ألا يعلم تارك الصلاة أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟
ماذا ينتظر تارك الصلاة إلاَّ فقراً منسياً، أوغنى مطغياً، أومرضاً مفسداً، أوهرماً مفنداً - مضعفاً - أوموتاً مجهزاً، أوالدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة "فالساعة أدهى وأمر"؟
ألا يحذر تارك الصلاة من اجتماع سكرة الموت، وحسرة الفوت؟
اللهم هل بلغت اللهم فأشهد.
اللهم اهد شبابنا، وأصلح نساءنا، ورد ضالَّنا، واختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وصلِّ اللهم وسلم على محمد القائل:" كل أمتي معافى إلاَّ المجاهرين"، وعلى آله وصحابته الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
===============
كفالة مقترض الربا
كفالة مقترض الربا
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الضمان والكفالة
التاريخ ... 24/11/1423هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هناك مؤسسة تعنى بشؤون الإسكان تقدم قروضا لمن يرغب في استكمال إعمار بيته بفائدة قليلة 3% ولمده تزيد على خمس سنوات من باب مصاريف الموظفين، وقد أفتى بعض العلماء هنا بجواز ذلك فهل يجوز لي أن أكفل شخصاً يريد أخذ قرض من هذه المؤسسة؟
الجواب
لا يجوز الاقتراض بفائدة ربوية مهما قلت النسبة ولو وزعت على عشرات السنين لأن قليل الربا وكثيره حرام، وتبرير هذه النسبة الربوية على أنها أتعاب ومصاريف للموظفين غير صحيح وإنما ذلك تزيين من الشيطان والنفس أمارة بالسوء ولا أعرف فتوى معتبرة لأهل العلم كما ذكرت في سؤالك، إذ ربما السؤال أو تعليل الجواب على غير هذه الصورة المسؤول عنها هنا. وعلى فرض وقوع هذه الفتوى على هذه الصورة فإنه من الخير لك أن تجتنب الشبهات فتأخذ بالأحوط فيما يخصك لحديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" البخاري (52)، ومسلم (1599) وفي الحديث الصحيح " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" مسلم (2553) وفي الحديث الآخر: "استفت قلبك البر ما اطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك" أحمد (18006). وعلى هذا فلا يجوز لك أن تكفل شخصاً يتعامل بهذه المعاملة. وصلى الله على نبينا محمد.
===============
كيف يستثمر المسلم ماله بعيداً عن شبهات الربا
إن الله تعالى جعل المال عصب هذه الحياة، وأداة التفاعل بين الناس، وجعل الأولاد ثمرة القلب وقرة العين. وجعلهما معاً زينة الحياة الدنيا فقال سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} [الكهف: 46].
وأثبت الواقع أن الناس حين يضعف إيمانهم يفتنون بأموالهم وأولادهم عن طاعة الله تعالى، لذلك حذر الله تعالى المؤمن من ذلك واعتبر ذلك خيانة لله ولرسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
لذلك كان لزاماً على كل مسلم أن يتقي فتنة المال ويبتعد عن الحرام بكل صوره، فدورة المال في حياة المسلم أشبه بالنهر في منبعه ومجراه ومصبه، فالمال منبعه الاكتساب ومصبه الإنفاق ومجراه ما بين ذلك وهي فترة تملك الإنسان له، والعبد يحاسب على كل مرحلة من هذه المراحل، ومن أعظم فتن المال اكتسابه من حرام، وطرق الحرام كثيرة ومتعددة ومنها "الاختلاس والسرقة والغلول والرشوة وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغش"، ومن أبرزها استثماره أو اقتراضه الربا.
وبهذا صار المال من أعظم الفتن، لأنه إذا بدأت الفتنة من منبعه فإنه لا يُرجى منه خير بعد ذلك، ومن أراد أن يتقي فتنة المال من منبعه يجب أن يكسبه من حلال، وطرق الحلال كثيرة ومتعددة، كما يجب على المسلم التقي أن يكون حريصاً على الالتزام بشرع الله في معاملاته المالية لأن كل شيء سيحاسب عليه مرة واحدة إلا المال سيُحاسب عليه مرتين، مرة عند اكتسابه ومرة عند إنفاقه، كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا فعل به" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر).
أين نستثمر أموالنا؟
لقد أثارت فتنة إيداع الأموال في البنوك التقليدية الكثير من الجدل بين الفقهاء، وترتب على ذلك أن بعض الذين كانوا يستثمرون أموالهم في هذه البنوك بدءوا فعلاً في سحبها منها تجنباً للشبهات ملتزمين بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إن الحلال بين وإن الحرم بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، ووصيته صلَّى الله عليه وسلَّم التي يوصينا فيها: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك".
ويتساءل المسلمون: أين نستثمر أموالنا؟ ويوجد منا الموظف والأرملة والمحال إلى المعاش، وغير ذلك من الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض وهم الآن يودعون أموالهم في البنوك التقليدية بفائدة للحصول على إيراد يعينهم على الحاجات الأصلية للحياة مثل المأكل والمشرب والعلاج والتعليم والمسكن... ونحو ذلك.
كما ظهر سؤال آخر: هل معاملات المصارف الإسلامية حلال؟ وخصوصاً في ظل ما يُثار حولها من شبهات، ومنها: أنها تتعامل مع البنوك التقليدية، وأنها تودع بعضاً من أموالها لدى البنك المركزي، وأنها توزع عائداً قريباً من الفائدة التي توزعها البنوك التقليدية، وأن بعض الموظفين فيها يدعون بأنه لا توجد فروق جوهرية بينها وبين البنوك التقليدية، وأنه لا فرق بين التمويل بالمرابحة لشراء سلعة وبين الاقتراض بفائدة من البنوك التقليدية.
كل هذه التساؤلات وغيرها تحتاج إلى إجابة لمن يريد الاستثمار والتمويل وهذا هو القصد من هذه الدراسة.
حيرة ولبس
لقد انقسم المسلمون إزاء التساؤلات السابقة إلى فرق على النحو التالي:
1 - فئة لا تعطي أي اعتبار للحلال والحرام ويهمها العائد الكبير على رأس المال، وتفصل بين الدين والحياة، وبين العبادات والمعاملات، وتقول: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وتتعامل مع أي بنك سواء كان وطنياً أو أجنبياً، يهودياً أو إسلامياً، المهم عندها أن تحصل على أقصى ربحية أو عائد بأي وسيلة حتى ولو بطرق غير مشروعة، وهؤلاء لا يهمهم النواحي الشرعية لاستثمار المال.
2 - فئة تتبع الفتوى التي تتفق مع هوى النفس وتقول: "ضعها في رقبة عالم واخرج سالم"، ولا تريد أن تبذل أي جهد للبحث عن الأدلة والحقيقة، أن تجنب الشبهات، وتميل إلى الأخذ بالرخص.(2/127)
3 - فئة ورعة تتجنب الشبهات وتضع حاجزاً من الحلال بين الحرام والمشتبه فيه، وهي الفئة التي دخل الخوف من الله إلى قلبها وتريد أن تتحرى الحلال وتستشعر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]، وقوله عز وجل: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وقول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" (رواه مسلم)، وهذه الفئة هي التي يهمها تماماً أن تعرف الحق فتتبعه وتعرف الباطل فتتجنبه، وتدعو الله سبحانه وتعالى دائماً بالدعاء المأثور: "اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك".
لقد أصاب هذه الفئة الخوف والوجل والحيرة والشك، وتسأل كيف تستثمر المال بعيداً عن الشك والريبة؟ كما ترفض الفتوى التي لا سند لها من القرآن أو السنة أو من أقوال الفقهاء من الخلف أو السلف، وهذه الفئة هي التي تعنينا في هذه الدراسة ونحاول أن نوضح لها الأحكام والمبادئ والضوابط الشرعية لاستثمار المال وتمويل المشروعات على النحو التالي.
الضوابط الشرعية لاستثمار المال
في ظل انتشار وسائل توصيل العلم للناس من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة ومنها شرائط الكاسيت والفيديو والحاسوب والإنترنت والقنوات الفضائية، يجب على المؤمن التقي الذي يخشى الله أن يبحث عن الأدلة القوية لكل رأي، ويختار الرأي الذي يرتاح إليه قلبه، وفقاً لوصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "الإثم ما حاك في صدرك وتخاف أن يطلع عليه الناس"، ووصيته صلَّى الله عليه وسلَّم التي يوصي فيها "استفت قلبك" ولا ينبغي ولا يجوز شرعاً أن نقول: "ضعفها في رقبة عالم واخرج سالم".
ولقد اتفق الفقهاء من السلف والخلف على مجموعة من الضوابط المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية لاستثمار الأموال بعيداً عن الربا، ومن أهمها:
- استثمار المال في مجالات الحلال الطيب: المشروعية والطيبات.
- فقه الأولويات: الضرورات فالحاجيات.
- المشاركة في الربح والخسارة وهو ما يسمى في الفقه "الغنم بالغرم".
- المحافظة على المال لأنه قوام الحياة ولا يجب تعريضه للهلاك.
- تنمية المال حتى لا تأكله الزكاة "الصدقة" بالاستثمار وحبسه عن التداول.
- لا كسب بلا جهد ولا جهد بلا كسب، وذلك عند تفاعل ومشاركة المال مع العمل.
- ربط العوائد بالمخاطر وكلما زادت المخاطر زادت العوائد ولا ربح حلال بدون مخاطر.
- ضوابط أخرى كثيرة يضيق المقام لبيانها ولكن نكتفي بما نحتاجه الآن في هذه الدراسة.
لذلك يجب على من يخشى الله ويتقه أن يلتزم بهذه الضوابط قبل أن يقدم على استثمار أمواله، كما يجب عليه تجنب هوى النفس التي أحياناً يزين لها الشيطان الحرام الكثير فتقدم عليه ولا تبالي بأن الحلال القليل فيه البركة من الله.
البواعث والدوافع الذاتية لاستثمار المال بالحلال
من البواعث والدوافع والحوافز التي ترشد وتوجه المسلم المؤمن التقي إلى الاستثمار الحلال الطيب ما يلي:
- الإيمان العميق القوي بأن المال مال الله وأنه مستخلف فيه، ولذلك يجب أن يكون استثمار المال وفقاً لشرع الله المالك الحقيقي لهذا المال.
- الإيمان الصادق الراسخ بأن الله يبارك في الحلال الطيب القليل ويمحق الخبيث ولو كثر.
- الإيمان بالمحاسبة الأخروية مع الله يوم القيامة، وأننا سنسأل لماذا استثمرنا أموالنا بالربا وفي الخبائث؟ مصداقاً لقوله تعالى في آخر آيات الربا: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وقول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه" (الترمذي).
- الإيمان بأن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى.
كيف تستثمر مالك بالحلال
لقد فتح الله أبواباً شتى من الحلال الطيب ليستثمر من خلال المال، فلا يستوي ولا يتماثل الربح الحلال الطيب مع الربا الحرام.. لقد قالوا ومازالوا يقولون {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فرد الله عليهم يقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، ومدلول ذلك: لقد أحل الله الربح الناتج من البيع والشراء، وحرم الربا الناتج من مبادلة مال بمال وزيادة بدون أن توجد سلعة أو خدمة ليتم التعامل عليها بما كان يتعامل العباس عم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قبل الإسلام حيث كان يمول التجار بالربا، ونهاه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك. ومن أمثلة الوسائل الحلال لاستثمار المال على سبيل المثال ما يلي:
أولاً: الاستثمار الذاتي:
أي أن يقوم صاحب المال بتشغيل ماله بنفسه، أو يشتري به محلات تجارية ويؤجرها... أو يشتري سلعاً معمرة للمستقبل، ويجب أن يضع الفرد نصب عينيه دائماً تنمية ماله ولا يتركه عاطلاً، كما يجب أن يوقن تماماً أن مجالات الاستثمار الحلال مفتوحة ميسرة والمحرمة هي الذي ورد نص يحرمها، كما يجب أن يتأكد من الحلال في مجال الاستثمار من تطبيق القاعدة الشرعية وفي الوسيلة إليه مع مشروعية الغاية ومشروعية الوسيلة، وهذه الصيغة من صيغ استثمار المال تصلح لمن عنده خبرة في مجالات الأعمال ولا تصلح لمن لا يستطيعون ضرباً في الأرض مثل الموظفين والأرامل والشيوخ ونحوهم.
ثانياً الاستثمار عن طريق نظام المضاربة
الإسلامية "فكرة توظيف الأموال المشروعة":
وهو نوع من أنواع المشاركة بين صاحب رأس المال وصاحب العمل، حيث يتوفر لدى الأول رأس المال وتنقصه الخبرة العملية أو يصعب عليه القيام بممارسة الخبرة العملية أو يصعب عليه القيام بممارسة المعاملات، ويتوفر لدى الثاني الخبرة والمقدرة على ممارسة نشاط المعاملات سواء أكانت تجارية أم زراعية أم صناعية أم خدمية ويتفقان سوياً على توزيع عائد ربح عمليات المعاملات الفعلية كل فترة زمنية بينهما بنسبة يتفقان عليها "أي تطبيق قاعدة الغنم بالغرم".
وهناك شروط مختلفة لعقد المضاربة الإسلامية، ولكن قد تتخذ أشكالاً مختلفة وكل أشكالها مشروعة ما لم تكن في أي منها مخالفة لنص شرعي، ويرجع في ذلك إلى فقه المضاربة في كتب الفقه.
ومن الضوابط الشرعية للمضاربة الإسلامية ما يلي:
- أن تكون في مجال الحلال الطيب.
- أن لا يضمن صاحب العمل رأسمال المضارب.
- أن لا يضمن صاحب العمل ربحاً محدداً مسبقاً لصاحب المال.
- يضمن صاحب العمل لصاحب المال التعدي والإهمال.
- لا يشترك صاحب المال في الإدارة بل له حق الإشراف والمراقبة.
ولكي يمكن تطبيق هذه الوسيلة أو الصيغة يجب أن يتوافر في صاحب العمل الأمانة والصدق والكفاءة الفنية، وهذا يتطلب من صاحب المال أن يختار من يخافون الله ولديهم الخبرة والحنكة والبصيرة.
ثالثاً: استثمار المال بطريق المشاركة (نظم الشركات: تضامن - توصية - محاصة):(2/128)
يُقصد بالمشاركة هنا أن يشترك اثنان أو أكثر في تجارة أو صناعة أو زراعة أو تقديم الخدمات للغير كل منهم يقدم مالاً وعملاً، على أن يقتسما ما يسوقه الله إليهم من ربح حسب ما يتفقا عليه، وإذا خسرا توزع بينهم الخسارة بنسبة حصة كل منهم في رأس المال.
وتتعدد صور ونظم المشاركة حسب طبيعة الشركاء والعمليات التي سوف يقومون بها، وفي ضوء القاعدة الشرعية: أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة ما لم يصطدم بنص شرعي يوجب التحريم، فكل المشاركات حلال، فمنها المشاركة الثابتة ومنها المشاركة المنتهية بالتمليك، ويعتبر استثمار الأموال طبقاً لنظام المشاركة من أهم الطرق المشروعة لملاءمتها مع طبيعة المشروعات الاقتصادية المعاصرة، وهناك صور مختلفة للمشاركة أجازها فقهاء الإسلام مثل شركات التضامن والتوصية البسيطة والمحاصة وشركات الصنائع، وشركات الوجوه، وأي صورة أخرى مستحدثة تتفق مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
ومن متطلبات هذه الصيغ وجود الشريك الأمين الصادق الكفء ومجال الاستثمار الحلال الطيب، كما يجب أن تكتب العقود وتوثق، ويوضح فيها شروط الإدارة وتوزيع الأرباح والخسائر والتصفية، والتخارج أو نحو ذلك، وهذه الشركات هي قوام النشاط الاقتصادي والتنمية الشاملة للمجتمع وتعالج مشكلة التضخم، لأن الأموال تكون مستثمرة في أصول عينية.
رابعاً: استثمار المال عن طريق المساهمات في رؤوس أموال الشركات المساهمة:
تعتبر شركات المساهمة وما في حكمها من صيغ الاستثمار التي أجازها الفقهاء المعاصرون لأنها تقوم على أساس قاعدة المشاركة في الربح والخسارة "الغنم بالغرم" بشرط أن تعمل في مجال الحلال الطيب ووفقاً للأولويات الإسلامية.
ورأسمال الشركة المساهمة مقسم إلى حصص يطلق على كل حصة سهم، ويعتبر حامل السهم شريكاً في صافي الموجودات "أصول" الشركة، وفي نهاية كل فترة مالية تحسب النتائج، فإذا كانت ربحاً يوزع على حملة الأسهم بضوابط قانونية ونظامية وإذا تحققت خسارة يتحملها حملة الأسهم بحسب ما يمتلك كل منهم، ويعتبر التعامل في الأسهم العادية حلالاً متى كانت الشركة المصدرة له تتعامل في الحلال.
وتعتبر الشركات بصفة عامة والشركات المساهمة بصفة خاصة من دعائم الأنشطة الاقتصادية بصفة خاصة من دعائم الأنشطة الاقتصادية في أي دولة وبدونها يكون الكساد والتخلف، وتحاول الدول وضع النظم وسن القوانين لتشجيع هذا المجال من الاستثمار.
كما تعتبر الأسهم من أهم الأوراق المالية التي يتم التعامل عليها في سوق الأوراق المالية حيث تسهل من انسياب الأموال لتمويل المشروعات وهذا ما تسعى الدول لتحقيقه.
وهنا يجب على دعاة المصالح المرسلة من الفقهاء أن يشجعوا هذا النوع من الاستثمار ولا يصدوا عنه لأنه أفضل من إيداع الأموال في البنوك بفائدة، ولأن المصلحة الحقيقية للوطن هي تشجيع إنشاء الشركات وحث الناس على شراء الأسهم الحلال بدلاً من تخزينها في البنوك بفائدة وفقاً لنظام المتاجرة في الديون، وهناك فروق جوهرية بين الربح الحلال الناتج من الأسهم وبين الربا الناتج من إيداع المال لدى البنوك التقليدية.
خامساً: استثمار الأموال بنظام المضاربة الإسلامية مع البنوك الإسلامية:
لقد أسست المصارف الإسلامية على أساس تجميع المال بصيغة المضاربة الإسلامية، فالعقد الذي بين المستثمر وبين المصرف الإسلامي هو عقد مضاربة يقوم على أساس قاعدة "الغنم بالغرم" أي المشاركة في الربح والخسارة، ويقوم المصرف الإسلامي بتشغيل تلك الأموال واستثمارها مع الغير بصيغ المشاركة والمرابحة والإجارة والاستصناع والسلم ونحو ذلك، وما يأتي من ربح يوزع بينه وبين أصحاب الأموال وتقوم هيئات الرقابة في المصارف الإسلامية بالاطمئنان إلى أن هذه المعاملات تتم وفقاً لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية وتغطي بذلك شهادة تنشر مع القوائم المالية.
من هنا نجد أن العقود التي بين أصحاب الأموال "المستثمرين - المودعين" وبين المصرف الإسلامي هي عقود مضاربة لا يضمن فيها المصرف ربحاً معيناً ولا يحدده مقدماً بل يعرف بعد استثمار هذه الأموال في تمويل المشروعات ومعرفة الأرباح الفعلية التي تُقسم بينهم وبين المصرف وذلك في نهاية كل فترة مالية.
وبالرغم من الشبهات والأخطاء التي تقع فيها بعض المصارف الإسلامية في بعض الدول العربية والإسلامية والأجنبية إلا أنها في مجملها أفضل من إيداع الأموال في البنوك التقليدية التي هي موضع شك وريبة ولا يطمئن إليها كثير من الناس.
وفي هذا المقام نناشد المسؤولين عن المصارف الإسلامية بأن يتقوا الله في معاملاتهم، كما نطلب من هيئات الرقابة الشرعية بذل المزيد من الجهد في الرقابة الفعالة لتأكيد الثقة وتجنب الشك وسد الذرائع أمام الناس.
استثمار الأموال من خلال المؤسسات التعاونية
تقوم المؤسسات التعاونية المختلفة على نظام المساهمة والمشاركة وفقاً لأسس معينة ولا تختلف هذه المؤسسات عن نظام الاستثمار في الشركات إلا من حيث نظم العمل والإدارة حيث تقوم على أساس قاعدة المشاركة في الربح والخسارة "الغنم بالغرم" وعدم ضمان ربح معين، ومن أمثلة ذلك تعاونيات الإسكان وتعاونيات النقل وتعاونيات التعليم وتعاونيات التأمين.
وهناك صيغ استثمار أخرى للمال يضيق المقام لبيانها مثل المزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإجارة المنتهية بالتمليك، وما ذكر كان على سبيل المثال لا الحصر.
حقائق وثوابت حول الاستثمار وفقاً للشريعة الإسلامية يجب على المسلم المؤمن التقي الوجل الذي يبحث عن كيفية استثمار ماله أن يوقن الثوابت الآتية:
- لقد أحل الله الربح الناتج من الأنشطة المختلفة الحلال الطيبة وحرم الربا الناتج من مبادلة مال بمال وزيادة.
- يمحق الله سبحانه وتعالى بركة المعاملات الربوية مصداقاً لقوله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا}.
- تجنب المعاملات التي فيها شبهات، "فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، فاتق الله أيها المستثمر، والتزم بوصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
- عندما يحرم الله باباً من المعاملات المالية يفتح أبواباً شتى من الحلال فهو سبحانه وتعالى الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
- يجب التحري والاطمئنان إلى الأدلة الشرعية التي يرتاح إليها قلب الإنسان.
- لقد خُتمت آيات الربا بالتذكير بالإيمان والتقوى {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}.
الاقتصاد الإسلامي / ربيع الآخر 1426هـ العدد 289
الدكتور / حسين شحاتة - خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية
==============
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
من أكثر القضايا التي تعددت فيها الفتاوى في واقعنا المعاصر هي قضيّة الربا. والرّبا أشدّ ما حرّمه الإسلام نصّاً في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة. فلا يحقّ أن يقف المسلم من هذه القضيّة ومن الفتاوى التي صدرت لها موقف الحائر التائه، إلا إذا غلبه الجهل بالكتاب والسنّة، وضعف الإيمان وغلب الهوى !
ولقد رافق اضطراب التصوّر لهذه القضية اضطراب التصوّر لقضايا أخرى كثيرة في واقع المسلمين اليوم. ولقد كشف عن هذا تعدُّد الفتاوى والآراء، وتعدُّد الأسس التي يَعتمد عليها هذا الرأي أو ذاك، واشتراك مستويات متعدِّدة في إصدار الرأي.(2/129)
ومما ساعد على ذلك الاضطراب والتعدُّدِ أنّ الواقع لم يعد يَفرض على كل صاحب رأي أن يُتْبِع رأيه بالحجّة والبيّنة من الكتاب والسنّة دون أي تأويل فاسد، ومن الواقع الذي يُفْهَم من خلال الكتاب والسنة. لذلك أصبح من السهل إطلاق الآراء متفلّتة من هنا أو هناك، ما دامت الحجة والبيّنة غير مطلوبة، وما دام الرأي يقاس بالهوى والرغبة أحياناً، وبالتصوّر البشري للمصلحة، وبضغط الواقع.
لقد أصبح تارك الصلاة حرّاً، وتارك الصوم حرّاً، وترى بعض النساء في كثير من الأقطار في العالم يخرجن كما يشاء لهنّ الهوى دون حشمة في اللباس، مع تبرّج وكشف للزينة، وإثارة للشهوات. وأصبح بعض الرجال المنتسبين إلى الإسلام يشربون الخمر جهاراً دونما حرج في حماية القانون.
خلاصة ذلك أن حدود الإسلام أصبحت تُنْتهك بصورة علنية، وأنَّ الفسق أصبح يُجْهَر به من الرجل والمرأة سَواءً بسواءٍ.
نظرة عاجلة في العالم الإسلامي تكشف لنا كيف أنّ عُرا الإسلام قد نُقضت عروةً فعروة، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لتُنقَضَنَّ عُرا الإسلام عُرْوةً عُرْوةً، فكلّما انتقضت عُرْوةً تشبّث النَّاس بالتي تليها، فأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة ) [ رواه أحمد وابن حبان والحاكم ](1)
في هذه الأجواء، حيث امتدت الديمقراطية والعلمانية بنظامها الرأسمالي، وحيث سيطر النظام الرأسمالي الربوي على معظم أنحاء العالم، أو جميعه، تُدعمه القوى العسكرية والإعلامية والفكرية العلمانية، وتدعمه حركات التنصير التي كانت في كثير من الأحيان ممهدة للزحف العسكري المعتدي، وتدعمه الشركات التجارية التي تجعل نشاطها كذلك ممهداً للغزو الإجرامي الظالم، وتدعمه القوى اليهودية ومؤسساتها، في هذه الأجواء صدرت الفتاوى المتعددة المتضاربة حول البنوك وعملها، وحول الفائدة الربوية وحكمها، وحول كلّ ما يتعلّق بذلك من قضايا.
لا نشكّ لحظة في أنّ " اليهود " كانوا من بين أهم القوى التي ساهمت في بناء النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي، كما كانوا هم بناة النظام الربوي في التعامل الاقتصادي في الجزيرة العربية قبل أن يلغي الإسلام هذا النظام كلّه ويُحرّمه تحريماً شديداً.
ولقد بدأ النهي عن الربا والتحريم في العهد المكّي بقوله سبحانه وتعالى :
( وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )
[ الروم : 39]
ثمّ أخذ بعد ذلك يسيطر على النشاط الاقتصادي الذي حلّ بكلّ مقوّماته في التعامل الاقتصادي بين المسلمين محلّ النظام الربوي اليهودي حتى إذا استقرّ الحكم للإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وشرع الله هو الأعلى، أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع حرمة الربا في خطبته في عرفة بعد أن زالت الشمس وأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله أكثر من مئة وأربعة وعشرون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، فقال في جملة ما قال :
( …إنّ دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كلُّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنّه موضوع كله …..)(2)
إذاً، كان هناك نهجٌ وخطة يدفَعُها الإسلام ويبنيها الإيمان في رعاية الوحي المتنزّل من السماء على النبوة الخاتمة. لقد كان هناك نهج رباني أُنزل ليمتدّ مع الزمن، وليمتدّ في الأرض، لا ليتوقف أو يتراجع.
أنزل الله هذه الرسالة رسالة كاملة، اكتملت مع حجة الوداع، لتحملها أمة الإسلام أمانة في عنقها حتى قيام الساعة، لتطبّقها كلّها لا جزءً منها. لتُحِلّ الحلال وتُحرّم الحرام وتقيم شرع الله في جميع شؤون الحياة.
وجاء تحريم الربا في الكتاب والسنة تحريماً قاطعاً، أشدّ ما في الإسلام من تحريم، جاء تحريماً بيّناً جليّاً حتى ييسّر الله لعباده اجتناب الحرام.
وجاءت أحكام الإسلام ونصوصها تحيط بأفعال العباد في كلّ عصر وكلّ مكان إلى أن تقوم الساعة، وتوفّر البيان للمؤمن التقي لكل عمل يقوم به ليظل عارفاً بما أحلّ الله له وما حرّم عليه.
وما كان الله ليترك عباده في حَيْرة من أمرهم، لا يدرون ما هو الحلال وما هو الحرام، ومصير الإنسان مع الحرام إلى النار، إلى جهنم ! فالله أرحم بعباده من أن لا يبين لهم.واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( …. ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين )
[ النحل : 89]
وكذلك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إنَّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإنّ لكلّ ملك حِمى ألا وإنّ حِمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه. ألا وهي القلب )
[ رواه الشيخان ]
إنَّ التكاليف الربَّانية التي هي شأن كلّ مسلم جاء بيانها وافياً لكل من صدق إيمانه وأتقن اللغة العربية، وذلك واجب على كلّ مسلم، ولا عذر لمسلم إذا تخلّف عن الوفاء بطلب العلم من الكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية، ورضي بالبقاء على جهله.
فعن أنس وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
[ أخرجه الطبراني وغيره [(3)
ولقد يسّر الله برحمته القرآن الكريم للذكر، للتلاوة والتدبّر والعمل به : ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )
[ القمر : 17]
"فالربا " كما جاء تحريمه في القرآن والسنّة، لا بدّ أن يكون واضحاً جليّاً لكلّ مسلم حتى لا يقع أحد في أمر حرام ولا في شبهة. فأمر " الربا " متعلّق بكلّ مسلم وليس يطبقه خاصة من المسلمين.
والحلال والحرام لا يُبيَّن إلا من عند الله ورسوله، وليس لأحد أن يحرِّم أو يُحلِّل دون نصّ من الكتاب والسنّة، أو اجتهاد قائم على نصّ واضح. وأمر ذلك عظيم، فالناس ستقف للحساب يوم القيامة، ثمّ إلى جنّة أو نار، فلا يُعقل أبداً أن يترك الله سبحانه وتعالى أي أمر يقود إلى النار إلا بيّنه، فإذا التبس الأمر على أحد فهو نتيجة خلل عنده وليس في منهاج الله، وعليه أن ينهض ليعالج الخلل عنده، كجهله باللغة العربية وعدم طلبه العلم من الكتاب والسنة، أو غلبه الهوى والشهوات في نفسه، وخضوعه لضغط الواقع، فيؤوّل ويُفسد في التأويل :
( ….فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد )
[ ق : 45]
والرّبا المحرّم في الإسلام هو كلّ ربا كان معروفاً لدى المسلمين، أو لم يكن معروفاً، ما دامت عِلّة الربا متحقِّقة فيه، إلى يوم القيامة. ذلك لأنّ نصوص الأحكام تحيط بجميع أفعال العباد إلى يوم القيامة في أي مكان رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده.(2/130)
فإذا كان الناس في جاهلية ابتدعوا نوعاً من التعامل المحرّم، أو تعلّموه من اليهود، فإنَّ الناس يمكن لهم في كلّ زمن أن يستحدثوا من وسائل التعامل بالمال والبيع ما فيه حرام وظلم، وبصورة خاصة عندما تُسْتحدث هذه الوسائل والأبواب في مجتمعات لا تلتزم بأحكام الإيمان وتشريع الإسلام، فيغلب عليها الظلم والعدوان واستغلال القوي للضعيف، والخداع والغش وغير ذلك، حيث يسود قانون بشريٌ لا يمكن له أن يرعى مصالح العباد كما يرعاها التشريع الرباني، مهما حمل من وسائل الزخرف والإغراء.
وعِلّة تحريم الربا هي الظلم واستغلال حاجة الضعيف للقوي، والفقير للغني، وبصورة عامة، "هي أكل أموال الناس بالباطل ".
ليست القضية قضيّة عقلية فقط، فالعقل البشري وحده لا يستطيع أن يكشف جميع أنواع الباطل وأساليبه الشيطانية، إلا أن يكون شرع الله هو الذي يهدي العقل وينير له الطريق، ولا يستطيع العقل وحده أن يدرك جميع حقائق الحكمة الربانية البالغة في تشريعه، وقد يدرك بعضها.
فالنظام الرأسمالي والفكر العلماني لا يمكن أن ينشأ منهما عدل حقّ ينبثق من أجواء الفاحشة بكلّ أنواعها، وأجواء العدوان والغزو وسرقة ثروات الشعوب. حتى العقل البشري سيضلُّ عن الصراط المستقيم حين تدفعه وتوجهه العلمانية ومذاهبها والرأسمالية وطغيانها والشهوات والنزوات وصراع المصالح المادّية الدنيوية، وضغوط ذلك كلّه.
إنَّ بعض المسلمين الذين أخذوا يُؤوّلون بعض ما حرّم الله في نُصوص ثابتة، إنما تأثّروا بهذا الجوّ الصاخب من الديمقراطية والعلمانية، حتى أصبح كثير منهم يتحاكمون إلى عقولهم وحدها، بعيداً عن نور الإيمان والتوحيد، وعن نصوص التشريع الربّاني، تؤثّر فيهم زخارف العلمانية وضغطها الكبير، وقد يلوون الآيات والأحاديث عن معناها الحقّ، أو يؤولونها تأويل هوى.
و"الضرورة " لها ضوابط وأحكام، فلا يجوز أن نغيّر أحكام الإسلام كلما وجدنا صعوبة في الواقع أو ضغطاً منه، ثمّ نُسمي ذلك " فقه الواقع ". فلا يوجد شيء اسمه " فقه الواقع "، لأن الفقه كلّه للواقع، والواقع كلّه ركن من أركان القفه. يمكن أن نقول " فقه الاقتصاد "، أو " فقه السياسة ". فالفقه له ثلاثة أركان: صفاء الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، ووعي الواقع من خلاله لا من خلال هوى.
لقد طوّر المجرمون في الأرض جميع أسباب الفتنة والفساد في الأرض، وسخّروا العلم لذلك كلّه، فقد تعددت ألوان الفاحشة وألوان الإغراء لها، وقد تطوّرت وسائل الظلم والعدوان، وسُخّر العلم لذلك، فلا عجب إذا طوّر المجرمون في الأرض وسائل أكل المال بالباطل، وأشكال الربا، واستحدثوا منها ما لم يكن متوافراً سابقاً، ولكنّ منهاج الله بنصوصه المطلقة الثابتة هو حقٌّ مطلق يحيط بأحوال العباد وأفعالهم في كل زمان ومكان. وإن بدا قصور فهو في جهد الإنسان وضعفه وليس في منهاج الله. لذلك جاء منهاج الله حقّاً مطلقاً للعصور كلّها وللبشرية كلها، وهذا وجه من وجوه إعجازه لا يبلُغه أيّ منهج بشري. عندما ندرس الواقع اليوم، وما قد يفرضه من ضرورة أو حاجة، فلا ندرس جزءً من الواقع ونغفل أجزاءً وأجزاءً ! فالمسلم الذي يرمي نفسه في أجواء الضرورة تحت هذا العذر أو ذاك، ولم يكن قد استفتى الإسلام حين رمى بنفسه في أجواء الضرورة أو الفتنة، حتى إذا عرضت له حاجة لا تتمّ له إلا بارتكاب الحرام، تذكر عندئذ الإسلام وأخذ يبرز حكم الضرورة والحاجة. وربما يكون ما يدّعيه بعضهم من حاجة وضرورة شرعية هو رغبة أكثر منها حاجة وضرورة، أو حاجة لتحسين مستواه يسميها ضرورة شرعية.
إنَّ ممارسة الحرام لا تجعله حلالاً، ولو كان تحت الضرورة. فالضرورة يجب أن تكون حالة غير مستديمة في أغلب الحالات، والتحريم مستديم.
والضرورة تكون لفرد أو أفراد، أمّا أنْ تكون للمسلمين جميعاً أو لقطاع واسع منهم، فتلك ضرورة تحتاج إلى وقفة طويلة، ودراسة واسعة أمينة لمعرفة سبب نشوئها وحقيقة حكمها.
فإذا كانت الحاجة والضرورة ناتجةً عن هوان المسلمين وعدم وفائهم بعهدهم مع الله، ولا بالأمانة التي يحملونها، أو ناتجة عن تقصير أدّى إلى تقصير، وتنازل أدّى إلى تنازل، حتى غلب الهوان على المسلمين، وخضعوا مستسلمين لغير شرع الله، وابتلاهم الله بما كسبت أيديهم، فتفرَّقوا ورضوا بالفرقة التي حرّمها الإسلام، وتمزّقوا ورضوا كذلك بالتمزيق، وتصارعوا وقد نهاهم الله عن ذلك، فَفُتِحَت القلوب والديار لأعداء الله الذين فرضوا شرعاً غير شرع الله، أنأتي بعد ذلك كلّه لِنُفتي لمن اضطرّته هذه التنازلات إلى ارتكاب ما يخالف الإسلام بجواز المخالفة، وندع المخالفة الأكبر والانحراف الأشدّ دون فتوى ؟! كيف يعقل هذا ؟!
لا يحلُّ لنا أن نلقي بهواننا وعجزنا وتقصيرنا وتفريطنا في أهمّ التكاليف الربَّانية على دين الله، ولا يحلّ لنا مع هذا كلّه أن نفتي لمن قنع واستسلم ورضي بحكم غير حكم الله في ألف قضيّة هامة وخطيرة، بجواز مخالفة هذه أو تلك تحت ادعاء ضرورة هو صنعها، أو صنعتها أمته وأهله.
إنَّ مفهوم الضرورة في الإسلام كان يحمل معناه والأمة المسلمة عزيزة قوية، ناهضة بمسؤولياتها. أما اليوم فللقضيّة كلّها صورة أوسع. وأول ما ندعو إليه أن ينهض المسلمون كلٌّ إلى مسؤولياته يطلب الآخرة يؤثرها على الدنيا. وأول هذه المسؤوليات الشرعية أن ينهض كل مسلم إلى الوفاء بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالآيات الكثيرة في كتاب الله، مما يفرض على كل مسلم أن يعرف دينه، وأن يعرف المسؤوليات التي سيحاسبه الله عليها والتي تقوم على الشهادتين والشعائر، التكاليف الربانية التي تنهض على الأركان الخمسة والتي تبني عليها. ومن أين يعرف المسلم هذه التكاليف الربانية إلا من منهاج الله. ونعيد ونذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
ما بال بعض المسلمين اليوم يسألون عن الفتوى في حاجة عرضت لهم، ولا يسألون الفتوى فيما هم فيه من تقصير وعجز ومخالفة وهوان. ومن الذي عليه واجب إيقاظ المنتسبين إلى الإسلام بمسؤولياتهم الفرديّة والتكاليف الربانية ؟!
فإذا رضي هذا وذاك قرناً أو قرنين أو قروناً بمخالفة الإسلام والتنازل عن شرعه وأحكامه، أفيأتون ليستفتوا في حاجة عرضت، جاهلين حاجات أخرى ومسؤوليات أخرى.
أما من وجد أنه أوفى بعهده مع الله، وبالتكاليف الربَّانية، واستوعب ذلك جهده وعلمه وطاقته وأمانته، فنقول إن حسابه وحسابنا كلّنا عند الله سبحانه وتعالى.
لذلك لا بدّ من تناول قضايا واقع المسلمين اليوم ـ نتناولها واحدة واحدة حسب أهميتها في ميزان الله، لتُدْرس ويوضَع لها العلاج النابع من الكتاب والسنة، على صورة منهجيّة تجتمع عليها الأمة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص.
ولا أجد في واقع المسلمين اليوم إثماً ولا معصيّة أشدّ من تفرِّق المسلمين بما كسبت أيديهم.
من خلال ذلك كلّه، لا بدّ أن يتحمّل المسلم نفسه مسؤولية الضرورة التي تدفعه إلى إثم أو معصية، وأن يتخذ هو قراره بنفسه دون أن تصدر فتوى عامة للمسلمين تبيح ارتكاب ما حرّم الله فيتحمّل واحدٌ آثام الجميع. ومن وجد أنه لا يستطيع أن يُفتي لنفسه فليسأل من هو أعلم منه، على أن ينهض فوراً إلى مسؤولياته الفرديّة والتكاليف الربانية المنوطة به، وإن مثل هذا النهوض هو أول الخطوات لمعالجة هذه الأمراض، وعسى أن يغفر الله به لعباده المؤمنين الذين التقوا صفاً واحداً يجاهدون في سبيل الله على نهج وخطة.(2/131)
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم (5057).
(2) الرحيق المختوم : صفي الرحمن المباركفوري ـ ص: 421. وسائر كتب السيرة.
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : ( 3913).
==============
كفالة مقترض الربا
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الضمان والكفالة
التاريخ ... 24/11/1423هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هناك مؤسسة تعنى بشؤون الإسكان تقدم قروضا لمن يرغب في استكمال إعمار بيته بفائدة قليلة 3% ولمده تزيد على خمس سنوات من باب مصاريف الموظفين، وقد أفتى بعض العلماء هنا بجواز ذلك فهل يجوز لي أن أكفل شخصاً يريد أخذ قرض من هذه المؤسسة؟
الجواب
لا يجوز الاقتراض بفائدة ربوية مهما قلت النسبة ولو وزعت على عشرات السنين لأن قليل الربا وكثيره حرام، وتبرير هذه النسبة الربوية على أنها أتعاب ومصاريف للموظفين غير صحيح وإنما ذلك تزيين من الشيطان والنفس أمارة بالسوء ولا أعرف فتوى معتبرة لأهل العلم كما ذكرت في سؤالك، إذ ربما السؤال أو تعليل الجواب على غير هذه الصورة المسؤول عنها هنا. وعلى فرض وقوع هذه الفتوى على هذه الصورة فإنه من الخير لك أن تجتنب الشبهات فتأخذ بالأحوط فيما يخصك لحديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" البخاري (52)، ومسلم (1599) وفي الحديث الصحيح " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" مسلم (2553) وفي الحديث الآخر: "استفت قلبك البر ما اطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك" أحمد (18006). وعلى هذا فلا يجوز لك أن تكفل شخصاً يتعامل بهذه المعاملة. وصلى الله على نبينا محمد.
===============
الربا في ضوء الكتاب والسنة
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 11 / ص 143)
الربا في ضوء الكتاب والسنة
بقلم الشيخ عبد الله عبد الغني خياط
سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
تقديم
الإسلام دين العمل والكد ، وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ ، وبقدر ما يغرس يحظى بالثمار ، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه دون عناء وبذل جهد ، فليس ذلك من دين الإسلام ، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام وحض عليه ورغب فيه ، ألا ترى كيف توحي الآية الكريمة التالية وأمثالها بمزاولة العمل بعد أداء فريضة الله ابتغاء رزق الله ، ودفعا للتبطل ، يقول الله سبحانه : سورة الجمعة الآية 9 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سورة الجمعة الآية 10 فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 194)
فالأمر بالانتشار في الأرض قرنه سبحانه بالفريضة التي هي عماد الدين ، وفتح الأنظار للاتجاه إليه والأخذ كمقوم للحياة ترتكز عليه ، وجاء في الحديث : صحيح البخاري البيوع (1966),سنن ابن ماجه التجارات (2138),مسند أحمد بن حنبل (4/132). ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ، وفي حديث آخر يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفقير جاء يطلب مددا من المال : صحيح البخاري الزكاة (1401),صحيح مسلم الزكاة (1042),سنن الترمذي الزكاة (680),سنن النسائي الزكاة (2589),مسند أحمد بن حنبل (2/300),موطأ مالك الجامع (1883). لئن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلا يعطيه أو يمنعه .
هذه مقدمة وضعناها بين يدي بحث اليوم لنركز في الأذهان أن الربا تبطل وقعود عن الكسب المشروع ، واستمراء لحياة رتيبة لا نصب فيها ولا كد ولا عناء أو جهد ، بل يعيش صاحبها على حساب الآخرين يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم ، ويجعلهم كالأجراء يعملون له ، وليتهم يأخذون أجرا على عملهم ، وإنما يأكلون من فتات المائدة لو فضل من المائدة فتات ، وسوف نسير - إن شاء الله - في كتابة هذا البحث على المخطط الذي رسمناه له على ضوء الكتاب والسنة ، فنبدأ أولا بتعريف الربا لغة وشرعا ، ( 2 ) الربا في آي الكتاب العزيز ، ( 3 ) الربا في السنة ، ( 4 ) حكم الربا في الإسلام ، ويشتمل هذا المبحث على :
أ - مضار الربا .
ب - تحريم الربا .
ج - أنواع الربا وحكم كل نوع .
د - وسائل القضاء على الربا ويتفرع عنه ما يأتي :
1 - القرض الحسن .
2 - الحض على التعاون لصالح الفرد والمجتمع ، وهذا التعاون يترجم عنه التعاون الصناعي والتعاون الزراعي التعاون الاجتماعي .
3 - خطر الربا الاستهلاكي والإنتاجي .
4 - خاتمة .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 195)
تعريف الربا لغة وشرعا
أما التعريف اللغوي فهو : الزيادة على الشيء ومنه (أربى فلان على فلان ) إذا زاد عليه (وربا الشيء) إذا زاد على ما كان عليه فعظم (فهو يربو ربوا) ، وإنما قيل للرابية (رابية) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم (ربا يربو) ، ومن ذلك قيل (فلان في رباوة قومه) يراد أنه في رفعة وشرف منهم فأصل الربا الأناقة والزيادة , ثم يقال : (أربى فلان) أي أناف ماله حين صيره زائدا وإنما قيل للمربي (مرب) لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه ولذلك قال تعالى : سورة آل عمران الآية 130 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً آل عمران ، من الآية 130 ، تفسير الطبري ج 6 ص7 . .
وأما تعريف الربا في الشرع فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النسء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال : صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200),سنن الدارمي البيوع (2580). إنما الربا في النسيئة ، وقال عمر بن الخطاب إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة .(2/132)
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر ؛ لأنه كان عالما بأسماء اللغة ؛ ولأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نسء ربا ، وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الإسلام موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك أحكام القرآن ج1 ص551 - 552 . .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 196)
مبحث الربا في الكتاب العزيز
ننتقل بعد هذا البسط في مدلول الربا لغة وشرعا إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الربا موضحا قال تعالى في سورة البقرة سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ سورة البقرة الآية 276 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ سورة البقرة الآية 277 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سورة البقرة الآية 281 وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ .
