشركات الربوية أو التي أصل نشاطها محرم، ومنها شركات مختلطة أصل نشاطها مباح ولكنها تُقرض أو تقترض بالربا وقد أباحها بعض أهل العلم بضوابط معينة، والصحيح أنها محرمة لا يجوز الدخول فيها على الراجح من أقوال جماهير العلماء المعاصرين والمجامع واللجان الفقهية والشرعية والقسم الثالث شركات مباحة يجوز المساهمة فيها وهي معروفة عند أهل هذا الشأن ، وهي التي أصل نشاطها مباح وسلمت من القروض الربوية .
أيها المسلمون : وفي هذه الأيام بدأت أسواق الأسهم بالنزول والانحدار حيث المؤشرات تنزف نسباً يومية في أكثر دول الخليج وبعض الدول العربية ... وذهل الناس واندهشوا وأصيبوا بحالة من الوجوم والاستغراب في بداية الأمر ثم بدأ مسلسل الخسائر والمصائب وحلَّت بالمساهمين خسائر فادحة، وجوائح فاجعة، فترى بعض القوم لأجلها صرعى يتجرعون منها غصص البلوى ويرفعون بسببها الشكوى فكم ترى من مهموم مغموم مثقل بالديون وتسمع عن آخرين ارتفع عندهم ضغط الدم أو السكري أو كليهما فأدخلوا المستشفيات والمصحات وسمع الناس عن حالة وفيات، ومنهم من أصيب بانهيار عصبي؛ لأجل فقده جميع ما يملك ، وتصفية جميع محفظته التي كان قد اقترض نصف رأس المال فيها من أحد البنوك فاستوفى البنك مستحقاته وبقيت الخسارة يتجرعها هذا المسكين لوحده إلى غير ذلك من مسلسل المصائب والنكبات التي أفرزتها هذه الأزمة وهذا الانهيار السريع .
ولا ينكر أحد أن المال محبب إلى النفوس فطرة فهو عصب الحياة وشقيق الروح وبقدر ما يتمنى المرء الحياة والبقاء فهو يتمنى المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يهرم ابن آدم وتشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر)) [2].
من حديث أنس بن مالك وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل)) .
وفي هذه المصيبة المالية والنقيصة الدنيوية نذكر أنفسنا والمسلمين بعدة قضايا علها أن تساهم في التعزية والتسلية للخاسرين من جهة ، ومن جهة أخرى علها أن تساهم في تصحيح المسار وضبط الإستثمار لعموم المستثمرين والمساهمين .
القضية الأولى : يا كل مصاب بخسارة في هذه الأسهم ، اعلم أن الله ابتلاك في المنع كما ابتلاك في العطاء قال تعالى : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)) (آل عمران : 186) .
وقال سبحانه : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) (البقرة : 155) .
القضية الثانية : إن هذه الحادثة مورد من موارد الصبر وهو فريضة الوقت في هذه المصيبة ، فتذكر- أخي المسلم - أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان قال صلى الله عليه وسلم "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" أخرجه أبو داود بسند صحيح .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا)) [3].
والصبر عباد الله من جميل الخلال، و محمود الخصال ، فلا تتسخط على أقدار الله ولا تقع في سب الدهور والأزمان ولاتلطم وجها أو تشق جيبا، واحذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير وهو كلمة "لو" ؛ فتقول لو أني ما فعلت ، لو أني ما ساهمت ... إنه أمر قضي وانتهى قال صلى الله عليه وسلم : ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) [4].
والمؤمن يصبر اختياراً ، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم .
يقول عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .
ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الصبر مطية لا تكبو [5]
يجرى القضاء وفيه الخير نافلة *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح *** في الحالتين يقول الحمد لله
وقال الحسن -رحمه الله- "والعبد كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده " وصدق من قال :
والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقه *** لكن عواقبه أحلى من العسلِ
وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه ،وتطلع بعده إلى الرضا ،وهو أعلى درجة من الصبر التي يحفظه الله بها عن ما هو أشد منها .
يقول ابن القيم -رحمه الله- الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين ... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمناً وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، ومن فاته حظه من الرضا إمتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه [6]
إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا **** عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية *** على الناس تخفى والبلايا مواهب(3/179)
القضية الثالثة : إن في هذا الحدث عبرةً وعظةً تستوجب الخروج من المظالم ، والتوبة من المآثم .. فكم ماطل أقوام بحقوق غيرهم ؟ ... بل وتحايلوا على أموال الناس أو أسمائهم رغبة في الثراء السريع والتجارة العاجلة ، فمنعوا حقوقاً لأصحابها طمعاً في المال وربما كتموا عنهم مقدار الأرباح واستأثروا بها عنهم مستغلين جهلم بحقيقة الاكتتاب وحركة الأسهم... وكم ولغ الناس في الأسهم المحرمة الربوية منها أو المختلطة ، وتساهلوا في ذلك ولم يبالوا بأي تحذير أو توجيه ... أليس الربا شؤم وبلاء مؤذن بالحرب من رب الأرض والسماء قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )) (البقرة : 279) .
أليس الربا يمحق الخيرات والبركات : قال تعالى : (( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) ( البقرة : 276) .
ولذلك إشتد خوف السلف من الحرام وحذروا منه أشد التحذير، إمتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول )) [7].
وقال ابن مسعود لا يكتسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" .
وكانت المرأة توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له "يا هذا اتق الله فينا : إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار" .
وللذنوب -عباد الله- : عقوبات وبليات وأزمات ونكبات وقد تساهل الناس بالربا والمشتبهات إلى حد كبير نسأل الله السلامة والعافية حيث تطلّب بعض الناس المال والتجارة من أي طريق قال صلى الله عليه وسلم : (( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)) [8].
وكم من قضايا ومخالفات شرعية حصلت في زحمة انشغال الناس في أسواق الأسهم ،
فمنها : ترك الصلاة بالكلية، أو تأخيرها عن وقتها في صالات الأسهم وأمام الشاشات .
وكم من قضايا الكذب والتزوير والإشاعات والتوصيات الكاذبة ... أليست كلها ذنوب ومعاصي وبعضها موبقات وكبائر ؟ ! .
عباد الله : والمخيف في الأمر أن العقوبة إذا حلّت ونزلت شملت الجميع إلا من رحم ربك قال تعالى : ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الأنفال : 25) .
وفي البخاري باب إذا أنزل الله بقوم عذابا بعثوا على أعمالهم قال ابن حجر رحمه الله وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن ؟! فكيف بمن رضي ؟! فكيف بمن عاون ؟! نسأل الله السلامة [9]
ويقول ابن القيم رحمه الله عن الذنوب وآثارها ومن عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتحل النقم ، ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد أن سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال عنهم من نعم وجد ذلك من سوء عواقب الذنوب كما قيل
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم [10]
وقال أيضاً وكأنه يشاهد حال الناس اليوم : "ومن عقوباتها أنها تزيل النعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة فتزيل
الحاصل وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته ولا أُستجلب مفقودها بمثل طاعته، فإن ماعند الله لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سبباً وآفةً تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفاتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها .
ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره وسماعا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله [11]
القضية الرابعة : إن جمع الأموال في مجال واحد وموضع واحد إضافة إلى كونه عرضة للزوال والخسارة في أي لحظة ، ففيه أيضاً تعطيل لمصالح وتجارات وصناعات أخرى
كم تركها الناس وصفّوا أموالهم وباعوا منازلهم وحاجياتهم بل واقترضوا لمدد طويلة وهكذا جمعوا مدخراتهم ليركموها جميعا في سوق الأسهم ؟ فكان ماكان والله المستعان.
ولعل في هذه الحادثة دعوة إلى التعقل والتوازن وتنويع التجارة والاستثمار لئلا تتعطل مصالح المسلمين أو تذهب أموالهم هدراً وهباءً في يوم وليلة
القضية الخامسة : وليس وقود هذه الأسهم هم الأثرياء وحدهم والراغبون في أكل أموال الناس من أي طريق بل اصطلى بنارها ضعفاء ونساء ودخلت فيها أموال مساكين ويتامى وأرامل وأيامى طلباً للرزق الحلال وتغطية للتكاليف الأسرية، وسدادا لديون سابقة ... ومن هنا وجب على المسئولين وفقهم الله وصنَّاع القرار وأهل الحل والعقد أن ينظروا في هذه القضية ويحفظوا أموال المسلمين ولا يدعوها تنزف يومياً وتذوب كما يذوب الجليد، على مرأى ومسمع من الجميع وعهدُنا بالمسئولين وولاة الأمر اهتمامهم بأمور الرعية وأحوالها في قضايا كثيرة ليست هذه بأقل منها بل حقيقة هي أشد ووقعها أنكى حيث إن الإحصائيات تقول : إن ما يزيد على أربعة ملايين فرد قد دخلوا في سوق الأسهم .
وقلما تجد بيتاً إلا وله نصيب منها بقليل أو كثير .
وإذا كان يقال "إن النظام لا يحمى المغفلين" فكيف يترك للمتلاعبين خلال فترات ماضية مزيداً من النجش وبثّ الإطمئنان وتصدير التوصيات الكاذبة وإغراء المجتمع بقوة السوق ومتانته من خلال وسائل الإعلام وتسابق المحللين الفنيين في الإذاعات والقنوات لبث الثقة والطمأنينة ، ودراسة المؤشرات وتبادل التوصيات ورفع معدلات المضاربة في شركات لا تستحق عشر قيمتها الحالية .
ثم بين غمضة عين وانتباهتها يحصل هذا الانهيار ويخرج كبار المضاربين من السوق وتختفي السيولة مباشرة ويتضاعف العرض ولا يقابله طلبات شراء بلا مسوغات اقتصادية أو أسباب أمنية أو اجتماعية بل على العكس، الأوضاع الاقتصادية والأمنية بحمد الله على أحسن حال ... ثم لم نرى أولئك بعد ... بل تواروا عن الأنظار وتلاشت تلك التوصيات والتحليلات و في بعضهم شبه بمن قال الله عنه : ((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (إبراهيم : 22) .
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه إلى يوم الدين :
القضية السادسة : إن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارة الدين والأخلاق وخسارة الأنفس والأرواح .
فالمال كالريش ينبت ثم يزول ثم ينبت وهكذا ..
وقد قيل : أحتال للمال إن ضاع فاجمعه
ولست للدين إن ضاع بمحتال(3/180)
فهل تساوي أموالك كلها أن تسهر ليلة على السرر البيضاء ، ثم ماذا لو أصيبت إحدى رجليك أو يديك بألم شديد وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد ؟ .
أرأيت لو قيل إن هناك علاجاً في أقاصي الدنيا وقيمته جميع ما تملك أتراك تدفع هذا المال لصحتك ؟! ..
قطعاً لا أظن عاقلاً يتردد في ذلك ... إذاً ألا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك فلقد أعطى كثيرا وأخذ قليلا ورزق وأنعم ووسَّع في الرزق فله الحمد على ما أعطى وله الحمد على ما منع .
ولا تنظر – أخي المسلم - إلى النعم المفقودة وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها واشكر الله على أن أبقاك صحيحاً مسلماً ، والخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بالكفر والمعاصي : (( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )) (الزمر : 15).
القضية السابعة : ومن دروس هذه الحادثة أن لا ينظر المسلم إلى الأسباب المادية وحدها ويعتمد عليها وينسى سؤال الله تعالى وطلب الرزق منه وتعليق الأمور بمشيئته تبارك وتعالى .
وكم نرى من يجزم بأخبار مستقبلية دون تعليق ذلك بالمشيئة وتذكر جميع الأمور والمحفزات والتوصيات وكون مستوى السوق بفضل كذا وكذا وبسبب كذا وكذا وليس لمشيئة الله وذكر الله وفضل الله وعطائه أي ذكر على لسان الكثيرين من رجال الأعمال وأهل الاقتصاد والمال وقد عد العلماء ذلك نوعاً من كفر النعم قال تعالى : (( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)) (النحل : 83).
يقول مجاهد : هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي .
وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا .
وقال ابن عباس : عند قوله تعالى: ((فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )) (البقرة : 22).
قال : الأنداد هو : الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ،
وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي .
وتقول : لولا كليبة هذه لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص... وقول الرجل لولا الله وفلان ..." .
ومن دروس هذه الحادثة : أن لا يتعلق الإنسان بأخبار شائعة ويبني تجارته على توصيات خادعة لم تبنى على أسس مالية واقتصادية صحيحة
القضية الثامنة : الواجب أن يقتصد الإنسان في طلب الدنيا ولا يصاب بالسعار والهيام ورائها فكم رأينا ورأى الجميع الأسراب المتكاثرة في الاكتتابات ، وازدحام الطرقات والمصارف ، بل والقيام بالأسفار إلى دول مجاورة مع العنت والمشقة وترك الأهل والأولاد والوظيفة لأجل لمعان المكاسب وبريقها
وكم تساهل الناس في الطاعات والعبادات ورأينا أقواما تركوا صلة الرحم والاجتماع بالقرابة وقضاء حقوق الوالدين لأجل العكوف في صالات الأسهم أو أمام جهاز الحاسب يقول صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنه الله بما آتاه ))[12].
والقناعة أعظم كنز وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة .
ومن جميل ما يروى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- :
أفادتني القناعة كل عز *** وهل عز أعز من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعة
تحز ربحا وتغنى عن بخيل *** وتنعم في الجنان بصبر ساعة
وقال الشافعي رحمه الله :
رأيت القناعة كنز الغنى *** فصرت بأذيالها ممسك
فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنياً بلا درهم *** أمرّ على الناس شبه الملك
وقال آخر :
اقنع بما ترزق يا ذا الفتى *** فليس ينسى ربنا نمله
إن أقبل الرزق فقم قائماً *** وإن تولى مدبراً نَمْ له
القضية التاسعة : ولا يجوز أن تنعكس آثار هذه الحادثة على الأسرة والأولاد أو الزوجة أو الإخوان بسبب الديون وتداخل الأموال وحصول الخسارة لأن هذا أمر خارج عن قدرة الإنسان فلا تضاعف خسارتك فتغضب من أي موقف ويتغير مزاجك ، وتتبدل أخلاقك على والديك وزوجتك وأولادك .
وبهذه المناسبة نذكر إخواننا الدائنين والمقرضين : أن يتقوا الله ويرحموا المعسرين وينظرونهم أو يتجاوزوا عنهم قال صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" . أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه .
القضية العاشرة والأخيرة : فلنعلم أن ما يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان له فيه خير كما ثبت بذلك الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فكم في هذه المحنة من منحة وفي هذه النقمة من نعمة ففيها عبر وعظات ودروس للجميع وفيها تقوية للمؤمن وتدريب له على الصبر وفيها النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية .
وفيها خضوع الإنسان لربه وانطراحه بين يديه ولولا هذه النوازل لم يُرى الإنسان على باب الالتجاء والمسكنة، والله تعالى يبتلى خلقه بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به فهذه من النعم في طي البلاء : كم نعمة لاتستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنة .
قال سفيان بن عيينة : (وما يكره العبد خير له مما يحب لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء وما يحبه يلهيه) [13] .
ويقول المنبجي رحمه الله : وليعلم أهل الصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب وما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته وإستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل :
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا و بغوا وعتوا وتجبروا في الأرض وعاثوا بالفساد ، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي وصحة وفراغ وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فعل بمن قبلهم فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال ؟ . اهـ
وفيها العلم بحقارة الدنيا وهو أنها أدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه وتنغص حياته وتنسيه ملاذه السابقة والكيس الفطن لا يغتر بالدنيا بل يجعلها مزرعة للآخرة .
وفقني الله وإياكم لاغتنام هذه الحياة بالباقيات الصالحات ، والتزود من أعمال الخير والبر .
قال تعالى : ((وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ )) (البقرة : 197) .
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونقِ سرائرنا من الشرور والبليات.
اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، الذين يريدون أن تكون كلمتك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفرج همهم ونفس كربهم وارفع درجاتهم. اللهم واخز عدوهم من اليهود والنصارى، ومن شايعهم من الباطنيين والمنافقين، وسعى في التمكين لهم وتسليطهم على المسلمين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين وعبرة للمعتبرين.(3/181)
اللهم عليك بهم، اللهم زلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيع والبدع والعناد والفساد، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ووفق أئمتنا وولاة أمورنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
________________________________________
[1] رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح .
[2] متفق عليه .
[3] أخرجه أحمد والبيهقي وصححه الألباني .
[4] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
[5] ذكرها ابن القيم في عدة الصابرين ، ص124 .
[6] مدارج السالكين 2/172 ، 202 .
[7] أخرجه مسلم .
[8] رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[9] فتح الباري - ابن حجر [ جزء 13 - صفحة 61 ] .
[10] بدائع الفوائد 2/432 .
[11] الجواب الكافي ، ص 73 .
[12] رواه مسلم
[13] الفرج بعد الشدة ، ص 22 .
==============
مشروع محمد عبده ( الإصلاحي ) وزرع الشوك
محمد جلال القصاص
لازالت شريحة كبيرة من المثقفين تتكلم عن محمد عبده على أنه إمام ورائد للنهضة الحديثة ، ويدعوا نفر من المحسوبين على التيار الإسلامي إلى إعادة نموذج محمد عبده الإصلاحي ثانية للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد . . لذا رأيت أنه من الضروري إلقاء الضوء على نموذج محمد عبده الإصلاحي . وبيان كيف أنه كان البذرة التي أثمرت الشوك فيما بعد .
من هو محمد عبده ( 1849 م ــــ 1905 ) ؟!
بعد فشل الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية ، وأسر لويس التاسع في دار بن لقمان بالمنصورة وفِديته . كان هذا الرجل فطنا ، عاد يحدث قومه : لن تستطيعوا التغلب على هذه الشعوب وأنتم تحملون الصليب ، هذه الشعوب تهب حين تُأْتَى من قبل دينها . فتعلم الصليبيون الدرس ، وعادوا إلينا يدَّعون أنها أهداف اقتصادية ، وأنهم علمانيون لا دينيون ، والحقيقة أنهم يحملون ذات الثارات القديمة ، والفارق بينهم وبين أجدادهم أنهم لا يجملون الصليب .وكان الاحتلال البريطاني لمصر جزء من هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي ، فمنذ قدومهم عملوا على نزع الهوية الإسلامية عن شعب مصر ،وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يتفق مع مطالبهم .وقد عملوا على إيجاد جيل كامل من أصحاب الشذوذ الفكري والطموح السياسي كما يقول الدكتور محمد محمد حسين ليتولى هو مخاطبة الشعب وتغيير هويته .
وقد وجد القوم بغيتهم في ( الشيخ ) محمد عبده... لماذا ؟
يرجع هذا إلى نشأة ( الشيخ ) وطبيعة أفكاره . فقد ( كان الشيخ اعتزالياً متتطرفاً ، هذا أقرب ما يمكن أن يوصف به الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحياناً ، وتظهر إعتزاليته في تفسيره للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم ، وربما كانت هذه التأويلات هي التي دفعت كرومر إلى قوله " أشك أن صديقي عبده كان في الحقيقة لا إدرياً " نقلها عنه جب ص 399 دراسات في حضارة الإسلام ) [1]
تأثر ( الشيخ ) محمد عبده بجمال الدين الأسد أبادي (الأفغاني ) والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة إذ أنه كان منبهراً هو الآخر بالغرب وقوانينهم فنادي بأن الأمة هي مصدر الحكم ، ونادى بوحدة الأديان ، والسلام العالمي ،وأن الاشتراكية من الإسلام . ورحل إلى أمريكا مستنصرا . [2]
وحمل محمد عبده ذات الأفكار ، وأفسح الإنجليز له المجال ليتكلم إلى الشعب من أعلى المنابر في مصر وأكثرها قبولا لدى العامة وهو منبر الإفتاء ، وليكون لسانه لسان الشرع .
أما كونه حمل ذات الأفكار ودعى إليها فقد جاء في مقدمة رسالة التوحيد لمحمد أبو ريّة ـــ وهو من أحباء الشيخ ــــ نقلا عن مستر بلنت في كتابه( التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر) ص:76 وهو يتحدث عن الشيخ جمال الدين الأفغاني ورسالته في الشرق وإصلاحه يقول : أما عباءة المصلح نفسه ـــ يعني جمال الدين ـــ فقد ألقيت على عاتق أقوى من عاتق صاحبها الأصيل ( الشيخ ) محمد عبده وقد خلف جمال الدين في زعامة حزب الإصلاح الحر في الأزهر .
أما كون الإنجليز أفسحوا له المجال فهذه حقيقة لا يماري فيها من له أدنى دراية بـ ( الشيخ ) ، والذي يتضح لي أن شخصية محمد عبده اتفقت مع هوى الإنجليز ، فحدث بينهما التقاء وتعاون ، وثقة متبادلة ، يصفها البعض بالعمالة ويشتد البعض في اللفظ فيصفها بالخيانة والمحصلة واحدة ، وما يعنيني هو أن الشيخ كان على علاقة قوية بالإنجليز . لم ينكر هذا أحبابه فهذا يوسف الغزال في تقديمه لرسالة التوحيد يفسر سوء العلاقة بين الشيخ والخديوي عباس بقوة علاقة الشيخ بالإنجليز وكثرة تردده عليهم . [3] وعلانية امتدحه الإنجليز ورضوا عن أقواله وأفعاله ، ووقفوا ورائه يغدقون عليه الألقاب ، ويرسلون فتواه في كل مكان .
واقرأ هذا النص ، وهو من قول مستشار القضاء الإنجليزي بمصر في تقريره عن المحاكم لسنة 1905م وهو العام الذي توفى فيه الشيخ يقول : ولا يسعني ختم ملاحظتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليو الفائت وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة الفادحة التي أصابت هذه النظارة بفقده .. " إلى أن يقول : " وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيراً من القوانين المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية .... " [4]
معذرةً أرجو قراءة النص مرة أخرى !
ومعروف أن المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر كان صديقا للشيخ محمد عبده ، وأنشأ سويا كلية لتخريج قضاة الشرع المسلمين يدرس فيها مجموعة من العلماء ذوي الطابع التحرري والتي يقول عنها :" أنها كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه " ويتحدث عن ذلك في تقريره لحكومته عام 1905م فبقول : وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق " محمد عبده " بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها وقد أتمت اللجنة في شهر يونيو السابق ـ والشيخ توفى في الشهر الذي بعده ، وهذا له دلالته ـ ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة .. وهذه النظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة "[5]
ولم يكن الشيخ مقرباً عند الإنكليز الكفرة وفقط بل " كان بين الطوائف الراقية من المصريين والأجانب محبوباً معظماً معترفاً له بمقام الإمام [6]
وأيضاً نال الشيخ احترام الكاثوليك العرب فهذا بشر الخوري صاحب معجم الموارد يقول بعد سلسلة من المدائح " .. والخلاصة أنك آية من آيات الله " [7] ]
بهذا تعلم أن محمد عبده نشأ في بيت مشبوه ورباه شيخ مشبوه هو جمال الدين (الأفغاني) ، وقام الإنجليز بزرعه في أعلى منصب في مصر ، وأخلوا بينه وبين الشعوب ليتكلم إليها كيف شاء .
أسس محمد عبده أثناء فترة تواجده في لبنان جمعية سريرة مع أحد دعاة التنصير تدعوا إلى الحوار بين الأديان [8].
دعوة الشيخ محمد عبده .
اشتهر الشيخ محمد عبده بدعوته إلى الإصلاح ، والإصلاح الذي كان يهدف إليه الشيخ ثلاثة أنواع :
إصلاح الدين وإصلاح اللغة والأدب وإصلاح السياسة [9]
( وكل الذين قاموا بالإصلاح في الميادين الثلاثة كانوا من تلاميذه وأصدقائه ممن صاروا على خطاه وتأثروا بطريقته منهم سعد زغلول ، وقاسم أمين ، وأحمد لطفي السيد ، وطه حسين وغيرهم )[10](3/182)
والشيخ ( أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه )[11].
والشيخ هو صاحب الفتوى الترنسفالية ، التي أباح فيها التشبه بالخواجات في لبس القبعة[12] .
والشيخ أول من أفتى بإباحة الربا في شكل صناديق التوفير معتمداً ـ كما يرى العقاد ـ على مفهوم الآية من أنه لم يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة فقط .[13]
والشيخ كان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " فعندما أصدر قاسم أمين كتابه تحرير المرأة شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة للأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة هو أحد رجلين إما محمد عبده وإما كرومر ؛ ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول ( إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب " تحرير المرأة "في جنيف عام 1897م قبل أن ينشره على الناس ")[14].
وقال ذلك نصا الشيخ محمد إسماعيل ـــ حفظه الله ــ المقدم في محاضرة له بعنوان المؤامرة على المرأة المسلمة وعلل ذلك بان الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم أمين بها .
والشيخ نادى بتحريم تعدد الزوجات عملاً بحديث لا ضرر ولا ضرار.!! [15].
( وجملةً يمكن أن يقال أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة ) [16]
ومن المعلوم أن هذه الجامعة كانت مختلطة . وأنشأت فيها معاهد للرقص والفنون الجميلة وهذه هي الأخرى كانت من بنات أفكار الإمام محمد عبده كما يخبر العقاد في فصل الفنون الجميلة .
وتدبر : التعامل مع الكفار ( قبول الآخر ) ، التشبه بهم ، إباحة الربا ، تحرير المرأة ، تحريم تعدد الزوجات ، أليست هي ذات المطالب القائمة اليوم ؟!
لمن كانت ثمار دعوته ؟
بعد هذا العرض لأفكار الشيخ ودعوته يمكننا القول أن الذي جنى ثمار دعوة الشيخ هم الإنجليز ، وذلك على مستويين .
الأول : على مستوى عوام الناس حيث اتخذت الشعوب أفكار الشيخ وفتاويه مبرراً نفسياً لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع حديث " عيسى بن هشام "شيئا من ذلك على لسان أبطال الرواية إذ يسأل أحدهم متعجبا : كيف صاغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة الإسلامية ؟ فيجيب الآخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة )
الثاني : كانت أفكار الشيخ محمد عبده ـ كما يقول سفر الحوالي ـ حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي ومن ثم باركها المخطط الصهيوني الصليبي العالمي واتخذها جسراً عبر عليها إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية ، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة الإسلامية والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة ، واستوراد النظريات الاجتماعية الغربية وهو ما تم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً [17]
نعم كان محمد عبده مخلصا وجادا فيما يفعل ، وأراد محمد عبده الوقوف في وجهة الجمود العقلي الموجود في هذه الأيام ، وأن يجاري العقل الأوروبي صاحب الاختراعات والاكتشافات العلمية يومها ، فبالغ في إعمال العقل وصار تحت ردود الأفعال فأحدث انحرافا جديدا [18] .
ونعم أراد محمد عبده أن يقيم سدا في وجه الاستعمار الغربي والغزو الفكري يومها ، فأقام قنطرة عبر عليها العدو إلى ثوابتنا الإسلامية ، فكان ما كان . كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم .
ومن يقرأ عن حياة محمد عبده ويأخذ شخصيته من كل جوانبها ، يجد أن الشيخ كان شغله الشاغل هو تحسين صورة الإسلام في أعين الغربيين . والنهوض بالأمة ، نهضة مادية كالتي كانت في أوروبا يومها ، وربما هذا هو القاسم المشترك بينه وبين من يحاولون إحياء دعوته اليوم .
من المهم جدا تحديد المنطلق ، ومن المهم جدا وضوح الهدف بدقة . وثلة غير قليلة من مثقفي اليوم ، تريد تحسين صورة الإسلام أمام الغرب ، وتريد الرقي المادي بالأمة الإسلامية ، وتجد أقلامهم تأن من كل فعل ( يشوه ) صورة الإسلام أمام الغرب ، وهم يصرحون بهذا في أكثر من مقام .
هذا هو هدفهم الذي يظهر لي ، وهذا هو منطلقهم الذي يخرجون منهم .
والذي أفهمه هو أن رسالتنا هي تعبيد الناس لله وليس الرقي المادي بحياتهم ، وأن الخطاب الأخروي لا ينبغي أن يغيب عن البال ، فالشرع جاء أساسا لإنقاذ الناس من نار جهنم " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " ، وإصلاح الدنيا يأتي تبعا ، لا أصلا " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
والذي أفهمه أنه مر مائة عام على وفاة محمد عبده ، ولم نجن من مشروعه الإصلاحي إلا الشوك . . . حرية المرأة ، والجامعات المختلطة ، والسخرية من التيارات السلفية الملتزمة بالهدي النبوي . .. الخ .
نعم لم نجن من مشروع محمد عبده إلا الشوك ، والعجب كل العجب أن يأتينا آخر يريد منا اليوم بذر الشوك ثانية للأجيال القادمة . !!
كتب : محمد جلال القصاص
25 /06 /2005
18 /05 /1426
------------------------------------------
[1] [راجع إن شئت العلمانية للدكتور سفر الحوالي صـ 575]
[2] ومن أراد المزيد فليقرا خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182 وكان للأفغاني نشاط ماسوني وكان يشرب الكونياك ـــ وهو نوع من الخمر ــــ كما ذكر ذلك محمد رشيد رضا في " تاريخ الأستاذ " جـ 1 / 49
[3] .[ رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده تقديم حسين يوسف الغزال ص: 15،20]
[4] [نقلا عن العلمانية للشيخ الدكتور سفر الحوالي ص :575 س
[5] المصدر السابق صـ 576، 577
[6] ".[ (3)رسالة التوحيد- محمد عبده تقديم محمد أبورية ص8
[7] [ المصدر السابق ص 10 ]
[8] " ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب ( منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ) الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي . صـ 124 ـــ 169 )
[9] ،[رسالة التوحيد تقديم حسين الغزال ص18 ]. قلت : وهذا يشي بانفصال الدين عن السياسة في رأس الرجل .
[10] [سلسلة أعلام العرب ص 20 ]
[11] [العلمانية 578]
[12] [أعلام العرب ص: 176]
[13] [أعلام العرب ص: 176]
[14] [ أحمد لطفي السيد ص 132 وجاء مثل هذا في كتاب قاسم أمين ص 158، 159]
[15] أورد هذا الكلام خالد محمد خالد في كتابه الديمقراطية أبداً ص: 164، 165 .
[16] [ العقاد :أعلام العرب ص : 176]
[17] .[ العلمانية ص :579 ]
[18] راجع ـــ إن شئت ـــ مقدمة كتاب مقومات التصور القرآني للأستاذ سيد قطب .
================
حكم تداول أسهم شركة الصحراء
د. أحمد بن محمد الخليل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
تتميز الشركات حديثة التأسيس بأن أغلب موجوداتها من النقود، وقد يكون مع هذه النقود بعض الموجودات الأخرىمن الأعيان، أوالمنافع، أو الحقوق.(3/183)
ومن هنا نشأ الإشكال في حكم تداول أسهم هذه الشركات؛ لأن تداولها يعني تداول نقد بنقد معه أعيان، ومنافع، وإن كان هذا الإشكال لا يختص بالشركة التي نشأت حديثاً، بل يشمل كل شركة بقية غالب موجوداتها من النقود ولم يبدأ تشغيل واستثمار تلك النقود.
وأُحب في هذه الكلمات المختصرة بيان حكم تداول هذه الأسهم، راجياً من الله التوفيق والسداد، فأقول مستعيناً بالله.
من أهم الأمور التي تحتاج إلى بيان وإيضاح في هذه الشركات ما يتعلق بالنقد الموجود فيها هل هو مقصود أم لا ؟
وإذا نظر الإنسان إلى النقد الموجود في هذه الشركات وجده مقصوداً لعدة اعتبارات :
أولاً: قوام هذا النوع من الشركات في هذا الوقت هو النقد الذي تملكه الشركة، فهو مهم جداً في هذه المرحلة من مراحل الشركة؛ لأن المشروعات الإنتاجية التي ستقوم تعمتد بالدرجة الأولى على هذا النقد، بل ربما احتاجت الشركة إلى الاقتراض لزيادة هذا النقد.
ثانياً: الجزء غير المقصود في السلعة من خصائصه أنه تبع لا يؤثر فقده على السلعة، ولو فقدت الأموال النقدية لهذه الشركة بأي سبب من الأسباب لسقطت سقوطاً ذريعاً، ولأصبح سهمها لا قيمة له فكيف يقال مع ذلك أن النقود غير مقصودة؟!
وبالمقابل لو فقدت بعض الأعيان، أو المنافع، أو الحقوق، لم تؤثر على الشركة تأثير فقد النقود.
وأنا لا أقول لا قيمة لهذه الأعيان، والحقوق، بل لها قيمة، لكن النقود أيضاً مقصودة ومهمة في هذه المرحلة للشركة.
ثالثاً: هذه النقود هي الغالب في موجودات الشركة فكيف يكون غالب السلعة ليس مقصوداً ؟
رابعاً: عندما تحدث الفقهاء عن قاعدة (التابع تابع) ذكروا من أمثلتها :جلد الحيوان، والجفن والحمائل للسيف, ونحوها.
فهل نسبة الأموال النقدية للشركة كنسبة الحمائل للسيف؟ إن في التسوية بينهما بعداً لا يخفى.
خامساً: المساهم الذي يشتري السهم يقصده كله بنقده وموجوداته الأخرى غير النقدية كالموجودات العينية, والحقوق المعنوية ونحوها.
فإن قيل إنه لايقصد النقد ولايخطر بباله
فالجواب أنه لايقصد أيضا الموجودات الأخرى غير النقدية، وهذا يدل على أنه يقصد سهم الشركة بموجوداته جملة من غير تعيين(1) .
وكون الشركة في الأصل تريد استثمار هذه النقود في المستقبل، لا ينفي أن ننظر إليها الآن(2) باعتبار حقيقتها، وهي أنها نقود وأعيان؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً و عدماً.
فإذا ثبت أن أسهم الشركات حديثة التأسيس تشتمل على أموال وأعيان كلاهما مقصود صارت هذه المسألة تدخل في مسألة "مد عجوة ودرهم" التي ذكرها الفقهاء.
ولا أريد هنا الإطالة بذكر الخلاف مع الأدلة والترجيح في هذه المسألة، ، إنما سأذكر الأقوال فقط ثم أذكر بعد ذلك حكم مسألتنا.
وقد اختلف فيها الفقهاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز بيع الربوي بجنسه، ومع إحداهما، أو معهما، من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم، وهذا قول جماهير أهل العلم(3).
القول الثاني: يجوز إن لم يكن الذي معه مقصوداً، كالسيف المحلى(4)،وهو رواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام، واختارها ابن قاضي الجبل(5).
القول الثالث: يجوز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وأن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، وهو مذهب الأحناف، وحماد بن أبي سليمان، ورواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام(6)، ولهذا القول شرط آخر سيأتي تفصيله.
فإذا عرفت الأقوال في هذه المسألة فأقول:
على القول الأول لا يجوز تداول أسهم الشركات حديثة التأسيس لعدم جواز بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسهما.
وعلى القول الثاني أيضاً لا يجوز تداول هذه الأسهم، باعتبار أن النقد الذي فيها مقصود، على ما سبق بيانه .
وإنما يتصور الجواز على القول الثالث فقط.
والصواب أنه لا يجوز تداول أسهم هذه الشركات، حتى على القول الثالث؛ لأن لهذا القول شرطاً يمنع من الجواز.
ذلك؛ لأن الفقهاء الذين أخذوا بالقول الثالث إنما يجيزون بيع الربوي بجنسه، ومعه من غير جنسه إذا كان المفرد أكثر بشرط وهو المقابلة.
ومعنى المقابلة تقسيم الثمن على المثمن، فمثلاً إذا باع درهمين بدرهم ومد، فإن المد مقابل الدرهم والدرهم مقابل الدرهم.
قال حرب: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفياً ودرهماً وأخذت ديناراً شامياً وزنهما سواء، قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة(7).
وذكر شيخ الإسلام أن الفضة إذا كان معها نحاس وبيعت بفضة خالصة "والفضة المقرونة بالنحاس أقل، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة " مد عجوة "، كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين"(8) .
ولزيادة الإيضاح أنقل كلاماً نفيساً للحافظ ابن رجب، حول حكم مسألة مد عجوة ودرهم، قال ابن رجب:
"ومنها مسألة مد عجوة وهي قاعدة عظيمة بنفسها فلنذكر هاهنا مضمونها ملخصا: إذا باع ربويا بجنسه ومعه من غير جنسه من الطرفين أو أحدهما كمد عجوة ودرهم بمد عجوة أو مد عجوة ودرهم بمدي عجوة أوبدرهمين ففيه روايتان أشهرهما بطلان العقد وله مأخذان:
أحدهما: وهو مسلك القاضي وأصحابه أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثمن على قيمتهما وهذا يؤدي هاهنا إما إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتساوي وكلاهما مبطل للعقد في أموال الربا. وبيان ذلك : أنه إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة دراهم كان الدرهم في مقابلة ثلثي مد ويبقى مد في مقابلة مد وثلث ذلك ربا وكذلك إذا باع مدا يساوي درهما ودرهمين بمدين يساوين ثلاثة دراهم فإنه يتقابل الدرهمان بمد وثلث مد ويبقى ثلثا مد في مقابلة مد , وأما إن فرض التساوي كمد يساوي درهما , ودرهم بمد يساوي درهما ودرهم فإن التقويم ظن وتخمين فلا يتيقن معه المساواة والجهل بالتساوي هاهنا كالعلم بالتفاضل فلو فرض أن المدين من شجرة واحدة أو من زرع واحد وإن الدرهمين من نقد واحد ففيه وجهان ذكرهما القاضي في خلافه احتمالين : أحدهما : الجواز لتحقق المساواة . والثاني : المنع لجواز أن يتغير أحدهما قبل العقد فتنقص قيمته وحده وصحح أبو الخطاب في انتصاره المنع قال ; لأنا لا نقابل مدا بمد ودرهما بدرهم بل نقابل مدا بنصف مد ونصف درهم , وكذلك لو خرج مستحقا لاسترد ذلك وحينئذ فالجهل بالتساوي قائم , هذا ما ذكره في تقريره هذه الطريقة . وهو عندي ضعيف ; لأن المنقسم هو قيمة الثمن على قيمة المثمن لا إجراء(9) أحدهما على قيمة الآخر ففيما إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة لا نقول درهم مقابل بثلثي مد بل نقول ثلث الثمن مقابل بثلث المثمن فنقابل ثلث المدين بثلث مد وثلث درهم ونقابل ثلث المدين بثلثي مد وثلثي درهم فلا تنفك مقابلة كل جزء من المدين بجزء من المد والدرهم. ولهذا لو باع شقصا وسيفا بمائة درهم وعشرة دنانير لأخذ الشفيع الشقص بحصته من الدراهم والدنانير , نعم نحتاج إلى معرفة ما يقابل الدرهم أو المد من الجملة الأخرى إذا ظهر أحدهما مستحقا أو رد بعيب أو غيره ليرد ما قابله من عوضه حيث كان المردود هاهنا معينا مفردا , أما مع صحة العقد في الكل واستدامته فإنا نوزع أجزاء الثمن على أجزاء المثمن بحسب القيمة وحينئذ فالمفاضلة المتيقنة كما ذكروه منتفية , وأما أن المساواة غير معلومة فقد تعلم في بعض الصور كما سبق"(10).(3/184)
فهذا الكلام نقلته لبيان أن العلماء يرون أنه في مسألة مد عجوة ودرهم لا بد من انقسام أجزاء أحدهما على قيمة الآخر على طريقة القاضي.
أو انقسام قيمة الثمن على قيمة المثمن على طريقة ابن رجب.
وعلى كلٍ لا بد من هذا التقسيم.
وقد نقلت هذا للإيضاح كما سبق، وإلا فإن هذا التفصيل كله يتعلق بالرواية الأولى وهي المنع. ونأتي الآن إلى الرواية الثانية يقول ابن رجب:
"والرواية الثانية : يجوز ذلك بشرط أن يكون مع الربوي من غير جنسه من الطرفين، أو يكون مع أحدهما ولكن المفرد أكثر من الذي معه غيره نص عليه أحمد في رواية جماعة، جعلا لغير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة , ومن المتأخرين كالسامري من يشترط فيما إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي جعلا لكل جنس في مقابلة جنسه، وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره، لا سيما مع اختلافهما في القيمة، وعلى هذه الرواية فإنما يجوز ذلك ما لم يكن حيلة على الربا، وقد نص أحمد على هذا الشرط في رواية حرب ولا بد منه . وعلى هذه الرواية يكون التوزيع هاهنا للأفراد على الأفراد، وعلى الرواية الأولى هو من باب توزيع الأفراد على الجمل، أو توزيع الجمل على الجمل"(11) .
إذاً على هذه الرواية ـ الجواز ـ يكون التوزيع للأفراد على الأفراد، أي نجعل غير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة، كما تقدم عن ابن رجب، وإذا اختل هذا المبدأ حرمت المعاملة.
وإذا أردنا أن نطبق هذه المقابلة، أو التقسيم، على مسألتنا فإنه ينتج من ذلك عدم الجواز.
ولبيان ذلك أقول:
طرحت شركة الصحراء أسهمها للإكتتاب بقيمة (50) ريالاً للسهم الواحد(12).
وصُرف جزء يسير من هذه ألـ (50) في شراء أعيان، أو منافع ولنفرض أنها تشكل 10% من قيمة السهم، فبقي من الأموال النقدية 45 ريالاً.
ثم ارتفعت قيمة الأسهم لتصل إلى (220) ريالاً للسهم الواحد.
فإذا أردنا تطبيق مبدأ مد عجوة ودرهم فنقول:
ألـ(45) ريالاً من الثمن أي (220) مقابل ألـ(45) من المثمن (النقد في الشركة) ويبقى من الثمن 220ـ45=175
فهذا المبلغ المتبقي من الثمن وهو (175) لا يمكن أن يكون كله مقابل الأعيان والمنافع فقط لما يلي:
- هذه الأعيان والمنافع لا يعرفها كثير من المساهمين أصلاً، بل كثير من الناس لا يعرف عن هذه الشركة إلا أنها ما زالت نقوداً، وإذا كان المساهمون الذين رفعوا السهم لا يعرفون فيه هذه الحقوق والمنافع، بل قد تكون معرفتهم بوجود النقد أكثر من معرفتهم بها، فكيف نجعل سبب إرتفاع الأسهم منحصراً في أشياء لا يعرفونها، أو معرفتهم بها قليلة.
ـ هذه القيمة قد ترتفع أو تنزل في دقائق، مما يدل أنها قيمة سوقية للسهم كله، نقده، وأعيانه، وحقوقه؛ لأن قيمة هذه الأعيان والحقوق لن ترتفع في دقائق بمفردها، بل الذي يرتفع هو السهم بكل موجوداته العينية, والنقدية، وغيرها, ولا يوجد مطلقاً ما يدل على أن هذا الإرتفاع إنما هو في قيمة الأعيان والمنافع فقط, بل هذه غاية في البعد، عند تصور حقيقة المعاملة.
إذ إن القول بأن هذه الأسهم ارتفع سعرها نظراً للموجودات غير النقدية, وسمعت الشركة, ونحو ذلك, قول بعيد عن حقيقة ما يقع في أسواق تداول الأسهم؛ فإن المساهمين في الغالب لا يعرفون شيئاً كثيراً عن الشركات، لا سيما الحديثة منها، إنما يتحكم في إرتفاع سعر الأسهم أو هبوطها ما يجري على الأسهم من مضاربات بين المتداولين، أو ظهور الإشاعات، أو تحركات كبار المساهمين، ونحو هذه الأسباب.
والمضاربات هي العنصر الأهم في إرتفاع قيم الأسهم, والمضاربون يرفعون قيم الأسهم من خلال الأساليب المتنوعة في العرض والطلب، وذلك كله بعيداً عن مراعات شئ معين من موجودات الشركة من الحقوق والمنافع والأعيان والنقود، فإذا ارتفع السهم فهو يرتفع بكل موجوداته ولا يقصد منها شيئاً معيناً
ولا أدل على ذلك من أن أسهم بعض الشركات ترتفع رغم إعلانها الخسارة ووجود انطباع سيء عن أدائها عند المساهمين، وهذا كله يفترض أن يؤدي إلى تدني قيم الحقوق والموجودات العينية، ولكن مع ذلك ترتفع أسهمها بسبب المضاربات السوقية.
ومع ما سبق ما الذي يجعلنا نفترض أن الزيادة في قيمة السهم في مقابل تلك الموجودات (الأعيان والحقوق والمنافع) فقط.
وقد عرفنا أن هذا الارتفاع سببه الحقيقي المضاربات على الأسهم، وهي لا تفرق بين موجودات الشركة من النقود، والحقوق، والأعيان، وغيرها فهي في الواقع مقابل السهم برمته نقده وموجوداته.
فالزعم أن سبب الارتفاع هوالموجودات غير النقدية فقط يخالف الواقع.
وخلاصة ما سبق أن هذا الارتفاع لا يقابل هذه الحقوق والمنافع فقط، بل يقابل السهم كله نقده وحقوقه ومنافعه.
ونخلص من هذا إلى أن جزء من هذا المبلغ المتبقي (أي ألـ 175) مقابل للنقد الموجود في الشركة بالإضافة إلى ألـ (45) الأولى من الثمن أي أنه اشترى (45) ريالاً بـ(45) وزيادة وهذا هو ربا الفضل.
وبهذا يتبين أنه حتى على القول بجواز مسألة مد عجوة ودرهم فإنها لا تنطبق على شركة الصحراء لعدم تحقق شرط الجواز على ما سبق تفصيله.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم بالصواب.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لمزيد من الدراسة حول الموضوع:
(حكم تداول أسهم الشركات التي في مرحلة التأسيس)
-------------------------------------------------
(1) وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة إن شاء الله.
(2) أي قبل بدء النشاط.
(3) القوانين الفقهية ص166، مغني المحتاج 2/28، المغني 6/93.
(4) أي كبيع سيف محلى بفضة فإن الفضة التي في السيف ليست مقصودة.
(5) الشرح الكبير مع الإنصاف 12/79.
(6) البناية 7/518، المبسوط 12/189, المغني 6/93، الإنصاف مع الشرح الكبير 12/79.
(7) الشرح الكبير 12/78.
(8) مجموع الفتاوى 29/452.
(9) هكذا في المطبوعة والمحققة ولعل صوابها: (أجزاء) وذكر في المحققة نسخة ( إجزاء ) هكذا.
(10) قواعد ابن رجب 2/478.
(11) قواعد ابن رجب 2/480.
(12) سيكون التطبيق على سهم واحد ليسهل فهم المسألة وتصورها.
المصدر: الإسلام اليوم
==============
إهدار العمر من أجل المال
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله الذي خلق العباد لعبادة رب العباد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نشر العدل والحب في أرجاء البلاد ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . . وبعد :(3/185)
هذه كلمات أوجهها إلى كل مسلم ومسلمة ، عن أمر عظيم ، فيه استدراج من الله تعالى لهم ، وهم في غفلة معرضون ، وعن العبادة منشغلون ، هذا الأمر الناس فيه ما بين فرح مسرور ، وحزين مثبور ، أمر إما نعمة ، وإما نقمة ، نعمة لمن عرف نعمة الله فيه ، ونقمة لمن كفر نعمة الله فيه ، " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " ، هذا الأمر هو المال ، وتعالوا بنا نجوب طرق هذا المال ، وكيف يعيش الناس حياتهم معه ، فهي أمور عجيبة غريبة ، تكاد لا تصدق عندما تسمع ، ولكنه الواقع الذي مفر منه ، ولا محيد عنه ، لقد انشغل الكثير والكثير من الناس اليوم بحب المال ، شغلهم عما عداه وأنساهم عن كل ما سواه ملأ القلوب حبُ المال حتى لم يبق في القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفاء والإخاء وتكون العداوة والبغضاء ، أصبح المال هو القطب الذي تدور حوله القلوب وأفعال العباد في هذا الزمان . فالقلوب في سرور مادام المال سالما ولو سبب ذلك انهيار الشرف والأخلاق ، ودمار الدين والنفوس ، فالناس في تواصل ما لم يُطلب المال وإذا طُلب المال فالنفوس في عداوة وبغضاء ، قال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } [ التغابن ] .
لقد افتتن كثير من الناس اليوم بحب المال ، وجمعه من أي طريق ، وفي أي وقت ، وانظر إليهم ، وهم حول أجهزة الصرف الآلي يتحلقون ، وعن الصلوات يتخلفون ، فأي ضياع بعد هذا الضياع ، منادي الله يناديهم الله أكبر ، يعني الله أكبر من النفس والولد والمال ، ومن كل شيء ، والمال عندهم أكبر ، منادي الله يناديهم ، حي على الصلاة ، يعني هلموا إلى الصلاة ، أقبلوا إلى الأجر العظيم من العزيز الحكيم ، وأكثرهم عن الصلاة غافلون ، وبحب المال منشغلون ، فيالها من عاقبة سيئة ، الكثير ممن يقفون جماعات حول آلات الصرف الآلي لا يبالون بالصلاة أأقيمت أم لم تقم ، أفرغ الناس من صلاتهم أم لم يفرغوا ، المهم أن يصرف حفنة من المال ، وما هي إلا ساعات ، أو أيام قلائل وأصبح الراتب في خبر كان ، والله إن صرف المال من تلك الصرافات ينتظر ، وصلاة الجماعة إذا فاتت لا تعوض ، فهب أنك وقفت وسمعت الناس يصلون ، وأنت عند الآلة قائمة تنتظر دورك لتصرف راتبك ، ثم أتاك دورك ، ولكن ليس الدور الذي كنت تنتظره ، بل الدور الذي لم يخطر لك ببال ، ولم يدر بخلدك بحال ، فاتاك هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، أتاك من الله اليقين ، أتاك ملك الموت الذي لا تقف له الحواجز ، ولا تقفل في وجهه الأبواب ، ولا يهرب منه مطلوب ، ولا يفوته مرغوب ، تخيل أنك في ذلك الصف الطويل ، ثم جاء دورك ، ووقفت بجانب الآلة لتصرف مالك ، والناس بعدك ينتظرون ، وإليك ينظرون ، ولكن : " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد " ، ثم لم تحرك ساكناً ، فقد شل الله أركانك ، وأعمى بصرك ، وأصم سمعك ، وفقدت جميع حواسك ، انتهت الصلاة في المساجد ، وأنت عنها غافل ، وبالمال مشغول ، تركت الصلاة عمداً ، وقد جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعاً : " من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله " ، تصور نفسك والناس ينتظرون دورهم ، وأنت تقاسي سكرات الموت وغصصه وعذابه وآلامه ، تصور نفسك والناس حولك مجتمعون ، ولسان حالك يقول : " رب ارجعون " ، ثم يرفع عملك في ذلك الوقت وقد تركت تلك الصلاة عمداً ، فمن ينقذك من بأس الله إن جاءك ، ومن تلوذ به من عذاب الله ، ومن الذي يعصمك من الله . : " والذي كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ، ثم بعد موتك يقتسم مالك ويتمتع به غيرك ، هذا هو المال ، وهذا هو الحال ، في هذا الزمان ، مع آلات الصرف الآلي ، وحبذا لو أقفلت وقت الصلاة لكن خيراً وأعظم أجراً .
أما البخيل : فالبخيل يستعجل الفقر الذي هرب منه ، ويفوته الغنى الذي يطلبه ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء ، فالبخيل هو الوحيد الذي يفرح أهله بموته ، ويستبشر ورثته بمرضه وفقده ، تجده مستغرقاً في جمع المال بالليل والنهار لا يتعب ولا يفتر ، ولا يكل ولا يمل خوفا من الفقر مع أن البخل هو الفقر بعينه ، ولقد حذر الله تعالى من عاقبة البخل السيئة فقال تعالى : " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " [ آل عمران ] ، فتجد البخيل يبخل بالمال حتى على نفسه وذلك خوفاً من أن يقل المال أو يفنى ، والواقع شاهد على صدق ذلك ، فمعظم الناس إذا رأيته قد تمد يدك إلى جيبك كي تتصدق عليه ، وهو يملك أموالاً وعقاراً لا تملكه أنت ولا غيرك ، ولكن هيئته ولبسه ، يدل على أنه ما شكر نعمة الله عليه ، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " ، فأين أثر النعمة على العبد وهو يبخل حتى على نفسه ، إن الله جميل يحب الجمال ، وتجده أيضًا يبخل على أولاده ويقتر عليهم فلا يعطيهم ما يكفيهم وذلك حبًا في جمع المال . قال صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته " [ مسلم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مامن يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الأخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً " [ متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ( أي عتق رقبة ) ، ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك " [ مسلم ] .
فويل لمن عاش في هذه الدنيا مغروراً وظن أن السعادة كلها جمع الأموال وتكديسها عنده آلافاً وملايين وعمائر وأراضٍ وبيوت وعقارات ، فهذا هو الخاسر ، لقد أنسى الناس حُب المال عن الدين والشرف وجعلهم يتنافسون حطام هذه الدنيا . وما علم أصحاب الأموال أن المال إذا تجاوز خدمة الدين وابتعد عنه فسيكون وبالاً ونكبة على أصحابه ، يقول داود عليه السلام : " اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ، ومن مال يكون علي عذاباً " ، ولما سئل عيسى عليه السلام عن المال قال : " لا خير فيه ، قيل : ولم يا نبي الله ، قال: لأنه يُجمع من غير حِل ، قيل : فإن جُمع من حِل ، قال : لا يُؤدي حقه ، قيل : فإن أدى حقه قال : لا يسلم صاحبه من الكبر والخُيلاء ، قيل : فإن سلِم ، قال : يُشغله عن ذكر الله ، قيل : فإن لم يُشغله ، قال : يُطيل عليه الحساب يوم القيامة " ، فتأملوا هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالماً ، وذلك لأن الأغنياء يُحاسبون على أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها ، فاستعدوا يا أصحاب الأموال ، استعدوا يا من بخلتم بأموالكم ، وأعدوا لكل سؤال جواباً ، ولا تنسوا أن يكون الجواب صواباً . قال تعالى : " يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " [ الشعراء ] .(3/186)
وليعلم أصحاب الأموال أن لله حقاً فيها ، فعليهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم فيها ، فطرق الخير كثيرة وعديدة لمن أراد ذلك ، ومنها بناء المساجد والمساهمة فيها ، ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين والأرامل واليتامى وما أكثرهم في ، فالله يعلم بحالهم ، هناك أسر لا تعرف من الطعام إلا الخبز اليابس المدهون بالماء ، وهناك أسر تلتحف السماء ، وبيوت إذا دخلتها كأنك في العصور الغابرة التي لا تعرف من التقدم والمدنية شيئاً وما ذاك إلا لقلة ذات اليد ، وهناك أطفال تشردوا ، ونساء ضعن ، بسبب الفاقة وكثرة الحاجة ، فالله المستعان وعليه التكلان ، سألوكم ممن مال الله الذي آتاكم ، طلبوا من إخوانهم العون ومد يد المساعدة ، ومنهم من بادر ثم انقطع ، ومنهم من أعرض ولم يستمع ، فشكواهم إلى الله ، : " وفي السماء رزقكم وما توعدون " ، قال صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه ( يعني شدقيه ) يقول أنا مالك أنا كنزك " [ البخاري ] .
ثم ليتق الله من يتعامل بالربا ، فالربا حرب لله ولرسوله ، وقد عده النبي عليه الصلاة والسلام من السبع الموبقات أي المهلكات ، والربا محرم بالكتاب والسنة ، قال تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } البقرة ، وصاحب الربا ملعون ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله " [ رواه مسلم ] ، وزاد الترمذي وغيره : " وكاتبه وشاهديه " ، وليتق الله من ينفق ماله فيما حرم الله من قمار وميسر وبيع وشراء محرم وغش في معاملاته . كالاشتراك في المسابقات ذات الاتصال المدفوع ، سواءً عن طريق البطاقة أو عن طريق الهاتف ، فكل ذلك من القمار والميسر ، أو المشاركة في المسابقات التي تعرض عبر الشاشات ، كمسابقة رمضان للكبار والصغار ، ومن يربح المليون ، أو الاتصال عن طريق الجوال في من يربح خمسة مليون دولار ، أو ماشابه ذلك من المسابقات المحرمة شرعاً ، وقد صدرت فتوى هيئة كبار العلماء بهذا الخصوص ، قال تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } المائدة ، وليتق الله من دأبوا على أكل أموال اليتامى ظلماً وعدواناً ، قال تعالى :{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } النساء ، وليحذر أولئك الذين يتعاملون بشتى أنواع البيوع المحرمة والمكاسب المحرمة مثل : بيع الدخان والشيشة وبيع آلات اللهو والطرب وبيع أشرطة الغناء ، وأشرطة الفيديو والمجلات الخليعة التي تدعوا إلى الرذيلة والبعد عن الحق والدين ، ولينته من يؤجر محلاته على من يبيع الحرام للمسلمين ومن ينشره بينهم ، فليتق الله أولئك الناس ، فكل هذه المكاسب محرمة وهي وبالٌ على أصحابها ، فإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ، وليحذر من يتعامل بالرشوة فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الراشي والمرتشي والرائش " [ رواه الترمذي وابن حبان والحاكم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به " [ رواه البخاري ] ، وعند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام " ، فأولئك سيسألون عن هذه الأموال من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها ، فلا يغتر أولئك بهذه الحياة وما بلغوا فيها من درجات وما كسبوا فيها من أموال ، فها هو قارون الطاغية أعطاه الله عز وجل من الكنوز ما يعجز عن حمل مفاتحه الأقوياء من الرجال ، فعصى واستكبر وعاند وما عرف حق الله في هذا المال فما كان مصيره ، يقول الله عز وجل في سورة القصص : { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } إلى أن قال تعالى : { فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين } .
فاحذروا أيها المسلمون من المال الحرام فهو سبب للهلاك والدمار وعدم إجابة الدعاء ، فقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام : " الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنا يستجاب لذلك " [ رواه مسلم ] . ومن المال المحرم أن يستدين الإنسان مالاً ثم يجحده ، قال صلى الله عليه وسلم : " من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " [ رواه البخاري وابن خزيمة ]، ويحسب هذا أن ما استدانه من مال ثم جحده سينفعه يوم القيامة ، بل سيكون وبالاً عليه ، وحسرة وندامة ، ويسدد ما عليه من الدين حسنات بدل النقود ، فانتبهوا واحذروا وردوا الأموال التي استدنتموها إلى أهلها قبل أن يذهب قطار العمر ثم لا ينفع الندم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " [ رواه الترمذي وهو حديث حسن ]، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " [ رواه مسلم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " [ رواه البخاري ] .
ثم هنيئاً لأولئك الذين عرفوا الله عز وجل وتاجروا معه سبحانه التجارة الرابحة وأقرضوا الله القرض الحسن ، فهنيئاً لهم ، ويالفوز أولئك الذين أنفقوا أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية لا يريدون إلا الله ، ويبتغون الدار الآخرة ، يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، قال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " [ متفق عليه ] .(3/187)
هنيئاً لمن بذلوا أموالهم في سبيل الله ، فكم من أرملة كادت أن تقع فريسة للأشرار وأهل الفساد فأتاها المال الذي ابتغى صاحبه وجه الله فعفت نفسها وأولادها ؟ وكم من فقير ومسكين متعفف أتاه مال ذلك المنفق في سبيل الله فكف يده عن السؤال ؟ وكم من يتيم كادت أن تتخطفه أيدي العابثين فحفظه بإذن الله مال المتاجر مع الله ؟ فيالها من أموال ستنفع أصحابها بإذن الله في ذلك اليوم العظيم الذي غفل عنه من غفل ، فليبشر من تاجر مع الله وليبشر من أنفق أمواله في سبيل الله ، ليبشروا بما بشرهم الله به من الآيات الدالة على فضل البذل في سبيل الله وفضل المنفقين ، قال تعالى :{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة ، وقال تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } البقرة ، وقال تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة ، وقال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم } آل عمران ، وقال تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء . . . إلى أن قال الله تعالى : { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } آل عمران ، وقال تعالى : { وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين } سبأ ، والآيات في ذلك كثيرة معلومة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنفق يا ابن آدم يُنفق عليك " [ متفق عليه ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لاحسد إلا في اثنتين : وذكر منها : ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " [ متفق عليه ] ، والأحاديث في ذلك كثيرة أيضاً .
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين ، الخائفين الوجلين ، الله اغفر لنا ما قدمن وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار ، والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
=============
من أحكام الأسهم
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد :
فإن دين الإسلام هو الدين الذي ختم الله تعالى به الأديان ، وهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى من أحد أن يتديّن بغيره ؛ قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }(1)، فلمّا كان الإسلام بهذه المثابة كان صالحًا لكل زمان ومكان ، ولذا فهو يجمع بين التطور والثبات ، القواعد التي قررها الله تعالى في كتابة وقررها المصطفى r في سنته وأجمع عليها أئمة الإسلام قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل يستضيء بها المجتهد في كل نازلة ومسألة تلم بالمسلمين ، ومهما حصل للمسلمين من قضايا ونوازل حديثة أو قديمة سواء كانت تتعلق بنفس الإنسان أو تجارته أو طريقة تنقله أو بعلاجه وتطبيبه ودوائه فإنّه سيجد في قواعد الشريعة الثابتة بيانًا لحكم هذه المسألة ، ولذا كانت هذه الشريعة متطورة مع ما فيها من الثبات ؛ لأنها وضَعَت القواعد التي يمكن للإنسان أن يعرف من خلالها حكم كل واقعة ، وبذلك يصبح للمجتهد القدرة على أن ينظر في كل نازلة تقع ويبيّن حكمها الشرعي . وهذه الشريعة لم تترك تصرفًا من تصرفات الإنسان إلا وبينت فيه حكمًا يمنّ الله به على من يشاء من عباده ؛ فإنّ الفقه في الدين منة من الله تعالى لعبادة لا يعطيها كل أحد ؛ قال صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين )(2).
وبحمد الله فإنَّ هذه الشريعة لا تأتي بشيء يعارض الفطرة، ولذا حث الشرع على تحصيل المال كما قال تعالى: { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }(3) وليس جمع المال محظورًا ، إنما المحظور أن يجمع المال من الحرام ومن الحلال.
عن أبي برزة الأسلمي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسمه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ) (4) .
فالإنسان مسئول في هذا المال عن طريقة الإنفاق وطريقة الكسب . ولذا فإنَّ معرفة طرق الكسب المباحة وطرق الكسب المحرمة من أهم ما ينبغي لمن أراد أن يدخل في أي تجارة من أنواع التجارات .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقّه في الدين ) (5) .
وفيما يلي عرض موجز لطريقة اكتساب معاصرة نلقى الضوء عليها بما أرجو أن يكون نافعاً والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
M
نشهد هذا العصر تطورات اقتصاديّة كثيرة تحتّم أن تتم الأعمال عن طريق تكاتف أعداد كبيرة من المساهمين لتجميع مبالغ ضخمة يمكن من خلالها إنشاء المشاريع الكبيرة التي لا يكفي في إنشائها رؤوس أموال بسيطة .
كما توجه كثير من الناس إلى البحث عن طرق يتمكنون بها من استثمار مدخراتهم القليلة، والتي لا يمكنهم من خلالها إنشاء مشاريع مستقلة، وذلك عن طريق اجتماع عدد منهم لتحصيل رأس المال المطلوب.
وتزايدت هذه الحاجة مع تزايد الرغبة في تنويع وتكثير مصادر الدخل لوجود الإكباب على الدنيا والحرص على التزيّد منها ، ولوجود الضغوط الحياتية المعاصرة .
كما أن وجود الشراكات في المنشآت التجارية يحقق لها الاستقرار والاستمرار ؛ لأنها بذلك لا تتأثر بحياة ما لكيها وهذا يدعم النهضة الاقتصادية .
ومن هنا وجدت الحاجة إلى وجود الشركات بأنواعها خاصّة المساهمة منها.
وأصل مبدأ الشراكة موجود في العصور الماضية ، حتى وجدت بعض القواعد المتعلّقة به في مدونات الرومان ، ولذا تناولها الفقهاء في باب مستقل وهو باب الشركة ، وبينوا جملة من أحكامها ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمال لخديجة رضي الله عنها ليتاجر به (6) وهذه شراكة بينهما ، ومضاربة بمالها .
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وقسمها بين أصحابه ، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمار مقابل عملهم (7) ، وهذا نوع من أنواع المشاركات التي تعتمد على بذل المال من أحد الطرفين ، والقيام بالعمل من الطرف الآخر وهو الذي يسمى : ( شركة المضاربة ) المعروفة في الفقه الإسلامي .
وفي هذا العصر وجدت للشركات تسميات جديدة ، واستحدث لها أساليب جديدة .
ومن هذه الشركات: الشركات المساهمة.
والشركة المساهمة: هي الشركة التي ينقسم رأس مالها إلى أسهم متساوية قابلة للتداول، ويكون الشريك مسئولاً عن ديون الشركة بقدر حصّته. (8)
وهي شركة تعتمد على جمع أموال المكتتبين على قدر طاقتهم لتحقيق رأس المال المطلوب لها.
وأغراضها متعددة، فقد تكون تجاريّة، أو صناعية، أو زراعية.(3/188)
وهذه الشركة نوع جديد من المعاملات ينطبق عليها وصف شركة المضاربة، أو شركة العنان والمضاربة، ولكن مع زيادة شروط لم تكن في الشركات السابقة، وهذه الشروط الأصل فيها الإباحة إلا إذا دل دليل على التحريم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون على شروطهم ، إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا ) (9) .
قال ابن القيم: " جمهور الفقهاء على أنّ الأصل في العقود والشروط الصحّة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإنّ الحكم ببطلانها حكمٌ بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنّه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله " (10) .
حقيقة السهم وقيمته :
السهم نصيب معلوم من رأس مال مشترك لمجموعة من المشتركين ، وكل منهم يمثّل جزءًا من أجزاء متساوية ، وهو عبارة عن حصّة مشاعة من كامل حجم الشركة ومالكه يملك جزءًا من الشركة . (11)
وقيمته لها أنواع :(12)
1. قيمة اسميّة وهي التي يعلن عنها في الاكتتاب، وينص عليها في وثيقة الاكتتاب. وهي القيمة التي يدفعها المكتتب .
2. قيمة دفتريّة ( حقيقيَّة ) وهي النصيب الذي يستحقّه صاحب السهم في صافي أموال الشركة بعد حسم ديونها ويتم تحديده بعد معرفة موجوداتها وممتلكاتها .
3. القيمة السوقية وهي قيمة السهم في السوق عند التداول بالبيع والشراء.
فإذا حُلّت الشركة وانتهت نقدر قيمة السهم بالقيمة الحقيقية فقط والمفترض أن تكون قيمة السهم السوقيّة مماثلة لقيمته الحقيقيّة ، لكن بعض الظروف قد تؤثر على قيمة السهم السوقية .
عوامل تفاوت قيمة الأسهم السوقية :
القيمة السوقية يتحكم فيه:
1. العرض والطلب.
2. الأمل المعقود على الشركة في نوعية إنتاجها والحصول على أرباح منها .
3. ما تدفعه من أرباح للمساهمين .
4. الأوضاع والظروف السياسية للدولة، فالدول المستقرة ترتفع فيها قيمة الأسهم والدول غير المستقرة سياسيًا تنخفض قيمة الأسهم فيها.
مكان تداول الأسهم: (13)
يتم تداول الأسهم في سوق أسهم قد يسمّى: ( بورصة الأسهم ). والبورصة سوق منظّم تنظيمًا خاصًّا، تتم العمليات فيه بواسطة وسطاء.
وأسواق الأسهم قد تكون أسواقًا أوليَّة، وهي التي يتم فيها إصدار الأسهم، أما الأسواق الثانويّة فهي التي تتم فيها تداول الأسهم.
والآن في المملكة العربيّة السعوديّة يتم إصدار الأسهم وتداولها عبر البنوك؛ لأنّه لا توجد أسواق خاصّة بالأسهم.
المسألة الأولى: هل يجوز بيع الأسهم وشراؤها ؟
استقر رأي جماهير الفقهاء المعاصرين على جواز تداول الأسهم المباحة، وبعض الفقهاء يحرم تداولها ومن أدلّتهم:
1. أنَّ السهم جزء مجهول من رأس مال الشركة لا يعلم تحديده وبيع المجهول لا يجوز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر(14) .
2. أن جزءًا من السهم أموال نقديّة ، أو ديون فبيع السهم مع اشتماله على ذلك دون تحديد مقداره تمامًا يكون مبادلة مال ربوي بمثله مع الجهل بالتماثل ، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
ويمكن أن يجاب عن ذلك:
1. بأنه يمكن تحديد مقدار السهم ومكوناته من خلال دراسة القوائم المالية للشركة ، ولو بقي بعد ذلك جهالة يسيرة فإنها تكون مغتفرة للقاعدة المعلومة من اغتفار اليسير ، خاصّةً وأن تتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقّة ومن القواعد المقررة أن المشقّة تجلب التيسير .
2. وأمّا النقود والديون في الشركة فإنّها تابعة غير مقصودة ، وبذلك لا يكون لها حكم مستقل بل تكون تابعة لغيرها والقاعدة المتقررة في الفقه أنه يجوز تبعًا مالا يجوز استقلالاً .
ويدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ابتاع عبدًا فماله للذي باعه. إلاّ أن يشترطه المبتاع ) (15) .
فصح دخول المال في هذه المعاوضة لكونه تابعًا ، وسواء كان مال العبد موجودًا أو في ذمم الناس .
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : الأمرُ المجتمع عليه عندنا أنَّ المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له ، نقدًا كان أو دينًا أو عرضًا ، يُعْلم أو لا يُعْلم ، وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به ، كان ثمنه نقدًا أو دينًا أو عرضًا . (16)
وبما سبق يظهر جواز بيع الأسهم والله أعلم(17) .
المسألة الثانية: شروط إباحة تداول الأسهم المباحة:
ما سبق من أنّ الصواب إباحة تداول الأسهم مشروط بشروط، وليست الإباحة مطلقة وهذه الشروط و الضوابط هي:
1. أن يكون موضوع نشاط الشركة مباحًا وسيأتي تفصيل لهذا الضابط .
2. أن يكون تداول الأسهم بعد أن تبدأ الشركة في نشاطها الفعلي وذلك بأن تتملك بعض الأصول أو تشرع في بعض أعمالها أمّا قبل بدئها في نشاطها الفعلي فإنّه لا يجوز بيع الأسهم إلا بالقيمة الاسمية لها فقط.
والسبب أنَّ السهم قبل بدء الشركة في نشاطها الفعلي عبارة عن نقود فقط فإذا باع الإنسان سهمه فيكون قد باع نقدًا بنقدٍ فهنا لابد من التقابض والتماثل . أما إذا شرعت الشركة في نشاطها وتحولت أموالها - أو بعضها - إلى سلع وخدمات فهنا تخرج عن مسألة الصرف ويكون النقد تابعًا كما سبق.
3. من أهل العلم من يشترط لجواز شراء الأسهم أن يكون المقصود اقتناء وتملك الأسهم، أما اتخاذ الأسهم سلعة تباع وتشترى بقصد كسب فرق السّعر المتغيّر دون أن يكون له غرض في أسهم الشركة ولا يريد تملك أسهمها فهذا محرم عنده. (18)
ومع وجاهة هذا القول إلا أنّه يخالف المعلوم من إباحة البيع والشراء سواء كانت رغبة المشتري تملك الشيء أو بيعه بعد رواجه.
المسألة الثالثة: أقسام الشركات من حيث حكم نشاطها:
تنقسم الشركات إلى ثلاثة أقسام :
1. شركات محرمة محظورة وهي التي أُنشئت أصلاً للمتاجرة في المحرمات مثل شركة أُنشئت لبيع الخمور أو أُنشئت للعقود المحرمة مثل شركات التأمين التجاري والمصارف الربويّة فهذه لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها ولا أن يكتتب فيها ولا يجوز إنشاؤها ولا التصرف فيها بيعًا وشراءً .
2. شركات أصل نشاطها مباح لكن دخل عليها بعض الاستثمارات المحرمة مثل التمويلات والاستثمارات المحرمة كقروض ربوية أو بعض العقود الفاسدة وهذه يسميها المعاصرون : ( شركات مختلطة ) .
3. شركات أصل نشاطها مباح ولم تتعاطَ العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة ويسميها المعاصرون: ( شركات نقية ) وهذا التقسيم إجمالي.
ولابد عند إرادة الحكم على الشركة أن يراعى هل تتعامل بعقود محرمة أو لها استثمارات محرمة سواء في الربا أو غيره من المعاملات وسواء في ذلك القوائم الأخيرة أو ما قبلها ، وأن لا يكتفى بآخر القوائم المالية ، حتى يتحقق من وجود المال المحرم من عدمه .
المسألة الرابعة: حكم تداول أسهم الشركات حسب نشاطها:
أولاً : لا شك أن كل من يرضى بإجراء العقود المحرمة والاستثمارات المحرمة أنه آثم ومعرض نفسه للوعيد الشديد الذي بينه الله تعالى في كتابه وبينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والإنسان أيضًا لا يجوز له عند أي من فقهاء الإسلام أن يأكل جزء من المال المحرم بل لابد أن يخرج الحرام من ماله .
كذلك كل من يستطيع أن يمنع الشركة من تعاطي العقود المحرمة بأن كان عضوًا في الجمعية العمومية للشركة أو عضوًا في مجلس الإدارة ويستطيع أن يمنع شيئًا من المحرمات فإنه لابد أن يمنعه وإذا لم يمنع هذا العقد المحرم فهو آثم .(3/189)
والشركة التي أصل نشاطها غير مباح لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين {278} فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون }(19) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) (20) .
و السبب في هذا أن الشريك موكّل للعامل في المال، ولا يجوز للإنسان أن يوكل شخصًا أن يأخذ له ربا، أو يجري له عقدًا محرّمًا.
قال ابن القيم رحمه الله: " المضارب ( يعني العامل الذي يأخذ الأموال ويتاجر فيها ) أمين وأجير ووكيل وشريك فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرّف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح "(21)
كما لا يجوز لشخص أن يوكّل أحد أن يعمل له عملاً محرّمًا أو يجري له عقدًا فاسدًا أو يستثمر له استثمارًا محظورًا ، فكذلك لا يجوز للإنسان أن يشترك مع إنسان آخر ليجري له عقودًا محرمة بحكم الشراكة .
ومن هنا نعلم أن التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة لا يعرف حقيقة نشاط تلك الشركات ولا يلتزم القائمون عليها كونها مباحة النشاط؛ لا ينبغي لجهالة حالها.
ثانيًا: الشركات النقية إذا تحقق فعلاً أنها نقية فإنه لا حرج في تداول أسهمها وتملكها والمشاركة فيها سواء بالاكتتاب أو المضاربة.
ثالثًا : الشركات المختلطة هذه لا إشكال أن مجلس الإدارة فيها يأثم لتعاطيه العقود الفاسدة ، ولا إشكال أيضًا أن الإنسان إذا حصّل ربحًا من شركة مختلطة أنه لابد أن يخرج الجزء الذي يقابل نسبة الحرام في الشركة .
وقد اختلف فقهاء العصر في حكم تداول أسهم هذه الشركات والمشاركة معها والمساهمة فيها على أقوال:
وهي التحريم مطلقًا والإباحة مطلقًا والتفريق بين ما تكون نسبة الحرام فيها قليلةً وبين ما تكون نسبته فيها كثيرةً على تفاوت بينهم في تحديد النسبة المذكورة.
والمختار من هذه الأقوال هو تحريم الاكتتاب في الشركات المختلطة وبيعها وشراؤها.
وهو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السابعة(22) .
واختارته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية(23) .
وسبب التحريم: أن يد الشريك هي نفس يد الآخر في الحكم، وكما لا يجوز للإنسان أن يباشر الحرام بنفسه فإنه يحرم عليه أن يباشره بواسطة وكيله، وتقدم أن الشريك وكيل. قال ابن القيم رحمه الله: " وما باعوه – أي أهل الذِّمة – من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنه حلال لاعتقادهم حله، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد؛ فإن الشريك وكيل، والعقد يقع للموكّل "(24) .
وقد ذكر السيوطي قاعدة في الأشباه والنظائر(25) فقال : من صحّت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره ، وتوكله فيه عن غيره ، وإلا فلا .
كما أن المال الحرام يشيع في مال الشركة وإخراج النسبة المحرمة من سهمه فقط قد تطهر المال ؛ لأنه ستبقى فيه حصّة شائعة من الحرام عند بعض أهل العلم قال ابن رشد : " لا يجوز له أن يأكل منه شيئًا - أي من ماله الذي خالطه الربا - حتى يرد ما فيه من الربا ؛ لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعًا فيه "(26) .
كما أن في هذه المساهمة تعاونًا على الإثم وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }(27) .
وفيه استمراء للربا، وتعطيل للسعي لتحويل الاستثمارات إلى استثمارات شرعيّة خالصة.
المسألة الخامسة : كيفية التخلص من الأرباح الحاصلة عن التعامل بالأسهم المحرمة :
من المهم بداية أن نقرّر أن من تعامل معاملة يعتقد أنها صحيحة بناء على اجتهاد أو فتوى وحصل التقابض فيها ثم تبيّن له ترجيح أنّها غير مباحة وأنه أخطأ فأخذه وتصرفه بهذا المال الحاصل من المعاملة المذكورة لا حرج فيه ، وإنما عليه أن يمتنع في المستقبل عنها .
قال ابن تيمية : " وهكذا كل عقدٍ اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقرير ... فإنّ هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة ، لم تنقض بعد ذلك ، لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد .
أمّا إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض أو استفتياه ، إذا تبيّن لهما الخطأ فرجع عن الرأي الأوّل فما كان قد قبض بالاعتقاد الأوّل أُمضي ، وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربويّة اسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأوّل " .(28)
أمّا إذا كان إقدامه على المعاملة دون استفتاء أو اجتهاد فإن الواجب عليه أن يخرج من ماله ما كان فيه من حرام لأنه لا عذر له.
عليه فمن أراد التخلص من المال المحرم الذي دخله بمثل هذه العقود فإنه لا يخلو من أحد ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يقبض ربحًا من عائد أسهمه، فهذا عليه أن يخرج نسبة العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة من الربح.
الحالة الثانية: أن يحصّل ربحًا نتيجة ارتفاع سعر السهم والمضاربة به فهذا عليه أن يخرج النسبة المحرمة من قيمة السهم كاملة؛ لأنّه قد باع حلالاً وحرامًا فصح في الحلال دون الحرام كمسائل تفريق الصفقة.
فإن علم مقدار الحرام وإلا تحرى وأخرج ما تطمئن إليه نفسه أن به يطيب ماله .
الحالة الثالثة : أن يحصّل ربحًا من بيع أسهم محرمة ( غير مختلطة ) فهنا يكون قد باع حرامًا لا شبهة فيه فعليه أن يخرج كامل القيمة التي حصلها ، فإنّ ما حرم شراؤه حرم بيعه(29) .
والمراد بإخراج القيمة أو النسبة أن ينفقها في وجوه البر، بقصد التخلّص من المال الحرام، وليس بنيّة الصدقة؛ لأنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبًا.
المسألة السادسة: بيع الاسم لأجل الاكتتاب به من غير صاحبه ( بيع حق الاكتتاب ):
والمقصود أن يمكّن شخصٌ غيره من أخذ أوراقه الثبوتية المتضمنة لاسمه وأسماء أفراد عائلته ليكتتب في إحدى الشركات بأسمائهم ويعطيه في مقابل ذلك مبلغًا ماليًا .
وسبب ذلك أن بعض الشركات قد توزع نسبةً من الأسهم لكل مكتتب بمقدار متساوٍ عند كثرة المكتتبين فإذا اكتتب بأسماء كثيرة حصَّل نسبةً أكثر من الأسهم.
وهذا العمل لا يجوز أخذ العوض عليه ؛ لأنّ المعقود عليه وهو الاسم الشخصي ليس ملكًا لصاحبه وليس مالاً يقبل المعاوضة ، كما لا يمكن اعتباره حقًا معنويًا كالاسم التجاري ؛ لأن الاسم التجاري يجذب العملاء ويميّز السلعة أما استعمال الاسم الشخصي فليس له فائدة إلا أخذ نصيب الغير .
ولابد أن يفرّق الإنسان بين ملك المنفعة وملك الانتفاع.
وقد أوضحه القرافي فقال : " تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط ، وتمليك المنفعة أعم وأشمل ، فيباشر بنفسه ، ويمكّن غيره من الانتفاع بعوض وبغير عوض .
مثال الأوّل: سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق، فله أن ينتفع بنفسه فقط. ولو حاول أن يؤجر أو يعاوض عليه امتنع ذلك ..
وأمّا مالك المنفعة فكمن استأجر دارًا أو استعارها فله أن يؤجرها من غيره .." (30)
كما أن بيع الاسم الشخصيّ في حقيقته تحايل على الشركة المكتتب فيها، وعلى النظام العام الذي يقصد توزيع الأسهم بالتعادل بين المكتتبين لتنتفع أكبر شريحة من الناس. ففيه غش وتغرير وهما حرام.(31)
المسألة السابعة: مخالفات شرعيّة في تداول الأسهم:(3/190)
ومن هذه المخالفات : البيع الآجل ، والبيع على المكشوف ، والشراء بالهامش ( المارجن ) ، وأعمال النجش والتجمعات القاصدة للتحكم بسوق الأسهم بما يضر المتعاملين به .
فالبيع الآجل : بيع يتم فيه عقد صفقات لبيع أسهم لكن يشترط فيها أن يكون الدفع والتسليم بعد فترة محددة . (32)
والبيع على المكشوف : أن يستقرض المستثمر عددًا من أسهم شركة يتوقع انخفاض قيمتها ، ثم يبيعها مباشرة ويسلّم قيمتها لمن اقترضها منه رهنًا .
فإن حصل ما توقعه من انخفاض قيمة السهم فإنه يشتري مثل تلك الأسهم التي اقترضها ويعيدها لمن اقترضها منه، وبذلك يكسب الفرق بين سعر الشراء والبيع(33).
والشراء بالهامش: أن يشتري العميل أسهمًا بمبلغ لا يملكه كاملاً، فيدفع جزءًا من القيمة والباقي يقترضه من المشتري بفائدة، ويبقى السهم مرهونًا للبائع ضمانًا لحقوقه(34).
فالبيع الآجل نوع من بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ (35) وانعقد الإجماع على معنى الحديث .(36)
قال ابن تيمية : " النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ، وهو المؤخّر بالمؤخّر ، .. فالعقود وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد، كما أنَّ السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.. لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنيّة ومقصود العقود "(37).
والشراء بالهامش فيه اقتراض بالربا المحرّم .
والمعاملات الثلاث لا يكون المقصود فيها البيع والشراء الحقيقيّ بل المراد المراهنة والقمار على ارتفاع أو انخفاض الأسعار ، فهي معاملات تقوم على المخاطرة ، بلا إرادة للتملك ولذا لا يحصل فيها - في العادة - تسليم أوراق مالية بل يعطى أحدهما للآخر فرق السّعر فقط .
والميسر هو كل معاملة لا يخلو الداخل فيها من أن يغرم أو يغنم بناء على المخاطرة فقط. (38)
ولذا قال جمع من السلف: الميسر كل شيء فيه خطر. (39)
ولا شك أن نسبة المخاطرة في أسواق الأسهم مرتفعة جدًا، ولا نلبث أن نسمع عن أضرار كبيرة لحقت بالمضاربين جراء ما في هذه الأسواق من مخاطرة. وهذه الأضرار تكفي للمنع من هذه الصور مع ما فيها من محاذير.
وكذلك فإن النجش ، والاتفاق على التلاعب بالأسعار لأجل الكسب على حساب مستثمرين آخرين محرم ، فإن الشرع لا يبيح اكتساب المال عن طريق خداع الناس ، والإضرار حرام سواء كان بقصد الكسب أو غيره .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غَشّ فليس منا )(40).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار )(41) .
وكل كسب حصل للإنسان بسبب ظلمه لغيره أو خداعه له أو تغريره بالإشاعات، والأعمال الموهمة؛ فهو كسب محرم لا يحل له.
المسألة الثامنة: حكم علاوة الإصدار:
تعمد بعض الشركات عند طرح أسهمها للاكتتاب أن تضيف إلى قيمة السهم مبلغًا يسمى : رسم إصدار ، أو علاوة إصدار ، يقصد منه أن يغطي تكاليف إجراءات إصدار الأسهم وهذا لا حرج فيه بشرط أن تقدّر تقديرًا مناسبًا يكون ممثلاً فعلاً لما يكلفه إصدار السهم أما لو زادت على ذلك فتكون من أكل أموال المساهمين بالباطل(42).
المسألة التاسعة: زكاة الأسهم:
اختلف أهل العلم في كيفيّة زكاة الأسهم على أقوال لعل الراجح منها هو ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي وخلاصته أن تعامل شركات الأسهم كما يعامل الأفراد بأن تخرج الشركة زكاة أسهمها كما يخرج الإنسان الواحد زكاة أمواله بالنظر لمقدار المال ونصابه ونوعه .
فإن لم تزك الشركة أموالها فإنّ المساهم من خلال حسابات الشركة يحسب مقدار الزكاة الواجبة على أسهمه بمعرفته لمقدار الزكاة الواجبة على الشركة إجمالاً ثم يخرج ما يخص أسهمه من الزكاة بنفس الاعتبار السابق.
وإن لم يتمكن من معرفة ذلك فإن كان قد ساهم بقصد الاستفادة من ريع السهم السنوي فتجب الزكاة في الرّيع ربع العشر بعد مضي الحول عليه .
وإن كان قد تملك الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكّاها زكاة عروض تجارة بأن يخرج ربع العشر من القيمة والربح. (43)
وعليه فإنَّ المساهم الذي يقصد الاستفادة من ريع السهم يخرج الزكاة بحساب القيمة الحقيقية للسهم. وأما المضارب الذي يقصد بيعها عند ارتفاع قيمتها فيحسب زكاته على أساس قيمتها السوقية؛ لأنها كعروض التجارة.
***********
وبعد فهذا ما تيسّر إيراده من أحكام في هذه العجالة. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، واغننا بفضلك عمن سواك .
اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنّعنا به، واخلف علينا كل غائبة بخير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ملحق بعض الفتاوى والقرارات في الأسهم
قرار بشأن حكم شراء أسهم الشركات
والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا(44)
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20من شعبان 1415هـ، الموافق 21/1/1995م، قد نظر في هذا الموضوع وقرر ما يلي:
1. بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعًا.
2. لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها.
3. لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاته ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك.
4. إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم، فالواجب عليه الخروج منها.
والتحريم في ذلك واضح ، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا ؛ ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك ، يعني اشتراك المشتري نفسه في تعامل بالربا ؛ لأن السهم يمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة ، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة ، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة ، أو تقترضه بفائدة ، فللمساهم نصيب منه ؛ لأن الذين بياشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه ، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
قرار بشأن الأسواق المالية(45)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربيّة السعوديّة من 7-12 ذو القعدة 1412هـ ، الموافق 9-14 أيار ( مايو ) 1992م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع : (( الأسواق المالية : الأسهم ، الاختيارات ، السلع ، بطاقة الائتمان )) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولاً: الأسهم:
1. الإسهام في الشركات :
1. بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
2. لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
3. الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات ، كالربا ونحوه ، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .
2. ضمان الإصدار ( UNDER WRITING ):(3/191)
ضمان الإصدار : هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم ، أو جزء من ذلك الإصدار ، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره ، وهذا لا مانع منه شرعًا ، إذا كان تعهد الملتزم بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد ، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه - غير الضمان - مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم .
3. تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب :
لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه ، وتأجيل سداد بقية الأقساط ؛ لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه ، والتواعد على زيادة رأس المال ، ولا يترتب على ذلك محذور ؛ لأن هذا يشمل جميع الأسهم ، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير ؛ لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة .
4.
5. السهم لحامله :
بما أن المبيع في ( السهم لحامله ) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها .
6. محل العقد في بيع السهم :
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
7.
8. الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة ، لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية ، أو عند توزيع الأرباح .
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
9. التعامل في الأسهم بطرق ربوية :
1. لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم ، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده .
2. لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم ؛ لأنه من بيع ما لا يملك البائع ، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض .
10. بيع السهم أو رهنه :
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة ، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء ، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة .
11. إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا.
12. إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم ( خصم ) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة - حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة - أو بالقيمة السوقية.
13. تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة :
لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها ؛ لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .
كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام . وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية .
14. حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقهم:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلاَّ بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل؛ لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية ؛ لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة .
قرار بشأن زكاة الأسهم في الشركات(46)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربيّة السعوديّة من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ ، الموافق 6-11 شباط ( فبراير ) 1988م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زكاة أسهم الشركات ،
قرر ما يلي :
أولاً : تجب زكاة الأسهم على أصحابها ، وتخريجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك ، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية ، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة ، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه .
ثانيًا : تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما تخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله ، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ، ومن حيث النصاب ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي ، وذلك أخذًا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء جميع الأموال .
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثًا : إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب ، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم ، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة ، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه ، زكى أسهمه على هذا الاعتبار ، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم .
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي ، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات ، وتمشيًا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية ، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم ، وإنما تجب الزكاة في الريع ، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع .
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.رابعًا:ك القيمة ومن الربح ، إذا كان للأسهم ربح .
رابعًا : إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله زكاه معه عندما يجيء حول زكاته . أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
والله أعلم
==============
عفواً ... يا فضيلة المفتي الحق خلاف ما ذكرت
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ..
أما بعد .
فقد اطلعت في عدد جريدة الحياة رقم (12325) المنشور بتاريخ 12/7/ 1417هـ ، على حديث لمفتي مصر أجرته معه الجريدة ، ورغم ما لي من تحفظات على بعض ما جاء في حديثه السالف ، فإن من كلامه الذي استوقفني أكثر من غيره موضوعين :
الأول : حديثه عن المرتد المدعو (نصر أبو زيد) .
الثاني : حديثه عن إلزام فتوى المفتي للجميع .
لكن الذي أود مناقشته في هذه المقالة هو ما جاء من كلامه في الموضوع الثاني ، إذ إنني أرى أن الموضوع الأول يظهر فيه وجه الحق لكل من تابع بفهم قضية المذكور ، واطلع على بعضٍ من أقواله ، وحيثيات الحكم الصادر بحقه ، لذا : فإنه لا حاجة لي هنا في الحديث عنه ، بل أعود إلى الموضوع الثاني الذي قد يلتبس أو تخفى حقيقته على كثير من الناس .(3/192)
ولنبدأ بذكر أقوال فضيلته في الموضوع المشار إليه حسبما جاء في الجريدة ، ثم نتبع ذلك بالمناقشة :
يقول عفا الله عنا وعنه ردّاً على سؤال الجريدة : (كيف ترى إصلاح الخلاف القديم بين الأزهر ودار الإفتاء ؟ ) ، يقول : (كانت هناك مشكلة في شأن من له حق الولاية الشرعية على الفتوى في مصر ، وأقول : إن هذه الولاية هي للمفتي وحده دون منازع ، وفتواه ملزمة ، وإن أخطأ فهو مسؤول أمام الله (سبحانه وتعالى) ، والعلاقة بين المفتي وشيخ الأزهر متصلة ومتشابكة إلا إن هناك اختصاصاً لكل منهما ، وشيخ الأزهر على قمة المؤسسة العلمية الأزهرية ، ومن وظائفها : البحث والاجتهاد ، لكنها لا تصدر فتاوى ، فهذه يصدرها المفتي ؛ لأنه صاحب الحكم الشرعي والولاية الرسمية على الفتوى) .
ويقول المفتي ردّاً على سؤال الجريدة : (لكن .. ألا ترون أن مثل هذا الخلاف الذي يمس أموراً حياتية مثل : فوائد المصارف يثير بلبلة لدى الناس ؟ ) .
يقول : (الفتوى الرسمية قالت : إن الفوائد حلال ؛ لأنها مقبولة من الطرفين ، أما الرأي الآخر ، فكان اجتهاداً ، وتحويله إلى فتوى رغم وجود فتوى رسمية هو الذي خلق تلك البلبلة ، والرأي الملزم هو ما قال المفتي ، ونحن متمسكون بهذه الفتوى ، وأؤكد أن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ملزمة للجميع) انتهى المقصود منه .
وأبادر إلى القول بأنه ليس من مقصودنا ولا يجوز لأحد أن يظن أننا في هذه المناقشة نريد الانتصار لشخص من الأشخاص ، إذ المقصود إن شاء الله هو الانتصار للدين ، وقد حان الآن وقت الشروع في مناقشة تلك الأقوال :
أولاً : إن فتوى المفتي هي إخبار عن أو بيان لحكم الشرع في القضية المعروضة [1] ، والمفتي في حديثنا هنا هو : من تأهل لهذا المنصب واستحقه بضوابطه المعروفة ، ولسنا نتحدث عن الأدعياء ، فهؤلاء خارجون عن حديثنا ، فنقول : لم يَقُمْ الدليل الشرعي على عصمة المفتي فيما يبلغه للناس أو يبينه من أحكام الشرع ، كما لم يقم الدليل الشرعي على وجوب التزام جميع المسلمين لما يفتي به ، إذ طبيعة عمل المفتي لا تقتضي ذلك الإلزام ولا توجبه .
يقول القرافي : (المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها ، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص ، إن كان المفتي مجتهداً) [2] ، ثم يبين أن فتواه ليست ملزمة للجميع ، ويجوز الفتوى بخلافها حتى وإن كان المفتي هو الإمام الأعظم ، فيقول : (النوع السادس : من تصرفات الحكام : الفتاوى في الأحكام في العبادات وغيرها من تحريم الأبضاع ، وإباحة الانتفاعة ! ، وطهارة المياه ، ونجاسة الأعيان ، ووجوب الجهاد ، وغيره من الواجبات ، وليس ذلك بحكم ، بل لمن لا يعتقد ذلك أن يفتي بخلاف ما أفتى به الحاكم أو الإمام الأعظم) [3] .
وفي هذا المعنى أيضاً يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) : (وما يجوز أن يحكم به الحاكم ، يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع ، بل الفتيا أيسر ، فإن الحاكم يُلزِم ، والمفتي لا يُلزم) [4] .
ويقول الشاطبي : (المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا إنه لا يُلزمه المفتي ما أفتاه به) [5] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في بيان ذلك : (قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله (سبحانه وتعالى) فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول -صلى الله عليه وسلم- ، حتى كان صدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيه يقول : (أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) [6] [7] .
من كل ما تقدم وغيره يتبين أن قول القائل : إن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ، أو عن المفتي ، أو عن فلان ، هى فتوى ملزمة للجميع .. هو قول بيِّن الخطأ .
ثانياً : أن المسلم لا يلزمه أن يقتصر في طلب الفتوى على مفتٍ واحد ، بل له أن يستفتي فيما ينزل به أكثر من مفتٍ ممن يثق في علمهم ودينهم و (اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان) [8] وإذا اختلفت فتوى المفتين عليه ، أخذ من تلك الفتاوى ما ترجح لديه منها بحسب قدرته .
يقول ابن تيمية في بيان ذلك : (وأما تقليد المستفتي للمفتي ، فالذي عليه الأئمة الأربعة ، وسائر أئمة العلم : أنه ليس على أحد ولا شُرع له التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لكن منهم من يقول : على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه ، ومنهم من يقول : بل يخير بين المفتين ، [و] إذا كان له نوع تمييز فقد قيل : يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه ، فإن هذا أولى من التخيير المطلق ، وقيل : لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد ، والأول أشبه ؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين : إما لرجحان دليله بحسب تمييزه ، وإما لكون قائله أعلم وأورع : فله ذلك وإن خالف قوله المذهب) [9] .
ويقول ابن القيم : (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر ، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال ، أو بأخفها ، أو يتخير ، أو يأخذ بقول الأعلم ، أو الأورع ، أو يعدل إلى مفتٍ آخر ، فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها ، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه ؟ ، فيه سبعة مذاهب ، أرجحها السابع) [10] .
ولم يكن من هدي السلف الصالح استفتاء عالم بعينه دون نظرائه من العلماء ، والتزام أقواله كلها بحيث لا يخرج عنها ، فإن ذلك من البدع الحوادث ، كما ذكره ابن القيم [11] ، وابن عبد البر [12] ، وابن حزم [13] ، والشاطبي [14] ، وولي الله الدهلوي [15] ، والفُلاني [16] ، وسند بن عنان المالكي [17] ، ومحمد حياة السندي [18] ، والشوكاني [19] .