تفسير الآيات
يقول الحافظ ابن كثير - يرحمه الله- : " لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين للنفقات المخرجين للزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك أنه يقوم قياما منكرا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق . رواه ابن أبي حاتم ، ونقل- أي ابن كثير - عن بعض مفسري السلف نحو هذا المعنى , ثم استمر يرحمه الله في نقل الروايات عن مفسري السلف في أن قيامهم على الوضع المذكور يكون يوم القيامة ونقل
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 197)
عن ابن جرير بالسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا الآية وذلك حين يقوم من قبره تفسير ابن كثير , ج2 ص 54-55 . , وجاء في "فتح القدير" عند تفسير قوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا قوله : اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل ، وقوله : سورة البقرة الآية 275 لَا يَقُومُونَ أي يوم القيامة كما يدل عليه قراءة ابن مسعود وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر ، وقيل : المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون كما يقال لمن يسرع في مشية ويضطرب في حركاتها : إنه قد جن , ومنه قول الأعشى :
وتصبح من غب السرى وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أولق
فجعلها - أي ناقته - بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون ، وقوله : سورة البقرة الآية 275 إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه , والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع , والمس : الجنون , والأمس : المجنون , وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم سورة البقرة الآية 275 إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ أو متعلق بيقوم , وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع , وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان وليس بصحيح وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان .
كما أخرجه النسائي وغيره قوله ذلك إشارة إلى ما ذكر من مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا , أي : إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك فرد الله عليهم بقوله : سورة البقرة الآية 275 وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا أي أن الله أحل البيع وحرم نوعا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا . والبيع
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 198)(2/133)
مصدر باع يبيع أي دفع عوضا وأخذ معوضا ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب ، قوله : سورة البقرة الآية 275 فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا فانتهى أي : فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف ، أي : قوله : فانتهى على قوله : جاءه وقوله : من ربه متعلق بقوله : (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي كائنة من من ربه فله ما سلف أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا ، وقوله : سورة البقرة الآية 275 وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ قيل : الضمير عائد إلى الربا ، أي : وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمراره ذلك التحريم , وقيل الضمير يرجع إلى المرابي , أي : أمر من عاد بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية ومن عاد إلى أكل الربا والمعاملة به سورة البقرة الآية 275 فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والإشارة إلى من عاد ، وجمع أصحاب باعتبار معنى من ، وقيل إن معنى من عاد هو أن يعود إلى القول سورة البقرة الآية 275 إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود , وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد [أي : طويل البقاء] ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار قوله : سورة البقرة الآية 276 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا أي يذهب بركته في الدنيا ، وإن كان كثيرا فلا يبقى بيد صاحبه . وقيل : يمحق بركته في الآخرة , قوله تعالى : سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قوله : اتقوا قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا , وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا ، قوله تعالى : سورة البقرة الآية 278 إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ، وقيل : إن إن في هذه الآية بمعنى (إذ) قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه ، قوله : سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا سورة البقرة الآية 279 فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به , وقيل هو من الأذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طريق العلم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك , وتنكير الحرب للتعظيم وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 199)
الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته ، قوله فإن تبتم أي من الربا سورة البقرة الآية 279 فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ تأخذونها سورة البقرة الآية 279 لَا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة سورة البقرة الآية 279 وَلَا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالمطل والنقص , والجملة حالية أو استثنائية وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم ، قوله : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ لما حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى يسار , [والعسرة] ضيق الحال من جهة عدم المال , ومنه جيش العسرة , [والنظرة] التأخير , [والميسرة] مصدر بمعنى اليسر وارتفع ذو بكان التامة بمعنى وجد ، واستمر في شرحه لرفع ذو ثم أورد رواية للمعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان : "إن كان ذا عسرة" قال النحاس ومكي والنقاش وعلي : هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين وإليه ذهب الجمهور .
قوله : سورة البقرة الآية 280 وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد أي : وأن تصدقوا على معسر غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من الإنظار قاله السدي .
ونقل ابن جرير الطبري في تفسيره أن المراد : التصدق برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم قال : ( وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه ) تفسير الطبري ,ج6 ص 35 . .
قوله : سورة البقرة الآية 280 إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابه محذوف أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به ، قوله : سورة البقرة الآية 281 وَاتَّقُوا يَوْمًا هو يوم القيامة ، وتنكيره للتهويل ، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف ، قوله سورة البقرة الآية 281 تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وصف له , وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم قوله إلى الله وفيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله سورة البقرة الآية 281 ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ من النفوس المكلفة ما كسبت أي : جزاء ما عملت من خير أو شر وجملة سورة البقرة الآية 281 وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حالية , وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء , كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب ,
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 200)(2/134)
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس , وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا . فأنزل الله هذه الآية , وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع , فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة , وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية , فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال : إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب , وبسند ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله : سورة البقرة الآية 279 فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه , وأخرجوا أيضا عنه في قوله : سورة البقرة الآية 279 فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قال : استيقنوا بحرب ، وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055). ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع , لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس . وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه سورة البقرة الآية 279 وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ وبالسند عن ابن عباس في قوله تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ قال : نزلت في الربا ، وأخرج عبد الرزاق بالسند عن ابن جريج عن الضحاك في الآية قال : وكذلك كل دين على مسلم , وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره , وبالسند عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن سورة البقرة الآية 281 وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وعن ابن عباس أيضا كان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوما , وعن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال فتح القدير (1ص 297 ـ 298- 299 ) . ا هـ .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 201)
خلاصة التفسير
تلخص من مجموع ما أوردناه في تفسير الآيات ما يأتي :
1- المراد بأكل الربا جميع التصرفات وعبر عن ذلك بالأكل لأنه الغرض الرئيسي وغيره من الأغراض تبع له .
2- تشبيه المرابي بالمصروع لأن المصروع يتخبط في سيره فينهض ويسقط وكذلك آكل الربا يوم القيامة .
3- تشبيه البيع بالربا مبالغة في جعل الربا أصلا في الحل والبيع فرعا والعكس هو الصحيح .
4- المحقق يشمل ما يأتي :
أ - المحق بالكلية بحيث يذهب المال من يد المرابي دون أن ينتفع به .
ب - محق بركة المال مهما كثر فإن عاقبته إلى قل .
5- إسدال الستر على ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه فلا يلحق المرء تبعته .
6- الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله لها .
7- الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم .
8- للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه .
9- الترغيب في إنظار المعسر أو إبراء ذمته من الدين .
10- توجيه الأنظار ليوم القيامة والتذكير بالوقفة فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال .
( مبحث الربا في السنة النبوية )
قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا فيما تقدم من هذا المبحث للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 202)
والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة النبوية في موضوع الربا ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها بما يلي :
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الوصايا (2615),صحيح مسلم الإيمان (89),سنن النسائي الوصايا (3671),سنن أبو داود الوصايا (2874). اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله , والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل الربا , وأكل مال اليتيم , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات رواه البخاري ومسلم .
الشرح
قوله (اجتنبوا) أي : أبعدوا وهو أبلغ من قوله دعوا واتركوا لأن النهي عن القربان أبلغ كقوله : سورة الأنعام الآية 151 وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قوله : الموبقات أي : المهلكات وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب , وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال : سنن أبو داود الوصايا (2874). الكبائر تسع وذكر السبعة المذكورة وزاد والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تعداد الكبائر ، قوله : (الشرك بالله) هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله . بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به في الأرض كما في الصحيحين عن ابن مسعود صحيح البخاري تفسير القرآن (4207),صحيح مسلم الإيمان (86),سنن الترمذي تفسير القرآن (3183),سنن النسائي تحريم الدم (4014),سنن أبو داود الطلاق (2310),مسند أحمد بن حنبل (1/434). سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك الحديث ، وأخرجه الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال ثم أورد الحديث بتمامه وقال : صحيح .
قوله : (السحر) السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه ، وقال في الكافي : السحر عزائم ورقى يؤثر في القلوب والأبدان إلى آخر ما أفاض فيه الشارح يرحمه الله ، قوله : ( وقتل النفس التي حرم الله) أي حرم الله قتلها وهي نفس المسلم المعصوم . (إلا بالحق) أي : بأن تفعل ما يوجب قتلها , قوله : (وأكل الربا) تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ الآيات من سورة البقرة ، قال ابن دقيق العيد : وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك وأكل مال اليتيم يعني التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع , قوله : ( والتولي يوم
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 203)(2/135)
الزحف) أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال ، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال كما قيد به في الآية (15) في سورة الأنفال سورة الأنفال الآية 15 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وقوله : (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) أي : المحفوظات من الزنا والمراد الحرائر العفيفات فتح المجيد (ص 237 إلى 240) فتح الباري 12 / 181-184, وصحيح مسلم بشرح النووي 2 / 83-88 . .
2 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535). أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ النسائي : سنن النسائي الزينة (5102),مسند أحمد بن حنبل (1/465). آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
3 - عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مسند أحمد بن حنبل (5/225). درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية رواه أحمد .
الشرح
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن النسائي الطلاق (3416),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء . وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند النسائي وعن أبي جحفة , وحديث عبد الله بن حنظلة أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد رجال الصحيح ، ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ : سنن ابن ماجه التجارات (2274). الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وهو حديث صحيح , وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ : سنن ابن ماجه التجارات (2274). الربا ثلاثة وسبعون بابا أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وأخرج ابن جرير نحوه ، وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ : سنن ابن ماجه التجارات (2275). الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم وهو حديث صحيح ، وقوله (آكل الربا) ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا أي : ولعن مطعمه غيره ، وسمي آخذ المال آكلا ، ودافعه مؤكلا ؛ لأن المقصود منه
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 204)
الأكل وهو أعظم منافعه وسببه إتلاف أكثر الأشياء .
قوله : (وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي وشاهديه أو شاهده ، قوله : (وكاتبه) دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك ، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم ، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد , قوله : (أشد من ست وثلاثين . . . إلخ ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح ، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعله الشارع أربى الربا . فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل نيل الأوطار , ح 5 ( ص 296-297) . .
4 - حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي : قال : صحيح البخاري التعبير (6640),صحيح مسلم الرؤيا (2275),سنن الترمذي الرؤيا (2294),مسند أحمد بن حنبل (5/15). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه فقال : هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله ، فسألنا يوما هل رأى أحد منكم رؤيا فقلنا : لا ، قال : ولكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض مستوية أو فضاء ، فمررنا برجل جالس ورجل قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقه فيشقه حتى يبلغ فاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به مثل ذلك ، قال : قلت ما هذا؟ قالا : انطلق ، واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سرد رؤيته إلى أن قال : فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل قائم بين يديه حجارة فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج منه رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرده حيث كان ، فقلت لهما : ما هذا؟ قالا : انطلق . الحديث أخرجه البخاري نعرض بعد هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين :
قالا : أما الرجل الذي رأيت يشق شدقه فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فهو يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة ، وأما الرجل الذي رأيته يشدخ رأسه فإن ذلك رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار فهو
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 205)
يعمل به ما رأيت إلى يوم القيامة ، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا وهذه الفقرة هي المقصودة من إيراد هذا الحديث شرح السنة , ص 51-52-53 . .
وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا الحديث أو على الفقرة التي جاء فيها الوعيد لآكل الربا بقوله . . . " إن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم بالحجارة وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام في الدنيا ، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سنن النسائي الزكاة (2562),مسند أحمد بن حنبل (2/69). أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال اليتيم بغير حق ، والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا أخرجه الحاكم وأبو الشيخ والمقدسي في المختارة ، وقد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضا تقع فيها يوم السبت ، فيأخذونها يوم الأحد . فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير ، وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين الكبائر , ص68-69 . . ا هـ .
وحسبنا الأحاديث التي أوردناها عن الربا وبشاعته وعقوبة المرابين ، ننتقل بعد ذلك إلى :
مبحث حكم الربا في الإسلام(2/136)
وقد تقدم من آي الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ما يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالا للتردد في ذلك أو التأويل ولم يحرم الإسلام شيئا إلا لحكمة واضحة أو منفعة تعود على العباد وتبعا لتحريمه حرم الوسائل المفضية إليه سدا للذريعة ، فمثلا : حرم بيع العينة بكسر العين وفتح النون وهي : أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته ، وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها ؛ ولأنه يعود إلى
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 206)
البائع عين ماله ، واستدل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84). إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم .
ففي هذا الحديث دليل على تحريم هذا البيع ، وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية قالوا : لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع ، قال القرطبي : لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغوا سبل السلام , ج3 , ص 55 . . ا هـ . نعود إلى الحديث آنف الذكر سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84). إذا تبايعتم بالعينة الحديث . لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سنده يهبط به عن درجة الصحة .
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : " هو حديث صحيح لمجموع طرقه وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا ، الأولى : عن إسحاق أبي عبد الرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال : فذكره- أي الحديث - إلى أن قال- أي الشيخ الألباني - : روي ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث ، وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما وهو الطريق الثانية : عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أخرجه أحمد ، الثالثة : عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد .
ثم وجدنا له شاهدا من رواية بشير بن زياد الخراساني حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره- أي الحديث ، أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير هذا من (الكامل) وهو غير معروف ، في حديثه بعض النكارة ، وقال الذهبي ولم يترك سلسلة الأحاديث الصحيحة , ج1 , ص15ـ 16 . . وجاء في (معالم السنن) توجيه الخطابي لوجهة نظر المحرمين للعينة ، قال المحرمون للعينة : الدليل على تحريمها من وجوه , أحدها : أن الله تعالى حرم الربا والعينة وسيلة إليه بل هي من أقرب وسائله ، والوسيلة إلى الحرام حرام ، فهنا مقامان أحدهما : بيان كونها وسيلة ، والثاني : بيان الوسيلة إلى الحرام حرام ، فأما الأول فيشهد له النقل والعرف والنية
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 207)
والقصد وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة إلى أن قال : وأما شهادة العرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير بل قد علم الله وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها , ولا غرض لهما فيها بحال وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول ، مائة بمائة وعشرين وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث ، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه بل جيء به لمعنى في غيره ، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد لأنهم لا غرض لهم فيها ، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا . وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما ، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محلالا لما حرم الله ورسوله .
وأما المقام الثاني وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام ، فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول ، فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة ، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم ، وقال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل . والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أو شرعية والخداع حرام , وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا . وإنما قصده حقيقة الربا .
وأيضا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بأختها أصلا ؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين ، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه ، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما . والثاني باطل قطعا فتعين الأول ، وأيضا فإن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم الفساد والضرر فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل مختصر سنن أبي دواد , ج 5 ص (100, 101, 102 ) . ا هـ .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 208)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - جملة فتاوى في مسألة بيع العينة منها : أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم واشتراه منه بألف ومائتي درهم إلى أجل معلوم .
فأجاب : لا يحل له بذلك بل هو ربا باتفاق الصحابة والعلماء ، كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة تم ابتاعها لأجل زيادة درهم فقال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ، وسئل عن ذلك أنس بن مالك فقال : هذا مما حرم الله ورسوله . وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فمتى كان المقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل ، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .(2/137)
فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة , وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432). من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا , وفيه أيضا : سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84). إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم وهذا كله بيع العينة وهو بيعتان في بيعة ، وقال صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),سنن الدارمي البيوع (2560). لا يحل سلف وبيع ولا سلف ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك قال الترمذي : حديث صحيح ، فحرم صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل شيئا ويقرضه مع ذلك فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض حتى ينفعه فهو ربا . وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا ، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وما أشبه ذلك ، والله أعلم مجموع الفتاوى , ج29 ـ ص431, 432, 433 .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 209)
الخلاصة
اتضح مما أوردناه من آي الكتاب العزيز وتفسيرها والسنة النبوية وشروحها وأقوال الصحابة والتابعين : اتضح تحريم الربا في الإسلام والوسائل المفضية إليه فتلخص من ذلك ما يأتي :
1 - النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل .
2 - إنه من الموبقات أي المهلكات .
3 - إنه من كبائر الذنوب .
4 - لعن آكل الربا ومؤكله وكل من تعاون عليه بكتابة أو شهادة .
5 - معصية أكل الربا تجاوزت الحد في القبح لأنها تعدل معصية الزنا .
6 - آكل الربا كما جاء في حديث سمرة وتعليق صاحب شرح السنة : يعذب في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر ، ويلقم بحجارة من نار ، وعليه اللعنة ثم الحيلولة بينه وبين دخول الجنة .
7 - حرمة عرض المسلم وتحريم الاستطالة فيه .
8 - أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل تحيلهم على أكله .
9 - من وسائل التحيل لآكل الربا بيع العينة .
10 - الوعيد الوارد على التبايع بالعينة .
11 - الوسيلة للحرام محرمة .
12 - تحريم الربا وإباحة الوسيلة الموصلة إليه هو جمع بين النقيضين وذلك لا يقره الإسلام .
13 - لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 210)
14 - ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا ، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وأمثال ذلك .
مضار الربا وحكمة تحريمه
قلت في مقدمة هذا البحث : إن الإسلام دين العمل وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ ، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه فليس ذلك من دين الإسلام بل هو مناقض لما جاء به الإسلام . ومن ثم نجد المدخل لمضار الربا فهو تبطل يعيش المتعاطي له على حساب الغير ؛ يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم إلى آخر ما سطرته في المقدمة ، بالإضافة إلى أنه يسبب العداء بين أفراد المجتمع . ودين الإسلام دين التراحم والتعاطف والمساواة لا يقر الهامل الذي يعيش كالمتطفل على كدح غيره ، يستمرئ حياة الدعة ليأكل الربا غنيمة باردة دون عناء وجهد في الكسب ، ولذلك أباح الله البيع وحرم الربا ؛ للفارق العظيم بين البيع والربا ، فالبيع : كد وجهد مبذول ولقمة يأكلها البائع من عرق الجبين ، بخلاف المرابي فإنه تتضخم ثروته وينمو ماله بالغنيمة الباردة التي يستبزها من الفقير المحتاج .
وهنالك خسارة قد تحيق بالمرابي دون أن يحسب لها حسابا ألا وهي هبوط الأسعار والديون التي أثقل بها نفسه وأخذها بفائدة ليوسع بها تجارته قد ينجم عنه الإفلاس ، فهو مضطر إذا حان أجل التسديد أن يبيع السلعة برأس مالها حتى يأتي على كل السلع التي تحت يديه والتي كانت قوام تجارته ويغدو صفر اليدين ، بل قد تلجئه الحاجة إلى أن يتكفف الناس أو يركن إلى الاستدانة ، وذلك ما تترجم عنه الآية الكريمة : سورة البقرة الآية 276 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا والحديث النبوي الشريف : سنن ابن ماجه التجارات (2279),مسند أحمد بن حنبل (1/395). الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر بعض العلماء المعاصرين عن مضار الربا أنه وسيلة للاستعمار وشقائه فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي القائم على المعاملات الربوية كان التمهيد الفعال للاحتلال العسكري الذي سقطت أكثر دول الشرق تحت رحمته ، فقد اقترضت الحكومات الشرقية بالربا وفتحت أبواب البلاد للمرابين الأجانب فما هي إلا سنوات معدودة حتى تسربت
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 211)
الثروة من أيدي المواطنين إلى هؤلاء الأجانب حتى إذا أفاقت الحكومات وأرادت الذود عن نفسها وأموالها استعدى هؤلاء الأجانب عليها دولهم فدخلت باسم حماية رعاياها ، ثم تغلغلت هي كذلك فوضعت يدها مستثمرة مرافق البلاد ، ولهذا لعن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء رواه مسلم ـ روح الدين الإسلامي ص 332 . .
أما حكمة تحريم الربا فتشمل الجانب الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي ، وتفصيل ذلك ملخصا فيما جاء في تفسير الفخر الرازي وهي كما يلي :
1 - إن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض . ومال الإنسان متعلق بحاجته وله حرمة عظيمة كما جاء في الحديث : مسند أحمد بن حنبل (1/446). حرمة مال المسلم كحرمة دمه فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرما .
2 - إن الاعتماد على الربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة ، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والصناعات الشاقة والتجارة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق . ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات ، وهذا هو الجانب الاقتصادي .
3 - إنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ؛ لأن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدراهم واسترجاع مثله . ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ، وهذا هو الجانب الأخلاقي .
4 - إن الغالب أن المقرض يكون غنيا والمستقرض يكون فقيرا ، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين من يأخذ من الفقير الضعيف مالا زائدا وذلك غير جائز برحمة الرحيم وهذا هو الجانب الاجتماعي . ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي ونتيجته أن يزداد الغني غنى والفقير فقرا مما يفضي إلى تضخم طبقة من المجتمع على حساب طبقة
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 212)
أو طبقات أخرى مما يخلق الأحقاد والضغائن ويورث نار الصراع بين المجتمع بعضه ببعض ، ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة ، كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا والمرابين على السياسة والحكم والأمن المحلي والدول جميعا الحلال والحرام ص 263 . .
أنوع الربا وحكم كل نوع(2/138)
الشح : خلة وضعة وهوان تزري بصاحبها وتجعله نشازا في مجتمعه ، يجمع المال ويشح بإنفاقه حتى على مصالح نفسه . وعلى العكس منه البذل بسخاء خاصة في وجوه البر والخير وإغاثة الملهوف وكل ما فيه مصلحة للمجموع . وعلى هذا الاعتبار جاء تحريم الربا والترغيب في البذل ابتغاء كريم الأجر ، ونزل القرآن والعرب تتعامل بالربا لتفكك مجتمعهم وانفصام عرى التآلف بينهم ، فعندما تنزل الحاجة بأحدهم أو يوصله الفقر بالرغام لا يجد من يسعفه أو يعينه في محنته أو ينقذه من ذل الحاجة إلا بنكبته بالزيادة على ما يقرضه ، والمفاضلة بين ما يقبضه ويعيده من مال ، وذلك هو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه ، وقد أوردنا من آي الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يكفي عن المزيد ، بقي أن نوضح نوعية الربا المحرم والذي كانت العرب تتعامل به ، جاء في كتاب "أحكام القرآن " قوله : الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلا من جنس واحد ، هذا كان المتعارف المشهور بينهم ، ولذلك قال تعالى : سورة الروم الآية 39 وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى : سورة آل عمران الآية 130 لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة ، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا من البياعات وسماها ربا ، فانتظم قوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 وَحَرَّمَ الرِّبَا تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع ، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرناه من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل (الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 213)
مع شرط الزيادة أحكام القرآن للجصاص , ص 552 . ا هـ .
وذكر صاحب تفسير آيات الأحكام أن الربا ينقسم إلى قسمين : ربا النسيئة ، وربا الفضل . فربا النسيئة : هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية لا يعرفون غيره وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا . فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا فإن تعذر الأداء زادوا في الحق والأجل .
وربا الفضل : أن يباع من الحنطة بمنوين منها أو درهم بدرهمين أو دينار بدينارين أو رطل من العسل برطلين ، وقد كان ابن عباس لا يحرم إلا القسم الأول ، وكان يجوز ربا الفضل اعتمادا على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580). إنما الربا في النسيئة ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/232). الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد وذكر الأصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغيره رجع عن قوله .
وأما قوله عليه السلام : صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200). وإنما الربا في النسيئة فمحمول على اختلاف الجنس ، فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين . أما (الأول) : فقد ثبت تحريمه بالقرآن ، (وأما الثاني) : فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح . كما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد . واشتهرت روايته هذه حتى كانت مسلمة عند الجميع .
ثم اختلف العلماء بعد ذلك فقال نفاة القياس : إن الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة ، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء : إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل تتعداها إلى غيرها . وأن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة ، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه تلك العلة ، ثم اختلفوا في هذه العلة . فقال الحنفية : إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر- أي الكيل والوزن- فمتى اتحدت البلدان في الجنس والقدر حرم الربا كبيع الحنطة بالحنطة وإذا عدما معا حل التفاضل والنسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل . وإذا عدم القدر واتحد الجنس حل الفضل دون النسيئة كبيع عبد بعبدين ،
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 214)
وإذا عدم الجنس واتحد القدر حل الفضل دون النسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشعير .
وقال المالكية : إن العلة هي اتحاد الجنسين مع الاقتيات أو ما يصلح به الاقتيات . وقال الشافعية : إن العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع النقدية ، وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم , والتفاضل في أمر الربا يعلم من كتب الفقه تفسير آيات الأحكام , ص 162 , 263 .
نوعية الربا كما أوضحها ابن القيم
وقفت في جملة ما وقفت عليه من المراجع على كتاب بعنوان : (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) لمؤلفه " حسن عبد الله الأمين " أورد فيه نص ابن قيم الجوزية رحمه الله عن نوعية الربا وقدم له بقوله :
تكلمنا فما سبق عن التقسيم الفقهي القديم للربا : ربا النسيئة ، وربا الفضل . . . وبقي هناك قسم ثالث للربا وضعه عالم جليل هو ابن القيم الجوزية وهو تقسيم يتفق في مضمونه مع تقسيم الربا : إلى ربا ديون ، وربا بيوع ولكنه يسمي الأول : الربا (الجلي) وأن تحريمه تحريم مقاصد ؛ لأنه ثابت بالقرآن الكريم وهو ما كانت تفعله الجاهلية . ويسمي النوع الثاني : الربا (الخفي) وأنه حرم سدا للذريعة من الربا الجلي فتحريمه تحريم وسيلة وهو الذي ثبت بالسنة في الأصناف الستة ، ثم ذكر النص من كتاب (إعلام الموقعين) فقال - أي ابن القيم - : الربا نوعان : جلي وخفي ؛ (فالجلي) : حرم لما فيه من الضرر العظيم ، (والخفي) : حرم لأنه ذريعة إلى الجلي . فتحريم الأول قصدا ، وتحريم الثاني وسيلة .
فأما الجلي : فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال . وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا إعلام الموقعين , ج2 ـ ص 99 . .
وأما ربا الفضل : فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مسند أحمد بن حنبل (2/109). لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا . فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة ،
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 215)(2/139)
وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعيين ، إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك ، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة ، وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذرائع ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا أو نسيئة إعلام الموقعين , ج2 ـ ص 99-100 . .
التعامل مع البنوك
التعامل مع البنوك على إقراض المال بفائدة مشروطة محددة كاثنين في المائة مثلا أو أكثر أو أقل ، هل هو من أنواع الربا المحرم أم له احتمال آخر؟
نعود مرة أخرى إلى كتاب الودائع المصرفية آنف الذكر فنجد المؤلف يقرر بصراحة أن معنى الزيادة في القرض عند العقد هي إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن ، ونص كلامه كالآتي : (إذا كان معنى الفائدة يختلف عن معنى الربح في المصطلح الفقهي ولا يلتقي معه بحال ، فماذا يكون موقف الفائدة من الربا ، هل تلتقي معه في إحدى صوره أم أنها تختلف عنه كما اختلفت عن الربح ولا تلتقي معه في واحدة منها ، ثم أفاض في البسط حتى قال : تبين لنا على ضوء ما تقدم أن معنى (الفائدة) على ضوء ما تقدم يلتقي تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد وهي أحد صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن ، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية حتى أن الجصاص بالغ في التوكيد عليها لدرجة أنه قال : ولم يكن تعاملهم - أي : عرب الجاهلية- بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع الزيادة ، فالفائدة إذن ما هي إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالة الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار بدليل عدم وجودها في الودائع الجارية - أي : تحت الطلب- مع أنها هي أيضا معتبرة قرضا في الفقه والتشريع ، كما أنها زيادة في قرض مؤجل أيضا لمصلحة البنك في حالة إقراضه لشخص آخر ، فالزيادة في حالة استقراض البنك بقبول الودائع المؤجلة أو إقراضه بدفع قروض من أمواله الخاصة
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 216)
أو من ودائع المقترضين الآخرين هي ربا . بل هي الربا الذي لا يشك فيه ؛ لأنها إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به والذي حرمه القرآن تحريما قاطعا بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود البيوع (3334),سنن ابن ماجه المناسك (3055). ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب .
تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي
يفرق بعض علماء الاقتصاد من الغربيين بين تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي بدعوى أن تحريم الربا كان من الضروريات في الماضي وأن إباحته في هذا العصر من الضروريات أيضا ؛ لأن الدين فيما مضى كان للاستهلاك وأما الآن فهو للإنتاج . وهو زعم متداع ؛ لأن الربا إن كان للاستهلاك فهو لنفقة المستدين على حاجاته الضرورية فإنه لا يجوز أن يرهق برد زائد على دينه ، فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة . وإن كان للإنتاج فالأصل أن الجهد الذي يبذله المستدين هو الذي ينال عليه الربح لا المال الذي يستدينه فالمال لا يربح إلا بالجهد روح الدين الإسلامي , ص333, 334 . .
وفي إطار الحديث عن أنواع الربا يتحدث الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي في الفصل الخامس من كتابه (الربا) تحت عنوان "الربا وأحكامه " فيقول : إن الربا هو الزيادة التي ينالها الدائن من مدينه نظير التأجيل ، وهذا النوع من الربا يصطلح عليه شرعا بربا النسيئة أي الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل ، وهذا النوع من الربا هو المنصوص على تحريمه في القرآن ، وأجمع على تحريمه السلف الصالح والعلماء المجتهدون من بعدهم وتعاقبت القرون على ذلك الإجماع ولم يتطرق إليه الريب في عصر من العصور واستمر في البسط إلى أن قال : لقد كان الإسلام إنما نهى عن التعامل بالربا في شئون الدين والقرض في بادئ الأمر ، واستمر في البسط فتحدث عن ربا الفضل وقال : وهذا النوع أيضا قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يفتح الباب في وجه الناس إلى الربا الصريح وينشئ فيهم
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 217)
عقلية من نتائجها اللازمة شيوع المراباة في المجتمع ، وذلك عين ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : مسند أحمد بن حنبل (2/109). لا تبيعوا الدرهم بدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء وهو الربا . وتحدث عن حكم ربا الفضل وأورد حديث عبادة بن الصامت وجملة أحاديث في معناه ، ثم علق عليها تعليقا ضافيا ثم ذكر خلاف الفقهاء في علة تحريم ربا الفضل وخلص من ذلك إلى القول بأن الاختلاف بين المذاهب في الأمور التي يدخلها الربا إنما هو من الأمور المشتبهة الواقعة على الحد بين الحلال والحرام ، فإن حاول أحد الآن محتجا بهذه المسائل المختلف فيها أن يرمي بالاشتباه أحكام الشريعة في المعاملات التي قد وردت النصوص على كونها من الربا ويفتح باب الرخص والحيل بهذا الطريق للاستدلال ويدعو الأمة إلى سلوك طرق الرأسمالية فلا شك أنه يعد تاركا للكتاب والسنة للظن والخرص وضالا مضلا ولو كان مخلصا صادق النية عند نفسه الربا ص90, 91, 98 . ا هـ .
وسائل القضاء على الربا
من مزايا دين الإسلام أنه لم يحرم شيئا إلا وأوجد له بديلا يغني عنه ، ويأخذ بحجز المسلمين من أن يقعوا في المحرم المنكور ، ولا نطيل ضرب الأمثلة لذلك وإنما نكتفي بتحريم الخمر . أبدل الله المسلمين عن شربها بشرب جميع العصيرات والمنتبذات مما لا يكون فيه شبهة حرام وعندما حرم الربا أباح البيع والتجارة في الأمور المباحة وأنواع المضاربة ، وهكذا فلم يرهق المسلم من أمره عسرا ، ولم يكلفه شططا ، وإنما أوجد له الحلول وشرع وسائل من شأنها القضاء على الربا والتجافي عنه والترفع عن مزالقه والتورط في إثمه ، ويشمل ذلك ما يأتي :
(أ) القرض الحسن : فبدلا من أن يقرض المسلم ماله بفائدة تقض مضجع المقترض وتزيد من محنته وبلباله ، رغب الإسلام في القرض الحسن بالوعد الكريم والجزاء الضافي كما قال تعالى : سورة البقرة الآية 245 مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ،
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 218)
وقال تعالى : سورة الحديد الآية 11 مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ .
(ب) إنظار المعسر ريثما يزول إعساره والترغيب في إبراء ذمته من الدين دون مطالبته كما قال تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .(2/140)
(جـ) التعاون في مختلف دروبه وبكل وسائله يشمل التعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي ويدخل في إطار ذلك الضمان الاجتماعي وتمويل المزارعين وأصحاب الصناعات بما يشد أزرهم ويضاعف إنتاجهم فيما يعود بالخير للمجموعة الإسلامية ، وثمة فتح المدارس وبناء المستشفيات ودور العجزة ، وما إليه مما تشمله الآية الكريمة سورة المائدة الآية 2 وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى , فيغدو المجتمع في ظلال هذا التعاون الشامل سعيدا بعيدا عن مآسي الربا والانزلاق إلى أوحاله ، ولا يغيب عن الأذهان إخراج زكاة الأموال ودفعها إلى مستحقيها كما نصت على ذلك الآية الكريمة سورة التوبة الآية 60 إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ، وجملة القول أن وسائل القضاء على الربا والأخذ بها والتعاون على تنفيذها وفي الطليعة إخراج الزكاة دون تهرب أو تسويف أو طغيان الأنانية على بعض النفوس فتستأثر بالمال وتحتجزه وتشح به فلا تستجيب لإنفاقه كما أمر الله وكما قال تعالى : سورة الحديد الآية 7 آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ، كل أولئك مما يحول دون الارتداع في أرجاس الربا والوقوع في أوحاله .
وقبل أن نضع القلم يجدر أن نعرض لموضوع كثر الأخذ به في أعقاب الزمن وهو بيع التورق ، يشتري المرء السلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به وذلك ما يسمى بمسألة التورق لأن البائع ليس له حاجة في السلعة وإنما حاجته في الورق ، وإيضاح ذلك من قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في فتاويه حيث يقول : وقد
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 219)
سئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا هل يجوز أم لا؟ فأجاب : إذا باع السلعة إلى أجل ثم اشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى ( مسألة العينة ) . وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك ، فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل فقال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ، وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال : إذا اشتريت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم . فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم - والأعمال بالنيات- وهذه تسمى ( التورق ) . فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها وتارة يشتريها ليتجر بها فهذان جائزان باتفاق المسلمين ، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ الدراهم فينظر كم تساوي نقدا فيشتري بها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد فمقصوده الورق . فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء ، كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد إلى آخر ما أفاض فيه يرحمه الله مما خرج به للاستطراد الفتاوى , ج29 ـ ص 446, 447 . .
خاتمة البحث
نأتي بعد أن فرغنا من كتابة البحث بتوفيق الله إلى الخاتمة فقد عرضنا بعد المقدمة لتعريف الربا لغة وشرعا وأوردنا الآيات القرآنية التي جاءت منتظمة عن الربا مع تفسيرها وقد تحصل من التفسير ما يأتي :
ا- المراد بأكل الربا جميع التصرفات .
2 - تشبيه المرابي بالمصروع .
3 - المحق يشمل ذهاب المال وذهاب بركته .
4 - لا يلحق متعاطي الربا تبعة التعامل به قبل التحريم .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 220)
5 - الترغيب في بذل الصدقات .
6 - الوعيد لمن تعاطى الربا بعد التحريم .
7 - للمرء أن يأخذ رأس ماله بعد التوبة من تعاطي الربا .
8 - الترغيب في إنظار المعسر وإبراء ذمته ، وأردفنا ذلك بمبحث الربا في السنة وإيراد نص ما ورد من الأحاديث مع شرحها ثم بيان حكم الربا في الإسلام وأنه محرم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأساطير العلم بما في ذلك تحريم كل وسيلة تفضي إليه كبيع العينة واستخلصنا من مجموع ذلك ما يأتي :
أ- النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل .
ب- إنه من الموبقات ومن كبائر الذنوب .
جـ- لعن آكل الربا كل متعاون عليه .
د- معصية الربا تجاوزت الحد في القبح .
هـ- تحريم الاستطالة في عرض المسلم .
و- آكل الربا يعذب في البرزخ وعليه اللعنة ويحال بينه وبين دخول الجنة .
ز- أكلة الربا يحشرون في أسوأ صورة .
ح- تحريم التبايع بالعينة والوعيد عليها .
ط- الوسيلة للحرام محرمة .
ك- لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع .
ل- ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فهو ربا محرم سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض .
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مضار الربا وحكمة تحريمه ، وأوردنا نقولا عن ذلك من أقوال العلماء القدامى والمعاصرين مبسوطة في الصفحات (18 ، 19) وعقبنا بمبحث أنواع الربا وحكم كل نوع فذكرنا ربا النسيئة وأنه هو الربا الذي كانت تتعامل به الجاهلية الأولى وهو الذي ورد تحريمه بالقرآن ، ثم ربا الفضل وتحريمه جاءت به السنة النبوية سدا
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 221)
للذريعة ، وعرضنا لعلة تحريم ربا الفضل واختلاف العلماء فيها ، ثم لنوعية الربا كما أوضحها ابن القيم -يرحمه الله- ثم لبحث التعامل مع البنوك وفيه القرض بالفائدة المشروطة وأنها محرمة ، ثم تناولنا بحث تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي ورد نظرية تحريم الربا في الماضي وإباحته في الحاضر ، وأردفنا ذلك بالحديث عن وسائل القضاء على الربا وذكرنا أن منها القرض الحسن وإنظار المعسر وإبراء ذمته والتعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي وتوزيع أموال الزكاة ، ثم أنهينا البحث بموضوع التورق وأنه مكروه وأوردنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- في هذه المسألة . وأسأل الله أن يأجرني بقدر ما بذلت في هذا البحث من جهد علمي وجسمي ولم أصل فيه إلى الكمال ، وإنما هو إسهام وجهد مقل ، وأن يشمل سبحانه بتوفيقه ابني أسامة على ما أسهم به من تهيئة المراجع المطلوبة للبحث والعون بجهد مشكور وينفع به كل من قرأه مغضيا عما لعله أن يكون فيه من مآخذ - فالكمال لله وحده- ويأجر أيضا كل من تعاون على إشاعته بكل وسيلة خاصة مجلة البحوث بالرياض ورئاسة تحريرها والمشرفين عليها .
وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيله وسار على نهجه ، وقد فرغت من وضعه في شهر جمادى الثانية سنة ألف وأربعمائة وأربعة .
والله يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشاد ، ، ،
ثبت المراجع والمصادر
1 - ابن تيمية ، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني . (الفتاوى) .
الطبعة : الأولى 1382 هـ .
الرياض : مطابع الرياض .
2 - ابن حجر ، أحمد بن علي العسقلاني .
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) .
الطبعة : الأولى .
تصحيح وترقيم : محمد فؤاد عبد الباقي - محب الدين الخطيب .
القاهرة : المطبعة السلفية (13 جزء) .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 222)
3 - ابن جرير ، أبو جعفر محمد بن جعفر الطبري .
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
تحقيق : محمود محمد شاكر - أحمد محمد شاكر .
الطبعة : الأولى .
القاهرة : دار المعارف (15 جزء) .
4 - ابن كثير ، أبو الفداء عماد الدين القرشي الدمشقي .
(تفسير القرآن العظيم) .
الطبعة : الأولى 1347 هـ .(2/141)
القاهرة : مطبعة المنار (9 أجزاء ومعه تفسير البغوي) .
5 - ابن حنبل ، أحمد بن محمد الشيباني .
(المسند) .
الطبعة : الأولى .
القاهرة : المطبعة الميمنية المصرية (6 أجزاء) .
6 - الأمير الصنعاني ، محمد بن إسماعيل .
(سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام) .
الطبعة الأولى .
القاهرة : إدارة الطباعة المنيرية (4 أجزاء) .
7 - الألباني ، محمد ناصر الدين الألباني .
(سلسلة الأحاديث الصحيحة) .
الطبعة : الثانية 1399 هـ .
بيروت : المكتب الإسلامي . (4 مجلدات) .
8 - الأمين ، حسن عبد الله .
(الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام) .
الطبعة : الأولى .
جدة : دار الشروق .
9 - البخاري ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن بردزيه .
(الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) .
القاهرة : إدارة الطباعة المنيرية . (9 أجزاء) .
(الجزء رقم : 11، الصفحة رقم: 223)
10 - البغوي ، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء .
(شرح السنة) .
الطبعة : الأولى 1399 هـ .
بيروت : المكتب الإسلامي (16 جزء) .
11 - الجصاص .(أحكام القرآن) .
12 - الذهبي ، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد .
(الكبائر ) .
تصحيح وتعليق : محمد عبد الرزاق حمزة .
الطبعة : الأولى 1356 هـ .
13 - السايس ، محمد علي .
(تفسير آيات الأحكام) .
القاهرة : مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح (4 أجزاء) .
14 - الشوكاني ، محمد بن علي .
(فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير) .
بيروت : محفوظ العلي (6 أجزاء)
15 - طباع ، عفيف عبد الفتاح .
(روح الدين الإسلامي) .
الطبعة : الثانية عشرة .
بيروت : دار العلم للملايين .
16 - القرضاوي ، يوسف .
(الحلال والحرام في الإسلام) .
17 - مسلم ، ابن الحجاج القشيري النيسابوري .
(الجامع المسند المختصر من السن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي .
بيروت : تصوير دار الكتاب العربي (5 أجزاء) .
18 - المودودي ، أبو الأعلى .(الربا) . الطبعة : بيروت : مؤسسة الرسالة .
==============
أحاديث ربا الفضل وأثرها في العلة والحكمة في تحريم الربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 42 / ص 455)
أحاديث ربا الفضل وأثرها في العلة والحكمة في تحريم الربا
للشيخ : محمد بن علي بن حسين الحريري
خلاصة البحث :
يهدف البحث إلى حصر أحاديث ربا الفضل-ربا البيوع- التي استشهد بها الفقهاء وتخريج هذه الأحاديث بعزوها إلى مصادرها ، وأهم الآراء الفقهية التي تناولت هذه الأحاديث لإيضاح العلة الربوية وحكمة التحريم ، وتصنيف هذه الأحاديث بالنسبة إلى رواية كل صحابي ، وتقييم مرويات الصحابي إلى الموضوعات التي تناولها الحديث ، ثم أفردت أحاديث المزابنة وبيع الحيوان بمبحث مستقل لمعظم رواة الأحاديث في هذين الموضوعين وتلخيص المذاهب الفقهية فيها ، ثم سردت أهم النتائج المستفادة من مجموع الأحاديث .
ويحتاج الباحثون والفقهاء عند معالجتهم مسائل الربا والصرف إلى الاستدلال بأحاديث نبوية متعددة ، وبروايات تضم زيادة كلمة أو جملة تؤثر في الحكم الفقهي ، وقد لمست من خلال معاناتي لهذه الجوانب شدة الحاجة إلى حصر الأحاديث النبوية في هذا الباب أو معظمها على الأقل ؛ ليكون لدى المسلم
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 228)
فكرة شاملة حول الربا في السنة النبوية وعلاقة ذلك الربا بما ذكرته الآيات القرآنية .
ودراسة الأحاديث النبوية المبينة لأحكام الربا والصرف تحتاج إلى دراسة متأنية تستهدف الجوانب التالية :
1 - محاولة ترتيب الأحاديث النبوية ترتيبا تاريخيا يمكن معه فهم السياسة النبوية في تطبيق حكم الربا ، ومحاربته ، واستئصاله من حياة المسلمين الاقتصادية .
2 - دراسة هذه الأحاديث بحسب أهميتها في الاستدلال الفقهي عند أئمة المذاهب الأربعة وسائر المجتهدين في بقية العصور .
3 - بيان وجه التكامل والتلاقي والمواءمة بين الربا المحرم في القرآن الكريم والربا المحرم في السنة النبوية .
وقد أفلح المحدثون رحمهم الله في استقراء أحاديث الربا ، ونجد ذلك واضحا عند البغوي في (شرح السنة) حيث حكم لعشرة أحاديث بالصحة ، وسائر الأحاديث يتراوح بين الحسن وهو أكثرها ، وربما حصل الضعف والرد لبعض تلك الأحاديث .
واستقصى ابن الأثير في جامع الأصول أحاديث الربا ومصادر تخريجها بإيجاز يتيح للباحث التوسع والاستقصاء .
كما استقصى الحافظ بدر الدين العيني في عمدة القارئ تخريج أحاديث الربا في أبواب البخاري المتعددة ، مع الإشارة إلى من ذكره من المحدثين .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 229)
وقد ذكر السبكي في تكملة المجموع أحاديث ربا الفضل عن عشرين من الصحابة ، وعزا مروياتهم إلى أصولها الحديثية مع الإشارة إلى ضعف اثنين منها فقط المجموع شرح المهذب (10 / 60) ط . المنيرية . .