ومن هنا يتضح أن قول القائل : إن الولاية على الفتوى هي للمفتي وحده دون منازع ، وأن فتواه ملزمة هو تجنٍّ على الحق وتجاوز للحد ، وادعاء ما أنزل الله به من سلطان .
ثالثاً : أن الفتوى ليست حكراً على طائفة معينة أو فرد ما ، بل كل من استجمع شرائط الفتوى المعتد بها ، حُقّ له أن يخبر عن أحكام الشرع ؛ إذ الإخبار عن أحكام الشرع وبيانها للناس هو من فروض الكفايات ، وليس لأحد أن يحصر الفتوى في فرد أو طائفة بحيث لا تصدر الفتوى إلا منه أو منهم ، ويمنع من الفتوى من هو مثلهم ممن تتحقق فيه شروط الفتوى ، أخرج الدارمي في سننه من حديث أبي كثير مالك بن مرثد أنه قال : (أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ ، فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليّ ، لو وضعتم الصّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) [20] .(3/193)
قال ابن حجر (رحمه الله) : (إن الذي خاطبه رجل من قريش ، وإن الذي نهاه عن الفتيا عثمان (رضي الله عنه) ، وكان سبب ذلك : أنه كان بالشام ، فاختلف مع معاوية في تأويل قوله (تعالى) : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } [التوبة : 34] ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وقال أبو ذر : نزلت فيهم وفينا ، فكتب معاوية إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الرّبَذَة (بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة) إلى أن مات ، رواه النسائي ، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا ؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه ؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبليغ عنه كما تقدم ، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه) [21] .
ويبين شيخ الإسلام (رحمه الله) الحالة التي يمنع فيها العالم من الفتوى بقوله :
(وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين ، بل يبين له أنه أخطأ ، فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع ، بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك ، وجب أن يُمنع من ذلك ، ويعاقب إن لم يمتنع ، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين ، ولا مَنْعه من ذلك القول ، ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول : إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين) [22] .
رابعاً : أن المفتي قد خلط في حديثه ذاك بين الفتوى والقضاء ، إذ كثيراً ما يختلط هذا بذاك على العوام أو غير المتخصصين ، فكان خلطه في ذلك من ثلاثة وجوه :
الأول : عده الفتوى ولاية من الولايات الشرعية ، وهذه في القضاء وليست في الفتوى .
الثاني : قوله بلزوم كل ما صدر عن دار الإفتاء للجميع ، وهذا فيما صدر عن القاضي أو الحاكم في قضايا الأعيان .
الثالث : جعله المفتي مفتقراً لكونه مفتياً إلى إسناد هذا الأمر إليه من ولي الأمر ، وهذا في القضاء .
ولتفصيل هذا الاختلاط الواقع في الحديث عن الفتوى نقول :
1- إن الفتوى ليست ولاية من الولايات الشرعية ، وإنما الذي يقال في حقه إنه ولاية مما يمكن أن يشتبه أمره على العوام أو غير المتخصصين إنما هو القضاء ، وقد عدد الماوردي في (الأحكام السلطانية) وكذلك أبو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) الولايات ، فذكر كل واحد منهما القضاء فيما ذكرا من الولايات ، ولم يذكر واحد منهم الفتوى ، وكذلك عَدّ القرافي في كتابه (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) الولايات ، وقسمها إلى خمسة عشر قسماً ، وذكر فيها القضاء ، ولم يذكر فيها الإفتاء ، وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه (السياسة الشرعية) كثيراً من الولايات ، وتحدث عن أحكامها ، فذكر منها القضاء ولم يذكر الإفتاء ، وبالجملة : فلست أعلم أحداً ممن يُعتد به ذكر (الإفتاء) ضمن الولايات .
2- إن القول الملزم إنما هو للقاضي أو الحاكم (والقاضي والحاكم لفظان مترادفان في اصطلاح الفقهاء) والمفتي إنما له الإخبار ، ف (المفتي مخبر محض ، والحاكم منفذ وممضٍ) [23] .
وقال علاء الدين الطرابلسي (فحقيقة القضاء : الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام ، ومعنى قولهم : (قضى القاضي) ، أي : ألزم الحق أهله) [24] وقال ابن الشحنة الحنفي : (القضاء في اللغة عبارة عن اللزوم ، ولهذا سمي القاضي قاضياً ؛ لأنه يلزم الناس ، وفي الشرع يراد بالقضاء : فصل الخصومات وقطع المنازعات) [25] .
وقال ابن القيم فيما نقله عن أبي عثمان الحداد : (القاضي أيسر مأثماً وأقرب إلى السلامة من الفقيه [يريد المفتي ] ؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول ، والقاضي شأنه الأناة والتثبت ، ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة) انتهى .
يقول ابن القيم معقباً : (وقال غيره : المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي ؛ لأنه لا يلزم بفتواه ، وإنما يخبر بها من استفتاه ، فإن شاء قبل قوله ، وإن شاء تركه ، وأما القاضي فإنه يلزم بقوله ، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم ، ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء ، فهو من هذا الوجه خطره أشد) [26] .
والشاهد فيه : قوله عن المفتي : إنه (لا يُلزم بفتواه) ، وقوله عن القاضي :
إنه (يلزم بقوله) ، والفتوى أوسع مجالاً من القضاء ، إذ كل ما يقضي فيه القاضي أو الحاكم يمكن للمفتي أن يفتي فيه ، والعكس ليس بصحيح ، فليس كل ما يفتي فيه المفتي يمكن أن يقضي فيه القاضي ، يقول ابن القيم تعليقاً على ما نقلناه سابقا :
(فكلّ خطر على المفتي فهو على القاضي ، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى ، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره ، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله ، فالمفتي يفتي حكماً عامّاً كليّاً : أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا ، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين ، فقضاؤه خاص مُلزم ، وفتوى العالم عامة غير ملزمة ، فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير) [27] .
ويقول القرافي في (الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم) : (اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة ، بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة ، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجساً فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله ، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا ، إن كانت مذهب السامع عمل بها ، وإلا فله تركها والعمل بمذهبه) [28] .
3- المفتي لا يفتقر في كونه مفتياً إلى جهة تسند إليه أمر الإفتاء غير تحقق شروط المفتين فيه ، في حين أن القاضي لا يصير قاضياً بتحقق شروط القضاء فيه حتى يُسنِد إليه أمر القضاء من له الحق في ذلك الإسناد ، وهو الخليفة أو من يقوم مقامه ، يقول الماوردي : (ولو اتفق أهل بلدٍ قد خلا من قاضٍ على أن قلدوا عليهم قاضياً ، فإن كان إمام الوقت موجوداً بطل التقليد ، وإن كان مفقوداً صح التقليد ونفذت أحكامه عليهم ، فإن تجدد بعد نظره إمام لم يستدم النظر إلا بإذنه ، ولم ينقض ما تقدم من حكمه) [29] .
ويقول الشيرازي وبنحوه ابن قدامة الحنبلي وابن الهمام الحنفي : (لا تجوز ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام ؛ لأنها من المصالح العامة) [30] .
والمفتي المتحقق فيه شروط الإفتاء له أن يفتي ولا يفتقر ذلك إلى تعيين من جهة ما ؛ لأن ذلك من قبيل تبليغ الدين ، وبالتالي : فليست هناك فتوى يقال عنها :
إنها فتوى رسمية ، وأخرى يقال عنها : إنها غير رسمية ، طالما أن الفتوى خرجت ممن يحق له أن يفتي ، ومعيار الصواب في الفتوى قائم على الالتزام بنصوص الشرع والإفتاء بها أو بموجبها ، وليس لفتوى امتياز على فتوى أخرى إلا بانضباطها بذلك المعيار .
خامساً : أن الربا حرام بالنص والإجماع المتيقن ، لا تُحله فتوى يقال عنها :(3/194)
إنها رسمية أو غير رسمية ، وكل فتوى خالفت ذلك التحريم فهي فتوى باطلة يحرُم الإفتاء بها أو العمل بمقتضاها ، وليس ما يقال عنه من فوائد البنوك إلا صورة من صور الربا المحرم بالنص والإجماع ، وذلك أن حقيقة هذه الفائدة إنما هي (زيادة اشترطت في رأس المال في مقابل الأجل) [31] (التأخير) ، سواء أكانت الزيادة مما يعطيها البنك للمودع (المُقرض) أو يأخذها البنك من المقترِض ، فكل ذلك من الربا الجلي بيقين .
وهذه الصورة المحرمة من صور الربا لا يُحلّها وجود فتوى يقال عنها إنها رسمية قالت بحلها ، كما لا يُحِلّها القول بأنها معاملة : (مقبولة من الطرفين) ؛ إذ ليس قبول الطرفين في المعاملات هو الموجب الوحيد للحِل في المعاملات ، فالقمار حرام ولو كان برضا الطرفين ، والزنا حرام ولو كان برضا الطرفين .. فالرضا وإن كان معتبراً في المعاملات لكنه لا يحل ما حرم الله ، وهذا واضح لا إشكال فيه .
ومن كل ما تقدم :
يتبين لنا أن كلام المفتي على قصره قد احتوى على كثير من الأمور المخالفة للشريعة ، من ذلك :
1- قوله إن الإفتاء ولاية .
2- قوله إن المفتي الذي عينه ولي الأمر هو الذي له حق الفتوى دون غيره من أهل العلم .
3- قوله إن فتوى المفتي ملزمة لكل الناس .
4- خلطه وعدم تفريقه بين الإفتاء والقضاء .
5- قوله بحل فوائد البنوك ، ومخالفته في ذلك للإجماع القطعي لعلماء الأمة قديماً وحديثاً .
وأخيراً :
فإن هذه الأخطاء الكثيرة الكبيرة المتتابعة ليس من السهل غض الطرف عنها ، لاسيما وأنها جاءت ممن يتصدر الفتوى .
ولعل هذا الحديث الذي أدلى به فضيلة المفتي كان فرصة للتذكير وتبيين هذه الأمور ، التي أصبحت تخفى على بعض المفتين في هذا العصر .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يثقل به موازيننا يوم العرض عليه ، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
والله من وراء القصد ،
________________________
(1) انظر في تعريف الفتوى : لسان العرب ، 15/147 148 ، والتعريفات ، للجرجاني ، ص49 ، والموافقات ، للشاطبي ، 4/79 ، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي ، ص 53 .
(2) الإحكام ، ص 25 .
(3) الإحكام ، ص 91 92 .
(4) مجموع الفتاوى ، 27/303 .
(5) الموافقات ، 4/79 ، وانظر أيضاً : مجموع الفتاوى ، 35/367 ، 385 .
(6) أخرجه ابن إسحاق في السيرة ، وقال فيه ابن كثير : (وهذا إسناد صحيح) ، السيرة النبوية لابن كثير ، 4/493 .
(7) انظر : الدرة البهية ، ص 26 27 ، أعده وعلق عليه : محمد شاكر الشريف .
(8) انظر : مجموع الفتاوى ، 20 /208 209 .
(9) مجموع الفتاوى ، 33/168 .
(10) إعلام الموقعين ، 4/264 ، والسابع هو : التحري والبحث عن الراجح .
(11) انظر : إعلام الموقعين ، 2/228 .
(12) جامع بيان العلم وفضله ، 2/144 .
(13) الإحكام في أصول الأحكام ، 2/858 .
(14) الاعتصام ، 2/347 355 .
(15) الإنصاف في بيان أسباب الخلاف ، 68 .
(16) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(17) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(18) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(19) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد .
(20) سنن الدارمي ، 1/146 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به من أول قوله : (لو وضعتم إلخ) ، فتح الباري ، 1/192 ، والصمصامة : هو السيف الصارم الذي لا ينثني .
(21) فتح الباري ، 1/194 ، وانظر : مجموع الفتاوى ، 33/133 134 .
(22) انظر : مجموع الفتاوى ، 35/382 - 383 .
(23) القواعد السنية ، بهامش الفروق ، 4/89 .
(24) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ، ص 7 .
(25) لسان الحكام في معرفة الأحكام ، لابن الشحنة ، ص 218 .
(26) انظر : إعلام الموقعين ، 1/29 - 30 .
(27) إعلام الموقعين ، 1/30 31 .
(28) الفروق ، للقرافي ، 4/48 ، وانظر : مجموع الفتاوى ، 35/357 - 360 .
(29) الأحكام السلطانية ، للماوردي ، ص79 ، وانظر أيضا : الأحكام السلطانية ، لأبي يعلى الفراء ، ص73 .
(30) انظر : نظام القضاء في الإسلام ، المستشار جمال صادق المرصفاوي ، ص 39 .
(31) انظر : (البديل الإسلامي للفوائد المصرفية الربوية) ، د/ عاشور عبد الجواد ، ص 6 .
===============
شركات الأسهم
د. علي بن سعيد الغامدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد عمت البلوى بكثير من المعاملات المالية المعاصرة، وأصبح تحصيل المال بأيسر الأسباب وأسرعها مطلب الكسول والعامل، النبيه والخامل، وفي العقدين الأخيرين كثرت مسائل البيوع والمعاملات المالية المختلفة، وتداخلت أعيان تلك المسائل، واشتبه الحلال بالحرام، فلا تدرك أحكام تلك المسائل إلا بالتنقيب والبحث؛ حتى يحرر الفاصل بين الحلال والحرام، ومن تلك المعاملات: المشاركة في شركات الأسهم، فلا بد من البحث والنظر الدقيق في نظام هذه الشركات، وكيفية معاملتها مع المشتركين، ومن ثم إصدار الحكم الشرعي إزاء هذا النوع من المعاملات الذي طم وعم في عصرنا الحاضر، وانخدع به كثير من الناس؛ ظانين حلَّه وإباحته، غير مطلعين على أقوال أهل العلم في هذا النوع من المعاملات.
وهذا بيان يعبر عن رأيي الشخصي إزاء هذه القضية، مع احترامي لآراء طلبة العلم المجتهدين في هذا الباب، والخلاف لا يفسد للود قضية.
وقد جعلته مقسماً إلى فقرات، وهي:
1) نشأة شركات الأسهم.
2) نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم.
3) موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي.
4) الأسباب الحاملة على الاشتراك في شركات الأسهم.
5) مخالفة نظام شركات الأسهم للتشريع الإسلامي في الشركات.
6) مفاسد مترتبة على المساهمة في شركات الأسهم.
7) البدائل الشرعية العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية.
والله ولي التوفيق
أولاً: نشأة شركات الأسهم:
إن نشأة شركات الأسهم في دول العالم الثالث تابع لنشأتها في دول الغرب؛ حيث إن القانون الذي يحكم تلك الشركات هو المطبق الآن في العالم الإسلامي وغيره.
وقد نشأت الشركات في الغرب على أساس استعماري، وأول ما يذكر في تاريخها (شركة المغامرين المكتشفين الإنجليز)، ثم ظهرت بعد ذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند. وكذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة هولندية احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية (إندونيسيا وما جاورها).
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر من أجل الاستيلاء على خيراتها، وخاصة تجارة القطن، وقد طبق على تلك الشركات القانون الفرنسي. ثم تبعتها -أي: مصر- جميع الدول التي تحتاج إلى الخبرة المصرية باعتبارها بوابة العالم العربي والإسلامي.
وقد اشتهر من القانونيين في ذلك الحين السنهوري، فهو كما يقال: (أبو القانون) وقد ألف موسوعة ضخمة في القانون، وكل ذلك مبني على قانون نابليون؛ أول قانون في العالم ينشأ ويأخذ صبغة النظام.
ثم نشأت شركات الرقيق في أفريقيا التي كانت تبيع الرقيق السود لأمريكا وغيرها، وقد ساد عند الناس -من جراء ذلك- أن كل أسود يعتبر رقيقاً ولو كان أصله حراً.
ثم نشأت شركات البترول، والتي سيطرت على بترول العالم الإسلامي، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب محدودة مع الحكومات.(3/195)
ومما \سبق يتبين أن الشركات المساهمة ارتبطت في نشأتها تاريخياً بالاستعمار والاحتكار، وما يعرف بالمذهب الرأسمالي، والذي انبثق من فلسفة نفعية وهي ما يسمى: بالبرجماتية، وهو مذهب لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، وهدفه الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المال بأقل كلفة.
ولِما كان لهذه الشركات من الآثار السلبية والضغوط ظهر ما يعرف بنظام الاشتراك، وظهر ما يعرف باسم: المؤسسات العامة التي تدرأ عن الدول الغربية خطر الثورات والاضطرابات العمّالية، وتقبل مساهمات العمال في تلك الشركات، ولتظهر الدولة بمظهر العدالة الاجتماعية؛ لتبقى المحافظة على النظام الرأسمالي النفعي ولو لبس ثوباً آخر.
نشأ مع هذه الشركات نظامان خادعان:
1- الانتخابات.
2- مجلس الإدارة.
وهما أكذوبتان لا يعرفهما أكثر الناس؛ فإن الانتخابات التي تجري في هذه الشركات تنبني على الديمقراطية التي يحكم فيها الشركاء أنفسهم بأنفسهم، والذي يحكمهم في الحقيقة هم فئة متسلطة معينة مجهزة من وراء الكواليس، لا يعرفها إلا من يدبّر الأمر.
وكذلك أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، فهو الآمر الناهي المتصرف بما يشاء كيف شاء، والمساهم فيها لا يعلم شيئاً مما ما يدور في تلك الإدارات أبداً.
ثانياً: نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم:
عند وضع النظام المعمول به في شركات الأسهم أُلغي الفصل الخاص بالشركات من نظام المحكمة التجارية، وأُحل محلّه النظام المعمول به حالياً، وهو مأخوذ من القانون المدني المصري، وقد جاء في مقدمته: "بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة قد شملت في أعرافها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من الملايين، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها- فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية لم تكن كافية لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات عند إنشائها؛ إما خلال مزاولة نشاطها، وإما عند انقضائها وتصفيتها.
وإزاء هذا القصور لجأ الأفراد في تأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال اختلاطاً عززت مهمة الوزارة في مراقبتها والإشراف عليها، من هنا بدت الحاجة ملحة إلى وضع نظام شامل للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها..."اهـ.
إذاً: فالمشكلة الشاخصة عند المقننين هي أنهم لم يجدوا عندنا تشريعاً يضبط الشركات -مع تشعبها وكثرتها- إلا بضع مواد في نظام المحكمة التجارية، الذي كان في أصله امتداداً للقانون العثماني المستمد من فرنسا.
والخلاصة التي نريد الوصول إليها: أن نظام الشركات القائم الآن هو نظام قانوني مستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي.
ثالثاً: موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي:
والسؤال الذي يطرح نفسه عند وضع هذا النظام: أين الشريعة الإسلامية؟! أين الفقه الإسلامي؟! أين علماء الشريعة وفقهاؤها وهم متوافرون وعلى رأسهم فضيلة العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية آنذاك؟!
وإذ قد ثبت أن في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ما يكفي لوضع نظام متكامل للشركات، فتُرك واستمد نظام الشركات من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي؛ فكيف يجوز الدخول في أسهم الشركات بأي وجه من الوجوه؟!
وكان قد عرض هذا النظام على سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عند صدوره عام (1369هـ) للمرة الثانية، وبعد دراسته قال رحمه الله: "وبعد دراسة النظام وجدناه نظاماً وضعياً قانونياً لا شرعياً؛ فتحققنا بذلك أنه حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين؛ بل نظامييين قانونيين، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث به الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرع، الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعباداتهم، ومعرفة حلالهم وحرامهم، وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم - إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها".
بل مما ورد في كلامه رحمه الله: كفر من اعتقد في تلك الأنظمة والقوانين كفاية وغنية عن حكم الله ورسوله، قال رحمه الله: "واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة".
وقال رحمه الله: "والأمر كبير مهم، وليس من الأمور الاجتهادية، وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، وقد قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء:59].
وقال تعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) [النساء:65]".
والخلاصة: أن أصل النظام واستمداده، ثم واضعه، وجهة التحاكم فيه؛ كلها مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله، وهذا في الجملة.
وحتى تصح المشاركة والمساهمة في الشركات القائمة؛ لابد من إصلاح وضعها، واستمداد نظامها من الشريعة الإسلامية وفق الضوابط الشرعية، وحسبما نص عليه أهل العلم، وقد أبلى علماؤنا وفقهاؤنا في كتاب الشركات بلاءً حسناً، حتى إن الموفق ابن قدامة رحمه الله كتب فيه أكثر من ثمانين صفحة (1).
رابعاً: الأسباب الحاملة على الاشتراك في شركات الأسهم:
لعل أهم الأسباب التي حملت أكثر الناس على الوقوع في المساهمات دون دراسة وتحقق ما يلي:
1- الدعاية والإعلان، وترغيب الناس في ارتفاع قيمة الأسهم فور بداية التداول.
2- كثرة الطمع في الإثراء السريع بدون تعب.
3- تقصير بعض المسلمين في أداء الزكاة والحقوق الواجبة عليهم؛ فسلط الله على أموالهم من يستنزفها ويضحك عليهم.
4- سد باب القرض الحسن، الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأجر بثمانية عشر ضعفاً، والصدقة بعشر حسنات، وكون القرض مرتين يقوم مقام صدقة.
5- التساهل في الفتوى، فتجد البعض يقولون: هذه شركات نقية، وأخرى مختلطة، وثالثة محرمة، دون دراسة لواقع تلك الشركات ومخاطر المساهمات، وما يقع فيها من الكذب والتحايل والجهالة والغرر ما الله به عليم.
وكل يوم تسمع فتوى غير الأخرى، فشيخ يقول: ساهم في الشركات السعودية وقلبك مطمئن دون تفريق، وآخر يفصل ويدخل بعض الشركات في النقية، ثم لا يلبث أن يظهر له عدم نقائها فيلحقها إما بالمختلطة أو بالمحرمة.. وقد أحدث هذا الاختلاف بلبلة بين الناس، فلا يدرون من يصدقون!
خامساً: مخالفة نظام شركات الأسهم للتشريع الإسلامي في الشركات:(3/196)
بعد النظر في نظام شركات الأسهم الموضوع لها والمستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي -يتبين لكل منصف أن هناك مخالفات شرعية واضحة، لا يتردد الناظر فيها عن القول بتحريم التعامل مع هذه الشركات، بناءً على القول بتحريم إقامة وتأسيس هذه الشركات ابتداءً.
وهذه المخالفات نجملها فيما يلي:
1- الأصل أن عقد الشراكة بين اثنين فأكثر عقد جائز بإجماع الفقهاء، أي أن لكل أحد من الشركاء أن يفسخ العقد متى شاء، ويتفاسخ الشركاء بالطريقة التي نص عليها الفقهاء رحمهم الله.
أما نظام شركات الأسهم فإنه يجعل عقد الشراكة عقداً إلزامياً؛ بدليل: أن المساهم في أي شركة لا يستطيع أن يبيع حصته على الشركاء؛ بل لابد أن يكون ذلك عن طريق الشركة وبواسطة البنوك، فلو أراد شخص أن يتخلص من أسهمه في شركة بسبب تعاملها بالربا، أو لكونها تبيح بيع الأسهم وتداولها قبل أن يبدأ العمل بها، فلا يجوز له ذلك في نظامهم إلا أن يأتي بمشترٍ يحلّ محلّه، أو يصبر على الحرام، فلو خرج مليون مشترك فلابد أن يحل محلهم بعددهم، وهذا مخالف لنظام الشركات في الإسلام، الذي يجعل للشريك الحق في فسخ عقده وسحب سهمه متى شاء، وبدون أي شروط أو قيود.
2- الأصل أن الشركات تنبني على عقود مشاركات تضبطها، ولا تلزم بنمط معين بحيث تصبح وكأنها ليست عقوداً اتفاقية بين الشركاء، فالعقد هو الذي يضبطها، وهو الذي يلزم الشركاء بالعمل وفق ما جاء فيه، وما تم الاتفاق عليه بين الشركاء أنفسهم.
أما في ظل النظام القائم لشركات الأسهم فإن القانون هو الذي يحكم وليس العقد، ومن يخرج عن القانون ولو ابتغاء التصحيح يدخل تحت طائلة العقوبات التي يقررها القانون، وفي هذا مخالفة صريحة للتشريع الإسلامي في الشركات، وفيه إلزام للشركاء بما لم يلزموا به شرعاً.
3- النقص الظاهر في القانون المنظم للشركات؛ إذ لا يشتمل في مواده إلا على نوعين من الشركات هما: شركة الأموال، وشركة المضاربة؛ على نقص في النوع الثاني، أما شركة الأبدان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة، فلا وجود لها في نظام الشركات القائم؛ لأن أعمال الشركات تدار من خلال البنوك، وهي لا تعرف إلا المال.
4- اجتماع الأجرة مع نسبة الأرباح؛ وهذا مخالف للقول الصحيح وما عليه جمهور أهل العلم؛ حيث إن القول المختار بالدليل: أنه لا يجمع العامل في المضاربة بين نسبة الربح والأجرة؛ لأنه ربما استهلكت الأجرة كامل الربح، فلم يبق لصاحب رأس المال شيء، فشركات الأسهم تجمع بين أخذ نسبة من الأرباح من أموال المساهمين، وبين أخذ أجرة زائدة على الأرباح، ومن ذلك: مكافأة مجلس الإدارة التي تستوعب أكثر عائد من الأرباح كما هو معلوم، وفي هذا غبن وإضرار بالمساهمين في هذه الشركات لا تقره الشريعة الإسلامية.
5- نسبة الخسارة إذا حصلت؛ فإن المقرر في الشريعة الإسلامية أن الخسارة -وتسمى: الوضيعة- على قدر رأس المال، بخلاف النظام المعمول به في هذه الشركات.
ووجه المخالفة: أن الشريعة تضع الخسارة على حسب رأس المال ما لم يحصل تعد أو تفريط، فيتحمل المتعدي والمفرط الخسارة، ففي العنان -وهي الشراكة بالأموال من الأطراف المتشاركين- لا يكون العدل إلا إذا كانت الخسارة حسب رأس المال؛ لأنه ليس أحد أولى من أحد، بخلاف نظام الشركات؛ فإن الخسارة تكون حسب الشروط المتفق عليها بين الشركاء، والتي يقرها ذلك النظام.
وهذا بخلاف الربح؛ فربما يتفقون على أن يكون لأحدهما نسبة أعلى؛ نظراً لما يقدمه من خبرة، وما إلى ذلك، وهذا مقتضى العدل والإنصاف.
وفي المضاربة: إذا خسر المضارب دون تعدٍ أو تفريط منه فيكفيه خسارة عمله، بينما في نظام الشركات لو شرط صاحب رأس المال أن لا خسارة عليه؛ ضمنها العامل، وهذا ظلم ظاهر، ومخالف للشريعة الإسلامية.
6- تقييد المعاملات وتسلّط مجلس الإدارة، ومن ذلك:
أ ) تحويل الشركة الكبيرة إلى شركة مساهمة دون وجه حق، وهذا أشبه بنظام التأميم والمصادرة والمشاركة بالقوة، وقد تبين لي أن الشركات الكبرى التي أفلست كانت تطرح مساهمات لأجل خداع الناس، فمجرد الإعلان عن طرح أسهم تلك الشركة ينكب عليها الناس، فتغطي خسارتها وتزيد الضعف، وقد فطن المتربصون لذلك ممن أفلست شركاتهم فاستغلوا جهل الناس بالوضع الاقتصادي وإدارة اللعبة.
لكن إذا كانت الشركة رابحة فلا يجوز إلزامها بأن تطرح مساهمة؛ لما في ذلك من الظلم.
ب ) استغلال مجلس الإدارة واستئثاره بالأصوات؛ مدعياً أن لديه توكيلات أو تفويضات، وهي في الحقيقة شراء أسماء ليس لها علاقة بالشراكة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يخفى ما في هذا من التسلط والظلم والاستبداد الذي يأباه الإسلام ولا يقره.
7- دعوى التقادم: فنظام الشركات ينصُّ على أنه إذا وقع خطأ في الشراكة، ولم يتقدم المساهم بالشكوى خلال سنة من وقوع ذلك الخطأ؛ سقطت دعواه، بدعوى التقادم، وفي هذا القانون مخالفة للتشريع الإسلامي؛ فإن الحق لا يسقط في الشريعة الإسلامية إلا بالأداء أو الإبراء، ولا دخل لمسألة التقادم في إسقاط الحقوق.
8- فيما يتعلق بإثبات الحق: فإن الشريعة الإسلامية تعتبر البينة على المدعي، وهي ما أبان الحق وأظهره من شهود، أو اعتراف، أو قرينة ظاهرة.
لكن نظام الشركات لا يعتد بالبينة إلا بما هو مكتوب؛ بل يجعل ذلك ركناً في عقد الشراكة، ولا يعتد إلا بتوثيق ذلك كتابياً من الشركة، ولا يعتد بغير ذلك من البينات، فلو كانت البينة مائة شاهد لما نظر إليها، وإنما ينظر إلى ورقة معتمدة من الشركة ولو كانت مزورة!!
9- التذبذب في أسعار الأسهم؛ بحيث لو استقال وزير من وزراء التجارة في الدول المشهورة، أو اعتدي على وزير، أو نحو ذلك؛ فلا تسمع إلا ارتفاع الأسهم وانخفاضها، وهذا يدل على عدم الاستقرار، وقد ثبت لدي -كما أخبرني بعض المتعاملين عن طريق شبكة الإنترنت- أنه في حال ارتفاع الأسهم وإرادته البيع يقفل في وجهه الخط ولا يستطيع الوصول للبيع، فالأمر فيه تلاعب وسيطرة من متنفذين وراء الأكمة.
وكم من متعامل يدخل صالة التداول ويخرج فرحاً جذلاً يكاد يطير من الفرح! وكم من باكٍ شاكٍ يعضّ أصابع الندم بسبب ما سبق من التذبذب والتلاعب! وهذا يكفي في تحريم التعامل مع شركات الأسهم؛ لأن في ذلك غرراً لا يرضاه الإسلام.
10- المخالفة الشرعية فيما يصدر عن الشركات مما يتعلق بالصكوك، وهي التي تصدرها الشركات المساهمة.
فقد جاء في نظام الشركات في الفصل الرابع منه في المادة (98): «أن الصكوك التي تصدرها الشركة المساهمة، تكون في شكل سندات أو حصص تأسيس أو أسهم.
فأما السندات فهي أن تطرح سندات يشتريها كبار المستثمرين بقيمة عاجلة مقابل زيادة تدفع مع قيمة السندات آجلاً».
وهذه العملية ربا قطعاً باتفاق جميع المسلمين، حتى القانونيين منهم.
وأما حصص التأسيس فيقول النظام عنها: «هي براءة اختراع أو التزام حصل من شخص اعتباري عام يكون مشاركاً بحصة تأسيس».
وهذه الحصة قد تكون خدمة معنوية يقدمها أحد الناس، فتسجل له حصة تأسيس، ويصدر له صك مقابل ذلك، وهذا فيه من الجهالة والغرر الشيء الكثير؛ إذ ليس هناك ضابط يحدد الخدمة وما يقابلها.
وقد تكون رشوة؛ كأن تكون الحصة مقابل تسهيل إجراءات إدارية أو جمركية.
ولا نشك أن الشركات العالمية -والكل تبع لها- يدخلها كثير من الغش والخداع والرشاوي باسم الإكراميات تارة، وباسم غيرها تارات أخرى، وهذا النوع أيضاً يلحق بالسندات، فهو حرام.(3/197)
وأكثر الشركات القائمة تتعامل بهذين النوعين من الإصدارات.
أما النوع الثالث -وهو المهم- فهو الأسهم، وقد أصبح حديث الناس، واستولى على جل أوقاتهم وأموالهم، وأشغلهم أيما إشغال.
والأسهم نوعان: أسهم بالاسم، وأسهم لحامل السند:
فأما الأسهم لحامله: فهي حرام؛ لما في ذلك من إضاعة الحقوق، ولما يعتريها من الجهالة؛ حيث لا يعرف الشريك من هو شريكه، ولو ضاعت الأوراق الخاصة بالسندات فوقعت في يد شخص آخر، لأصبح حاملاً له وهو غير مستحق له.. فمن هنا نشأ التحريم.
وأما الأسهم التي بالاسم: فهي نوعان أيضاً: أسهم عادية، وأسهم ممتازة.
ومعنى الامتياز في الأسهم: أن يكون لأصحابها ميزة، وهي التي يبقى لأصحابها الحق عند إفلاس الشركة أو تصفيتها في أخذ حقوقهم كاملة.
ومن المعلوم أن هذا التمييز باطل؛ إذ أن الأصل هو التساوي بين الشركاء وعدم التمييز بينهم بأي وجه من الوجوه، فهم شركاء في الربح وفي الخسارة، أما إذا جعلنا لأحد المساهمين ميزة بأن نضمن له عدم الخسارة، أو أن له الحق في أن يسحب ماله متى شاء دون غيره؛ فهذا حرام بلا شك؛ لما فيه من الظلم لباقي الشركاء، وعدم تساويهم؛ لأنه ليس لبعضهم فضل على بعض فيما اشتركوا فيه.
ومن هذا التمييز نوع يسمى: أسهم التمتع، وهي التي يستحق أصحابها ربحاً بعد بيع أسهمهم وسحب أموالهم؛ وهذا حرام؛ لأنه لم يبق له حق في الشراكة بعد سحب ماله، فعلى أي أصل يعطى مثل ما يعطى بقية الشركاء وقد سحب أسهمه؟!
وأما الأسهم العادية: فلا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن تقوم الشركة على أصول شرعية، وتمارس جميع أعمالها على نقاء وبُعد عن الربا والكذب والجهالة والغرر والنجش، وتطبق جميع الضوابط الشرعية التي نص عليها أهل العلم في كتبهم، فهذه تباح المشاركة فيها؛ بل يندب دعمها ولو قلّت أرباحها؛ لما في ذلك من إحياء سنة المشاركة، والتوحد على إقامة المشاريع المربحة والمنتجة، ولكونها تستوعب قدراً كبيراً من الطاقات الشابة، فتقضي على البطالة، ويكثر الإنتاج ويعم الخير.
لكن مثل هذه الشركات عزيزة الوجود؛ لأن قيامها مرهون بوجود نظام إسلامي يحميها ويرعاها، إلا أن إقامتها غير مستحيلة، وممكنة إذا صلحت النيات، واجتمعت الخبرات من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المعاصر لبناء تلك الشركات على أصول شرعية في جميع أحوالها ونشاطها، وقد تحقق أرباحاً تفوق الخيال بمباركة الله تعالى لها؛ لكونها قائمة على أصول شرعية.
الحالة الثانية: ما هو منتشر الآن من قيام شركات على نظم قانونية بحتة، لاتحل حلالاً ولا تحرم حراماً، تتعامل بالربا، وتقترض بالربا، وتأخذ الأرباح الربوية، فتسجل تحت بند (أرباح بنكية)، أو يقال: (أرباح أخرى)، فمتى عُرف هذا عن أي شركة من الشركات فإنه يحرم المساهمة فيها أياً كانت نسبة الربا؛ لأن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [البقرة:278]، و(ما) من ألفاظ العموم. وقال صلى الله عليه وسلم: (وكل ربا موضوع تحت قدمي هاتين). و(كل) أيضاً من ألفاظ العموم، فيدخل في ذلك الربا بكل صوره وأشكاله ونسبه؛ فهو حرام بتحريم الله تعالى له وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تفريق بين نسبة وأخرى منه.
والشركات القائمة الآن منها ما هي صريحة في تعاملها بالربا، فهذه لا يجوز الدخول في أسهمها؛ لا مساهمة، ولا بيعاً، ولا شراءً، ولا تداولاً، ولا تورقاً.
ومنها شركات لا تأخذ الربا والفوائد البنكية، لكنها تعطيها؛ حيث تقترض من البنوك لحاجتها إلى المال وتدفع لهم فوائد ربوية، ولاشك أنها كالمعطي له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الآخذ والمعطي فيه سواء)، ولا أظن شركة تسلم من هذا النوع، فلو لم تكن آخذة للربا فهي معطية له.
سادساً: مفاسد مترتبة على المساهمة في شركات الأسهم:
هناك مفاسد عظيمة مترتبة على هذا النوع من أنواع الشركات، وهذه المفاسد منها ما هو متعلق بالشركات نفسها، ومنها ما هو متعلق بالمساهمين.. وهاكها فيما يلي:
1- إن تجارة الأسهم يعتريها الكذب والمخادعة والجهالة بالحال، فقد يعلن عن أسعار بعض أسهم الشركات بسعر وهي لم تصل إلى ذلك؛ لإغراء الناس بالشراء، ولا تكاد تستقر الأمور حتى يتراجع المؤشر.. وهكذا، فهناك لعبة يمارسها المتنفذون مع الهوامير في تجارة الأسهم، فإذا أرادوا بيع الأسهم رفعوا الأسعار، وإذا أرادوا الشراء خفضوا أسعارها، وجمهرة المشاركين هم المتضرر الحقيقي في هذه اللعبة القذرة وهم لا يعلمون!!
2- ومن العجيب أنه قد تخسر شركة من الشركات إلى حد الإفلاس، وإذا بها تعلن عن أسهم للمشاركين، فإذا بها ترد خسارتها؛ بل وأكثر من ذلك، حتى إن شركة مشهورة بلغت خسارتها أكثر من سبعمائة مليون ريال، وكانت الفكرة -بدلاً من إعلان الإفلاس- طرحها مساهمة، فأقبل الناس عليها لشهرتها، فغطت العجز وزاد ميزان الفائض!! وفي هذا مخادعة وكذب، وأكل لأموال الناس بالباطل.
بل إن بعض الشركات أعلنت عن تكبدها خسائر فادحة، ثم طرحت أسهماً، فتنافس الناس عليها!!
3- والأعجب من هذا كله أنك لا تكاد تسمع بمساهمة إلا وانكب الناس عليها دون دراسة لجدواها، أو معرفة لكيفية ممارستها، والكثرة الكاثرة من المساهمين يقترضون بالآجل، فيشترون الأسهم بزيادة ويبيعونها بخسارة كبيرة؛ للحصول على المال من أجل المضاربة في الأسهم، وبعضهم يبيع منزله أو سيارته ويغامر بماله، فربما ربح (وقليل ما هم)، ومثل هؤلاء يمدحون المتاجرة بالأسهم؛ لأنه لا يمدح السوق إلا من ربح فيه!
والكثرة الكاثرة إما أن يخسروا، أو يربحوا ربحاً زهيداً، فمثلاً: تجد قيمة السهم في بعض الشركات بمبلغ ألف وستمائة ريال، وعند توزيع الأرباح السنوية قد لا يحصل المساهم إلا على بضعة عشر ريالاً لمدة عام أو أكثر، فهل هذا معقول؟!!
4- ومن المفاسد: أن بعض الشركات تبدأ في بيع وشراء الأسهم وهي لم تقمْ بعدُ على وجه الواقع، فهذا بيع وشراءٌ للمال بالمال، وهو حرام بالاتفاق.
5- مما لاشك فيه أن طرح أسهم الشركات للاكتتاب من أعظم ما أشغل الناس حتى عن أداء الواجبات، فمنهم من أشغلته عن الصلاة، أو استولت على فكره فلا يدري كم صلى إمامه !
ومن الموظفين من يغلق بابه ويدخل عن طريق الإنترنت في عملية البيع والشراء، ويستغرق ذلك ساعات طويلة، وبذلك يضيع عمله، وإذا سئل عنه قالوا: عنده اجتماع في الداخل!! ونندب القارئ الكريم إلى الدخول إلى موقع (تداول) لكي يحكم عن قرب ومشاهدة، فينظر السّعار الذي يصاحب هذا النوع من المعاملة، وكذلك يطل على منتديات المستثمرين فينظر ما يدار من حديث بين المشاركين، وما يقع فيه من سورة للمغالبة والكسب.
ومن الموظفين والمعلمين من يستأذن، أو يخرج بغير إذن ليذهب إلى صالة تداول الأسهم في البنوك، تاركاً عمله مضيعاً طلابه، ولو دخلت عليهم وهم محدقون بالشاشات ولا يدرون ما حولهم؛ لعلمت كيف أشغلتهم الأسهم وتداولها حتى عن أنفسهم! وما أدى إلى إضاعة الحقوق والواجبات فهو حرام، وهذا من أهداف اليهود عليهم غضب الله!!
6- الانشغال بالأسهم يعطل كثيراً من الأعمال الإنتاجية؛ كالتجارة الحلال، والزراعة، والصناعة؛ نظراً لاستيعاب السوق لرءوس الأموال التي يمكن توظيفها في مشاريع إنتاجية تدر أرباحاً حلالاً وطيبة، وتقضي على البطالة، وتفتح بيوتاً، وتسد كثيراً من الحاجات.(3/198)
7- ومما يجب التنبيه عليه: أن اليهود مسيطرون على إدارات البنوك العالمية الكبرى، وغيرها تبع لها، ومكاتب تجمع لها المال؛ ليكون تحت سمعهم وبصرهم وتحكمهم، فلا يكاد ينتهي الاكتتاب في شركة حتى تقوم أخرى، وبهذا يضمنون سيطرتهم على المال، وأكثر الناس لا يدري عن اللعبة القذرة لليهود عليهم لعائن الله!
سابعاً: البدائل الشرعية العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية:
وبعد هذا كله لقائل أن يقول: إذاًَ فما هي البدائل الشرعية لهذه الشركات؛ حتى يتسنى لنا أن نتعامل تعاملاً إسلامياً بعيداً عن المحرمات والمشتبهات؟
فنقول:
هناك بدائل شرعية عن هذه المعاملة، ومنها:
1- إيقاف الإعلان والدعاية للمساهمات في جميع الشركات؛ حتى تصحح الأوضاع من جذورها وفق الشرع الحنيف.
2- إصدار فتوى موحدة من أهل الاختصاص في أنظمة المشاركات القائمة؛ ليعرف الناس الحلال من الحرام، ومن ثم إلغاء ما قام على الحرام.
3- المسارعة في تكوين لجان من ذوي الاختصاص الشرعي والاقتصادي لحل الإشكال القائم، ومع صدق النية فلن يستغرق الأمر زمناً طويلاً، مع الدعم من الجهات المختصة.
4- ومن المهم جداً إلغاء المحاكم القانونية تماماً، وتحويل جميع القضايا إلى المحاكم الشرعية وديوان المظالم، بعد إعادة النظر في لوائحه؛ لتتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويوحد القضاء.
5- إحياء طريقة الجمعيات التعاونية بين الموظفين، ووضع أنظمة لها، واختيار من يديرها، مع إخضاعها لرقابة شرعية ومتابعة لمنع التلاعب بأموال الناس، ويرخص لها من الجهة المسئولة عن ذلك.
6- إحياء سنة المضاربة، وتشغيل الأموال في التجارة، وإقامة المشاريع الزراعية الناجحة وحمايتها، وتشييد المصانع، وتشجيع الحرفيين على العمل والإنتاج، بدلاً من المضاربات بالأسهم؛ فكم من خسائر مادية وصحية ونفسية تتكبدها الأمة بسبب تجارة الأسهم!
7- إحياء سنة القرض الحسن، ووضع نظام له يكفل سداد الحقوق واقتضائها من المقترضين؛ منعاًً للمماطلة، عن طريق معاملة بنكية إسلامية، وإحياء سنة الرهن الإسلامي، والاستقطاع من الراتب عن طريق المصارف الإسلامية، ولها مقابل ذلك رسوم معقولة.
8- توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وخاصة أموال الزكاة، فلو أخرجت الزكاة على وجهها الصحيح لقضي على الفقر والحاجة، وفجرت الطاقات الكامنة؛ حيث يعطى من لديه خبرة أو مهنة آلات من أموال الزكاة ليتكسب بها، فيقضى على ما يسمى بالبطالة، ويوكَّل بذلك رجال مخلصون لدينهم ووطنهم وأمتهم، ولا مانع من أن يكون للزكاة وزارة مستقلة تعنى بجمع أموال الزكاة على الوجه الحقيقي، وتخرج في مصارفها المشروعة المنصوص عليها.
وبناءً على ماسبق: فإني أدعو سماحة المفتي واللجنة الدائمة للفتوى أن تسعى عاجلاً غير آجل إلى تكوين لجنة من أهل الاختصاص الشرعي والاقتصادي يعكفون على دراسة أنظمة الشركات، وطريقة المساهمات والتداول، وتصدر عنهم فتوى قاطعة تريح المجتمع من هذه البلبلة، والأمر جد خطير، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
والواجب إقامة الشركات على قواعد الشرع المنظمة لها، وإذا طرأ جديد من الأنظمة فيدرس ويجتهد فيه وفق أصول الاجتهاد والنظر، لا وفق تتبع الرخص في المذاهب؛ فإن من تتبع الرخص تزندق.
ولا أشك أن نظام الشركات القائم مخالف للشريعة في أساسه وليس في جزئيات فقط، فالأصل أن تقوم الشراكة على ما نص عليه الشرع، وما بينه أهل العلم في كتبهم، ويعمل بالاجتهاد بشرائطه فيما لا نص فيه، وعندئذ نكون قد قدمنا للأمة والشريعة الإسلامية خدمة عظيمة عملية، وليس مجرد تنظير أو أفكار بعيدة عن الواقع.
وختاماً: أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الكلمات كل من قرأها، وأرجو أن تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية، والله تعالى يعلم أنني لم أكتب هذه الأسطر إلا إعذاراً وإنذاراً، وليس بيني وبين أحد عداء أو تقصد، وإنما هو رأيي أبديه، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------
(1) يراجع المغني في طبعته الجديدة (7/108-195)
المصدر : الإسلام اليوم
==============
الغبن في الفقه الإسلامي
بقلم
للشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
و مدير مكتب جامعة سانت كلمنتس العالمية في حلب سورية
و الباحث في الدراسات الفقهية و القانونية
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
] يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون [ .
] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَتَسَاءَلونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ .
]يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله و قولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَعما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً [ .
أما بعد :
فهذا بحث في الغبن بينت فيه أقوال أهل العلم و اجتهاداتهم حيث أن الغبن في الفقه الإسلامي تتنازعه للإعتداد به كعيب مؤثر في العقود عدة اجتهادات صنفتها إلى اجتهادين :
الاجتهاد الأول : يرى أن الغبن المجرد موجب لفسخ العقد عند تحققه .
و الاجتهاد الثاني : يرى ضرورة تزواج الغبن بالتغرير حتى يؤثر في صحة العقد .
و مما تقدم بقسم - بعون الله - هذه المبحث إلى عدة فروع :
الفرع الأول : الغبن المجرد موجب لفسخ العقد .
الفرع الثاني : الغبن المقترن بالتغرير هو الموجب لفسخ العقد .
الفرع الثالث : مناقشة أقوال و أدلة الفريقين و الترجيح بينهما .
الفرع الأول
الغبن المجرد موجب لفسخ العقد
ذهب ثلة من فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أن للغبن أثره في إعطاء المتعاقد المغبون حق الخيار لفسخ العقد أو عدم فسخه ، و ذهب إلى هذا الاجتهاد ظاهر مذهب الإمام مالك1 ، و ابن حزم الظاهري2 و الحنفية 3في قول مرجوح و الحنابلة4 .
و استدل أصحاب الاجتهاد الأول بما يلي :
أ - الكتاب :
استدل أصحاب هذا الرأي على صحة اجتهادهم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ( النساء :29 ) يخاطب البيان الإلهي المؤمنين موجهاً إياهم بألا يأكلوا أموال بعضهم البعض بالباطل .
و لاشك بأن الغبن هو أحد أوجه هذا الباطل المحرم أكله على المؤمنين .
ب - السنة :
1. عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي مرفوعاً : غبن المسترسل ربا ) .5
2. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى : أن لا ضرر و لا ضرار ) .6
و لا جرم أن الغبن نوع من أنواع الضرر الذي يجب إزالته إذا وقع بكل أشكاله و درجاته .(3/199)
3. عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ، حرم الله عليه الجنة ، و أوجب له النار . قالوا : و إن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال : و إن كان قضيباً من أراك ، و إن كان قضيباً من أراك . قالها ثلاث مرات .7
وجه الاستدلال بهذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن من اقتطع حق امرئ مسلم مهما كانت قيمته و إن كان قضيباً من أراك فإن نصيبه النار ، و لا جرم أن الغبن من ضمن أحكام هذا الحديث .
5. الأثر :
1. روى ابن حزم عن ابن سيرين : أن رجلاً قدم المدينة بجواري فنزل على ابن عمر فذكر الحديث ، وفيه أنه باع جارية من ابن جعفر ، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن غبنت بسبعمائة درهم . فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر، فقال : أنه غبن بسبعمائة درهم فإما أن تعطيها إياه و إما أن ترد عليه بيعه ، فقال ابن جعفر ، بل نعطيها إياه .8
وجه دلالة هذا الأثر أن عبد الله بن جعفر و ابن عمر رأيا رد هذا البيع بسبب إشابته بالغبن المجرد الذي لم يشوبه التغرير أيضاً .
2. عن أبي بن كعب أن عمر بن الخطاب ، والعباس بن عبد المطلب تحاكما إليه في دار كانت للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد و أبى العباس ، فقال أبي ابن كعب لهما : لما أمر سليمان بناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه فلما اشتراها قال له الرجل : الذي أخذت مني أم الذي أعطيتني ؟ قال سليمان : بل الذي أخذت منك ، قال : فإني لا أجيز البيع فرده ، فزاده ، ثم سأله ؟ فأخبره فأبى أن يجيزه .9
و جه الاستدلال بهذا الأثر أن الغبن المجرد موجب لفسخ العقد على الرغم من عدم اقترافه بأي تغرير .
د- المعقول :
أن الغبن ظلم و الله قد حرم الظلم على نفسه و جعله محرماً بين عباده ، و الشريعة .
عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الله تبارك و تعالى قال : يا عبادي ! إني قد حرمت الظلم على نفسي ، و جعلته محرما بينكم فلا تظالموا .10
فالشريعة الإسلامية حاربت الظلم بكل أنواعه و أشكاله و جعلته محرماً بين العباد .
و الغبن هو إحدى الأشكال التي حاربها الإسلام ، فدعى المتعاقدين إلى عدم أكل أموال بعضهم البعض إلا عن تراض .
قال تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ( النساء : 29 ) .
الفرع الثاني
الغبن المقترن بالتغرير موجب لفسخ العقد
ذهب إلى هذا الاجتهاد رأي راجح عند الحنفية11 و الشافعية12 و المالكية في رأي راحج 13 و الحنابلة 14.
و استدل هؤلاء الفقهاء بعدم الاعتداد بالغبن إلا إذا كان مقترناً بالتغرير بالحديث النبوي الشريف و العقل السليم .
أ - الحديث النبوي الشريف :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه و سلم أنه يخدع في البيوع ، فقال : إذا تبايعتم فقل : لا خلابة .15
قال ابن حجر : كأنه أشار بهذه الترجمة - أي الإمام البخاري - إلى أن الخداع في البيع مكروه و لكنه لا يفسخ البيع إلا إذا شرط المشتري الخيار على ما تشعر به القصة المذكورة في الحديث .. و استدل بهذا الحديث لأحمد و أحمد في قولي مالك أنه يرد بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة و تعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل له الخيار لضعف عقله و لو كان يملك به الفسخ لما احتاج إلى شرط الخيار .16
و قال الشوكاني : استدل بهذه القصة على ثبوت الخيار لمن قال لا خلابة سواء غبن أم لا ، و سواء وجد غشاً أم لا ...... و الظاهر أنه لا يثبت الخيار إلا إذا وجدت خلابة .17
ب - الأثر :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : بعت من أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالوادي بمال له بخيبر فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع ، و كانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا ، قال عبد الله : فلما وجب بيعي و بيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال ، وساقني إلى المدينة بثلاث ليال .18
وجه الاستدلال بهذا الأثر أن ابن عمر قد غبن عثمان رضي الله عنه و مع ذلك لم يفسخ العقد لما يدل على أن الغبن المجرد ليس له أثر إلا إذا اقترن بالتغرير .
ج- المعقول :
1. قال ابن عابدين : إذ الرد مطلقاً ليس أرفق بالناس بل خلاف الأرفق ، لأنه يؤدي إلى كثرة المخاصمة و المنازعة في كثير من البيوع إذ لم تزل أصحاب التجارة يربحون في بيوعهم الربح الوفير ، و يجوز بيع القليل بالكثير و عكسه(19) .
2. ليس من مهمة المشرع أن يمنع التغابن المجرد عن الغش و الخديعة إنما مهمته أن يقيم المتعاقدين على قدم المساواة في الأهلية و الحرية كما أن على كل إن يحمي نفسه من الغبن و إن قصر في فتبعة المهمل أن تكون على حسابه .(20)
الفرع الثالث
مناقشة الأدلة و الترجيح
في ضوء ما تقدم نرى أن كلاً من الفريقين - يرحمهم الله تعالى - قد جاء بأدلة قوية لتدعيم اجتهاده القائلون بوجوب اقتران التغرير بالغبن حتى يكون للغبن مفعوله لفسخ العقد استدلوا فيما اجتهدوا به بالحديث و الأثر و المعقول .
بالنسبة للحديث فهو حديث صحيح رواه البخاري و مسلم - رضوان الله عليهما - و غيرهما و وجه الاستدلال بهذا الحديث ربما يدل على وجوب اقتران التغرير بالغبن لثبوت الخيار ، و لكن أيضاً يمكن أن يستدل على أن الغبن وحده كاف لثبوت خيار الغبن لأن الخلابة تعني الخديعة ومن الخديعة الغبن في السعر .
أما بالنسبة للأثر المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما فهو صحيح أيضاً بيد أنه يمكن أن يفسر بطريقة ثانية ، وهي أن ابن عمر قد ظن أنه غبن عثمان بن عفان ، و هذا الظن قد تولد بعد خروج ابن عمر من المجلس لقوله : فلما وجب بيعي رأيت أني قد غبنته " فعبد الله قد ظن بالغبن بعد خروجه من المجلس و ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين .(21)
فعبد الله بن عمر و عثمان بن عفان قد تبايعا بعد أن تساوما و تماكسا و علم كل واحد منهما أنه غير مغبون في بيعه أو شرائه ثم تولد الشك بالغبن عند ابن عمر ، بيد أن عثمان بن عفان ظل على يقينه بأنه لم يغبن ، ولو كان غير ذلك لطلب فسخ العقد ، والله سبحانه أعلم .
أما بالنسبة لما أورده ابن عابدين من حجج ، فيكم الرد عليها بما يلي :
أن قول ابن عابدين أن التجارة مبنية على الربح و الخسارة فهذا القول صحيح لا غبار عليه أبداً .(3/200)
أما قوله أن هذا الربح يمكن جنايته عن طريق التغابن فهذا لا يصح على الإطلاق . فالغبن سواء أكان يسيراً أو فاحشاً فهو سحت لا يجوز أكله ، بيد أن قيده بالغبن الفاحش ليكون له أثر في العقود لكثرة وقوع الغبن اليسير و عدم أهميته بالمقارنة مع ما يثيره من مشاكل أما القضاء المزدحم بالقضايا الأكثر أهمية و خطراً منه أي الغبن الفاحش المعتبر أمام القضاء لأهميته و خطورته على السوق و أهله ، فالربح لا يحل للتاجر المسلم ، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام . أما إذا اشتملت على محرم كالتجارة بالأعيان المحرمة مثل الخنازير و الخمور .... إلخ أو التعامل الربا أو الاحتكار أو الغش أو التدليس ، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف و نحوها فإن ترتب عليها من الربح يكون حراماً (22) فالربح الحلال لا يكون عن طريق الغبن الفاحش أو اليسير ذلك أن الربح شئ و الغبن شئ آخر و لا تلازم بينهما أبداً .
فالغبن هو ما نقص أو زاد على سعر السلعة في السوق أما الربح ، فقد يتحقق و يزيد على سعر السلعة أضعافاً من دون أن يكون هناك أي غبن كأن ياتي أحد التجار بسولع بسعر رخيص من خارج بلدته ُمن يبيعها بسعر السوق مما قد يحقق ربحاً و قدره أكثر من 100% أو ربما أكثر من 200% و دون أن تعتبر ذلك غبنا فاحشاً .
ذلك أن الإسلام لم يضع أي حد للربح بل ترك الأمر مفتوحاً حسب ظروف السوق و أحواله بشرط عدم الغش والغرر و الظلم بين المتعاقدين .
أما بالنسبة لقول ابن عابدين : ليس من مهمة المشرع أن يمنع التغابن المجرد عن الغش والخديعة ... ) .
فإن هذا القول يمكن رده بأن المشرع يمنع كل أنواع الضرر الواقع على السوق الإسلامية و أهله ، لذلك نرى الشارع الحكيم حرم الربا بكل أنزاعه و أشكاله و درجاته و ما الربا حقيقة إلا نوع من أنواع الغبن .
أما بالنسبة للرد على القول القائل بأن على الإنسان أن يحمي نفسه من الغبن و عن قصر في ذلك فتبعة المهمل يجب أن تكون على حسابه .
فهذه الحجة من السهل الرد عليها ذلك أن الشريعة الإسلامية عادلة تحمي الضعيف من القوي كما تحمي القوي من أكل أموال الناس . لذلك نراها قد حرمت تلقي الركبان ، و بيع الحاضر للبادي و ، بيع المسترسل حماية للضعيف من ظلام السوق .
أما بالنسبة عن الحجة التي تقول أن قبول الغبن المجرد يؤدي إلى كثرة المخاصمات و المنازعات .
فأقول : أن عدم قبول المنازعات قد تؤدي إلى غرس روح الفتنة والعدائية بين المتعاقدين الذين يحاولون أخذ حقوقهم بطرق غير شرعية بعيدا عن القضاء و أساليبه الوقائية و العلاجية .
هذا بالنسبة للرد على حجج أصحاب الاجتهاد القائل بعدم فعالية الغبن إلا إذا كان مقترناً بالتغرير .
أما بالنسبة لمناقشة حجج القائلين بفعالية الغبن المجرد و لو لم يكن مقترنا بالتغرير ، فالحجة التي ليست بصالحهم هي استنادهم على حديث ضعيف جداً هو : غبن المستلرسل ربا )(23) الذي قال عنه أهل العلم بأنه ضعيف جدا لا يصح الاعتماد عليه في استنباط الأحكام .
بيد أنهم استندوا أيضا فيما اجتهدوا به إلى أحاديث صحيحة كثيرة بالإضافة إلى ما رواه ابن حزم من آثار تبين فعالية الغبن المجرد و لو لم يكن مقترناً بالتغرير .
و أخيراً و مما تقدم يتبين لنا أن الراجح من الاجتهادين هو الاجتهاد القائل : بفعالية الغبن المجرد و لو لم يكن مقترنا بالتغرير . لقوة أدلته التي استند إليها ، ولأن هذا القول يحقق مصالح حسنة للسوق و أهله و للمتعاملين معهم و لما له من دور فعال في مقاومة الظلم و أشكاله .
قال تعالى :( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التغابن : 9 ) .
فقد استدل أهل العلم بهذه الآية على أنه : ( لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة ، فقال : ذلك يوم التغابن ) و هذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع ، فإنه مردود ) (24) 0 و الله أعلم .
قال الله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ( البقرة : 285 - 286)
و الحمد لله رب العالمين
===========
قراءة في "الثقافة العربية في عصر العولمة"
مبارك عامر بقنه
كتاب "الثقافة العربية في عصر العولمة " ، هو عبارة عن مجموعة مقالات ومحاضرات ألقاها تركي الحمد في مؤتمرات متنوعة، وفي قراءة سريعة لهذا الكتاب يلحظ القارئ المخالفات الشرعية البينة، والتجاوزات الفكرية الواضحة، ومحاولة الخروج عن قيم ومبادئ المجتمع المسلم. مستخدماً أسلوب التكرار الممل لكثير من العبارات والأفكار، وذلك لترسيخ الأفكار ـ المراد نشرها وتعميمها ـ في الذهن. وقد حاول الكاتب نقد الثقافة العربية بطريقة موضوعوية [1] وليست موضوعية، مما جعل الكتاب بلا هوية أو انتماء وهذا النهج الفكري القصد منه تمييع القضايا التي يتناولها للدراسة.
الكاتب ونشأة العولمة:
كثر القول في بداية تحديد بداية نشأة العولمة فبعض الباحثين يرجع ذلك إلى نهاية القرن التاسع عشر مع اكتشاف التلغراف، وبعضهم يرجعها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية مع انقسام العالم إلى معسكر شرقي وآخر غربي، ويذهب كثير من المثقفين في تحديد نشأة العلومة إلى نهاية القرن الخامس عشر، معللين ذلك ببداية ظهور الدولة القومية الحديثة، وهذا القول هو القول السائد عند الغربيين، وكثير ممن نقل وترجم عنهم أخذ بهذا القول تقليداً، ومن هؤلاء الكاتب إذ يقول:" إن العلومة ليست شيئاً جديداً جاء مع الثورة المعاصرة في الاتصالات والمعلومات، فهي بدأت منذ أن دخلت، أو أنتجت، أوروبا الحداثة في نهاية القرن الخامس عشر[2]"
ومن سبر أغوار التاريخ وقلّب صفحات الماضي يجد أنه في هذا العهد سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد الصليبيون المسلمين من قرناطة عام 1492م، وبدءوا زحفهم على العالم الإسلامي. ولهذا يصف الغربي هذا العهد بأنه بداية العلومة؛ إذ هو بداية إرسال البعثات التنصيرية للعالم الإسلامي. ومن الخطأ الفادح أن نجعل بداية هزائمنا، وتراجعنا عن الريادة، وتعميم النمط الحضاري الغربي والفكر الصليبي في بلاد المسلمين هو بداية العلومة.(3/201)
ولكن يظهر أن الكاتب لن يبالي بذلك فهو يرى أن التقدم والتحديث لا يتم إلا بالتغريب كما يقول:" الحداثة ليست مجرد غشاء مادي؛ بل هي حالة عقلية إما أن تأخذ كلها أو تترك كلها، والتحديث عملية متكاملة، وغير ذلك هو المسخ[3]" فلقد وصل الكاتب مرحلة من الانهزامية، وفقدان للهوية، واستسلام مطلق للحداثة الغربية مما يجعله عاجزاً عن المقاومة ومحاولة النهوض والتحدي، فيقول:" لن تستطيع الثقافات التقليدية العريقة أن تفعل شيئاً، أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وإمكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة.[4]"
الكاتب والثقافة:
الكاتب يسعى إلى تمييع مفهوم الثقافة، وتجريد الأمة من خصوصيتها، وإذابة شخصيتها في ثقافة واحدة غربية المفهوم، علمانية التصور، مادية التوجيه. زاعماً أن ثقافتنا من طبيعتها التعايش مع الثقافات الأخرى ولكن التشبث بها هو الذي ولّد التصادم، ولا استطيع أن أصف هذا القول إلا بالجهل والتضليل على القارئ، فإن من خصائص الثقافة الإسلامية أنها ثقافة استقلالية لا تقبل الترقيع والتمزيق، أو التمازج مع أي ثقافة أخرى مغايرة لها، فهي لها نظرتها الفريدة للكون والإنسان والحياة وتتميز بأنها ثقافة تعتمد على الوحي والإيمان بالغيب، ومحاولة إلغاء الفارق بيننا وبين الآخر هو مرفوض من كلا الثقافات، فالصراع والمواجهة لابد أن تستمر ما دامت الحياة كما يقول الله تعالى ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة: من الآية217) ولا يزالون مستمرون أبداً في مقاتلتنا حتى نكفر ونتخلى عن ديننا وعقيدتنا وثقافتنا ونكون مثلهم، عند ذلك يرضون عنا ويتعايشون معنا كما قال الله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) فهل نتخلى عن ديننا حتى نكون ذو ثقافة عالمية؟!
ثم لا أدري لماذا هذه التبعية والإعجاب لثقافة الغرب، فهم والله وإن كانوا تقدموا علينا مادياً وتقنياً وإدارياً لا يعني ذلك سلامة منهجهم الثقافي، وصحة تصوراتهم العقدية. ولكنهم وفقوا في الأخذ بالسنن الكونية في التعامل مع الحياة، وسنن الله لا تحابي أحداً ولا تتخلف عن فرد أو أمة أو جماعة من أخذ بها وعرف كيف يتعامل معها وفّق للصواب، فهي تسري على جميع الخلق. وتخلفنا اليوم نشأ عندما تركنا "فاتبع سببا" وأهملنا الأخذ بالسنن الطبيعية. فليس تخلفنا نتيجة خلل في ثقافتنا أو تصورنا للحياة والكون. وبروز الثقافة الغربية في العالم لا ينطلق من طبيعتها وذاتها وإنما يسند هذه الثقافة القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية التي يملكها الغرب في نشر ما يريد. فثقافة الغرب سادت وانتشرت بعوامل مساعدة أخرى. وهذا خلاف الثقافة الإسلامية التي انتشرت في العالم بذاتها بدون أي مؤثرات خارجية وإنما بما تحمله في طياتها من حقيقة وصدق ووضوح وتكامل وتوازن شامل لجميع أشكال الحياة.
إن النظرة السطحية للثقافة الغربية والأخذ بالظاهر شكّل لدى بعض المثقفين انهزامية ثقافية، فالتقدم الحضاري دليل عند هؤلاء المثقفين على مصداقية الثقافة، وهذا التلازم خاطئ إذ أن الأمة قد تفصل أو تبعد عن مصدر التلقي لديها فيحدث التخلف، فالخلل ليس ناتجاً عن الثقافة الإسلامية وإنما عن عدم التطبيق لهذه الثقافة. وهذا مصدر البلاء أن يكون حكمنا على الإسلام هو تطبيق الفرد له وليس على ذات المنهج وطبيعته.
ومن هذه المنطلقات جعل الكاتب العقائد والأفكار من "الثقافة"، ولم يستثن من ذلك أي أمة على وجه الأرض؛ بل يسري ذلك التعريف على جميع الملل والنحل فيقول عن الثقافة بأنها:" مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما، وتمنح المعنى للأشياء من حولها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات.[5]" ويقول أيضاً:" الثقافة بكل بساطة، هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها، فهي مجمل العقائد والقناعات المطلقة[6] التي تؤمن بها جماعة ما.[7]" ولم يقف الأمر عند هذا الحد بأن جعل العقيدة من "الثقافة"؛ بل استرسل الكاتب في مفهوم الثقافة ليجعلها من صنع ونسج الإنسان فيقول:" الثقافة، في نهاية التحليل، هي شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه، لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله.[8] " ويقول أيضاً :" تشبث الإنسان "بشبكة المعاني" التي نسجها بنفسه، يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان، ناسياً جيناتها الأولى، ومبتدأ أصلها، ويدفعه هذا التشبث بالتالي إلى الأحادية في تعامله مع ثقافته في مقابل ثقافات الآخرين، على أساس أنها هي وحدها التي تحمل "المعنى" وتحمل الغا!
ية ببساطة، على أنها هي وحدها المتضمنة لحقيقة الوجود.[9]"
وهذه المقولة من رقى إبليس والتي تصف أن الثقافة الإسلامية كالثقافات الأخرى التي تستمد ثقافتها بما أنتجه مثقوفها، وقرره فلاسفتها، فألبسوه لباس القدسية والسمو، ولا يعجب هذا الوصف من الكاتب للثقافة فهو ينطلق من مفهوم "ماكس فيبر" للثقافة، والتي هي مستوحاة من قول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم:" وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان:5) فقريش زعمت أن القرآن العظيم من نسج البشر. والتي استمد ماهيته ومبادئه وقيمه من أهل الكتاب، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم له خصوصية ، ناسياً جيناتها الأولى وهي أن أصله من أهل الكتاب، الله أكبر، كيف تشابهت قلوبهم فقال مثل ما قالوا.
ثم إن تعجب فعجب قوله:" الثقافات ليست متصادمة بطبيعتها، ولكن التشبث المطلق بها وبرموزها، وما يحمله ذلك من إضفاء السمو والقدسية عليها، هو الذي يدفعها إلى التصادم.[10]" ثم يتمادى الكاتب في غيه منادياً إلى العالمية معللاً ذلك بأن الثقافة الإنسانية مشتركة في بنودها وقيمها فهي:" إرثاً إنسانياً مشتركاً وإيماناً إنسانياً عاماً .[11]" ويقصد بهذه الثقافة العالمية الديموقراطية كما فيقول:" الديموقراطية بصفتها مثلاً يسعى إليه وليس واقعاً معاشاً في كل أنحاء المعمورة. بصفتها تلك، فإن الديموقراطية اليوم أصبحت جزءاً من الثقافة العالمية المشتركة والذي يزداد الإيمان بقيمه يوماً بعد يوم. وهذا بذاته مؤشر كبير على مدى العالمية التي اكتسبها مفهوم الديموقراطية والمثل الديموقراطية.[12]"
الكاتب والديموقراطية:
حدّث ولا حرج عن إعجاب الكاتب بالديموقراطية الليبرالية فهو يرى أنها: " هي فعلاً اليوم أفضل نظام سياسي ممكن ابتكره الإنسان في التاريخ[13]" ثم لا يقف عند هذا الحد؛ بل يجعل ذلك من المسلمات التي لا تقبل الجدل فيقول:" لا مجال للنقاش في القول إن الحضارة في الغرب المعاصر هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في تاريخه حتى هذه النقطة من الزمان، سواء تحدثنا عن المنجزات المادية البحتة، أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية[14]"
ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما قال السفهاء منا، فالدعوة إلى النظام الديموقراطي دعوة كفرية ، وردة شرعية. وقد قرر علماؤنا بكفر هذه الأنظمة، وكفر من يتبعها، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب :" من أعتقد أن هناك هدياً أفضل أو أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أو متمم له فهذا كفر"(3/202)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر[15]"
وقال الحافظ ابن كثير :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر: فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [16] "
وقال الشيخ الشنقيطي :" إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يشك في كفرهم وشرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم [17] "
ويقول الشيخ بن عثيمين:" من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاُ عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية، أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. [18] "
والنظام الديموقراطي نظام كفري لا يتحاكم إلى الله؛ بل يتحاكم إلى الشعب، فالشعب هو المشرع للقوانين وليس الله، ومعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع من خصائص الله فلا يحق لأحد أن يشارك الله في التشريع، وتنظيم شؤون الناس الفردية والاجتماعية حق لله وحده لا يحل لأحد أن يشارك الله فيه ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(يوسف: من الآية40) في كل شيء يجب أن ترجع أمورنا وقضايانا إلى شريعة الله المطهرة المنزهة من كل عيب ونقص. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ومن لوازم تطبيق النظام الديموقراطي تشكيل الأحزاب المناهضة للإسلام، ولا فرق بين الناس وإن اختلفت دياناتهم ومعتقداتهم، ولا بد أن تصاغ الأفكار الدينية والآراء السياسية وفق النظام الليبرالي، فلا تقييد على الحرية الشخصية، فيعتقد الشخص ما يشاء، يرتد عن دينه، يدعو إلى الإلحاد والإباحية ونشر الفساد كل ذلك تحت شعار " دعه يعمل ما يشاء دعه يمر" كل هذا وغيره من لوازم النظام الديمقراطي والذي يتناقض مع النظام الإسلامي.
مصدر التلقي لدى الكاتب:
يقول الكاتب :" إن جوهر الوجود يتكون من خالق ومخلوق وموضوع لا رابع لذلك. ونقصد بالمخلوق هنا الكائنات العاقلة فقط (الإنسان وفق المعلومات المتاحة) [19] ."
أولاً: لا نسلم للكاتب أن حوهر الوجود يتكون من ثلاثة لا رابع لها؛ بل الوجود خالق ومخلوق لا ثالث لهما، فكل ما سوى الله فهو مخلوق. ولم يبين الكاتب ما المقصود بالموضوع، ويحتمل أن يراد به المعاني، وهذه لا شك أنها من أفعال العباد وهي مخلوقة.
ثانياً: لم يذكر الكاتب ما هذه المصادر المتاحة التي تلقى عنها العلم بأن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الكون. ولا يمكن أن تكون هذه المصادر المتاحة القرآن والسنة لأنهما تقرران أن الكائنات العاقلة: الملائكة، والإنس، والجن. ويكفي أظهر دليل على ذلك إجماع الأمة بأنهم مكلفين، والتكليف لا يكون إلا لعاقل. وهذا أمر واضح بين، ولكنه مبهم لدى الكاتب لأن الملائكة والجن ليست من الأشياء الحسية التي يدركها بالحواس وهذا شيء لا يؤمن به الغرب.
والملاحظ على الكاتب كثرة استشهاده بالغربيين، واستدلاله بأقوالهم، بل لا تكاد تجد له استدلال على أقواله بقول من كلام السلف فهو يستنكف أن تكون هناك مرجعية ثابتة ينطلق منها الإنسان، ويستمد منها أصول التفكير إذ يقول:" إن النقد وثقافة النقد المتحدث عنها هي ذلك الأسلوب الذهني الذي يرى أن كل شيء قابل للنقد وإعادة التفكير والصياغة. إنه، بكلمات موجزة، ذلك الأسلوب المضاد للأسلوب أو العقلية "الدوغمائية[20]" المرتهنة لمرجعية معينة غير قابلة للنقد أو المراجعة أو المناقشة .[21]" ويقول أيضاً:" القول بالمرجعية لا يعني الديموقراطية المطلقة أو الثبات الدائم لمثل هذه المرجعية على مر الدهور والعصور، إذ أنها، أي المرجعية، ليست إلا متغيراً معيناً لا بد أن يتغير بتغير الظروف التي أنشأته أو على الأقل تتعدل وفق قدرة انفتاحية معينة [22]"
الثوابت والمتغيرات لدى الكاتب:
يرى الكاتب أن الأزمة التي يعاني منها العقل العربي هو التزامه بمبدأ الثبات فيقول:" إن علة العقل العربي، وما ينتجه من فكر، ومن يمثله من مثقف أو مفكر، إنما تمكن في سلفيته غير القابلة للتغيير. فالعقل العربي اليوم ليس إلا امتداداً لعقل الأمس ومواقفه من شتى الأمور، طالما أن الآلية التي يعمل بها بقيت ثابتة لا تتغير [23] ."
فهذه هي العلة لدى الكاتب وهو الالتزام بالآلية السلفية التي لا تتغير، فالثبات على المبدأ، والالتزام بالقيم هو نوع من الانهزامية التي يراها الكاتب، والمخرج لدى ـ الكاتب بزعمه ـ هو الخروج على هذه المسلمات، وكسر المبادئ والقيم التي قد تخلى عنها الناس إلا نحن، فيقول بهذيان عجيب:" المثقف العربي غالباً ما لا يعيد النظر في مسلماته الفكرية، ملقياً باللوم على كل شيء، إلا المسلمات ذاتها، وكل ذلك يأتي من باب الثبات على المبدأ، والإخلاص للمثل العليا التي تخلى عنها الجميع إلا هو بطبيعة الحال. وذلك يشكل، عند التحليل، نوعاً من آليات الدفاع عن الذات في وجه متغيرات تهدد بسلب دور الوصاية والتخويبة عنه [24]."
فكل شيء جب أن يتغير كما يقول الكاتب:" كل شيء يتغير، ولا بد أن يتغير [25] " وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل جميع الأفراد؛ فيدخل في ذلك كل القضايا الإنسانية من عقيدة وفكر وسياسة واجتماع واقتصاد … إلا إن الكاتب قد استثنى في موقع آخر من كتابه العقيدة فقال:" العلاقة بين الخالق والمخلوق فتنظيمها عقيدي عبادي ثابت، لأن مناط العقيدة والعبادة ثابت أبد الدهر لا يطرأ عليه تغير [26]." وهذا حسن من الكاتب وإن كانت هدنة على دخن فهو لم يبرز ما هو مفهوم العقيدة لديه ، وكما أنه يقر أن العقيدة والعبادة وهي العلاقة بين العبد وربه لا بد فيها الثبات إلا إنه لم يلتزم بذلك في الشريعة فهو يرى أن الشريعة لا بد أن تكون متغيرة فيقول:" إن مضمونها العلمي ـ أي الشريعة ـ لا بد وأن يكون متغيراً ومتحولاً تبعاً لتحولات الزمان والمكان [27] " ويا ليت شعري، كيف قرر الكاتب هذه القاعدة بأن الشريعة لا بد أن تتغير وتتحول؟ من أين أتى بهذه المقولة الزائفة؟ فهل في كتاب الله أو سنة رسوله أو أحد من العلماء المعتبرين من قال بذلك؟ ثم ما مدى هذا التغير والتحول؟ أم أن المسألة مطاطية ليس لها ضابط أوحد؟ ثم من هو الذي يقرر بتحول وتغير الشريعة هل هو نبي مرسل أم عالم أم مفكر أم سياسي؟ من له الحق بالتغيير والتبديل؟ ومن أين حصل على هذا الحق في تغيير الشريعة؟ وهل التغيير والتحويل يشمل النصوص الثابتة أم يلحق فقط القضايا الاجتهادية؟ فمن هو الذي يقرر المصلحة والمفسدة؟ أسئلة وإشكاليات كثيرة يتحتم على الكاتب إيجاد أجوبة لها حتى يثبت ما أدعاه.(3/203)
إن تغيير الشريعة وتحويلها هو في الحقيقة تحويل للعقيدة، فإننا نعتقد أن نصوص الشريعة من الله، وأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان ولن تضيق أو تعجز يوماً في تقديم أرقى وأسمى ما يصبو إليه الإنسان، وإننا نعتقد أنه لا يحل لأحد من البشر كائناً من كان أن يبدل شريعة الله، فيحل الربا والخمر والزنا من أجل ضرورات المجتمع وطبيعة الحياة المعاصرة، فهذا نوع من رفض وإعراض عن شرع الله، فتغيير وتبديل الشريعة هو عزل للدين عن الحياة.
وعقيدة الأمة في باب الأسماء والصفات وأفعال الرب لم تحارب من المتغربين كما حاربت الشريعة، والتي تمثل نظام متميز بقوانينه ومبادئه في جميع شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفيما يتعلق بشؤون المرأة والتعليم، وقد أرتأ أهل الزيغ والضلال بعزل النظام الإسلامي عن الحياة وعن المجتمع وجعل الدين هو علاقة بين العبد وربه، وأما الشريعة وتطبيقها فهي مسألة متغيرة متحولة ليست ثابتة تتشكل وفق حاجة الزمان والمكان فلا يمنع من تطبيق النظام الرأسمالي مثلاً لأنه هو الأنسب في هذا العصر، ونحن لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة؛ إذ أن الشريعة متحولة متغيرة فيمكن تغيرها إلى النظام الغربي. سخف من القول وزورا. إن موقف المؤمن المسلّم بأمر الله هو الاستسلام والانصياع لأمر الله كما قال الله تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" وهذا القضاء يكون في الأمر الشرعي ؛ فإن قضاء الرسول عليه الصلاة والسلام يكون في الأمر الشرعي التعبدي ، فالآية صريحة بأنه لا خيرة لنا في حكم الله وقضاءه الشرعي لا تغيراً ولا تبديلاً ولا تحويلاً لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول الكريم مطلق لا يقيده زمان أو مكان ، وتقييد ما أطلقه الله من غير دليل هو تحريف للكلم عن مواضعه، فليس لنا الخيرة فيما قضى الله ورسوله في جميع الأزمنة والأمكنة؛ حتى وإن بدأ لنا أن حكم الله ورسوله لا يتناسب مع الزمان والمكان، وهذا افتراض لا يمكن وقوعه، ولكن نذكره جدلاً ، فإن المؤمن ليس له الخيرة إلا التسليم لله ولرسوله ، وعدم تغيير النصوص وتبديلها. وما حدث للأمة من انتكاسة وتخلف هو نتيجة عن تعطيلهم نصوص الشريعة عن التطبيق والامتثال، وتأويل النصوص عن غير مراد الله ، فأحدثوا في الدين ما ليس منه ، فكثرت البدع والخرافات والانحرافات الفكرية والعملية فكان ذلك سبباً في تسلط العدو علينا. فالخلل ليس من الشريعة؛ وإنما الخلل في تطبيق الشريعة وفي فهمها وكيفية التعامل معها. وهذا ما وقع فيه الكاتب، فهو لم يدرك حقيقة الشريعة الربانية ، وتوائمها مع الطبيعة البشرية ، وخلله ينبع من انبهاره بالحضارة الغربية المادية ، وجعلها المقياس الصحيح لصحة النظم وتقدم البشرية.
الكاتب وتطفله على العلم الشرعي:
مما يحزن المرء ويمرضه هو تطفل كثير من الكتاب والمثقفين على العلم الشرعي، والتعامل مع العلم الشرعي كأي علم إنساني آخر ليس له خصوصية أو ميزة، فالكل له حق الطرح في القضايا الشرعية وانتقاد مناهج العلماء بزعم أن هذا الدين ليس حكراً على طائفة.
ولا شك أن الدين ليس مخصوصاً لطائفة معينة ولكن الفتى وتقرير المسائل العلمية هو لطائفة معينة لا يشاركهم فيها إلا من اتصف بصفاتهم، فالله عز وجل لم يجعل لكل أحد أن يتكلم في القضايا الشريعة بما شاء؛ بل جعل هناك مرجعية لمعرفة أحكام الله، وهم العلماء الربانيين الذين بذلوا مهجهم في طلب العلم وتحصيله ، فهم الذين لهم الحق في الحكم والفتيا كما قال الله تعالى:" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" فهذه الطائفة قد خصصت نفسها في التفقه في دين الله ، فجعل الله لها الحق في إنذار أقوامهم.
ومن آفات هذا العصر عدم احترام التخصص، وهذا ما سقط فيه الكاتب فقد انتقد مناهج العلماء ، وحاول رفض رأيهم من غير استدلال يستدل به فهو يمنع القياس ويجعل القياس يقيد العقل فيقول:" بقي العقل العربي الإسلامي، بصفة عامة، أسير قضية القياس، دون اعتبار لحركة الواقع [28] " فالذي يحكم على النص هي حاجة الواقع، ومتطلبات العصر وليس النص فيقول :" الانطلاق من الحادثة نفسها للحكم عليها، في إطار متغيرات وحاجات المجتمع المتجددة، وليس مجرد إخضاعها لقياس شاهد حديث على غائب قديم، أو حتى إخضاعها لنص أصلي، طالما أن التغيرات التي أحاطت بإنتاج النص، ليست هي ذاتها المحيطة بتكرار الحادثة [29] "
وهكذا يضع أصلاً جديداً للتشريع هو حاجات المجتمع، وكأن الإسلام يتصادم مع حاجات المجتمع. وفي رأي الكاتب أن النص يعالج قضية آنية حادثة لا يصح نقلها إلى مجتمع أو عصر مغاير ، فالنصوص ليست كلية ؛ بل هي لحالات فردية لا يحق لنا إصباغها بالعمومية والشمول. وقصر الأحكام الشريعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هو دعوة صريحة لتعطيل الشريعة وأنها غير صالحة لهذا الزمن إذ أن تركيبة وطبيعة المجتمع الحديث يختلف عن المجتمع الذي انتج في النص، ويمكن من هذا الباب مثلاً تحليل الربا لأن تحريم الربا جاء في عصر ساد فيه ظلم الأغنياء للفقراء، أما في هذا العصر والذي اصبح فيه التعامل المالي عن طريق المصاريف المالية فإن الفقير لا يلحقه ظلم ، وهذا ما قرره الكاتب بأن التحريم مبني على مقدمات غير صحيحة وهو التشابه بين واقعة حادثة مع واقعة سابقة ، فيقول:" إن التشابه منطقياً لا يفيد التجانس المطلق، لدرجة التوحد. بقدر ما يفيد الاختلاف بحسب درجاته. فالبنوك، وهي مؤسسات حديثة، تتعامل بالفائدة، والفائدة تبدو متشابهة مع الربا القديم. وطالما أن الربا محرم، فالفائدة ربا أذن، وبالتالي فهي محرمة ، نقطة الانطلاق إذن ليست هي الحدث ذاته أو المتغير ذاته، البنوك هنا، ولكنها العملية الذهنية نفسها، التي تحولت إلى هدف باذته، وبذلك انقلبت المعادلة. [30] " وهذا الكلام يشعرك أن الكاتب لا يفقه معنى القياس، وما ضوابط ثوابت العلة وانتفائها، ولا أظنه قرأ أقوال العلماء في هذا الباب العظيم، فقوله أنها عملية ذهنية يدل دلالة قطعية أنه لا يدرك من القياس إلا قوله التشابه بين واقعتين لاحقة وسابقة، فالضوابط التي قررها علماء الأصول من تحقيق المناط ، وتنقيحه ، وتخريجه ، وشروط ثبوت العلة، وقوادح العلة ، كل ذلك يجهله الكاتب لذلك أتى بالعجائب .
وهذه السفسطة من الكاتب هي تلاعب بالأصول الثابتة، ومحاولة لعزل الدين عن واقع الناس، وإشعارنا أن الدين يتعامل مع قضايا سابقة قد اندثرت، وأنه لا صلة بين الدين والواقع وإن تشابهت الواقعة لأن الحدث تغير، وأن النص محدود لا يمكن أن يكون لكل زمان ومكان.
وتجد مسألة التحريم عند الكاتب من أشد المسائل وأعسرها، فيقول :" التحريم لا يكون إلا بنص جامع ومانع أي بنص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. وحتى في مثل توافر مثل هذا النص فإن القراءة وفهم النص خاضعة للظروف المحيطة بمن يقرأ ،وكيف يقرأ، وأين ومتى [31] " وهذا الحد للتحريم لم يسبقه أحد من العالمين، فهنيئاً له هذا العلم! وبهذا الحد للتحريم لن يكون هناك حرام مطلقاً ، حتى وإن وجد النص الجامع المانع فإن الظروف المحيطة تغيير الحكم.(3/204)
لم أر جرأة مثل هذه الجرأة في التطاول على أحكام الشريعة ، تغيير وتبديل وتعطيل وتمييع لأحكام الله من غير ذكر لدليل يستند عليه أو ذكر لقول عالم يستأنس به ، وإنما مجرد تعالم مبني على جهل مركب وهوى أعمى وغايات خبيثة ، ولم يكتف بهذا الكذب على الشريعة في حد التحريم؛ بل يرى أن التحريم عند علمائنا ليس مبني على علم؛ بل الغلو والمصالح هي وراء التحريم وليس النص، فيقول:" المشكلة أن الغلو، والأغراض السياسية، والمصالح الشخصية في التاريخ الإسلامي، قلبت القاعدة، فتحول التحريم إلى أصل، والتعددية إلى أحادية، والشريعة إلى تفصيلات قياسية اجتهادية فردية تتعلق بكل شأن من شؤون الدنيا، منحت صفة النص المقدس، رغم أن النص المقدس قليل وعام في أضيق الحدود لقد أصبحت مقولة "الإسلام دين ودنيا" مقولة مضللة أكثر الأحيان، وأدت إلى ظهور طبقة من رجال الدين المتحكمين في كل تفاصيل الحياة [32] " وهذا اتهام لعلماء الإسلام ، وتشويه لتاريخنا، وهذا إن كان يصدق على بعض العلماء ـ وهم قلة في التاريخ الإسلامي ـ إلا أن البحث العلمي يتحتم الإنصاف في الحكم وعدم التعميم للقضايا الفردية . واحترام علماء الأمة والذين هم رم!
وز وقدوات يستضيئون بعلمهم، فهو يقول عن الشافعي العبقري واضع علم أصول الفقه :" فما قام به الشافعي هو أنه وضع قيوداً على عمل العقل، أي عقلن العقل [33] " وهو حق أن الشافعي وضعاً قيوداً ليمنع العقول الفاسدة من التلاعب بأحكام الشريعة ، فحجز السفهاء وحجر على عقولهم وقولهم من أن ينال من هذه الشريعة الغراء، فهي محفوظة باقية ثابتة ما دامت السموات والأرض، فهذه القواعد التي وضعها الشافعي وغيره كفيلة بأذن الله أن تجعل الشريعة الإسلامية نقية ناصعة صالحة لكل زمان ومكان.
ولم يكتف الكاتب بهذه الأباطيل، بل جعل مذهب الأشاعرة هو الوحيد لمعرفة الحقيقة وهو مذهب أهل السنة والجماعة. يقول:" مع الاعتراف بمنهج الإمام الشافعي في الشريعة، والأشعري في العقيدة، والغزالي في الفكر، بصفتها سبلاً شبه وحيدة للوصول إلى الحقيقة، وبصفتها الأركان الثلاثة للوسطية الإسلامية... لقد تشكلت هذه الأركان تحديداً، بالإضافة إلى روافد فرعية، ما أصبح يعرف بمذهب أهل السنة والجماعة [34]" لست أدري لمن يكتب الكاتب! أيظن أن القارئ جاهل أحمق حتى لا يعرف منهاج أهل السنة والجماعة! والزعم أن مذهب الأشعري هو المسلك الوحيد لمعرفة الحقيقة وأنه هومذهب أهل السنة والجماعة فهذا الإدعاء يرده الأشعري والغزالي كلاهما؛ فقد تبرأ الأشعري من منهجه ووضع كتابه "الإبانة" معلناً فيه رجوعه إلى ما عليه الإمام أحمد وهو مذهب أهل السنة والجماعة، والغزالي يتبرأ من علم الكلام ومسلك الفلاسفة كما في كتابه " تهافت الفلاسفة" وأن العقل محكوم بالنص ولا يستطيع لوحده أن يدرك الغيبيات.
كنت أتمنى أن يحترم الكاتب عقل القارئ وأنه ليس عقلاً ساذجاً يقبل كل فرية تقال، فالكاتب لا يتردد بأن يسطر ما شاء دون مبالاة بما يقول، ولذلك تجد كتابه خال من البرهان العقلي أو الدليل الشرعي، فيثبت وينفي حقائق علمية بدون ذكر أي برهان على صحة قوله ومن ذلك مثلاً قوله :" لظروف عملية، وسياسية تحديداً، لا علاقة لها بالمسألة المعرفية، صنف الأئمةالأربعة على أنهم ينتمون إلى منهج واحد، بغض النظر عن الدقة المنهجية [35] " وكذلك تقريره أن منهج المرجئة والمعتزلة هما كمنهج أهل السنة ولكن لأمور سياسية هي التي خرجتهما من هذا المنهج، فيقول :" المرجئة والمعتزلة مثلاً، يستمدان شريعتهما من المرجع ذاته، القرآن والسنة، وبالتالي فإنهما معرفياً يقفان على قدم المساواة، والشيء نفسه يمكن يقال عن البقة. ولكن، الأيديولوجيا، وليست الابستمولوجيا [36] ، هي التي تقف وراء سلطة مذهب دون آخر، أوتار سياسي دون آخر، وبالتالي هذه الأحادية التي يحاول البعض، قديماً وحديثاً، فرضها على الإسلام [37] "
وهكذا يلقي الكاتب الكلام على عواهنه من غير ذكر أي دليل يثبت صحة مزاعمه، فألفاظ زور يلقيها الكاتب الأكاديمي لا يبنى على أسس علمية، أوحقائق تاريخية مبنية علىالبحث والاستقراء، فليدرك القارئ أن هذه محاولات من الكاتب وأمثاله لتشويه تاريخنا، وتمييع العقيدة وأنها عامة غير منضبطة بقواعد وأصول، وأن التصنيف العقدي نتج بسبب قضايا سياسية ليس لها علاقة بالمنهج الإسلامي. كل ذلك من أجل تغريب الأمة.
رأي الكاتب في الصحوة:
يشتد الكاتب غضباً، ويتحسرألماً عندما يرى الاكتساح الأصولي ـ على حسب وصفه ـ في هذا العصر، فيقول ـ وقد ركب السيل الدّرج ـ بتبجح ووقاحة :" هل استطاع المثقفون والمفكرون العرب على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومذاهبهم، وما أنتجوه من فكر، أن يزرعوا قيما معينة تظهر في سلوك المواطن العادي (العامة) الذي هو محل كل خطاب يطرحه المثقف المنشغل بإشكاليات العصر، وقضاياه ... الجواب بصفة عامة هو لا، وإلا كيف نفسر ذلك الاكتساح الأصولي للساحة السياسية والثقافة العربية المعاصرة، والذي هو دعوة إلى قيم تقليدية بحتة بأفج صورها وسطحيتها، وأنماط سلوك لا تنتمي للفترة المعيشة، رغم مرور قرنين من محاولات التنوير والحداثة والنهضة [38]"
والسؤال هل الدعوة إلى التمسك بقيم الوحي، قيم تقليدية فجة سطحية لا تتناسب مع العصر؟ كلام في غاية الخطورة؛ إذ فيه استحقار وإزدراء واستهانة بقيم الدين، وهذا هو ديدن الكاتب دائماً الاستهجان بكل ما يتعلق بثقافتنا الإسلامية الأصيلة، ولا يرى التقدم والتنوير إلا من الغرب، فتأمل كيف يصف بتبجح بداية الغزو الفرنسي على مصر (1798ـ1801) بأنها بداية التنوير والحداثة فهذا يدل على جهل وانهزامية نفسية عميقة لدى الكاتب، فالحملة الفرنسية التي قام بها " نابليون" على مصر حملة صليبية يراد منها هدم معقل من أكبر معاقل الإسلام الفكرية والعلمية، لقد كان يهدف هذا التنوير إلى " تنحية الشريعة الإسلامية وهي أول نقاط المخطط التي بدأ بتنفيذها بالفعل [39]. وهذا التنوير هو الذي ضرب الأزهر، وجلب البغايا ونشر الفاحشة.
ختاماً: فهذه مقتطفات خاطفة لبعض ما كتبه الكاتب، وقد حاولت أن تكون هذه الكتابة مختصرة، فلم أذكر كل ما رصده القلم، وذلك خشية الملالة، فاقتصرت على البعض، والبعض يدل على الكل. وخطر الكاتب واضح بيّن لذلك لم أذكر الأدلة الشرعية والعقلية على ما ضل به قلم الكاتب؛ إذ أن الهدف هو تحذير الأمة من هذا الكتاب لما فيه من مخالفات عقدية، وتجاوزات شرعية. ولولا أنه يباع في أسواقنا لما كتبت عنه . فالكتاب ليس له هوية، أو طرح علمي رصين، يستحق المناقشة العلمية الجادة، لذلك اكتفيت بالعرض لهذه المفاهيم الخاطئة.
وكتبه: مبارك عامر بقنه
--------------------------------
[1] يتصف الكاتب باستخدام مصطلحات كثيرة تتسم بالغموض والإبهام والرمزية، فكثير من الأحيان لا يعرف أحد معنى هذه المصطلحات أحد إلا هو وشيطانه، ويقصد بالموضوعوية هنا أنها نزعة علموية تقف موقفاً نهلستياً (عدمياً) وليس حيادياً تجاه القضايا التي تثيرها حياة الإنسان. بخلاف الموضوعية والتي تقف موقف الحياد لكنها لا تقف موقف العدمية. ولا شك أنه لا يمكن أن يكون الإنسان في لحظة من لحظات حياته في خالة عدمية تجاه القضايا الإنسانية، فهذه افترضات ذهنية لا توجد في الخارج.
[2] ص (11) [3] ص (45) [4] ص(118) [5] ص(63)،(42)
[6] كثيراً ما يذكر الكاتب المطلق مع أنه يرفض المطلق.
[7] ص (90) [8] ص (17) [9] ص(17) [10] ص(17)(3/205)
[11] ص(178) [12] ص (179) [13] ص(46) [14] ص (80)
[15] مجموع الفتاوى (28/217) [16] البداية والنهاية (3/128) [17] أضواء البيان (4/91ـ92)
[18] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة بن عثيمين (2/140) [19] ص (201)
[20] الدوغمائية: مصطلح نصراني كاثولكي مشتق من كلمة (دوجما) ومعناها: المبدأ ذو الصحة المطلقة، ويرتبط هذا المصطلح بالإلهام الذي تزعمه الكنيسة لنفسها، ويدخل في نطاقه الإدعاء المثير للسخرية وفحواه أن بابا الفاتيكان معصوم، وذلك بموجب دوجما صدرت عام (1870م)، وأصبحت الدوجماتية وصفاً يطلق على الحركات الشمولية كالشيوعية والفاشية. وفي نطاق ببغاوية اللادينيين العرب أصبحوا يفترون على الإسلام بإلصاق الدوجماتية به ظلماً وعدواناً، مع أنهم هم الأجدر به، لأن الاقتناع بالإسلام أمر اختياري يلي التفكير والتدبر. (المغني الوجيز) للأسعد. نقلاً من كتاب (تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة) للخراشي.