كما ذكر المولوي السنبهلي رواية حديث الأعيان الستة عن ستة عشر صحابيا ، مع ذكر من أخرجها من المحدثين شرح معاني الآثار للطحاوي- ج 4- حاشية ص 65- دار الكتب العلمية - بيروت ط . 2 عام 1407 هـ . .
وقد جعل الشافعي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عمدة باب في الربا ، وقدمه على حديث أبي سعيد الخدري ؛ لأن عبادة أكبر سنا وأقدم صحبة .
أما الحنفية فقد جعلوا حديث أبي سعيد الخدري عمدة الباب عندهم فهو أتم الأحاديث بعد حديث عبادة شرح مسلم للنووي (11 / 13) ، والمجموع (9 / 394) . ، والحديثان متفق على صحتهما بإجماع الأمة .
ويمكننا تصنيف أحاديث الربا في أربعة أصناف الجامع في أصول الربا - د . رفيق المصري- ص 61 ، دار القلم 1412 هـ . :
الأول : الأحاديث التي تنفر من الربا وتنذر عليه بالوعيد الشديد ؛ لأنه من الكبائر .
الثاني : أحاديث تتعلق بالمعنى العام والموسع للربا ؛
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 230)
كالنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ، و"غبن المسترسل ربا " ، و " الناجش آكل ربا " .
الثالث : النهي عن ربا الجاهلية - الديون - وهي الأحاديث المؤكدة للنصوص القرآنية .
الرابع : أحاديث النهي عن ربا البيوع - ربا الفضل - .
وسأحاول تناول القسم الأخير من الأحاديث تسهيلا للعزو إليها من المباحث القادمة ، وحاولت جمع أحاديث كل صحابي على حدة ؛ كي لا يتشتت الموضوع وتتفرع السبل .
(1) أحاديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :
هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري ، استصغر يوم أحد ، واستشهد أبوه مالك بن سنان في تلك الغزوة ، وقد شهد أبو سعيد غزوات ما بعد أحد ، كان من أفقه أحداث الصحابة رضي الله عنهم ، وانتقل إلى رحمة الله تعالى عام 63 هـ أو 65 هـ ، فهو من سن عبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، وسمرة بن جندب ، ورافع بن خديج رضي الله عنهم ، والفارق بينهم سنة واحدة تقريبا الإصابة في تمييز الصحابة (2 / 32) . .
ويمكن تقسيم مرويات أبي سعيد في الربا والصرف إلى ثلاثة أقسام :
1 - حديث الأعيان الستة .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 231)
2 - أحاديث الصرف والرد على ابن عباس رضي الله عنهما في إباحة الفضل في الصرف .
3 - أحاديث مبادلة التمر بالتمر - الرديء بالجيد .
أولا : حديث الأعيان الستة :(2/142)
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي سواء .
ثانيا : أحاديث الصرف :
أخرج البخاري عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن نافع ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 232)
كما أخرج البخاري بسنده ، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه عبد الله بن عمر فقال : يا أبا سعيد ، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد في الصرف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الذهب بالذهب ، مثلا بمثل ، والورق بالورق مثلا بمثل .
وأخرج البخاري ، عن أبي صالح الزيات ، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : " الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم " فقلت له : فإن ابن عباس لا يقوله . قال أبو سعيد : سألته ، فقلت : سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله؟ وقال : كل ذلك لا أقوله وأنتم أعلم برسول الله مني ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ربا إلا في النسيئة .
وفي رواية الترمذي ، قال نافع : (انطلقت أنا وابن عمر إلى
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 233)
أبي سعيد ، فحدثنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، سمعته أذناي هاتان يقول : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ، لا تشفوا بعضه على بعض ، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز .
ولمسلم ، عن أبي نضرة قال : " سألت ابن عمر ، وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا ، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري ، فسألته عن الصرف فقال : ما زاد فهو ربا ، فأنكرت ذلك لقولهما ، فقال : لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1594),سنن النسائي البيوع (4553),موطأ مالك البيوع (1315),سنن الدارمي البيوع (2577). جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب ، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنى لك هذا؟ " قال : انطلقت بصاعين ، فاشتريت به هذا الصاع ، فإن سعر هذا في السوق كذا ، وسعر هذا كذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، أربيت ، إذا أردت ذلك ، فبع تمرك بسلعة ، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت ، قال أبو سعيد : فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال : فأتيت ابن عمر بعد ، فنهاني ، ولم آت ابن عباس ، قال : فحدثني أبو الصهباء : أنه سأل ابن عباس عنه
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 234)
بمكة فكرهه " مسلم بشرح النووي (11 / 24) . .
ولمسلم من رواية أخرى ، عن أبي نضرة قال : " سألت ابن عباس عن الصرف فقال : يدا بيد؟ فقلت : نعم ، قال : لا بأس ، فأخبرت أبا سعيد ، فقلت : إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال : يدا بيد؟ قلت : نعم قال : فلا بأس به ، قال : أوقال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه ، قال : صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1594). فوالله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره ، قال : كأن هذا ليس من تمر أرضنا ، قال : كان في تمر أرضنا ، أو في تمرنا ، العام بعض الشيء ، فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة ، قال : " أضعفت ، أربيت ، لا تقربن هذا ، إذا رابك من تمرك شيء فبعه ، ثم اشتر الذي تريد من التمر . .
ثالثا : أحاديث بيع التمر الرديء بالجيد :
وعن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة رضي الله عنهما ، صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),سنن ابن ماجه التجارات (2256),مسند أحمد بن حنبل (3/60),موطأ مالك البيوع (1315),سنن الدارمي البيوع (2577). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاث ، فقال : " لا تفعل بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا ، وقال في الميزان مثل ذلك متفق عليه ، أخرجه
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 235)
البخاري من رواية عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، قال ابن عبد البر : لم يذكر أبو هريرة إلا في رواية عبد المجيد ، وقد رواه قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد الخدري وحده ، وقد أخرج النسائي ، وابن حبان رواية قتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه ، لكن سياقه مغاير لقصة عبد المجيد .
وقد جاء في إحدى الروايات بدل [ استعمل رجلا على خيبر ] [بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر ] وقد صرح باسمه أبو عوانة والدارقطني من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ، بأن الرجل الذي استعمل على خيبر هو سواد بن غزية - بوزن عطية- ولعله الذي قبل جلد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عندما كان سواد بارزا في الصف . والمراد بالجنيب : الطيب ، الصلب الذي أخرج منه حشفه ورديئه ، بعكس الجمع ، أي : المختلط ، والحكم الواضح في الحديث : أن التمر لا يباع إلا مثلا بمثل في الكيل ، وهذا معنى- وكذلك الميزان- فما يباع موزونا يراعى فيه التماثل عند
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 236)
اتحاد الجنس ، ولا عبرة للجودة والرداءة ، فالتمر باختلاف أنواعه جنس واحد . وقد أمر صلى الله عليه وسلم بفسخ العقد ، كما سيأتي في رواية مسلم : هذا الربا فردوه من طريق أبي نضرة ، عن أبي سعيد .
عن أبي سعيد قال : جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين هذا؟ " قال : كان عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع ، فقال : " أوه ، عين الربا ، عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ، ثم اشتر به " متفق عليه .
وروى البخاري ، عن أبي سعيد رضي الله . عنه قال : صحيح البخاري البيوع (1974),صحيح مسلم المساقاة (1595),سنن النسائي البيوع (4555),سنن ابن ماجه التجارات (2256),مسند أحمد بن حنبل (3/10),موطأ مالك البيوع (1315),سنن الدارمي البيوع (2577). كنا نرزق تمر الجمع ، وهو : الخلط من التمر ، وكنا نبيع صاعين بصاع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا صاعين بصاع ، ولا درهمين بدرهم .
وفي رواية النسائي : صحيح البخاري البيوع (1974),صحيح مسلم المساقاة (1595),سنن النسائي البيوع (4555),سنن ابن ماجه التجارات (2256),مسند أحمد بن حنبل (3/51),سنن الدارمي البيوع (2577). لا صاعي تمر بصاع ، ولا درهمين
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 237)
بدرهم .(2/143)
وقد أخرج الموطأ الحديث الأول- موصول أبي سعيد الخدري - مرسلا ، عن عطاء بن يسار الموطأ- البيوع- باب ما يكره من بيع التمر (2 / 623) رقم الحديث (200) . ، كما أخرج النسائي مثله ، عن أبي صالح الزيات : سنن النسائي البيوع (4552). أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، إنا لا نجد الصيحاني ولا العذق بجمع التمر حتى نزيدهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعه بالورق ، ثم اشتر بذلك .
وقد أخرج الدارمي حديث بلال المتقدم ، قال بلال رضي الله عنه : سنن الدارمي البيوع (2576). كان عندي مد تمر للنبي صلى الله عليه وسلم فوجدت أطيب منه صاعا بصاعين ، فاشتريت منه ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " من أين هذا لك يا بلال ؟ " قلت : اشتريته صاعا بصاعين ، قال : " رده ، ورد علينا تمرنا .
وأخرج الطحاوي حديث بريدة بسند فيه الفضل بن حبيب السراج : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهى تمرا ، فأرسل بعض أزواجه - ولا أراها إلا أم سلمة - بصاعين من تمر ، فأتوا بصاع من عجوة ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم أنكره فقال : " من أين لكم هذا؟ " قالوا : بعثنا بصاعين ، فأتينا بصاع ، فقال : " ردوه فلا حاجة لي
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 238)
فيه (2) أحاديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه :
هو صحابي كبير ، توفي بالرملة عام 35 هـ الإصابة (2 / 261)- ط- دار الكتاب العربي . ، وحديثه في الأعيان الستة هو العمدة عند الشافعية ، وجميع مرويات الحديث تدور حول موضوع الأعيان الستة إلا ما روي من سرده الحديث خلال قصة بيع معاوية آنية الفضة بأكثر من وزنها .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب مثلا بمثل ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والبر بالبر مثلا بمثل ، والملح بالملح مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 239)
وفي رواية أبي قلابة [ عبد الله بن زيد بن عمر الجرمي البصري أحد الأعلام ] قال : كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث [ شراحيل بن آدة الصنعاني يروي عن شداد بن أوس وثوبان وأوس بن أوس الثقفي وعبادة بن الصامت وغيرهم وثقه ابن حبان ] فقالوا : أبو الأشعث أبو الأشعث ، فجلس ، فقلت له : حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت ، فقال : نعم ، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضة ، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس ، فتسارع الناس في ذلك ، فبلغ عبادة بن الصامت فقام ، فقال : " إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية ، فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ، فقام عبادة بن الصامت - فأعاد القصة- وقال : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية ، أو قال : وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء المرجع السابق . .
وقد أخرج مسلم الحديث برواية : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب والفضة بالفضة . . . مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 240)
اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .
وروى أبو داود ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). " الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها ، والبر بالبر مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ، والتمر بالتمر مدي بمدي ، والملح بالملح مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد ، وأما نسيئة فلا ، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد ، وأما نسيئة فلا .
وأخرج النسائي أنه جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية ، فحدثهم عبادة قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4560),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا مثلا بمثل ، يدا بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد كيف شئنا وروي بصيغة نهى .
(3) حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه :
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 241)
وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580). إنما الربا في النسيئة ، وفي رواية أخرى قال : صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200),سنن الدارمي البيوع (2580). لا ربا فيما كان يدا بيد . وهو حديث صحيح متفق عليه والمقصود به : " لا ربا . . أي الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد ، كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم ، فيقدم عليه حديث أبي سعيد ؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر .
وقال الطبري : معنى حديث أسامة صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580). لا ربا إلا في النسيئة إذا اختلفت الأنواع حيث يجوز التفاضل ويبقى الربا في التأجيل فقط ، وقد وقع في نسخة الصنعاني قال البخاري سمعت سليمان بن حرب يقول : " لا ربا إلا في النسيئة " هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة" وأخرج البيهقي بسنده ، أنه سمع أبا الجوزاء يقول : كنت(2/144)
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 242)
أخدم ابن عباس تسع سنين ، إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين؟ فصاح ابن عباس وقال : إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا ، فقال ناس حوله : إن كنا لنعمل هذا بفتياك ، فقال ابن عباس : قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، وأنا أنهاكم عنه .
وأخرج البيهقي قال : سئل لاحق بن حميد أبو مجلز وأنا شاهد عن الصرف ، فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ، حتى لقيه أبو سعيد الخدري ، فقال له : يا ابن عباس ، ألا تتقي الله ، حتى متى تؤكل الناس الربا ، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم- وهو عند زوجته أم سلمة - : " إني أشتهي تمر عجوة " وإنها بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل رجل من الأنصار ، فأتيت بدلهما بصاع من عجوة ، فقدمته إلى رسول الله ، فأعجبه فتناول تمرة ثم أمسك ، فقال : " من أين لكم هذا؟ " قالت : بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل فلان ، فأتينا بدلها من هذا الصاع الواحد ، فألقى التمرة من يده ، وقال : " ردوه ردوه ، لا حاجة لي فيه ، التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، مثلا بمثل ، ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فمن زاد أو نقص فقد أربى ، وكل ما يكال أو يوزن فقال ابن عباس : ذكرتني يا أبا سعيد أمرا أنسيته ، أستغفر الله وأتوب إليه ، وكان ينهى بعد ذلك أشد النهي البيهقي- كتاب البيوع- ما يستدل على رجوع ابن عباس رضي الله عنه (5 / 282- 286) .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 243)
(4) أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن ابن ماجه التجارات (2255). الذهب بالذهب وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، والفضة بالفضة وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو ربا ، وفي رواية قال : صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4567),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/485),موطأ مالك البيوع (1323). " الدينار بالدينار لا فضل بينهما ، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ، وفي رواية الموطأ : صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4567),مسند أحمد بن حنبل (2/379),موطأ مالك البيوع (1323). الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ، وفي رواية أخرى قال : التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه .
وواضح من مجموع روايات حديث أبي هريرة تقسيم الأعيان الربوية إلى مجموعتين : الأطعمة الأربعة ، والأثمان ، وهو إجماع الفقهاء ، فلا عبرة لمن يقول : إن العلة في الأعيان الستة يجب أن تكون علة واحدة .
(5) حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه- ت 51 هـ :
أبو بكرة - رضي الله عنه- حديثه في البخاري بسنده ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : قال أبو بكرة رضي الله
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 244)
عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38). لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء ، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء ، وبيعوا الذهب بالفضة ، والفضة بالذهب كيف شئتم . وأخرجه البخاري من طريق آخر عن يحيى بن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه رضي الله عنه قال : صحيح البخاري البيوع (2071),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4578),مسند أحمد بن حنبل (5/38). نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب ، إلا سواء بسواء ، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا ، والفضة بالذهب كيف شئنا والحديث أيضا أخرجه مسلم ، وفي آخره : صحيح مسلم المساقاة (1590),مسند أحمد بن حنبل (5/49). فسأله رجل ، فقال : يدا بيد؟ قال : هكذا سمعت ، وذكره أبو عوانة في مستخرجه ، وفي آخره : صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38). والفضة بالذهب كيف شئتم ، يدا بيد .
وأصرح من ذلك حديث عبادة بن الصامت عند مسلم صحيح مسلم المساقاة (1587),مسند أحمد بن حنبل (5/320). فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم .
(6) أحاديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
روى البخاري ، والموطأ : " قال مالك بن أوس بن الحدثان النضري : أنه التمس صرفا بمائة دينار ، قال : فدعاني طلحة بن
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 245)
عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها بيده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة ، وعمر يسمع ذلك ، فقال : والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء .
وأخرج مالك في الموطأ ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز ، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء ، والرماء : هو الربا " الموطأ- كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا- رقم (34- 35- 36) (2 / 634 ، 635) . .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 246)
هكذا أخرجه مالك موقوفا ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وعن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن أبيه ، وهو نفس حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين ، وجاء به هنا بزيادة : موطأ مالك كتاب البيوع (1328). وإن استنظرك إلى أن يلج . . " إلخ الحديث .
وأخرج البيهقي بسنده ، عن أبي جمرة ميمون القصاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، مثلا بمثل ، من زاد أو ازداد فقد أربى وأبو جمرة ضعيف ، وقد اضطرب السند بسببه . "
(7) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أصل حديثه عند ابن ماجه بسنده ، عن عمر بن محمد بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم ، لا فضل بينهما ، فمن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب ، ومن كانت له حاجة بذهب فليصطرفها بورق ، والصرف هاء هاء .
(8) حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه :
أخرج مالك في الموطأ ، أنه بلغه عن جده مالك بن أبي
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 247)
عامر : أن عثمان بن عفان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم المساقاة (1585). لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، وقد وصله مسلم من طريق ابن وهب ، عن مخرمة بن بكير ، عن سليمان بن يسار .
(9) حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه :(2/145)
عن معمر بن عبد الله بن نافع رضي الله عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح ، فقال : بعه ثم اشتر به شعيرا ، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع ، فلما جاء معمرا أخبره بذلك ، فقال له معمر : لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ، ولا تأخذن إلا مثلا بمثل ، فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح مسلم المساقاة (1592),مسند أحمد بن حنبل (6/401). الطعام بالطعام مثلا بمثل" قال : وكان طعامنا يومئذ الشعير ، قيل له : فإنه ليس بمثله ، قال : " إني أخاف أن يضارع .
وأخرج مالك في الموطأ ، عن سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 248)
أو يشرب ، والصحيح : أنه من قول سعيد ، ومن رفعه فقد توهم .
(10) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عدة أحاديث في أبواب الربا ، ولعل أشهر أحاديثه هي :
1 - حديث اقتضاء الذهب من الورق ، وبالعكس عندما كان يبيع الإبل بالبقيع .
2 - حديث الإحسان في أداء القرض .
3 - منع ربا الفضل في الصرف ولا عبرة للصياغة في النقدين .
1 - اقتضاء الذهب من الورق :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سنن الترمذي البيوع (1242),سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),سنن ابن ماجه التجارات (2262),مسند أحمد بن حنبل (2/139),سنن الدارمي البيوع (2581). كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق ، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدته خارجا من بيت حفصة ، فسألته عن ذلك ؛ فقال : " لا بأس به بالقيمة .
وهذه رواية الترمذي ، وقال الترمذي : وقد روي موقوفا على ابن عمر الترمذي - الجامع الصحيح- ترقيم عبد الباقي (3 / 544) رقم الحديث (1242) .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 249)
وفي رواية أبي داود قال : سنن الترمذي البيوع (1242),سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),سنن ابن ماجه التجارات (2262),مسند أحمد بن حنبل (2/139),سنن الدارمي البيوع (2581). كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة ، فقلت : يا رسول الله ، رويدك أسألك ، إني أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ، ما لم تفترقا وبينكما شيء .
وفي أخرى له بمعناه ، والأول أتم ، ولم يذكر " بسعر يومها" .
وأخرج النسائي نحوا من هذه الروايات .
وله في أخرى : " أنه كان لا يرى بأسا في قبض الدراهم من الدنانير ، والدنانير من الدراهم " النسائي- باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة (7 / 281) . .
واقتضاء الذهب من الفضة أو العكس عن أثمان السلعة هو في الحقيقة بيع ما لم يقبض ، فدل جوازه على أن المقصود بيع ما لم يقبض ما يراد ببيعه الربح ؛ لما روي من النهي عن ربح ما لم
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 250)
يضمن ، واقتضاء الذهب من الفضة خارج عن هذا المعنى ؛ لأن المراد به : التقابض حيث لا يشق ولا يتعذر لا التصارف والترابح . واشتراط كونها بسعر يومها فلا تطلب ربح ما لم تضمن واشتراط أن لا يتفرقا وبينهما شيء ؛ لأنه في الحقيقة صرف ، ولا يصح إلا بالتقابض . وأكثر أهل العلم على جواز اقتضاء الدراهم من الدنانير وبالعكس ، ومنعه ابن شبرمة وأبو سلمة بن عبد الرحمن معالم السنن للخطابي ، وتهذيب ابن القيم (5 / 25) تحقيق محمد حامد الفقي- مطبعة السنة المحمدية . .
وقد تفرد برفع الحديث سماك بن حرب . قال شعبة : وأنا أفرقه ، وسبب ضعفه أنه كان يقبل التلقين ، ولكنه إلى التوثيق أقرب إن شاء الله ، فحديثه حسن كما هو مقتضى كلام ابن عدي المجموع (10 / 110 ، 111) ، والبيهقي (5 / 284) . .
2 - الإحسان في أداء القرض :
أخرج مالك رضي الله عنه قال : " بلغني أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما ، فقال : إني أسلفت رجلا سلفا ، واشترطت عليه أفضل مما أسلفته ، فقال عبد الله بن عمر : فذلك الربا ، قال :
فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن ؟ قال عبد الله بن عمر : السلف على ثلاثة وجوه : سلف تسلفه تريد به وجه الله ، فلك وجه الله ، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك ، فلك وجه صاحبك ، وسلف
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 251)
تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب ، فذلك الربا ، قال : فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : أرى أن تشق الصحيفة ، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته ، وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت ، وإن أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه ، فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته " الموطأ- كتاب البيوع- باب ما لا يجوز من السلف (2 / 681) رقم الحديث في الكتاب (92) . .
وعن مجاهد بن جبر رحمه الله أنه قال : " استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ، ثم قضاه دراهم خيرا منها ، فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن ، هذه خير من دراهمي التي أسلفتك ، فقال عبد الله بن عمر : قد علمت ، ولكن نفسي بذلك طيبة " الموطأ- كتاب البيوع- باب ما يجوز من السلف (2 / 681) رقم الحديث في الكتاب (90) . .
3 - منع ربا الفضل في الصرف ، ولا عبرة لصياغة الحلي من النقدين :
أخرج مالك في الموطأ ، عن حميد بن قيس المكي ، عن مجاهد بن جبر أنه قال : كنت مع عبد الله بن عمر ، فجاءه صائغ ، فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إني أصوغ الذهب ، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه ، فأستفضل قدر عمل يدي ، فنهاه عبد الله عن ذلك ، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه ، حتى انتهى إلى باب المسجد ، أو إلى دابة يريد أن يركبها ، ثم قال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم ، لا فضل
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 252)
بينهما ، هذا عهد نبينا إلينا ، وعهدنا إليكم .
وأخرج النسائي النسائي (7 / 278) باب الدرهم بالدرهم . المسند منه فقط ، وجعله من مسند عمر رضي الله عنه ، تبعا لمالك رحمه الله ، وتبعهما ابن الأثير في (جامع الأصول) ، إلا أنه أسنده لعمر رضي الله عنه ، ولعله سقطت كلمة- ابن- من النسخة التي وقعت لابن الأثير جامع الأصول (1 / 468) . .
وروى الشافعي هذا الأثر ، عن سفيان بن عيينة ، عن وردان الرومي - الصائغ - عن ابن عمر ، فقال في آخره : " هذا عهد صاحبنا إلينا ، وعهدنا إليكم " تكملة المجموع شرح المهذب- تقي الدين السبكي (10 / 64 ، 65) ، والبيهقي (5 / 279- 292) . ، قال الشافعي : يعني بصاحبنا : عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ورجح البيهقي ذلك ؛ لأن الأخبار ترجح أن ابن عمر لم يسمع في ذلك من النبي شيئا . ثم قال الشافعي : ولعله أراد عهد النبي إلى أصحابه بعدما ثبت له ذلك من حديث أبي سعيد وغيره . وتكلم ابن عبد البر في ذلك ، ورجح رواية مالك ، ونسب الخطأ للشافعي ، ورأى أن رواية سفيان الثوري مجملة ورواية مالك مبينة [صاحبنا- نبينا] ولكن الصواب مع الشافعي ؛ لما روى مسلم ، عن نافع قال : " كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 253)(2/146)
شيئا ، ولكن لرواية ابن عمر أصل في تحريم ربا الفضل ؛ لأنه روى حادثة بلال عندما جاء بتمر جنيب ولعله- ابن عمر - أرسل ذلك ؛ لما ثبت له من حديث أبي سعيد وغيره " التمهيد- ابن عبد البر- ط . المغرب (2 / 248) . .
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، فإني أخاف عليكم الرماء " - وهو : الربا- فقام إليه رجل ، فقال : يا رسوله الله ، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل فقال : " لا بأس ، إذا كان يدا بيد .
(11) حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم :
أخرج البخاري بسنده قال : سمعت أبا المنهال [ عبد الرحمن بن مطعم البناني المكي يروي عن ابن عباس والبراء بن عازب وزيد بن أرقم ت عام 106 هـ] قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصرف ، فكل واحد منهم يقول : هذا خير مني ، فكلاهما يقوله : صحيح البخاري البيوع (2070),صحيح مسلم المساقاة (1589),سنن النسائي البيوع (4575),مسند أحمد بن حنبل (4/289). نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا .
وقد أخرج البخاري هذا الحديث برواية أخر
ى عن أبي المنهال قال : كنت أتجر في الصرف ، فسألت زيد بن أرقم رضي لله عنه [ تحويل السند ] سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 254)
الصرف فقالا : صحيح البخاري البيوع (1955),صحيح مسلم المساقاة (1589),سنن النسائي البيوع (4575),مسند أحمد بن حنبل (4/372). كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال : " إن كان يدا بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئا فلا يصلح .
وأخرجه البخاري ثالثة قال : صحيح البخاري الشركة (2365),صحيح مسلم المساقاة (1589),سنن النسائي البيوع (4575),مسند أحمد بن حنبل (4/374). سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد ، فقال : اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد نسيئة فجاءنا البراء بن عازب ، فسألناه ، فقال : فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم ، وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " ما كان يدا بيد فخذوه ، وما كان نسيئة فردوه .
ولكن أوضح روايات البخاري لهذا الحديث تلك الرواية التي جاء بها في أول كتاب مناقب الأنصار .
عن سفيان عن عمر وسمع أبا المنهال - عبد الرحمن بن مطعم - قال : صحيح البخاري المناقب (3724),صحيح مسلم المساقاة (1589),سنن النسائي البيوع (4575),مسند أحمد بن حنبل (4/374). باع شريك لي دراهم بدراهم في السوق نسيئة ، فقلت : سبحان الله ، أيصلح هذا؟ فقال : سبحان الله ، والله لقد بعتها في السوق فما عابه أحد ، فسألت البراء بن عازب ، فقال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتبايع هذا البيع ، فقال : " ما كان يدا بيد فليس به بأس وما كان نسيئة فلا يصلح " والق زيد بن أرقم
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 255)
فاسأله ، فإنه كان أعظمنا تجارة ، فسألت زيد بن أرقم ، فقال مثله .
والبراء بن عازب استصغر يوم بدر مع عبد الله بن عمر ، ثم شهد أحدا وبقية المشاهد ، وقد فتح الري عام 24 هـ ، وشهد فتح [ تستر ] مع أبي موسى الأشعري ، توفي في إمارة مصعب بن الزبير عام 72 هـ الإصابة في تمييز الصحابة (1 / 146) ترجمة (68) . .
أما زيد بن أرقم رضي الله عنه فقد استصغر يوم أحد ، وكانت أول مشاهده غزوة الخندق ، توفي رضي الله عنه عام 66 هـ ، وقيل 68 هـ ، وقد صرح البراء وزيد في حديثهما أنهما كانا شركاء في التجارة ، وواضح من الحديث أنه يحكي ما كان أول الهجرة حيث اعتاد النساء وعدم التقابض ، وهو ما كان شائعا في الجاهلية ؛ ولهذا صرح الحميدي في مسنده بأن الحديث منسوخ مسند الحميدي (2 / 317 ، 318) . .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 256)
ولزيد بن أرقم ذكر في حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع بن شرحبيل أنها قالت : " دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها ، فقالت أم ولد زيد بن أرقم : إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم اششريته منه بستمائة درهم ، فقالت لها : بئس ما شريت ، وبئس ما اشتريت ، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ، قالت : يا أم المؤمنين ، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقرأت عائشة : سورة البقرة الآية 275 فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ والحديث ضعيف ؛ لأن فيه داود بن الزبرقان الذي قال فيه يحيى بن معين : ليس بشيء ، وضعفه جدا علي بن المديني ، واتهمه آخرون بعدم الحفظ ؛ ولهذا قال عنه أحمد : صدوق فيما وافق الثقات ولا يحتج به إذا انفرد .
قال الشافعي : لو ثبت هذا الحديث فإن عائشة رضي الله عنها عابت على زيد بن أرقم بيعا إلى العطاء ؛ لأنه أجل غير معلوم ، وهذا ما لا يجيزه الشافعي ، وإن أجاز العينة في شكلها الظاهري ، ومن أصوله رحمه الله : إن اختلف الصحابة في مسألة
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 257)
أن يأخذ بقول من وافقه القياس ، ثم يقول : ونحن لا نثبت الحديث عن عائشة ، كما أن زيدا لا يبيع إلا ما يراه حلالا ، ولا يبتاع إلا مثله المجموع (10 / 151- 160) . .
(12) فضالة بن عبيد رضي الله عنه :
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن .
عن فضالة بن عبيد قال : صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19). أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة ، فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة ، فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب وزنا بوزن ، وفي رواية قال : صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3352),مسند أحمد بن حنبل (6/21). اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا ، فيها ذهب وخرز ففصلتها ، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تباع حتى تفصل .
وفي أخرى قال حنش الصنعاني : (كنا مع فضالة في غزوة ، فطارت لي ولأصحابي قلادة ، فيها ذهب وورق وجوهر ،
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 258)
فأردت آن أشتريها ، فسألت فضالة بن عبيد ، فقال : انزع ذهبها فاجعله في كفة ، واجعل ذهبك في كفة ، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح مسلم المساقاة (1591). من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل .
وأخرج الترمذي الرواية الثانية ، وأبو داود الثانية والثالثة ، ولأبي داود أيضا قال : صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19). أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ، حتى تميز بينه وبينه " فقال : إنما أردت الحجارة ، وفي رواية التجارة : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ، حتى تميز بينهما " ، قال فرده : حتى ميز بينهما .(2/147)
وفي أخرى قال : صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن الترمذي البيوع (1255),سنن النسائي البيوع (4574),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19). أصبت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز فأردت أن أبيعها ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " افصل بعضها من بعض ثم بعها .
وفي أخرى قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 259)
وحديث فضالة ، قال في التلخيص : له عند الطبراني طرق كثيرة جدا فيها قلادة من خرز وذهب- ذهب وجوهر- خرز معلقة بذهب ، وروي بيعها بسبعة دنانير ، وباثني عشر دينارا ، وبتسعة دنانير ، وقد أجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها بيوع متعددة شهدها فضالة ، قال ابن حجر : وهذا الاختلاف لا يوجب ضعفا ، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه ، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به ما يوجب الحكم بالاضطراب ، سيما وأن معظم الرواة ثقات ، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة .
وخلاصة الحديث : أن الذهب المختلط بغيره لا يجوز بيعه بذهب حتى يفصل ويميز ؛ ليعرف مقدار الذهب بدقة ويتحقق التماثل بيقين ، ومثل ذلك الفضة وسائر الأعيان الربوية نيل الأوطار (5 / 305) . .
والموضوع الذي تطرحه أحاديث فضالة بن عبيد قد رأينا مثله في أحاديث عبادة بن الصامت ، وروي مثلها عن أبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنه ، وهي ما أخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، سنن النسائي البيوع (4572),مسند أحمد بن حنبل (6/448),موطأ مالك البيوع (1327). أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ؟ أنا
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 260)
أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن " .
وأخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد قال : موطأ مالك البيوع (1322). أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين يوم خيبر أن يبيعا آنية من المغنم من ذهب أو فضة ، فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا أو كل أربعة بثلاثة عينا ، فقال لهما : " أربيتما فردا .
وروى سعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه أرسل رجلا ليبيع آنية مموهة بالذهب ، فباعها من يهودي بأكثر من وزنها ، فأمره عمر بالفسخ ، وأمره أن يبيعها وزنا بوزن سنن سعيد بن منصور . .
(13) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :
عن أبي عياش رضي الله عنه- واسمه زيد - أنه سأل
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 261)
سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت ، فقال له سعد : أيتهما أفضل؟ قال : البيضاء ، فنهاه عن ذلك ، وقال سعد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري كتاب الجمعة (1005),كتاب العلم (122),كتاب الجنائز (1320),كتاب الزكاة (1393),كتاب الحج (1507,1577),كتاب الصوم (1796),كتاب الوضوء (182),كتاب الصوم (1878),كتاب البيوع (1943),كتاب الوضوء (199),كتاب البيوع (2072),كتاب الإجارة (2156),كتاب الحوالات (2176),كتاب الوكالة (2185,2188),كتاب المساقاة (2253),كتاب المظالم والغصب (2336),كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها (2431),كتاب الشهادات (2516,2518),كتاب الصلح (2562),كتاب الشروط (2576),كتاب الجهاد والسير (2782),كتاب فرض الخمس (2927),كتاب الحيض (299),كتاب الجزية (2998,3013),كتاب أحاديث الأنبياء (3164,3184,3219,3220,3237),كتاب التيمم (340),كتاب المناقب (3411),كتاب الصلاة (342),كتاب المناقب (3497,3648,3694),كتاب المغازي (3767,3809,3844,3875,3990,4093,4094,4156),كتاب تفسير القرآن (4210,4424,4448,4449,4473,4613),كتاب فضائل القرآن (4765),كتاب النكاح (4813,4818,4826,4893,4895),كتاب الطلاق (4999),كتاب النفقات (5043,5057),كتاب الذبائح والصيد (5173),كتاب الأشربة (5273),كتاب الطب (5417,5441),كتاب اللباس (5470,5487),كتاب الأدب (5689,5725),كتاب الرقاق (6078,6173),كتاب كفارات الأيمان (6342),كتاب الفرائض (6347,6403,6455),كتاب الأذان (652),كتاب التعبير (6581,6625),كتاب الفتن (6673),كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (6857,6864,6875,6884),كتاب بدء الوحي (7),كتاب التوحيد (7000,7040,7043,7079),كتاب العلم (74),كتاب الأذان (773),كتاب العلم (78,86),كتاب الجمعة (936),صحيح مسلم كتاب الطلاق (1471),كتاب
البيوع (1536),كتاب المساقاة (1594),كتاب فضائل الصحابة (2144,2501),سنن الترمذي كتاب البيوع (1225),سنن النسائي كتاب البيوع (4545),سنن أبو داود كتاب البيوع (3359),سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2264),مسند أحمد بن حنبل (1/164),موطأ مالك كتاب البيوع (1316),سنن الدارمي كتاب المقدمة (45). يسأل عن اشتراء التمر بالرطب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قال : نعم ، فنهاه عن ذلك .
وفي رواية أخرى لأبي داود عن أبي عياش أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول : صحيح البخاري كتاب البيوع (2063,2079,2087),كتاب المساقاة (2254),صحيح مسلم كتاب البيوع (1536),سنن الترمذي كتاب البيوع (1224,1237,1302,1303),سنن النسائي كتاب البيوع (4532,4534,4543,4620),سنن أبو داود كتاب البيوع (3360),سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270),مسند أحمد بن حنبل (2/108,2/150,2/8),كتاب باقي مسند المكثرين (3/310),كتاب أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين (4/2,4/21),كتاب أول مسند البصريين (5/12),كتاب مسند الأنصار رضي الله عنهم (5/182),كتاب أول مسند البصريين (5/19,5/21,5/22),كتاب باقي مسند الأنصار (5/365),كتاب أول مسند البصريين (5/99),موطأ مالك كتاب البيوع (1317),سنن الدارمي كتاب البيوع (2564,2579). نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة .
(14) جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
روى أبو محمد عبد الله بن وهب في مسنده قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعطي الصاع من حنطة في ستة آصع من تمر ، فأما سوى ذلك من الطعام فيكره ذلك إلا مثلا بمثل ، فالتماثل في بيع النقد - الحال- شرط لا بد منه المجموع (10 / 66) .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 262)
(15) رويفع بن ثابت رضي الله عنه :
أخرجه الطحاوي بسنده عن حنش الصنعاني يحدث عن رويفع بن ثابت يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر : " بلغني أنكم تبتاعون المثقال بالنصف والثلثين ، وأنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال والوزن بالوزن ، ورويفع بن ثابت صحابي أنصاري ، قال البخاري عنه في التاريخ الكبير : يعد في المصريين ، وله حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم المجموع (10 / 67) . .
(16) أنس بن مالك رضي الله عنه :
عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا .
(17) أبو بكر الصديق رضي الله عنه :(2/148)
أخرج ابن أبي شيبة وعبيد بن حميد ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن سلمة بن السائب ، عن أبي رافع ، عن أبي بكر رضي الله عنه قال : (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح البخاري كتاب البيوع (2066,2071),صحيح مسلم كتاب المساقاة (1588),سنن الترمذي كتاب البيوع (1240,1241),سنن النسائي كتاب البيوع (4563,4564,4569),سنن أبو داود كتاب البيوع (3349,3353),سنن ابن ماجه كتاب الزكاة (1787),كتاب المقدمة (18),كتاب الزكاة (1820),كتاب التجارات (2253,2255,2262),كتاب الجهاد (2807),كتاب الأشربة (3414),كتاب الفتن (3952),كتاب الزهد (4305),مسند أحمد بن حنبل (3/93),كتاب باقي مسند الأنصار (5/271),سنن الدارمي كتاب البيوع (2578,2579). الذهب بالذهب وزنا بوزن ، والفضة بالفضة وزنا بوزن ، والزائد والمستزيد في النار والكلبي ضعيف .
(الجزء رقم : 52، الصفحة رقم: 263)
وحكم السبكي في (تكملة المجموع) : أن الحديث لم يصح المجموع (10 / 59) . .
==============
تفسير آيات الربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 52 / ص 376)
تفسير آيات الربا
للدكتور : فريد بن مصطفى السلمان
كلية أصول الدين - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد الهادي الأمين ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، وبعد :
فقد كثر الكلام في العصر الحاضر عن الربا ، ويحاول البعض أن يسميه بغير اسمه ، ويحور معاني الآيات الكريمة ، التي أجمع عليها سلف هذه الأمة وخلفها ، فاجتهدت في جمع أقوال أهل العلم في تفسير آيات الربا ، لعلي أسهم قدر الوسع والطاقة ، في بيان مسألة علمية في غاية الأهمية تصدى لها العلماء قديما وحديثا .
وقد حاولت في هذا البحث ، بعد بيان أسباب النزول ، ومعاني ألفاظ الآيات القرآنية ، تركيز البحث في مسائل محددة ، بحيث يسهل على القارئ المراجعة والاستفادة ، سائلا الله تعالى أن يوفقني فيما قصدت ، وأن يتجاوز عما سلف مني من خطأ أو تقصير ، إنه ولي
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 184)
ذلك والقادر عليه ، وأصلي وأسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
قال الله تعالى : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ سورة البقرة الآية 276 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ سورة البقرة الآية 277 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سورة البقرة الآية 281 وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ . 275 - 281 سبب النزول : أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 185)
طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في سبب نزول قوله تعالى : سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
قال : بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكانت بنو المغيرة يربون أي يأخذ المغيرة من بني عمرو المال بطريق الربا لثقيف ؛ فلما أظهر الله رسوله على مكة ، وضع يومئذ الربا كله ، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة ، فقال بنو المغيرة : أما جعلنا أشقى الناس بالربا ؟ ووضع عن الناس غيرنا . فقال بنو عمرو : صولحنا على أن لنا ربانا فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية والتي بعدها سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله ، يقول الله تعالى :
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 186)
سورة البقرة الآية 279 وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ فتأخذون أكثر ولا تظلمون فتبخسون منه .
وقال السدي : نزلت في العباس وخالد بن الوليد ، وكانا شريكن في الجاهلية يسلفان في الربا . فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب .
وقال عطاء : إنها نزلت في العباس بن عبد المطلب ، وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر : لا يبقى لي ما يكفي عيالي ، إذا أنتما أخذتما حظكما كله ، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف ، وأضعف لكما ، ففعلا ، فلما حل الأجل طلبا الزيادة ، فبلغ ذك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما ، وأنزل الله هذه الآية ، فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما أسباب النزول للواحدي ص 96 رقم 184 . .
وجاء عن الكلبي في سبب نزول قوله تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ قال أسباب النزول للواحدي ص96 رقم 186 . قالت بنو عمرو بن عمير لبني
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 187)
المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم . فقال بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن ندرك الثمرة ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ الآية .
مناسبة الآيات لما قبلها :
لما ذكر الله تعالى عباده الأبرار الذين يؤدون الزكوات ، المتفصلين بالبر والصدقات ، لذوي الحاجات والقرابات ، في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل ، وأنواع الشبهات تفسير ابن كثير 1 / 326 ، تفسير البحر المحيط 2 / 703 ، تفسير الرازي 7 / 87 ، تفسير القاسمي 3 / 700 . .
وذلك من باب المقابلة ، وكما يقولون " وبضدها تتميز الأشياء " ، وقد أكثر الله تعالى من هذا الأسلوب في كتابه العزيز ، فنجد ذكر صفة أصحاب النار يأتي في مقابلة صفات أهل الجنة وهكذا .
بيان معاني الألفاظ :(2/149)
1 - سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا الربا لغة الزيادة ، ومنه قوله تعالى : سورة الحج الآية 5 فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ سورة الحج ، الآية 5 ،وسورة فصلت ، الآية 39 . أي زادت بنمو النبات ، فزاد على ما حوله .
ومنه ما جاء في الحديث الصحيح : فلا والله ما أخذنا من
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 188)
لقمة إلا ربا من تحتها .
أي زاد الطعام ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم .
وعبر عن الأخذ ومطلق التصرف بالأكل ، وذلك لأن غالب ما ينتفع به ، إنما يكون للأكل .
وقيل للتشنيع على أكلة الربا ، فكأنهم يأكلون هذه الأموال المختلفة في بطونهم .
وتعريف الربا للعهد ، أي لا تأكلوا الربا المعهود في الجاهلية تفسير المنار 3 / 94 . .
أما الربا في الاصطلاح ، فقد اختلفت في ذلك عبارات العلماء ، منها ما ذكره ابن قدامة في المغني ، حيث قال : المغني 4 / 5 " وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة " . وقال الألوسي : " هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال روح المعاني 3 / 48 ، وهذا التعريف نقله القاسمي في محاسن التأويل 3 / 700 . .
2 - سورة البقرة الآية 275 لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كالمجانين ، عقوبة لهم عند جميع أهل المحشر ، ويقوي هذا القول الذي ذهب إليه عامة المفسرين قراءة عبد الله بن مسعود : ( لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم تفسير ابن كثير 1 / 326 ، تفسير البحر المحيط 1 / 705 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 189)
وقيل : إن المراد بالآية تشبيه حال أكلة الربا في حرصهم وجشعهم في الحياة الدنيا ، بحال المصروعين المجانين ، الذين يخبطون على غير هدى .
والخبط : الضرب بغير استواء ، خبط العشواء مختار الصحاح مادة ( خبط ) تفسير أبي السعود 1 / 266 . .
ومنه قيل : خبط عشواء ، وهي الناقة التي في بصرها ضعف ، تحبط إذا مشت ، لا تتوقى شيئا ، وتخبطه الشيطان ، أي أفسده مختار الصحاح مادة ( خبط ) تفسير أبي السعود 1 / 266 . .
والمس : الجنون القاموس المحيط مادة ( مس ) ، الكشاف 1 / 399 ، والمفردات ص 467 ، البحر المحيط 1 / 706 ، وأصله من المس باليد ، فكأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه .
قال الراغب : وكنى بالمس عن الجنون ، والمس ، يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى المفردات ص 467 . .
3 - سورة البقرة الآية 275 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أي حل بهم ذلك العقاب ؛ لأنهم جعلوا البيع كالربا . وكان الأصل أن يقولوا إن الربا مثل البيع ، ولكن لشدة تمسكهم بالربا جعلوا الربا أصلا في
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 190)
الحل ، وقاسوا عليه البيع .
4 - سورة البقرة الآية 275 وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا إبطال لقياسهم ، وبيان لفساد قياسهم ، وبيان أنه لا قياس مع النص .
5 - سورة البقرة الآية 275 فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فمن بلغه النهي عن الربا فانتهى ، فله ما أخذه قبل نزول التحريم ، ولا يسترد منه ، والله يجازيه على انتهائه إن كان صادق النية ، وقيل : يحكم في شأنه ، ولا اعتراض لكم عليه تفسير أبي السعود 1 / 266 . .