[21] ص (189) [22] ص (189) [23] ص (138) [24] ص (139)
[25] ص (139) [26] ص (202) [27] ص (203) [28] ص (36)
[29] ص (123) [30] ص (118) [31] ص (112) [32] ص (125)
[33] ص (123) [34] ص (112) [35] ص (112)
[36] ابستمولوجية: من اليونانية، تعني نظرية المعرفة العلمية، استخدم مع بداية القرن العشرين كمصطلح دال على فلسفة العلم، ثم اتسع مدلوله ليعني الدراسة الفكرية المحضة لطبيعة العلم، ولذلك فإنه يعني تناول الموضوعات على المستوى المعرفي.
[37] ص (125) [38] ص (122) [39] انظر واقعنا المعاصر(201)
==============
البطاقات الائتمانية تعريفها وأخذ الرسوم على إصدارها والسحب النقدي بها
صالح بن محمد الفوزان
الطالب بمرحلة الدكتوراه
المبحث الأول
تعريف البطاقات الائتمانية، والفرق بينها وبين بطاقات السحب الفوري
المطلب الأول : تعريف البطاقات الائتمانية (Credit Cards)
المسألة الأولى : التعريف الإفرادي :
أولاً : تعريف البطاقات (Cards)
البطاقات جمع بِطاقة ككِتابة ، وهي كلمة عربية فصيحة ، فقد جاءت في كلام أفصح الخلق _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث البطاقة المشهور ، وفيه : "فتُخْرج له بِطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله"(1) .
قال ابن منظور : "البِطاقةُ: الوَرَقةُ؛ عن ابن الأَعرابي ، وقال غيره: البِطاقة رُقْعة صغيرة يُثْبَتُ فيها مِقْدار ما تجعل فيه، إِن كان عيناً فوزْنُه أَو عدده، وإِن كان متاعاً فقيمته...، وهي كلمة مبتذلة بمصر وما والاها، يَدْعُونَ الرقعة التي تكون في الثوب وفيها رقْمُ ثَمنِه بطاقة؛ هكذا خصّص في التهذيب، وعمَّ (صاحب) المحكم ولم يُخصِّص به مصر وما والاها ولا غيرها، فقال: البِطاقة: الرقعة الصغيرة تكون في الثوب ... قال ابن سيده: والبطاقة الرقعة الصغيرة تكون في الثوب، وفيها رقم ثمنه بلغة مصر؛ حكى هذه شمر، وقال: لأَنها تُشَدُّ بطاقةٍ من هُدْب الثوب، قال: وهذا الاشتقاق خطأٌ؛ لأَن الباء على قوله باء الجر فتكون زائدة ، قال: والصحيح ما تقدم من قول ابن الأَعرابي ، وهي كلمة كثيرة الاستعمال بمصر، حماها الله _تعالى_"(2) .
ومما تقدم يتضح أن معنى البطاقة في اللغة الورقة ، وهذا أصل البطاقات ثم إنها تطورت وصارت تُصنع من المعدن ، بحيث يُحفر عليها الرقم والاسم ، ثم صنعت من اللدائن (البلاستيك) ، وقد عرَّف الدكتور محمد العصيمي البطاقات المصرفية من الناحية الاصطلاحية الفنية، فقال : "قطعة لدائنية مستطيلة (5.5سمx8.5سم تقريباً) مكتوب عليها بحروف نافرة اسم حاملها، وتاريخ إصدارها (غالباً)، وتاريخ انتهاء صلاحيتها ورقمها المتسلسل ، ومكتوب بحروف غير نافرة صورة حاملها وتوقيعه (غالباً) واسم مصدرها وشعاره (ومن شاركه إن وجد) ، ومطبوع عليها طباعة شفافة شعار المنظمة التابعة لها وشعار الشبكة الحاسوبية ، ويوجد خلف أغلب أنواعها شريط ممغنط (وفي بعضها رقاقة حاسوبية) تُسجَّل عليه بعض المعلومات المهمة ـ حسب عمل الشركة المصدرة ونوعية البطاقة ـ كرقم البطاقة ورقم الإثبات الشخصي لحاملها وشفرة البنك والمنظمة المصدرين ، ويوجد كذلك خلف البطاقة رقم هاتف المُصدِر (المجاني غالباً) وعنوانه ومكان لتوقيع حاملها والشبكات التي تخدمها"(3) .
ثانياً : تعريف الائتمان (Credit)
لم يورد الفقهاء المتقدمون ـ في حدود إطلاعي ـ لفظ (ائتمان) بالمعنى المعاصر الدقيق الذي توصف به البطاقات(4) ، وإنما وفد كترجمة للمصطلح الإنجليزي (Credit) ، وقد اختلف الباحثون في صحة هذه الترجمة من خلال اختلافهم في معنى الائتمان .
وبينما اعترض بعضهم على ترجمة الكلمة بلفظ الائتمان ، إذ يرى أن الأدق أن يُقال: بطاقات الإقراض(5) ، فإن بعضهم الآخر ينازع في ذلك ، ويرى أن القرض نتيجة تابعة للائتمان ، إذ معنى الائتمان مأخوذ من الثقة التي يمنحها المصرف لعميله ؛ ولذا فقد نقل بعض الباحثين تعريف الائتمان بأنه "التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معيَّن نظراً للثقة التي يشعر بها نحوه"(6).
فالائتمان أقرب إلى الدَّين منه إلى القرض ، ومما يؤيد ذلك وجود فروق كثيرة بين الائتمان والقرض ، منها ما يلي :
1ـ أن المقترض يُعْطى المال مباشرة ، وفي الائتمان يُعطى الشخص القدرة على قضاء حوائجه دون دفع الثمن ثقةً فيه على أن يسدد في وقت لاحق .
2ـ أن مبلغ القرض يثبت في ذمة المقترض كاملاً حين قبضه ، أما في الائتمان فإنه لا يثبت من المبلغ في ذمة من مُنح الائتمان إلا ما تم صرفه فعلاً .
3ـ يقابل القرض في الإنجليزية (Loan) ، ويقابل الائتمان (Credit)(7) .
المسألة الثانية : التعريف المركَّب
تعددت تعريفات البطاقات الائتمانية في المراجع الأجنبية والعربية الاقتصادية والفقهية ، ويطول المقام لو أردت عرض هذه التعريفات ، إلا أنني أشير إلى أهمها فيما يلي :
1ـ عرفها مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السابعة بأنها: " مستند يعطيه مصدره (البنك المُصْدِر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناءً على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع ، ويكون الدفع من حساب المصدر ، ثم يعود على حاملها في مواعيد دروية ، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد مدة محددة من تاريخ المطالبة ، وبعضها لا يفرض فوائد"(8) .
ونلحظ أن هذا التعريف اشتمل على أطراف العقد الرئيسة ، كما صوَّر كيفية تسديد مستحقات المُصدر ، لكنه لم يشر إلى حصول حاملها على بعض الخدمات دون مقابل .
2ـ عرَّفها الدكتور محمد العصيمي بأنها:"أداة دولية للدفع الائتماني المدار ، ذات نطاق عام ، ناتجة عن عقد ثلاثي ، تصدر من بنك تجاري ، تمكِّن حاملها من إجراء عقود خاصة والحصول على خدمات خاصة"(9).
ورغم ما في هذا التعريف من إجمال في طبيعة العقود والخدمات الناشئة عن البطاقة ، إلا أنه أشار إلى جانب مهم في البطاقات الائتمانية، وهو: الائتمان المُدار (Revolving Credit) ، والمراد به : اكتفاء البنك (المقرض) بسداد نسبة مئوية زهيدة من إجمالي الرصيد الدائن على حامل البطاقة (المقترض) مع تقسيط المبلغ المتبقي وفرض نسبة ربوية مركبة عليه(10) .
وهذا يسري على بطاقات الائتمان المفتوح فقط ، إلا أنها أشهر الأنواع وأكثرها رواجاً .(3/206)
3ـ عرفها عبد الرحمن الحجي بأنها: "أداة دفع وسحب نقدي ، يصدرها بنك تجاري أو مؤسسة مالية ، تمكِّن حاملها من الشراء بالأجل على ذمة مصدرها ، ومن الحصول على النقد اقتراضاً من مصدرها أو من غيره بضمانه ، وتمكنه من الحصول على خدمات خاصة"(11) .
ويظهر لي أن هذا التعريف من أفضل التعريفات ، فهو ـ مع إيجازه ـ أوضح صفة البطاقة (أداة دفع وسحب نقدي) ، ومصدرها(بنك تجاري أو مؤسسة مالية) ، ووظائفها الأساسية (الشراء والحصول على النقد اقتراضاً) ووظائفها التابعة (خدمات خاصة) .
وللبطاقات الائتمانية نوعان رئيسان :
1ـ بطاقات الائتمان المحدود : وتتميز بأن سداد الدَّين يكون دفعة واحدة عند حلول أجله، ومن أمثلتها البطاقات الائتمانية للبنوك الإسلامية وبطاقات الخصم (Debit Cards)(12).
وتتميز هذه البطاقات بأنها لا تشتمل على تقسيط الدَّين ، كما أنها يمكن أن تتوافق مع الشريعة الإسلامية خاصة إذا صدرت عن بنوك إسلامية مرتبطة بقرارات الهيئات الشرعية .
2ـ بطاقات الائتمان المفتوح : وفيها يكون حامل البطاقة بالخيار عند حلول الدَّين ، فإما أن يسدد دفعة واحدة ، وإما أن يسدد وفق الائتمان المُدار .
وتتميز عن النوع الأول بكون الائتمان فيها مفتوحاً، وتتميز عن بطاقات الحساب الجاري بوجود الائتمان فيها ، كما أنها أشهر أنواع البطاقات الائتمانية وأكثرها شيوعاً ، وإليها ينصرف الاسم عند الإطلاق ، ويغلب عليها أن تكون مرتبطة بمنظمة فيزا أو ماستر كارد(13) .
وللبطاقة الائتمانية عدة أطراف لا تزيد عن خمسة على النحو التالي:
1ـ المنظمة العالمية: وهي التي تملك العلامة التجارية للبطاقة، وتقوم بالإشراف على إصدار البطاقات وفق اتفاقيات خاصة مع البنوك المُصدرة ، ومن أشهرها:منظمة فيزا (VISA) ، ومنظمة ماستر كارد (MASTER CARD) ، ومنظمة أمريكان إكسبرس (AMERICAN EXPRESS) .
2ـ مُصْدِر البطاقة : وهو البنك أو المؤسسة التي تصدر البطاقة بناءً على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية بصفته عضواً فيها ، ويقوم بالسداد وكالةً عن حامل البطاقة للتاجر .
3ـ حامل البطاقة : وهو عميل البنك الذي صدرت البطاقة باسمه أو خُوِّل باستخدامها ، ويلتزم لمصدرها بالوفاء بكل ما ينشأ عن استعماله لها .
4ـ قابل البطاقة : وهو التاجر الذي يتعاقد مع مصدر البطاقة على تقديم السلع والخدمات التي يطلبها حامل البطاقة .
5ـ البنوك الأخرى ، وذلك كبنك التاجر الذي يتسلم مستندات البيع من التاجر ، ويقوم بمتابعة تسديد البنوك الأعضاء للديون المترتبة على استخدام البطاقة مقابل رسوم يأخذها من التاجر(14) ، وهذه الأطراف قد تنقص بحسب تعامل البنك المصدر وحامل البطاقة والتاجر .
المطلب الثاني : الفرق بين البطاقات الائتمانية وبطاقات الحساب الجاري
المراد بالحساب الجاري (Current Account) : المال المودَع لدى البنك بحيث يتصرف فيه مع ضمانه ، ويحق لصاحبه سحبه في أي وقت شاء(15) .
ويمكن تعريف بطاقات الحساب الجاري بأنها : " أداة دفع وسحب نقدي ، يصدرها بنك تجاري ، تمكِّن حاملها من الشراء بماله الموجود لدى البنك ، ومن الحصول على النقد من أي مكان مع خصم المبلغ من حسابه فوراً ، وتمكنه من الحصول على خدمات خاصة"(16) .
وتسمى هذه البطاقات : بطاقات أجهزة الصراف الآلي (A.T.M.)(17) ، ولها نوعان :
1ـ بطاقات الصراف الآلي الداخلية ، وهي البطاقات التي تؤدي وظائفها داخل دولة واحدة ، ومن أمثلتها بطاقة صراف الراجحي، ومع تطور الاتصالات أمكن استعمالها في جهاز أي بنك من خلال شبكة تنظم العلاقة بين البنوك والعملاء كالشبكة السعودية داخل المملكة.
2ـ بطاقات الصراف الآلي الدولية ، وهي التي تتبع منطقة دولية ترعى هذه البطاقات ، بحيث يستطيع حاملها استخدامها في جميع أنحاء العالم ، ومن أمثلتها بطاقة (فيزا إلكترون) التابعة لفيزا، وبطاقة (مايسترو) التابعة لماستر كارد ، ويتم التعامل بها من خلال شبكة دولية توفرها المنظمة الراعية للبطاقة .
وتتميز هذه البطاقات بإمكانية استعمالها في أجهزة الصراف الآلي ونقاط البيع في المحلات التجارية (P.O.S.)(18) ، كما أنها ترتبط مباشرة بالحساب الجاري سحباً وشراءً؛ ولذا لا تُصدرها إلا البنوك غالباً،وتعتمد على قدرة أجهزة الاتصال الإلكتروني، ولا يمكن أن تعمل بطريقة يدوية(19).
ومن العرض السابق للبطاقات الائتمانية وبطاقات الحساب الجاري يمكن أن نلخِّص أبرز الفروق بينهما فيما يلي :
1ـ أن بطاقات الحساب الجاري مرتبطة برصيد حاملها في البنك المُصْدِر لها ، فلا يمكن لحاملها أن يسحب أو يشتري بأكثر من رصيده المودَع في البنك المصدر ، أما البطاقات الائتمانية فإنها لا ترتبط برصيد حاملها ، بل قد لا يكون له رصيد في البنك المصدر ، وإنما تعتمد على ثقة المصدر بالملاءة المالية لحامل البطاقة وقدرته على السداد عند استحقاق الدفع .
2ـ أن البنك المصدر لبطاقة الحساب الجاري يُعد موفياً للقرض في حال السحب النقدي بها ، والعميل (المقرض) إنما يقوم باستيفاء دينه أو بعضه ، أما في البطاقة الائتمانية فإن البنك المصدر يُعد مقرضاً عند استعمال حامل البطاقة لها،ويكون مديناً للبنك بمقدار استعماله للبطاقة.
3ـ عند السحب النقدي بالبطاقات الائتمانية تُحسب نسبة مئوية من المبلغ المسحوب ، أما السحب النقدي ببطاقات الحساب الجاري فهو مجاني أو يُحتسب رسوم مالية مقطوعة غالباً.
4ـ أن بطاقات الحساب الجاري تعد من بطاقات السداد الفوري ، أما البطاقات الائتمانية فهي بطاقات تقسيط تعتمد على تدوير الائتمان في غالبها .
5ـ أن بطاقات الحساب الجاري تعد من البطاقات المجانية بالنسبة للبائع ، أما البطاقات الائتمانية فيتكبد البائع فيها دفع رسم أو نسبة مئوية من قيمة الفاتورة .
6ـ أن البطاقات الائتمانية بطاقات ذات ربحية مباشرة ، إذ صدرت لأجل الربح المباشر بسبب كثرة الرسوم المفروضة عليها ، أما بطاقات الحساب الجاري فهي ذات ربحية غير مباشرة ، فالربح ليس هدفاً لإصدارها في الأصل ، لكن الخدمات التي تقدمها أصبحت تدر ربحاً على المصدر .
7ـ الغالب أن بطاقات الحساب الجاري لا يصدرها إلا البنوك لارتباطها برصيد حاملها لدى البنك المصدر ، أما البطاقات الائتمانية فقد تصدرها البنوك أو المنظمات الدولية والمؤسسات المالية؛ لأنها لا ترتبط برصيد حاملها لدى المصدر .
8ـ يعتمد استعمال بطاقات الحساب الجاري على تطور الاتصالات الإلكترونية ، ولا يمكن أن تُستعمل بشكل يدوي ، أما البطاقات الائتمانية فقد تستعمل بشكل يدوي خاصة في الدول غير المتقدمة(20) .
المبحث الثاني
أخذ الرسوم على إصدار البطاقات الائتمانية
لم تكن جهات إصدار البطاقات الائتمانية تفرض رسوماً على حامل البطاقة في مقابل الإصدار ، إلا أنها اضطرت إلى ذلك بسبب قلة الأرباح ، وسعت لترويج هذه البطاقات إلى ربط إصدارها ببعض الخدمات كالتأمين ، وكثيراً ما خفَّضت هذه الرسوم بسبب التنافس ، بل إن بعضها يصدر البطاقة بدون رسوم لترويجها لما تدره من أرباح بسبب فوائد الديون(21) .
والخدمات المرتبطة بالبطاقة منها ما هو أساسي وهو الضمان الذي يؤول إلى القرض ، ومنها ما هو تابع كالأمن على النفس بسبب عدم حمل النقد وإمكانية إجراء كثير من العمليات المصرفية دون الذهاب إلى البنك وإمكانية الشراء بواسطة البطاقة عبر أجهزة نقاط البيع(22) .(3/207)
وقبل الخوض في حكم هذه الرسوم أشير بإيجاز إلى التكييف الفقهي للعلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها ، وأشهر الأقوال في ذلك ما يلي :
1ـ أن العلاقة بينهما ضمان ، فالمصدر ضامن للحامل ، فإن كان ذلك قبل استخدامها فهو من ضمان ما لم يجب ، وهو جائز شرعاً عند جمهور الفقهاء(23) ، وهذا التكييف رجَّحه بعض الباحثين في المجمع الفقهي(24) .
ونوقش بأن هذا التكييف لا يشمل عملية السحب النقدي من مصدر البطاقة ، فهذه العملية ليس فيها ضمان ، فلا يشملها هذا التكييف(25) .
كما نوقش بأن الضمان يعني ضم ذمة إلى ذمة أخرى في المطالبة ، بحيث يستطيع الدائن مطالبة الضامن أو المضمون عنه ، لكن التاجر لا يملك مطالبة حامل البطاقة(26) .
وقد أجيب ذلك بما يلي :
أـ أن بعض الفقهاء أجاز في الضمان اشتراط براءة ذمة المضمون عنه ، وهو مذهب الحنفية والمالكية .
قال العيني في البناية : " والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل ، وإن شاء طالب كفيله ... إلاَّ إذا شُرط في عقد الكفالة براءة الأصل"(27) .
ب ـ أن جمعاً من الفقهاء يرون أن الدَّين ينتقل إلى ذمة الضامن ، وليس للدائن أن يطالب الأصيل(28) .
ج ـ أن ذمة حامل البطاقة لا تزال مشغولة ، وعدم مطالبته ليس لبراءتها ؛ بل لأن البنوك ملتزمة بالوفاء ، ولا يوجد حالات عجزت فيها عن الوفاء حتى يطالب الحامل .
د ـ أن أهل الخبرة والاختصاص في أمور البطاقات لا ينفون حق التاجر في مطالبة حامل البطاقة ، ولا يعول في ذلك على نصوص العقود(29).
2ـ أن العلاقة بينهما حوالة ، أي: أن الحامل يحيل التاجر على المصدر ، وهذا تكييف بعض أعضاء المجمع(30) ، وقال بعضهم : ضمان قبل استخدامها حوالة بعده(31) .
ويمكن أن يُناقش بأن الحوالة لا تكون إلا بدين ثابت ، وقبل استخدام البطاقة لم يثبت دين في ذمة حاملها ، وأما بعد الاستخدام فالقابل لها لا يطالب حاملها ليس لأنه أحاله على المصدر، وإنما لالتزام المصدر بسداد ديون الحامل للقابل ثقةً بملاءتة المالية ، وهذا معنى الائتمان .
وقد أضاف بعضهم الوكالة إلى الضمان أو الحوالة ، لكن ذلك مناقش بأن حامل البطاقة لا يملك الدفع للتاجر ، والوكالة لا تكون إلا في تصرف مملوك للموكِّل(32) .
3ـ أن العلاقة بينهما علاقة بين مقرض (مصدر البطاقة) ومقترض (حامل البطاقة)(33) .
ويمكن أن يُناقش بأن حامل البطاقة قد لا يستخدمها ، ولا بد في القرض من دفع مال ورد بدله ، ثم إن بين الائتمان والقرض فروقاً كثيرة _كما سبق_ .
4ـ أن العلاقة بينهما تتركب من عقدين : عقد الضمان وعقد القرض، فهي عقد ضمان يؤول إلى القرض في عمليات الشراء والاقتراض من غير مصدر البطاقة ، وعقد وعد بالقرض يؤول إلى القرض في عملية السحب النقدي من مصدر البطاقة(34) ، وهذا هو الأظهر .
وإذا كان الضمان جانباً رئيساً في هذه العلاقة، فإن مما يجدر ذكره أن الفقهاء مجمعون على تحريم أخذ الأجرة على الضمان(35) ؛ وذلك لأن الضامن له حالتان :
1ـ أن يدفع الدَّين نيابة عن المضمون عنه ثم يرجع إليه ، فيكون الأجر المشترط من المنفعة المشروطة في القرض ، وهذا محرم .
2ـ ألا يدفع الدين ، فيكون اشتراطه للعوض من أكل أموال الناس بالباطل(36) .
وقد اختلف المعاصرون في حكم أخذ الرسوم على إصدار البطاقة على أقوال :
القول الأول : أنه يحرم أخذ الرسوم، وهذا رأي بعض أعضاء مجمع الفقه كالدكتور محمد القري، وبعض المناقشين حول هذا الموضوع(37) .
أدلة هذا القول :
1ـ أن العلاقة بين المصدر وحامل البطاقة ضمان ، وأخذ هذه الرسوم من أخذ الأجر على الضمان ، وهو محرم _كما سبق_(38).
ونوقش بأنه لا يظهر أن هناك علاقة بين الرسوم والضمان ، ((إذ لا فرق في فرضها ومقدارها بين ما إذا استخدمها حاملها بمبالغ كثيرة أو قليلة أو لم يستخدمها بتاتاً))(39) .
2ـ أن الائتمان الذي يقدمه المصدر شبيه بالقرض ، فما يأخذه من رسوم فيه شبهة الربا باعتباره من المنفعة المشروطة في القرض(40) .
ونوقش بأنه لا علاقة بين القرض وبين هذه الرسوم ، إذ تُفرض ولو لم تستخدم البطاقة، وهي رسوم مقطوعة لا تتغير بتغير دين حامل البطاقة ، ثم إن الرسوم تكون عند الإصدار، أي قبل وجود القرض الذي لا يحصل إلا باستخدام المشترك للبطاقة(41) .
3ـ أن بعض البطاقات كالبطاقة الذهبية تقدِّم خدمات محرمة كالتأمين على الحياة ، وهذا مأخوذ في الاعتبار عند تقدير هذه الرسوم ، فيحرم أخذها لذلك(42) .
ونوقش ذلك بأنه يحرم الزيادة في الرسوم من أجل المنافع المحرمة، ولا يعني ذلك تحريم كل رسم في أي بطاقة ؛ لأن هذه الخدمات المحرمة لا تقدمها جميع المؤسسات المالية .
4 ـ أن هذه الرسوم في مقابل عدد مرات استفادة حامل البطاقة من التسهيلات المالية التي تمنحها البطاقة ، وهذه المرات غير معلومة العدد ، فالعقد لا يخلو من غرر وجهالة(43) .
ويمكن أن يُناقش ذلك بأن الرسوم في مقابل تكاليف الإصدار ، ولا علاقة لها بعدد مرات الاستخدام ، حتى إن حاملها يدفع الرسوم ولو لم يستخدمها إطلاقاً .
القول الثاني : جواز أخذ هذه الرسوم، وهذا رأي أكثر الباحثين الذين تصدوا لدراسة أحكام هذه البطاقات ، وهو ما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات الشرعية ، كمجمع الفقه الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي(44) ، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين(45) ، والهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية(46) ، وهيئة الفتوى والرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي(47) ، وندوة البركة الفقهية الثانية العشرة(48) ، واختاره كثير من الباحثين كالدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، والدكتور عبد الستار أبو غدة، والدكتور رفيق المصري، والدكتور نزيه حماد، والشيخ عبد الله بن منيع(49) .
ومن أدلة هذا القول :
1ـ أن هذه الرسوم في مقابل تقديم الخدمات المصرفية من شراء السلع والخدمات وعملية السحب النقدي من فروع بعض البنوك أو الأجهزة التابعة لها، وهي أجرة مقطوعة لا علاقة لها بمقدار دين حامل البطاقة ، فهي أجرة في مقابل عمل(50) .
وقد يُقال: إن من أهم الخدمات المصرفية الائتمان القائم على الضمان ، فقد يكون فيها شبهة أخذ الأجرة على الضمان .
2ـ أن إصدار هذه البطاقات تكلف البنك أعمالاً إدارية كثيرة كتجهيز البطاقة وإرسال الإشعار وإجراءات فتح الملف وتعريف الجهات التي قد يحتاج للتعامل معها وما يترتب على ذلك من أعمال مكتبية وموظفين واستئجار مواقع للأجهزة وإجراء اتصالات هاتفية وتكاليف الاشتراك في المنظمات ، فهذه الرسوم في مقابل هذه التكاليف(51) .
ويمكن أن يُناقش بأن مجموع الرسوم قد يزيد كثيراً على هذه التكاليف خاصة مع كثرة البطاقات المصدرة ؛ لذا فلا بد من التأكيد على أن تكون الرسوم في مقابل التكلفة الفعلية خروجاً من شبهة الأجر على الضمان والمنفعة المشروطة في القرض فيما زاد عن التكلفة .
3ـ على تكييف العلاقة بين المصدر والحامل بأنها قرض ، فهذه الرسوم تعد من أجور خدمات القروض ، وقد أجاز مجمع الفقه في دروته الثالثة هذه الأجور بشرط أن تكون في حدود النفقات الفعلية ، وأشار بعض الفقهاء إلى ما يشبه هذه الصورة(52) .
وقد سبق ما في تكييف العلاقة على أنها قرض .
القول الثالث : التفصيل ، وذلك أن الرسوم على أقسام :
أـ التكاليف والنفقات الفعلية ، وهذه جائزة إذا لم تكن تكاليف أمور محرمة كالتأمين وتم تقديرها بدقة وعدل .
ب ـ رسوم الضمان ، وهذه لا يجوز أخذها لما مضى .(3/208)
ج ـ أجور الخدمات المقدمة لحامل البطاقة ، وهذه في الواقع تابعة للضمان ؛ لذا لا يجوز أخذها ؛ للقاعدة الفقهية (التابع تابع)، وحكم رسوم الخدمات تابعة لحكم رسوم الضمان ، ولما جاء في القاعدة الأخرى (إذا اجتمع الحلال والحرام غُلِّب جانب الحرام)(53) .
ويظهر لي رجحان هذا القول لقوة أدلته ، ولما فيه من التوسط بين تضييق القول الأول وإطلاق القول الثاني ، وفيه جمع بين الأدلة ، وتحاشٍ لما ذكره أصحاب القول الأول من موانع لأخذ هذه الرسوم، مع أن هذا القول في الواقع هو مراد كثير من أصحاب القول الثاني، حيث قيَّد بعضهم الجواز بأن تكون الرسوم أجراً مقطوعاً في حدود التكلفة الفعلية كما في قرار مجمع الفقه ، إلا أن هذا القول تميز بالتفصيل وبيان حالات الرسوم المأخوذة .
وعلى الرغم من ذلك فإذا أمكن إصدار هذه البطاقات دون رسوم فهو أحوط وأبعد عن الشبهة ، بحيث يغطي البنك تكاليف الإصدار من الرسوم الأخرى الجائزة شرعاً .
وعلى المصارف الإسلامية التي تتقاضى رسوم الإصدار إجراء دراسات فنية دقيقة لتقدير التكاليف الفعلية لإصدار هذه البطاقات ، بحيث لا يزيد الرسم عن هذه التكاليف ، أما مع عدم ربط هذه الرسوم بالتكاليف الفعلية فهي محل شبهة ، إذ قد تكون أكثر من التكاليف بكثير خاصة مع كثرة البطاقات المُصْدَرة وارتفاع هذه الرسوم، حيث يصل بعضها إلى ما يقرب من ألف ريال سعودي(54) .
وقد ذكر بعض الباحثين أن معظم البنوك والمؤسسات المالية المصدرة لهذه البطاقات في أمريكا لا تتقاضى أي رسم مقابل إصدارها(55) ، ولعل ذلك مرده إلى اكتفاء هذه المؤسسات بالفوائد الكبيرة التي تدرها هذه البطاقات خاصة مع مبدأ تدوير الائتمان .
ومما ينوَّه إليه أن بعض المصارف الإسلامية قد تخفِّض من رسوم الإصدار بالنسبة لبعض العملاء حسب أرصدتهم فيها ، وهذا فيه محذور ؛ لأن الرسوم لم يُنظر فيها إلى التكلفة الفعلية ، وإنما نُظر إلى الملاءة المالية ، وهذا له علاقة بالضمان ، فكأن البنك يخفض من الرسم لثقته بالعميل ، أي أن البنك لن يواجه مشكلة معه عند تقديم الضمان ، فالأولى توحيد الرسوم إذا كانت التكلفة الفعلية واحدة .
المبحث الثالث
أخذ الرسوم على السحب النقدي بالبطاقات الائتمانية
تقوم جهات إصدار البطاقات الائتمانية بفرض رسوم (فوائد) على السحب النقدي بالبطاقة ، وتتبع في فرض الفوائد طريقة الاحتساب الفوري ، حيث يتم احتساب الفائدة على المبلغ المسحوب مباشرةً من أول يوم تم فيه السحب ، أي أن الساحب لن يدفع المبلغ المسحوب إلا ومعه الفائدة ، وهذه الرسوم من أهم موارد جهات الإصدار ،
وعادة ما تكون الفوائد على شكل نسبة مئوية من المبلغ المسحوب ، وقد تكون مبلغاً مقطوعاً ، وقد تجمع الاثنين معاً(56) .
وقد سبقت الإشارة إلى أن استعمال البطاقة الائتمانية في السحب النقدي يعني إنشاء قرض يمثِّل فيه المسحوب منه مقرضاً والساحب مقترضاً .
ومن القواعد المقررة تحريم المنفعة المشترطة في القرض ، إلا أن ذلك ليس على إطلاقه ، فلا يدخل في المنفعة المحرمة ما يلي :
1ـ التكاليف الفعلية التي يتكبدها المقرض لتقديم القرض ؛ لأنه محسن، وقد قال الله _تعالى_: "ما على المحسنين من سبيل" ، فلا يغرم المقرض في سبيل إحسانه .
2ـ المنفعة التي للمقترض ؛ لأنها زيادة إرفاق .
3ـ المنفعة المشتركة أو إذا كانت منفعة المقترض أقوى .
4ـ المنفعة غير المشروطة بعد السداد .
5ـ المنفعة الأصلية التي لا تنفك عن القرض كالانتفاع بالمال المقترض .
فالمنفعة المحرمة ،هي: ((المنفعة الزائدة المشروطة للمقرض على المقترض))(57) .
حالات السحب النقدي :
للسحب النقدي بالبطاقة الائتمانية حالتان :
1ـ السحب اليدوي : والمراد ما يحصل بإبراز البطاقة للبنك والحصول على النقود مناولةً ، وفي هذه الحالة لا يجوز أخذ أي رسوم في مقابل السحب؛ لأن ذلك من الربا الصريح، وهذه الرسوم لا يقابلها تكاليف فعلية في الغالب ؛ ومن هنا فقد أكدت فتاوى الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية على حرمة استخدام البطاقة الائتمانية في السحب اليدوي من البنوك الربوية ؛ لأن هذه البنوك تحتسب فائدة ربوية عبارة عن نسبة مئوية من المبلغ المسحوب(58) .
2ـ السحب الآلي ، وهو ما يكون عن طريق أجهزة الصراف الآلي (ATM) ، وهذا النوع من السحب عادةً ما يكون له تكاليف من أجهزة وصيانة واستئجار مواقع ونحو ذلك .
وللسحب النقدي باعتبار المسحوب منه حالتان :
1ـ السحب النقدي من مصدر البطاقة ، وهذا قرض كما سبق .
2ـ السحب النقدي من غير مصدر البطاقة ، وهذا ضمان يؤول إلى قرض ، فهو قرض بين حامل البطاقة والبنك المسحوب منه ، وضمان بين البنوك الأعضاء في المنظمة الراعية للبطاقة بما فيها المصدر وبين البنك المسحوب منه ، حيث يعود على المصدر بالمبلغ(59) .
وقد اختلف الباحثون في حكم الرسوم المأخوذة على السحب النقدي ببطاقة الائتمان :
القول الأول : إنه لا يجوز أخذ الرسوم مطلقاً، سواءً أكانت في مقابل نفقات فعلية أم لم تكن، وهذا رأي الدكتور محمد القري(60)،
ودليل هذا القول أن هذه الرسوم من الربا المحرم؛ لأنها من فوائد القروض .
ويمكن أن يناقش بما يلي :
1ـ لا يُسلم أن أي زيادة تعد من الربا ؛ فقد سبق أن المنفعة المحرمة هي المنفعة الزائدة المشروطة للمقرض ، وقد تكون الزيادة من تكلفة القرض ، فلا يتكبدها المقرض ، فالسحب يتطلب أجهزة لها كلفة من ثمن الجهاز وأجرة مكانه ، كما يتطلب إجراء اتصالات وتحمل إرسال معلومات وتكاليف إبراق ونحو ذلك .
2ـ أن أكثر الفتاوى والقرارات أكدت على ألا تكون الرسوم على السحب مرتبطة بالدَّين قدراً أو أجلاً ، وهذا يدل على أن هذه الرسوم لا علاقة لها بالقرض .
القول الثاني : جواز أخذ الرسوم، سواءً أكانت نسبة مئوية من المبلغ المسحوب أم كانت مبلغاً مقطوعاً، وهذا ما صدر عن هيئة الفتوى والرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي(61)، وفتوى ندوة البركة(62) ، وبعض الباحثين كالدكتور عبد الستار أبو غدة، والدكتور محمد مختار السلامي(63) .
ومن أدلة هذا القول : أن رسوم السحب النقدي في مقابل خدمات يقدمها المصدر من توصيل المال إلى حامل البطاقة في أي مكان عبر فروعه أو أجهزة الصرف ، كما أنها في مقابل خدمات يقدمها المسحوب منه من إجراء اتصالات وتكاليف إبراق وأجهزه صرف ونحو ذلك(64) .
وقد نوقش ذلك بما يلي :
أـ أنه لا يُسلم بأن هذه الرسوم في مقابل الخدمات التي يقدمها المصدر أو المسحوب منه ، إذ لو كانت كذلك لما اختلفت باختلاف المبلغ (النسبة المئوية) ، فتحصيل مئة ألف لا يختلف كثيراً من حيث التكاليف عن تحصيل ألف ، فالواجب أن يكون الرسم مبلغاً مقطوعاً على مقدار التكلفة الفعلية خروجاً من التستر على الربا باسم الرسوم(65) .
ب ـ أن حامل البطاقة قد يستخدمها في الحصول على بعض الخدمات كالاستعلام عن الرصيد ونحوه مع أنها كالسحب النقدي تقريباً من حيث التكلفة إلا أن البنوك لا تحتسب فوائد كما في السحب النقدي ، وهذا يدل على ارتباط هذه الرسوم بالقرض(66) .
القول الثالث : أنه يجوز أخذ الرسوم بشرط أن تكون مبلغاً مقطوعاً لا نسبةً مئويةً .
وهذا ما صدر بالأغلبية عن الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية(67) ، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية(68) .(3/209)
ودليل هذا القول كما جاء في القرار (466) أن تغير الرسم بتغير المبلغ المسحوب فيه شبهة الربا (النسبة المئوية) ، وهذا منتفٍ في حالة كون الرسم مبلغاً مقطوعاً في كل حالة من حالات السحب .
ويمكن أن يُناقش ذلك بأن هذا الرسم قد يكون أكثر من التكلفة الفعلية لعملية السحب النقدي ، وما زاد عنها فيه شبهة المنفعة المشروطة في القرض .
القول الرابع : أنه يجوز أخذ الرسوم بشرط أن تكون مبلغاً مقطوعاً في مقابل النفقات الفعلية لعملية الإقراض ، ولا يجوز الزيادة على التكلفة الفعلية ، وهذا رأي مجمع الفقه الإسلامي(69) ، وبعض أعضاء المجمع كالدكتور نزيه حماد والدكتور علي السالوس(70) ، واختاره بعض أعضاء الهيئة الشرعية لشركة الراجحي كالدكتور أحمد بن علي سير المباركي(71) ، والباحث عبد الرحمن الحجي(72) .
ودليل هذا القول: أن السحب النقدي في حقيقته اقتراض من المسحوب منه ، فما يأخذه المقرض من زيادة ربا محرم شرعاً ، وهذا من ربا القروض ، ويستثنى من ذلك التكلفة الفعلية للإقراض فهي غير داخلة في المنفعة المحرمة لما سبق ، وهي من أجور خدمات القروض التي أجازها مجمع الفقه في دورته الثالثة بشرط أن تكون في حدود النفقات الفعلية ، وما زاد فهو ذريعة لربا القروض وستار لإخفائه(73) .
ويظهر لي ـ والله أعلم ـ رجحان القول الرابع لما فيه من الاحتياط والحذر من أكل الربا باسم الرسوم ، إذ لا يظهر مسوغ شرعي لأخذ ما زاد على النفقة الفعلية للإقراض ، فعلى البنوك الإسلامية مراعاة ذلك وحساب التكلفة الفعلية وعدم أخذ ما زاد عليها .
وتجدر الإشارة إلى أن المنظمة الراعية للبطاقات تحتسب رسوم السحب لصالح المسحوب منه ولو كان بنكاً إسلامياً ، وبينما تأخذ بعض البنوك هذه الرسوم باعتبارها مقابلاً لخدمات معينة(74) فإن بعضها ترى وضع صندوق خاص لهذه الفوائد المحتسبة ثم تتخلص منها(75) ، وهذا أسلم ، لكن لا مانع من أخذ التكلفة الفعلية حتى في هذه الحالة .
------------------------
الهوامش :-
(1) رواه الترمذي رقم(2639) وابن ماجه رقم(4300) ، والإمام أحمد في مسنده 2/213 ، وقال عنه محققو المسند : "إسناده قوي" ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم(2127) .
(2) لسان العرب (بطق) : 10/21 ، وانظر : القاموس المحيط (بطق) : ص868 ، والنهاية في غريب الحديث : 1/135 .
(3) البطاقات اللدائنية للدكتور محمد العصيمي (بحث غير منشور) : ص95 ، وقد أشار إلى أن هذا الوصف لا ينطبق على جميع البطاقات ، بل تتفاوت بحسب قدرتها الشرائية والنطاق الجغرافي الذي يسمح بقبولها .
(4) ربما كان أقرب الألفاظ إلى هذا المصطلح ما جاء في قوله _تعالى_: "فليؤد الذي اؤتمن أمانته" (سورة البقرة ، الآية 283) ، والمعنى أنه إذا تعذَّر وجود الكاتب والشهود في السفر،ولم يمكن بذل الرهن فإنه يمكن الاعتماد على أمانة المدين، وهو مأمور بالأداء،وقد استعمل بعض المفسرين مصطلح (ائتمان) بمعنى الثقة بالمدين،ومن ذلك ما نقله الطبري عن بعض السلف((أنه ليس لرب الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا)). (تفسير الطبري: 3/141).
(5) البطاقات البنكية للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص23) .
(6) بطاقات الائتمان غير المغطاة (بحث للدكتور محمد القري ضمن مجلة مجمع الفقه) : ع12ج3ص530 .
(7) البطاقات المصرفية لعبد الرحمن الحجي (رسالة ماجستير) : ص39 .
(8) مجلة مجمع الفقه : ع12ج3ص676 ، ويقرب منه تعريف ندوة البركة . انظر : قرارات وتوصيات ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي (12) : ص201 .
(9) البطاقات اللدائنية : ص128 .
(10) المصدر السابق : ص125،131 ، والبطاقات المصرفية للحجي : ص52 .
(11) البطاقات المصرفية : ص42 .
(12كانت هذه البطاقات مرتبطة بوجود رصيد لحاملها يغطي ديونه، وكان العميل يسدد ديونه الناشئة عن استعمالها قبل انتهاء مدة السماح ، إلا أن البنوك صارت تخصم المبلغ من حسابه في البنك ، ومع تقدم الاتصالات الإلكترونية حلَّت محلها بطاقات الصراف الآلي التي سيأتي ذكرها في المطلب الثاني . انظر : البطاقات اللدائنية : ص137 .
(13) المصدر السابق : ص43 وما بعدها ، والبطاقات اللدائنية : ص130 ، والبطاقات البنكية : ص70 وما بعدها .
(14) مجلة مجمع الفقه (بحث الدكتور أبو غدة والضرير) : ع12ج3ص468،593 ، والبطاقات البنكية : ص44 .
(15) القاموس الاقتصادي لمحمد علية : ص154 ، والذي يظهر أن المال هو الذي ينشئ الحساب الجاري ، فتعريف الحساب بالمال من تعريف الشيء بسببه .
(16) البطاقات المصرفية : ص57 .
(17) هذه الأحرف الثلاثة اختصار للمصطلح الإنجليزي (Automated Teller Machine Cards) .
(18) اختصاراً لعبارة (Point Of Sale) .
(19) انظر : البطاقات اللدائنية : ص142،146 ، والبطاقات المصرفية : ص58،60 ، ومحاضرة للدكتور عبد الرحمن الأطرم عن البطاقات الائتمانية في جامع المنيع بالرياض بتاريخ 10/2/1424هـ .
(20) انظر : البطاقات المصرفية : ص60 ، والبطاقات اللدائنية : ص145،148،176،184 ، ومحاضرة الدكتور الأطرم .
(21) البطاقات اللدائنية : ص209 ، وانظر بحث القري في مجلة مجمع الفقه : ع7ج1ص381 ،ع12ج3ص551 .
(22) البطاقات المصرفية للحجي : ص179 ، علماً بأنه رسم الإصدار قد يسمى رسم العضوية أو الاشتراك .
(23) تبيين الحقائق : 4/152 ، ومواهب الجليل : 5/99 ، والمبدع : 4/252 ، وشرح منتهى الإرادات : 2/248 .
(24) مجلة مجمع الفقه : (د.نزيه حماد) : ع12ج3ص502 ، (د.القري) : ع12ج3ص535 .
(25) البطاقات المصرفية للحجي : ص154 .
(26) مجلة مجمع الفقه (د.الضرير) : ع12ج3ص604 ، وتعقيب الشيخ عبد الله بن منيع : ع12ج3ص658 .
(27) البناية للعيني: 6/745 ، وانظر : فتح القدير: 8/182 ، والشرح الصغير للدردير : 3/43 ، وانظر : البطاقات البنكية لعبد الوهاب أبو سليمان : ص197 ، .
(28) المحلى : 8/113 ، والإشراف لابن المنذر : 1/119 ، والحاوي الكبير للماوردي : 8/112 ، والمغني : 7/84 ، وانظر الأدلة على ذلك في بحث د.نزيه حماد في المجلة : ع12ج3ص504.
(29) بحث القري في مجلة المجمع : ع12ج3ص541 .
(30) مجلة المجمع (د.الضرير) : ع12ج3ص605 ، وتعقيب الشيخ عبد الله بن منيع : ع12ج3ص658 .
(31) مجلة مجمع الفقه (د.عبد الستار أبو غدة) : ع12ج3ص478 ، وتعقيب الدكتور القره داغي : ع12ج3ص660 .
(32) مجلة مجمع الفقه (د.الضرير) : ع12ج3ص604 .
(33) البطاقات البنكية لعبد الوهاب أبو سليمان : ص197 ، ومجلة المجمع (د.محمد بالوالي) : ع12ج3ص567 .
(34) البطاقات المصرفية للحجي : ص156 .
(35) الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر : 1/120 ، ومواهب الجليل : 5/113 .
(36) البطاقات المصرفية للحجي : ص128 .
(37) مجلة المجمع : ع7ج1ص390 ، ع8ج2ص596 ، وهذا رأي الشيخ عبد الله بن بية والشيخ علي السالوس والشيخ حمادي : انظر : ع12ج3ص642،648،664.
(38) بحث القري : المجلة ع7ج1ص392 ، ع12ج3ص555 ،642،648.
(39) بحث د. نزيه حماد : المجلة : ع12ج3ص509 .
(40) بحث القري : المجلة ع7ج1ص397 .
(41) البطاقات البنكية : ص222 ، وتعقيب العثماني : مجلة المجمع : ع7ج1ص674 ، ومحاضرة الدكتور الأطرم .
(42) مجلة المجمع : ع8ج2ص658 .
(43) بحث القري : المجلة ع7ج1ص392 ، ع12ج3ص664 .
(44) مجلة المجمع : ع12ج3ص676 ، وأجاز المجمع هذه الرسوم بشرط أن تكون رسوماً مقطوعة بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة من المصدر .(3/210)
(45) جاء ذلك في ص24 من المعيار في المادة 4/3 .
(46) انظر القرار رقم (463) في السنة الثالثةالدورة الثالثة 19/3/1422هـ ، وانظر الشرط 3 من المرفق 1 (شروط وأحكام إصدار بطاقة الراجحي الائتمانية) ، مع توقف الدكتور عبد الرحمن الأطرم والدكتور أحمد بن علي سير المباركي فيما زاد عن مقدار التكلفة الفعلية ، حيث يرى المباركي منعه لأنه يؤدي إلى قرض جر نفعاً ، فقرار الهيئة اُتخذ بالأغلبية لا بالإجماع .
(47) انظر الوثيقة رقم (1) في مجلة مجمع الفقه : ع7ج1ص467 من إعداد مركز تطوير الخدمة المصرفية في بيت التمويل .
(48) قرارات وتوصيات الندوة : ص203 .
(49) البطاقات البنكية : ص150 ، ومجلة المجمع : ع7ج1ص362،410 ، ع12ج3ص509،657 .
(50) مجلة المجمع : ع7ج1ص471 ، ع12ج3ص509،482 ، وقرارات ندوة البركة : ص203 .
(51) مجلة المجمع : ع12ج3ص482،509 .
(52) البطاقات البنكية : ص153 ، وانظر : حاشية عميرة على شرح المحلي للمنهاج : 2/258 .
(53) البطاقات المصرفية : ص179 .
(54) بحث القري في المجلة : ع7ح1ص381 ، وانظر إحصائية بمبالغ رسوم الإصدار في البنوك السعودية في البطاقات البنكية لعبد الوهاب أبو سليمان : ص152 ، حيث يصل بعضها إلى 600 ريال سعودي ، مع التنويه إلى تفاوت البنوك والبطاقات في الرسوم حسب الخدمات المقدمة والسقف الائتماني ، مع أن هذه الإحصائيات قديمة، فقد تزيد وقد تنقص بسبب المنافسة بين جهات الإصدار .
(55) بحث د.نزيه حماد في مجلة مجمع الفقه : ع12ج3ص509 .
(56) البطاقات اللدائنية : ص203،204 .
(57) البطاقات المصرفية : ص123 وما بعدها ، وانظر : المنفعة في القرض ص240 .
(58) انظر القرار رقم (204)،والقرار رقم (209،الشرط رقم10 من الشروط المرفقة) من قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي.
(59) البطاقات المصرفية : ص175 .
(60) بحث القري في مجلة المجمع : ع7ج1ص393 .
(61) مجلة مجمع الفقه (الوثيق رقم 1) : ع7ج1ص472 .
(62) قرارات وتوصيات الندوة : ص206 .
(63) المصدر السابق : ع7ج1ص667 ، ع12ج3ص489 .
(64) المصدر السابق : ع7ج1ص367،472 ، ع12ج3ص490 .
(65) تعقيب السالوس : ع7ج1ص662 ، وانظر : بحث د.نزيح حماد : ع12ج3ص521 .
(66) البطاقات المصرفية : ص184 .
(67) انظر القرار رقم (463) في السنة الثالثةالدورة الثالثة 19/3/1422هـ ، وانظر الشرط 4 من المرفق 1 (شروط وأحكام إصدار بطاقة الراجحي الائتمانية) ، وكذلك القرار رقم (466) في نفس التاريخ .
(68) جاء ذلك في ص24 من المعيار في المادة 4/5 .
(69) قرار المجمع : ع12ج3ص676 .
(70) بحث نزيه في المجلة : ع12ج3ص520 ، وتعقيب السالوس : ع7ج1ص647 .
(71) جاء ذلك في تحفظه على قراري الهيئة رقم (463)،(466)، حيث رأى أن ما زاد على التكلفة الفعلية يؤدي إلى قرض جر نفعاً ، فيما توقف الدكتور عبد الرحمن الأطرم فيما زاد على التكلفة الفعلية من رسم السحب النقدي من مكائن الصرف .
(72) البطاقات المصرفية : ص184 .
(73) بحث د. نزيه حماد : ع12ج3ص521 ، وقرار المجمع : ع12ج3ص676 .
(74) كما في بيت التمويل الكويتي . انظر : مجلة المجمع : ع7ج1ص274 .
(75) انظر القرار رقم (50) من قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي .
المصدر : موقع المسلم
==============
بحث في بيع المرابحة
كتبه
علي بن عبد العزيز الراجحي
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (1)
وقوله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (2)
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً ) (3)
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله جل وعلا ، وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ، وشر المور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
وبعد.... يقول الله تعالى في محكم كتابه: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ). (4)
وثبت كما في حديث جابر رضى الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لعن الله آ كل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) (5)
ومما لا شك فيه أن الربا هو السمة الغالبة على النظام الاقتصادي العالمي اليوم ومما يؤسف له أن الأمة الاسلامية قد غرقت في بحور الربا وإن من قوارب النجاة من هذه البحور قيام المصارف والشركات الإسلامية التي تعتبر من مظاهر الصحوة الاسلامية المباركة والتي قدمت الاسلام ليحل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران آية102
(2) سورة النساء آية 1
(3) سورة الأحزاب الآيتان 70 ، 71
(4) سورة البقرة الآيتان278، 279
(5) رواه مسلم 3 /1219
المشكلات التي تواجه العالم الاسلامي ومنها المشكلة الاقتصادية وعلى وجه الخصوص مشكلة الربا فالواجب على الأمة أن تطوع الحياة للإسلام وتجعله المصدر الأول والأخير لحل كافة المعضلات.
وقد بدأت المصارف والشركات الاسلامية مسيرتها منذ عهد قريب في طريق عقباته كثيرة ومصاعبه ليست قليلة وقد حاول العلماء المعاصرون ايجاد سبل لاستثمار الأموال بطرق مشروعة تقوم على أساس صحيح من نظام المعاملات في الاسلام. ومن هذه الطرق ما اصطلح على تسميته (بيع المرابحة للآمر بالشراء) وأخذوا في تأصيل هذا العقد وفق الأصول الشرعية وما أن بدأت المصارف الاسلامية بتطبيق هذا البيع حتى نشأ نقاش علمي عميق في مدى شرعية هذا النوع من المعاملات وعقدت الندوات والمؤتمرات وقدمت البحوث وألفت الكتب مما أثرى المكتبة الاسلامية في هذا الباب الذي كانت تفتقر إليه. وقد كان المؤلفون والباحثون بين مؤيد ومدافع عن هذا العقد وبين معارض له باعتباره يتنافى مع أصول العقود الصحيحة وقد أخذت معظم المصارف الاسلامية بهذا العقد وتعاملت به وفق شروط وضوابط محددة بناء على رأي العلماء الذين أجازوه وقد رغبت في المساهمة في دراسة بيع المرابحة للآمر بالشراء من حيث التعريف ببيع المرابحة وحكمه عند الفقهاء المتقدمين ثم التعريف ببيع المرابحة للآمر بالشراء واختلاف الفقهاء المعاصرين فيه وبيان أدلتهم مع بيان القول الراجح في المسألة.
وأخيراً فإنني قد استفدت كثيراً من جهود من سبقني في الكتابة في هذا الموضوع فجزاهم الله خيراً
خطة البحث ، ومنهجي في البحث
تتكون خطة البحث من مقدمة و تمهيد ، و ثلاثة أبواب وخاتمة وفهارس .
المقدمة : ـ وتتضمن كلاً من :
(1) أهمية هذا الموضوع وحاجة الناس إليه .
(2) خطة البحث ومنهجي في البحث .
التمهيد : ـ ويشمل ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تعريف البيع لغةً واصطلاحاً
المبحث الثاني : تعريف بيع المرابحة لغةً واصطلاحاً
المبحث الثالث : حكم بيع المرابحة
الباب الأول : بيع المرابحة للآمر بالشراء وصوره :
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول :نشأة اصطلاح بيع المرابحة للآمر بالشراء
الفصل الثاني : تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء(3/211)
الفصل الثالث : الأسس التي تقوم عليها بيع المرابحة
الفصل الرابع : صور تعامل المصارف الإسلامية مع بيع المرابحة للآمر بالشراء
الباب الثاني : خلاف العلماء المعاصرين في حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء :
وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : القائلون بالجواز وأدلتهم ( القول الأول):
وفيه مطلبين :
المطلب الأول : أسماء القائلون بالجواز
المطلب الثاني : أدلة القائلون بالجواز
الفصل الثاني : القائلون بالتحريم وأدلتهم ( القول الثاني ):
وفيه مطلبين :
المطلب الأول : أسماء القائلون بالتحريم
المطلب الثاني : أدلة القائلون بالتحريم
الفصل الثالث : مناقشة أدلة القولين وبيان الراجح منها :
وفيه مطلبين :
المطلب الأول : مناقشة أدلة القولين
المطلب الثاني : بيان القول الراجح
الباب الثالث : الفتاوى الصادرة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء
المصادر والمراجع
الفهرس
هذا وإن ما قدمته في هذا البحث بشر الذي يسري عليه الخطا والنقصان وهما أمران من طبيعة الإنسان ورحم الله إمرءاًَ أهدى إلي أخطائي. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد
المبحث الأول: تعريف البيع لغة واصطلاحاً.
تعريف البيع:
أ- البيع لغة هو مقابلة شيء بشيء أو هو مطلق المبادلة وهو من أسماء الاضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده مثل الشراء كما في قوله تعالى { وشروه بثمن بخس} (1) أي باعوه(2).
ب- وفي إصطلاح الفقهاء عرفوه بتعريفات كثيرة منها مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكاً أو هو مقابلة مال بمال على وجه مخصوص (3) وقيل غير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يوسف الآ ية 20.
(2)إنظر المصباح المنير ص61 مادة بيع، لسان العرب 1/556 مادة بيع، الصحاح 3/1189 مادة بيع.
(3) أنيس الفقهاء ص 201، التعريفات ص 27، الفقه الإسلامي وأدلته 4/344 ، الموسوعة الفقهية 9/5
المبحث الثاني : تعريف بيع المرابحة لغةً واصطلاحاً:-
أ- كلمة المرابحة في اللغة مأخوذة من كلمة ربح وتعني النماء في التجر وربح في تجارته يربح ربحا وتربحا أي إستشف.... وهذا بيع مربح إذا كان يربح فيه والعرب تقول: - ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها. وتجارة رابحة: يربح فيها.. وأربحته على سلعته أي أعطيته ربحاً ... وبعت الشيء مرابحة ويقال بعته السلعة مرابحة على كل عشرة د راهم درهم وكذلك اشتريته مرابحة (1).
ب- وأما المرابحة اصطلاحاً فقد عرفها الفقهاء بتعريفات كثيرة منها:-
1- قال الامام المرغيناني الحنفي (المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح ) (2) .
2- وعرفها ابن رشد المالكي بقوله (هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحاً ما للدينار أو الدرهم)(3).
3- وعرفها الشيخ أبو اسحق اشيرازي الشافعي بقوله (ان يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول ثمنها مئة وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة)(4).
4- وعرفها الشيخ الماوردي الشافعي بقوله (واما بيع المرابحة فصورته أن يقول أبيعك هذا الثوب مرابحة على أن الشراء مئة درهم وأربح في كل عشرة واحد)(5).
5- وعرفها الشيخ ابن قد امة المقدسي الحنبلي بقوله (البيع برأس المال وربح معلوم)(6).
وخلاصة القول في تعريف بيع المرابحة أنه يقوم على أساس معرفة الثمن الأول وزيادة ربح عليه حيث إن المرابحة من بيوع الأمانة فينبغي أن يكون الثمن الأول معلوماً وأن يكون الربح معلوماً أيضا. وبناء عليه يكون تعريف بيع المرابحة هو: بيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معلوم متفق عليه بين المتعاقدين.(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب 5/103 مادة ربح
(2) الهداية 6/122.
(3) بداية المجتهد 2/178 (4) المهذب مع المجموع 13/3.
(5) الحاوي الكبير 5/279. (6) المغني 4/136.
(7) بيع المرابحة أحمد ملحم ص 30.
المبحث الثالث : حكم المرابحة:
يرى جمهور الفقهاء أن بيع المرابحة من البيوع الجائزة شرعاً ولا كراهة فيه. قال الماوردي (وأما بيع المرابحة فصورته أن يقول أبيعك هذا الثوب مرابحة على أن الشراء مئة درهم وأربح في كل عشرة واحد فهذا بيع جائز لا يكره.. والدليل على جوازه عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) ولان الثمن في بيع المرابحة معلوم كما أنه في بيع المساومة معلوم إذ لا فرق بين قوله بعتك هذا الثوب بمئة وعشرة وبين قوله بعتك بمئة وربح كل عشرة واحد وان كلا الثمنين مئة وعشرة وأن اختلفت العبارتان كما لا فرق بين قوله بعتك هذا الثوب بتسعين وبين قوله بمئة الا عشرة في أن كلا الثمنين تسعون وأن اختلفت العبارتان ولا وجه لما ذكر من جهالة الثمن لأن مبلغه وان كان مجهولاً حال العقد فقد عقداه بما يصير الثمن به معلوماً بعد العقد وذلك لا يمنع من صحة العقد. كما لو باعه صبرة طعام كل قفيز بدرهم صح البيع وان كان مبلغ الثمن مجهولاً وقت العقد لانهما عقداه بما يصير الثمن به معلوماً بعد العقد...)(1).
وقال الشوكاني (هذا بيع أذن الله سبحانه به بقوله (تجارة عن تراض) وبقوله (أحل الله البيع وحرم الربا) وهذا يشمل كل بيع كائنا ما كان إذا لم يصحبه مانع شرعي أو يفقد فيه التراضي)(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحاوي الكبير 5/279.
(2) السيل الجرار 3/136.
ويدل على جواز بيع المرابحة ما ورد في الحديث عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أفضل؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)(1).
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن ابي سعيد الخدري ان الرسول عليه الصلاة والسلام قال (... انما البيع عن تراض)(2).
فهذه العمومات من كتاب الله و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على جواز بيع المرابحة كما ان الحاجة تدعو لتعامل الناس بالمرابحة قال المرغيناني (والحاجة ماسة الى هذا النوع من البيع لان الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج الى ان يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وزيادة ربح...)(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 4/61.
(2) رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال الشيخ الألباني صحيح إنظر الارواء 5/125، وقال الشيخ الأرناؤوط اسناده قوي. صحيح ابن حبان 11/341.
(3) الهداية 6/123.
الباب الأول : تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء وصوره.
الفصل الأول : نشأة إصطلاح بيع المرابحة للآمر بالشراء:
بيع المرابحة للآمر بالشراء اصطلاح حديث ظهر منذ فترة وجيزة وأول من استعمله بهذا الشكل هو د. سامي حمود في رسالته الدكتوراه بعنوان (تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية) .ويقول د. سامي حمود عن ذلك (وقد كان بيع المرابحة للآمر بالشراء بصورته المعروفة حاليا في التعامل المصرفي كشفاً وفق الله اليه الباحث أثناء اعداده لرسالة الدكتوراه في الفترة الواقعة بين 1973 - 1976 حيث تم التوصل الى هذا العنوان الاصطلاحي بتوجيه من الاستاذ الشيخ العلامة محمد فرج السنهوري رحمه الله تعالى حيث كان استاذ مادة الفقه الاسلامي المقارن للدراسات العليا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة)(1).(3/212)
وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح لدى البنوك الاسلامية والشركات التي تتعامل وفق أحكام الشريعة الاسلامية وصارت هذه المعاملة من أكثر ما تتعامل به البنوك الاسلامية.والحقيقة ان هذا الاصطلاح (بيع المرابحة للآمر بالشراء) إصطلاح حديث ولا شك ولكن حقيقته كانت معروفة عند الفقهاء المتقدمين وإن اختلفت التسمية فقد ذكره محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وذكره الامام مالك في الموطأ والامام الشافعي في الام كما سيأتي ذلك عنهم(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. سامي حمود ص 1092 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
(2) المرابحة للآمر بالشراء د. بكر ابو زيد ص 978 مجلة مجمع الفقه الأسلامي عدد 5 ج2 . المرابحة للآمر بالشراء د. الصديق الضرير ص 995 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
الفصل الثاني : تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء.
عرفه العلماء المعاصرون بعدة تعريفات منها:-
1 ـ عرفه د. سامي حمود بقوله (أن يتقدم العميل الى المصرف طالباً منه شراء السلعة المطلوبة بالوصف الذي يحدده العميل وعلى أساس الوعد منه بشراء تلك السلعة فعلاً مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها ويدفع الثمن مقسطاً حسب امكانياته)(1).
2- وعرفه د. يونس المصري بقوله (أن يتقدم الراغب في شراء سلعة الى المصرف لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقداً ولأن البائع لا يبيعها له إلى أجل إما لعدم مزاولته للبيوع المؤجلة أو لعدم معرفته بالمشتري أو لحاجته إلى المال النقدي فيشتريها المصرف بثمن نقدي ويبيعها إلى عميله بثمن مؤجل أعلى) (2).
3- وعرفه د. محمد سليمان الاشقر بقوله (يتفق البنك والعميل على أن يقوم البنك بشراء البضاعة.. ويلتزم العميل أن يشتريها من البنك بعد ذلك ويلتزم البنك بأن يبيعها له وذلك بسعر عاجل أو بسعر آجل تحدد نسبة الزيادة فيه على سعر الشراء مسبقاً)(3).
4- وعرفه الباحث أحمد ملحم بقوله (طلب شراء للحصول على مبيع موصوف مقدم من عميل الى مصرف يقابله قبول من المصرف ووعد من الطرفين الأول بالشراء والثاني بالبيع بثمن وربح يتفق عليها مسبقاً)(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تطوير الأعمال المصرفية ص 432 بتصرف يسير.
(2) بيع المرابحة للآمر بالشراء د. رفيق المصري ص1133 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
(3) بيع المرابحة كما تجريه البنوك الاسلامية د. الاشقر ص 6.
(4) بيع المرابحة أحمد ملحم ص 79.
الفصل الثالث : الأسس التي تقوم عليها بيع المرابحة :
أولاً: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء ثلاثي الأطراف أي أنه يوجد عندنا ثلاثة متعاقدين.
الأول: الآمر بالشراء.
الثاني: المصرف الاسلامي.
الثالث: البائع.
وهذا الأمر يختلف فيه بيع المرابحة للآمر بالشراء عن المرابحة المعروفة عند الفقهاء المتقدمين حيث إن المرابحة المعروفة عند الفقهاء المتقدمين ثنائية الأطراف.
ثانياً: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء يتم باتمام الخطوات التالية:-
أ- طلب من العميل يقدمه للمصرف الإسلامي لشراء سلعة موصوفة.
ب- قبول من المصرف لشراء السلعة الموصوفة.
ج- وعد من العميل لشراء السلعة الموصوفة من المصرف بعد تملك المصرف لها.
د- وعد من المصرف ببيع السلعة الموصوفة للعميل وقد يكون الوعد لازماً أو غير لازم كما سيأتي بيانه.
هـ- شراء المصرف للسلعة الموصوفة نقداًَ.
و- بيع المصرف للسلعة الموصوفة للعميل بأجل مع زيادة ربح متفق عليها بين المصرف والعميل.
ثالثاً : فتاوى الأسس التي تقوم عليها بيع المرابحة :
1 ـ فتوى هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي رقم ( 8 )
السؤال:ما النقاط الأساسية واجبة الاتباع في عمليات المرابحات التجارية بالشراء من السوق المحلي أو من السوق الخارجي ؟
الجواب
أكدت الهيئة على ضرورة الالتزام بتوصيات المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي الذي عقد بالكويت في 6 - 8 جمادى الآخرة 1403 ه الموافق 21 - 23 مارس 1983 م وفي إطار الأسس الشرعية التالية لعمليات المرابحة :
أولا : الوعد ببيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك المصرف السلعة المشتراة للآمر وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح الذي يتم الاتفاق عليه وبشرط أن يقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب العيب الخفي وقد أجازت الهيئة للمصرف في المرحلة الحالية حيث لا تتوافر لديه ساحات للتشوين والتخزين أن يكون محل تسليم البضاعة المباعة للآمر بالشراء هو المعرض أو المحل الذي قام المصرف بالشراء منه إلى حين توافر مخازن مناسبة للمصرف مستقبلا
ثانيا : يجوز للمصرف أخذ عربون في عمليات المرابحة وغيرها بشرط أن لا يحق للمصرف أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي الذي يتحمله المصرف نتيجة لنقض العميل الوعد بالشراء
ثالثا : تنتهي مسئولية المصرف في عمليات الاستيراد من الخارج للآمر بالشراء بمجرد تسليم المستندات للعميل ووصول البضاعة إلى الميناء وتوقيع عقد البيع بين المصرف والعميل
رابعا : رأت الهيئة أن يقوم المصرف باستيراد السلعة على مسئوليته وتحمل كافة المصاريف والعمولات والتأمين على السلعة وتحمل المخاطر المتعلقة بعمليات الاستيراد وتبعة الرد بالعيب الخفي ونظرا لوجود صعوبات عملية بشأن التعامل بالاستيراد في السوق العالمية باسم المصرف فقط حيث يواجه المصرف في ذلك ما يلي : - وجود وكلاء وحيدين للسلعة - اعتراض الموردين - اعتراض العملاء فقد أجازت الهيئة أن يتم فتح الاعتمادات باسم المصرف مقرونا باسم الآمر بالشراء وذلك لاعتبارين : 1 - المحافظة على استقرار العلاقات التجارية بين العملاء والمودرين في الخارج . 2- أن هذا الإجراء لن يؤثر على جوهر عملية المرابحة من حيث مسئولية المصرف وتحمله لكافة المصاريف والأعباء والمخاطر المتعلقة بالاستيراد وتبعة الرد بالعيب الخفي
خامسا : يجوز للمصرف أن يحصل من العميل على عروض أسعار السلعة المراد شراؤها وعليه أن يعمل على الحصول على عروض أفضل لنفس السلعة لصالح العملاء فإذا لم يتيسر له تحقيق ذلك فيجوز للمصرف أن يقوم بالشراء من المصدر الذي حدده العميل مع مراعاة الأسس الشرعية السابقة بشأن عملية المرابحة (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)موقع الإسلام الفتاوى الاقتصادية رقم الفتوى 1005
2 ـ فتوى البنك الإسلامي الأردني رقم ( 14 )
السؤال أرجو التكرم ببيان الرأي الشرعي حول قيام البنك بشراء السيارات من الوكيل الرسمي لها ثم بيعها للعملاء مرابحة وذلك وفق الأسس التالية :
أولا : يقدم البائع فاتورة عرض أسعار البيع للبنك لأخذ الموافقة على إجراء عملية بيع المرابحة بناء على طلب العميل المشتري
ثانيا : يوافق فرع البنك على الفاتورة بعد التحقق من أنها مطابقة للشروط المقررة ويعيدها إلى البائع
ثالثا : يتولى البائع تنظيم عقود البيع وتنظيم الكمبيالات واستلام الدفعة الأولى ( البالغة 25 % من قيمة السيارة ) والتنازل عنها مباشرة للمشتري ورهنها لصالح البنك لدى دائرة السير
رابعا : يقدم البائع المستندات المذكورة للبنك ويقوم البنك بدفع رصيد فاتورة المبيع واستلام الكمبيالات بعد استكمال الإجراءات اللازمة لإتمام عقد البيع الثاني
خامسا : يكفل البائع الكمبيالات المقدمة وللبنك الحق في الحصول على ضمانات أخرى يراها مناسبة لضمان حقوقه
سادسا : يتم تأمين السيارة شاملا لصالح البنك(3/213)
سابعا : تكون مدة التسديد بحد أقصى ثلاثين شهرا وتكون نسبة المرابحة ( 16 % ) للمدة التي تزيد عن أربعة وعشرين شهرا وتطبق نسب المرابحة السارية المفعول بحدها الأعلى عن مدة أربعة وعشرين شهرا أو المدة الأقل من ذلك ؟
الجواب
أولا : تضمنت المادة الثانية من قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار أن بيع
المرابحة للآمر بالشراء يعني قيام البنك بتنفيذ طلب الراغب في الشراء بعد إجراء التعاقد معه وهذا يستلزم أن لا يقدم البنك على الشراء أو الالتزام بدفع الثمن أو دفع الثمن فعلا قبل أن يتعاقد مع الطرف الآخر تعاقدا يتضمن التزامه بشراء ما أمر به حسب الاتفاق
ثانيا : الذي يظهر من كتابكم أن البنك يكتفي بمجرد طلب العميل المشتري مع أن هذا غير كاف
ثالثا : قبل الإقدام على عملية الشراء من قبل البنك يجب أن يعلم الطرف الآخر الراغب في الشراء بالثمن وما يترتب عليه مما يعتبر مكملا للتكلفة وذلك لأن النصوص الفقهية مجمعة على ضرورة أن يتساوى علم المتعاقدين برأس المال ( الثمن ) أو بالتكلفة حتى لا يكون مجال للنزاع بينهما لذلك أرى أن الوجه الشرعي يقضي لصحة بيع المرابحة واستكمال ما يلزم أن يتم تنظيم عقد مع الراغب في الشراء قبل التزام البنك بأية مسئولية مالية وقبل الإقدام على أي تصرف آخر يتخذ الإجراءات التي تصون حق البنك ومصلحته (1)
3 ـ فتوى حلقات رمضان الفقهية رقم ( 8 )
السؤال :
ما هي الضوابط المطلوبة لظهور الدور الأساسي للمصرف في عملية المرابحة ؟
الجواب :
أولا : ضرورة التزام المصارف في تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء بالضوابط التي تظهر دور المصرف في العملية وتستبعد إلقاء جميع أعبائها على الآمر بالشراء ومن هذه الضوابط ما يلي :
1 - تولى المصرف شراء السلع بنفسه
2 - أو بوكيل عنه غير الآمر بالشراء
3 - ودفع ثمن الشراء مباشرة منه إلى البائع دون توسط الآمر بالشراء
4 - تسلم المصرف السلعة بحيث تدخل في ضمانه
5 - إرفاق المستندات المثبتة لعملية شراء المصرف السلعة وتسلمه إياها
ثانيا : لمراعاة هذه الضوابط وأمثالها لا بد من الاهتمام بمن يناط بهم تطبيق بيع المرابحة وغيره ولذا تؤكد اللجنة ما جاء في التوصية الثانية الواردة في القرار رقم ( 80/7/د8 ) لمجمع الفقه الإسلامي بجدة ونصها : " اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)موقع الإسلام الفتاوي الاقتصادية رقم الفتوى 969
(2)موقع الإسلام الفتاوي الاقتصادية رقم الفتوى1319
الفصل الرابع : صور تعامل المصارف الإسلامية مع بيع المرابحة للآمر بالشراء.
بعد البحث وجد أن المصارف الإسلامية تتعامل بثلاث صور لبيع المرابحة للآمر بالشراء:
الصورة الأولى : وهي الأكثر تداولاً والأشهر استعمالا بين المصارف الإسلامية وقد صورها لنا الدكتور يوسف القرضاوي تصويراً مبسطاً بصورة واقعية عملية فقال (ذهب زيد من الناس الى المصرف الإسلامي وقال له: أنا صاحب مستشفى لعلاج أمراض القلب، وأريد شراء أجهزة حديثة متطورة لإجراء العمليات الجراحية القلبية ، من الشركة الفلانية بألمانيا أو الولايات المتحدة. وليس معي الآن ثمنها، أو معي جزء منه ولا أريد أن ألجا إلى البنوك الربوية لأستلف عن طريقها ما أريد وأدفع الفائدة المقررة المحرمة. فهل يستطيع المصرف الأسلامي أن يساعدني في هذا الأمر دون أن أتورط في الربا؟ هل يستطيع المصرف أن يشتري لي ما أريد بربح معقول على أن أدفع له الثمن بعد مدة محددة، فأستفيد بتشغيل مشفاي، ويستفيد بتشغيل ماله، ويستفيد المجتمع من وراء ذلك التعاون؟ قال مسئول المصرف: نعم يستطيع المصرف أن يشتري لك هذه الأجهزة بالمواصفات التي تحددها، ومن الجهة التي تعينها، على أن تربحه فيها مقداراً معيناً أو نسبة معينة وتدفع في الأجل المحدد ولكن البيع لا ينعقد إلا بعد أن يشتري المصرف الأجهزة المذكورة ويحوزها بالفعل بنفسه أو عن طريق وكيله حتى يكون البيع لما ملكه بالفعل. فكل ما بين المصرف وبينك الآن تواعد على البيع بعد تملك السلعة وحيازتها. قال العميل: المصرف إذن هو المسئول عن شراء الأجهزة المطلوبة ودفع ثمنها ونقلها وشحنها وتحمل مخاطرها، فإذا هلكت هلكت على ضمانه وتحت مسئوليته، وإذا ظهر فيها عيب بعد تسلمها يتحمل تبعة الرد بالعيب. كما هو مقرر شرعاً. قال المسئول: نعم بكل تأكيد. ولكن الذي يخشاه المصرف أن يحقق رغبتك ويجيبك الى طلبك بشراء الأجهزة المطلوبة، فإذا تم شراؤها وإحضارها، أخلفت وعدك معه. وهنا قد لا يجد المصرف من يشتري هذه السلعة منه لندرة من يحتاج إليها، أو قد لا يبيعها إلا بعد مدة طويلة، وفي هذا تعطيل للمال، وإضرار بالمساهمين والمستثمرين الذين إئتمنوا إدارة المصرف على حسن تثميرها لأموالهم.
قال العميل صاحب المستشفى: إن المسلم إذا أوعد لم يخلف، وأنا مستعد أن أكتب على نفسي تعهداً بشراء الأجهزة بعد حضورها بالثمن المتفق عليه، الذي هو ثمن الشراء مع المصاريف والربح المسمى مقداراً أو نسبة كما أني مستعد لتحمل نتيجة النكول عن وعدي. ولكن ما يضمن لي ألا يرجع المصرف عن وعده إذا ظهر له عميل يعطيه أكثر، أو غلت السلعة المطلوبة في السوق غلاءً بينا؟
قال المسئول: المصرف أيضاً ملتزم بوعده. ومستعد لكتابة تعهد بهذا وتحمل نتيجة أي نكون منه.
قال العميل: اتفقنا.
قال المسئول: إذن نستطيع أن نوقع بيننا على هذا، في صورة طلب رغبة ووعد منك بشراء المطلوب، ووعد من المصرف بالبيع، فإذا تملك المصرف السلعة وحازها وقعنا عقداً آخر بالبيع على أساس الاتفاق السابق)(1).
وهذه الصورة تقوم على أساس أن الوعد ملزم للطرفين المتعاقدين العميل والمصرف وسيأتي تفصيل الخلاف بين العلماء في مدى إلزامية الوعد.
قال د. يوسف القرضاوي معلقاً على الصورة السابقة: (وهذه الصورة إذا حللناها إلى عناصرها الأولية نجدها مركبة من وعدين: وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه: الآمر بالشراء. ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة (أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول أو الثمن والكلفة). وهذا هو المقصود بكلمة المرابحة هنا.
وقد اختار المصرف والعميل كلاهما الإلتزام بالوعد وتحمل نتائج النكول عنه كما تتضمن الصورة: أن الثمن الذي اتفق عليه بين المصرف والعميل ثمن مؤجل والغالب أن يراعى في تقدير الثمن مدة الأجل كما يفعل ذلك كل من يبيع بالأجل(2).
الصورة الثانية: وهي شبيهة بالصورة الأولى: إلا أنها تقوم على أساس عدم الالزام بالوعد لأي من المتعاقدين العميل او المصرف(3).
الصورة الثالثة: وهي مثل الصورتين السابقتين إلا أنها تقوم على أساس الإلزام بالوعد لأحد الفريقين العمل أو المصرف(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 24-25.
2- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 25-26.
3- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. رفيق المصري ص 1141 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج 2.
4- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 112-113.
الباب الثاني: خلاف العلماء المعاصرين في حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء(3/214)
اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة اختلافاً كبيراً فمنهم من يرى جواز هذا العقد ومنهم من يرى أن هذا العقد باطل ويحرم التعامل به ولكل من الفريقين وجهته وسنستعرض أدلة الفريقين باختصار ونصل إلى القول الراجح إن شاء الله بعد دراسة أدلة الفريقين والردود عليها:
الفصل الأول:القائلون بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء مع كون الوعد ملزماً للمتعاقدين ( القول الأول ):
المطلب الأول : أسماء القائلون بالجواز
قال بهذا الرأي جماعة من فقهاء العصر منهم:
1- د. سامي حمود في كتابه تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الاسلامية(1).
2- د. يوسف القرضاوي في كتابه بيع المرابحة للأمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية(2).
3- د. علي أحمد السالوس في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء نظرات في التطبيق العملي(3).
4- د. الصديق محمد الأمين الضرير في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء(4).
5- د. ابراهيم فاضل الدبو في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء دراسة مقارنة(5).
6- الشيخ محمد علي التسخيري في بحثه بعنوان نظرة الى عقد المرابحة للآمر بالشراء(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ص 430.
2- نشرته مكتبة وهبة في طبعته الثانية سنة 1407هـ - 1987م.
3- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1059.
4- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 991.
5- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1003.
6- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1181.
المطلب الثاني أدلة القائلون بالجواز
احتج هذا الفريق من أهل العلم بأدلة منها:
الأول: الأصل في المعاملات الإباحة:" إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده ولا أقول هنا ما قاله البعض من ضرورة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة ففي الأحكام الفرعية العملية يكفينا النص الصحيح الصريح.
وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله. فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع. وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المحرم والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً"(1).
" ومما ينبغي تأكيده هنا: أن الاتجاه التشريعي في القرآن والسنة هو الميل إلى تقليل المحرمات وتضييق دائرتها تخفيفاً على المكلفين ولهذا كرهت كثرة الأسئلة في زمن الوحي لما قد يؤدي إليه من كثرة التكليفات وهو ما يشير إليه قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم)(2)
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم) كما في حديث أبي هريرة رضى الله عنه (3) وقوله: (إن أعظم المسلمين على المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته). كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه (4) فلا ينبغي أن نخالف هذا الاتجاه القرآني والنبوي بتكثير المحرمات وتوسيع دائرة الممنوعات)(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 13
(2) سورة المائدة آية 101
(3) مسلم 2/975 البخاري 6/2658
(4) مسلم 4/ 1831
(5) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 14-15.
الثاني: عموم النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على حل جميع أنواع البيع إلا ما استثناه الدليل الخاص.
قال د. يوسف القرضاوي: (إن البيع خاصة جاء في حله نص صريح من كتاب الله تعالى يرد به على اليهود الذين زعموا أن الربا كالبيع أو البيع كالربا لا فرق بينهما. (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا). فهذه الجملة القرآنية (وأحل الله البيع) تفيد حل كل أنواع البيع سواء كان عيناً بعين (المقايضة) أم ثمناً بثمن (الصرف) أو ثمنا بعين (السلم) أو عينا بثمن (هو البيع المطلق). وسواء كان حالاً أم مؤجلاً نافذاً أو موقوفاً. وسواء كان بيعا بطريق المساومة أم بطريق الأمانة وهو يشمل: المرابحة (وهو البيع بزيادة على الثمن الأول) والتولية (وهو البيع بالثمن الأول) والوضيعة (وهو البيع بأنقص من الثمن الأول)، أو بطريق المزايدة.
فهذه كلها وغيرها حلال لأنها من البيع الذي أحله الله تعالى: ولا يحرم من البيوع إلا ما حرمه الله ورسوله بنص محكم لا شبهة فيه.
وأنقل هنا كلمة قوية لأبن حزم في (المحلي ) قال في المسألة 1501: (والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة: وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً وكذلك المساومة أيضا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) (الأنعام 119) فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن اذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام او حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة وما عدا هذين فليس فرضا ولا حراماً فهو بالضرورة حلال إذ ليس هنالك قسم رابع.
وهذا الذي قاله ابن حزم - في حل ما لم يفصل لنا تحريمه من البيوع - مقرر في جميع المذاهب.
فعند المالكية نجد العلامة ابن رشد الجد في كتابه "المقدمات" يقول:"البيوع الجائزة هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي لأن الله تعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه في غير ما آية من كتابه. من ذلك قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)... ولفظ البيع عام لأن الإسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام صار من ألفاظ العموم.. واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه إلا أن يأتي ما يخصه فإن خص منه شيء بقي ما بعد المخصوص على عمومه أيضاً. فيندرج تحت قوله تعالى: (وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل... فبقي ما عداها على أصل الإباحة".
وعند الحنفية - نجد صاحب الهداية يقول في باب المرابحة والتولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح. قال: والبيعان جائزان لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة الى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج الى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما ولهذا كان مبناهما على الأمانة.. إلخ.
وهنا يعلق محقق الحنفية الكمال بن الهمام على استدلال صاحب الهداية فيقول: ولا يخفى أنه لا يحتاج الى دليل خاص لجوازها بعد الدليل المثبت لجواز البيع مطلقاً بما تراضيا عليه بعد أن لا يخل بما علم شرطاً للصحة بل دليل شرعية البيع مطلقاً بشروطه المعلومة هو دليل جوازها...".(3/215)
وقال الإمام الشافعي في كتابه "الأم" تفريعا على قول الله (وأحل الله البيع):فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر (أي التصرف ) فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله e منها. وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه يداخل في المعنى المنهي عنه. وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى".
هذا أظهر الأقوال وأصحها في معنى الآية كما ذكر النووي فلفظ البيع في الآية لفظ عموم يتناول كل بيع ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل واستدل لذلك صاحب الحاوي (الماوردي) بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز فدل على أن الآية الكريمة تناولت إباحة جميع البيوع إلا ما خص منها وبين صلى الله عليه وسلم المخصوص.
وعند الحنابلة نجد شيخ الاسلام ابن تيمية يؤكد: "أن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله مثل أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر. .
ثم يقول: والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها الى الله ما دل الكتاب والسنة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 15-18.
الثالث: النصوص الواردة عن بعض الفقهاء في إجازة هذا العقد وأهم هذه النصوص ما يلي:
جاء في كتاب الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني قال: "قلت: أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراَ بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها فتبقى في يد المأمور كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ويقبضها ويجيء الآمر ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم فيقول المأمور: هي لك بذلك فيكون ذلك للآمر لازما ويكون استيجابا من المأمور للمشتري: أي ولا يقل المأمور مبتدئاً بعتك إياها بألف ومائة لأن خياره يسقط بذلك فيفقد حقه في إعادة البيت الى بائعه وان لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك"(1).
و قال العلامة ابن القيم: "رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار - أو هذه السلعة من فلان - بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن
يشترط له خياراً أنقص من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه"(2).
الرابع: المعاملات مبنية على مراعاة العلل والمصالح:
إن الشرع لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم وهو أساس تحريم الربا والاحتكار والغش ونحوها . أو خشي منه أن يؤدي الى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم الميسر والغرر.فالمنع في هذه الأمور ليس تعبدياً بل هو معلل ومفهوم وإذا فهمت العلة فإن الحكم يدور معها وجوداً وعدماً. وهذا هو الأصل في باب المعاملات بخلاف باب العبادات فالأصل فيه التعبد وامتثال المكلف لما هو مطلوب منه دون بحث عن العلة أو المصلحة. وبناء على أن الأصل في المعاملات النظر الى المصلحة رأينا بعض فقهاء التابعين قد أجازوا التسعير مع ما ورد فيه من الحديث إلتفاتا إلى العلة والمقصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرابحة للآمر بالشراء د. بكر أبو زيد. مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص978-979.
(2) إعلام الموقعين 4/29.
ومثل ذلك إجازتهم عقد الاستصناع مع أنه بيع معدوم نظراً لحاجة الناس إليه وجريان العمل به وقلة النزاع فيه.(1)
الخامس: إن القول بجواز هذه المعاملة فيه تيسير على الناس ومن المعلوم أن الشريعة الاسلامية قد جاءت برفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم وقد تضافرت النصوص الشرعية على ذلك فمنها قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (2).
وقوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم} (3)
وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (4).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" رواه البخاري وغيره.
وقوله عليه الصلاة والسلام: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري وغيره.
وإن جمهور اناس في عصرنا أحوج ما يكونون الى التيسير والرفق رعاية لظروفهم وما غلب على أكثرهم من رقة الدين وضعف اليقين وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم والمعوقات عن الخير. ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسروا عليهم في مسائل الفروع على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 18.
(2) سورة النساء آية 28.
(3) سورة البقرة آية 185.
(4) سورة الحج آية 78.
الفصل الثاني: القائلون بتحريم بيع المرابحة للآمر بالشراء وبأنه عقد باطل إذا كان الوعد ملزماً للمتعاقدين ( القول الثاني )
المطلب الأول : أسماء القائلون بالتحريم
وقال بهذا القول كلاً من:
1- د. محمد سليمان الأشقر في كتابه (بيع المرابحة كما تجريه المصارف الاسلامية)(1).
2- د. بكر بن عبد الله أبو زيد في بحثه بعنوان (المرابحة للآمر بالشراء بيع المواعدة)(2).
3- د. رفيق المصري في بحثه (بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الاسلامية )(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نشرت الطبعة الثانية منه دار النفائس - عمان الأردن سنة 1415-1995.
2- نشرته مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج2 ص965.
3- نشرته مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج2 ص 1127.
المطلب الثاني : أدلة القائلون بالتحريم :
احتج هذا الفريق من أهل العلم بأدلة على بطلان هذا البيع وحرمته من ذلك:
الأول: أنه منهي عنه شرعاً لأنه يعتبر من باب بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عندك:
قال د. محمد الأشقر: (فإذا جرى الاتفاق على هذا - بيع المرابحة للآمر بالشراء- فهو عقد باطل وحرام لأسباب: إن البنك باع للعميل ما لم يملك "وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض" وقد اشار الى هذه العلة في بطلان هذا النوع من البيع الإمام الشافعي في كتابه الأم.. واشار له ابن عبد البر من المالكية... وصاحب المغني من الحنابلة...)(1).
الثاني: إن هذا العقد باطل لأنه من باب البيع المعلق (أنه باع بيعاً مطلقاً أي لأنه قال للبنك إن اشترتموها اشتريتها منكم وقد صرح بالتعليل للبطلان بهذه العلة الإمام الشافعي.. وابن رشد من المالكية.. حيث قال: "لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور)(2).(3/216)
الثالث: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء من باب الحيلة على الإقراض بالربا وقد اشار الى هذه العلة المالكية كقول ابن عبد البر في الكافي: (معناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة مثال ذلك: أن يطلب رجل من آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة وهو يعلم انها ليست عنده ويقول له: واصل تعليل الفساد بهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه البخاري: "أنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مرجأ"(1).
أشترها من مالكها بعشرة وهي علي باثني عشر إلى أجل كذا. فهذا لا يجوز لما ذكرنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. محمد الأشقر ص 7-8.
2- بيع المرابحة د. محمد الأشقر ص 8.
3ـ بيع المرابحة د. محمد الأشقر ص 8.
الرابع: إن هذه المعاملة تدخل في باب بيع العينة المنهي عنه وبيع العينة هو الذي يكون قصد المشتري فيه الحصول على العين أي النقد وليس الحصول على السلعة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(1).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن قصد العميل من العملية هو الحصول على النقود وكذلك المصرف فإن قصده الحصول على الربح فهي إذن ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال. والمصرف لم يشتر هذه السلعة إلا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري وليس له قصد في شرائها"(2).
الخامس: إن هذه المعاملة تدخل ضمن بيع الكاليء بالكاليء أي الدين بالدين وورد النهي عنه شرعاً لما روي في الحديث عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالىء بالكالىء"(3
قال د. رفيق المصري: (بيع المرابحة مع الملزم يفضي إلى بيع مؤجل البدلين.. فلا المصرف يسلم السلعة في الحال ولا العميل يسلم الثمن وهذا ابتداءً الدين بالدين أو الكالىء بالكالىء الذي أجمع الفقهاء على النهي عنه مع ضعف الحديث الوارد فيه)(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. رواه أبو داود والبيهقي انظر عون المعبود 9/240 سنن البيهقي 5/316، 44 وقال الحافظ ابن حجر: صححه ابن القطان بعد أن أخرجه من الزهد التلخيص الحبير 3/19 وقال الشيخ الألباني: (وهو حديث صحيح لمجموع طرقه..) السلسلة الصحيحة 1/15.
2. بيع المرابحة أحمد ملحم ص 128
3. رواه الدارقطني والحاكم
(4)بيع المرابحة د. رفيق المصري 61.
السادس: إن هذه المعاملة تدخل ضمن عقدين في عقد (بيعتين في بيعة) فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة(1).. فالمواعدة إذا لم تكن ملزمة للطرفين لم يكن ثمة بيعتان في بيعة لكنها إذا صارت ملزمة صارت عقداً بعد أن كانت وعداً وكان هناك بيعتان في بيعة. فالبيعة الأولى بين المصرف وعميله المشتري والثانية بين المصرف والبائع(2).
السابع: قالوا: إن هذه المعاملة لم يقل بإباحتها فقهاء الأمة بل وجد من قال بحرمتها(3).
الثامن: قالوا: إن هذه المعاملة مبنية على القول بوجوب الوفاء بالوعد ونحن نأخذ بقول الجمهور القائلين بأن الوفاء بالوعد مستحب وليس واجباً وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية لذا لا يقضى به على الواعد لكن الواعد إذا ترك الوفاء فقد فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية ولكن لا يأثم(4).
هذه اهم الأدلة التي ساقها هؤلاء العلماء على قولهم ببطلان بيع المرابحة للآمر بالشراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه النسائي والترمذي والبيهقي انظر صحيح سنن النسائي 3/958 صحيح سنن الترمذي 2/8 سنن البيهقي 5/343 وقال الشيخ الألباني إنه حديث حسن ارواء الغليل 5/149-150
(2) بيع المرابحة د. رفيق المصري 96-97.
(3) بيع المرابحة للقرضاوي ص 32.
(4) قواعد الوعد الملزمة د. العاني ص 761 مجلة المجمع الفقهي عدد 5 ج 2.
الفصل الثالث : مناقشة أدلة القولين وبيان الراجح منها :
المطلب الأول : مناقشة أدلة القولين
وقد نوقشت أدلة الفريقين بمناقشات من ذلك :
1- لا ريب أن إستدلال المجيزين بعموم النصوص الدالة على حل جميع أنواع البيع وأن بيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل ضمن ذلك إستدلال وجيه ويمكن الإعتماد عليه في الحكم على المعاملة بالجواز لما يلي:
1 ـ إن العمومات المذكورة تفيد حل جميع أنواع البيوع لأن هذه النصوص عامة والعام يشمل حكمه جميع أفراده إلا أن يخصص فإن خصص بقي ما لم يدخله التخصيص على أصل الإباحة. وبيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل في هذا العموم.
2- إن قول المانعين بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء من بيوع العينة المحرمة لا يعتبر تخصيصاً لعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) لأن جعل المرابحة من بيوع العينة اجتهاد من قائله اعتمد فيه على سد ذريعة الفساد وهذا الاجتهاد ظني والآية القرآنية قطعية والظني لا يخصص القطعي كما أن الاجتهاد لا يعد من مخصصات العام.
ويؤيد ذلك ما قاله ابن حزم (وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن) ويؤيده ايضا ما قاله ابن الهمام (ولا يخفى أنه لا يحتاج الى دليل خاص لجوازها - المرابحة - بعد الدليل المثبت لجواز البيع قطعا).
وما قاله الامام الشافعي : فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر - التصرف - فيما تبايعاه إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى) فهذه الأقوال وإن ذكرها الفقهاء في معرض الإستدلال على مشروعية المرابحة البسيطة التي كانت معروفة عندهم إلا انه يمكن الإستدلال بها على مشروعية المرابحة للآمر بالشراء لأن تلك أصل لهذه(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 154- 155 بتصرف.
3- إن اعتراض المانعين باحتجاج المجيزين لاجازة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن فيه تيسيرا على الناس بقولهم: إن التيسير يحسنه كل أحد وكذلك التشديد يحسنه كل أحد فلا غرض للباحث الأمين في أحد منهما فالتيسير يلغي الشريعة فلا تبقى منها الا الراية أو الشعار والتشديد يمنع تطبيقها انما الفقه الرصين في الضبط والدقة وفي إصدار الحكم باليقين أو بالترجيح أو بالشك تحليلا أو تحريما حسب قوة الأدلة وضعفها وحسب نعومة الفقيه أو إغضائه والباحث الدقيق ليست عنده عدة جاهزة للتيسير إذا أراد وعدة أخرى للتعسير كما أنه لا يرضى بأي رأي يعثر عليه لفقيه قد يكون معناه مراداً لصاحبه أو متوهماً لقارئه نعم لا بأس أن تختار رأي فقيه ما ولو كان رأيه مخالفاً لرأي الجمهور لكن لا لمجرد الرغبة في التيسير أو التعسير ولا بد من مواجهة أدلة الجمهور ومن أن تظهر قدرتك على الدفاع عن الرأي الذي اخترت فهذا يباعدنا عن مخاطر التلفيق المطلق بلا قيود)(1).(3/217)
إن كلام المانعين غير مسلم لأن التيسير موافق لاتجاه الشريعة وخصوصاً في المعاملات التي قرر المحققون من العلماء أن الأصل فيها الأذن إلا ما جاء نص صريح بمنعه فيوقف عنده فمن يسر فهو في خط الشريعة واتجاه سيرها وهو ممتثل للتوجيه النبوي الكريم "يسروا ولا تعسروا" وأنه إذا وجد رأيان في المسألة الواحدة أحدهما أحوط والآخر أيسر فإننا نؤثر أن نفتي الناس بالأيسر ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما(2).
وبيع المرابحة للآمر بالشراء عند القائلين بجوازه يعتمد على إجتهادات لأهل العلم وأدلتهم وجيهة وقوية ويترتب على القول بالجواز مصلحة ظاهرة وهذا من التيسير المشروع الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4- إن قول المانعين بأن هذه المعاملة داخلة في بيع العينة غير مسلم لأن العينة التي ورد النهي عنها هي: أن يبيع شيئا الى غيره بثمن معين (مئة وعشرين دينارا مثلا). إلى اجل (سنة مثلا) ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر (مئة مثلا) يدفعه نقداً فالنتيجة أنه سلمه مئة ليتسلمها عند الأجل مئة وعشرين(3) "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيع المرابحة د القرضاوي ص 100.
(2) بيع المرابحة د القرضاوي ص 115/116.
(3) بيع المرابحة د القرضاوي ص 45.
ومن المؤكد أن صورة المعاملة التي سميت "بيع المرابحة" والتي تجريها المصارف الاسلامية والتي أفتت فيها هيئات الرقابة(2) الشرعية بالجواز - ليست من هذه الصورة الممنوعة في شيء. إذ من الواضح أن العميل الذي يجيء الى المصرف طالباً شراء سلعة معينة يريد هذه السلعة بالفعل، كالطبيب الذي يريد أجهزة لمستشفاه، أو صاحب المصنع الذي يريد ماكينات لمصنعه وغير هذا وذاك حتى إنهم ليحددون مواصفات السلعة (بالكتالوج) ويحددون مصادر صنعها أو بيعها.. فالسلعة مطلوب شراؤها لهم بيقين. والمصرف يشتريها بالفعل، ويساوم عليها، وقد يشتريها بثمن أقل
مما طلبه العميل ورضي به، كما حدث هذا بالفعل، ثم يبيعها للعميل الذي طلب الشراء ووعد به، كما يفعل أي تاجر، فإن التاجر يشتري ليبيع لغيره، وقد يشتري سلعاً معينة بناء على طلب بعض عملائه. وإذن يكون إدعاء أن هذا النوع من البيع هو من العينة التي شرحها إبن القيم رحمه الله والتي لا يقصد فيها بيع ولا شراء، ،إدعاء مرفوضاً ولا دليل عليه من الواقع(1).