6 - سورة البقرة الآية 275 وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ومن عاد إلى القول بتحليل الربا فأولئك أصحاب النار خالدون فيها . وقيل : العود هنا يراد به التعامل بالربا ، والخلود في النار إنما جاء على سبيل التهديد والوعيد ، وبيان لطول المكث ، وليس الخلود الأبدي ، لأن ذلك إنما هو للكفار .
7 - سورة البقرة الآية 276 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ يمحق الله الربا بأن يذهب بركته ، ويهلك المال الذي يدخل فيه ، ويضاعف ثواب الصدقات ، ويبارك في المال الذي أخرجت منه الصدقة ، والمحق : النقص والذهاب ، ومنه المحاق في الهلال ، يقال : محقه ، إذا أنقصه وأذهب بركته .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 191)
8 - سورة البقرة الآية 276 وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ والله لا يحب كل كفور القلب ، مصر على تحليل المحرمات ، أثيم منهمك في ارتكاب المعاصي .
9 - سورة البقرة الآية 277 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ في توسيط هذه الآية بين آيات الربا ما يشير إلى المقابلة ، فكأن الذين يأكلون الربا ليسوا من هذا الصنف ، الذي وعده الله هذا الوعد الحسن .
10 - سورة البقرة الآية 278 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية ، بترككم ما بقي لكم من الربا ، وصفحكم عنه ، إن كنتم آمنتم بالله - عز وجل - وعلى هذا يكون الخطاب لثقيف في أول دخولهم في الإسلام ، وإذا كانت الآية في المؤمنين ، فمجيء الشرط هنا للحث والمبالغة في الالتزام .
11 - سورة البقرة الآية 279 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فإن لم تتركوا الربا ، فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله ، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : من كان مقيما على الربا ، لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، وفي رواية أخرى عنه ، أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب تفسير الطبري3 / 71 . أي لمحاربة الله - عز وجل - وفي ذلك بيان لشدة العقوبة التي تنتظره .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 192)
12 - سورة البقرة الآية 279 وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ إن تبتم فتركتم أكل الربا ، فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس ، دون زيادة أو نقصان .
13 - سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وإن كان المدين عجز عن سداد أصل المال ، فيمهل إلى وقت استطاعته ، وهذا عام في الديون كلها ، وفي أصل المال الذي أعطي بقصد الربا ، وهو الراجح ، وقيل : إن الآية خاصة برأس المال الذي أعطي بقصد الربا تفسير الطبري 3 / 74 . .
و ( كان ) في الآية تامة ، بمعنى وجد ، أي وإن وجد ذو عسرة تفسير الكشاف 1 / 247 . .
14 - سورة البقرة الآية 280 وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأن تتصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم ، من أن تمهلوه إلى وقت يساره ، إن كنتم تعلمون ما يترتب على ذلك من الفضل والثواب عند الله .
15 - سورة البقرة الآية 281 وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ المراد باليوم يوم القيامة ، وجاء التنكير للتفخيم والتهويل ، وتعلق الاتقاء بهذا اليوم ، للمبالغة في التحذير مما فيه ، من الأهوال والشدائد ، وفي قوله تعالى : سورة البقرة الآية 281 ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ يفيد العموم والمبالغة في تهويل ما يترتب على ذلك اليوم من الحساب ، فتجزى كل نفس بما عملت ، من خير أو شر ، ( ( وهم لا يظلمون ) ) .(2/150)
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 193)
فلا ينتقص من حسناتهم ، بل تكون الحسنة بعشر أمثالها ، وتجزى السيئة بمثلها .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل - عليه السلام - وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بعدها واحدا وعشرين يوما ، وقيل واحدا وثمانين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات تفسير الطبري 3 / 76 ، الدر المنثور 2 / 116 ، تفسير أبي السعود 1 / 268 ، فتح الباري 4 / 314 . .
وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين .
ما يستفاد من الآيات :
أ- أنواع الربا :
عامة المعاملات الربوية تنحصر في قسمين :
ربا النسيئة ، وربا الفضل . وغالب البيوع المحرمة إما أن يكون هذا المنع لزيادة في عين المال ، وإما في منفعة لأحدهما دون الآخر ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة ، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم المجمعة ، فإن قيل لفاعلها احمل ربا فتجوز وتشبيه التفسير الكبير 7 / 92 ، تفسير القرطبي 3 / 348 ، المغني لابن قدامة 6 / 51 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 194)
وقال ابن حجر الهيتمي : هو ثلاثة أنواع : ربا الفضل ، وربا اليد ، وربا النسيئة ، وزاد ( ( المتولي ) ) نوعا رابعا وهو ربا القرض الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 205 . .
ويمكن القول أن هذه الأنواع الأربعة عائدة إلى القسمين الأولين ، وهما ربا النسيئة وربا الفضل .
ونبدأ أولا بتعريف ربا النسيئة وبيانه :
أ- ربا النسيئة :
النسيء لغة المفردات للراغب الأصفهاني ص 492 ، المعجم الوسيط مادة ( نسأ ) . تأخير في الوقت ، ويقال : نسأ الله في أجلك - أي أخر الله أجلك - ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الأدب (5639),سنن الترمذي البر والصلة (1979),مسند أحمد بن حنبل (2/374). من أحب أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه .
والنسيئة بيع الشيء بالتأخير ، ومنها النسيء الذي كانت العرب تفعله ، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر ، قال تعالى :
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 195)
سورة التوبة الآية 37 إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ والمنسأ عصا ينسأ بها الشيء أي يؤخر المفردات ص 492 . .
ومن ذلك قوله تعالى : سورة سبأ الآية 14 مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أما ربا الفضل في اصطلاح العلماء ، فقد اختلفت فيه عبارات الفقهاء ، تبعا لاختلافهم في علة ربا الفضل ويمكن القول أن ربا النسيئة كان معلوما معروفا في الجاهلية ، قبل نزول الآيات القرآنية بتحريمه ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا فهو ربا معروف معلوم ، وهو الزيادة في الأجل مقابل الزيادة في البدل ، وهو المال .
وهذا هو الربا الذي أجمع المسلمون على منعه ، ولم يخالف فيه أحد ، فكانوا في الجاهلية يعطي الرجل رأس ماله لرجل آخر ، على أن يرده إليه بعد مدة معينة ، بزيادة معينة . فتكون الزيادة نظير التأجيل ، وهذا هو ربا النسيئة .
فقد جاء في تفسير الرازي : ( ( إن ربا النسيئة هو الذي كان
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 196)
مشهورا في الجاهلية ، لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا .
ورأس المال باق على حاله ، فإذا حل طالبه برأس ماله ، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل ) ) التفسير الكبير 7 / 92 . .
ويؤكد ذلك حديث زيد بن أسلم وقال ( ( كان الربا الذي أذن الله فيه بالحرب لمن يتركه ، كان عند أهل الجاهلية على وجهين ، كأن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل ، فإذا حل الحق ، قال صاحب الحق : أتقضي أم تربي 000 ) ) الحديث .
ب - ربا الفضل :
ذهب جمهور العلماء إلى تحريم ربا الفضل ، في الأصناف الستة
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 197)
التالية : الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح . فلا يجوز بيع جنس منها بجنسه متفاضلا ، حالا أو مؤجلا ، فيحرم بيع درهم بدرهمين نقدا أو مؤجلا ، وكذا بيع صاع بر بصاعي بر نقدا ، أو مؤجلا الربا والمعاملات المصرفية ص 56 . .
والأدلة على تحريم هذا النوع صريحة وصحيحة من السنة . منها :
أولا : حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعر بالشعر ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد ) .
فيفهم من الحديث أنه عند عدم اختلاف الأصناف ليس لهم الخيار في البيع كيف شاءوا .
ثانيا : حديث أبي سعيد الخدري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن ذكر الأصناف الستة : مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربا ، الآخذ والمعطي فيه سواء صحيح البخاري 3 / 65 صحيح مسلم 5 / 42 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 198)
وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324). لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا لا تشفوا : لا تزيدوا ، ولا تفضلوا أحدهما على الآخر ، جامع الأصول 1 / 550 . بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق الورق : الفضة ، مضروبة كانت أو غير مضروبة ( المعجم الوسيط مادة ورق ) . بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا ولا تفضلوا ( فتح الباري 4 / 380 . بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز الناجز ، المعجل الحاضر ( جامع الأصول 1 / 55 ) . ، .
وقال الشنقيطي : ( ( والحق الذي لا شك فيه منع ربا الفضل في الأصناف الستة المذكورة ) ) أضواء البيان 1 / 292 ، وقال أيضا : حكى غير واحد الإجماع على تحريمه . .
وقال القرطبي : ( ( اعلم - رحمك الله - أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة ، والذي يربط لك ذلك ، هو ما اعتبره العلماء في علة الربا ) ) تفسير القرطبي 3 / 352 . .
2 - علة تحريم ربا الفضل :
إن حكمة تحريم ربا النسيئة وما يترتب عليه من أضرار ، أمر
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 199)
مسلم ظاهر ، لا يماري فيه أحد ، حتى غير المسلمين يعترفون هذه الأضرار والمفاسد .
أما ربا الفضل فقد تخفى علة التحريم فيه ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في هذه المسألة .(2/151)
وقد نص الشارع على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان ، وهي : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح لقوله -صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579). الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعر ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد الحديث سبق تخريجه ص 297 . فاتفق العلماء على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس ، وتنازعوا فيما عداها . فطائفة قصرت التحريم على هذه الأصناف فقط ، وهو مذهب أهل الظاهر نيل الأوطار 5 / 302 . .
وذهب الحنفية وأحمد في ظاهر مذهبه إلى أن علة التحريم مكيل وموزون بجنسه فكل ما يدخل الكيل أو الوزن من جنس واحد ، إن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئة لا يجوز ، ولو باع ثوبا
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 200)
بثوب نسأ ، لم يجز لاتحاد الجنس .
ومنعوا كذلك بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا ، لأنه يدخله الكيل ، ولو باع حديدا بنحاس لم يجز لوجود الوزن ، وأجازوا الخبز رغيفا برغيفين ؛ لأنه معدود ، غير مكيل ولا موزون في عرفهم ، وإن كان الخبز يوزن في العصر الحاضر .
وقال الشافعي : العلة كونه مطعوما جنسا ، وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا ، وهو رواية عن أحمد . وهذا قوله في الجديد . فلا يجوز عنده بيع الخبز بالخبز متفاضلا ولا نسيئة ، ولا يجوز بيع بيضة ببيضتين ، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة ؛ لأن ذلك كله طعام مأكول .
وقال في القديم : كونه مكيلا أو موزونا ، كما هو الحال عند الحنفية .
وذهب المالكية إلى كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا ، كالأصناف الواردة في الحديث ، من التمر والبر والشعير وما في معناها ، من الأرز والسمسم والذرة ، والقطاني من الفول والعدس والحمص ، وكذلك اللحوم والألبان والزيوت ، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون ، ويلحق بها العسل والسكر ، فهذا كله يدخله الربا من جهة النسأ .
وجائز فيه التفاضل ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد . ولا ربا في
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 201)
رطب الفواكه التي لا تبقى ، كالتفاح والرمان والقثاء والخضروات .
وقال مالك : لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا ؛ لأنه مما يدخر ، ويجوز عنده مثلا بمثل .
وفي رواية عن الشافعي ، ورواية عن أحمد أن علة التحريم الطعام إذا كان مكيلا موزونا جنسا تفسير القرطبي 3 / 352 ، شرح فتح القدير 7 / 4 . وهذه الرواية تجمع بين رأي الحنفية والشافعية والحنابلة الربا والمعاملات في الإسلام ص161 محمد رشيد رضا . .
ومن هذا يظهر أن الجنس معتبر عند الجميع ، فيما يتعلق به من تحريم ربا الفضل عند انضمام غيره إليه .
وأما الدراهم والدنانير ، فعند أبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، العلة فيهما كونهما موزونين .
وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن العلة في ذلك هي الثمنية ، وقد أجمعوا على جواز ذلك في الموزونات من النحاس والحديد . فالدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات ، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال ، فيجب أن يكون مضبوطا الربا والمعاملات في الإسلام ص 156 محمد رشيد رضا . .
3 - الخلاف في تحريم ربا الفضل :
ذهب عامة أهل العلم إلى تحريم ربا الفضل ، وأنه كحرمة ربا النسيئة ،
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 202)
ووردت روايات عن بعض الصحابة تفيد عدم وجود ربا الفضل ، وجعلوا الربا محصورا في ربا النسيئة المغني 4 / 1 . وكانوا يقولون : إنما الربا في النسيئة ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ربا إلا في النسيئة .
وقد روي أن عبد الله بن عباس رجع عن رأيه ، عندما راجعه في ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 203)
وقال الشعبي : حدثني بضعة عشر نفرا من أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما - الخبر ، فالخبر أنه رجع عن فتواه فقال : الفضل حرام .
وقال جابر بن زيد - رضي الله عنه - : ما خرج ابن عباس - رضي الله عنهما - من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة المبسوط للسرخسي 14 / 6 ، 12 / 106 . .
وقال ابن قدامة في المغني : فإن لم يثبت رجوع ابن عباس ، فإجماع التابعين بعده يرفع قوله المغني مع الشرح الكبير 4 / 123 . .
وقد أنكر ابن حزم الظاهري رجوع ابن عباس عن قوله ، كما أنكر الإجماع على تحريم ربا الفضل ، وذكر أن فقهاء مكة من تلاميذ ابن عباس - رضي الله عنهما - كانوا يقولون بقوله المحلى لابن حزم 8 / 566 . .
ولكن عامة أهل العلم على تحريم ربا الفضل ، وربا القرض ، وربا النسيئة ، ولهم أدلة من ظاهر الكتاب والسنة والآثار .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 204)
ولقد وفق الشنقيطي بين ما ذهب إليه جمهور العلماء ، وبين ما روي عن ابن عباس ، وأسامة بن زيد وغيرهما ، بأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580). لا ربا إلا في النسيئة ، إنما هو جواز الفضل في جنسين مختلفين ، واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى .
وقال ابن حجر في فتح الباري : وقال الطبري : معنى حديث أسامة - لا ربا إلا في النسيئة - إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا ، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد الخدري فتح الباري 4 / 382 . .
4 - صرع الجن للإنسان : ذهب عامة المعتزلة وأبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية ، وفخر الدين الرازي ، والقفال من الشافعية ، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة ، إلى إنكار صرع الجن للإنسان ، وقالوا : إن الجن مخلوق ليس له سلطان على الإنس ، بل هو عالم مستقل بذاته وافقهم في ذلك محمد رشيد رضا تفسير المنار ، ومحمود شلتوت وبعض المعاصرين . ، وفسروا قوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 205)
بأن هذا ورد وفق ما كان يتداوله العرب في الجاهلية .
ومما قاله الزمخشري في تفسير الآية : وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط الضرب على غير استواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، والمس الجنون ، ورجل ممسوس ، وهذا أيضا من زعماتهم ، وأن الجني يمسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، وفي رؤيتهم للجن قصص وأخبار وعجائب تفسير الكشاف 1 / 399 . .
وقالوا إن ما جاء في الآية ، إنما كان وفقا لما يتداوله العرب ، وليس بتقرير وتأكيد لهذه الدعوى ، ويشبه هذا ما جاء في قوله تعالى : سورة الصافات الآية 65 طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ .
فرؤوس الشياطين لم يشاهدها الناس ، ولكنهم يتصورونها بصورة بشعة منفرة .
وقالوا : إن الروايات الواردة في صرع الجن للإنسان لم يصح منها شيء ، وهذه المسألة من مسائل العقيدة ، ولا يصح الجزم فيها بناء على الأدلة الظنية .
وقالوا أيضا : إن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : سورة ص الآية 41 وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 206)(2/152)
فالراجح عند أهل العلم أن مس الشيطان لأيوب - عليه السلام - إنما كان بطريق الوسوسة . ولم يكن ذلك المس من باب صرع الجن تفسير الألوسي 23 / 206 . .
ومما قاله القاضي أبو السعود في تفسيره : " وقيام المصروع وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان ، فيصرع ويخبط ، والخبط : الضرب بغير استواء ، كخبط العشواء ، وفي قوله : ( من المس ) قال : أي الجنون ، وهذا أيضا من زعماتهم ، أن الجني يمسه فيختلط عقله ، فلذلك يقال : جن الرجل " وفعل الرازي الجصاص في تفسيره مثل ذلك أحكام القرآن للجصاص 1 / 47 ، 48 . .
وهناك كتيب صغير عنوانه : ( بيني وبين الشيخ حامد الفقي ) حمل فيه مؤلفه أحمد شاكر بشدة على حامد الفقي ؛ لأنه نقل أقوال أهل العلم في عدم صحة صرع الجن للإنسان ، ونقل قول الشافعي :
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 207)
" من ادعى أنه يرى الجن ، ويستعين بهم ، فإنا نرد شهادته ، ونتهمه بالكذب " بيني وبين الشيخ حامد الفقي / أحمد شاكر . .
وذكر العلماء أن من ادعت الحمل من الجن ، وظهر حملها ، فلا يصدق قولها ، ويقام الحد عليها .
وقد مال صاحب المنار إلى هذا المذهب ، ونقل عن ابن عطية قوله في تفسير الآية : إن المراد من الآية تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع ، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة : قد جن . ثم قال : وهذا هو المتبادر ، ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه ، وقالوا إن من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود .
ثم قال : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية ؛ لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال ، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث ، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده ، وهي لم تنزل مع القرآن ، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية تفسير المنار 3 / 80 . .
ثم ختم كلامه بأنه قد يكون المراد من الجن الأجسام الحية الخفية ، التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة ، وتسمى الميكروبات تفسير المنار 3 / 81 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 208)
وأقول إن ما نقله محمد رشيد رضا عن ابن عطية ، حتى وإن سلمنا بأنه هو الراجح ، فإنه لا يتعارض مع رأي جمهور العلماء الذين ذكروا بأن هذا القيام يكون القيامة ؛ لأنه لا يمنع أن يكون حال هؤلاء المرابين في تخبطهم في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على هذا الحال ، وعند قيامهم يوم القيامة كذلك ، يكونون على نفس تلك الحال والصفة .
وكذلك ما نقله عن ابن عطية ، فإنه لا يتعارض مع القائلين بصرع الجن للإنسان .
أما قوله : بأن المراد بالجن الميكروب ، فهذا قول واضح التهافت ، ومن المآخذ المعدودة على صاحب تفسير المنار ، والتي تأثر فيها بصاحبه محمد عبده .
أما جمهور العلماء ، فقد ذهبوا إلى إمكانية صرع الجن للإنسان ، والتلبس به ، والتكلم على لسانه .
ومما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة مجموع الفتاوى 24 / 280 . :
" فمن كذب . بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر ، وما يأتون به على اختلاف أنواعه ، كدعاء الكواكب ، وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية ، وما ينزل من الشياطين
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 209)
على كل أفاك أثيم ، فالشياطين التي تنزل عليهم ، ويسمونها روحانية الكواكب ، وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس ، وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام ، وأمثال ذلك كما هو موجود ، فقد كذب بما لم يحط به علما " .
وقال في موضع آخر : " إن من الناس من رآهم ، وفيهم من رأى من رآهم ، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين ، ومن الناس من كلمهم وكلموه ، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم ، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين ، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب ، وكذلك ما جرى لغيرنا ، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه ، ولا يكون بما يختص بعلمه المجيب ، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به " مجموع الفتاوى 4 / 232 . .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي ، فقال : يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه مجموع الفتاوى 24 / 276 لقط المرجان للسيوطي ص 134 . .
وقال ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد :
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 210)
الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة .
والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه زاد المعاد 4 / 66 . .
وقد كتب الشيخ عبد العزيز بن باز رسالتين الأولى : في مسألة دخول الجني في بدن الإنسان ، وجواز مخاطبة الجن للإنس ، والثانية : في العلاج عن طريق السحر والكهانة رسالتان ، عبد العزيز بن باز ، دار السلام- الرياض ط 1 سنة 1411 هـ . .
وقد فرق الشيخ أبو بكر الجزائري بين الشيطان الذي ليس له سلطان على الإنسان إلا بالوسوسة ، وبين الجني الذي يصرع الإنسان ، ويتلبس به فيصرعه ، وينطق الجني على لسانه الدفاع عن الغزالي 23 -33 ( راسم للدعاية ) ط 1 سنة 1410هـ . .
وقد استدل الجمهور بأدلة عديدة من الكتاب والسنة والآثار .
وقد تعقب القاسمي ما ذكره صاحب الكشاف في تفسيره ، ونقل ما كتبه الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الإسكندري ، فقال كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال1 / 399 ( مطبوع على هامش الكشاف ) . : معنى قول الكشاف : من زعمات العرب ، أي كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية ، ومن زعماتهم المردودة بقواطع الشرع .
ثم قال : واعتقاد السلف ، وأهل السنة ، أن هذه أمور على حقائقها واقعة ، كما أخبر الشرع عنها ، وإنما القدرية خصماء العلانية ، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم . ومن ذلك : السحر ، وخبطة الشيطان ، ومعظم أحوال الجن تفسير القاسمي 3 / 701 ما بعدها . .
وصرح القرطبي بأن هذه الآية دليل على فساد من أنكر الصرع من جهة الجن تفسير القرطبي 3 / 355 . .
وأقول : إن القضية ما زالت محل خلاف ، ليس بين المسلمين فقط ولكنه حتى عند النصارى واليهود ، وغيرهم من الأمم .
وقد قامت بعض الدراسات الميدانية في جامعة الملك سعود .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 212)
كما سجلت رسالة جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم القرآن وعلومه ، زار الباحث بعض المنازل التي يعالج فيها الصرع ، ولم يتمكن من تسجيل دليل علمي حقيقي ظاهر على ذلك .
فعند ادعاء أن المصروع قد تلبس به جني هندي ، وأنه يتكلم الهندية ، جاء مترجم هندي ليسمع ما يهذي به ذلك المصروع ، وأنكر أن يكون مثل هذا الكلام له أدنى صلة باللغة الهندية ، بل هو مجرد هذيان ، وتغير صوت ورعشات وهكذا .
ونحن عندما نأخذ برأي الجمهور لا يعني أننا نشجع الناس على الذهاب للسحرة والمشعوذين ، بل ندعوهم للتمسك بكتاب الله والتحصن به ، والبعد عن مواطن الريب والزلل ، فإن الله هو خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
5 - الحكمة من تحريم الربا انظر : تفسير المنار 3 / 91 ، روائع البيان للصابوني1 / 394 . :
لقد حرم الله الربا ، لما يترتب عليه من أضرار ومفاسد ، تعم الفرد والمجتمع ، وتتسع دائرة هذا الفساد لتشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 213)(2/153)
فقد جعل الله تعالى طريق تعامل الناس ، واستفادة كل منهم من الآخر ، عن طريق العمل ، والربا زيادة في المال دون عمل .
ويختلف البيع عن الربا ؛ لأن البيع يلاحظ فيه انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقا ، أما الربا فهو إعطاء الدراهم وأخذها مضاعفة في وقت آخر ، وهي غالبا لا تعطى بالرضا ، بل بالكره والاضطرار .
وكذلك فإن الربا يؤدي إلى تكدس المال في أيدي فئة قليلة من الناس ، تجعل عملها مقصورا على استغلال المال بالمال ، وما نشاهده في العصر الحاضر أكبر دليل على ذلك .
فالمال مكدس عند أصحاب البنوك ، وشركات التأمن ، وما شابهها ، ويتحكم هؤلاء في كل شيء ، ويكفي أن نشير إلى ما فعله اليهود ويفعلونه الآن ، من تحكم واستغلال لشعوب الأرض قديما وحديثا ، وذلك باعتماد الربا والوسائل المحرمة لجمع المال .
والربا كذلك يؤدي إلى وقوع الضغينة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد ، الذي يجب أن تسوده الرحمة والإخاء .
كما أنه يفضي إلى امتناع الناس عن تحمل المشاق ، في الكسب والتجارة والصناعة ؛ فيؤدي إلى انقطاع مصالح الخلق ، ويفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس .
ولا يقال : إن رأس المال لو بقي في يد صاحبه لاستفاد منه وربح بالمتاجرة فيه ، فلما دفعه للمحتاج جاز له أن يأخذ زيادة عن رأس ماله ، مقابل تعطل الانتفاع بهذا المال تفسير آيات الأحكام للسايس 1 / 168 . .
وذلك لأن الربح المزعوم لهذا المال لو بقي في يد صاحبه أمر موهوم مظنون ، فقد يحصل وقد لا يحصل ، أما الزيادة على رأس المال فهي ملك للفقير على وجه اليقين ، وقد يخسر ذلك المحتاج في تعامله برأس المال الذي استدانه ، فيجمع عليه خسارته في التجارة ، والزيادة التي يطلبها المرابي على رأس المال .
6 - بيع العينة انظر الذرائع الربوية ، سليمان الملحم ، رسالة ماجستير في كلية الشريعة . :
العينة بكسر العين المهملة ، ثم ياء تحتية ساكنة ، ثم نون .
قال ابن فارس : العين هو المال العتيد الحاضر ، يقال : هو عين غير دين ، أي هو مال حاضر تراه العيون معجم مقاييس اللغة ، مادة ( عين ) ، 4 / 203 . .
ومن المجاز : إطلاق العين على الميل في الميزان . قال الراغب : وتستعار العين للميل في الميزان المفردات في غريب القرآن ص 355 . .
وقد اشتقت العينة من هذا الأصل ، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : اشتقت من عين الميزان وهي زيادته .
ووافقه ابن فارس فقال : هذا الذي ذكره الخليل صحيح ؛ لأن العينة لا بد أن تجر زيادة معجم مقاييس اللغة ، مادة ( عين ) . ، وقال الأزهري : العينة اشتقاقها من
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 215)
العين ، وهو النقد الحاضر تهذيب اللغة للأزهري ، 3 / 207 . .
وقال الجوهري : العينة بالكسر وسكون المثناة : السلف ، ويقال : اعتان الرجل ، إذا اشترى الشيء نسيئة الصحاح للجوهري ، ( مادة عين ) . . وقال ابن منظور : والعينة : الربا لسان العرب ، ( مادة عين ) . .
وقال في القاموس المحيط : وعين ، أخذ بالعينة ، أي السلف أو أعطى بها ، والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن القاموس المحيط ، ( مادة عين ) . .
وللعينة صور متعددة ، ولكنها في عامتها تدخل في بيع المضطر ، كأن يحتاج رجل إلى نفقة ، فلا يعطيه الموسر بالقرض ، ولكن يبيعه السلعة بضعف ثمنها ، فيضطر المحتاج لبيعها بخسارة من أجل حصوله على المال انظر : الفتاوى الكبرى لابن تيمية ، 3 / 137 . .
وقال ابن قدامة : إن من باع سلعة بثمن مؤجل ، ثم اشتراها من المشتري بأقل منه نقدا ، فهو عينة المغني لابن قدامة ، 6 / 260 . .
وقال البنا الساعاتي في تعليقه على مسند أحمد الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد 15 / 44 ، نيل الأوطار 5 / 319 . : فسر الفقهاء
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 216)
العينة ، أن يبيع الرجل سلعة لرجل آخر إلى أجل ، ثم يشتريها منه بثمن حال نقدا في المجلس ، بأقل من الثمن الذي باعها به ، ليبقى الكثير في ذمته ويسلما من الربا ، وقيل لهذا البيع عينة ، لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا ، أي نقدا حاضرا معجلا ، ليصل به إلى مقصوده ، مع بقاء الثمن الكثير في ذمته ، وذلك حرام باتفاق العلماء ، إن اشترط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم ؛ لأنه حيلة على تحليل الربا ، فإن لم يكن بينهما شرط ، أجازها الشافعية ، ومنعها جمهور العلماء .
ولو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس ، فهي عينة أيضا لكنها جائزة بالاتفاق إذا خلت من التواطؤ على الحيلة .
وقال الشوكاني : سميت عينة ، لأن العينة هو المال الحاضر ، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة ، ليصل إلى مقصوده نيل الأوطار 5 / 319 ، تفسير القرطبي 5 / 361 . .
وذهب ابن القيم إلى عدم جواز بيع العينة ، مستدلا بما روي عن الأوزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع وقال : هذا الحديث وإن كان مرسلا ، فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق ، وله من المسندات ما يشهد له نيل الأوطار 5 / 319 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 217)
وبيع العينة حيلة ومكر وخديعة ، وهو لا يرفع المفسدة التي حرم الربا من أجلها ، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة نيل الأوطار 5 / 319 . .
وقال القرطبي : إن من أباح بيع العينة ، فليبح حفر البئر ، ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات ، وذلك لا يقوله أحد يقصد حفر البئر ليقع فيه الناس . وقال : لقد اتفقنا على منع من باع العينة ، إذا عرف بذلك وكانت عادته تفسير القرطبي 3 / 360 . .
وقد وردت من السنة عدة روايات في تحريم هذا النوع من البيوع الذي هو صورة من صور الربا ، نذكر منها ما يلي :
ما أخرجه أحمد وأبو داود ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم .
2 - أخرج الدارقطني ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 218)
امرأته أنها دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم ، فقالت : يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة ، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا . فقالت لها عائشة : " بئس ما اشتريت ، وبئس ما شريت ، أخبريه أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب ، فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ، قالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف " .
ويدل الحديث أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن مؤجل ، أن
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 219)
يشتريه من المشتري بأقل من ذلك الثمن نقدا ، قبل قبض الثمن الأول . وتصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنها قد علمت التحريم بنص من الشارع ، إما على جهة العموم ، أو جهة الخصوص ، كما جاء في حديث بيع العينة المتقدم نيل الأوطار 5 / 317 . .
وقد ذكر العلماء للعينة صورا متعددة ، ومن هذه الصور :
أ- أن يعطي الرجل الآخر مبلغا من المال دون زيادة ، ولكنه يطلب منه سداد هذا المبلغ عن طريق عمل يؤديه إليه .
ولكنه لا يدفع له أجر أمثاله ، بل غالبا ما يكون ذلك الأجر أدل من نصف الأجرة المعتادة .(2/154)
وقد كان هناك شيخ في قريتنا يفعل ذلك ، حتى مع أقاربه المحتاجين ، إذ كان يشتري الأرض غير المزروعة بثمن زهيد ، ثم يكلف الآخرين الذين يداينهم بالعمل في أرضه بنصف الأجر تقريبا ، ويدعي أنه يريد أن يعينهم لكي يقوموا بسداد ما في ذمتهم ، فيعملون طيلة السنة في أرضه يزرعونها ، ويسمدونها ، ويقومون على رعايتها ، بأجر زهيد . فيصبح الربا الذي يأخذه منهم مضاعفا ، أكبر من ربا البنوك وما شابهها . والقاعدة المشهورة عند العلماء : " أن كل قرض جر نفعا فهو ربا " .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 220)
وما ذكره ابن تيمية ، من أن عامة صور بيع العينة يدخل في بيع المضطر ، وبالتالي فالحكم يجمع هذه الصور عامة ، لأنه استغلال لحاجة المضطر ، فهو كلام متفق مع روح الشريعة .
2 - ومن صور العينة ما يسمى بالتورق وهو أن يشتري الرجل السلعة لا حاجة له بها ، بثمن مؤجل ، أكثر من سعرها الحقيقي في السوق ، ثم يبيعها بثمن معجل ، أقل مما اشتراها به ، وغالبا ما يبيعها بأقل من سعرها الحقيقي في السوق ، فتكون خسارته في السلعة أكبر من الفائدة الربوية ، وهو أمر مشتهر في شراء السيارات ، فيشتري الرجل سيارة نسيئة من الشركة بعشرة آلاف دينار ، على أن يدفع الثمن على أقساط مؤجلة ، ثم يأخذ الرجل السيارة ويبيعها في السوق بتسعة آلاف أو أقل ، لأنه أصلا لا يريد السيارة ، ولكن يريد الحصول على المال .
وقد ذهب عمر بن عبد العزيز إلى تحريم التورق ، وقال عنه : إنه أخية الربا ، وذهب إلى ذلك الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ،ورجح ذلك ابن تيمية مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 431 . .
وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز إلى جواز التورق انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، العدد ( 7 ) ص 53 . ، ووضع رسالة في ذلك بعنوان ( التورق ) ، كما ذهب إلى جواز ذلك الكمال بن الهمام من الحنفية ، والقاضي أبو يوسف حاشية ابن عابدين 5 / 326 . ، وعامة الشافعية كما هو مشهور عنهم الأم 3 / 38 تكملة المجموع 10 / 149 . ، وابن حزم الظاهري المحلى 9 / 47 . .
3 - ومن صور العينة أن يعطي الرجل لآخر مبلغ ألف دينار قرضا ، على أن يبيعه سلعة لا تساوي دينارا بمائة دينار .
وهذه المسألة تسمى مسألة السبحة ؛ لأنه بعد أن يعطيه المال ، يبيعه سبحة عنده بمبلغ كبير ، يفوق النسبة الربوية التي يصرح بها الآخرون . والدليل في هذا المقام قوله تعالى : سورة البقرة الآية 9 يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 222)
وقد سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأجل زيادة درهم ، فقال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة . سئل عن ذلك أنس بن مالك فقال : هذا مما حرم الله ورسوله مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 432 . .
فمتى كان مقصود التعامل دراهم بدراهم إلى أجل : صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43). وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
وقد جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من باع بيعتين في بيعة ، فله أوكسهما أو الربا وقال - صلى الله عليه وسلم : لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك فحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل شيئا ، ويقرضه مع ذلك ، فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض ، حتى ينفعه فهو ربا مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 433 . . وقد نقل عن محمد بن الحسن قوله في بيع العينة حاشية ابن عابدين 4 / 326 . :
هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا ، وقد ذمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84). إذا تبايعتم بالعينة . . . الحديث . وقد عنون الشيخ أبو زهرة لمسألة العينة بحوث في الربا 27 محمد أبو زهرة . . فقال : " التحايل على الربا ببيع العينة " وحمل على الذين قالوا : بجوز ذلك من المحدثين حملة شديدة .
وقال الإمام أحمد فيمن يتعامل بالعينة : " لا يعجبني أن يكتب عنه الحديث " الفروع 4 / 170 ابن مفلح الراميني . .
7 - الربا من أكبر الكبائر :
الربا من أكبر الكبائر بنص القرآن الكريم ، وبما جاء في السنة الشريفة ، التي بينت عظم هذه المعصية ، وما يترتب عليها من حرب الله ورسوله ، وعقوبة في الدنيا بمحق البركة ، والتخبط على غير هدى ، وعقوبة في الآخرة تظهر في تخبطهم ، كالذي يتخبطه الشيطان من المس ،
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 224)
وعذاب أليم في عذاب جهنم وبئس المهاد ، إلا أن يتوب الله عليه .
وهناك روايات عديدة وردت في عقوبة أكل الربا ، وذم من يقدم على ارتكاب هذه المعصية ، ونذكر من هذه النصوص ما يلي :
1 - ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال : هم سواء .
2 - ما أخرجه الحافظ الهيثمي عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : درهم ربما يأكله
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 225)
مسند أحمد بن حنبل (5/225). الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية .
3 - ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال صحيح الجامع الصغير 1 / 663 ، برقم 3539 ، وقال الألباني : صحيح ( الترغيب والترهيب 3 / 50 ) : سنن ابن ماجه التجارات (2274). الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم .
4 - ما أخرجه البخاري عن أبي جحيفة قال : صحيح البخاري اللباس (5617),سنن أبو داود البيوع (3483),مسند أحمد بن حنبل (4/308). نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم - أجرة الحجامة - وثمن الكلب ، وكسب البغي ، ولعن أكل الربا ، وموكله ، والواشمة ، والمستوشمة والمصور .
5 - جاء ذكر الربا في الصحيح ، في قوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الوصايا (2615),صحيح مسلم الإيمان (89),سنن النسائي الوصايا (3671),سنن أبو داود الوصايا (2874). اجتنبوا السبع الموبقات . . وذكر منهن آكل الربا
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 226)
وقال القرطبي : جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رجلا سكران يتعاقر ، يريد أن يأخذ القمر ، فقلت : امرأتي طالق ، إن كان يدخل جوف ابن آدم شيء أشر من الخمر . فقال مالك : ارجع حتى أنظر في مسألتك . فلما رجع الرجل ، قال له الإمام مالك : امرأتك طالق . فقد تصفحت كتاب الله وسنة نبيه ، فلم أر شيئا أشر من الربا ، وقد آذن الله فيه لآكله بالحرب من الله ورسوله تفسير القرطبي 3 / 364 . .
6 - جاء في الصحيح عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال صحيح البخاري بشرح فتح الباري 4 / 313 ، برقم 2085 . :(2/155)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري البيوع (1979),مسند أحمد بن حنبل (5/9). رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم ، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة . فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد الرجل أن يخرج ، رمى الرجل بحجر في فيه ، فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر ، فيرجع كما كان . فقلت : ما هذا ؛ فقال : الذي رأيته في النهر : آكل الربا
8 - التدرج في تحريم الربا :
لقد سلك القرآن الكريم أسلوب الرفق والتدرج ، في نقل
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 227)
المخاطبين من حياة الجاهلية البغيضة ، إلى سماحة الإسلام ويسره ، وتجلى ذلك في شرائع الإسلام ، وأحكامه العملية ، على خلاف الحال في تغيير العقيدة الفاسدة ، وترسيخ عقيدة الإسلام .
وسبب هذا التدرج في تحريم بعض الأحكام الفرعية ، هو رسوخ وتعلق المخاطبين بهذه العادات والأفعال ، حتى أنه كان من الصعب عليهم الامتثال للإقلاع عنها دفعة واحدة ، في مرة واحدة .
ورضي الله عن عائشة أم المؤمنين وهي القائلة : " إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدا . ولو نزل لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزنا أبدا ) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ، صحيح البخاري بشرح فتح الباري 9 / 38 برقم 4993 . .
ونجد هذا التدرج في تحريم الربا في أربع آيات قرآنية ، تتعلق بتحريم الربا ، واحدة منها نزلت بمكة ، وثلاث في المدينة .
الآية الأولى : قوله تعالى : سورة الروم الآية 39 وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 228)
الآية الثانية : قوله تعالى : سورة النساء الآية 160 فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا سورة النساء الآية 161 وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
وجاءت هذه الآية لتوجه الأنظار ، تهيء النفوس ، لتقبل فكرة التحريم .
الآية الثالثة : قوله تعالى : سورة آل عمران الآية 130 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
وجاءت هذه الآية لتفيد تحريم الربا في الأضعاف المضاعفة ، وهي إحدى حالات الربا .
الآية الرابعة : قوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ الآيات .
فهذه الآية صريحة في تحريم جميع أنواع الربا ، لا فرق بين القليل والكثير في ذلك .
9 - في قوله تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
نسخ لما كان عليه العمل في الجاهلية ، وصدر الإسلام ، من أن الحر يباع بالدين ، إن عجز عن سداده ، ويبين ذلك ما أخرجه الدارقطني عن زيد بن أسلم قال : رأيت شيخا بالإسكندرية ، يقال
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 229)
له : ( سرق ) ، فقلت : ما هذا الاسم ؛ فقال : سمانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولن أدعه ، قلت : لم سماك ؟ ، قال قدمت المدينة فأخبرتهم أن مالي يقدم ، فبايعوني فاستهلكت أموالهم ، فأتوا بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : أنت سرق ، وباعني بأربعة أبعرة ، فقال الغرماء للذي اشتراني : ما تصنع به ، قال : أعتقه ، فلسنا بأزهد منك في الأجر ، فأعتقوني بينهم ، وبقي اسمي .
وأخرج البزار مثل ذلك ، ولكن هذه الروايات لا يحتج بها .
وروي عن ابن عباس أن الإمهال إنما هو في الربا خاصة .
أما في سائر الديون فإنه يدفع أو يحبس حتى يوفي ، وهذا في حالة عدم وجود الفقر المدقع ، أما إذا كان له مال ، فإنه يحجر على ماله أو عقاره في الدين .
وقيل : إن الإمهال عام في الربا ، وفي الديون على عمومها .
وقد ذكر عن شريح القاضي أنه أمر بحبس المدعى عليه ،
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 230)
لأنه لم يدفع ما في ذمته ، فقيل له : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا تفسير الرازي 7 / 111 . ، والله تعالى قال في كتابه : سورة النساء الآية 58 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا .
ولكن الصحيح أن الإمهال عام في كل دين ، استدلالا بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 280 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وهذا قول عامة الفقهاء ، كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي تفسير الرازي 7 / 111 . .
وذكر الفخر الرازي : أن وجوب الإنظار ، لما ثبت في هذه الآية بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور . وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به تفسير الرازي 7 / 111 . .
10 - من كثرت عليه الديون ، ولم يستطع الوفاء بها ، فللحاكم أن يخلعه عن ماله كله ، ولا يترك له خادما ولا مسكنا ، ولا يبقى له إلا ملابسه تفسير القرطبي 3 / 372 . .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 231)
ومما يدل على ذلك ، ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال صحيح مسلم المساقاة (1556),سنن الترمذي الزكاة (655),سنن النسائي البيوع (4530),سنن أبو داود البيوع (3469),سنن ابن ماجه الأحكام (2356),مسند أحمد بن حنبل (3/58). أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك .
وقال أبو حنيفة : يحبس ويلازم ، لإمكان أن يظهر له مال في المستقبل .
ويحبس على الصحيح من قول الجمهور حتى يتبين أنه معسر ، أو إذا اتهم بأنه غيب ماله ، أما إذا صح عسره ، فلا يحبس على الصحيح تفسير القرطبي 3 / 372 . .
ويستحب لصاحب الدين أن ينظر المدين المعسر ، وله بذلك فضل وأجر ، وله بكل يوم أنظر فيه المعسر صدقة ، وجاء في الصحيح
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 232)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2261),صحيح مسلم المساقاة (1561),سنن الترمذي البيوع (1307),سنن ابن ماجه الأحكام (2420),مسند أحمد بن حنبل (4/120). حوسب رجل ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيء ، إلا أنه كان يخالط الناس ، وكان موسرا ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه ، تجاوزوا عنه .
11 - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لو أصر أهل بلدة على أكل الربا ، فإن للإمام أن يستتيبهم ، فإن لم يرجعوا فإنهم يقاتلون ، ويصح للإمام أن يحاربهم تفسير القرطبي 3 / 363 , 364. .
وقال ابن خويز منداد : لو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 233)(2/156)
استحلالا كانوا مرتدين ، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة ، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالا ، جاز للإمام محاربتهم ، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: سورة البقرة الآية 279 فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الدر المنثور 2 / 108 . .
12 - من شروط التوبة الصادقة لآكل الربا ، أن يرد المرابي المال الذي أخذه زيادة ، والاكتفاء برأس المال ، ويدل على ذلك قوله تعالى: سورة البقرة الآية 279 وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ .
ويجب على من أخذ المال ، أن يعيد رأس المال كاملا ، ولا يؤخر الدفع إن كان موسرا ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: مطل الغني ظلم . وقال عليه الصلاة والسلام: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته وإذا طالت المدة ، ولم يعرف الرجل الذي أخذ منه الربا ، فعلى آكل الربا التائب أن يتحرى ، فإن عجز عن معرفته ، فله أن يتصدق بهذا المال عنه .
13 - الربا في دار الحرب :
ذهب الحنفية خلافا لأبي يوسف ، إلى جواز أخذ الربا من الكفار في دار الحرب؛ لأن مال الحربي مباح بغير عقد .
واحتجوا لرأيهم بما روي عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب .
وهذا الحديث وإن كان مرسلا ، إلا أن مكحولا فقيه ثقة ، والمرسل منه مقبول المبسوط للسرخسي 14 / 56 حاشية ابن عابدين 5 / 186. .
كما استدلوا بما جاء في تفسير قوله تعالى: سورة الروم الآية 1 الم سورة الروم الآية 2 غُلِبَتِ الرُّومُ سورة الروم الآية 3 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه خاطر المشركين على غلب الروم لفارس ، كما أخبرت الآية الكريمة ، فأجاز عليه الصلاة والسلام لأبي بكر أن يأخذ خطره ، وهو القمار بعينه ، بين أبي بكر ومشركي مكة ،
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 235)
وكانت مكة دار شرك .
ويرد جمهور العلماء على هذا الدليل ، بأن ذلك كان قبل تحريم المخاطرة والمقامرة ، وبعد أن تحقق نصر الروم ، وأخذ أبو بكر رضي الله عنه ما خاطر عليه ، تصدق به .
وذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة شرح فتح القدير 7 / 38 ، الربا والقروض ص 95 . ، ومعهم أبو يوسف من الحنفية ، إلى تحريم الربا مطلقا ، بلا تفريق بين دار السلام ودار الحرب ، فما هو محرم في دار الإسلام ، فهو محرم في دار الحرب ، كالخمر والخنزير وسائر المحرمات .
وقالوا: إن حديث مكحول مرسل وضعيف ، فلا حجة فيه ، وهو محتمل للنهي ، فهو نفي في معنى النهي ، كما في قوله تعالى: سورة البقرة الآية 197 فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ .
وأما القول بأن أموال الحربي مباحة بلا عقد ، فلا نسلم هذه الدعوى ، إن دخلها مسلم بأمان ، وإن كان بغير أمان ، فالعلة منتقضة .
ولا يلزم من كون أموالهم تباح بالاغتنام استباحتها بالعقد الفاسد المجموع للنووي، 9 / 392 .
كما أن وضع الأموال عند الكفار بدعوى جواز أخذ الربا منهم ، إنما يكون لهم عونا على قتال المسلمين ، ووضع اقتصاد المسلمين بأيدي أعدائهم . وقد وصل الحال ببعض هؤلاء الجامدين أن يفتوا بوضع الأموال في بنوك الكفار؛ لأن الربا في هذا الحال جائز ، وقال بعضهم: بل توضع في بنوك الكفار من غير ربا .
أما مجرد وضع الأموال في بنوك المسلمين ، فإن هذا ربا محرم ، وإن كان بغير فائدة ، فهو محرم عندهم كذلك ، لما فيه من الإعانة لهذه البنوك .
ولله الأمر من قبل ومن بعد ، فقد اختلطت العقول ، ولعبت بالرءوس الأهواء ، ومات العلم بموت العلماء ، واتخذ الناس من بعد ذلك رءوسا جهالا ، يفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون .
14 - شبهات حول الربا:
يخوض بعض المتأخرين في شبهات حول الربا ، منها أن الاقتصاد العالمي قائم على البنوك والتعامل بالربا . ومنها أن عمل البنوك اليوم يشبه المضاربة ، فالبنك يجني أرباحا من هذه الودائع ، وهو يدفع نسبة من هذه الفوائد عن طواعية ورضا . وإذا وضعنا هذه
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 237)
الأموال في البنوك دون أخذ فائدة - أي الربا - فإننا نعين البنك بذلك ، وإذا أخذناها ، فيمكن أن نساعد منها المحتاجين ، ومعظم هذه الشبهات الدائرة يجمعها قول الكفار منذ ألف وأربعمائة عام ، فيما حكاه عنهم الله تعالى: سورة البقرة الآية 275 إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فوجه المشابهة لمن أراد أن يتلاعب بشرع الله يمكن أن يوجد ، ولكن الله أحل البيع وحرم الربا .
ونقول: إن شيوع الباطل لا يجعله حقا ، وقد بدأت محاولات محدودة للتعامل البنكي ، قائمة على منهج البيع وتحريم الربا ، وهي داخلة تحت ما أطلق عليه البنوك الإسلامية . وهذه البنوك تحارب من بعض علماء المسلمين ، كما تحارب من البنوك الأخرى الربوية بدعاوى مختلفة .
ومن ضمن هذه المغالطات ، أن البنوك الإسلامية تدفع ربحا غير محدد ، بينما تدفع البنوك الأخرى ربحا محددا ، وهذه أضمن لمصلحة الفقير ، كما أنه يمكن اعتبار ما يدفعه البنك من ربا ، بمثابة نسبة ربح قياسا على المضاربة ، خاصة وأن البنك يدفعها عن رضا ورحابة صدر ، وإذا خسر البنك ، فيمكنه أن يلجأ للقضاء ، ويثبت خسارته ، وبالتالي فإنه يصبح غير ملزم بدفع نسبة الربح المنصوص عليها .
وأقول: إن مثل هذه الشبهات هي ترقيع لواقع اقتصادي بعيد عن الإسلام ، ورحم الله الإمام إبراهيم بن أدهم ، وهو القائل:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وإلا فإن هذا الواقع الربوي ، هو الذي كان موجودا قبل الإسلام ، وهو ربا النسيئة ، وكان يمكن لذلك المرابي أن يقول: إن الذي أخذ المال بالربا ، اشترى به إبلا وأرضا وتاجر فيه ، وليس بمحرم علي أن يعطيني نسبة مما ربحه ، وكثير من الذين يأخذون الربا قديما وحديثا ، إنما يأخذونه للاستثمار ، وقليل منهم الذي يأخذ للحاجة الماسة أو للضرورة .
ولا أدعي أن البنوك الإسلامية تمثل شرع الله الحنيف ، وبعيدة عن النقص في بعض جوانبها ، ولكن يمكن القول : إن التعامل الأساس المعلن لهذا البنك ، هو موافق لشرع الله ، أما أن البنك قد يستعمل هذه الأموال استعمالا فيه شبهة ، فالإثم على من كذب وغير ، أما صاحب المال فقد اتفق على أن يكون التعامل موافقا لشرع الله .
وبالتالي فإن تشويش بعض العلماء على البنوك الإسلامية ، إنما يصب في خدمة البنوك الربوية .
ولا أريد أن أذكر أسماء في هذا المقام ، ولكن أحيل إلى بعض المراجع لمن أحب الاستزادة والاستفادة .
15 - السلم والمحاقلة والمزابنة والمخابرة :
هناك بعض المسائل المتعلقة بالربا ، وهي أقرب إلى مسائل الفروع ، والتعرض لها يطيل البحث .
منها حكم السلم ، وبيع الحيوان بالحيوانين نسيئة ، وبيع اللحم بالحيوان انظر المغني 6 / 90، مسألة رقم713، نيل الأوطار5 / 313 شرح السنة 8 / 81- 86 . ، وكذلك أحكام المحاقلة والمزابنة والمخابرة وكثير
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 240)
من المعاملات التي يمكن أن تلحق بالربا ، وهي تحت باب البيوع ، وللعلماء فيها تفصيلات وخلاف ، فتراجع في كتب الفقه .
16 - في قوله تعالى : سورة الروم الآية 39 وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ .(2/157)
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية في الرجل يهدي غيره هدية ، يرجو أن يثاب أفضل منها . فذلك الذي لا يربو عند الله ، ولا يؤجر صاحبه ، ولكن لا إثم عليه تفسير القرطبي 14 / 36 . .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : صريح الآية فيمن يهب الهبة يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة .
وقال المهلب تفسير القرطبي 14 / 37 : اختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب ثوابها ، وقال: إنما أردت الثواب ، فقال مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له ، فله ذلك . مثل: هبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه ، وهو أحد قولي الشافعي .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 241)
وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر .
وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب ، فهو على هبته حتى يرضى منها تفسير القرطبي 14 / 38. .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة ، فإنه لا يرجع فيها ، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب ، فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها .
وترجم البخاري في صحيحه (باب المكافأة في الهبة) ، وساق حديث عائشة رضي الله عنها ، حيث قالت: صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2445),سنن الترمذي البر والصلة (1953),سنن أبو داود البيوع (3536),مسند أحمد بن حنبل (6/90). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها .
وجاء في سنن الترمذي سنن الترمذي المناقب (3945),سنن أبو داود البيوع (3537),مسند أحمد بن حنبل (2/292). أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة البكرة: الفتية من النوق. ، فعوضه منها ست بكرات ، فتسخط ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال: إن فلانا أهدى إلي بكرة ، فعوضته منها بست بكرات ، ويظل ساخطا ، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي ، أو أنصاري ، أو ثقفي ، أو دوسي
17 - ورد في سبب نزول قوله تعالى: سورة الروم الآية 39 وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ أنها في قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية ، فقال: أهدية أم صدقة ، فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضاء الحاجة ، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل ، فقالوا: لا ، بل هدية . فقبلها منهم ، وقعد معهم يسائلهم ويسائلونه أخرجه النسائي 6 / 279 في العمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، (جامع الأصول 11 / 614 رقم 9229). .
وقال ابن عباس : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم والتفضل عليهم تفسير القرطبي 14 / 37 . .
وقال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا تفسير القرطبي 14 / 37 . .
وعلى قول السدي ، فإن الآية في الربا المحرم المعهود .
18 - لقد ظهرت شبهات على ألسنة بعض المتأخرين ، هي نفسها الشبهة التي ردها المشركون في الجاهلية ، وتدور هذه الشبهات حول قولهم : سورة البقرة الآية 275 إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ، فيقولون : إن الذي يأخذ الربا يربح ويكسب أضعاف النسبة الربوية ، ونحن إن لم نلزمه بنسبة معينة من الربح ، فإنه قد يكذب ويدعي الخسارة .
فالبنك هو الذي يبحث عن العملاء ، ويغريهم بوضع أموالهم مقابل فائدة معينة ، يطلقون عليها اسم نسبة من الربح ، ويقولون : إن البنك لا يخسر في تعامله ، وإذا خسر حقيقة فأمامه القضاء ليثبت ذلك ، وعندها قد يخسر المودع جزءا من رأس ماله .
وهذه الشبهة على قوتها في الظاهر ، فهي متهالكة في الحقيقة لأن ذلك الأعرابي في الجاهلية عندما يأخذ بالربا ، قد يشتري عقارا أو أنعاما ، وقد يكسب في ذلك أكثر من النسبة الربوية ، وهذه مسألة لا تخفى على أحد . فتحريم الربا إنما هو تحريم لنظام مالي قائم على هذه الأصول الفاسدة انظر كتاب (التدابير المالية الواقية من الربا) للدكتور / فضل إلهي ظهير . ، والبديل عن ذلك هو قيام شركات الاستثمار الإسلامية التي نجحت نجاحا متميزا ، حتى تدخلت فيها الأنظمة وأفشلتها وفق نصائح غربية مفضوحة ، بدعوى أن الذي يملك الاقتصاد يملك الحكم .
والكفار يريدون الاستئثار بالمال والقوة ، ليبقى المسلمون تحت أيديهم ورهن قراراتهم .
19 - وفي قوله تعالى : سورة آل عمران الآية 130 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 244)
ذهب بعض المتأخرين إلى أن الربا يكون حراما إذا كان أضعافا مضاعفة ، أما إذا كان بنسبة معقولة ، فإن هذا ليس ربا ، ولا يكون حراما ، وجعلوا قوله تعالى: سورة آل عمران الآية 130 أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً قيدا وعلة في التحريم في ظلال القرآن 4 / 473 . وهذا فهم يدل على انحراف في التفكير وسوء قصد . فقوله تعالى: سورة آل عمران الآية 130 أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً إنما هو وصف لواقع جاهلي ، ينفر السامع من التعامل به ، فقد كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن قضاه وإلا زاده الآخر في المال ، وهكذا كل عام ، حتى يصبح أصل المال مضاعفا . فأمرهم الله بالتقوى ، وبين لهم أن ترك التعامل بالربا من أسباب الفلاح ، وحذرهم من نار جهنم التي أعدت للكافرين ، ومن هم على شاكلتهم .
وقد جاء تحريم الربا على إطلاقه في سورة البقرة ، وبينت ذلك السنة الصحيحة .
20 - بيع الحيوان بالحيوان:
يحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ، وقد ذكرنا الخلاف في علة تحريم ربا الفضل عند العلماء .
وقد اختلف العلماء في حكم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 245)
فذهب الحنفية ، ورواية عند الحنابلة - إلى أنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان إذا كان يدا بيد ، ولا يشترط التماثل ، ويجوز التفاضل ، كبيع حيوان بحيوانين ، ولكن يحرم كل ذلك في النسيئة المغني لابن قدامة 6 / 65 الربا والقروض ص 52. .
وقال الشوكاني : إنه لا خلاف بين العلماء في جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا ، إذا كان يدا بيد ، وإنما الخلاف في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة نيل الأوطار 5 / 314 . .
واستدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .
وكذلك ما روي عن الحسن بن سمرة رضي الله عنه قال: سنن الترمذي البيوع (1237),سنن النسائي البيوع (4620),سنن أبو داود البيوع (3356),سنن ابن ماجه التجارات (2270),مسند أحمد بن حنبل (5/19),سنن الدارمي البيوع (2564). نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ) .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 246)
ووجه الاستدلال في هذين الحديثين: أن النهي منصب على التفاضل نسيئة ، فإذا كان التفاضل يدا بيد فلا حرج في ذلك .
وقال الإمام مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا ، أنه لا بأس في الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم يدا بيد . وقال: لا خير في الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم ، إذا كانت الدراهم نقدا والجمل إلى أجل . وكذلك إن أخرت الجمل والدراهم فلا خير في ذلك أيضا . ثم قال: ولا بأس أن يبتاع البعير النجيب بالبعيرين .(2/158)
وتفسير ما كره من ذلك هو: أن يؤخذ البعير بالبعيرين ليس بينهما تفاضل في النجابة ، فإذا كان على هذه الحال فلا يشتري منه اثنان بواحد إلى أجل موطأ مالك 2 / 652 . .
وذهب الشافعية المغني لابن قدامة 6 / 64، رقم المسألة 706، الربا والقروض ص 53. وهو رواية عن المالكية ، ورواية عن الحنابلة ، إلى : جواز بيع الحيوان بالحيوان مطلقا ، ولو كان من جنسه ، متفاضلا يدا بيد ، أو متفاضلا نسيئة ، كمن يبيع بعيرا ببعيرين حالا أو إلى أجل .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 247)
واستدلوا بعدة أدلة من الأحاديث والآثار ، نذكر منها ما يلي:
1 - ما أخرجه أحمد وأبو داود أخرجه أحمد في المسند 2 / 216، وأبو داود رقم 3357، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 / 22 رقم 14144. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: سنن أبو داود البيوع (3357),مسند أحمد بن حنبل (2/216). أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي ، قال: فحملت الناس عليها حتى نفدت الإبل ، وبقيت بقية من الناس ، قال: فقلت: يا رسول الله الإبل قد نفدت ، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم . فقال لي: ((ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة ، إلى محلها حتى ننفذ هذا البعث)) . قال: وكنت أبتاع البعير بالقلوصين القلوص: الشابة من النوق، وهي بمنزلة الجارية من النساء وجمعها قلص وقلائص (مختار الصحاح، مادة قلص). ، وبالثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها ، حتى نفذت ذلك البعث ، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وجاء في بداية هذه الرواية عن عبد الله بن عمرو كما أخرجها أحمد: أن رجلا سأل عبد الله بن عمرو فقال: يا أبا محمد إنا بأرض لسنا نجد بها الدينار والدرهم ، وإنما أموالنا المواشي ، فنحن نتبايعها بيننا ، فنبتاع البقرة بالشاء نظرة إلى أجل ، والبعير بالبقرات ، والفرس بالأباعر ، كل ذلك إلى أجل ، فهل علينا في ذلك من بأس؟! فقال (الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 248)
عبد الله بن عمرو : على الخبير سقطت ثم ذكر الحديث تم تخريج الحديث آنفا. .
2 - ما رواه مالك والشافعي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملا يدعى (عصيفيرا) بعشرين بعيرا إلى أجل موطأ مالك 2 / 652، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 / 22، رقم 14142. .
3 - ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة ، يوفيها صاحبها بالربذة .
4 - ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا ، ووصله عبد الرزاق ، أن رافع بن خديج اشترى بعيرا ببعيرين ، فأعطاه أحدهما ، وقال: آتيك بالآخر غدا علقه البيهقي عن رافع بن خديج 5 / 287، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 / 22 رقم 14141. .
(الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 249)
5 - ما رواه البخاري ومالك ، عن سعيد بن المسيب أنه قال:
( لا ربا في الحيوان) مصنف عبد الرزاق 8 / 20 رقم 14137، موطأ مالك 2 / 654، باب ما لا يجوز من بيع الحيوان. وقد نظر الشوكاني في هذه الأدلة ثم خلص إلى القول:
لا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال ، لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة ، سمرة ، وجابر بن سمرة ، وابن عباس ، وبعضها يقوي بعضا ، فهي أرجح من حديث واحد غير خال من المقال ، وهو حديث عبد الله بن عمرو ، ولا سيما وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة ، وقد تقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة .
وأما الآثار الواردة عن الصحابة فلا حجة فيها ، وعلى فرض ذلك فهي مختلفة نيل الأوطار 5 / 316 . . (الجزء رقم : 66، الصفحة رقم: 250)
====================
علة الربا في النقدين
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 1 / ص 216)
علة الربا في النقدين
نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا المعاوضات كوسيط للتبادل ، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنية وحيث إن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما .
نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش .
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة ، فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم : قصر العلة فيهما مطلقا سواء كان تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس ، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها ، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعد نقدا ، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي ، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال .
* * *
الأول :
يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن لقوله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (1) . ولقوله : « الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل » (2) وقوله : « ما وزن مثلا بمثل » وقوله : « بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ، » (3) وقال في الميزان مثل ذلك (4) فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات ، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والصوف والقطن والكتان ، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي :
أ - الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (5) .
ب - العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزنات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل وفي جواز ذلك نقد للعلة (6) .
جـ - أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن ، بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا كالفلوس والورق النقدي فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار .
* * *
الثاني
ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبت الثمنية ، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي ، فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة ، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين ، فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها ، ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي : -
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي .
(2) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),موطأ مالك البيوع (1324).
(3) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),موطأ مالك البيوع (1314).
(4) صحيح البخاري .
(5) انظر الجزء الثاني ص 137 من إعلام الموقعين .
(6) انظر الجزء الرابع من المغني ص 4 وانظر الجزء التاسع والعشرين ص 471 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وانظر الجزء الثاني ص 137 من إعلام الموقعين .(2/159)
أ - أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس ؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1) .
ب - إن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي .
* * *
الثالث :
ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية ، وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة قال أبو بكر من أصحاب أحمد روى ذلك عن أحمد جماعة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وغيرهما من محققي أهل العلم (2) .
وقد أورد ابن ملفح على هذا القول إيرادا ملخصه : بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (3) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية ، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما ، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة ؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب ، ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة (4) . كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة سواء أكانا سبائك أو مسكوكين ، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا ، وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا ، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا ، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي « عن سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجرة فقال له زن وأرجح ، » (5) ومثله حديث
__________
(1) انظر الجزء التاسع من مجموع النووي ص 445، وانظر الجزء الثاني من الفروع ص 545 .
(2) انظر جـ 29 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ص 473 و ص 474 وانظر جـ 2 ص 137 من إعلام الموقعين .
(3) انظر جـ 2 ص 545 من الفروع وتصحيحه .
(4) انظر الجزء الثاني من إعلام الموقعين ص 140 - 142 وانظر الجزء التاسع والعشرين من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 453 .
(5) سنن الترمذي البيوع (1305),سنن النسائي البيوع (4592),سنن أبو داود البيوع (3336),سنن ابن ماجه التجارات (2220),مسند أحمد بن حنبل (4/352),سنن الدارمي البيوع (2585).
جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال يا بلال أقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (1) .
هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم . . . . . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) انظر الجزء التاسع عشر من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ص 248 وانظر في الإجابة عن هذا الإيراد الجزء الثاني من إعلام الموقعين ص 140 .
الخلاصة
وبعد استعراض الهيئة للبحث المذكور ، وما فيه من أقوال فقيهة قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها إسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا بذاته وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية . . جرى تداول الرأي فيها ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات .
كما استمع أعضاء الهيئة إلى آراء بعض الخبراء المتخصصين في النقد الورقي والعلوم الاقتصادية حول هذا الموضوع ، بعد ذلك رأى مجلس الهيئة بالأكثرية ما يلي :
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل ، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثمانا -إلى أن قال- والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت ا هـ \ جـ ( 29 ) ص : 251 من مجموع الفتاوى .
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال : ولو أن الناس اجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة . ا هـ .
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة وبه الإبراء العام ، وحيث ظهر من المناقشة مع المتخصصين في إصدار الورق النقدي والعلوم الاقتصادية أن صفة السندية فيها غير مقصودة ، والواقع يشهد بذلك ويؤكده كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية ، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية ، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم ، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها ، وأن الخامات المحلية كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية .
وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما . . وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها :
أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان ، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس ، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته ، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية : -
أولا : جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس ، وهذا يقتضي ما يلي :
أ - لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا ، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة .
ب - لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد ، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا . .(2/160)
جـ - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر ، إذا كان ذلك يدا بيد ، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد ؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة .
ثانيا : وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها .
ثالثا : جواز جعلها رأسمال في السلم والشركات . .
==============
القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 5 / ص 194)
3 - القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله
وقد تصدى علماء المسلمين لتلك المزاعم وبينوا أوجه البهتان فيما ادعته من أخذ عن اليهود فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أبواب الربا ، بيد أن جدال أصحابها لفت الباحثين عن التفكر في حقيقة ما جاء به الإسلام متميزا عما في صحف اليهود ، ومتطورا عما بلغوه في تفسيرات أحبارهم وأعراف أسواقهم ، ووجدوا أكثر مفسري القرآن لم يعرضوا لبيان الربا ، الذي نهي عنه بنو إسرائيل في قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (1) { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (2) وإنما قالوا:
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161
إن الآية تدل على أن الربا كان محرما على اليهود كما هو محرم علينا ، وأن النهي يدل على حرمة الربا المنهي عنه وإلا لما توعد سبحانه وتعالى بالعذاب على مخالفته .
ورأى بعض الفقهاء عبارات التوراة في النهي عن الربا تشبه في معانيها ومؤداها عبارات القرآن ، وأن الحكمة في نهي اليهود عن الربا هي دفع الظلم والاستغلال عن المحتاج ، وهي الحكمة عينها التي صرح بها القرآن في قوله تعالى لمن أربوا : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (1) يعني لا تظلمون في أخذ الربا ، فإن ما يقبضه المرابي من الربا هو بمثابة الأموال التي تصل إليه بالغصب والسلب ، وتوبة المرابي سبيلها أن يرد الربا على من أربى عليه ، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه (2) وخلصوا من ذلك إلى أن الربا الذي حرم على اليهود ، هو نفسه الذي حرم على المسلمين ، والشرائع يصدق بعضها بعضا ، إذ كل في الأصل من عند الله تعالى (3) .
وكان للقول بوحدة الربا في الإسلام آثاره في دراسة أصول أحكامه وتحديد نظريته لدى كل من رجال الفقه الإسلامي والقانون المدني جميعا ، فقد جعل فريق ربا البيوع راجعا إلى ربا الدين ، وجهدوا في إثبات خصائص ربا الدين في ربا الفضل وربا النسيئة معا ، فترخصوا في تكييف الفضل في البيوع الربوية ، وهو زيادة مقدار ، ورأوه يشبه زيادة القيمة في ربا القروض ، وحاولوا في جهد غير يسير أن يضعوا تعريفا موحدا يجمع جميع أنواع الربا ، وأدى كل أولئك إلى الخلط في الأحكام وإلى المشقة في ردها إلى أصولها والوقوف على حكمة كل منها . ولم يستقم لفقهاء القانون أن يضعوا أنواع الربا موضعها الصحيح في إطار عرضها المقارن بالقوانين ، فجاء ربا البيوع في كتابتهم حدا شرعيا مانعا للغبن ، وأقاموا على ذلك أصلا عاما نسبوه إلى الشريعة ، يوجب تعادل التزامات الطرفين في العقود ، وإذا وجدوا عقد العرض ليس من البيوع التي يقتصر عليها الربا ، قالوا : إن ربا القرض ، وهو أصل الربا كما تعرفه الشرائع والقوانين ، يدخل في ربا البيوع شرعا من باب القياس (4) .
ولكن هذا المجال الذي تتغاير فيه فروع الشرائع ، يقتضي أن نحذر الفتنة عن بعض ما جاء به الإسلام وأن نحيط بأحكامه كما فصلت في القرآن والسنة تفصيلا ، وعندها يستبين ما فيها من الأحكام الذي يميز كل نوع من ( الربوات) من غيره ، ومن التطور الذي لم يقتصر على ما استحدث من الربا في البيوع مختلفا عن الغبن ، بل أضاف إلى ربا الدين من الخصائص ما عدل من طبيعته وحكمته جميعا . ويشرق من كل أولئك نور الإعجاز الذي يشهد بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغ من تلك الأحكام الاقتصادية التي أوحاها اللطيف الخبير ، ودقة حكمة بعض منها على أفهام المخاطبين من المسلمين حين شرعها وعلى كثير منهم ومن غيرهم حتى اليوم .
وتفرغ في هذا البحث لربا الدين ، الذي مهر اليهود في أخذه وعرفته على غرارهم القوانين الوضعية ، ونقارنه بما جاء في الإسلام في شأنه ، حتى يتبين الفرق بين الربوين في الأحكام وأثر هذا الفرق في اختلاف الحكمة في حظرهما وأثرها في التنظيم الاقتصادي والبنيان الاجتماعي والسياسي .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) تفسير القرطبي ، ج3 ص 365و366، ونظرية الربا المُحرَّم في الشريعة الإسلامية للأستاذ زكي الدين بدوي 1383 \ 1964، ص73-76.
(3) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حسن حمود
(4) ويقول الحافظ ابن كثير المُتوفَّى سنة 774هـ في تفسير القرآن العظيم ج1 ص 327 إن باب الرِّبا من أشْكل الأبواب على كثير من أهل العلم '' وانظر مصادر الحق في الفقه الإسلامي، دراسة مُقارَنة بالفِقْه الغربي الحديث، الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، 1956، ج3 ص 268، وهو يقصد ربا الجاهلية على الربح المركب وحده.
4 - نصوص تحريم الربا عند اليهود
جاء ذكر الربا في مواضع متعددة من التوراة ، فقصت في سفر الخروج ، بالإصحاح 22 في العدد 25: إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك ، فلا تكن له كالمرابي ، لا تضعوا عليه ربا "
وفي سفر اللاويين ، بالإصحاح 25 في الأعداد 35 حتى 37 :" وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده . . لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة .
ثم جاء في سفر التثنية ، بالإصحاح 23 في العدد 19 :" لا تقرض أخاك بربا ، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا " .
وينص العدد 20 الذي يليه في نسخة التوراة التي يتداولها يهود اليوم ، على أن :" للأجنبي تقرض بربا ، ولكن لأخيك لا تقرض بربا ، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها "
وجاء على لسان نحميا ، بالإصحاح" في العددين 10و11 :" وأنا أيضا وإخوتي وغلماني أقرضناهم فضة وقمحا فلنترك هذا الربا . ردوا لهم هذا اليوم حقولهم وكرومهم وزيتونهم والجزء من مائة الفضة والقمح والخمر والزيت الذي تأخذونه منهم ربا " .
ويعقب في العدد 13 بقوله :" ثم نفضت حجري وقلت هكذا ينفض الله كل إنسان لا يقيم هذا الكلام من بيته ومن عقبه . . " .
وبين سفر حزقيال بالإصحاح 18 سمات النفس التي تخطئ ، فهي تموت بإثم الرجاسات والمعاصي ، وذكر منها العددان 12 و13 من ظلم الفقير والمسكين واغتصب اغتصابا ولم يرد الرهن وقد رفع يمينه إلى الأصنام وفعل الرجس . وأعطى بالربا وأخذ المرابحة . . " .(2/161)
وحفلت النصوص برعاية المدينين ، ومنعت مضارتهم في الرهون المقبوضة منهم ، وفرضت إبراء المعسر مما عليه من القرض كل سبع سنين ، وكل ذلك عندهم ما لم يكن المدين أجنبيا (1) .
ويذهب بعض المفسرين من أهل الكتاب إلى أن نصوص سفري الخروج واللاويين التي سلفت ، إنما حرمت الربا الفاحش ، وأن تحريم مطلق الفائدة لم يشرع إلا من بعد ذلك بما جاء في سفر التثنية (2) وقيل إن
__________
(1) اليهودي، للأستاذ مراد فرح، ص 20 ن71، سفر التثنية، الإصحاح 15: 1-4 .
(2) dictionary of the bible، جيمس هاستنجس وآخرين، ج 1ص 579 مادة usivuy debt. وج 4 ص 841 مادة .
صحف موسى حرمت على اليهود أخذ الربا من الفقراء ولو كانوا من الأجانب ، ثم انحصر التحريم في إقراض اليهود ، وإن كان المقترض موسرا (1) .
وما كان اليهود يعملون بالتجارة حين أنزلت التوراة ، فلم تشر نصوصها إلى الديون التجارية ، ولم يبدأ عهد اليهود بنظام الائتمان التجاري ، إلا بالذي وضعوه ( وهم أسارى ببابل وطبق الأحبار الذين دونوا كتاب المشنا من سنة 200ق م حتى سنة 200م) تحريم أخذ الربا على الديون التجارية ، وإن رخصوا في الوقت ذاته فيما يؤدي إلى التهرب من هذا التحريم ، من طريق الحيلة القانونية ، بأن يعتبر المقرض بالربا بمثابة شريك مستحق لأرباح المشروع التجاري الذي أمده برأس ماله (2) .
__________
(1) دائرة معارف البستاني، ج8 ص 509 مادة '' ربا'' أوردها زكي الدين بدوي، ص3
(2) studies in monetary economics by don potenkin 1972 p. 122
5 - خصائص الربا عند اليهود
ونستعرض أحكام الربا التي يقرها علماء اليهود في كتبهم ، ونستخلص منها خصائص الربا عندهم كي يستبين أوجه الاختلاف أو الشبه بينه وبين الذي جاء به الإسلام .
وخصائص هذا الربا هي:
1 - الربا في القرض والبيع .
2 - الربا مقابل الأجل .
3 - الربا ظلم للمدين .
4 - الحظر القضائي للربا مختلف فيه .
5 - قصر التحريم على اليهودي دون الأجنبي .
الخاصية الأولى
الربا في القرض والبيع
ينطبق الربا على البيع الذي يدخله التأجيل ، ولا يقتصر على القرض ، فإذا كان الربا هو ما يؤديه المقترض زيادة على مقدار ما اقترض ، وذلك هو التحديد الذي يجده اليهود في نص الكتاب ، ويسمونه لذلك ربا الناموس ، فإن الأحبار قد ألحقوا به كل ما يمنع التهرب من تحريمه ، فحرموا أبوابا من الربا الاعتباري ، وجعلوا منه زيادة ثمن بيع الشيء نسيئة على سعره بالأسواق حاضرا ، فالأرض التي ثمنها الحال 1000 دينار ، لا يجوز بيعها بثمن مؤجل إلى سنة مقداره 1200 دينار . ولكننا نجد نص التوراة ينهى عن أخذ المرابحة من الفقير بعد النهي عن أخذ الربا منه ، مما يفرق بين ربح النسيئة في شأنه والربا ، ويذر حظر المرابحة ناموسيا ومتميزا من الربا ، وكذلك منعوا أن يبيع الشخص شيئا ليس عنده إلى أجل بدين مستحق عليه ، ومن صور ذلك ، أن يشتري يوعز من أخيه أشير كيل قمح بثمن مقداره 25 دينارا مساو لسعر السوق ثم غلا السعر فصار ثمن القمح 30 دينارا ، ولما طلب يوعز قبض قمحه ليبيعه ويشتري بثمنه خمرا ، قال له أخوه بعني القمح بـ 30 دينارا ، أبيعك بها خمرا إلى أجل بسعره الحاضر في السوق ولم يكن الخمر عنده وقتئذ ، فإن شراء أشير القمح بأكثر مما باعه وقبل قبضه لا يعتبر من الربا عند الأحبار ، ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى من اشترى طعاما عن أن يبيعه قبل قبضه وسمى الصحابة مثل هذا البيع ربا ، ويكون بيع يوعز القمح لأخيه من قبل أن يقبضه منه بعد شرائه محظورا في الإسلام على خلاف ما عند اليهود . وإنما يجد الأحبار الربا في بيع أشير الخمر الذي ليس عنده ، حيث تحمل خطر الزيادة في ثمن الخمر حين يشتريه مقابل حصوله على تأجيل الدين الذي استحق عليه . ويحرم بذلك بيع الأشياء المستقبلة من قبل أن يكون سعرها بالسوق قد تحدد . وكذلك اعتبروا من الربا شراء القمح قبل أن تظهر سنابله والعنب قبل أن تبدو عناقيده ، خوفا من أن يكون البيع بثمن أقل من قيمته حين نضجه ، فتكون ثم زيادة محتملة للمشتري (1) وطبقوا ذلك حينا على القرض ذاته ، إذ رأوا لجوازه أن يكون غير مؤجل كمن يقترض كيل قمح حتى يجد مفتاح مخزنه أو يعود ابنه إلى البيت ، ولا يجوز أن يقترضه ليرده في موسم درسه ، لاحتمال أن يرتفع سعر القمح ، فيفيد المقرض من زيادة تشابهت عليهم مع الربا ، ولكن التلمود ألغى هذا الخطر والتزم حد الربا الناموسي ، الذي يقصر التحريم في القرض على رد كمية أكبر مما اقترض المدين ، وجعلت المشنا أجرة العمل كرأس مال المقرض ، إذ حظرت مبادلة العمل في الحرث والعزق بين الجيران ، إذا كان العمل اللاحق أشق من العمل السابق .
ولكنهم لم يجعلوا إجارة العقار كبيعه في شأن الربا ، فأباحوا لمؤجره إذا أجل قبض الأجرة إلى آخر العام بدلا من استيفائها مشاهرة ، أن يتقاضى من مستأجر العقار زيادة على مجموع ما كان يعجله من أجرة كل شهر .
ولا يزال لتلك الخاصية التي تجمع في تحريم الربا بين القرض والبيع تأثيرها في القوانين الأوروبية الغربية ، كما أثرت في الكنائس المصلحة من قبل ، ولا ينفك مشرعو تلك البلاد يرون بائعي النسيئة في مرابحتهم كالمقرضين في رباهم ، ويسلكون الطائفتين جميعا في نصوص مكافحة الربا ، ويفرضون ألا تجاوز الزيادة في الأثمان المؤجلة الحد الأقصى لما أجازته قوانينهم من الربا .
ويجادل المشتغلون ببيوع النسيئة في اعتبارهم كالمرابين ، باستدلال اقتصادي يظاهر الفرق القانوني بين القرض والبيع ، ويستند إلى ما يتحمله بائع النسيئة من نفقة وما يتعرض له مخاطر هلاك ضمانه من السلعة المبيعة ، مما لا يتعرض لمثلها المقرض بالربا (2)
__________
(1) الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور: ص45
(2) a vente a credit Robert sommade paris 1959. p.p.29-32
الخاصية الثانية
الربا مقابل الأجل
فاستحقاق الربا سببه تأجيل القرض أو الدين ، فلا يكون الربا إلا في الديون المؤجلة ، ويستوي أن يتفق على الزيادة ابتداء عند أخذ القرض أو عقد البيع المؤجل وأن تعرض عند المطالبة ، فينظر المدين بارتضاء الزيادة إلى محل ميسرته كما يستوي أن تكون الزيادة محددة جملة واحدة ، وأن يجري تقديرها بنسبة من رأس المال بإزاء طول الأجل ، وتتضاعف الزيادة أضعافا مضاعفة كلما امتدت الآجال .(2/162)
وقد عرف أحبار المشنا ما لتأجيل الدين من أثر ينقص من قيمته نقصا محددا ، فقالوا فيمن شهدا زورا على دين مقداره 1000 زوزيم ، بأنه مؤجل لعشر سنين ، وثبت تواطؤهما على الكذب ، وأن الدين واجب الدفع خلال ثلاثين يوما ، فإنه يحكم عليهما بأن يدفعا الزيادة في قيمة الدين الحاضرة على قيمته المؤجلة (1) ومثل هذه الزيادة المقابلة للتأجيل التي يجوز أخذها في الإتلاف تعادل الربا الذي لا يجوز أخذه في القرض ، وهي التي استند الأحبار إلى احتمال وجودها في بيع الثمر قبل ظهوره للقول بتحريمه ، وهذا البيع محرم في الإسلام ، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله :" إن من الربا بيع الثمر وهي معصفة قبل أن تطيب" والربا في هذا القول يقصد به البيع المحرم من باب التوسع في إطلاق الربا ، ولا يقصد به الربا الاصطلاحي في الفقه الإسلامي الذي يقتصر على ربا الدين وربوي الفضل والنسيئة في البيوع (2) كما أن سبب تحريم هذا البيع يختلف عما عند اليهود ، فالإسلام لا يحظر الزيادة في قيمة المبيع المؤجل في السلم على الثمن ، وإنما يحرم هذا البيع بسبب الغرر ، وينظر إلى الخطر الذي يحيط بوجود المبيع ، ويمنع أن يضيع الثمن على المشتري إذا لم يوجد الثمر الذي ابتاعه .
الربا عند اليهود لا يسري في شيء من البيوع الحاضرة ، ولا يعرف فقههم ما جاء به الإسلام في تنظيم هذه البيوع من محظورات يسميها فريق من مفسري المسلمين وفقهائهم ربا النقد يقابلونه بربا الديون الذي يسمونه ربا النسيئة لما فيه من التأجيل .
__________
(1) 20 the jewish encyclopaedia 1905 voi x11 p. 388 \ 8.
(2) نظرية الربا المحرم، المرجع السابق، ص27 .
الخاصية الثالثة الربا ظلم للمدين
الحكمة في تحريم أخذ الربا هي منع استنزاف مال المدين ظلما . وإذا كانت بعض أسفار التوراة تعبر عن الربا بلفظ الزيادة ، ومن مادته ربيت أو تربيت ، ومربيت في النصوص العبرية والكلدانية والآرامية ، إلا أن أكثر ما يطلق على الربا اللفظية العبرية نشخ ( بكسر النون والشين المعجمة وسكون الخاء المعجمة) وتعني في أصل مادتها اللغوية العض ، وتومئ بذلك إلى أن المرابي يأكل لحم أخيه الذي يداينه بالربا كما ينهشه الثعبان ، ويجعل حزقيال في الإصحاح 18 بأعداده 10-13 أخذ الربا والمرابحة من سمات سفاكي الدماء . فأخذ الربا أشبه عند اليهود بالقتل ، ويقول قائلهم: إن من أراد أن يقتل عدوه بالتي لا تثبت عليه لدى القضاء ، فليقرضه بالربا .
ويترتب على هذه الخاصة توجه حظر الربا إلى الدائن الذي يأخذه ، حيث يعد المقترض مظلوما تغتصب منه الزيادة على أصل ما اقترض ، ولذلك عرف الربا عند اليهود بأنه أخذ الزيادة على الدين غصبا وقهرا (1) ، ونجد نصوص سفري الخروج واللاويين تصف المستقرض بأنه فقير ، مما يدل على اضطراره . وإنما جاء المقترض مطلقا من الافتقار بعد ذلك في سفر التثنية . واستندوا إلى نصه على فعل الربا في صيغة تشمل الدائن والمدين ، فقالوا : إن إثم الربا لا يقع على الدائن وحده ، بل يلحق المدين أيضا ، كما يأثم من قدم رهنا لضمان دين الربا وشهود عقده ، واختلفوا في الكتاب ، فقال فريق يأثم بكتابة الربا ، وقيل : لا إثم عليه . ويردون تأثيم الضامن وشاهد الربا وكاتبه ، إلى أنهم قد أعانوا على المعصية ، وخالفوا الذي في سفر اللاويين في الإصحاح 19 بالعدد 14 ، من النهي عن وضع حجر عثرة أمام الأعمى (2) .
وفي هذا الاجتهاد ما يشبه حكم الإسلام الذي نصت السنة المطهرة فيه صراحة على لعن مؤكل الربا وشاهده وكاتبه ، ولكن القول باعتبار المدين آثما يبدو غير متفق وما جرت به نصوص أسفارهم من استغلال الدائن حاجته وظلمه له .
ونلاحظ أن عسرة المقترضين التي كانت سائدة حين أنزلت التوراة على موسى عليه السلام لازمت اليهود من بعده ، وتدل الأسفار التالية لصحفه على أنهم يستقرضون للإنفاق في الزواج وحاجات الزراعة وأداء خراج الملك في سني القحط (3) .
وبقي اقتصادهم معتمدا على الزراعة .
وإذا كان الإنجيل قد أشار إلى مزاولة اليهود
__________
(1) encyclopaedia Britannica 1964 vol xx11 p.908 la doctrine sociale de leglise , p. bigo, 1966 p. 331
(2) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص390.
(3) سفر نحميا، الإصحاح، العددان 4و10.
تجارة الصرف وإقراض الفضة بالربا عند مبعث المسيح عيسى عليه السلام إليهم (1) .
إلا أن التجارة في الربا لم تكن قد بلغت التطور الذي أصابته من زيادة الودائع لدى الصيارف ، بعد أن اتخذوا شكل المصارف الحديثة ومن توسعهم في استغلال تلك الودائع فيما يقرضون بالربا ، وصار الصيرفي حين يؤدي الربا إلى المودعين ليغريهم على إبقاء أموالهم بين يديه يختلف في سعته تماما عن إملاق المستقرض اليهودي في الأولين ، بما لا يذر من وجه للقول بظلم يحيق بأصحاب المصارف من صغار المودعين ، ولم تعد الحكمة في تحريم أخذ الربا هي مجرد ظلم المدين كما كانت من قبل أن تنسخ شرعة التوراة بشريعة القرآن .
__________
(1) إنجيل لوقا، الإصحاح 19 بالأعداد 11-23 وتشير النصوص إلى أنّ من يأخذ الربا غير صالح، ولم تُشِر إلى من يؤتيه
الخاصية الرابعة
الحظر القضائي للربا مختلف فيه
الربا محظور ديانة ، ومختلف في حظره قضاء ، ففي كتاب " شولحان عروخ " جاء الربا بين المحرمات الدينية والخلقية ، ولم يعرض في باب الالتزامات القضائية ، ويذهب بعض فقهائهم إلى أن ما أخذ من الربا لا يجوز طلب استرداده لدى المحاكم ، ولو كان من ربا القرض الذي يحظره الناموس ذاته ، واحتجوا بأن الجزاء الذي نص عليه الكتاب هو غضب الله تعالى الموجب للموت ، فلا يجوز أن يلزم المرابي بالرد مدنيا ، حتى لا يزاد جزاء على الذي اقتصر النص عليه . ولكن أكثرهم يفرقون بين ربا الناموس وربا الأحبار ، ولا يجيزون المطالبة باسترداد ربا الأحبار ، ويجيزونها إذا كان ما أخذه الدائن من ربا الناموس ، فيكون للمدين أن يلجأ إلى المحكمة الربانية ، فتحكم على المرابي بالرد ، ولكن لا ينفذ الحكم باستيفاء الربا جبرا من أموال الدائن ، وإنما يقتصر على إكراهه بدنيا حتى يقوم بنفسه بالرد . ويستثنون من ذلك اليتيم ، فإنه إذا أخذ ربا الناموس وأنفقه ، فإن لا يسترد منه ، كما لا يطالب برد ربا الأحبار ، بل هم أجازوا له أخذه . وكذلك إذا مات المقرض بعد أخذه الربا ، فإن ورثته لا يلتزمون قضاء ولا ديانة برده (1) . ويبقى من آثار حظر الربا في القضاء ، أنه لا يجوز للدائن أن يطالب المدين بأداء ما حظره الناموس أو الأحبار من الربا ، ويكون الربا الاعتباري مختلفا في أحكامه عن ربا الناموس ، على خلاف ما تقتضيه حقيقة القياس من مساواة الفرع فيه بأصله .
__________
(1) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص 389و390 .
الخاصية الخامسة
قصر التحريم على اليهود دون الأجنبي(2/163)
عصمة المدين من الربا ليست حقا لكل إنسان ، بل هي رعاية لا يسبغها اليهود إلا على بني إسرائيل ، أما الأجانب عنهم فلا حق لهم في قرض حسن لديهم مهما كانت حاجتهم ، ولا يضع اليهود عنهم ربا ، ولا يبرئون معدما منهم كما يبرئون المعسر من اليهود ، ومع ما استيقنته أنفسهم من مضار الربا في الإضرار بالمدين ، فقد تواصى أكثرهم بإقراض الأجنبي بالربا ، ليحلوا به من البوار ما يعدل قتله ، الذي لا يزالون يرونه واجبا عليهم ، ويفسرون ما يقتضيه ذلك الشبه بين جريمة أخذ الربا وجناية القتل من تراث تورثها الجريمة في صدور من تجني عليهم ، وتقتضي اليهود أن ينتهوا من ظلم غيرهم بالربا ، فيتاح للمسلم أن تسود بينهم وبين أهل سائر الأديان ، وقد صار اليهود منتشرين بينهم في دول لا تفرق بين اليهود وسائر رعاياها في شيء من الربا ، ويكون لليهود من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بما يقدمون من رعاية لنظم العصر ومواثيقه التي تكفل حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على اختلاف ديانته .
وقد عرض النصارى في تفسيرهم نصوص التوراة ، التي لم تنسخ شريعتها في حقهم ، لما عليه اليهود من استباحة أخذ الربا من الأجنبي ، وذهب أحد آباء الكنيسة الأولين إلى أن أخذ الربا ما كان جائزا إلا من الشعوب السبعة المغضوب عليها التي كان الناموس يأمر بإبادتها ، فكانت إباحة أخذ الربا منها من باب الأولى ، وانتهت هذه الإباحة مذ دالت تلك الشعوب البائدة وصارت حرمة الربا مطلقة ، ولكن الرأي الراجح عندهم أن نصوص التوراة والتلمود حين تدرس في مجموعها بدقة ترد تلك التفرقة بين اليهودي والأجنبي ، وتفرض على اليهود الامتناع عن أخذ الربا من الأجانب (1) .
وترى الكنيسة في هذه التفرقة ما ينفي عن الربا عند اليهود وصف الجريمة في القانون الطبيعي بجوهره من العدالة .
وأشار بعض علماء المسلمين إلى ما نعاه القرآن على اليهود في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2) { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (3) باعتباره ردا على استحلال اليهود أخذ الربا من الأجنبي (4) .
ويقوم الاستدلال بالنص القرآني في شأن الربا ، وإن اختصت عبارته بأكل اليهود أصل أموال غيرهم ، على أساس من طبيعة الربا اليهودي ، باعتباره اغتصابا لمال المدين وسلبا له . وقيل في سبب وجود عبارة
__________
(1) الاعتياد على الإقراض بالربا الفاحش، الدكتور حسن الباسوسي، ص 4 و5، والرأي المرجوح للقديس أمبروزيوس (340-397).
(2) سورة آل عمران الآية 75
(3) سورة آل عمران الآية 76
(4) الربا في نظر القانون الإسلامي، للأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز- مجلة الأزهر المحرم 1371 ص6 .
" للأجنبي تقرض بربا" أن التوراة الأصلية فقدت ، وأن نسختها الراهنة كتبت بعد السبي ، ويبدو أن كاتبها أخذ تلك العبارة من دلالة المفهوم المخالف للنص الوارد بالعبارة السابقة عليها ، وهذا المفهوم لا حجة فيه عند جمهور الأصوليين إذا كان مفهوم لقب ، كما أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا ، في مثل النصوص التي تقدمت (1) .
ويبرر فريق من علماء اليهود أخذ الربا من الأجنبي على أساس المعاملة بالمثل ، إذ كان السائد قديما أن الأجانب لا يقرضون اليهود إلا بالربا ، فوجب على اليهودي أن يأخذ الربا عندما يقرض للأجنبي ، وأن يعطي الربا للأجنبي الذي يقترض منه (2) . وإذا صح هذا السبب ، فإنه لا يباح لليهود أن يأخذوا الربا من المسلمين ، وكذلك من كل من يدين بحرمة الربا من ملل النصارى وغيرهم .
ولا يقتصر أثر هذه الخاصية في ربا اليهود على شيوع أخذهم له من غيرهم وجعل إيتاءه هينا على كثير ممن يدينون بحرمة ذلك من غير اليهود ، حتى استشرى الربا في مختلف ( الأمم) ، بل باءت هذه الخصيصة على اليهود أنفسهم بالفساد ، إذ طفقوا يحتالون بها على أخذ الربا من إخوانهم ، بأن اتخذوا من الأجنبي حاجزا بين طرفي القرض منهم ، فيقرض المرابي اليهودي أجنبيا يقرض بدوره المستقرض اليهودي ويتقاضاه الربا ليأخذه المرابي من يد أجنبي بظاهر من الأمر يتفق وتلك الخاصية ، ويستر حقيقة العصيان في أخذ الربا من اليهودي (3) .
وران ذلك على قلوبهم فقست وألفت ذلك العصيان ، ولم يعودوا يتكلفون ستره . وتسجل التوراة عليهم في سفر نحميا ، بإصحاحه الخامس ، أنهم كانوا يأخذون الربا كل واحد من أخيه فيما أقرضوا من فضة وقمح ، وفي العدد 10 أنهم تركوا هذا الربا تائبين ، ولكن لا تجد في النصوص من بعد ذلك ما يدل على رعايتهم ما نهوا عنه ، وقد جاء القرآن الكريم ، في الآية 161 من سورة النساء ، مصدقا لما سجلته أسفارهم عليه من ذلك العصيان . وبذلك أدت هذه الخصيصة ، التي يقصد بها اليهود ألا يذروا ظلما للأجانب ، إلى إضاعة ما اختصوا به المدينين منهم من رعاية تنجيهم من ظلم أكلة الربا ، وخالفوا من باب هذه التفرقة الظالمة عن التكليف ، في أصله كما يؤمنون به .
وذهب بعض فقهائهم ممن تفيأ خلال الإسلام علما وسماحة ، إلى القول بألا يتوسع في إقراض الأجنبي بالربا حتى لا يعتاده اليهودي ويذهب ورعه عن أخذ الربا المحظور من أخيه (4) . فبنى التقييد على ما يرى فيه نفعا لليهودي وحده ، ولم يقمه على ما ينبغي من كف ظلم اليهودي للمسلمين الذين يعلم أنهم سلم عليه لا يخفرون ذمة له ولا يظلمونه شيئا .
__________
(1) عرض ذلك السيد محمد رشيد رضا نقلا عن الإمام محمد عبده، مجلة المنار، المجلد 16ج 2ت 6 \ 2 \ 1913 أورده الأستاذ زكي الدِّين بَدَوي، المرجع السابق ص2.
(2) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص290
(3) الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور ص137 عن كتاب شولحان عروخ، ود. حمود ص 218.
(4) وهذا رأي موسى بن ميمون فقيه اليهود وفيلسوفهم المتوفى سنة 1204م. وقد ولد بالأندلس وعاش بمصر وكان طبيبا في بلاط صلاح الدين الأيوبي، انظر دائرة المعارف اليهودية، المجلد 12 ص390 ودائرة المعارف الإسلامية المجلد 1 ص401.
أنواع الربا في القرآن
وأول ما ورد ذكر الربا في القرآن الكريم بسورة الروم المكية ( الآية 40) في قوله تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (1)
وقيل : إن الربا في هذه الآية ليس ما عهد حظره من زيادة الديون المؤجلة ، وإنما هو ربا حلال ، يعني من يهدي مبتغيا أن يعوضه المهدي إليه بخير من هديته ، وقيل: إن الآية تقصد ربا الديون ، وتهيئ لتحريمه بالإيماء إلى محقه وبمقابلته بالزكاة التي يتضاعف ثوابها .(2/164)
وجاء النهي عن الربا في الآيتين 131 ، 130 من سورة آل عمران بالمدينة المنورة ، حيث قال جل ثناؤه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2) { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (3) ويتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في الربا الذي كانت تجري به معاملات الجاهلية في تأجيل الديون ، وكان الربا يتزايد أضعافا كلما تضاعف امتداد آجال الدين ، وما كانوا يعرفون التفرقة التي استحدثتها القوانين الوضعية بين الربا الفاحش والربا اليسير ، فلم يرد قوله تعالى : { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (4) لتقييد الربا المنهي عنه بما زاد سعره وفحش مقداره ، بل تعبيرا عما كان عليه أمرهم في المداينات الربوية ، وينصرف النهي في الآية إلى الربا قليله وكثيره ، ولا بكون ثم نهي جزئي عن الربا الفاحش ، ثم جاء من بعده التحريم الكلي للربا في سورة البقرة ، كالذي ظنه المستشرقون من التدرج الذي قالوا بمثله في نصوص التوراة وخلافا لما ينادي به بعض المحدثين من المسلمين في محاولتهم تبرير إنشاء بنك وطني بمصر من القول بأن الربا المجمع على حظره ، إنما هو الربا المضاعف الذي يبلغ رأس المال أو يزيد عليه (5) . ويقول الله تعالى في سورة البقرة بالآيات 275-281 : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (6) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (7) { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (8) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (9) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (10) { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (11) { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (12)
وقد جاءت هذه الآيات بعد الآيات
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة آل عمران الآية 131
(4) سورة آل عمران الآية 130
(5) الربا، للأستاذ دراز، المرجع السابق، ص9، ولكنه ذهب في ص10 إلى القول بتدرج التحريم، وانظر في نقد رأيه تطوير الأعمال المصرفية للدكتور حمود ص153
(6) سورة البقرة الآية 275
(7) سورة البقرة الآية 276
(8) سورة البقرة الآية 277
(9) سورة البقرة الآية 278
(10) سورة البقرة الآية 279
(11) سورة البقرة الآية 280
(12) سورة البقرة الآية 281
الكثيرة التي تحث على الصدقات وتكرم الذين ( يؤتونها) الفقراء وتعد المنفقين ثوابا مضاعفا ( الآيات 261-274) ، وتلت آيات الربا الآيتان 283 ، 282 في الدين المؤجل وتوثيقه بالكتابة أو بالرهن { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } (1) وظاهر أن الربا الذي نصت عليه الآيات هو ربا الديون ، الذي يأخذه الدائنون مقابل تأجيلها ، وكثيرا ما يطلق عليه ربا الجاهلية ، إذ عرفته أسواق المال العربية قبل الإسلام ، كما كان شائعا في سائر الأمم ، وهو الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع : « ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس » (2) . وكان يتفق عليه ، إما بإيجاب من المدين يقول لدائنه: " أنظرني أزدك" أو بسؤال من الدائن: " أتقضي أم تربي" فتشترط الزيادة على الدين كلما تأجل وفاؤه .
ويذهب فريق من المفسرين والفقهاء إلى أن لفظ الربا في آيات القرآن ورد عاما أو مجملا ، وقد تولت السنة تخصيصه أو تفصيله ، فبينت إلى جانب الربا الديون أنواعا أخرى من الربا في البيوت وغيرها . ولا يترتب على هذا الخلاف أثر في التفرقة بين ربا الدين وسائر الربوات التي وردت بالسنة .
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
أنواع الربا في السنة
أشارت السنة الشريفة إلى ربا الديون في حديثه عليه الصلاة والسلام: « كل قرض جر نفعا فهو ربا » ولكن لم يتقيد في إطلاق لفظ الربا بهذا المعنى الاصطلاحي في سائر الأحاديث والآثار ، بل أطلق الربا على محظورات شتى من بعض البيوع ومن الأفعال المقترنة بالتصرفات المالية ، ومن أفعال لا تمس المال بشيء .
فقد روى الأئمة المحدثون عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي سواء » (1) كما روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها ، والبر بالبر مدا بمد . . فمن زاد او استزاد فقد أربى » (2) ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة أكثرهما ، يدا بيد ، وأما نسيئة فلا ، وأخرج مالك في الموطأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالذهب ، أحدهما غائب والآخر ناجز ، إني أخاف عليكم الرماء ، والرماء هو الربا » (3) . وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565),مسند أحمد بن حنبل (3/97),موطأ مالك البيوع (1324).
(2) سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349).
(3) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).
الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال :" أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة" . فقال :" لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (1) . وقيل فيما يقترن بالبيع " الناجش آكل الربا" وهو الذي لا يريد شراء السلعة ، ولكنه يتظاهر بالرغبة فيها ليرفع السعر على من يسوم شراءها .(2/165)
وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا » (2) كما قال : « إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم » (3) وروي عن الصحابة رضوان الله عليهم قولهم: إن من اشترى طعاما فباعه قبل أن يقبضه مخالفا نهي السنة ، فبيعه عندهم ربا" ، كما قال أحدهم :" إن الرهن في السلم هو الربا المضمون" ، وقال آخر:" السلم بما يقوم به السعر ربا ، ولكن السلم في كيل معلوم إلى أجل" (4) . ويجيء على هذا الإطلاق قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" إن من الربا بيع التمر وهي معصفة قبل أن تطيب" فقد بين معنى الربا الذي يقصده أمير المؤمنين من البيوع المحرمة ، ولا ينصرف إلى ربا الديون الذي يعلم عمر ماهيته وحرمته بالدليل القطعي في القرآن ، ولا يجوز أن يعرض بأمر أو نهي في شأنه يغير ما فرض الله .
ويتضح بتحديد الربا المقصود وجه قول عمر :" ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد ، والكلالة ، وأبواب من الربا" وكذلك ما نسب إليه من قوله رضي الله عنه :" إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم" .
كما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه « لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر » (5) (6) .
فأبواب الربا التي كان عمر يود بيانها هي كتحريم تجارة الخمر كلها من محظورات البيوع ونحوها ، التي بينت السنة أحكام كثير منها . وبقيت أحكام سائرها يستنبطها المجتهدون على هدي الكتاب والسنة ، وما يستظهرونه من حقيقة كل معاملة منها وما تحققه من المصالح المشروعة ، وفي ذلك ما يحفظ المرونة اللازمة في التشريعات الاقتصادية والتجارية الإسلامية ، لتواجه ما يستحدث من التصرفات في مختلف العصور والأمصار .
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الربا تسعة وتسعون بابا ، أدناها كإتيان الرجل بأمه » يعني الزنا بأمه ، وفي حديث رواه أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال: « لدرهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله تعالى من ستة وثلاثين زنية في الخطيئة » (7) وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا . . . » (8) ومعنى الموبقات المهلكات .
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2180),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),سنن ابن ماجه التجارات (2256).
(2) سنن أبو داود البيوع (3541),مسند أحمد بن حنبل (5/261).
(3) سنن أبو داود الأدب (4876),مسند أحمد بن حنبل (1/190).
(4) نيل الأوطار للشوكاني، ج5 ص191 و192 و194، وزكي الدين بدوي، ص 27 هـ 1
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4266),صحيح مسلم المساقاة (1580),سنن النسائي البيوع (4665),سنن أبو داود البيوع (3490),مسند أحمد بن حنبل (6/127),سنن الدارمي البيوع (2569).
(6) تفسير ابن كثير ، ص327، ويرى أن عمر يعني بأبواب من أبواب الربا بعض المسائل التي فيها شائبة الربا، ولم يحدد ابن كثير نوع هذا الربا، وهو قد أدخل في الآية ربا الدين وربا البيع وبغير أن يفرق بينهما
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/225).
(8) صحيح البخاري الوصايا (2615),صحيح مسلم الإيمان (89),سنن النسائي الوصايا (3671),سنن أبو داود الوصايا (2874).
وروى الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه » (1) .
ويحرم هذا الحديث الصحيح على المدين إيتاء ربا الدين كما يحرم كتابته والشهادة عليه ، أما ربا البيع فيفسد العقد ذاته ، ونجد في حديث ربا الفضل أن طرفي البيع يستويان في اعتبارهما يأكلان الربا بما يصيب كل منهما من العقد المحرم .
فالربا ، باستعماله العام في السنة ، يعني تعدي محظورات هي من كبائر الإثم ، تختلف أنواعها وتتعدد ، لتحمي من المصالح الضرورية مثل ما يحميه حظر الربا المعهود في الديون المؤجلة ، ونجد الربا بهذا المعنى كالإسراف كما أطلقه القرآن الكريم ، ففي مادة اللفظين معنى الزيادة على المعروف ، فناسب إطلاقها على ما جاوز أمر الشريعة من عظيم الخطيئات ، وقد فسر الإسراف في قوله تعالى مخاطبا الأوصياء في شأن أموال اليتامى: { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } (2) بأنه أكل مال اليتيم بغير سبب مباح (3) . وهو يشبه الربا حين يراد به أكل المال بسبب غير مباح شرعا ، وتقصد كل تلك الأحكام ، أن تتم رعاية المال في تداوله واستثماره ، وتتكامل مع ما شرعه الإسلام لحفظ المال من حدود بيئية تذود عنه السارقين والمحاربين ، وتعزير لمن يغصبه أو يماطل في أدائه ، ومن تدابير الولاية على من تعوزه أهلية التصرف فيه ، حتى يتحقق للمعاملات صحة الإرادة والسلامة من الغش والجهالة وغيرها مما تتوقف عليه المصلحة الشرعية المرجوة للأفراد والأمة جميعا من المعاوضات المالية .
وكما توعد القرآن الذين يأكلون الربا بالنار التي أعدت للكافرين ، نصت آياته على أن المسرفين هم أصحاب النار .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/402).
(2) سورة النساء الآية 6
(3) تفسير القرطبي ،ج5 ص40
استقلال ربا الدين عن ربوي الفضل والنسيئة
واختلاف ربا الدين عن أكثر أنواع الربا التي جاءت بالسنة ظاهر ، وإنما يتشابه ربا الدين وربا الفضل ، ويتجوز بعض العلماء ، ويرون ربا القرض من ربا الفضل ، كما شاعت تسمية ربا الدين بربا النسيئة عند آخرين من المفسرين والفقهاء ، ويرجع التشابه بين ربا الدين وربا الفضل ، إلى ما في الديون من الزيادة المحظورة ، كم ترجع تسمية ربا النسيئة إلى التأجيل الذي يؤخذ عنه الربا (1) .
__________
(1) انظر تعريف ربوي الفضل والنسيئة في حاشية ابن عابدين، ج4 ص194.
ويختلف ربا الفضل عن ربا الدين في الماهية ونطاق التطبيق والأثر الشرعي في العقد جميعا .
فحقيقة ربا الفضل ، كما يدل صريح الأحاديث ، هي أنه حظر الزيادة في مقدار أحد البدلين في بعض البيوع الخاصة ، ونجد له الخصائص الآتية: أ- لا يكون إلا في بيع الذهب بالذهب أو التمر بالتمر وغيرهما من الأصناف التي يشتملها النص ، مما يقتصر على صور خاصة من عقدي الصرف والمقايضة ، ولا يسري على سائر صورهما التي يختلف جنس البدلين فيها ، كصرف الذهب بالفضة ، أو مقايضة التمر بالشعير ، ولا يكون ربا الفضل مطلقا في عقد البيع بمعناه الدقيق ، حيث تشتري السلعة بالنقود ، وهو الذي تجري به أكثر المعاوضات التي يطلق عليها في الفقه الإسلامي اسم البيوع ، وإليه ينسب ربا الفضل .
ب- لا يكون ربا الفضل إلا في البيوع الحاضرة ، فهو لا ينفك ، في نص الحديث عن ربا النسيئة ، فحيث يحظر التفاضل بين البدلين يحرم تأجيل شيء منهما ، وتجد بعض العلماء لذلك يسمون ربا الفضل بربا النقد ، يقابلونه بربا الدين الذي لا يقع إلا في التأجيل والنسيئة .(2/166)
ج- التفاضل المحظور هو زيادة في مقدار أحد البدلين في تلك البيوع الخاصة ، وليس زيادة في قيمة أي من البدلين؛ ويبين ذلك من حديث التمر الذي جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم من ربا الفضل مقايضة كيل من تمر جيد من الجنيب بكيلين من الجمع وهو تمر رديء ، وإن كان سعر الجنيب في الأسواق يساوي مثلي سعر التمر مما لا يذر زيادة في قيمة أي من البدلين ، كالتي يقوم بها الربا في الدين ، وحيث يوجد فرق يعتد به بين قيمة البدلين ، فان السبيل لتلافي الغبن في مبادلتهما ، يكون ، كما أشارت به السنة في حديث التمر الذي تقدم ، بالعدول عن مقايضتهما مقايضة مباشرة تخضع لربا الفضل ، إلى بيع كل من البدلين بالنقود ، ويشتري كل من البائعين ما يحتاجه من الصنف الذي يريد .
وإذ فرض الشرع إهدار التفاوت في قيم البدلين المتماثلين جنسا ، إذا تمت مبادلتهما عن طريق الصرف أو المقايضة ، فإن هذا الطريق يوصد في البيوع التي لا يجوز فيها الغبن رعاية لحقوق العباد ، التي لا يستوي فيها جيد المال ورديئه ، فلا يجوز للوصي أن يبيع قفيز حنطة جيدة من مال اليتيم بقفيز رديء ، ويتعين على الوصي البيع بالنقد أو بشيء خلاف جنس الحنطة مراعاة لحق اليتيم وحق الشرع (1) . وفي قول الله تعالى في حفظ أموال اليتامى : { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } (2) نهي للأوصياء عن مثل تلك المقايضة التي يحيق الغبن فيها باليتيم .
ويكون ربا الفضل بعيدا عن تحقيق التعادل بين المالين المتبادلين بما يمنع الغبن في العقد ، خلافا لما قال به بعض الفقهاء واعتنقه المستشرقون وفريق من رجال القانون (3) .
كما لم يشرع هذا الربا ليسد ذريعة إلى ربا (4)
__________
(1) وكذلك مال الوقف ومال المريض مرض الموت. وإذا انكسر المصوغ المرهون عند المرتهن فيضمن بقيمته من غير جنسه لمراعاة حق العبد، ولكن على وجه لا يبطل حق الشرع. حاشية ابن عابدين ج4 ص 202 و203
(2) سورة النساء الآية 2
(3) بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص115، وريمون شارل، المرجع السابق ص86، والوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري 1964، ج1 ص376ن 202
(4) إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن قيم الجوزية ج1 ص200-204، وزكي بدوي، ص130-134.
القرض الذي لا يقف التماثل فيه عند تساوي المقادير ، بل يشمل جودة المال ومقداره جميعا .
د- ولا ينتفي ربا الفضل إلا بتحقيق المتعاقدين من تساوي البدلين وزنا ، إن كانا من النقدين ، أو كيلا ، إن كانا من مواد الطعام ، فإن وجدت زيادة ، أو احتمل وجودها ، لعدم وزن أحد البدلين أو كليهما ، كان ربا فضل ، يستوي في أمره صاحب البدل الأكبر الذي زاد ومن قدم البدل الأصغر الذي ازداد ، فكل منهما كما جاء بالنص ، قد أربى ، ولا يجوز لمن زاد إبراء صاحبه من الزيادة ، لأن الحظر هو لمحض حق الله تعالى ، يكفل به مصالح الجماعة ، وليس الحظر متعلقا بشيء من حق المتعاقد .
كما لا يلتزم من أخذ زيادة الوزن أو الكيل أن يردها ، ويصح الصرف أو المقايضة ، خلافا للقرض إن اشترط فيه الربا ، إذ يبطل شرط الربا لفساده ويبقى القرض صحيحا ، وليس كذلك الصرف والمقايضة الربويان ، فإن فساد العقد في أصل محله ، وليس فيه شرط خارج عنه ، فلا ينتهي الحظر إلا بنقض العاقد ذاته . ثم نجد القرض ، وإن حظر شرط الزيادة فيه أو جر المنفعة منه خلال تأجيله ، لا يحظر على المقترض ، إذا شاء أن يزيد فيما يرده إلى من أقرضه من باب حسن القضاء ، كما جاء الحديث القدسي بفضل الدائن السمح الذي يتجوز عن الموسر بقبول ما فيه نقص يسير من الوفاء ، وفي معجم الفقه الحنبلي أنه يجوز وفاء القرض بخير منه في القدر أو الصفة ، أو بما هو دونه بتراضي طرفي العقد .
هـ - وفي ربا الفضل ، بما يفرضه من تساوي المقادير وإهدار التفاوت بين قيمها ، ما يوصد بعضا من أبواب المقايضة ، وهي وسيلة بدائية للتداول ، ويفتح بها أبوابا من البيع بالنقود ، وهي أضبط في تقويم الأشياء وأخفها حملا وأيسرها ادخارا ، وفي فرض البيع بها تكثير التجار وازدهار الأسواق ، بما يدفع التداول في اقتصاد الأمة الإسلامية على طريق التقدم . أما ربا الدين فيدور في صعيد الائتمان ، الذي لا يتصل ببيع يعقد أو تجارة حاضرة تدار ، وتختلف لذلك حكمة حظره عن الحكمة في حظر التفاضل في تلك البيوع .
الفرق بين ربا الدين والنسيئة
وكذلك يختلف ربا النسيئة ، أو ما يسمى ربا النساء أو ربا اليد ، عن ربا الدين . فربا النسيئة حظرت به السنة التأجيل في بعض البيوع الخاصة ، أو التأخير في تنفيذها ، فيجب لصحة العقد أن يكون كل من البدلين فيه حاضرا ، وتسليمها ناجزا ، ولا يجوز أن يدخل الائتمان في تلك العقود ، في جانب أحد من المتعاقدين ، أو كليهما . ونجد لهذا الربا الخصائص الآتية: 1- يسري ربا النسيئة حيث يطبق ربا الفضل دائما ، ففي بيع الذهب بالذهب ، كما تحرم الزيادة في وزن أحد البدلين ، يحرم أن يكون أحدهما غائبا عن مجلس العقد ، وكذلك في مقايضة التمر بالتمر ، لا يصح العقد ، إذا اشترط تأجيل أحد البدلين ، أو لم يتم أداؤه في مجلس التعاقد .
ويتسع ربا النسيئة عن ربا الفضل ، فيطبق على صرف الذهب بالفضة ، وعلى مقايضة القمح بالتمر ، ويجب تسليم البدلين عند التعاقد ، ما داما من مجموعة واحدة من مجموعتي الأصناف الربوية ، وهما النقدان والمطعومات ، فلا ينطبق ربا النسيئة على بيع قمح آجل بفضة معجلة ، بينما يحظر بيع مصوغات الذهب نسيئة ولو بثمن من فضة .
ت- ربا النسيئة ، فيما حظر من تأجيل أنواع من الصرف والمقايضة ، هو استثناء مما أباحته الشريعة الغراء من التجارة المؤجلة والقروض ، وبينت أحكام توثيقها بالكتابة والشهادة أطول آية في القرآن ، في سورة البقرة ، (رقم 282) ، التي استهلت بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } (1) وفرضت الآية 283 من بعدها أداء الدين المؤجل ، وإن لم يوثق بكتابة ولا برهن ، وألزمت التقوى في شأنه ، بقوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } (2) وقد فرق الإسلام بين القرض ، حيث يتأجل الدين رفقا بالمدين وتصدقا بمنفعته عليه ، والبيع المؤجل ، حيث يستثمر التاجر ماله في النسيئة أو السلم ، ويصيب من يحتاج السلعة في بيع النسيئة ، أو رأس المال في السلم ، حاجته العاجلة ، بعوض يؤديه مؤجلا .
وانماز القرض ونحوه من الإرفاق بتحريم الربا ، ولم يحظر الإسلام الزيادة في الثمن المؤجل للمبيع نسيئة (3) كما لم يحرم النقص في الثمن إذ يعجل للمبيع سلما . وقد بين القرآن الكريم اعتراض الذين يأكلون الربا على ما شرع الإسلام من إباحة بيع النسيئة وتحريم الربا ، في قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (4) وثم وجه لتأويل الآية بأن هذا القول صادر من المشركين الذين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع كما جاء به القرآن (5) .
وكأنهم قالوا : إن البيع والربا متماثلان عقلا ، ولا توجد علة ظاهرة للتفرقة بين ربح التأجيل في كل منهما ، ليحل البيع ويبقى الربا محرما مما يقتضي عندهم أن يحل الربا كما أحل ربح النسيئة .(2/167)
وهذا القول أشبه بما قد يحتج به اليهود حين يخاطبون بحكم القرآن وقد أحل بعض ما حرم عليهم من المرابحة ولم يحل الربا في الدين ، وإن كان جمهور المفسرين على أن القائلين بالشبهة يعتقدون حل بيع النسيئة ويقيسون عليه ربا الدين ، ويقولون : كما أنه يجوز أن يبيع الثوب الذي يساوي عشرة دراهم في الحال ، بأحد عشر إلى شهر ، فكذلك إذا أقرض العشرة دراهم بأحد عشر إلى شهر ، يجب أن يجوز (6) .
وما دامت الزيادة في الأثمان المؤجلة الأصل فيها الإباحة ، فلا يكون القصد من تحريم التأجيل في الصرف والمقايضة هو سد الذريعة إلى ربا الدين ، الذي يحظر الاعتياض عن التأجيل (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) ويسميها متأخِّرو الحنفية المرابحة، باعتبارها بيعا للعين بربح يقابل الأجل، انظر حاشية ابن عابدين ج4 ص308، ودائرة المعارف الإسلامية، ج9 ص 218.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) تفسير ابن كثير،ج1 ص327
(6) مفاتيح الغيب، للفخر الرازي ج2 ص354 وسائر المفسرين في زكي بدوي ص61 هـ1
(7) قارن إعلام الموقعين، لابن القيم، ج1 ص200-204 وزكي بدوي، ص 130-134
ج- وفيما حرمته السنة من بيع الكالئ بالكالئ ، ما يبين منه أن حظر بيع الدين المؤجل بمؤجل مثله ، وإن كان الدينان متماثلين نوعا ومقدارا وأجلا ، كصرف ذهب بذهب مؤجلين إلى سنة ومتساويين وزنا وقيمة ، مما لا يذر زيادة من فرق بينهما في القيمة أو الحلول تصلح لربط هذا الربا بربا الدين .
د- وينبغي لكل أولئك أن يعدل عن محاولة رد أنواع الربا المختلفة إلى أصل واحد يجمعها ، وأن يبحث كل نوع من الربا بأحكامه ومقاصده مستقلا عن غيره من الربوات حتى لا تبغي دراسة بعضها على بعض ، ويعود ربا النسيئة بحقيقته الشرعية إلى موضعه الصحيح بعد إذ اختفى من أقسام الربا عند بعض المفسرين والفقهاء ، ومن أخذ عنهم من المستشرقين في معاجمهم ، (1) إذ أقحموا ربا الدين على تقسيم الفقه الإسلامي لربوي البيوع اللذين حظرتهما أحاديث الفضل والنسيئة ، وجاوزوا المصطلح الشرعي فجعلوا لربا الدين اسم ربا النسيئة ، فصرفوا لفظ الربا إلى معنى الزيادة بدلا من معنى الحرمة المقصودة فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتفت المقابلة في التقسيم ، إذ خلطوا ربا الدين بربا الفضل ، وقد بينا اختلافهما كما أخطئوا الفرق بين ربا النسيئة الذي يحرم التأجيل في عقود محدودة ، وربا الدين الذي لا يعرض بتحريم لتأجيل الديون ، وإنما يقتصر التحريم فيه على أخذ عوض عن الأجل زيادة على رأس مال الدين .
هـ - والذي يبين من أحكام ربا النسيئة أن الإسلام إذ أباح ربح التجارة الآجلة ، قد حرص على ألا تجاوز ما تقتضيه مصالح الأفراد والأمة جميعا منها ، فحظر جميع البيوع التي يتأجل فيها البدلان معا ، إذ لا تظهر مصلحة قائمة لأحد من المبتاعين فيها ، وهي ليست من صنيع التجار العاملين بالأسواق عادة ، ولا تحقق الخدمات التي تبتغى من النشاط التجاري ، بل هي كثيرا ما تضر بانتظامه ، وذلك في حظر بيع الدين بالدين ، وفي ربا النسيئة بمعناه الدقيق يحظر الصرف أو المقايضة إذا كان أحد البدلين غائبا أو مؤجلا تسليمه ، فمنع من ليس بيده ذهب ولا فضة أن يصيب من طريق الصرف نقدا حاضرا ، وإذا كان النقدان هما رءوس أموال التجارة ، فإن ربا النسيئة لا يذر في حلبتها إلا المتمول من التجار ، أو ذا الثقة ، الذي يتيسر له أن يجد من يمده بالمال ، مضاربة تبتغي المشاركة فيما يفيء من التجارة ، وإما قرضا حسنا يضمن المقترض رده ، كما أن في حظر بيع المصوغات من الذهب والفضة نسيئة ، ما يحد من اكتناز الأفراد للمعدنين الثمينين ، وإبعادهما عن مجالات الاستثمار التي تتحقق من خلالها التنمية الاقتصادية للأمة (2) . وكذلك في مقايضة مواد الطعام ونحوها بعضها ببعض ، حيث يحظر ربا النسيئة تأجيل بدل منها ، يقتضي المتبايعين أن يجريا التصرف من طريق بيع النسيئة أو ما يشرع من السلم ، فينأى بتلك المعاملات عن المقايضة ببدائيتها التي تتعقد مع الأجل ، ويحد من بقاء تلك المواد دولة بين منتجيها ، ليطلقها في مجالات التداول على اتساعها بالبيوع الآجلة بالنقود التي يتحقق بها الانضباط ويتحدد فيها مقابل التأجيل ، حتى إذا طرأ ما يقتضي التعجيل تيسر لمن يحط من المقابل حساب ما يخصم منه . ويكون من حكمة ربا النسيئة ، دعم التنمية الاقتصادية وحفظ مقومات التجارة وتقويم سبل الائتمان فيها ، بإغلاق أبواب المعاملات الآجلة التي من شأنها الإخلال بتحقيق
__________
(1) معجم هيوز ، المرجع السابق ص544 IN ARABIC ENGISH AXICON BY E. W. ANE 1968 PART 3.P. 1023
(2) التنمية الاقتصادية، للدكتور محمد زكي شافعي، ص51.
ما تتطلبه الجماعة من استقرار النشاط التجاري وازدهاره . ويتمحض تحريم النسيئة حقا لله تعالى ، يلتزم السلطان إنفاذه ، ولا يعتد بشيء من إرادة الأفراد في شأنه ، وما ينبغي أن تقر تلك الإرادة على ابتغاء ما يتهدد مصالح الأمة ، أو يحيف عليها . وتختلف الحكمة من هذا الربا عن الحكمة في تحريم ربا الدين ، الذي يتميز بوقوعه في مجال الائتمان المشروع ويتعلق بتقويمه في القروض والتأجيل للإعسار ، متكاملا مع تنظيم النسيئة المباحة في البيوع .
خصائص ربا الدين في الإسلام
ويتبين مما قدمناه أن الربا الذي يعرفه اليهود لا يشبه من أنواع الربا في الإسلام إلا ربا الدين ، ولكن هذا التشابه من بعض الوجوه دون بعضها الآخر ، ولا يبلغ الشبه بين الربوين حد التماثل ، بل تذر أوجه الاختلاف حقيقة الربا اليهودي جد متميزة عن ربا الدين كما اكتملت أحكامه في شريعة الإسلام ، التي نعرض على هديها خصائص هذا الربا ، كالذي قدمناه في بحث ربا اليهود ، لتظهر الفروق واضحة بين الشريعتين ، وينجلي الوضع الصحيح لمشكلة الربا في البلاد الإسلامية وأوجه علاجها الميسورة التي تأتي على ما يتعلل به للتعامل بالربا في إطار أحكام اليهود المخالفة عن أحكام الإسلام .
وخصائص هذا الربا هي :
1 - الربا في الدين وحده ولا ينطبق على البيع .
2 - الربا مقابل الأجل .
3 - الربا محظور على الدائن والمدين معا .
4 - للربا حكمته المتميزة عن ظلم المدين .
5 - المساواة بين المسلم وغير المسلم في الربا .
الخاصية الأولى
الربا في الدين وحده ولا ينطبق على البيع
أحل الله تعالى البيع بزيادة في الثمن إذ يؤجل ، أو ينقص فيه إذ يعجل ويؤجل المبيع ، وذلك عوضا عن الأجل في بيع النسيئة ، والسلم وعقد الاستصناع ، وحرم الربا في القرض ، إذ يؤجل تبرعا واختيارا ، وفي تأجيل سائر الديون التي يثبت إعسار المدين بها حين وجب عليه أداؤها ، فينظره القاضي إلى أن يوسر (1) ، توثيقا لعرى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء من الناس .(2/168)
وكما عني الإسلام بتنظيم التجارة الحاضرة فيما رأينا من أنواع الربا في البيوع ، كانت عنايته أكبر بالائتمان في التجارة الآجلة وسائر الديون غير التجارية . وجمهور المفسرين على أن الدين المؤجل الذي فصلت آيات البقرة أحكام توثيقه ، يشمل السلم وبيع النسيئة والقرض جميعا ، وردوا قول من ذهب إلى أن القرض لا يدخل في ذلك الدين ، لأن القرض لا يجوز فيه الأجل الذي يؤجل إليه الدين ، وكانت حجتهم أن القرض يصح تأجيله باتفاق الفقهاء ، وإنما اختلافهم في لزوم هذا التأجيل ، فقال الإمام مالك بلزوم الأجل المتفق عليه في القرض ، ورأى سائر الأئمة أن المقرض متبرع لا يجوز أن يجبر على الامتناع عن المطالبة بالقرض قبل الأجل (2) .
وقد كانت مصادر ربا الجاهلية ، إما قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة بدلا من الأجل ، وإما بيعا بالنسيئة حل ميعاد أداء ثمنه وليس عند المشتري ما يفي به ، فيزيد مقداره ليؤخر البائع المطالبة به ، أو سلما لا يجد المسلم إليه الشيء الذي باعه عند حلول أجله ، فيؤخره المسلم إلى أجل جديد بزيادة على الشيء المبيع ، وقد حظرت الزيادة على الدين في كل تلك الصور من الائتمان غير التجاري ، وفرق الإسلام بين هذا الائتمان القائم على الإرفاق والائتمان التجاري في البيوع الذي أبيحت المعاوضة على الأجل فيه ، التزاما لحال المال الذي يخرجه التاجر إلى الائتمان من بين ما يدير به تجارته الحاضرة ويقف ما كان يفيء له من كسب دوري إبان تأجيله .
وكذلك حال الذي ائتمن من الاتجار فيما دفع إليه وما يفيد من كسب يقدر أن يؤدي الزيادة في الثمن المؤجل منه . وبجانب هذا الائتمان في السلع التي تقوم التجارة على تداولها ، ويتحدد بكل بيع يرد عليها مخاطر عقده مستقلا عما سبقه وعما يلحقه من البيوع ، أقر الإسلام الائتمان الرأسمالي بعقد المضاربة أو القراض ، فيأخذ التجار المضاربون رءوس الأموال من أصحابها يديرون بها التجارة ، وتقسم أرباحها بين التاجر عن عمله ، والممول عن رأس ماله ، فإن لم تصب التجارة ربحا ، أو منيت بخسر ، ضاع جهد التاجر ، وفات رأس المال الربح أو نقص ما خسره ، تبعا لحقيقة ما أسفر
__________
(1) ويحظر على المُوسِر تأخير الوفاء بما عليه، وفي السُّنة المُطهَّرة أن مَطْل الغَنِي ظُلْم، يجعل لدائنه أن يطلب حبسه، حتى يُؤدِّي الدَّيْن المُستحِقّ عليه، وذلك وجه آخَر يُظْهر عِناية الإسلام بالائتمان وحِمايته
(2) زكي الدين بدوي، ص 37 هـ 1، ومعجم الفقه الحنبلي، ج2 ص 771 رقم 14.
عنه النشاط المعقود عليه ، وكما يتضامن رب المال والعامل في تحمل خطر الخسارة ، يفيد رأس المال من كل زيادة تتحقق في ربح المضاربة خلال الأجل الذي تنتهي عنده ، وبذلك جعل للأجل في التجارة عوضه الذي يتحدد ابتداء في البيوع ، أو الذي يتحقق ويتحدد انتهاء في المضاربة .
ويتميز القرض من البيع ، خلافا لما يذهب إليه بعض الفقهاء والمستشرقين الذين يجعلون القرض في أصله من المعاوضات ويدخلون رباه في ربا الفضل بالبيوع خطأ (1) ، ذلك أن القرض في شريعة الإسلام من التبرعات يتصدق فيه المقرض بمنفعة المال على سبيل العارية ، وإذا كان المقرض لا يسترد ماله ذاته بل يسترد مثله ، فلأن هذا المال مما يهلك بالانتفاع به ، انفاقا كالنقود أو استهلاكا كالطعام ، وليس أخذ هذا المثل المؤجل هو مقصود المقرض من العقد ، ليكون كالبائع الذي يقصد أن يأخذ من المبتاع عوضا غير الذي يبيعه منه ، ولو كان القرض من البيع لوقع في نطاق ربا النسيئة الذي يحظر مقايضة العين بمثلها مؤجلا ، ولذلك جعل الفقهاء رد بدل العين في القرض بمثابة رد العين ذاتها خلاف سائر الديون .
ولكن مع اتفاق الفقهاء على حل المعاوضة عن الأجل في البيوع ، وحرمتها في القروض وسائر الديون ، اختلفوا في الديون المؤجلة حين يعجل أداؤها ، فمنع فريق من الأئمة ، منهم أبو حنيفة ومالك ، أن ينقص شيء من الدين ، إذ رأوا في مقابلة هذا النقص بما بقي من أجل الدين ما يشبه الربا الذي يجعل الزيادة فوق الدين مقابلة لأجله ، وأخذ فريق بما « روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بجلاء يهود بني النضير ، وسألوه عن ديون لهم مؤجلة ، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام :" حطوا وتعجلوا" » فأجازوا أن ينقص من الدين المؤجل إذا عجل وفاؤه ، ما يقابل الذي بقي من أجله . وانتهى متأخرو الحنفية إلى الفتوى بذلك في المرابحة (2) .
وقد بني الاختلاف على أساس إحدى خصائص الربا التالية ، وهي كونه مقابلا لزمان بقاء الدين في الذمة ، ولكن لو نظر الأمر من وجه مشروعية المعاوضة عن الأجل ، فإن الديون التي تحل الزيادة فيها لتأجيلها ، كثمن النسيئة ، لا يكون في الحط منها عند تعجيلها شيء من الربا ، إذ يفترض اشتمال الثمن على عوض بمقدار الأجل كاملا ، فإذا أدى الثمن ، ولم ينقض إلا نصف الأجل ، كان ما يقابل نصفه الآخر ولا سبب يستحق عنه . ولا يكون ربا فيما نقص من ديون بني النضير ، إن كانت من المرابحة أو السلم ، وقد كانوا يستحلون الزيادة فيها على الأميين وإن حرموا أخذها من اليهود ، وقد أخرجها الإسلام من ربا الديون . أما إن كان الدين المؤجل من قرض ، فلا يبدو وجه إنقاصه إذا عجل أداؤه ، حتى عند من يرى لزوم الأجل فيه ، لأن المقترض لا يرد شيئا فوق ما أخذ من المقرض في كل حين ، وكما يحظر العوض من المدين عن منفعة الدين المؤجل ، لا يحق له أن يقتضي المقرض عوضا عما بقي من الأجل الذي ارتضاه هذا الدائن تبرعا بالقرض للأجل كله . ويستوي القرض في ذلك كل دين تأجل أداؤه بأمر القضاء للإعسار ، وتبقى الديون المؤجلة بحكم الشرع ، كديات القتل الخطأ ، يتنازعها الرأيان في جواز الحط عند تعجيلها أخذا بعموم الحديث الشريف ، أو منع نقصها لما فيه من شبه الربا .
__________
(1) milliot introduction a letude du droit musulman 1953 p.p.649-651 ومعجم هيوز، ص 33 وراجع النبذة 3 فيما سبق
(2) بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص118 وحاشية ابن عابدين ج5 ص526،525.
الخاصية الثانية
الربا مقابل الأجل
يؤدى الربا عوضا عن تأجيل المطالبة بالقرض أو الدين ، ويؤخذ في تحديده بمقدار الأجل ، فيتضاعف الربا بتضاعف الآجال المتوالية .
ويتميز الربا من الزيادة في البيوع الآجلة ، فهي وإن حددت على أساس مقدار الآجل ، فثم أسس أخرى تدخل في تقدير المتبايعين ، منها معدل الربح في السلعة ، وما يتوقع من رواجها خلال الأجل ، وهي اعتبارات تجارية لا يتمثلها المتعاملون بالربا ، وتتحدد هذه الزيادة جملة واحدة لتندمج في الثمن ، بحيث لا تتميز من أصله ، ولا يكون في العقد إلا الثمن لا يبدو من عناصر تقديره مقابل التأجيل ، وفي ذلك تورع من صورة الربا ، ولا يحسب هذا المقابل في البيوع إلا مرة واحدة عند إبرامها ، ولا تتضاعف الزيادة في النسيئة ولا في السلم ، إن أعسر المدين ، ويؤجل الثمن أو المبيع إلى ميسرته ، في إرفاق يشبه القرض . وهذا فرق هام بين زيادة البيوع المؤجلة في الإسلام والربا الذي يتضاعف أضعافا لا حد لها ، يقيم حاجزا ظاهرا بين البيع والربا .(2/169)
وقد لا يشترط الربا في عقد القرض ، ولكن المستقرض يعد بالزيادة فوق رأس المال أو يؤديها من جانبه ، بقصد حمل الدائن على تأخير مطالبته ، ثم هو يضاعفها كلما انتهى الأمد الذي قدمها عنه ، فتكون تلك الزيادة من ربا الدين . ولكن لا يعتبر من الربا ما يؤديه المدين مختارا عند قضاء الدين من زيادة عليه ، بعد إذ انتفت كل مظنة من جانبه في ابتغاء التأجيل ، وكذلك يخرج من الربا كل ما اعتاده المدين من إهداء أو صلة للمقرض من قبل أخذ القرض ، وإن قدمها خلال تأجيله لانقطاع صلتها به .
وإذا وثق القرض برهن ، فلا يجوز أن يشترط للمرتهن الانتفاع بالرهن ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يغلق الرهن ، ولصاحبه غنمه وعليه غرمه » (1) وإن انتفع الدائن بشيء من الرهن ، صار قرضا جر منفعة وكان ، فيما روي من السنة ، من الربا . ويختلف القرض في ذلك عن البيع ، فيجوز للبائع المرتهن أن يشترط لنفسه الانتفاع بالرهن ، ويعتبر ثمن السلعة الحقيقي هو ما سمي من الثمن بالعقد مضافا إليه منافع المال المرهون مدة معلومة (2) .