5- إن قول المانعين بأن هذه المعاملة تقع ضمن بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عندك قول فيه نظر، لأن المصارف الاسلامية التي تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء لا تقع في النهي الوارد عن بيع ما ليس عند الانسان لأنها غالباً تعتمد نموذجين أحدهما للمواعدة والآخر للمرابحة فهي توقع مع العميل على نموذج المواعدة أولاً وبعد ذلك يقوم المصرف بشراء السلعة الموصوفة ثم بيعها للعميل ويوقع مع العميل النموذج الثاني وهو عقد بيع المرابحة وفق الشروط المتفق عليها في المواعدة(2) والمواعدة الحاصلة بين المصرف وطالب الشراء ليست بيعاً ولا شراء وانما مجرد وعد لازم للطرفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة للقرضاوي ص 46-47.
2- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 196.
المطلب الثاني : بيان القول الراجح:
بعد النظر في أدلة الفريقين والاعتراضات التي أوردت على تلك الأدلة والردود عليها يظهر لي رجحان قول المجيزين لبيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام بالوعد لكل من المصرف والعميل وأنه عقد صحيح يتفق مع القواعد العامة للعقود في الشريعة الاسلامية. لا سيما مع وجود الفتاوي الصادرة من المجامع الفقهية كما سيأتي .
الباب الثالث : الفتاوى الصادرة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء:
ناقش العلماء المعاصرون بيع المرابحة للآمر بالشراء وأصدروا فتاوى في المسألة من تلك الفتاوي:
1- الفتوى الصادرة عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي المنعقد في دبي في المدة من 23-25 جمادى الثانية 1399هـ
( يطلب المتعامل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي يشتريها به المصرف وكذلك الثمن الذي يشتريها به المتعامل مع البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما.)
التوصية :يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعداً من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها ووعداً آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقاً لذات الشروط.إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقاً لأحكام المذهب المالكي وملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء اذا إقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه"(1)
2- الفتوى الصادرة عن المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت في المدة ما بين 6-8 جمادى الآخرة عام 1403هـ: مسألة : الوعد بالشراء جائز شرعاً:
يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أم جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي وأما بالنسبةللوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.(2)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية ص 19-20، بنك دبي الاسلامي.
(2) فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية 32 ـ33
3- الفتوى الصادرة عن الشيخ بدر المتولي عبد الباسط المستشار الشرعي لبيت التمويل الكويتي وقد كانت جواباً على السؤال التالي:
نرجو افتاءنا في مدى جواز قيامنا بشراء السلع والبضائع نقداً بناء على رغبة ووعد من شخص ما بأنه مستعد - إذا ما ملكنا السلعة وقبضناها- أن يشتريها منا بالأجل وبأسعار أعلى من اسعارها النقدية.
ومثال ذلك: أن يرغب أحد الأشخاص في شراء سلعة أو بضاعة معينة لكنه لا يستطيع دفع ثمنها نقداً فنعتقد بأنه إذا اشتريناها وقبضناها سوف يشتريها منا بالأجل مقابل ربح معين مشار إليه في وعده السابق.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن ما صدر من طالب الشراء يعتبر وعداً ونظراً لأن الأئمة قد اختلفوا في هذا الوعد هل هو ملزم أم لا فإني أميل إلى الأخذ برأي ابن شبرمة رضي الله عنه الذي يقول إن كل وعد بالتزام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً يكون وعداً ملزماً قضاء وديانة وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس والعمل به يضبط المعاملات لهذا ليس هناك مانع من تنفيذ مثل هذا الشرط(1).
4- الفتوى الصادرة عن الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لأدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية حيث وجه إليه السؤال التالي بتاريخ 16 جمادى الآخر 1402 هـ الموافق 10 نيسان سنة 1982.
السؤال:
إذا رغب عميل البنك الإسلامي شراء بضاعة ما تكلفتها ألف ريال سعودي وأراها البنك الإسلامي أو وصفها له ووعده بشرائها منه مرابحة بالأجل لمدة سنة بربح قدره مائة ريال سعودي(3/218)
لتكون القيمة الكلية ألف ومائة ريال سعودي وذلك بعد أن يشتريها البنك من مالكها بدون إلزام العميل بتنفيذ وعده المذكور أو المكتوب.. فما رأيكم في هذه المعاملة. وجزاكم الله خيرا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية 1/16
أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز بما يلي:
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر في السؤال فلا حرج في المعاملة المذكورة إذا استقر المبيع في ملك البنك الإسلامي وحازه إليه من ملك بائعه لعموم الأدلة الشرعية. وفق الله الجميع لما يرضيه(1)
5- قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 الى 6 جمادي الأولى 1409 ونصه:
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي : (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما قرر:
أولاً: ان بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعاً هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانيا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر. وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو احدهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه. حيث يشترط عندئذ ان يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.
ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية أتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 11-12 ، بيع المرابحة د. الأشقر ص 52.
ويوصي بما يلي:
أولاً: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما انشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء(1).
6 ـ قرار مجمع الفقه الإسلامي الدورة الخامسة قرار رقم ( 3,2 )
بعد الاطلاع على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع ( بيع المرابحة للآمر بالشراء ) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما
قرر :
أولا : أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعا هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه
ويوصي : بأنه في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء بالتالي : -
أولا : أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى
ثانيا : أن تدرس الحالات العملية لتطبيق ( المرابحة للآمر بالشراء ) لدى المصارف الإسلامية لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة بيع المرابحة للآمر بالشراء ( 2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 جزء 2 ص1599-1600.
(2) شبكة موقع الإسلام الفتاوي الاقتصادية
7 ـ قرار ( الهيئة الشرعية ) بشركة الراجحي المصرفية للاستثمار رقم ( 30 )
السؤال
نرجو إبداء الرأي الشرعي حول تعامل الشركة في المرابحة في البضائع الدولية الذي يتلخص فيما يلي :
أولا : يتقدم عميل لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار يطلب أن تشتري شركة الراجحي بضائع معلومة محددة المواصفات بالسعر المعلن لهذه البضائع عالميا وبعد ذلك تقوم الشركة ببيعها للعميل ( طالب الشراء ) على أن يدفع الثمن مؤجلا بتاريخ معين
ثانيا : تقوم شركة الراجحي بشراء البضاعة المعنية من بنك استثماري يتعامل ببيع وشراء هذه البضائع وتدفع له القيمة ويقوم البنك الاستثماري بتسجيل هذه البضائع لحساب شركة الراجحي ويبلغها بذلك بالتلكس
ثالثا : تقوم شركة الراجحي بعد ذلك ببيع هذه البضائع للعميل ( طالب الشراء ) ثم تطلب من البنك الاستثماري تحويل ملكية هذه البضائع لديه من ملكيتها إلى ملكية العميل ( طالب الشراء )
رابعا : يقوم العميل ( طالب الشراء ) بتسديد قيمة هذه البضائع إلى شركة الراجحي في موعد مؤجل ؟
الجواب :
لا ترى الهيئة مانعا أن تستثمر الشركة أموالها من خلال هذه المعاملة بشرط أن تكون تلك البضائع موجودة فعلا في مستودعات البنك الاستثماري وتقيد باسم شركة الراجحي ويزود البنك الشركة بشهادة من مستودعاته تثبت وجود البضائع في مستودعاته وملكيتها للراجحي في تاريخ انعقاد الصفقة على أن يكون تعامل الشركة في هذه المعاملة بصفة
مؤقتة ريثما تستكمل استثمار أموالها بطرق وعقود أقرب إلى السلامة الشرعية من هذه المعاملة (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع الإسلام الفتاوي الاقتصادية
الخاتمة
الحمد لله الذي تتم به الصالحات والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحبه أجمعين
فقد تم هذا البحث الذي حول نوع من أنواع البيع المعاصرة ( بيع المرابحة ) وقد خرجت بنتائج منها :
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تتعامل به المصارف الإسلامية بيع صحيح مشروع على الراجح من أقوال أهل العلم.
2- إن اتباع الخطوات الصحيحة لبيع المرابحة للآمر بالشراء يعصم من الوقوع في الزلل والخطأ ويبعد المتعاملين عن الشبهات كما في الفتاوى الملحقة .
3- المطلوب من المصارف الإسلامية توسيع دائرة نشاطها واستعمال أساليب الاستثمار الجائزة شرعاً كبيع المرابحة للآمر بالشراء .
4- المطلوب من القائمين على المصارف الإسلامية أن يفكروا بعقلية التاجر المسلم ولا يفكروا بعقلية الممول فحسب فينظروا الى قيمة الربح السريع وتجنب المخاطر لأن التجارة فيها نوع من المخاطرة.
5- عند تقدير ارباح المصرف في أي عقد من العقود لا بد أن يتلاءم الربح مع درجة المخاطرة مع مراعاة أحوال الناس بحيث لا يكون هناك إجحاف لا في حق الزبائن ولا في حق المصرف .
7- ما دام ان المصرف قد اعتمدت النظام الاسلامي في معاملاتها فلا بد أن ينعكس ذلك بصورة إيجابية على تعاملها مع الناس وعلى واقعها بكل جزئياته حتى يكون الالتزام بأحكام الشرع الحنيف في الأقوال والأعمال.
والله الهادي الى سواء السبيل.
المراجع مرتبة حسب حروف المعجم
* القرآن الكريم
1- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى ، المكتب الاسلامي بيروت.(3/219)
2- أعلام الموقعين عن رب العالمين. لأبي عبد الله محمد المعروف بإبن القيم، مراجعة طه عبد الرؤوف سعد، طبع دار الجيل، بيروت 1973.
3- أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للشيخ قاسم القونوي، تحقيق د. احمد الكبيسي، الطبعة الثانية، نشر دار الوفاء للنشر والتوزيع ، جدة-السعودية.
4- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. لأبي الوليد محمد بن احمد المعروف بإبن رشد الحفيد، طبعة دار الفكر ومكتبة الخانجي.
5- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الاسلامية.د. محمد الاشقر، الطبعة الثانية1415-1995 نشر دار النفائس-عمان.
6- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية د. يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية 1407-1987، نشر مكتبة وهبة القاهرة.
7- بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الاسلامية. د. رفيق يونس المصري، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
8- بيع المرابحة للآمر بالشراء، د. سامي حسن حمود، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
9- بيع المرابحة وتطبيقاتها في المصارف الاسلامية . احمد سالم ملحم، الطبعة الاولى 1410-1989. نشر مكتبة الرسالة الحديثة -عمان.
10- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الاسلامية. د. سامي حسن حمود، الطبعة الثانية 1402-1982 مطبعة الشرق- عمان.
11- التعريفات. لأبي الحسن علي بن محمد الجرجاني، طبعة الدار التونسية للنشر 1971.
12- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبعة عبد الله هاشم المدني 1384-1964.
13- الحاوي الكبير لأبي الحسن الماوردي . تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود، الطبعة الأولى 1414-1994.دار الكتب العلمية بيروت.
14- سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1399-1979، المكتب الاسلامي بيروت.
15- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار. لمحمد بن علي الشوكاني، الطبعة الاولى ، دار الكتب العلمية.
16- سنن البيهقي. لأبي بكر احمد بن الحسين البيهقي، طبعة دار الفكر بيروت.
33- الصحاح. لاسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1399-1979 دار العلم للملايين بيروت.
17- صحيح ابن حبان (الاحسان) تحقيق شعيب الارناؤوط، الطبعة الأولى 1408-1988، مؤسسة الرسالة بيروت.
18- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1378-1951 القاهرة.
19- صحيح سنن أبي داود. لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
20- صحيح سنن الترمذي. لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
21- صحيح سنن النسائي، لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
22- صحيح مسلم بهامش شرح النووي. طبعة دار الخير، الطبعة الاولى 1414-1994.
23- عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب شمس الحق العظيم ابادي، الطبعة الاولى 1410-1990 دار الكتب العلمية- بيروت.
24- فتاوى اسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز وآخرون، الطبعة الاولى 1408-1988، دار القلم -بيروت.
25- فتاوى شرعية في الاعمال المصرفية. صادرة عن بيت التمويل الكويتي، الطبعة الثانية 1406-1986. من مطبوعات بنك دبي الاسلامي.
26- الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية صادرة عن بيت التمويل الكويتي الطبعة الثانية 1406-1986.
27- الفقه الاسلامي وأدلته. د . وهبه الزحيلي، الطبعة الثانية 1405-1985، دار الفكر - دمشق.
28- قواعد الوعد الملزمة في الشريعة والقانون. د. محمد رضا العاني، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
29- لسان العرب. لأبن منظور، دار إحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1408-1988.
30- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لعلي بن ابي بكر الهيثمي، الطبعة الثالثة 1402-1982.دار الكتاب العربي- بيروت.
31- مجلة مجمع الفقه الاسلامي من منشورات منظمة المؤتمر الاسلامي جدة.
32-المرابحة للآمر بالشراء. د. ابراهيم الدبو، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
33- المرابحة للآمر بالشراء. د. بكر أبو زيد، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
34- المرابحة للآمر بالشراء. د. الصديق محمد الأمين الضرير بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
35- المرابحة للآمر بالشراء. د. علي السالوس، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
36- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي. لأحمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية - بيروت.
37- المغني. لأبن قدامة المقدسي، نشر مكتبة القاهرة سنة 1388-1968.
38- المهذب لأبي اسحاق الشيرازي، دار الفكر (مع المجموع).
39-الموسوعة الفقهية. تصدرها وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية الكويتية، الطبعة الثانية 1412-1992 طباعة ذات السلاسل -الكويت.
40 ـ موقع الإسلام على الشبكة العالمية ( الإنترنت) الفتاوي الاقتصادية
42- نظرة الى عقد المرابحة. محمد علي التسخيري بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
43 - الهداية شرح بداية المبتدي. برهان الدين المرغيناني، دار التراث العربي- بيروت.
محبكم
علي بن عبدالعزيز الراجحي
=============
عقوبات الذنوب
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله قاضي الأمور ، شافي الصدور ، المجير بين البحور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الرحيم الغفور ، العزيز الشكور ، المنقذ من فتنة القبور ، والمستجار به يوم البعث والنشور ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى طريق العبور ، المحذر من سبل الشرور ، وطرق الغفلة والغرور ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الدثور والأجور ، أما بعد :
فهذه أسطر كتبتها ، وكلمات قلتها ، تذكرة لي خاصة ، ولإخواني المسلمين عامة ، أذكِّر فيها بخطورة الذنوب ، وعواقب صدأ القلوب ، وأثرها على العبد في الدنيا والآخرة ، لعل فيها عبرة وآية ، راجياً من الله فضلها ، ثم الدعاء لي ممن اطلع عليها ، أو سمع بها ، وأوسمتها بـ[ عقوبات الذنوب ] ، وما سيُقرأ هو ما كتبت ، إني أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله عليه وتوكلت ، والله الموفق والمسدد ، والهادي إلى السبيل الممهد .
أقسام العقوبات :
عقوبات الذنوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأولى / عقوبات في الدنيا :
كمن يتعامل بالربا ، أو الزنا واللواط ، أو الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، أو شهادة الزور ، أو ظلم الناس ، أو عقوق الوالدين ، أو الغيبة والنميمة ، أو سب الصالحين ، أو غير ذلك من أنواع الكبائر والجرائم .
ولقد شهدت الكتب قديماً وحديثاً ، ولمس الناس اليوم حقيقة عقوبات الذنوب والمعاصي ، فكل ذلك مسطر في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ، ثم يوم القيامة يقول الله تعالى للمذنبين المقصرين الذين نسوا كتابة الأعمال ، وإحصاء الأقوال ، يقول لهم سبحانه : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " ، ويقول لهم سبحانه : " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " .(3/220)
ألا وإن من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى ، عقوق الوالدين الذين يجب برهما ، وقطع صلة الرحم التي يجب أن توصل ، فقد أخرج الشيخان من حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ ، وَمَنَعَ وَهَاتِ ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] .
وعن أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ " [ متفق عليه ] .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ ، وَالدَّيُّوثُ ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " [ أخرجه النسائي واللفظ له ، وأحمد ] .
فانظروا كيف كان عقوق الوالدين سبباً للحرمان من الجنة ، وطريقاً ممهداً إلى النار والعياذ بالله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتِ الرَّحِمُ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ : فَهُوَ لَكِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
وبما أن العقوق والقطيعة من كبائر الذنوب ، فلقد رتب الشارع الكريم على من فعل ذلك ، العذاب والنكال في دور الحياة الثلاثة ، في الدنيا والقبر والآخرة ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ " [ أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، وأحمد ، والترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
أقسام عقوبات الدنيا :
تنقسم عقوبات الدنيا إلى قسمين :
الأولى / عقوبات عاجلة :
وكم هي القصص والوقائع التي تثبت ذلك ، فآكل الربا ربما فقد أبناءه ، وزوجاته ، وماله في حياته عقوبة وراء عقوبة ، معجلة له ، مع ما يُدخر له من العذاب في قبره ويوم القيامة ، قال تعالى : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ، وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " .
ومن عقوبات الذنوب المعجلة ، عقوبة الزنا ، فمن فعل الفاحشة بأعراض الناس ، فعل بأهله الزنا والعياذ بالله ، وقصة السقا المشهورة من أعظم الدلائل على ذلك ، والواقع مشحون بالبراهين الدامغة ، فنسأل الله السلامة والعافية من جميع الذنوب والمعاصي ، ما صغر منها وما عظم .
الثانية / عقوبات آجلة :
كم من الناس الذين مضوا ممن وقعوا في الذنوب والمعاصي ، ثم عوقبوا عليها ، وكان العقاب متأخراً ، فمنهم من نسي القرآن بعد أربعين سنة ، ومنهم من انتكس على عقبيه والعياذ بالله .
ويشعر صاحب الذنب ، ومرتكب الإثم بضيق في قلبه ، وحشرجة في صدره ، ويرى وكأن الدنيا أضيق من سم الخياط ـ فتحة الإبرة ـ ويتمنى لو أن الدنيا تبتلعه ، أو لم تلده أمه ، وتحصل له النكبات والخسارة في المال ، والضيق في العيش ، كل ذلك بسبب المعصية ، وتهوين أمرها عند الإقدام عليها ، فهي عقوبات وراء عقوبات ، وتبعات وراء تبعات ، والعاقل من فطن لنسفه وعمل لما بعد الموت ، فاتخذ من هذه الحياة الدنيا ، سلماً يصل به إلى الجنة العالية الغالية ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة ، فشمروا لها ، واستعدوا للقاء بانيها .
وربما اجتمعت تلك العقوبات العاجلة والآجلة على العبد في عمره كله ، فتراه كثير المحن والفتن ، عظيم البلاء والابتلاء ، لا محبة من الله له ، ولكن عقوبة للسيئ من أعماله وأقواله ، نعوذ بالله من غضب الجبار المنتقم سبحانه .
وأما عقوبات القبر والآخرة فلا ريب أنها مؤجلة للعبد لحين انقطاعه من الدنيا وإقباله على الآخرة ، فأول ما يبدأ به الحساب في القبر وهو حياة البرزخ ، وربما بودر بعذابه قبل وضعه في قبره ، كما قرره كثير من العلماء ، لأن العذاب يشعر به البدن والروح ، والناس لا يرون ذلك ولا يشعرون به ، فلله الحكمة البالغة ، وهو القادر على كل شيء .
الثانية / عقوبات في القبر :
القبر وما أدراك ما القبر ، إنه حياة البرزخ ، وفيه تنعم أرواح ، وتعذب أخرى ، حتى قيام الساعة ، ولا شيء أفظع منظراً من القبر ، ولقد بكى الصالحون قديماً وحديثاً عند ذكر القبر ، ولقد كَانَ عُثْمَانُ بن عفان رضي الله عنه ، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي ، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا الْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ " [ أخرجه الترمذي ] .
فعذاب القبر حقيقة لا مراء فيها ، ويشهد لذلك أحاديث كثيرة ، أذكر طرفاً منها للفائدة والعظة ، واتخاذ العبرة :(3/221)
عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، فَيُقَالُ : انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا ، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي ، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ ، فَيُقَالُ : لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ، ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ " [ متفق عليه ] .
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِي اللَّه عَنْهْ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ : " يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا " [ متفق عليه ] .
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا ، وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا ، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ " [ متفق عليه ] .
وعن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ ، وَنَحْنُ مَعَهُ ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ ؟ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، قَالَ : فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ ؟ ، قَالَ : مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا ، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا ، لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ؟ قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ؟ قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ؟ قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ؟ قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ " [ أخرجه مسلم ] .
وما من ذنب ولا معصية يرتكبها العبد في دنياه ثم يموت ولم يتب منها إلا كانت عقوبتها مدخرة له في قبره ، ويوم بعثه ونشره وحشره ، ويصدق ذلك حديث سمرة الذي سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى .
ولشدة عذاب القبر ، ولعظيم فتنته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله منه ، وأمر الأمة وحثها على التعوذ بالله من عذاب القبر دبر كل صلاة .
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " [ متفق عليه ] .
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ ، مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي : إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ ، فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا ، فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ ، فَقَالَ : " صَدَقَتَا ، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا " ، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ ، إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " [ متفق عليه ] .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ، كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ " [ أخرجه البخاري ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ " [ أخرجه مسلم ] ، ولقد كان طاووس رحمه الله وهو من التابعين ، ومن تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما ، كان يأمر ابنه بهذه الكلمات في صلاته ، فإن لم يقلها أمره بإعادة الصلاة ، وما ذاك إلا لأهميتها وفضلها بإذن الله تعالى .(3/222)
ونختم ذلك بحديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ ، وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، بِيضُ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ، قَالَ : فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا ، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، قَالَ : فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ ، فَيَقُولُونَ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، قَالَ : فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينِيَ الْإِسْلَامُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، قَالَ : فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، قَالَ : وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ ، حَسَنُ الثِّيَابِ ، طَيِّبُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي .
قَالَ : وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ ، إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ ـ كساء من القطن والمراد به الكفن ـ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ ، قَالَ : فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ ـ حديدة ذات شعب متفرعة ـ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ ، فَيَقُولُونَ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى ، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ، ثُمَّ قَرَأَ ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ ، هَاهْ ، لَا أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ ، هَاهْ ، لَا أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ ، هَاهْ ، لَا أَدْرِي ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ ، قَبِيحُ الثِّيَابِ ، مُنْتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ : مَنْ أَنْتَ ، فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ " [ أخرجه أحمد ] .
فليحذر المسلم ، وليأخذ الحيطة ، فليس بينه وبين عذاب الله إلا أن يكفر بالله عز وجل ، وأسباب الكفر بالله كثيرة منها :(3/223)
1- ترك الصلاة ، عَنْ جَابِر رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " [ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد ] .
2- الطواف حول القبور والأضرحة ، ممن استحل ذلك ، وطلب المدد من أهلها الأموات .
3- دعاء غير الله تعالى من المخلوقين ، سواءً كانوا أنبياء أو ملائكة أو صالحين أو جناً أو غيرهم ، قال تعالى : " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً " .
4- سب الدين ، أو سب الله تعالى ، أو سب الأنبياء والانتقاص من حقوقهم .
5- اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم ، أكمل من هديه صلى الله عليه وسلم .
6- العمل بالسحر ، لقوله تعالى : " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " .
7- عبادة غير الله تعالى ، كمن يعبد الأصنام أو البقر أو الشمس أو القمر أو غيرها من المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع .
8- إهمال الكتاب والسنة وعدم العمل بهما ، واتخاذ القوانين الوضعية تشريعاً ودستوراً ونبراساً يُعمل به ، ومن اعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في هذا الزمان ، فهو كافر .
9- من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم ، كمن صحح مذهب النصرانية ، أو اليهودية ، أو مذهب الشيعة الإمامية وغيرهم ، ومن ادعى تقريب الأديان فهو كافر ، لأنه لا دين اليوم غير الإسلام ، وجميع الأديان الأخرى باطلة محرفة ، قال تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " ، وقال تعالى : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " .
10- من أبغض شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولو عمل به ، لقوله تعالى : " ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم " .
11- من استباح ما حرم الله ، مما عُلم تحريمه بالضرورة ، كالزنا ، والربا ، والخمر وغيرها ، فهو كافر بإجماع المسلمين .
12- من استهزأ بشيء من دين النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ثوابه ، أو عقابه ، فهو كافر ، لقوله تعالى : " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " .
13- مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، ولو أشار بطرف عينه ، أو أشار بأصبعه على مسلم أو دل عليه فهو كافر ، لقوله تعالى : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " .
14- من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما يفعله جهلة الصوفية ، وغيرهم ، ممن يعتقدون أن بعض أسيادهم وعبادهم ، قد رفعت عنه تكاليف العبادة ، فإذا لم ترفع تكاليف العبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو خير البشر ، وأخشاهم لله ، وأتقاهم لله ، وأنصح الناس لأمته ، وأحب الخلق إلى الله ، فكيف بمن لم يبلغ معشار مبلغه عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " .
15- ترك تعلم الدين بالكلية ، والإعراض عن دين الإسلام لا يتعلمه ولا يعمل به ، قال تعالى : " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون " ولا فرق بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، لقوله تعالى : " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " .
16- الشرك بالله ، قال تعالى : " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " .
نعوذ بالله من أسباب سخطه ، وموارد عقوبته .
أسباب عذاب القبر :
لعذاب القبر أسباب كثيرة ، وبما أن الموضوع في عجالة لا يحتمل الإطالة ، فأشير إلى شيء منها :
1- عدم الاستبراء من البول ، والمشي بين الناس بالنميمة ، ويجمعهما حديث ابْنُِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ ، فسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ : بَلَى ، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ ، وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً ، فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ ، قَالَ : " لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ، أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا " [ متفق عليه ] .
2- النياحة على الميت ، عَنِ الْمُغِيرَةِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ ، يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما ، أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَهْلًا يَا بُنَيَّةُ ، أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " [ متفق عليه ] .
3- الكفر والنفاق ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ ، أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ ، أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ ، وَالْآخَرُ النَّكِيرُ ، فَيَقُولَانِ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ : مَا كَانَ يَقُولُ ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَيَقُولَانِ : قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : نَمْ ، فَيَقُولُ : أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ ، فَيَقُولَانِ : نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ : سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ ، لَا أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ : قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ ، فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ : الْتَئِمِي عَلَيْهِ ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ " [ أخرجه الترمذي ] .(3/224)
4- جملة من الذنوب الكبيرة كالزنا ، والنوم عن الصلاة ، والكذب وغيرها والتي ذكرت في حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ؟ قَالَ : فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ ، إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي ، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ ، فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا ، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى ، قَالَ قُلْتُ لَهُمَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَالَ قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَؤُلَاءِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا مَا هَؤُلَاءِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ قَالَ قَالَا لِي ارْقَ فِيهَا قَالَ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَ قَالَا لَهُمُ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ قَالَ وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالَ قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالَ فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ قَالَ قَالَا لِي هَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالَ قُلْتُ لَهُمَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ قَالَا أَمَّا الْآنَ فَلَا وَأَنْتَ دَاخِلَهُ قَالَ قُلْتُ
لَهُمَا فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ قَالَ قَالَا لِي أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ أَمَّا الرَّجُلُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ قَالَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ " [ أخرجه البخاري ] .
المقصود من ذلك أن كل معصية ، وكل وذنب له عقوبته في القبر ، فنسأل الله تعالى أن يعصمنا من الذنوب ، صغيرها وكبيرها ، وأن يجيرنا من عذاب القبر والنار ، إنه جواد كريم ، وبالإجابة جدير .
ما ينجي من عذاب القبر :
كثيرة هي الأسباب التي تنجي من عذاب القبر ، ولكن أعرض هنا شيئاً منها :(3/225)
1- الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والتمسك بهدي الكتاب والسنة ، وعدم مخالفة أوامرهما ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ : مَا لِلنَّاسِ ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ ، وَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، فَقُلْتُ : آيَةٌ ؟ فَأَشَارَتْ أَيْ : نَعَمْ ، قَالَتْ : فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ ، إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا ، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ ، مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ : مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا ، فَيُقَالُ لَهُ : نَمْ صَالِحًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ " [ متفق عليه ] .
2- الشهادة في سبيل الله تعالى ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ ؟ قَالَ : " كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً " [ أخرجه النسائي ] .
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ] .
3- الرباط في سبيل الله عز وجل ، عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رضي الله عنه يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ ـ لا يكتب له ثواب جديد ـ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ " [ أخرجه الترمذي وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
4- حفظ سورة الملك ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ ، وَأَنَا لَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ الْمَانِعَةُ ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " [ أخرجه الترمذي ] .
الثالثة / عقوبات في الآخرة :
الآخرة دار الفصل والقضاء ، دار الحساب ، دارٌ تنشر فيها الدواوين ، وتتطاير فيها الصحف ، وتفتح فيها السجلات ، ويقضى فيها بين العباد ، فطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ، وطوبى لمن كانت صحائف أعماله خيراً وبراً ، وويل لمن ملئت صحائفه آثاماً وذنوباً ، وظلماً وجوراً .
في دار الآخرة ، دار القرار ، إما قرار في الجنة ، وإما قرار في النار ، هناك حساب بلا عمل ، بعد أن كان الإنسان في هذه الدنيا في عمل بلا حساب ، هناك توزن الأعمال ، فتخف موازين ، وتثقل أخرى ، وآخذ صحيفته باليمين ، فهو من أهل اليمين ـ نسأل الله من فضله العظيم ـ وأخذ صحيفته بشماله ، فهو من أهل الشمال ـ أعاذنا الله منهم ـ رابح وخاسر ، كل يطلع على صحيفة عمله ، قال تعالى : " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " ، في يوم القيامة يأتي الشهود العدول :
فتشهد الأرض على من فعل عليها المعصية ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، تَقُولُ عَمِلَ يَوْمَ كَذَا ، كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا " [ أخرجه أحمد والترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ] .
ويشهد الملكان الموكلان بأعمال العبد عليه ، يقول الله تعالى : " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " .
وتشهد أعضاء الإنسان وجوارحه عليه ، قال تعالى : " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين " ، وقال تعالى : " ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " ، ويقول الله تعالى : " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " .
وأعظم الشهادات ، وأزكاها ، شهادة الملك الجبار سبحانه ، الذي لا يظلم مثقال ذرة ، فكفى بها شهادة .
وممن يُعذب من المسلمين يوم القيامة على سبيل الذكر لا الحصر ، آكل مال اليتيم الذي قال الله تعالى فيه : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " ، فالله توعدهم بالسعير يوم القيامة .
وكذلك المسبل إزاره ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ " [ متفق عليه ] .(3/226)
وكذلك مانع الزكاة ، فهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا مَالُكَ ، أَنَا كَنْزُكَ ، ثُمَّ تَلَا ( لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) الْآيَةَ " [ أخرجه البخاري ] .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، أَوْ كَمَا حَلَفَ ، مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ ، أَوْ بَقَرٌ ، أَوْ غَنَمٌ ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا ، إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا ، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا ، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا ، رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، وفي لفظ : " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار " [ أخرجه مسلم ] .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ ، وَلَا بَقَرٍ ، وَلَا غَنَمٍ ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا ، إِلَّا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ ، تَطَؤُهُ ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا ، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا ، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ ، وَلَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ : " إِطْرَاقُ فَحْلِهَا ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَتُهَا ، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا مِنْ صَاحِبِ مَالٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ ، إِلَّا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ ، يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ ، وَيُقَالُ هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
ففي يوم القيامة يُعذب أناس من المسلمين بقدر ذنوبهم ، تطهرهم نار جهنم ، ولا يعلم أحد مدى استمرار ذلك العذاب ، أهو عشرات السنين ؟ أم مئات السنين ؟ أو أكثر من ذلك أو أقل ، وإنا لنسأل الله تعالى بمنه وكرمه وإحسانه أن يعفو عنا ، ويتجاوز عن سيئاتنا ، إنه غفور رحيم .
وربما اجتمعت عقوبات الدنيا والقبر والآخرة على العبد الواحد والعياذ بالله من ذلك .
إقامة الحد درء للعذاب :
الحدود إنما أقيمت رحمة للخلق ، ورأفة بهم من عذاب الله الذي هو أعظم من إقامتها ، فإقامة الحد على العبد في الدنيا ، ينجيه من العذاب بعد ذلك ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ فَقَالَ : " أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقصة الغامدية والجهنية وماعز رضي الله عنهم ، قصص مشهورة معلومة ، تتجلى فيها آثار الإيمان ، والصدق والإخلاص في التوبة إلى الله تعالى .
والحدود كفارة كاملة للذنوب ، وماحية لها بالكلية ، كما تقرر ذلك في أحاديث الكفارات .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلوات الله وسلامه على النبي المصطفى ، والحبيب المجتبى .
==============
لماذا نرفض العلمانية ؟
محمد محمد بدري
ظهر مصداق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" رواه مسلم ، وأصبح واقع الأمة الإسلامية يقرر أن غربة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسرة ياسر، وبلال وغيرهم، قد عادت للذين يقولون : ربنا الله ، لا قيصر ، والحاكمية لله ، لا للبشر،... وغابت راية الإسلام عن أرض الإسلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية، حتى أصبحت الدعوة إلى أن يكون الإسلام بكتابه الكريم ، وسنة رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - أساس الحكم ، جريمة في أكثر دول العالم (الإسلامي) تحاكم عليها قوانين تلك البلاد بالإعدام بتهمة تغيير شكل النظام؟!.
ولقد كان مما ساعد على استقرار تلك الأوضاع غياب الكثير من حقائق الإسلام وبديهياته، ومن أظهرها أن وجوب الحكم بما أنزل الله عقيدة لا يكون المسلم مسلماً إذا تخلى عنها، وأن التشريع بغير ما أنزل الله ، والرضى بشرع غير شرع الله هو شرك مخرج من الملة .
ولما كان بيان الحق وإبلاغه للخلق أمانة في عنق كل من علم شيئاً من حقيقة هذا الدين ، فقد كتبت هذه المقالة :
بياناً لحقيقة العلمانية ، بكشف المخبوء من حقيقتها، وتعرية المستتر من أسرارها ، وإضاءة المناطق المعتمة في حركة العلمانيين ودعوة للنجاة في الدنيا والآخرة ، بقبول شرع الله، ونبذ كل شريعة يقوم عليها علمانيون يقفون في طريق الإسلام والتوحيد الخالص ، وكأنهم أرباب زائفون . وليكون ذلك ميلاداً جديداً للفرد المسلم والأمة المسلمة ، الأمة التي تحمل رسالتها إلى كل البشرية بالنجاة من الشرك... تلك الرسالة التي عبر عنها في بساطة ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، هذا يسأله ما الذي جاء بكم ؟ فيجيب للتو واللحظة:... الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
أولاً : العلمانية... وحكم الجاهلية :
حاول اعداء الإسلام القضاء على الإسلام عن طريق نشر الإلحاد... وفشلوا..وحاولوا صرف الناس عن الإسلام عن طريق الشيوعية.. وفشلوا .. وأحس الأعداء اليأس من هذا الدين..ولكنهم، بعد التفكر والتدبير، لجأوا إلى طريقة أخبث (لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام ، وتتمسح في العقيدة ، ولا تنكر الدين جملة ، بل تعلن إيمانها به إيماناً نظرياً واحترامها له كعقيدة في الحنايا ، وشعائر تؤدى في المساجد،..أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فمرده - بزعمهم - إلى إرادة الأمة الحرة الطليقة التي لا تقبل
سلطاناً عليها من أحد!!!
ولما كانت حقيقة العلمانية قد تخفى على كثير من المسلمين ، فإنه من واجبنا أن نفضح هذه العلمانية عبر نظرة نلقيها عليها لنتبين من خلالها ما هي العلمانية ؟ وكيف نشأت ؟ لمن حق التشريع المطلق في نظمها ؟ وما هي الشريعة التي تحمل الأمة على التحاكم إليها ؟
1- العلمانية.. التعريف والنشأة :(3/227)
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة secularism في الإنجليزية ، أو secularite بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق... والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية أو الدنيوية، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت صلته بالدين علاقة تضاد ..
وفي دائرة المعارف البريطانية مادة secularism : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها(1). ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة (العلمانية) هو: فصل الدين عن الدولة أو هو: إقامة الحياة على غير الدين ، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد ، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود ، فبعضها تسمح به ،...وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي - بزعمهم - لا دينية ولكنها غير معادية للدين ، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين... وبدهيّ أنه لا فرق في الإسلام بين المسمين ، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين ، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما(2). وإذن فالعلمانية دولة لا تقوم على الدين ، بل هي دولة لا دينية ، تعزل الدين عن التأثير في الدنيا ، وتحمل الأمة على قيادتها للدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه .
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه ، بحيث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.
"ولا شك أن هذا المفهوم الغربي العلماني للدين على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب ، محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة... جاء من مفهوم كنسي محرّف شعاره "أدَّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" ، من واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى ، حين كانت مضطهدة مطاردة من قبل الامبراطورية الرومانية الوثنية فلم تتمكن من تطبيق شريعتها ، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية اضطراراً واعتبرت ذلك هو الدين ، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين السماوي المنزل ، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً ، ولم تجد كبير عناء في فصل الدين عن الدولة"(3)، وتثبيت الدين على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب .
وإذن فالعلمانية : رد فعل خاطئ لدين محرّف وأوضاع خاطئة كذلك ، ونبات خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية ، فلا شك أنه لم يكن حتماً على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً ، بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.. فإذا وجدنا مجتمعاً آخر يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه ، ومع ذلك يصر على أن ينتج اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟(4) فقط نثبت السؤال ، ونترك - لا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه!
أما نحن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط ، والدين الذي هو عقيدة فقط "أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في هذه الأرض ، هو دين جاهلي مزيف لم ينزل من عند الله"(5).
2- العلمانية..وحق التشريع المطلق :
في مسلسل نبذ الشريعة الإسلامية ، وفصل الدين عن الحياة في دار الإسلام ، كانت الحلقة الأخيرة هي النص في دساتير الدول في العالم الإسلامي على تقرير حق التشريع المطلق للأمة من دون ،الله ، ونصت بعض الدساتير على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية . واكتفى البعض الآخر بالنص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع وهي حق الاقتراح ، وحق الاعتراض أو التصديق. فالأنظمة العلمانية تقر بالسيادة المطلقة للأمة، وتنص في دساتيرها على أن القانون هو التعبير عن إرادتها المطلقة... فالأمة - بزعمهم - هي التي تقرر الشرائع التي تحكم بها، وحقها في ذلك بلا حدود!!
ولا شك في أن هذا في حقيقته هو الإقرار بحق التشريع المطلق للأمة لا ينازعها فيه منازع ولا يشاركها فيه شريك.. فما تحله هو الحلال وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية، وما تحرمه هو الحرام وإن اتفق على حله كل دين جاء من عند الله. ذلك أن الأمة في الأنظمة العلمانية هي مصدر التشريع ، وما يصدر عنها هو القانون. "والقانون ليس بنصيحة ولكنه أمر، وهو ليس أمراً من أي أحد، ولكنه أمر صادر ممن يدان له بالطاعة ، وموجه إلى من تجب عليه تلك الطاعة"(6).
وإذا كان سلطان الأمة يتجسد في السلطة التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية فإنه "لا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا صدر عن السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها له الدستور ، وكلتا السلطتين التشريعية والقضائية بهذا الاعتبار مشتركتان في الخضوع لسيد الكل..ألا وهو الدستور..الذي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم صاغرين.."(7).
وتأمل معنى هذه الكلمات ، وقل معي : رحم الله ابن تيمية... القائل : "إن الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما ، فإما أن يختار العبودية لله.. وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله".(8)
3- العلمانية.. والمصدر الرئيسي للتشريع :
هناك شبهة قد يشوش بها العلمانيون ، وهي أن بعض الدساتير العلمانية تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. مثل دستور مصر الذي جاء في مادته الثانية: أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع... ونحن نقول في الرد على هذه الشبهة : - إننا لا نحكم إلا بما نعلم ، ولا نجزم إلا بما نرى المحاكم الوضعية تمارسه صباح مساء،.. فهذه المحاكم لا تزال ملزمة قانوناً بتطبيق القوانين الوضعية، ولا يزال القضاة في هذه المحاكم غير قادرين بأي حال من الأحوال على تطبيق الشريعة الإسلامية .
ففي قضية اغتيال السادات أسس الدفاع عمله على الدفع بعدم الدستورية لأن نصوص القوانين مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتبر المصدر الرئيسي للتشريع وفقاً لأحكام المادة الثانية من الدستور الصادر عام 1971 ، والمعدلة عام 1980.. فماذا قالت المحاكمة في ردها على ذلك ؟
جاء في رد المحاكمة : ".. رداً على هذا الدفع ، فإن المحكمة تشير بادئ ذي بدء إلى ما هو مستقر من أن قواعد التفسير للنصوص تأبى تأويل النص أو تحميله أكثر مما يحتمل إذا كان واضحاً لغوياً فعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) لا تمنع لغوياً وجود مصادر أخرى للتشريع ، وهو نفس مفاد النص قبل تعديله"(9). أرأيتم..إن المحكمة تؤكد أن العبارة شركية ، وأنها تنص على وجود مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية .
ولماذا نذهب بعيداً ؟ لقد حدث بالفعل أن حكم قاضٍ بالجلد في جريمة سكر، متأولاً هذه المادة من الدستور... فماذا كانت النتيجة ؟
لقد أُبِطل حكمه ، وأقصي عن القضاء . وكان مما ذكره رئيس محكمة الاستئناف في أسباب بطلان هذا الحكم ما يلي :
1- إن من قضى بذلك فقد حنث في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم بالعدل واحترام القوانين،... والعدل كما يقول رئيس محكمة الاستئناف : يعني أن يقضي القاضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبق.. ثم يضيف قائلاً : فقضاء المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حنث باليمين ، فما بالك بمن طبق أو يخترع قانوناً يعلم أنه غير معمول به!!(3/228)
2-...وجنائياً لا يجوز ، ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له ولا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص القانون عليها .
3- إن مصدر هذا القانون لم يعرف شيئاً عن علم العقاب ، فقد (شدد) المشرّع الوضعي في العقوبة وجعلها ستة أشهر حماية للمجتمع، وهذا أحفظ من مجرد الجلد ثمانين جلدة. (10)
أرأيت - أخي المسلم - إن هذه العلمانية ترى أن التشريع الوضعي أحفظ لأمن المجتمع من الشريعة الإسلامية .. وأن القاضي الذي حكم بالجلد لم يعرف شيئاً عن علم العقاب.. وهكذا.. وكأن القوم يقولون إن الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً -لا يعرف شيئاً من علم العقاب عندما أكتفى بمجرد الجلد على السكر... سبحانك هذا بهتان عظيم .
ومن الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم خيراً مما يشرع لهم ويحكم فيهم ربهم سبحانه؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟.. أيستطيع أن يقول إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بالناس ومصالح الناس من إله الناس ؟... أيستطيع أن يقول : إن الله سبحانه وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ويجعل شريعته شريعة الأبد ، كأنه سبحانه يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستجد وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان!!! ما الذي يستطيع أن يقوله... وبخاصة إذا كان يدعي الإسلام؟
إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدي عنه من الاختيار..
إما إسلام ، وإما جاهلية... إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية..
وهذه العلمانية التي وصفنا حالها ، ورأينا واقعها ليست يقيناً حكم الله القائم على الكتاب والسنة... فماذا تكون إلا حكم الجاهلية؟ قال تعالى:
((أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ))
فجعل الله الحكم حكمين لا ثالث لهما : حكم الله... وهو الحكم القائم على الكتاب والسنة،.. وحكم الجاهلية.. وهو ما خالف ذلك (11)
إذن فالعلمانية هي...حكم الجاهلية .
لا شك أن العلمانية - كما عرضنا - لا تستدعي في حقيقة الأمر كبير جهد لبيان تناقضها مع دين الله (الإسلام) .. فهي من ذلك النوع من الاتجاهات والأفكار التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كاف في الرد عليه .. (12).
والإسلام والعلمانية طريقان متباينان، ومنهجان متغايران .. طريقان لا يلتقيان ولا تقام بينهم قنطرة اتصال .. واختيار أحدهما هو رفض للآخر .. ومن اختار طريق الإسلام .. فلابد له من رفض العلمانية ..
هذه بديهية من البديهيات التي يعد إدراكها - فيما نحسب - نقطة الانطلاق الصحيحة لتغيير واقع الأمة الإسلامية،.. ويعد غيابها السبب الأول لبقاء هذه الأمة ألعوبة في يد العلمانيين يجرُّونها إلى الهلاك بكل مهلكة من القول والعمل، ويزيدونها غياً كلما اتبعتهم في طريق الغيّ .. طريق العلمانية ..
ولأن إدراك هذه البديهة على هذا القدر من الأهمية، فل بد من التفصيل فنقول: نحن نرفض العلمانية لأنها:
1 - تحِل ما حرّم الله:
"إذا كانت الشريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن داخلها أحكاماً ثابتة لا تقبل التغيير، وأحكام عامة ثابتة في ذاتها، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخل تحتها متغيرات .. أحكام العبادات كلها، والحدود وعلاقات الجنسين .." (13).
فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت ؟
إن الأنظمة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، والمتشدد منها يشترط موافقة الزوج أو الزوجة .. والكثير منها يبيح اللواط للبالغين .. وكلها يبيح الخمر والخنزير.
فأما الزنا برضا الطرفين فنجد مثلاً أن قانون العقوبات في مصر والعراق يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضا الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة عشرة فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن .. (14). والأفعال التي يحرّمها قانون العلمانية في جرائم العرض، إنما يحرمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب، وليس باعتبارها أمراً يغضب الله ويحرّمه الدين،.. ولذلك فإن الدعوى الجنائية في جريمة الزنا مثلاً لا تتحرك إلا بناء على شكوى الزوج، وللزوج الحق في التنازل عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات التحقيق .. بل للزوج حق وقف تنفيذ العقوبة !!
وهكذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له الحفلات في الملاهي والمسارح ..
.. وأما الربا فهو عماد الاقتصاد العلماني، تؤسس عليه البنوك، وتقدم به القروض بل ويدخل الناس فيه كرهاً .. ومن شاء فليراجع المواد 226 - 233 من القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بها، تلك المواد التي تحِل بها العلمانية ما حرّمه الله سبحانه بقوله عز وجل:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..)) [البقرة:278-279]
وهذه الآيات نزلت في أهل الطائف لما دخلوا الإسلام والتزموا الصلاة والصيام، وكانوا لا يمتنعون عن الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا .. فإذا كان هؤلاء محاربين لله ولرسوله فكيف بمن يقيمون للربا بنوكاً، ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة ..؟
… وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها والتجارة بها، وتجعلها مالاً متقوماً يحرم إهداره، بل تنشئ لإنتاج الخمور المصانع وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز للإنتاج !!
وهكذا فإن العلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها .. فتحل ما حرم الله .. وتحرّم إهدارها والإنكار على شاربها .. فتحرم ما أحل الله ..
فالعلمانية تحل ما حرّم الله، وتحرّم ما أحل الله .. وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعزيرات فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني .. بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله هي قضية النظام العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة ..
ولما كان تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .. كفراً لمن فعله، ومَنَ قَبِله ؛ فلا بد لنا لنبقَى مسلمين من رفض هذا الكفر .. ورفض العلمانية التي تقوم عليه.
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
2 - كفر بَواح:
العلمانية كما قلنا هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الحياة، وهذا يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله .. ولذلك فإن العلمانية "هجر لأحكام الله بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة. بل لقد بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تعطيل حكم الله وتفضيل أحكام القانون الوضعي على أحكام الله المنزلة .. وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان وعلل وأسباب انقطعت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها" (15).(3/229)
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلو أغلب ديار الإسلام هي قوانين "تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، .. حتى لو كان في بعضها ما لا يخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه" (16) ..
... وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين من مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد المسلمين إذ ذاك بريئة من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى لو وافق الصواب حيث قال: "ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته، كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة والله أعلم وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه" (17).
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو وافق الصواب .. فلا شك أن هؤلاء الذين يشرّعون من دون الله، مخطئون إذا أصابوا، مجرمون إذا أخطأوا، لأنهم أصابوا من غير طريق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله ... بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال تعالى: ((أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50]
يقول ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية:"ينكر تعالى على من خرج عن حكمه المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير" (18).
أرأيت - أخي المسلم - هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن الثامن لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيز خان ؟ ألا ترى أن هذا الوصف ينطبق على القانون الوضعي الذي يضعه العلمانيون الذين يشرعون للناس من دون الله ؟ إلا في وصف واحد، وهو أن الشريعة الإسلامية كانت عند جنكيز خان مصدراً مهماً لقانونه ؛ بينما هي عند العلمانيين مصدراً احتياطياً من الدرجة الثالثة.
وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم - مفتي الديار السعودية - رحمه الله-: إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:
((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء 59].
فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر ... فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار المسلمين مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة (19).
.. إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله واستبدالها بالقوانين الوضعية البشرية القاصرة، ورمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم الحضاري والعصر المتطور .. إن هذا في حقيقته ردة جديدة على حياة المسلمين .. (20).
وهذا ما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز في معرض رده على القوميين حيث قال:
.. الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة(21).
وكيف لا وهذه الأحكام الوضعية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتبيح انتهاك الأعراض وإفساد العقول، وتهلك الحرث والنسل حتى أصبحت المادة القانونية (إذا زنت البكر برضاها فلا شيء عليها) أحْفَظ لأمن المجتمع عند هؤلاء العلمانيين من قول الله عز وجل: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ..)) [النور 2]
وأصبحت تصاريح الخمارات والملاهي والبنوك الربوية أصلح للمجتمع - عند العلمانيين - من الأخذ بقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة 90].
وقوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..)) [البقرة 278 - 279]
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس (هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ..)(22)، وليس هذه رأياً لنا لنبديه، أو رأياً لعالم أو مفسر أو مجتهد من الفقهاء ننقل عنه، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم المعلوم من الدين بالضرورة .. قال تعالى:
((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ..)) [المائدة 144]
فالعلمانية التي تحكم بغير ما أنزل الله ليست معصية، بل هي كفر بواح ... وقبول الكفر والرضا به كفر ... ولذلك فلا بد من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام ....
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
3 - تفتقد الشرعية:
إن أكثر البلاد الإسلامية لا تحكم بشريعة الله .. ولكن يحكمها أناس يحملون أسماء إسلامية، ويستعرضون أنفسهم بين الحين والحين في صلاة أو عمرة أو حج، فتتوهم الجماهير أن لهم (شرعية)، وهم لا يحكمون بما أنزل الله (23) .. فهل الحاكم إذا أبطل شريعة الله كاملة، واستعاض عنها بالشرائع الجاهلية .. هل تكون له شرعية ؟ وهل يكون له على الرعية حق السمع والطاعة ؟(3/230)
.. بادئ ذي بدء نقول أنه من المتفق عليه بين العلماء (أن الإمام ما دام قائماً بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكاً القدرة على الاستمرار في تدبير شئون رعيته عادلاً بينهم، فإن له على الرعية حق السمع والطاعة..)(24).
ولكن هذا الحق في السمع والطاعة يكون في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عطّل شرع الله، فقد خرج عن طاعة الله والرسول ولم تصبح له طاعة على الرعية .. قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء 58 - 59]
"وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة، وكذلك الطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر .. ولو أن الله تعالى قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعته مطلقاً كطاعة الله والرسول، ولكن الله -جل شأنه- لم يقل ذلك، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر (أطيعوا)، لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله"(25). فشرط الطاعة أن يكون ولي الأمر (منكم) أي من الذين امنوا، ولكي يكونوا كذلك فلابد أن يرد الأمر عند التنازع إلى الله (أي كتاب الله)، وإلى الرسول (أي سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ..) (26)
وقد أكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى فقال:»اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله« رواه البخاري. وقال -صلى الله عليه وسلم-: »إن أمر عليكم عبد مجدع - أو قال أسود - يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا« رواه مسلم. فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام الرعية بكتاب الله، أما إذا لم يُحكّم فيهم شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزله، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة. (27) "... فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب عزله، وانحلت بيعته، وحرمت طاعته، لأنه في هذه الحال يستحق وصف الكفر" (28).
والكفر هو أعظم الأسباب الموجبة للعزل، وبه يخلع الإمام عن تدبير أمور المسلمين وقد انعقد إجماع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه إذا طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته (29).
وبناء على ذلك فإن وليّ الأمر الذي يتصرف في شريعة الله بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال ... لا تكون له شرعية، لأنه فقد شرط توليته الذي يعطيه شرعية تولي الأمر وهو تطبيق شريعة الله، أي سياسة الدنيا بالدين.
وإذن فالحكام الذين يسوسون الدنيا بغير الدين، ويقيمون منهاج الحكم على المبدأ العلماني - فصل الدين عن الدولة - .. هؤلاء الحكام ليس لهم شرعية، ولا تجب على الرعية طاعتهم، بل الواجب على المسلم معاداتهم وعدم مناصرتهم بقول أو فعل ... هذا من ناحية شرعية الحاكم .. أما من ناحية شرعية الوضع، أو ما يمكن أن نطلق عليه شرعية النظام فنقول:
".. يعتقد كثير من الناس أن الأوضاع القائمة في معظم أرجاء العالم (الإسلامي) هي أوضاع إسلامية، ولكنها ينقصها تكملة هي تحكيم شريعة الله .. وفي الحقيقة إن هذا الفهم غير صحيح، فتحكيم الشريعة ليس تكملة لأصل إسلامي موجود بالفعل، ولكنه تأسيس لذلك الأصل - بمعنى أن الأوضاع لا تكون إسلامية إلا إذا قامت على شريعة الله،.. قال تعالى:
((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً..)) [النساء65] (30).
فأول صفات الدولة الإسلامية التي تجب طاعتها وتحرم معاداتها هو أن يكون الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده .. وأن لا يكون فيها قانون خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة، وأن لا يصدر أي أمر إداري فيها يخالف التشريع الإلهي .. وأن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساس إقليمي أو عرقي..(31) ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الاجتماع على الإسلام والانتساب للشرع، بمعنى أنها ترجع إلى أصول الإسلام وليس إلى أصول الكفر مثل فصل الدين عن الدولة، أو نعرات القومية ..
فإذا قام نظام دولة على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، كان هذا النظام باطلاً، ولا تجب طاعته ..
وهذا هو شأن العلمانية التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ولذلك "فأنظمة الحكم القائمة الآن في العالم الإسلامي، أنظمة علمانية مقتبسة من النظم الغربية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة .. وهذا المبدأ يعتبر خروجاً صريحاً على مبدأ معلوم من الدين بالضرورة، وبالنصوص القطعية في الكتاب والسنة وإجماع العلماء كافة، وهو عموم رسالة الإسلام لأمور الدين وشؤون الحياة، وأن الإسلام منهاج حياة كامل ينظم سائر شؤون المسلمين في دنياهم .."(32)
... إن انعدام شرعية الأنظمة العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، والتحاكم إلى إرادة الأمة بدلاً من الكتاب والسنة ... إن انعدام شرعية هذه الأنظمة هو بديهية من البديهيات .. وموقف المسلم منها يتحدد في عبارة واحدة ... إنه يرفض هذه الأنظمة ... ويرفض الاعتراف لها بأي شرعية.
--------------------------
المصادر :
1- وهل الدنيا والآخرة طريقان منفصلان؟ وهل هذه لإله وتلك لإله؟ وهل الإله الذي يحكم الدنيا غير الإله الذي يحاسب الناس يوم القيامة ؟
2- العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 21-24.
3- حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 112
4- العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 648-649
5- حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 107
6/7- راجع كتاب مدخل دستوري للدكتور سيد صبري
8- العبودية - ابن تيمية ص 6
9- صحيفة الأهرام - عدد الخميس 29 جمادي الأول 1402
10- مأخوذ من كتاب - أحكام إسلامية إدانة للقوانين الوضعية - محمود غراب
11- في ظلال القرآن - سيد قطب 2/905
12 - العلمانية - سفر الحوالي - ص 669.
13 - حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 62.
14 - راجع قانون العقوبات المصري - المواد 267 - 279، والعراقي - المواد 232 - 240.
15 - عمدة التفسير - أحمد شاكر - 4/ 157.
16 - مسند الإمام أحمد - تعليق أحمد محمد شاكر 6/ 303
17 - المصدر السابق.
18- تفسير ابن كثير.
19 - تحكيم القوانين - الشيخ محمد بن إبراهيم - ص 5، 6، 10.
20 - الولاء والبراء - محمد بن سعيد القحطاني - ص 79 بتصرف.
21 - نقد القومية العربية - عبد العزيز بن باز - ص 50.
22 - عمدة التفسير - أحمد محمد شاكر 4/ 172
23 - الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 34.
24- حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
25 - كما فسره بذلك مجاهد وغيره من السلف - انظر تفسير ابن كثير 2/ 304.
26 - حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
27- الإمامة العظمى - عبد الله بن عمر الدميجي - ص 473.
28- مختصر الفتاوى المصرية - ابن تيمية - ص 507.
29- صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 229
30 - الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 41.
31 - مؤتمر كراتشي المنعقد في الفترة من 12 - 15 ربيع الآخر 1370 هـ .(3/231)
32- الشهادة - الشيخ صلاح أبو إسماعيل - ص 26.
مجلة البيان
===============
البيع في الفقه الإسلامي - المرابحة
( مشروعيته وأنواعه )
دراسة عن المرابحة كأهم الأساليب المستخدمة في المصارف الإسلامية
بحث تمهيدي لنيل درجة الماجستير
في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
إعداد الطالب
محمد عبد الرؤوف حمزة
بإشراف الدكتور
مسلم اليوسف
1427-1428هـ / 2006-2007م
المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة 2
أهمية وهدف البحث 3
فرضية البحث 3
منهج البحث 3
المبحث الأول : البيع 4
المطلب الأول : تعريف البيع 5
المطلب الثاني : أركان البيع 8
المطلب الثالث : أنواع البيع 12
المطلب الرابع : البيوع المستخدمة لدى البنوك الإسلامية 16
المبحث الثاني : المرابحة 18
المطلب الأول : المرابحة العادية 18
المطلب الثاني : طبيعة المرابحة ومشروعيتها 19
المطلب الثالث : شروط صحة المرابحة 21
المصادر والمراجع 23
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن والاهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وسخر له الكون وفضله على باقي الخلق عندما أعطاه عقلاَ ليتدبر به ويعرف كيف يميز بين الضار والنافع ، والخبائث والطيبات ، ليستغله في تحقيق معنى العبادة ، لأنها الهدف الأسمى من خلقه ، قال الله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات : 56
وإذا كانت معرفة الضار من النافع وتحري الطيبات من دون الخبائث يتطلب أفضل الوسائل والأساليب في مختلف مجالات الحياة ، فإن البحث عن هذه الوسائل والأساليب يعد من جوهر العبادة ، بل إنه لايمكن تحقيق أولويات وأهداف الشريعة من دون أن يتم هذا البحث .
ومن هذا المبدأ تعد دراسة البيع ومعه أحد أساليب الاستثمار الإسلامي ( المرابحة) وأثرها على تطور المصارف الاسلامية من حيث تعظيم المنفعة والفائدة على المصارف والمجتمع على حد سواء ، يعتبر أحد أهم عناصر النظام الإنمائي الاسلامي بشرط أن تقوم على أسس وضوابط الشريعة السمحة ، سواء كان ذلك على صعيد الأفراد أم على صعيد الجماعة أم على صعيد المؤسسات .
وتأتي هذه الدراسة جزءاً من الدراسات الإقتصادية الإسلامية التي نسعى من خلالها تبيين الحركة الإقتصادية في البلاد الإسلامية ومؤسساتها بالشكل الصحيح
أهمية وهدف البحث
من أجل الإحاطة بهذه الجوانب ولأجل بيان بعض إمكانيات الشريعة الإسلامية في الجانب الإنمائي وقدرتها على التأثير في المصارف الإسلامية وتحقيق المستوى اللائق من النتائج المادية والمعنوية عن طريق تفعيلها في الحياة الإقتصادية وإعطاء صورة واضحة عن أداء البيع في الشريعة وإمكانية تطبيق إحدى استخداماته في المصارف الإسلامية ، وتمكينها في الاستفادة من أسلوب المرابحة كأحد تلك الاستخدامات البيعية .
فرضية البحث
اعتبار بيع المرابحة شكل شرعي لا يحتمل أسلوب مخالف لأحكام الشريعة وله أثر إيجابي على تنمية المصرف الإسلامي
منهجية البحث
اعتمدت في هذا البحث على منهج استدلالي استنباطي، فابتدأت بتجميع ما أوردته المراجع الأصلية من أمهات كتب الفقه عامة و كتب فقه المعاملات خاصة، و ما اجتهد به أصحاب المذاهب الأربعة المعتمدة وما أوردته بعض كتب الإقتصاد والبنوك الإسلامية وبعض كتب القانون وكل ذلك في ظل إطار اقتصادي إسلامي .
المبحث الأول
البيع
إن البيع والشراء من أهم مجالات التعامل التجاري ، وقد أكدت الشريعة الإسلامية على جوازها ضمن ضوابط وشروط محددة ، ولهذا سنقوم بإيضاح طبيعة العقد ومشروعيته وأنواعه حتى يكون الموضوع واضحاً نظرياً لدينا عند تناول التطبيق العملي لدى البنوك الإسلامية ، وذلك في عدد من المطالب .
المطلب الأول : تعريف البيع
المطلب الثاني : أركان البيع
المطلب الثالث : أنواع البيوع
المطلب الرابع : البيوع المستخدمة لدى البنوك الإسلامية
المطلب الأول
تعريف البيع
البيع في اللغة : مقابلة شيء بشيء ، فمقابلة السلعة بالسلعة تسمى بيعاً لغة كمقابلتها بالنقد ، ويقال لأحد المتقابلين مبيع وللآخر ثمن .
وقال بعض الفقهاء : إن معناه في اللغة تمليك المال بالمال وهو بمعنى التعريف الأول .
وقال آخرون : أنه في اللغة إخراج ذات عن الملك بعوض وهو بمعنى التعريف الثاني ، لأن إخراج الذات عن الملك هو معنى تمليك الغير للمال ، فتمليك المنفعة بالإجارة ونحوها لا يسمى بيعاً .
أما الشراء فإنه إدخال ذات في الملك بعوض ، أو تملك المال بالمال ، على أن اللغة تطلق كلاً من البيع والشراء على معنى الآخر ، فيقال لفعل البائع : بيع وشراء كما يقال ذلك لفعل المشتري ومنه قوله تعالى : [ وشروه بثمن ] . سورة يوسف ، آية 20 . فإن معنى شروه في الآية باعوه ، وكذلك الاشتراء والابتياع فإنهما يطلقان على فعل البائع والمشتري لغة .
إلاّ أن العرف قد خص المبيع بفعل البائع وهو إخراج الذات في الملك ، وخص الشراء والاشتراء والابتياع بفعل المشتري وهو إدخال الذات في الملك . 1
مشروعية البيع :
إن مشروعية البيع ثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع .
في الكتاب : ورد في القرآن الكريم [ وأحل الله البيع وحرم الربا ] . سورة البقرة ، الآية 275 .
وفي سورة النساء : [ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ] . سورة النساء ، الآية 29 .
وقوله تعالى : [ فاشهدوا إذا تبايعتم ] . سورة البقرة ، الآية 282 .
فهذه الآيات صريحة في حل البيع وإن كانت مسوقة لأغراض أخرى غير إفادة الحل، لأن الآية الأولى مسوقة لتحريم الربا ، والثانية مسوقة لنهي الناس عن أكل أموال بعضهم بعضاً بالباطل ، والثالثة مسوقة للفت الناس إلى ما يرفع الخصومة ، ويحسم النزاع من الاستشهاد عند التبايع . 2
في السنّة : فالنبي (ص) قد باشر البيع وشاهد الناس يتعاطون البيع والشراء فأقرهم ولم ينهاهم عنه . 3
ومنها قوله (ص) : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) ، رواه البخاري . وفي هذا الحديث إشارة إلى ما يجب على الإنسان من العمل في هذه الحياة ، فلا يحل له أن يهمل طلب الرزق اعتماداً على سؤال الناس ، كما لا يحل له أن يستنكف عن العمل ، سواءً كان جليلاً أو حقيراً ، بل عليه أن يعمل بما هو ميسر له .
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح سواءً بسواء ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أن استزاد فقد أربى ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فيبيعوا كيف شئتم ) رواه مسلم ، فقوله فبيعوا كيف شئتم صريح في إباحة البيع .
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام : ( أفضل الكسب بيع مبرور ، وعمل الرجل بيده ) رواه أحمد والطبراني وغيرهما ، والبيع المبرور هو الذي يبر فيه صاحبه فلم يغش ولم يخن ولم يعص الله فيه ، وحكمه حله ما يترتب عليه من تبادل المنافع بين الناس ، وتحقيق التعاون بينهم .(3/232)
فينتظم بذلك معاشهم ، وينبعث كل واحد إلى ما يستطيع الحصول عليه من وسائل العيش ، فهذا يغرس الأرض بما منحه الله من قوة بدنية وألهمه من علم بأحوال الزرع ويبيع ثمرها لمن لا يقدر على الزرع ولكنه يستطيع الحصول على الثمن من طريق أخرى ، وهذا يحضر السلعة من الجهات الثانية ويبيعها لمن ينتفع بها ، وهذا يجيد ما يحتاج إليه الناس من صناعة ليبيع عليهم مصنوعاته ، فالبيع والشراء من أكبر الوسائل الباعثة على العمل في هذه الحياة الدنيا ، وأجل أسباب الحضارة والعمران . 4
الإجماع : وقد أجمع الأئمة على مشروعية البيع وأنه أحد أسباب التملك. 5
كما أن الحكمة تقتضيه ، لأن الحاجة ماسة إلى شرعيته ، إذ الناس محتاجون إلى الأعواض والسلع والطعام والشراب الذي في أيدي بعضهم ولا طريق لهم إليه إلاّ بالبيع والشراء .
في القانون الوضعي : البيع تمليك مال أو حق مالي لقاء عوض . 6 البيع عقد يلتزم به البائع أن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حقاً مالياً آخر في مقابل ثمن نقدي . 7
المطلب الثاني
أركان البيع
أركان البيع ستة وهي الصيغة والعاقد والمعقود عليه ، وكل منهما قسمان لأن العاقد إما أن يكون بائعاً أو مشترياً ، والمعقود عليه إما أن يكون ثمناً أو مثمناً والصيغة إما أن تكون إيجاباً أو قبولاً ، فالأركان ستة والمراد بالركن هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن كان غير داخل في حقيقته ، وهذا مجرد اصطلاح، لأن ركن الشيء الحقيقي هو أصله الداخل فيه ، وأصل البيع هو الصيغة التي لولاها ما اتصف العاقدان بالبائع والمشتري ، ولكل ركن من الأركان أحكام وشروط سنذكرها على الترتيب الذي يلي :
الركن الأول : الصيغة
الصيغة في البيع هي كل ما يدل على رضاء الجانبين البائع والمشتري وهي أمران :
الأول : القول وما يقوم مقامه من رسول أو كتاب ، فإذا كتب لغائب يقول له : بعتك داري بكذا أو أرسل له رسولاً فقبل البيع في المجلس فإنه يصح ولا يغتفر له الفصل إلاّ بما يغتفر في القول حال حضور المبيع .
الثاني : المعاطاة وهي الأخذ والإعطاء بدون كلام كأن يشتري شيئاً ثمنه معلوم له فأخذه من البائع ويعطيه الثمن وهو يملك بالقبض ، ولا فرق بين أن يكون المبيع يسيراً كالخبز والبيض ونحوهما مما جرت العادة بشرائه متفرقاً أو كثيراً كالثياب القيمة .
وأما القول : فهو اللفظ الذي يدل على التمليك والتملك ، كبعت واشتريت ويسمى ما يقع من البائع إيجاباً ، وما يقع من المشتري قبولاً ، وقد يتقدم القبول على الإيجاب ، كما إذا قال المشتري : بعني هذه السلعة بكذا .
ويشترط للإيجاب والقبول شروط منها : أن يكون الإيجاب موافقاً للقبول في القدر والوصف والنقد والحلول والأجل ، فإذا قال البائع : بعت هذه الدار بألف فقال المشتري : قبلتها بخمسمائة لم ينعقد البيع ، وكذا إذا قال : بعتها بألف جنيه ذهباً ، فقال الآخر : قبلتها بألف جنيه ورقاً ، فإن البيع لا ينعقد إلاّ إذا كانت الألف الثانية مثل الأولى في المعنى من جميع الوجوه فإن البيع ينعقد في هذه الحالة ومنها : أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد ، فإذا قال أحدهما : بعتك هذا بألف ثم تفرقا قبل أن يقبل الآخر فإن البيع لا ينعقد ومنها : أن يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض ، أما الفاصل اليسير وهو الذي لا يدل على الإعراض بحسب العرف فإنه لا يضر .
ومنها : سماع المتعاقدين كلام بعضهما ، فإذا كان البيع بحضرة شهود فإنه يكفي سماع الشهود بحيث لو أنكر أحدهما السماع لم يصدق ، فإذا قال : بعت هذه السلعة بكذا ، وقال الآخر : قبلت ، ثم تفرقا فادعى البائع أنه لم يسمع القبول أو ادعى المشتري بأنه لم يسمع الثمن مثلاً فإن دعواهما لا تسمع إلاّ بالشهود .
الركن الثاني : العاقدان
وأما العاقدان سواءً كان بائعاً أو مشترياً فإنه يشترط له شروط ، منها : أن يكون : مميزاً فلا ينعقد بيع الصبي الذي لا يميز ، وكذلك المجنون ، أما الصبي المميز والمعتوه اللذان يعرفان البيع وما يترتب عليه من الأثر ويدركان مقاصد العقلاء من الكلام ويحسنان الإجابة عنها ، فإن بيعهما وشراءهما ينعقد ولكنه لا ينفذ إلاّ إذا كان بإذن من الولي في هذا الشيء الذي باعه واشتراه بخصوصه ، ولا يكفي الإذن العام .
فإذا اشترى الصبي المميز السلعة التي أذن له وليه في شرائها انعقد البيع لازماً ، وليس للولي رده ، أما إذا لم يأذن وتصرف الصبي المميز من تلقاء نفسه فإن بيعه ينعقد ، ولكن لا يلزم إلاّ إذا أجازه الولي ، أو أجازه الصبي بعد البلوغ ومنها : أن يكون : رشيداً ، وهذا شرط لنفاذ البيع فلا ينعقد بيع الصبي مميزاً كان أو غيره ، ولا بيع المجنون والمعتوه والسفيه إلاّ إذا أجاز الولي بيع المميز منهم ، أما بيع غير المميز فإنه يقع باطلاً ولا فرق في المميز بين أن يكون أعمى أو مبصراً .
ومنها : أن يكون : العاقد مختاراً فلا ينعقد بيع المكره ولا شراؤه لقوله تعالى : [ إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم ] . سورة النساء ، الآية 29 .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( إنما البيع عن تراض ) رواه ابن حيان .
الركن الثالث : المعقود عليه
يشترط في المعقود عليه ثمناً كان أو مثمناً شروط منها :
أ - أن يكون طاهراً فلا يصح أن يكون النجس مبيعاً ولا ثمناً ، فإذا باع شيئاً نجساً أو متنجساً لا يمكن تطهيره فإن بيعه لا ينعقد ، وكذلك لا يصح أن يكون النجس أو المتنجس الذي لا يمكن تطهيره ثمناً ، فإذا اشترى أحد عيناً طاهرة وجعل ثمنها خمراً أو خنزيراً مثلاً فإن بيعه لا ينعقد .
ب - أن يكون منتفعاً به انتفاعاً شرعياً فلا ينعقد بيع الحشرات التي لا نفع فيها .
ج - أن يكون المبيع مملوكاً للبائع حال البيع ، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكاً إلاّ في السلم ، فإنه ينعقد بيع العين التي ستملك بعد .
د - أن يكون مقدوراً على تسليمه ، فلا ينعقد بيع المغصوب لأنه وإن كان مملوكاً للمغصوب منه إلاّ أنه ليس قادراً على تسليمه إلاّ إذا كان المشتري قادراً على نزعه من الغاصب ، وإلا صح ، وأيضاً لا يصح أن يبيعه الغاصب لأنه ليس مملوكاً .
هـ- أن يكون المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة ، فبيع المجهول جهالة تقضي إلى المنازعة غير صحيح كما إذا قال للمشتري : اشتري شاة من قطيع الغنم التي أملكها أو اشتري مني هذا الشيء بقيمته أو اشتري مني هذه السلعة بالثمن الذي يحكم به فلان ، فإن البيع في كل هذا لا يصح .
و - أن لا يكون مؤقتاً كأن يقول له : بعتك هذا البعير بكذا لمدة سنة . 8
ومن الجدير بالملاحظة أنه في النظام الاقتصادي الإسلامي تخضع اركان وشروط عقد البيع في تنظيمها لقواعد الفقه الإسلامي المتعلق بالمعاملات .
وعند تطبيق هذه العقود لدى البنوك الإسلامية في عمليات التمويل ، فإن هذه العقود تخضع كذلك في تنظيمها للقواعد العامة للقانون الوضعي في الدولة التي يتم فيها التعاقد .
المطلب الثالث
أنواع البيوع
أولاً - تقسيم البيع باعتبار المبيع :
ينقسم البيع باعتبار موضوع المبادلة فيه إلى أربعة أقسام :
1 - البيع المطلق : هو مبادلة العين بالنقد وهو أشهر الأنواع ، ويتيح للإنسان المبادلة بنقوده على كل ما يحتاج إليه من الأعيان ، وينصرف إليه البيع عند الإطلاق فلا يحتاج كغيره إلى تقييد .
2 - بيع السلم : ويسمى السلف ، هو مبادلة الدين بالعين أو بيع شيء مؤجل بثمن معجل .(3/233)
3 - بيع الصرف : وهو بيع جنس الأثمان بعضه ببعض ، وعرف بأنه بيع النقد بالنقد جنساً بجنس أو بغير جنس ، أي بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، وكذلك بيع أحدهما بالآخر .
وإنما يسمى صرفاً : لوجوب دفع ما في يد كل واحد من المتعاقدين إلى صاحبه في المجلس .
وشروطه أربعة :
أ - التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين المتعاقدين منعاً من الوقوع في ربا النسيئة لقوله (ص) : ( الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد ، والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد ) .
ب - التماثل عند اتحاد الجنس : إذا بيع الجنس بالجنس كفضة بفضة أو ذهب بذهب فلا بد فيه من التماثل أي التساوي في الوزن والمقدار دون النظر إلى الجودة والصياغة .
ج - أن يكون العقد باتاً وألا يكون فيه خيار الشرط لأن القبض في هذا العقد شرط وخيار الشرط بمنع ثبوت الملك أو تمامه كما عرفنا .
د - التنجيز في العقد وألا يكون فيه أجل ، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق والأجل يؤخر القبض .
فإذا اختل شرط من هذه الشروط فسد الصرف .
4 - بيع المقايضة : وهو مبادلة مال بمال سوى النقدين ويشترط لصحته التساوي في التقابض إن اتفقا جنساً وقدراً فيجوز بيع لحم بشاة حية لأنه بيع موزون بما ليس بموزون ، وخبز بدقيق متفاضلاً لأنه بيع مكيل بموزون .
ولا يجوز بيع التين الرطب بالتين اليابس إلاّ تماثلاً ، ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق أو البرغل مطلقاً ولو متساويين لانكباس الأخيرين في المكيال أكثر من الأول ، أما إذا بيع موزوناً فالتماثل واجب . 9
ثانياً – تقسيم البيع باعتبار طريقة تحديد الثمن :
ينقسم البيع باعتبار طريقة تحديد الثمن إلى ثلاثة أنواع :
1 - بيع المساومة : هو البيع الذي لا يظهر فيه رأس ماله ، أي البيع بدون ذكر ثمنه الأول .
2 - بيع المزايدة : هو أن يعرض البائع سلعته في السوق ويتزايد المشترون فيها فتباع لمن يدفع الثمن أكثر .
ويقارب المزايدة الشراء بالمناقصة ، وهي أن يعرض المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة ، فيتنافس الباعة في عرض البيع بثمن أقل ، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر ، ولم يتحدث الفقهاء قديماً عن مثل هذا البيع ولكنه يسري عليه ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل .
3 - بيوع الأمانة : هي التي يحدد فيها الثمن بمثل رأس المال أو أزيد أو أنقص وسميت بيوع الأمانة لأنه يؤمن فيها البائع في إخباره برأس المال ، وهي ثلاثة أنواع :
أ - بيع المرابحة : وهو بيع السلعة بمثل الثمن الأول الذي اشتراها البائع مع زيادة ربح معلوم متفق عليه .
ب - بيع التولية : وهو بيع السلعة بمثل ثمنها الأول الذي اشتراها البائع به من غير نقص ولا زيادة .
ج - بيع الوضيعة : وهو بيع السلعة بمثل ثمنها الأول الذي اشتراها البائع به مع وضع (حط) مبلغ معلوم من الثمن ، أي بخسارة محددة .
هذا وفي حالة كون البيع يتم لجزء من المبيع ، فإنه يسمى بيع (الاشتراك) وهو لا يخرج عن الأنواع المتقدمة المذكورة من البيوع . 10
ثالثاً – تقسيم البيع باعتبار طريقة تسليم الثمن :
1 - بيع منجز الثمن : وهو ما يشترط فيه تعجيل الثمن ، ويسمى بيع النقد أو البيع بالثمن الحال .
2 - بيع مؤجل الثمن : وهو ما يشترك فيه تأجيل الثمن .
3 - بيع مؤجل المثمن : وهو مثل بيع السلم وبيع الاستصناع .
4 - بيع مؤجل العوضين : أي بيع الدين بالدين وهو ممنوع في الجملة . 11
رابعاً – تقسيم البيع باعتبار الحكم الشرعي :
ينقسم البيع باعتبار الحكم الشرعي إلى أنواع كثيرة منها :
1 - البيع المنعقد ويقابله البيع الباطل .
2 - البيع الصحيح ويقابله البيع الفاسد .
3 - البيع النافذ ويقابله البيع الموقوف .
4 - البيع اللازم ويقابله البيع غير اللازم (ويسمى الجائز أو المخير) .
أ - فالبيع اللازم : هو البيع الذي يقع باتاً إذا عري عن الخيارات ، كبعتك هذا الثوب بعشرة قروش ، وقبل المشتري .
ب - والبيع غير اللازم : وهو ما كان فيه إحدى الخيارات ، كبعتك هذا الثوب بعشرة قروش ، فقال المشتري : قبلت على أني بالخيار ثلاثة أيام .
ج - والبيع الموقوف : ما تعلق به حق الغير كبيع إنسان مال غيره بغير إذنه .
د - أما البيع الصحيح النافذ اللازم : فهو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه ، ولم يتعلق به حق الغير ولا خيار فيه وحكمه أنه يثبت أثره في الحال .
هـ- أما البيع الباطل : فهو ما اختل ركنه أو محله أو لا يكون مشروعاً بأصله، ولا بوصفه وحكمه أنه لا يعتبر منعقداً فعلاً .
و - والبيع الفاسد : هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه ، كمن عرض له أمر أو وصف غير مشروع مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع ، كبيع دار من الدور أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص دون تعيين ، وكإبرام صفقتين في صفقة ، وحكمه أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإذن المالك صراحة أو دلالة .
- الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل :
1 - إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل .
2 - أما إذا كان الفساد يرجع للثمن ، فإن البيع يكون فاسداً ، أي أنه ينعقد بقيمة المبيع .
أنواع البيع الباطل :
وهي ستة أنواع كالآتي :
1 - بيع المعدوم . 2 - بيع معجوز التسليم .
3 - بيع الغرر . 4 - بيع النجس والمتنجس .
5 - بيع العربون . 6 - بيع الماء . 12
المطلب الرابع
البيوع المستخدمة لدى البنوك الإسلامية
اتجهت البنوك الإسلامية بنشاط ملحوظ لاستخدام البيوع في عمليات التمويل التي تقدمها ، ولتجاوز الصعوبات التي واجهتها في أنواع التمويل الأخرى كالمضاربة والمشاركة ، ومن البيوع التي استخدمتها هذه البنوك ووجدت بها وسيلة ملائمة لأغراض التمويل الإسلامي ، بيع المرابحة وبيع الأجل .
ومن خلال المقارنات مع أساليب التمويل الأخرى في المباحث السابقة تبين لنا أن المراجعة قد احتلت الحجم الأكبر بين أساليب التمويل المستخدمة ، لسهولة التعامل بها ووضوح تطبيقاتها .
وبيع المرابحة : أحد بيوع الأمانة والتي سبق بيانها في الفرع السابق ، ومثله بيع التولية وبيع الوضيعة ، ولأهمية سنفرد له مبحثاً مستقلاً فيما بعد ، وبيوع الأمانة يجوز عقدها بالدفع العاجل أو السداد الأجل .
وبيع الأجل : هو البيع الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل دفع الثمن إلى موعد محدد في المستقبل ، وقد يكون الدفع جملة واحدة ، أو على أقساط ، ولا بد فيه من معلومية الأجل ، ولا مانع من اشتمال الثمن على زيادة ضمنية عن ثمن البيع الحال ولكن لا يزيد مقدار الثمن المؤجل إذا لم يدفع في موعده . 13
والبيع المؤجل الثمن أو البيع بالنسيئة هو بيع ائتماني لأن سداد الثمن فيه يتم بتاريخ لاحق على إبرام العقد وتسليم المبيع للمشتري ، بخلاف البيع العادي ، وسواءً دفع الثمن مرة واحدة أو على أقساط في آجال محددة وبوجود دفعة أولى أو بدونها ، ففي كل الحالات يستفيد المشتري من الأجل الممنوح له من البائع .
ويخضع بيع الأجل للشروط العامة في العقود ، وتلك الخاصة بعقد البيع ، وأخرى متعلقة به وهي :
أ - تحديد الثمن الذي قد يكون هو نفسه المطلوب في البيع الناجز ، وقد يكون بزيادة عليه .
ب - الاتفاق على مبدأ التأجيل وتاريخ السداد وكيفيته .
ج - إذا وقع الاختيار على السداد بالأقساط وليس دفعة واحدة ، وهي الحالة الغالبة عملياً ، فيجب تحديد مقدار كل قسط وتاريخ استحقاقه .
د - وهناك من يضيف شرط تسليم المبيع للمشتري لأن استحقاق الثمن يبدأ من وقت التسليم .
ويدخل في إطار هذا البيع :
1 - بيع السلم : أو البيع المعجل الثمن المؤجل التسليم ، وهو بيع من نوع خاص .(3/234)
2 - البيع بالتقسيط : وهو أحد أشكال القروض الاستهلاكية التي تقدمها البنوك والشركات المتخصصة للأفراد من أجل شراء السلع المعمرة . 14
وبالرغم من الاختلاف على مشروعيته ، فإن الفقه المتعلق بمعاملات البنوك الإسلامية حسم فيه واعتبره جائزاً وبإمكان البنوك استخدامه دون حرج . 15
المبحث الثاني
المرابحة
وسنتناول هذا المبحث في ثلاثة مطالب ، الأول في بيع المرابحة العادية ، والثاني طبيعة المرابحة ومشروعيتها والثالث شروط صحة المرابحة .
المطلب الأول
المرابحة العادية
المرابحة صورة من صور البيع ، وعلى وجه التحديد من بيوع الأمانة ، وهي البيوع التي تستند على الثقة بين المتبايعيين وتعتمد رأس المال أساساً للثمن ، ومنها بيع التولية والوضيعة .
وكما أوضحنا فيما تقدم ، يجوز إبرام هذه البيوع بالدفع العاجل أو السداد بالأجل .
وقد اتفق المسلمون على جوازها استناداً إلى عموم الأدلة التي تبيح البيع بصفة عامة ، ووضعوا لها من الشروط والضوابط بحيث تبقى في إطار الصدق والأمانة الذي تدور عليه هذه البيوع .
والأهم في هذه البيوع هو بيع المرابحة ، والذي استخدمته البنوك الإسلامية كأداة للتمويل لديها ، ولتقوم هذه الأداة الإسلامية المشروعة ، فيما بعد وبشكل رئيسي ، مقام نظام التمويل بالفائدة لدى البنوك التقليدية ، وقد احتل نظام التمويل بالمرابحة للأمر بالشراء ، الدرجة الأولى بين أدوات التمويل المستخدمة لدى البنوك الإسلامية .
وسنتناول في هذا المطلب موضوع المرابحة العادية من حيث طبيعتها وشروطها وضوابطها وتطبيقاتها العملية في عدد من الفروع فيما يلي :
المطلب الثاني
طبيعة المرابحة ومشروعيتها
المرابحة لغة : مصدر من الربح هي الزيادة . 16
وهي مفاعلة من الربح ، وهو النماء في التجارة (التجر) . 17
وفي الاصطلاح الفقهي : عرفها المالكية بأنها : ( مبيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به مع زيادة ربح معلوم ) . 18
وعرفها الحنابلة بأنها : ( بيع برأس المال وربح معلوم ) . 19
وعرفها الحنفية بأنها : ( بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح ) . 20
وعرفها الشافعية بأنها : ( عقد يبنى الثمن فيه على ثمن البيع الأول مع زيادة ) . 21
مشروعيتها : يستمد بيع المرابحة مشروعيته من القرآن والسنّة واتفاق الفقهاء حوله من حيث المبدأ .
في القرآن : قال تعالى : [ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ] . سورة البقرة ، الآية 198 .
وذلك أن المرابحة تمثل ابتغاء للفضل أي الزيادة ، كما أنها تدخل في عموم عقود البيع المشروعة لقوله تعالى : [ وأحل الله البيع وحرّم الربا ] . سورة البقرة، الآية 275 .
في السنّة : كما أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام بيع السلعة بأكثر من رأس مالها في قوله عليه السلام : ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا ) .
وأيضاً : ( لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره ، خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواءً بسواء ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم ) . 22
اتفاق الفقهاء : هناك أيضاً فتوى صادرة عن مؤتمر المصاريف الإسلامية الثاني تقول : ( إن المواعدة على بيع المرابحة للأمر بالشراء ، بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف مسؤولية الهلاك قبل التسليم ، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي ، أما بالنسبة للوعد وكونه ملزم للأمر بالشراء أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً ، وكل مصرف مخيّر في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه ) . 23
المطلب الثالث
شروط صحة المرابحة
المرابحة بيع كالبيوع تحل بما تحل به البيوع ، فحيث يكون البيع حلالاً فهي حلال ، وحيث كان البيع حراماً فهي حرام ، ولكن يلزم لصحة المرابحة بالإضافة إلى الشروط العامة في العقود ( كالأهلية والمحل والصيغة ) بعض الشروط الأخرى منها ما يلي :
1 - أن يكون الثمن الأول معلوماً للمشتري الثاني ، لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح ، والعلم بالثمن الأول شرط لصحة البيع فإذا لم يكن معلوماً فهو بيع فاسد . 24
2 - أن يكون الربح معلوماً لأنه بعض الثمن ، والعلم بالثمن شرط لصحة البيع.25
3 - أن لا يكون الثمن في العقد الأول مقابلاً بجنسه من أموال الربا ، فإن كان كذلك بأن اشترى المكيل أو الموزون بجنسه مثلاً بمثل لم يجز بأن يبيعه مرابحة ، لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة ، والزيادة في أموال الربا تكون ربا لا ربحاً . 26
4 - أن يكون رأس المال من المثليات كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة ، فإن كان قيمياً مما لا مثل له من العروض لم يجز بيعه مرابحة، لأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح . 27
5 - أن يكون عقد البيع الأول صحيحاً ، فإن كان فاسداً لم تجز المرابحة ، لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح ، والبيع الفاسد يثبت الملك فيه بقيمة المبيع إن كان قيمياً أو بمثله إن كان مثلياً ، لا بالثمن المسمى لفساد التسمية ، والمملوك بالقيمة لا يباع مرابحة ، لأن القيمة مجهولة لا تعرف إلاّ بالتقويم ، والمرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح والثمن الأول هنا مجهول القيمة . 28
وتوجد شروط أخرى متعلقة بكل من بيان العيب ، وما قد يطرأ على المبيع من الزيادة أو النقصان ولأن بيع المرابحة من بيوع الأمانة ، فيمتنع فيها على البائع خيانة المشتري في ثمن البيع صفة وقدراً ، أو في المبيع من حيث سلامته أو تعيبه .
وقد شرح أئمة المذاهب الإسلامية والفقهاء المسلمون من بعدهم هذه الأمور بالتفصيل الدقيق مع ضرب الأمثلة عليها ، ليرجع إليها من يريد الاستزادة في هذا الموضوع . 29
ومما سبق ذكره من شروط خاصة بالمرابحة ، يتبين وجوب أن يكون المبيع حاضراً يراه المشتري ، أو أن يكون قد رآه وعرفه ، وأن يعرف المشتري مقدار الثمن الأصلي ومقدار الربح الذي سيدفعه زيادة عن الثمن الأصلي ، إن كان المبيع حالاً .
وأن يعرف مقدار الثمن الآجل إن كان بيع المرابحة مرتبطاً بالأجل ، لأن الثمن الآجل يكون أعلى من الثمن الحال عادة .
المصادر والمراجع
1. عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري ، الفقه على المذاهب الأربعة ، دار ابن هشام ، القاهرة
2. العلامة علي حيدر ،درر الحكام في شرح مجلة الاحكام، دار الجليل بيروت ، المجلد الثالث.
3. القانون المدني الأردني ( م 465).
4. عبد الرزاق السنهوري ، الوسيط في شرح القانون المدني/التامينات اشخصية والعينية، دار احياء التراث العربي، سنة 1970.
5. عمر عبد الله كامل ، القواعد الفقهية الكبرى وأثرها في المعاملات المالية ، دار الكتب ، القاهرة 2000.
6. عبد الستار أبو غدة ، اوفوا بالعقود،منشورات مجموعة دلة البركة، 1977.
7. عائشة المالقي ،البنوك الاسلامية( التجربة بين الفقه والقانون والتطبيق)، المركز الثقافي العربي، ط1 ، سنة 2000.
8. الفتاوى الشرعية، الجزء الثاني، البنك الإسلامي الأردني، الفتاوى الصادرة عن ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في المدينة المنورة بتاريخ 17-20 رمضان 1403هجري .(3/235)
9. محمد بن كرم ابن منظور، لسان العرب،دار صادرن بيروت.
10. عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي،المغني ،الرياض، مكتبة الرياض الحديثة،1401هـ .
11. علاء الدين بن مسعود الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتاب العربي، ط2،بيروت ،1394هـ .
12. يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، قطر.
13. مسلم بن حجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، المكتبة العصرية، صيدا ، بيروت ، سنة 2004.
14. فتاوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، المنعقد في دولة الكويت ما بين 6-8 جمادى الأخرى 1403هـ الموافق 21-23 آذار سنة 1983.
15. مصطفى طايل،القرار الاستثنماري في البنوك الاسلامية، مطابع غاشي، طنطا، سنة 1999.
16. محمد صلاح الصاوي، مشكلة الاستثمار في البنوك الاسلامية، دار الوفاء، المنصورة، ط1 ، سنة 1990.
17. عبد الرزاق الهيتي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، دار أسامة للنشر، الأردن، عمان،ط1 ، 1998، ص 512
- - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها ... 2
نقول عن بعض علماء المذاهب الأربعة في حكم الربا بدار الحرب وسؤال وجواب لرشيد رضا ... 77
بحث في الربا والصرف ... 99
خطر الربا وتغليظ تحريمه : ... 108
الربا وأنواعه وما يجري فيه ... 115
نقاش آراء العلماء في مناط الربا في النقدين ... 127
شبهات حول الربا ... 159
الربا .. آثام وأضرار ... 162
التورق نافذة الربا في المعاملات المصرفية ... 194
الاستفتاء في حقيقة الربا ... 236
مباحث الربا و الأحكام المالية ... 275
فتاوى في أسهم الشركات ... 292
أخطاء تقع كثيراً عند بيع الذهب! ... 306
القول الصائب في حكم بيع اللحم بالتمر الغائب ... 309
حتى لا تغرق في الديون ... 312
قبل الحج ... 327
فتوى في حكم بطاقات الاعتماد ... 353
الكسب الحرام ... 358
شاكر النابلسي ..! ( حقائق عنه ) ... 364
النهي عن بيعتين في بيعة ... 443
ما حكم الاكتتاب في شركة ينساب؟. ... 464
رسائل عاجلة في شركة ينساب ... 479
حكم الاكتتاب بشركة البحر الأحمر ... 484
مغالطات الأستاذ عبد العزيز القاسم في قناة العربية في برنامج " إضاءات " ... 489
حكم السحب ببطاقة السحب الآلي من جهاز غير مصدر البطاقة ... 507
حكم الاكتتاب بشركة المراعي ... 510
التوضيح والبيان في ذكر بعض الأعمال الموجبة لغضب الرحمن ... 519
بيع وشراء الأسهم في البُرصة ... 526
أسهم الشركات المتعاملة بالربا ... 530
الربا شر المكاسب ... 532
مستقبل الربا ... 541
الربا ... 554
خطورة الربا ... 568
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا ( 1 ـ 2 ) ... 579
لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ... 602
كيف بدأ الربا .. وكيف انتشر؟ ... 603
هل الربا ضرورة اقتصادية عالمية؟ ... 609
يمحق الله الربا ... 616
الربا ... 630
الربا وآثاره ... 634
حكم بطاقات الائتمان ... 639
الفتاوى المتعلقة بموضوع الفيزا كارت ... 643
العقوبات الإلهية للشعوب والأمم ... 652
المساهمة في الشركات التي أعلنت توقفها عن الأنشطة المحرمة ... 660
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية ... 675
وقفات مع تحول البنوك الربوية إلى إسلامية ... 688
الفتاوى الذهبية ... 691
تدبروا القرآن يا عباد الله ... 701
تأملا ت في سورة النساء ج1 ... 713
ما حكم العمل في التعاونية للتأمين ؟ ... 739
صُوْرَةُ فَتْوَى تَهمُ شَرِيحةً كَبِيْرَةً من موظفي الشركاتِ ... 741
الشركات النقية وحكم الصناديق الاستثمارية بالأسهم ... 746
حكم البيع و الشراء بالتقسيط مع الزيادة في الثمن ... 751
التورقُ كما تجريهِ بعضُ المصارفِ في الوقتِ الحاضرِ ... 753
خلاصة الدروس والفوائد ... 785
من درس فضيلة الشيخ / محمد الفراج (فقه البيوع ) ... 785
لقاء شبكة المواهب مع الشيخ حامد العلي ... 825
(المنفعة في القرض) دراسة تأصيلية تطبيقية. ... 839
الأمة والتحديات المعاصرة في موروثها وأخلاقها ... 859
فاكهة المجالس ... 875
هل خسرت في الأسهم ؟ ... 883
مشروع محمد عبده ( الإصلاحي ) وزرع الشوك ... 899
حكم تداول أسهم شركة الصحراء ... 909
إهدار العمر من أجل المال ... 918
من أحكام الأسهم ... 927
عفواً ... يا فضيلة المفتي الحق خلاف ما ذكرت ... 951
شركات الأسهم ... 965
الغبن في الفقه الإسلامي ... 985
قراءة في “الثقافة العربية في عصر العولمة” ... 995
البطاقات الائتمانية تعريفها وأخذ الرسوم على إصدارها والسحب النقدي بها ... 1015
بحث في بيع المرابحة ... 1044
عقوبات الذنوب ... 1094
لماذا نرفض العلمانية ؟ ... 1117
البيع في الفقه الإسلامي - المرابحة ... 1138(3/236)