والأصل في الشريعة الإسلامية أن الأموال لا تسعر على الناس في مبادلاتهم ، وأن الغبن لا يؤثر في صحة المعاوضات ، إذا عقدها كاملو الأهلية لأنفسهم بإرادة سلمت من التغرير ، وإنما يعتد الغبن إذا وقع في بيع أو
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(2) وقال بذلك ابن خويز منداد عند المالكية. انظر القرطبي ج3 ص413.
إيجار أموال من في ولاية غيرهم أو بيت المال أو الوقف ، أو إذا تم العقد في حال يكون المتعاقد في غير بينة من حقيقة الأسعار بالأسواق كما في حال تلقي الركبان ، ويشترط أن يكون الغبن فاحشا ، غير يسير مما يتغابن المتعاملون بمثله ، ويجعل هذا الغبن حقا لمن أصابه ، في طلب تكملة الثمن إلى الحد الذي يقتنيه ، ولا يذر مثل ذلك الغبن العقد باطلا أو محظورا ، إذا لم تطلب إزالته (1) . .
فبيع النسيئة يؤثر الغبن فيه ، كما لا يؤثر في السلم ، ولا يكون ثم أصل شرعي عام يقيد تقدير مقابل الأجل في البيوع أو يحظر المغالاة فيه . ونجد في ذلك الأصل الذي يذر تقدير الأموال والمنافع إلى ما يرتضيه ذووها ، ولا يحظر التغابن فيها ، ما قد يبين منه أن النهي في القرآن الكريم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة ، لا وجه لصرفه إلى الربا الفاحش ، ليقتصر التحريم في النص على الربا المركب ، الذي تؤخذ فيه فائدة على ما تجمد من الفوائد (2) .
وما كان العرب حين جاءهم الإسلام يعرفون التفرقة في الحكم بين يسير الربا وفاحشه ، ولا بين بسيط الربح ومركبه ، كما لم يعلق الإسلام مشروعية البيع على اعتدال الثمن ، ولم يحظره لبخس بالثمن أو غلو فيه . وإنما الأقرب أن ينصرف النهي إلى طلب الكف عن الاستمرار في الاستثمار الربوي ، فإن الربا لا يتضاعف بتضاعف الأجل ، ولا يبلغ الربا الأضعاف المضاعفة إلا بمكث المال في حمأة الاستغلال المحظور ، فكان الخطاب في سورة آل عمران ، لينتهي كل مكلف عن الإخلاد إلى المداينات الربوية ، ثم بينت آيات سورة البقرة ، بعد النص على تحريم الربا ، ما يتبع لتصفية الديون الربوية القائمة عند التنزيل ، بأداء رءوس أموالها وحدها بغير أية زيادة فوقها ، فكانت حرمة الربا مطلقة تحظر يسيره كما تحظر فاحشه .
__________
(1) بداية المجتهد ، لابن رشد ج2 ص146، ومعجم الفقه الحنبلي، وزارة الأوقاف بالكويت، ج1ص323 رقم 39 الخيار للغبن
(2) مصادر الحق، للدكتور السنهوري ج3 ص368و269.
الخاصية الثالثة
الربا محظور على الدائن والمدين معا
الربا محظور على الدائن أخذه وعلى المدين إيتاؤه ، كما يحظر توثيقه فيأثم شاهدا عقده وكاتبه جميعا بنص الحديث الشريف .
وقد بينت السنة أن الربا أفحش إثما من الزنى ، ويبدو الربا في فقه الإسلام ، كالزنى ، عملا مشتركا ، يعصي به اللذان يعقدانه عن التكليف في إقراض المال لمحتاجه قرضا حسنا أو استثماره بما شرع الله تعالى من التجارة بالبيع أو المضاربة .
وقد رأينا السنة في ربا الفضل ، تقضي بأن إثم مخالفته يقع على طرفي البيع معا ، ولا يقتصر على من أخذ الزيادة في المقدار ، بل إن من أعطاها قد أربى مثله . وكذلك في ربا الدين ، يأثم الدائن ، ولو قل مقداره عما يربحه رأس المال بالاستغلال المشروع في يد الدائن ، ويأثم المدين ، ولو زاد ما يؤديه من الربا على ما يكسب من استثمار القرض .
وإذا كان القرآن يأمر الكاتب ألا يأبى أن يكتب الديون المؤجلة ، كما أمر الشهداء ألا يأبوا الشهادة حين يدعون إليها ، فإن الكاتب والشهود لا يتحلل أحدهم من هذا الأمر فحسب ، إذا وجد الدين مقترنا بالربا ، بل يحرم على كل واحد منهم بمجرد علمه بالربا ، أن يكتب العقد أو يشهد عليه . وإذ يقوم الرهن مقام الكتابة في توثيق الدين ، فإن من يرهن ماله ضمانا لدين ربا استدانه غيره ، وكذلك من يكفل هذا الدين ، يكون كلاهما قد شارك في الإثم وأعان عليه ، ويناله نصيبه من جزاء الربا ، آثاما وعقوبة كالكاتب والشهيد .
وجزاء الربا في الحياة الآخرة ، هو بنص الكتاب ، النار التي أعدت للكافرين ، وإذ لم يرد نص شرعي على عقوبة مقدرة للربا ، خلافا للزنى الذي فرض فيه الحد ، وللقتل الذي كتب فيه القصاص ، فإن جريمة الربا تجزى بعقوبة التعزير ، حيث يفوض القاضي في اختيار نوع العقوبة ومقدارها المناسبين لكل جان ردعا ونكالا .
وقد صرح القرآن بحرب من امتنع من المتعاملين بالربا عن أكله ، وآذنهم بالقتال حتى يذروه ، ولا يجوز للحاكم أن يقر أحدا على أكل الربا ولا إيتائه ، ولو كان ذميا من اليهود الذين يدينون بجواز أخذ الربا ممن سواهم أو من النصارى المصلحين الذين يقرون الربا في غير ديون الفقراء (1) . .
وقد نص فيما صالح عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران من الجزية ، على ألا يأكلوا الربا ، كما روي أن « رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى مجوس هجر : إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله » .
ولا يخل بالتزام الحاكم هذا المنع ، ما له من حق العفو عن بعض من اقترف شيئا من المعاملات الربوية ، وفقا لما يقدره من ظروف التعزير لحق الله تعالى ، الذي عهدت الأمة إليه النظر في إقامته ، بما يكف شرور الربا وأضراره بمصالحها المختلفة ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
وحرمة الربا تجعل ما يشترط منه غير مستحق شرعا ، فلا يجوز للدائن أن يطالب بالربا ولا أن يأخذ ما يقدمه المدين منه ، وإن أصاب شيئا وجب عليه رده في كل حال ، ولو كان يتيما أو قاصرا ، بلا خلاف عند علماء المسلمين ، كما لا يجوز للمدين أن يلتزم الربا ، ويحرم عليه أداؤه ، وإن أداه وجب استرداده أو خصمه من رأس المال ، إن كان الدين لما يتم وفاؤه . ولا يقتصر وجوب الرد على الفتوى ديانة ، بل يحكم به القضاء وينفذ الحكم في مال الدائن ، وإن مات الدائن استوفي ما أخذه من الربا من تركته مع سائر ديونه ، قبل أن يصيب الورثة شيئا منها (2)
__________
(1) معجم كارنبرج، المرجع السابق ص547
(2) الفتاوي المهدية ،ج5 317 و318.
الخاصية الرابعة
للربا حكمته المتميزة على ظلم المدين(2/170)
لا تنحصر حكمة تحريم الربا في درء الظلم عن المدين من الفقراء ، ولا نجد في نصوص القرآن والسنة ما يشير إلى أن الربا إنما يؤخذ من المقترض الفقير استغلالا لحاجته ، وإذا كانت آيات الربا قد جاءت بعد آيات الصدقات ، فقد تلتها مباشرة آيات الدين المؤجل الذي يقع في التجارة نسيئة وسلما ، كما يقع في القرض ، وقد نصت آيات الربا ذاتها في رد رءوس الأموال على مدين معسر فرضت نظرته إلى ميسرة ، فافترضت مدينا آخر موسرا يجب عليه أداء رأس المال ناجزا ، وفي قوله تعالى لأكل الربا :" { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (1) يحتمل أن يكون المعنى لا تظلمون أنفسكم بمعصية أكل الربا ، ولا تظلمون بنقص من رءوس أموالكم . وقد جرى أسلوب الذكر الحكيم في آيات كثيرة على اعتبار عصيان التكليف ظلما لنفس من عصى ، ومن ذلك قوله جل ثناؤه : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } (2) ( سورة البقرة ، الآية 54 ) وقوله عز شأنه : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (3) ( سورة الطلاق ، الآية 1 ) ، ولا يتعين ما ذهب إليه المفسرون والفقهاء الذين قالوا : إن المرابين يظلمون المدين بأخذ الربا منه ، وجعلوا الحكمة في تحريم الربا هي ما فيه من ظلم المدين (4) .
إذ لا يتفق ذلك وحقيقة الربا في الإسلام باعتبار مداينته معصية مشتركة بين طرفيها من دائن ومدين لا يرجع حظرها إلى منع استغلال المدين ، لأن لتعرض منفعته التي يصيبها المدين ، وإنما فرض الشرع التصدق بها عليه لحاجته . وإذا كان المستقرض محتاجا لا يبتغي استثمارا ، وإنما يأخذ القرض لنفقته ، فإن عليه أن يلجأ إلى الطرق المشروعة لسد خلته ، بالرجوع على من تلزمه نفقته من الأقربين أو من بيت المال أو يتحرى صالح الأغنياء ، ليصيب قرضا حسنا ، فإن أعوزه كل أولئك وسعه باب التجارة الآجلة ، يشتري حاجته بالنسيئة أو يبيع ما ينتظر رزقه سلما ، وقد صح في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى شعيرا لطعام أهله بالنسيئة من يهودي . ارتهنه درعه ضمانا للثمن » (5) . وظاهر من محل البيع ، وهو أبسط غذاء رئيسي ، عظم الحاجة إلى شرائه ، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم في الاستدانة حتى لضرورات المعيشة . وفي ذلك ما يغني ذا الحاجة عن الاستدانة بالربا التي حظر الله تعالى ، فإن جاوز إليها كان ظالما لنفسه ، مثله كمثل من ادان منه ، وليس مظلوما يتقاضاه الدائن الربا بغير نفع يعود عليه من القرض ، فإن الشريعة لا تجاوز الواقع من الأمر ، ولا تهدر منافع النقود حين تقترض ولا يعتبر المال في يد المقترض عقيما . فالقرض في الإسلام من عقود الإرفاق ، بما يذر للمقترض من منفعة القرض تبرعا ، ويظل المال طيلة قرضه تستحق عليه الزكاة ، واستحقاقها بفرض نمائه . ويتضح الأمر إن
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 54
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) إعلام الموقعين، لابن القيم ،ج2 ص99و100.
(5) صحيح البخاري البيوع (1990),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4650),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).
كان المدين غير فقير ، وإنما يبتغي فضلا من استثمار القرض ، فيما يحسن من التجارة أو نحوها من النشاط الاقتصادي ، إذ لا يبدو في خشية استغلال الدائن له ، ما يصلح حكمة لتحريم الربا ، فكما تحتمل الخسارة في الاستثمار ، حتى لا يجد المدين ما يؤدي منه الربا ، يحتمل أن يكسب أضعاف الربا ، حتى يتحيف ما كان يستحقه رب المال لو كان ما بينهما عقد مضاربة بدلا من المداينة الربوية ، والإسلام لا يجعل احتمال الخسارة ، بل ولا تحقق الغبن أو الاستغلال- موجبا لتحريم المعاوضات ، إذ جعل للأفراد سلطانا في تحديد الائتمان ينفذ مع الغبن إن كان يسيرا ، ولا يذر الغبن الفاحش إلا خيارا للمغبون لا يحظر معه بقاء الغبن . كما لا يتفق وحظر يمين التصرف الربوي القول بأن الدائن ، إذ يأكل الربا إثمه أعظم من إثم مؤكله ، باعتبار تحريم أكل الربا لذاته ، أما المقترض فيرتكب محرما لغيره ، وإذ لا يباح المحرم لذاته إلا للضرورة ، ولا توجد ضرورة مطلقا تبيح أكل الربا ، أما المحرم لغيره فيباح للحاجة ، فمن كان في حاجة ماسة للاقتراض بالفائدة ، لأنه لا يجد من يقرضه إلا بالفائدة ، قيل : إن الله تعالى يرفع عنه الإثم ، ويبوء بالإثمين من لم يقرضه إلا بفائدة (1) . وكأن هذا القول يعتبر أصل الحظر في الربا متعلقا بأكله من المقترضين ، وبنحو ذلك قريبا مما عند اليهود ، ولكن ربا الدين في الإسلام يشبه الزنى ، فيستوي في حظره عمل كل من طرفيه ، إذ لا تبرم عقدته إلا بالتقاء هذين العملين ، إيتاء المدين يقابله أخذ الدائن ، ولا ترخص لدائن أو مدين في أخذ الربا أو إيتائه إلا في حال الضرورة (2) .
فلا يباح لمكلف أن يقترض بالربا لمجرد الحاجة الماسة التي لا تبلغ حد الضرورة ، وتتصور الضرورة في أكل الربا إن أطبقت أمة على أكله وأوصدت على المكلف وجوه الاستثمار المباحة لرأس ماله .
وتكون ثم حكم شتى لحظر الربا ، لا تقتصر على من يأكله ، بل تتعلق أيضا بمن يعطيه ، وبمن يعين عليه ، وبالأمة جميعا من ورائهم ، في مجالات النشاط الاقتصادي والسلام الاجتماعي والسياسة المالية للدولة .
فكما يقصد تحريم الربا إلى كف أشحة الأغنياء عن أن يرهقوا الفقراء والمعسرين الذين تضطرهم حالهم إلى تأجيل قروضهم أو ديونهم ، بعدم التصدق عليهم بفيئها ويشعرهم بكل تفريط في رعاية أحكام الزكاة ، التي تكفل للفقير والمسكين ما يغنيه عن الاستقراض ، وتتيح للمعسر الغارم أن يأخذ ما يفي بدينه ولا يضطر إلى طلب تأجيله- كذلك يتوجه التحريم إلى مترفي الأغنياء ، ليتجافوا عن الدعة ، وينأوا عن الفراغ ، وإلى المدخرين كافة ، وإن قل ما يدخرون ، ليقدم كل منهم على تدبير استثمار ماله والنظر فيما يصلحه وفيما ينبغي اتقاؤه ، لتجنب الخسارة فيه وزيادة الربح منه ، وتنطلق تيارات النشاط وحوافز الكسب التي فطر الناس عليها في جنبات الأمة كلها ، ويستوي للفرد من كل ذلك ، رشد مالي يظهره على طرائق الاستثمار ويكسبه خبرة تيسر له اختيار أحسن السبل للتنمية ، وتمنعه من أن يتحيفه مقترض بربا ، يقل كثيرا عما يفيء به المال من واقع الاستثمار ، أو يذهب بالمال ليستثمر في بلد أجنبي ، تقتضى مصلحة رب المال وأمته من ورائه ، أن يستثمر المال في غير هذا البلد ، وفقا لما تجري عليه تجارة المصارف الربضوية ، التي يقوم أصل كسبها على انتجاع مواطن الزيادة في الربا الذي تأخذه على ما تؤتيه مقرضيها من المودعين .
ويستشعر الغني كذلك مقتضيات التكافل مع من يعوزهم المال ويقدر آثار معاونتهم حق قدرها ، في ترضيتهم وتوقي عواقب سخطهم ، وهم الأكثرون ، والحفاظ على تدفق نشاطهم
__________
(1) الأستاذ الشيخ أبو زهرة، في مقدمة زكي الدين بدوي، ص ر وانظر رد هذا القول في ص 133 ج2 وتجد في الرد خلطا بين ربا الفضل وربا القرض
(2) انظر قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، طبع الأزهر الشريف، 1385 \ 1965(2/171)
الاقتصادي الذي تضار الأمة ، من وهنه أو توقفه ، أشد الضرر حيث لا يغني عنه جهد القلة من الأغنياء ، أن صار النشاط دولة بينهم . وبهذا الرشد لا تقتصر قدرة الأفراد على تدبير أموالهم الخاصة ، بل تقوى على المشاركة في تدبير الأموال العامة ومراقبة إنفاقها في حاجات الأمة ، حتى كفاية مصالحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
والدولة التي تعمد إلى الاقتراض من أفرادها بالربا ، وإن أخفته تحت أسماء أخرى ، لا تصيب رعاياها في أنفسهم بانحراف المرابين فحسب ، بل هي بما تغريهم به من منافع خاصة في زيادة ربا أموالهم ، تلفتهم عن الاهتمام برشد إنفاقها العام ، وبجدوى مشروعاتها الاقتصادية ، ويوهن الربا من هيمنة الرقابة الشعبية على مالية الأمة .
ونجد أمتنا في جهادها الكبير للمشركين ، من قبل أن تفتح لها الفتوح وترث الممالك ، كانت في ضائقة مالية شديدة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا كثيرة لا يجد ما يحمل عليه بعض المجاهدين في سبيل الله ، فكان يردهم ولا يلجأ إلى الاقتراض بالربا ، وكان ميسورا في سوق المال يومئذ ، وخاصة لدى اليهود . ففرض الجهاد على خطره لا يسبق حرمة الربا ، ولا يبيح تجهيز الجيوش للدولة أن تأكل الربا ، لأن في منعه إحياء لأهلها في أنفسهم وأموالهم بما لا تقل خطورته عما يحققه الجهاد ، وليس الربا هو السبيل الوحيد لموارد الإنفاق على القتال ، وما استطاع اليهود أن يتسللوا برباهم إلا من بعد أن وهنت الدولة العباسية من بذخها ، على سعة أقطارها وكبر دخلها ، وزين الجهابذة اليهود لخلفائها الاستدانة منهم وارتهنوا مواردها (1) .
ولم تعصمها قروضهم الربوية من الإملاق والانهيار .
وفي جانب المدين ، يقصد تحريم الربا إلى أن يسلك بالمحتاج الذي لا يجد منفقا عليه ، سبيل التجارة الآجلة التي يرزق منها العاملون في الأسواق ، فيكثر التجار وينمو النشاط الجاد ، الذي لا يذر في مجاله إلا من يقوم على أعمال الإنتاج وتداول السلع ، ويضمن مخاطر عمله . وكذلك من يستدين ، ابتغاء رأس مال يتاجر فيه ، أو يحدث صناعة به ، إذ لا يأتي الربا ، ويضارب رب المال الذي رغب عن إقراضه ، يجد بالمضاربة من مخاطر النشاط الذي يقدم عليه وعواقب ما يحتمل من خسره ، فإن المضارب لا يحمل من الخسارة في رأس المال المستغل فوق ما يصيبه من ضياع عمله كله ، ولا يكلفه هذا التأمين من الخسارة إلا مقابلا يسيرا ، هو نزوله عن الحرص على الاستثمار بما يستحقه صاحب رأس المال فيما يحتمل من زيادة الأرباح المحققة على مقدار الربا المتفق عليه ، والمضارب بهذا النزول لا يكسب ود رب المال فحسب ، بل يستدر عونه ويجتذب حوافزه للاهتمام بالاستثمار والسعي إلى أقصى ما ينجحه ، ليزيد ما يعود على المال من ثمراته وتتجلى حقيقة هذه الحكمة فيما يحدثه الربا من إملاق المدين ، ولا يختص هذا الإملاق بالأفراد ، إذ يحفل التاريخ بما ترك الربا من خزائن خاوية للدول التي ادانت به في مختلف العصور وأحدثها حال البلاد المتخلفة اقتصاديا التي ابتغت التنمية من اقتراض رءوس الأموال التي أعوزتها بالربا ، فلم تصب تقدما تواكب به العصر ولم تستطع وفاء ما اقترضت ولا رباه ، وبقيت
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية ، مادة جهبذ، ج12 ص443
ترزح تحت أثقال الديون الخارجية وتعاني من أعبائها المالية والسياسية تضخما واختلالا في ميزان مدفوعاتها ، وتدخلا في مقدارتها من الدول الدائنة . وما كانت تلك العاقبة الخاسرة لتقع ، لو شارك أصحاب رءوس الأموال في القيام على جدية استثمارها ورعوا سلامة إنفاقها .
وإملاق مدين الربا لا يقتصر أثره عليه ، بل ينعكس على الدائن ، فيتعذر عليه استرداد ماله واستيفاء ما اشترط من الربا ، ويثور النزاع بين الدائنين المرابين والمدينين ، كما لهذا الإملاق صداه في الأمة؛ إذ يتصدع بهذا النزاع تماسكها الاجتماعي ، كما تضار في استقلالها إن كان الدائن دولة أجنبية تستطيع أن تبغي عليها بدينها ، وتخسر في كل حال ما ينقص من رأس المال القومي بقدر ما أضاعته المعاملات الربوية بين يدي المدينين المملقين من الأموال التي دفعت إليهم إسرافا ، فعجزوا عن استثمارها وبددوا من رءوسها ، وما كان الربا يصلح شأنهم ، مهما قل مقداره وانتفى قصد استغلال الدائن لهم وابتزازه ثمرات جهدهم ، وأدام حرص الدائن على اكتساب الربا يغريه بالإكثار من الإقراض بما لا طالة للمقترضين باستثماره ، ولا يثني الدائن ، إزاء هذا الإغراء ، ما يعلمه من عجز المقترض .
ويزيد الإغراء ، إن كان القرض من دولة لها مآرب أخرى في السيطرة على الدولة المستقرضة من طريق التسلل المالي الموهن لقدراتها ، وكثيرا ما أدى ذلك إلى الاستعمار وما يسبقه من حروب مدمرة ، وما يتخلله من ثورات ونهب للثروات ، وما يعقبه من فقر وتخلف يرينان طويلا على الأمم بعد إذ أفلتت من نيره .
وتبقى حكمة حظر إيتاء الربا ماثلة في مخالفة المدين عما كلف ، بما اقترض بالربا ، وما يبوء به من الخسارة يرجع في أصله إلى المدين نفسه بأكثر مما يرجع إلى استغلال الدائن له ، فإن المدين هو الذي فرط وحده في الاستثمار ، بعد إذ فرط في اقتراض ما لا تستوعبه قدرته على التثمير ، أو ما يجاوز حاجته الملحة فبسط يده مسرفا ، وكان ضياع ماله في الحالين من مخالفته عن حظر إيتاء الربا الذي أغرقه بالدين وإن كان للدائن إثم ما اكتسب من إغرائه بالاستكثار من الدين .
ويكون في تحريم الربا ما يوجه الأموال التي تبتغي الاستثمار إلى التجارة مباشرة ، ويبقى للإرفاق من أموال الصالحين من الأغنياء ما يضاف إلى ما للفقراء والمساكين والغارمين من مصارف الزكاة ، حتى يفي بقروض المحتاجين ، ويتكامل للأمة نشاطها الاقتصادي مع تكافلها الاجتماعي في تخطيط منضبط دقيق يلزم الحاكم فيها والمحكوم .
وكما أن في تحريم الزنى دفعا إلى الزواج الذي تقوم الأسرة عليه ، وتحفظ بينها الأنساب وترعى الأولاد وتتصل الأجيال ، وكما أن في القصاص حياة الأنفس بكف المعتدين أفرادا كانوا أو حاكمين ، فتحمي حقوق الحياة والسلامة كما تحفظ الحريات العامة ، ويبرأ المجتمع من بلايا الفساد والإرهاب ، كذلك يأتي حظر الربا في الإسلام إحياء لموات الأموال بحشدها في خير أبواب الاستثمار لأصحابها ولمن تمس حاجتهم إليها وللأمة جميعا .
ونجد الرشد الذي يهدي إليه تحريم الربا يقابله التخبط من المس الذي وصفت به الآية الكريمة من سورة البقرة قيام الذين يأكلون الربا ، وذلك بأنهم لم يهتدوا إلى إدراك نفع البيع وإثم الربا والشعور بحقيقة الفرق بينهما ، مما يذر لحكمة التحريم تعلقا برعاية الملكات العقلية التي يكتمل بنضوجها ذلك الرشد ، ويصيبها أخذ الربا أو إيتاؤه بالاختلال الذي يأتي على شخص المرابي مع ما أنقص من الأموال .
الخاصية الخامسة المساواة بين المسلم وغير المسلم في الربا
حظر ربا الدين عام ليطبق على مداينات المسلمين وغير المسلمين ، فيحرم على المسلم أن يأخذ الربا من مستقرض غير مسلم ، كما لا يجوز للمسلم إذا اقترض من غير المسلم أن يعطيه شيئا من الربا ، ويستوي أن يكون غير المسلم ذميا أو حربيا بدار الحرب .(2/172)
ويمنع الذمي من أكل الربا في دار الإسلام ، ولو كان المدين ذميا مثله ، أو كان ممن يدينون بحل الربا في بعض مدايناتهم ، كاليهود في الديون التي يعقدونها مع سواهم ، وكفريق النصارى المصلحين . وقد قدمنا ما ثبت في عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الذميين من تحريم الربا عليهم .
وما يراه بعض المحدثين من الترخيص في أخذ المسلمين فوائد أموالهم التي يودعونها المصارف الأجنبية بالبلاد غير الإسلامية ، لا يستند إلى دليل من الكتاب ولا السنة ، ولا يسوغه أن لا يأخذ المودع الربا لنفسه وأن يدفعه إلى بيت مال المسلمين خدمة لصالحهم العام ، ذلك أنهم يغفلون عن أثر الربا ، في تخبط آكليه وما يوهنه من رشدهم بعزلهم عن مجالات تثمير ما يرزقون ، وفي فقد دار الإسلام ثمرات الأموال الخارجة منها إلى البلاد الأجنبية ابتغاء هذا الاستغلال المحرم ، الذي لا يبلغ ما يفيء منه قدر تلك الثمرات ، وإلا ما تهافتت تلك المصارف على اجتذاب المسلمين بشتى وسائل الإغراء إلى دفع أموالهم إليها .
ولا حجة لهؤلاء القائلين فيما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من جواز الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب ، ولا فيما عند الشيعة الإمامية من أن الربا لا يقع بين المسلم والحربي ، سواء في دار الحرب أو في دار السلام ، إذا أخذ المسلم الفضل ، وإنما يكون حراما إذا أعطى المسلم الفضل؛ فقد رد الشافعي بأن ما احتج به أبو حنيفة من الحديث عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب » "أو" « لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام » ، ليس هذا الحديث بثابت ، ولا حجة فيه ، فإنه لو صح لتأولناه على أنه لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة .
وما استند إليه بعض الحنفية من أن مال الحربي ليس بمعصوم ولا مضمون حقا لصاحبه ، بل هو مباح بنفسه ، فإذا بذله باختياره عن تراض فقد صح أخذه ، والحربي ليس مخاطبا بفروع شريعة الإسلام- رده الشافعية بأنه لا يلزم من كون أموال الحربيين تباح بالاغتنام أنها تستباح بالعقد الفاسد ، وإذا كان الحربي غير مخاطب بفروع الشريعة في تصرفه فالمسلم مخاطب بها فيه ، وقيل حديثا: إن رأي الحنفية إنما يكون واردا إذا كان المسلم هو الذي يأخذ الفضل ، كما اشترط الإمامية ، ولا يصح إذا أعطى المسلم الفضل .
ونجد في كل ذلك خلطا بين زيادة القيمة التي يقع بها الغبن ويصيب بها المتعاقد خيرا مما أعطى ، وبين ربا الفضل ، وهو كما بينا زيادة مقدار فحسب ، لا تقتضي زيادة في قيمة أحد البدلين ، ليصح اشتراط أن يأخذها المسلم ، وقد يضاربها . فقد يكون البدل الأكبر مقدارا أقل قيمة لشدة رداءته من البدل الأصغر وزنا أو كيلا لبالغ جودته . وإذ يدور هذا الخلاف على ربا الفضل في البيوع ، فالحنفية يتحدثون عن جواز بيع الدرهم بدرهمين ، ولا نجد من قول لديهم في ربا الدين يبيح للمسلم أن يأكل هذا الربا من دين يقترضه حربي منه بدار الحرب ، وإذ لا يحل للمسلمين أن يتصدقوا على أهل دار الحرب ، وفي إخوانهم بأرجاء دار الإسلام محاويج ، وإذ كان القرض في النوع هو من قبيل الصدقات؛ فإنه لا يجوز لمسلم أن يذر أمواله بمصارف البلاد غير الإسلامية ولا أن يوظف شيئا من هذه الأموال في السندات ونحوها مما تقترض به حكومات تلك البلاد ديونها العامة . ولا تتم توبة من يفعل ذلك من المسلمين إلا باسترداد رءوس أموالهم من الخارج ، لتفيد أمتهم من تثميرها بين أهلها بالطرق الإسلامية المشروعة ، وينتهي اقتراض بعض البلاد الإسلامية من تلك المصارف الأجنبية التي تتقاضاها من الربا ما يزيد مقداره كثيرا على ما تدفعه هذ5 المصارف من يسير الربا إلى أرباب الودائع المسلمين ، ويخلص ذلك الكسب الطائل للمرابي الأجنبي من مجرد الوساطة بين أخوين مسلمين خالفا عن حكم الله تعالى في تحريم الربا أكلا وإيتاء ، فحاقت بكليهما شروره ، ولم تذر شيئا من فضل حقيقي فيما يأكله المودع المسلم من ربا عن قرضه للحربي يسوغ الترخيص للمسلم في ذلك .
وحظر أكل ربا الدين على المسلم من غير المسلمين بالخارج لا يرجع فيما نرى إلى أن الإسلام ينهى عن التعصب ، يقول تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (1) ( سورة المائدة ، 9 ) ولا إلى ما فرضه الإسلام من أداء الأمانات إلى أهلها ولو كانوا غير مسلمين ، ونعيه على اليهود ما استحصلوا من بخس الأميين حقوقهم . ولكنا نجد ، مما قدمنا من خصائص الربا وحكمه ، أن ربا الدين لا يتعلق بالعدل بين طرفي المداينة ولا بأداء الدين ذاته ، بل يبتغي الرشد المالي والاجتماعي والسياسي للفرد دائنا كان أو مدينا ، ويرقى بالأمة إلى خير تنظيم في تلك المجالات المتكاملة كلها ، ويكون التعامل بربا الدين في ذاته من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة والعدوان على رشدها ومالها ، ويتعين على المسلم ألا يقرب الربا ، لا إيتاء ولا أخذا ، ولو من حربي في خارج بلاد الإسلام ليحفظ على المسلم رشده ويحفظ أمته ما تستحقه من تنمية بأمواله .
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
من نتائج اختلاف الربوين الإسلامي واليهودي
أما وقد تبين الاختلاف بين أحكام الربا التي شرعها الإسلام اختلافا كبيرا عن أحكام الربا عند اليهود الذين يرون الربا في كل دين مؤجل من قرض أو بيع تكون زيادة فيه بسبب التأجيل ، بينما جاء الإسلام بأحكام للربا كثيرة تنظم البيوع الحاضرة ، مما لا عهد لليهود به ، وفي ربا الديون الذي يعرفون أهله ، قصر التحريم على شطر مما عندهم ، هو ربا القرض ، وأحل شطرا مما يحرمون ، فأباح عوض التأجيل في البيوع ، وأحكم توثيق الائتمان سواء التجاري وغير التجاري ، وكفل للأفراد في أموال الأغنياء من أهليهم وفي خزانة الدولة نفقاتهم التي تسد حاجات معيشتهم وعزز موارد الائتمان غير التجاري من الزكاة والصدقات ، بما ييسر نفاذ تحريم الربا فيه . فإن من شأن من يحيط علما بكل أولئك أن يشهد بنتائج شتى من أهمها: أولا: أن ما تضمنته الشريعة الإسلامية من نسخ بعض ما يعلمه اليهود وتفصيل ما لم ينسخ وإكماله بوجه لا يسعه فقههم- يدحض كل تشكيك في وحي الإسلام ، ويفند كل زعم بأخذه شيئا من اليهود ، ويقطع بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر ما أتى به من الأحكام على ما اقتضت حكمة الله تعالى نسخه من فروع شريعة اليهود .
ثانيا: وجوب دراسة الأحكام الإسلامية الاقتصادية في مصادرها الأولى بالقرآن والسنة دراسة مستقلة متعمقة تحصى فيها أحكام الإسلام على حقيقتها المتميزة ، ثم يأتي من بعد الإحاطة بها دور البحث المقارن بينها وبين سائر الشرائع ، فيفقه الدارسون الفروق بين أحكامها وما في غيرها ، ولا يقعون في خلط يجره التجوز في إطلاق مصطلحات لا يعرفها فقه الشريعة ولا تصدق على مسمياتها ، ولا يبلغ بها الباحث الغاية من تفهم دقائق أحكامها .(2/173)
ثالثا: المبادرة في إلغاء القوانين الوضعية التي تنظم ربا الدين في البلاد الإسلامية وتبيح غير الفاحش منه وتعاقب الدائن وحده على أخذ الربا الفاحش وبعقوبات ( جد يسيرة) ، متأثرة في ذلك كله بأحكام اليهود التي بينا ما اعتراها من نسخ وما يشوبها إزاء التطور من قصور . ويجب أن تصدر التشريعات التي تأخذ بصحيح أحكام الإسلام ، فيبطل القانون المدني كل شرط ربوي في القروض وتأجيلات الديون ، وإن قل مقدار الفائدة أو العائد أو نحوها مما يتضمنه هذا الشرط ، وأيا كانت حال الدائن أو المدين القانونية ، يستوي الفرد ولو كان يتيما والشخص الاعتباري ، مصرفا كان أو شركة أو مؤسسة أو هيئة أو حكومة ، ويفرض التشريع الجنائي من العقوبات الرادعة عن الربا ما يجزي به الدائن والمدين وكل من شارك في جريمتها أو أعان على ارتكابها ، وفقا لما تقتضيه حال البلاد من تقنين لأنواع التعزير ومقدارها ، يتفق واعتبارات السياسة التشريعية الجزائية .
رابعا: بحث متطلبات قيام أسواق المال الإسلامية وتنظيم تداول الأسهم والحصص في شركات المضاربة ، وتفصيل أحكام بيوع النسيئة والسلم ، ولا تستضاع للعودة إلى الأخذ بنظم الائتمان الإسلامية واستكمال الإطار العام لتطبيقها في مجالات التجارة والإرفاق الاجتماعي ، ومتابعة هذا التطبيق ومواءمته مع معطيات العلوم الاقتصادية الحديثة وتوفير مقومات السوق الحرة وموارد التمويل الاجتماعي حتى لا يكون ثم محتاج إلى الاقتراض بالربا ، ولا يكون غلو في أسعار البيوع الآجلة يثقل المحتاجين إليها .
خامسا: وتنبغي الإفادة من التنظيمات السابقة التي أخذت بها دولة الخلافة العثمانية في شأن تلك البيوع وفرض حد أقصى للزيادة في المرابحة ، ولتلافي الثغرات التي تكشفت في تطبيق نظام السلم (1) . .
وجود أسواق إسلامية للمال الآجل يستثمر فيها استثمارا رأسماليا من طريق المضاربة أو متداولا بالبيوع الآجلة نسيئة وسلما ، بغير أن يتوسط بين المدخر أو المنتج أو التاجر وبين المنظم العامل أو المستهلك مراب لا يقوم بشيء من أعمال التجارة ولا يتعرض لمخاطرها . وتسلم سوق المال الإسلامية من أضرار المنافسة بين الاستغلال الربوي في السندات والقروض وما يسمى بالأوعية الادخارية وبين الاستثمار غير الربوي في الشركات والبيوع . وهي المنافسة التي تعاني منها أسواق المال في الاقتصاديات الربوية ، وتعيق تقدم مشروعات التنمية من طريق التمويل المباشر .
ولا يعرض لمن يحكم بما أنزل في الإسلام ما يتذرع به غير المسلمين من ضرورة الربا لقيام أسواق المال بدعوى أن تحريمه يذر رأس المال الآجل ولا كسب له في تلك الأسواق يغريه بالبقاء فيها مما يؤدي إلى اختفائه وينضب معين التمويل للمشروعات الاقتصادية؛ إذ يجد رأس المال في بلاد الإسلام أسواقا متسعة تفيء بالأرباح المشروعة عليه ، وذلك يوجب على المسلمين ألا يخدعوا بتلك الحجة الداحضة ، وأن يفروا إلى حكم الله تعالى ، وقد ظلوا قرونا طويلة مزهرة لا يقربون فيها الربا ، وينهون عن أكله وعما أخذت به طائفة منهم من إنشاء المصارف الربوية التي تضاهي مصارف اليهود ، وعندها يستشعر المسلمون رحمة الله التي اختصهم بها والله ولي التوفيق .
__________
(1) حاشية ابن عابدين جزء 4 ص 114
================
تعريف الربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 10 / ص 92)
تعريف الربا :
الربا لغة : الزيادة ، قال في القاموس (1) : ربا ربوا كعلو ورباء زاد ونما ، وقال صاحب المصباح المنير (2) : الربا الفضل والزيادة - وهو مقصور على الأشهر . . وربا الشيء يربو إذا زاد . وأربى الرجل بالألف دخل في الربا . وأربى على الخمسين زاد عليها . وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (3) : الربا مقصور وأصله الزيادة . . . ويقال ربا الشيء إذا زاد , ويقال الربا والرماء - وفي فتح الباري (4) : وأصل الربا : الزيادة إما في نفس الشيء كقوله تعالى : { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } (5) , وإما في مقابله كدرهم بدرهمين , فقيل هو حقيقة فيهما , وقيل : حقيقة في الأول ، مجاز في الثاني .
والربا شرعا : قد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه مع تقارب المعنى فقال بعضهم (6) : هو عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما , وهذا تعريف له بنوعيه : الفضل والنسيئة .
وقيل : هو زيادة في شيء مخصوص (7) , وهذا تعريف قاصر على أحد نوعيه والمفروض في التعريف أن يكون جامعا . وفصل صاحب بدائع الصنائع (8) فعرف كل نوع على حدة ، فقال : الربا في عرف الشرع نوعان : ربا الفضل وربا النسيئة ، أما ربا الفضل فهو
__________
(1) ص332 ج 4 ط السعادة بمصر 1332ه .
(2) ص233 ج 1 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر 1369ه .
(3) ص117 ج 3 ط إدارة الطباعة المنيرية .
(4) ص313 ج 4 ط المطبعة السلفية .
(5) سورة الحج الآية 5
(6) مغني المحتاج ص21 ج 2 ط مطبعة مصطفى الحلبي 1377ه .
(7) المبدع في شرح المقنع ص127 ج 4 ط المكتب الإسلامي .
(8) ص183 ج 5 ط الأولى 1328ه .
زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي ، وأما ربا النسيئة فهو فضل الحلول على الأجل , وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس عندنا ( أي عند الأحناف ) .
وهذه التعاريف كما قلنا وإن كانت مختلفة الألفاظ فهي متفقة في المعنى وبعضها مجمل وبعضها مفصل , والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي واضحة إلا أن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي ، إذ المعنى اللغوي يشمل الزيادة في كل شيء وأما المعنى الشرعي فهو يعني الزيادة في أشياء معينة ، وقد يطلق الربا شرعا ويراد به كل بيع محرم (1)
__________
(1) نيل الأوطار ، ص200 ج 5 ط الحلبي 1371ه ، فتح الباري ص313 ج 4 .
تحريم الربا :
لا خلاف بين المسلمين في تحريم الربا وإن اختلفوا في تفاصيله (1) وضابطه , قال الله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (2) والأحاديث في تحريمه كثيرة مشهورة . وقد توعد الله آكل الربا بضروب من الوعيد مما يدل على عظم إثمه وفحش ضرره , فقد تنوع الوعيد عليه في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وقد أوجزها السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - فيما يلي (3) :
1 - قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (4) أي لا يقومون من قبورهم للبعث إلا كقيام المجنون .
2 - قوله تعالى : ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه : { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (5) , وهذا من نصوص الوعيد أو هو محمول على من استحله لأن استحلاله كفر .
__________
(1) نيل الأوطار ، ص200 ج 5 ، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم ص9 .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) الربا والمعاملات في الإسلام ص75 ، 76 .
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
3 - قوله تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } (1) أي يمحق بركته .
4 - قوله بعد ذلك : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (2) فحرمانه من محبة الله يستلزم بغضه ومقته له .(2/174)
5 - تسميته كفارا أي مبالغا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلا من إنظاره وتأخير دينه إلى الميسرة وإسعافه بالصدقة أو كفار الكفر المخرج من الملة إن استحله .
6 - تسميته أثيما وهي صيغة مبالغة من الإثم , وهو كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما .
7 - إعلامه بحرب من الله ورسوله ؛ لأنه عدو لهما إن لم يترك ما بقي من الربا .
8 - وصفه بالظلم في قوله : { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (3) .
9 - عد النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر الكبائر كما في الصحيحين (4) .
10 - ورود عدة أحاديث صحيحة في لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه .
11 - ورود أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه ، منها : أن « درهما من ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام » (5) , وفي بعضها ست وثلاثين زنية , وفي بعضها بضع وثلاثين وفي بعضها « الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه » (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) صحيح البخاري 5 \ 294 ، وصحيح مسلم الحديث 89 .
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/225).
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
مقارنة بين الربا والميسر
تحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار ؛ لأن المرابي قد أخذ فضلا محققا من محتاج , والمقامر قد يحصل له فضل وقد لا يحصل له , فالربا ظلم محقق لأن فيه تسلط الغني على الفقير بخلاف القمار فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني وقد يكون المتقامران متساويين في الغنى والفقر , فهو وإن كان أكلا للمال بالباطل وهو محرم فليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا ، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص341 -347 .
متى حرم الربا :
قد كان تحريم الربا قديما وقد ذكر الله تحريمه على اليهود حيث يقول سبحانه : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (1) { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } (2) (3) .
إلا أن العلامة القرطبي (4) يرى أن المراد بالربا المذكور في حق اليهود عموم الكسب المحرم ولم يرد به خصوص الربا الذي حكم بتحريمه علينا , وإنما أراد المال الحرام كما قال تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } (5) يعني به المال الحرام من الرشا وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } (6) وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب , وكان الربا معروفا في الجاهلية عند العرب ، وقد ذكره الله تعالى في " سورة الروم " وهي مكية نزلت قبل الهجرة ببضع سنين مقرونا بذمة ومدح الزكاة وذلك قبل فرض الزكاة كما في قوله تع الى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (7) , وقد جاء في السور المكية بيان أصول الواجبات والمحرمات بوجه إجمالي كما في هذه الآية , ثم قال تعالى في سورة آل عمران : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (8) ثم نزلت آيات " سورة البقرة " المشتملة على الوعيد الشديد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل (9) ويستمر تحريمه إلى يوم القيامة .
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161
(3) النساء الآيتان : 160 ومن الآية 161 .
(4) تفسير القرطبي ص348 ج 3 .
(5) سورة المائدة الآية 42
(6) سورة آل عمران الآية 75
(7) سورة الروم الآية 39
(8) سورة آل عمران الآية 130
(9) الربا والمعاملات في الإسلام ص57 - 58 بتصرف .
هذا تاريخ الربا عبر التاريخ وكابوسه الثقيل على الأمم وموقف الشرائع السماوية منه ومحاربته لإنقاذ البشرية من ويلاته , ولكن يأبى الذين استحوذ عليهم الشيطان واستولى عليهم الشح إلا عتوا ونفورا ليستمروا على التحكم بأموال الناس بغير حق .
3- المقارنة بين الربا والصدقة :
قد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق , قال تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } (1) , وقال تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (2) , وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3) { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (4) (5) , ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء (6) .
فالمتصدق ضد المرابي ؛ لأن المتصدق يحسن إلى الناس والمرابي يظلم الناس , ولهذا قال سبحانه : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (7) { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (8) الآيات .
وهكذا تساق آيات الربا بعد آيات الصدقة في القرآن لما بين المتصدقين والمرابين من التضاد ، ليتفكر المسلم في صفات الفريقين وجزاء كل منهما , وليقارن بين آثارهما على المجتمع , فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله , والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله , المتصدق يوسع على المحتاجين ويفرج كرب المكروبين , والمرابي يضيق على المحتاجين وينتهز فرصة عوزهم ليثقلهم بالديون فيزيدون كربة إلى كربتهم , المتصدق قد وقاه الله شح نفسه فانتصر عليها , والمرابي قد تملكه الجشع وأهلكه الشح كما أهلك من قبله فاستحل محارم الله بأدنى الحيل .
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة الروم الآية 39
(3) سورة آل عمران الآية 130
(4) سورة آل عمران الآية 131
(5) آل عمران الآيتان 130 - 131 .
(6) الربا والمعاملات في الإسلام .
(7) سورة البقرة الآية 274
(8) سورة البقرة الآية 275
4 - الحكمة في تحريم الربا :
يلخص العلامة ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر (1) تلك الحكمة في النقاط التالية :
1 - انتهاك حرمة مال المسلم بأخذ الزائد من غير عوض .
2 - الإضرار بالفقير لأن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مكن الغني من أخذ أكثر من المثل أضر بالفقير .
3 - انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض ؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله .
4 - تعطل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها ؛ إذ من يحصل درهمين بدرهم كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة .(2/175)
إن الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده ما يربيهم على التراحم والتعاطف , وأن يكون كل منهم عونا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه , ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد ، كما أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم قائما على أن يكون استفادة كل واحد من الآخر في مقابل عمل يقوم به نحوه أو عين يدفعها إليه , والربا خال عن ذلك ؛ لأنه عبارة عن إعطاء المال مضاعفا من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل .
إن إباحة الربا مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع تزيد أطماع الناس وتجعلهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من الأموال من غير أن يستفيد منها مجتمعهم (2) .
ففي الغالب لا يخضع للزيادة الربوية إلا معدم محتاج إذا رأى أن الدائن يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها تكلف بذل هذه الزيادة ليفتدي بها من أسر المطالبة
__________
(1) ص180 ج 1 .
(2) تفسير المنار ص108 - 112 ج 3 .
والحبس ويدافع من وقت إلى وقت , فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له , ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه , فيأكل مال أخيه بالباطل , ويحصل أخوه على غاية الضرر , فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه , وأذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله , ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره , ولهذا كان من أكبر الكبائر (1) .
__________
(1) من إعلام الموقعين لابن القيم ص135 ج 2 .
5 - أنواع الربا :
الربا نوعان : ربا نسيئة وربا فضل .
فالنوع الأول ربا النسيئة - من النساء بالمد وهو التأخير - هو نوعان :
أحدهما : قلب الدين على المعسر , وهذا هو أصل الربا في الجاهلية :
أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل , فإذا حل الأجل قال له : أتقضي أم تربي , فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال والأصل واحد . وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين (1) , قال الله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (2) من آية (280) من سورة البقرة ، فإذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب الدين عليه بل يجب إنظاره .
وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره (3) لكن الكفار يعارضون حكم الله في ذلك ويقولون : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (4) أي سواء زدنا في أول البيع أو عند محل المال , فكذبهم الله في قيلهم فقال سبحانه : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (5) يعني جل ثناؤه وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع , ( وحرم الربا) يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه , يقول عز وجل : فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع إلى أجل , والأخرى من وجه تأخير المال إذا حل أجله , والزيادة في الأجل سواء فليست الزيادة
__________
(1) أضواء البيان ص230 ج 1 .
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) مجموع الفتاوى ص418 ج 29 .
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا لأني أحللت البيع وحرمت الربا , والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم ما أشاء وأستعبدهم بما أريد , ليس لأحد أن يعترض في حكمي , ولا أن يخالف أمري , وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي (1) .
وأيضا لو كانت الزيادتان سواء لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين .
فالزيادة التي تؤخذ في معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل هي زيادة حلال , والزيادة التي تؤخذ لأجل التأخير في الأجل إذا حل زيادة محرمة لأنها لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم (2) . وأيضا المعسر الذي لا يستطيع الوفاء عند حلول الأجل يجب إنظاره إلى ميسرة لا مضاعفة الدين عليه وإثقال كاهله بالغرامة فيزداد حملا على حمله .
__________
(1) تفسير ابن جرير ص12 - 13 ج 6 ببعض زيادات توضيحية .
(2) انظر تفسير المنار ص96 ج 3 .
مسألة : ( ضع وتعجل ) :
ويتعلق بهذه المسألة مسألة : ( ضع وتعجل ) , وهي أن يصالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا - وهي عكس قلب الدين - لأن معناه : زد وأجل , وقد أجمع المسلمون على تحريمه كما سبق , وأما هذه المسألة ( ضع وتعجل ) فقد اختلف العلماء فيها على أقوال :
القول الأول :
تحريم ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والمشهور عن أحمد (1) , ووجه ذلك :
أنه شبيه بالزيادة مع الإنظار المجمع على تحريمها ؛ لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا , فهو في الصورتين جعل للزمان ثمنا لزيادته ونقصه ؛ هذا
__________
(1) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .
معنى ما علل به ابن رشد في بداية المجتهد (1) . وعلل صاحب فتح القدير (2) من الحنفية ذلك بقوله : لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد , فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام . ا ه .
وهو بمعنى التعليل الذي قبله , وعلل صاحب مغني المحتاج (3) من الشافعية لذلك بقوله : ( لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها . . فإن لم يحصل الحلول لا يصح الترك ) يعني أن صحة ترك البعض تنبني على صحة التعجيل , والتعجيل غير صحيح فالترك غير صحيح , وعلل ذلك صاحب المبدع من الحنابلة بقوله : ( لأنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز ) , وهذا التعليل بمعنى ما علل به صاحب فتح القدير من الحنفية حيث يقول: (4) ( وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام ) , وهما يتفقان مع قول ابن رشد : (5) ( لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن ) فاتفقت كلمتهم على أن بيع الأجل لا يجوز وهو الذي من أجله منعوا مسألة : ( ضع وتعجل ) :
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان : (6) . واحتج المانعون بالأثر والمعنى ؛ أما الآثار ففي سنن البيهقي « عن المقداد بن الأسود قال : ( أسلفت رجلا مائة دينار فقلت له : عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير ) .
فقال : نعم , فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أكلت ربا مقداد وأطعمته » وفي سنده ضعف . وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر , فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه , وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال لرجل : علي دين , فقال لي : عجل لي لأضع عنك , قال : فنهاني عنه . وقال : نهى أمير المؤمنين - يعني عمر - أن يبيع العين بالدين . وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد : بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني
__________
(1) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .
(2) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .
(3) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .(2/176)
(4) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .
(5) انظُر فَتح القَدير ص426 ج 8 ، وبِدايَة المُجتَهِد ص142 ج 2 ، ومُغِني المُحتاج ص179 ج 7 ، والمُبدِع ص279 -280 ج 4 .
(6) ص12 ج 2 .
فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال : ( لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله ) رواه مالك في الموطأ .
وأما المعنى فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقط وذلك عين الربا , كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين , فقال : زدني في الدين وأزيدك في المدة , فأي فرق بين أن تقول حط من الأجل وأحط من الدين , أو تقول : زد في الأجل وأزيد في الدين . . . قالوا : فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته , فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر .
القول الثاني :
جواز الوضع والتعجل وهو رواية عن أحمد (1) , ونسب ابن رشد (2) وابن القيم القول بجوازه إلى ابن عباس وزفر من الحنفية , والقول بالجواز هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في الاختيارات (3) : ( ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا , وهو رواية عن أحمد وحكي قولا للشافعي ) , واختار هذا القول أيضا ابن القيم وقال (4) : (لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل , وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما , ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا , فإن الربا الزيادة ، وهي منتفية هاهنا , والذين حرموا ذلك قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : (إما أن تربي وإما أن تقضي ) , وبين قوله : ( عجل لي وأهب لك مائة ) فأين أحدهما من الآخر فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح . ا ه .
قال ابن رشد وقال (5) 55 : وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم فقالوا : يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس
__________
(1) المبدع ص280 ج 4 .
(2) بداية المجتهد ص142 ج 2 .
(3) الاختيارات ص134 .
(4) الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد .
(5) الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد .
ديون لم تحل , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا (1) .
القول الثالث :
يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره ؛ لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله , والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم , ولا ربا بين العبد وبين سيده , فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه أخذ بعض كسبه وترك بعضه (2) .
والراجح :
هو القول الثاني وهو جواز ذلك مطلقا ؛ لأنه ليس مع من منعه دليل صحيح , والأصل في المعاملات الصحة والجواز ما لم يدل دليل على التحريم , وقياسهم منع ذلك على منع زيادة الدين وتمديد أجله قياس مع الفارق ؛ لأن منع الزيادة في مقابلة التمديد ملاحظ فيه منع إثقال كاهل المدين من غير استفادة تحصل له , بخلاف هذه المسألة فإن فيها تخفيفا عنه , فإن قيل : والمدين يحصل له في المسألة الأولى فائدة التمديد في الأجل .
فالجواب : أن التمديد في الأجل في هذه المسألة إن كان المدين معسرا فهو واجب على الدائن بدون مقابل ، وإن كان المدين موسرا وجب عليه أداء الحق عند حلوله , ويبدي العلامة ابن القيم رأيا آخر في مسألة : ( ضع وتعجل ) فيقول (3) : ( ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال : لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه , فإنه في القرض يجب رد المثل , فإذا عجل له وأسقط باقيه خرج عن موجب العقد , وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض , بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر . وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان , وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه , والعبرة في العقود
__________
(1) قال أبو عَبد اللَّه الحاكِم : صَحيح الإسناد ، قال ابن القَيّم : هو على شَرط السُنَن ، وقَد ضَعَّفه البَيهَقيّ وإسناده ثِقات ، إِغاثَة اللَّهفان ص13 ج 2 .
(2) إعلام الموقعين ص371 ج 3 .
(3) إغاثة اللهفان ص14 ج 2 .
بمقاصدها لا بصورها , فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته , وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه .
الثاني : من نوعي ربا النسيئة : ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما - ويسميه بعضهم : ربا اليد (1) - كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، وكذا بيع جنس بآخر من هذه الأجناس مؤجلا , وما شاركها في العلة يجري مجراها في هذا الحكم , قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد » في أحاديث كثيرة جاءت بمعناه (2) فقوله صلى الله عليه وسلم : (يدا بيد ) يعني الحلول والتقابض قبل التفرق في بيع هذه الأشياء بعضها ببعض , ويقاس عليها ما شاركها في العلة - كما يأتي بيانه إن شاء الله .
__________
(1) انظر مغني المحتاج ص21 ج 2 ، والروض المربع ص117 ج 2 بحاشية العنقري .
(2) رواه أحمد والبخاري ، المنتقى مع شرحه نيل الأوطار ص203 ج 5 .
النوع الثاني من أنواع الربا :
ربا الفضل وهو الزيادة , وقد نص الشارع على تحريمه في ستة أعيان هي : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، واتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس (1) , فقد حكى غير واحد الإجماع على تحريمه بين الستة المذكورة إذا بيع بعضها ببعض (2) , فإن قيل : كيف تصح حكاية الإجماع مع أنه ثبت في الصحيح عن ابن عباس عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ربا إلا في النسيئة » (3) فمقتضاه جواز ربا الفضل , وقد روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما القول بجوازه (4) , قيل عن ذلك عدة أجوبة :
__________
(1) انظر إعلام الموقعين ص136 ج 2 .
(2) بمعناه من أضواء البيان للشنقيطي ص230 ج 1 .
(3) صحيح البخاري البيوع (2069),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (3/51),موطأ مالك البيوع (1324).
(4) انظر نيل الأوطار ص 203 ج 5 .
الجواب الأول :
أن حديث أسامة منسوخ بالأحاديث التي تدل على تحريم ربا الفضل , ومما يدل على نسخه بها الإجماع على ترك العمل به (1) , قال الشوكاني : لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال .
الجواب الثاني :
أنه محمول على ما إذا اختلف الجنسان ، فإنه في هذه الحالة يجوز التفاضل ويحرم النسأ بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل , وأنه في الجنس الواحد ممنوع (2) فيكون حديث أسامة عاما في الجواز فيما إذا اتحد الجنس أو اختلف , والأحاديث الأخرى خاصة بالمنع مع اتحاد الجنس , والخاص مقدم على العام كما هو مقتضى القواعد .
الجواب الثالث :
أنه حديث مجمل والأحاديث التي تمنع ربا الفضل مبينة , فيجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه (3) .
الجواب الرابع :(2/177)
أنه رواية صحابي واحد , وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمنع ربا الفضل , ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد عن الخطأ من رواية الواحد (4) .
__________
(1) النووي في شرح صحيح مسلم ص25 ج 11 .
(2) أضواء البيان ص231 ج 1 .
(3) النووي في شرح مسلم .
(4) أضواء البيان ص236 ج 1 .
الجواب الخامس :
أن المعنى في قوله : لا ربا إلا في النسيئة , أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره , وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل (1) .
الجواب السادس :
أن إباحة ربا الفضل في حديث أسامة المذكور إنما هي بدلالة المفهوم , وتحريمه بالأحاديث الأخرى بدلالة المنطوق , ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم (2) .
هذا ما أجيب به عن حديث أسامة , وكل جواب منها يكفي بمفرده لرد الاستدلال به بحمد الله , ولكن كلما تكاثرت الأجوبة كان أقوى في الرد وأقطع لحجة الخصم .
وأما الإجابة عما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا بجواز ربا الفضل فهي أن يقال : إنما قالا ذلك باجتهادهما ثم لما بلغهما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعه رجعا عن رأيهما (3) , فلم يبق أي شبهة في تحريم ربا الفضل , وصحت حكاية الإجماع على تحريمه كما سبق .
جودة أحد الجنسين الربويين على الآخر
__________
(1) نيل الأوطار ص203 ج 5 .
(2) بمعناه من نيل الأوطار ص203 ج 5 .
(3) انظُر نيل الأوطار ص205 - 206 ج 5 ، وأَضواء البَيان للشّنقيطيّ ص238 - 240 ج 1 ، وفَتح البَارِي ص381 - 382 ج 4 .
هل جودة أحد الجنسين الربويين تبرر الزيادة من الجنس الرديء ؟
لا تكون جودة أحد الجنسين مبررة للزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر , والأصل في هذا حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ , قال : لا والله يا رسول
الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعل - بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (1) .
والجنيب قيل هو الطيب , وقيل هو الذي أخرج من حشفه ورديئه , وقيل هو الذي لم يختلط بغيره (2) , وعلى كل التفاسير فالمراد به الجيد من التمر , والجمع تمر رديء أو هو الخليط من أنواع مختلفة (3) .
قال الشوكاني في نيل الأوطار (4) : والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلا , وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه ، انتهى , وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريقة السليمة البعيدة عن الربا التي يسلكها من أراد أن يستبدل التمر الجيد بالتمر الرديء , وذلك بأن يبيع التمر الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم تمرا جيدا , وهذه الطريقة تتبع في كل ربوي يراد استبداله بربوي أحسن منه ؛ لأن الجودة في أحد الجنسين لا تبرر الزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر والله أعلم .
إذا باع ربويا بثمن مؤجل فهل يجوز له أن يعتاض عن ذلك الثمن ربويا آخر ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (5) : (هذه فيها نزاع بين العلماء فمذهب الفقهاء السبعة ومالك وأحمد في المنصوص عليه (6) أن ذلك لا يجوز , فمن باع مالا ربويا كالحنطة والشعير وغيرهما إلى أجل لم يجز أن يعتاض عن ثمنه بحنطة أو شعير أو غير ذلك مما لا يباع به نسيئة ؛ لأن الثمن لم يقبض فكأنه قد باع حنطة أو شعيرا بحنطة أو شعير إلى أجل متفاضلا ) .
وهذا لا يجوز باتفاق المسلمين ، وقال أبو حنيفة والشافعي : (هذا يجوز وهو اختيار أبي محمد المقدسي من أصحاب أحمد ؛ لأن البائع إنما يستحق الثمن في ذمة المشتري وبه اشترى فأشبه ما لو قبضه ثم اشترى من غيره ) , وقد علل الشيخ المنع بأن الثمن لم يقبض
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),سنن ابن ماجه التجارات (2256),مسند أحمد بن حنبل (3/60),موطأ مالك البيوع (1314),سنن الدارمي البيوع (2577).
(2) فتح الباري 4 \ 400 .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 11 \ 21 .
(4) نيل الأوطار 5 \ 207 .
(5) مجموع الفتاوى 29 \ 448-449 .
(6) انظر كشاف القناع على متن الإقناع 3 \ 150 .
فكأنه قد باع الربوي بالربوي إلى أجل متفاضلا , وهذه الصورة لا تجوز بالإجماع فكذا ما شابهها وهي مسألتنا , وعلل صاحب الكشاف المنع بأنه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة , ويكون الثمن المعوض عنه بينهما كالمعدوم لأنه لا أثر له (1) , والشيخ تقي الدين حكى الخلاف ولم يرجح ، ولكن مما لا شك فيه أن الخروج من الخلاف والاحتياط أمر مطلوب ومرغب فيه ، والله أعلم .
__________
(1) الكشاف 3 \ 150 .
ربا القرض :
المشهور أن الربا ينقسم إلى قسمين : ربا نسيئة وربا فضل , وبعضهم (1) يزيد قسما ثالثا هو ربا القرض المشروط فيه جر نفع ، قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 \ 180 ) : لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل ؛ لأنه الذي فيه شرط يجر نفعا للمقرض , فكأنه أقرضه هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه . انتهى . ولعل وجهة من عده قسما مستقلا هي أن القرض عقد مستقل وله أحكام خاصة به .
__________
(1) انظر مغني المحتاج (2 \ 21 ) .
وصفة ربا القرض :
أن يقرضه شيئا ويشترط عليه أن يرد أفضل منه , أو شرط عليه نفعا ما نحو أن يسكنه داره , وهو حرام إجماعا (1) لأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه , والدليل على تحريم ذلك :
1 - عموم نصوص الكتاب والسنة الواردة في النهي عن الربا وهذا منه .
2 - الحديث الوارد بخصوص المنع منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على دابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك » , وما ورد بمعناه من الآثار التي تقويه عن جماعة من الصحابة (2) .
__________
(1) المُبدِع ص209 ج 4 ، الزَّواجِر لابن حَجَر ص80 ج 1 ، والرَّوضَة النَّديِّة في الرَّد على مَن أَجاز المُعامَلات الرِّبويّة للشَّيخ مُحمَّد بن إبراهيم آل الشَّيخ ص16 ضِمن مَجموعَة .
(2) انظر الروضة الندية للشيخ محمد بن إبراهيم .
ما جاء عن أعيان الصحابة في تحريمه ، وهم : عمر وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وأبي بن كعب وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم (1) .
3 - الإجماع وقد حكاه غير واحد (2) من العلماء .
فإذا كان النفع الذي يبذله المقترض للمقرض غير مشترط , فلا بأس به بدليل « أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا ورد خيرا منه ، وقال : خيركم أحسنكم قضاء » (3) إلا أن الإمام مالكا كره أن يزيده في العدد , لا إن أعطاه أجود عينا وأرفع صفة , وأما أن يزيده في الكيل أو الوزن أو العدد فلا (4) .
وتعقب ذلك الإمام الشوكاني (5) فقال : ويرد عليهم (يعني المالكية ) « حديث جابر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني » (6) فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم زاده والظاهر أن الزيادة كانت في العدد , وقد ثبت في رواية البخاري أن الزيادة كانت قيراطا .(2/178)
وهذا التفصيل في حكم النفع الذي يجره القرض من زيادة أو غيرها إذا بذل هذا النفع عند القضاء ، أما إذا بذل قبل القضاء بأن أهدى إليه هدية فلا يحل له قبولها مطلقا , قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (7) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء ؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك ولم يتكلم به فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا , ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا , ومن لم ينظر إلى المقاصد في العقود أجاز مثل ذلك وخالف بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) ، وهذا أمر بين .
__________
(1) الروضة الندية ص10 - 16 .
(2) الروضة الندية ص10 - 16 .
(3) صحيح البخاري الوكالة (2183),صحيح مسلم المساقاة (1601),سنن الترمذي البيوع (1316),سنن النسائي البيوع (4618),سنن ابن ماجه الأحكام (2423),مسند أحمد بن حنبل (2/456).
(4) الكافي لابن عبد البر ص727 - 728 .
(5) نيل الأوطار ص245 - 246 ج 2 .
(6) صحيح البخاري الصلاة (432),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (715),سنن النسائي البيوع (4590),سنن أبو داود البيوع (3347),مسند أحمد بن حنبل (3/319).
(7) الجزء الثالث من مجموع الفتاوى الكبرى ص244 .
(8) يُشِير إلى الحَديث الذي أَورَدْناه سَابِقًا في الفَقرة رقم (2 ) مِن أَدِلَّة تَحريم فَوائِد القَرض .
وقال ابن القيم (1) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء , فإن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدا لذريعة الربا .
ويفصل العلامة الشوكاني في ذلك فيقول : (2) والحاصل أن الهدية والعارية ونحوها إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم لأنه نوع من الربا أو رشوة , وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس , وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع لإطلاق النهي عن ذلك . ا ه .
وهذا التفصيل يشهد له ما جاء في الحديث السابق من قوله صلى الله عليه وسلم : إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك .
والحاصل أن النفع المبذول من المقترض للمقرض فيه التفصيل التالي :
1 - إن كان ذلك باشتراط فهو حرام مطلقا قبل الوفاء وبعده .
2 - إن كان بغير اشتراط جاز بعد الوفاء ولم يجز قبله إلا أن يكون الباعث عليه عادة جارية بينهما لا من أجل القرض , والله أعلم .
ويتعلق بمبحث ربا القرض مسألتان نص عليهما الفقهاء رحمهم الله :
1 - المسألة الأولى :
إذا أقرضه مبلغا ثم اشترى المقترض من المقرض شيئا واشترط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه ثم يرد المقترض القرض ويرد المقرض المبيع بالخيار ، فهذا البيع والشرط باطل لأنه من الحيل , قال في الإقناع وشرحه (3) : (وإن شرطه ) أي الخيار بائع (حيلة ، ليربح فيما أقرضه حرم نصا ) لأنه يتوصل به إلى قرض يجر نفعا (ولم يصح البيع لئلا يتخذ ذريعة للربا ) , وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه
__________
(1) ص184 ج 3 من إعلام الموقعين .
(2) نيل الأوطار ص246 ج 5 .
(3) ج 3 ص163 , وانظر المغني 3 \ 592 - 593 .
الله - (1) لما سئل عن ذلك : ( إذا كان المقصود أن يأخذ أحدهما من الآخر دراهم وينتفع المعطي بعقار الآخر مدة مقام الدراهم في ذمته , فإذا أعاد الدراهم إليه أعاد إليه العقار فهذا حرام بلا ريب ) , وهذا دراهم بدراهم مثلها , ومنفعة الدار وهو الربا البين .
وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراما , وكذلك إذا تواطأ على ذلك في أصح قولي العلماء , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » (2) , حرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين السلف والبيع لأنه إذا أقرضه وباعه حاباه في البيع لأجل القرض ، وكذلك إذا آجره وباعه وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه إذا جاءه بالثمن أعاد إليه المبيع هو باطل باتفاق الأئمة سواء شرطه في العقد أو تواطأ عليه قبل العقد على أصح قولي العلماء , والواجب في مثل هذا أن يعاد العقار إلى ربه والمال إلى ربه ويعزر كل من الشخصين إن كانا علما بالتحريم . والقرض الذي يجر منفعة قد ثبت النهي عنه عن غير واحد من الصحابة الذين ذكرهم السائل وغيرهم كعبد الله بن سلام وأنس بن مالك وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .
فشرط المنفعة في مقابلة القرض أو التواطؤ عليها من غير اشتراط ظاهر حرام , وكذلك الاحتيال على حصول هذه المنفعة كما في هذه المسألة وغيرها من الحيل حرام ، والله أعلم .
المسألة الثانية :
مسألة السفتجة : يتعلق بمبحث النفع الذي يجره القرض أيضا مسألة السفتجة المشهورة عند الفقهاء .
السفتجة بالسين المهملة والتاء وإسكان الفاء بينهما وبالجيم : كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه , وهي لفظة أعجمية (3) ، قال في المغني (4) : وإن شرط أن يعطيه إياه (يعني القرض ) في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز ؛ لأنه زيادة , وإن لم يكن لحمله مؤنة جاز , وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن علي
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 \ 333 -334 .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) تهذيب الأسماء واللغات 2 \ 149 .
(4) ج 4 ص354 -355 .
وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة . . ومالك والأوزاعي والشافعي ؛ لأنه قد يكون في ذلك زيادة , وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز , ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر . وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا إلى أن قال : والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منها , والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها , ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص . ا ه .
وقال الشيخ تقي الدين (1) : إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر , والمقترض في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض فيقترض منه ويكتب له (سفتجة ) أي ورقة إلى بلد المقترض فهذا يصح في أحد قولي العلماء , [ وقيل : نهي عنه لأنه قرض جر منفعة , والقرض إذا جر منفعة كان ربا , والصحيح الجواز ] لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد , وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد وأمن خطر الطريق فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض , والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم وإنما ينهى عما يضرهم . ا ه .
وبناء على ما اختاره هذان الإمامان من مذهب من يرى جواز هذه المعاملة يتضح أن التحويل عن طريق المصارف والبنوك من بلد إلى بلد عملية جائزة إذا خلت من أخذ المصرف أو البنك زيادة من العميل (2) , أما إذا أخذها فالمسألة موضع إشكال وتحتاج إلى دراسة متعمقة , والله أعلم .
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 \ 530 - 531 .(2/179)
(2) وهو ما يسمونه العمولة ، ويقولون : إنه بدل أتعاب وليس زيادة .
القرض بالفائدة :
علمنا مما سبق تحريم الفائدة المشترطة في القرض من الكتاب والسنة والإجماع , وأن ذلك يتناول أي فائدة يشترطها المقرض على المقترض ، فإن مقصود القرض إرفاق المقترض ونفعه ليس مقصوده المعاوضة والربح , ولهذا شبه بالعارية حتى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم منيحة ورق , فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل , فهو بمنزلة من تبرع لغيره بمنفعة ماله ثم استعاد العين (1) ، فعلى هذا يكون القرض بالفائدة الذي تنتهجه البنوك في العصر الحاضر هو الربا الصريح الذي حرمه الله ورسوله وترتب عليه الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة ، حيث تقوم تلك البنوك بعقد صفقات القروض بينها وبين ذوي الحاجات وأرباب التجارات وأصحاب المصانع والحرف المختلفة فتدفع لهؤلاء مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية وتزداد هذه النسبة في حالة التأخر عن السداد في الموعد المحدد فيجتمع بذلك ربا الفضل وربا النسيئة (2) , { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى ص 146 -147 ج 3 .
(2) بمعناه من المعاملات المصرفية وموقف الإسلام منها للشيخ سعود بن دريب ص51 -52 .
(3) سورة النور الآية 63
مقارنة بين ربا النسيئة وربا الفضل :
1 - ربا النسيئة ربا جلي وربا الفضل ربا خفي , وربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية , فكان الدائن يؤخر الدين عن المدين ويزيده عليه , وكلما أخر زاد الدين حتى تصير المائة آلافا مؤلفة .
2 - ربا النسيئة حرم قصدا لما فيه من الضرر العظيم , وهو إثقال كاهل المدين من غير فائدة تحصل له , وربا الفضل حرم لأنه وسيلة لربا النسيئة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما » , والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة , وذلك إذا باعوا درهما بدرهمين , ولا يفعل هذا إلا للتفاوت بين النوعين إما في الجودة أو غيرها , فإنهم يتدرجون من الربح المعجل إلى الربح المؤخر وهو ربا النسيئة (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين ص136ج 2 .
3 - ربا النسيئة مجمع على تحريمه إجماعا قطعيا , وربا الفضل وقع فيه خلاف ضعيف كما سبق .
4 - ربا النسيئة لم يبح منه شيء , وربا الفضل أبيح منه ما دعت الحاجة إليه , كذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين (1) , قال : لأن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد , وذكر من ذلك مسألتين :
المسألة الأولى : العرايا فإنها مستثناة من منع تحريم الرطب بالتمر الذي جاء النهي عنه في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم , فنهى عن ذلك » (2) ، فقد خصص من هذا الحديث بيع العرايا - وهي جمع عرية - فعيلة بمعنى مفعولة . وهي في اللغة : كل شيء أفرد من جملة , قال أبو عبيد : من عراه يعروه إذا قصده , ويحتمل أن يكون فعيلة بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثيابه , كأنها عريت من جملة التحريم - أي خرجت - وقال ابن عقيل هي في الشرع : بيع رطب في رءوس نخله بتمر كيلا - وهذا على الصحيح من مذهب الحنابلة : أن العرية مختصة بالرطب والتمر (3) - والدليل على تخصيص العرايا من حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر هو حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة - بيع الثمر بالتمر - إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم » (4) , وعن زيد بن ثابت : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا » (5) , رواه أحمد والبخاري .
وفي لفظ : « رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا » (6) - متفق عليه (7) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم استثناها مما نهى عنه من المزابنة أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر (8) , ويشترط لإباحة
__________
(1) إعلام الموقعين ص140 ج 2 .
(2) سنن الترمذي البيوع (1225),سنن أبو داود البيوع (3359),سنن ابن ماجه التجارات (2264),مسند أحمد بن حنبل (1/179),موطأ مالك البيوع (1316).
(3) المطلع على أبواب المقنع ص241 .
(4) صحيح البخاري المساقاة (2254),صحيح مسلم البيوع (1540),سنن الترمذي البيوع (1303),سنن النسائي البيوع (4543),سنن أبو داود البيوع (3363).
(5) صحيح البخاري البيوع (2076),صحيح مسلم البيوع (1539),سنن الترمذي البيوع (1300),سنن النسائي البيوع (4539),سنن أبو داود البيوع (3362),سنن ابن ماجه التجارات (2269),مسند أحمد بن حنبل (5/182),موطأ مالك البيوع (1307),سنن الدارمي البيوع (2558).
(6) صحيح البخاري البيوع (2079),صحيح مسلم البيوع (1540),سنن الترمذي البيوع (1303),سنن النسائي البيوع (4543),سنن أبو داود البيوع (3363).
(7) نيل الأوطار 5 \ 212 .
(8) مجموع الفتاوى 29 \ 427 .
بيع العرايا خمسة شروط هي :
1 - أن يبيعها خرصا بمثل ما تؤول إليه إذا جفت كيلا لا جزافا ؛ لأن الأصل اعتبار الكيل من الجانبين فسقط في أحدهما وأقيم الخرص مقامه للحاجة , فيبقى الآخر على مقتضى الأصل .
2 - أن يكون مقدار العرية فيما دون خمسة أوسق لقول أبي هريرة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أو خمسة أوسق » (1) .
شك داود بن الحصين (2) أحد رواته فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها .
والوسق : ستون صاعا بالصاع النبوي .
3 - أن يكون المشتري محتاجا إلى الرطب لما ذكره الشافعي في اختلاف الحديث عن محمود بن لبيد قال : قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ قال : فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه , وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا ، قال الشافعي : وحديث سفيان يدل لهذا فإن قوله : (يأكلونها رطبا ) يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها , وأنه ليس له رطب يأكله غيرها (3) .
4 - أن يكون مشتري العرية لا ثمن معه كما في حديث محمود بن لبيد المذكور .
5 - حصول التقابض (4) بين البائع والمشتري , فالمشتري يقبض الرطب على النخلة بالتخلية , والبائع يقبض التمر بكيله وتسلمه من المشتري .
المسألة الثانية : مسألة بيع الحلي المصاغ بذهب زائد على وزنه , قال الشيخ تقي الدين في الاختيارات الفقهية (5) : [ ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2253),صحيح مسلم البيوع (1541),سنن الترمذي البيوع (1301),سنن النسائي البيوع (4541),سنن أبو داود البيوع (3364),مسند أحمد بن حنبل (2/237),موطأ مالك البيوع (1308).
(2) فتح الباري 4 \ 388 .
(3) فتح الباري 4 \ 392 - 393 .
(4) انظر هذه الشروط في حاشية العنقري على شرح الزاد 2 \ 113 ، وكشاف القناع 3 \ 211 .
(5) ص127 .(2/180)
اشتراط التماثل , ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة سواء كان البيع حالا أو مؤجلا ما لم يقصد كونها ثمنا ] , ومعنى قوله : [ ما لم يقصد كونها ثمنا ] أي لم يقصد الثمنية في الحلي وإنما قصد كونه حليا يلبس كالثياب .
وقد أفاض العلامة ابن القيم في هذا الموضوع حيث قال (1) : " وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة " , والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه ، فلم يبق إلا أن يقال : لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة , فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك , والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب , وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر , والحيل باطلة في الشرع , وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب , وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه , فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع , فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس .
والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع , وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي , إلى أن قال : " يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان ، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان , كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها , فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها , ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي ) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل " , ومضى العلامة ابن القيم يبرر هذا الرأي حتى استغرق قرابة ست صفحات .
هذا حاصل رأي الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم في بيع الحلي من الذهب أو الفضة بجنسه مع زيادة -والمذهب أن ذلك لا يجوز - قال في الإقناع وشرحه (2) : فلا
__________
(1) إعلام الموقعين 2 \ 140 - 141 .
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع 3 \ 206 .
يجوز بيع مصنوع من الموزونات لم تخرجه الصناعة عن الوزن بجنسه إلا بمثله وزنا سواء ماثله في الصناعة أو لا ؛ لعموم الحديث , وجوز الشيخ بيع مصنوع مباح الاستعمال كخاتم ونحوه بيع بجنسه بقيمته حالا جعلا للزائد عن وزن الخاتم في مقابلة الصنعة فهو كالأجرة , وكذا جوزه (أي بيع خاتم بجنسه بقيمته نساء ) ما لم يقصد كونها ثمنا فإن قصد ذلك لم يجز النسأ . ا ه .
6 - الأشياء التي يجري فيها الربا :
هناك أشياء مجمع (1) على جريان الربا فيها وهي الأصناف الستة : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح , وما عدا هذه الأصناف فقد اختلف في جريان الربا فيه , ومنشأ هذا الخلاف يرجع إلى أنه هل يقاس على هذه الأصناف غيرها مما شاركها في العلة أو لا ؟ أو بعبارة أخرى : هل تحريم الربا في هذه الأشياء لمعنى فيها فيقاس عليها غيرها مما شاركها في هذا المعنى أو لأعيانها , وإذا كان لمعنى فيها فهل عرف ذلك المعنى .
أولا - إليك أقوالهم في ذلك :
القول الأول : أن تحريم الربا محصور في هذه الأشياء الستة لا يتجاوزها إلى غيرها , ويروى هذا القول عن قتادة وهو قول أهل الظاهر (2) وقال به أيضا طاوس وعثمان البتي وأبو سليمان (3) , قال ابن حزم بعد (4) أن ساق بعض الأدلة على تحريم الربا والوعيد عليه : فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليتجنب , وقال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (5) فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا أو من الحرام فهو ربا وحرام , وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال ؛ لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله تعالى ثم لم يفصله لنا ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } (6) وهذا كفر صريح ممن قال به , ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصيا لربه تعالى ؛ إذ أمره بالبيان فلم يبين فهذا كفر متيقن ممن أجازه . ا ه
__________
(1) المبدع ص128 ج 4 ، إعلام الموقعين ص136ج 2 .
(2) المبدع ص128 ج 4 ، إعلام الموقعين ص136ج 2 .
(3) المحلى ج 9 ص504 .
(4) المحلى ج 9 ص504 .
(5) سورة الأنعام الآية 119
(6) سورة الأنعام الآية 119
وهو كلام فيه قسوة وشدة كما هي عادة ابن حزم رحمه الله .
وممن اختار هذا القول الإمام الصنعاني حيث يقول في سبل السلام شرح بلوغ المرام (1) ما نصه : " ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور - علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها , وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها : (القول المجتبى ) . ا ه , واختاره من الحنابلة ابن عقيل (2) في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس , قال : لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة , وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس
القول الثاني : وهو قول جمهور العلماء أن الربا يتجاوز هذه الأصناف الستة إلى غيرها مما شاركها في العلة , قال الشوكاني في الدراري البهية (3) : (ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بثمر كيلا , وإن كان كرما أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله » (4) , وفي لفظ لمسلم : عن كل ثمر يخرصه , فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب , ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك , ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان » , وأخرجه أيضا الشافعي , وأبو داود في المراسيل , ووصله الدارقطني في الغرائب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد , وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة , وتبعه ابن عبد البر , وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار إلى أن قال : وله شاهد أقوى منه في رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ، ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه : عن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر يخرصه .
ولما اتفقوا على أنه يلحق بالأصناف المنصوصة ما شاركها في العلة ولم تكن تلك العلة منصوصة اختلفوا فيها على الأقوال التالية :
__________
(1) صفحة 8 ج 3 ط الاستقامة عام 1369ه .
(2) المبدع ص128 ج 4 ، وإعلام الموقعين ص136 ج 2 .
(3) ص105 .
(4) صحيح البخاري البيوع (2091),صحيح مسلم البيوع (1542),سنن النسائي البيوع (4549),سنن ابن ماجه التجارات (2265).
1 - علة الربا في النقدين :
اختلفوا في ذلك على قولين :(2/181)
القول الأول : أن العلة فيهما الوزن ، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه (1) ومذهب أبي حنيفة (2) فعلى هذا القول يجري الربا في كل موزون مطعوما كان أو غيره لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن » (3) , وعلى هذا لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضة لأنها غير موزونة .
القول الثاني : أن العلة فيهما الثمنية وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الثانية (4) , قال العلامة ابن القيم الثانية (5) . وهذا هو الصحيح بل الصواب , وعلل لذلك بأمرين :
الأمر الأول : أنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما من الموزونات ، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ , والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها .
الأمر الثاني : أن التعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية , فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات , والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأعمال . ا ه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : والأظهر أن العلة في ذلك هي الثمنية لا الوزن (6) , وبناء على هذا القول فإنه يجري الربا في الأوراق النقدية المتعامل بها في هذا العصر , وقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء حول هذا الموضوع ما نصه : (7) وحيث إن القول باعتبار
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ص137 ج 2 ، والمبدع ص128 ج 4 .
(2) بدائع الصنائع ص183 ج 5 .
(3) صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
(4) انظر مغني المحتاج ص25 ج 2 ، وبداية المجتهد ص129 ج 2 ، وإعلام الموقعين ص137 ج 2 .
(5) انظر مغني المحتاج ص25 ج 2 ، وبداية المجتهد ص129 ج 2 ، وإعلام الموقعين ص137 ج 2 .
(6) مجموع الفتاوى ص471 ج 29 .
(7) مجلة البحوث الإسلامية , المجلد الأول , رجب , شعبان , رمضان 1395ه .
مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة , وهو إحدى الروايات عن الأئمة : مالك وأبي حنيفة وأحمد , قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما , وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها : أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان , وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار , بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس , وأن الورق الأمريكي جنس , وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية :
أولا : جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس وهذا يقتضي ما يلي :
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا , فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة .
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد , فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا .
ج - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد , فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر , وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد , ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد ؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه , ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة .
ثانيا : وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة , أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها .
ثالثا : جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات . ا ه ، هذا ما قررته الهيئة وهو قرار يتسم بالوضوح وسلامة المبنى , حيث بني على القول الراجح باعتبار العلة في النقدين الثمنية فيتعدى ذلك إلى كل ما جعل أثمانا , لكن لم يتضح لي وجه اعتبار النقود الورقية إذا اختلفت جهات إصدارها أجناسا مختلفة يجوز فيها التفاضل , والقرار لم يوضح وجه ذلك , ولئن كان اختلاف الجنس واضحا بين نقود الذهب والفضة ونقود الورق لاختلاف مادة كل منها عن الأخرى فليس ذلك واضحا في نقود الورق التي هي من مادة واحدة اختلف اسمها فقط واختلفت جهة إصدارها , ولم نر لاختلاف الاسم والجهة أثرا في نقود الذهب والفضة لما كانت مادتهما واحدة , كما أن القرار اعتبرها متقومة في مسألة الزكاة كالعروض , فلم يتحرر له رأي فيها .
وبعض الباحثين من علماء العصر (1) يميل إلى جواز ربا الفضل في الأوراق النقدية دون ربا النسيئة , وبرر ذلك بعدة أمور :
1 - أن تحريم ربا الفضل إنما كان لأجل أنه وسيلة إلى ربا النسيئة .
2 - لأن بعض العلماء أجازه (أي ربا الفضل ) وإن كان محجوجا بالأدلة الشرعية .
3 - كون الأوراق غير منقودة حقيقية .
4 - أن كثيرا من الأصحاب رجح بيع الفلوس بعضها ببعض حاضرا بحاضر بدون شرط التماثل , ومنع بيع بعضها ببعض مؤجلا ومن بيعها بأحد النقدين مؤجلا , والفلوس إلى النقدين أقرب من الأنواط إلى النقدين .
5 - أن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا , وأجاز كثير من أهل العلم بيع حلي الذهب بذهب وحلي الفضة بفضة متفاضلا بين الحلي والسكة ، جعلا للصنعة أثرها من الثمنية والتقويم .
6 - الحاجة بل الاضطرار إلى هذه المسألة التي في كثير من الأقطار التي يضطر أهلها على الجري على القواعد المؤسسة عندهم في المعاملات التي لا يمكن للمعامل الخروج عنها مع كونه غير ربا النسيئة مع كون الأنواط غير جوهر الذهب والفضة
__________
(1) هو الشيخ عبد الرحمن السعدي ، انظر الفتاوى السعدية ص318 ، 327 -328 .
مع اختلاف أهل العلم في حكمها مما يسوغ هذا القول بل يرجحه . ا ه . هذا حاصل ما علل به لرأيه , والفرق بينه وبين ما في قرار هيئة كبار العلماء الذي سقناه قبل , أن قرار الهيئة أباح التفاضل في الأوراق النقدية بشرط اختلاف جهة الإصدار , وهذا الباحث أجازه مطلقا , وأن القرار اعتبر الأوراق النقدية نقودا مستقلة , وهذا الباحث اعتبرها بمنزلة الفلوس المعدنية , فالمسوغ للتفاضل فيها عنده هو كونها بمنزلة الفلوس , والمسوغ له عند الهيئة هو اختلاف جهة الإصدار باعتبارها اختلاف جنس .(2/182)
ويمكننا أن نناقش هذا الرأي بأنه ما دام يحرم ربا النسيئة في الأوراق النقدية فيلزمه أن يحرم ربا التفاضل فيها ؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة بناء على قاعدة سد الذرائع , والمعروف في الشرع أن الجنس الواحد من الربويات يحرم فيه ربا الفضل وربا النسيئة كالذهب بالذهب والفضة بالفضة فهكذا الورق النقدي ؛ لأنه جنس واحد والعلة فيه واحدة , والمبررات التي ذكرها - خصوصا دعوى الحاجة إلى جريان التفاضل في الأوراق - لا تكفي ؛ لأن مجرد دفع الحاجة لا يكفي مبررا لإباحة الشيء دون نظر إلى الضرر المترتب عليه , إذ من المعلوم أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة , وقوله : أن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا , وأجاز كثير من أهل العلم بيع الحلي من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلا .
يجاب عنه بأن العرايا قد استثناها النبي صلى الله عليه وسلم مما نهى عنه من المزابنة , وهي أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر ؛ لأنه إذا لم يعلم التماثل في ذلك لم يجز البيع , ولهذا يقول الفقهاء : الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، والتماثل يعلم بالوزن والكيل , وأما الخرص فيعمل به عند الحاجة , فالعرايا رخصة رخص فيها الشارع تقدر بما ورد به النص فقط , وليس فيها تفاضل محقق بل يجتهد في خرصها وتماثلها , فإن حصل بعد ذلك فيها تفاضل فهو غير متعمد , ثم هل بلغت الحاجة إلى التفاضل في الأوراق النقدية مبلغ الحاجة إلى العرايا التي رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأما مسألة إجازة بعض العلماء بيع الحلي المصوغ من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلا فهي مسألة اجتهادية تفتقر إلى دليل , ولا يصح أن تتخذ دليلا لما نحن فيه , والله أعلم .
2 - علة الربا في بقية الأصناف المنصوصة وهي البر والشعير والتمر والملح , اختلفوا في ذلك على أقوال :
القول الأول : أن علة ربا الفضل فيها الاقتيات والادخار وهذا قول المالكية (1) ، أي مجموع الأمرين فالطعام الربوي ما يقتات ويدخر , أي ما تقوم به البينة عند الاقتصار عليه ويدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة ولا يفسد بالتأخير (2) , وهل يشترط مع ذلك كونه متخذا لغلبة العيش بأن يكون غالب استعماله اقتيات الآدمي بالفعل كقمح وذرة أو لا يشترط كاللوبيا ؟ قولان عندهم والأكثر منهم على عدم اشتراط ذلك (3) , ووجه التعليل بالاقتيات والادخار أنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة (4) .
وعلة ربا النسأ عندهم مجرد الطعم لا على وجه التداوي , أي كونه مطعوما لآدمي فتدخل الفاكهة والخضر كبطيخ أو بقول كخس ونحو ذلك فيمنع بيع بعضها ببعض إلى أجل ولو تساويا , ويجوز التفاضل فيها في الجنس الواحد وغيره ، فعلة ربا النسأ مجرد الطعمية ، وجد الاقتيات والادخار أو لم يوجدا أو وجد أحدهما فقط (5) فهم يفرقون بين علة ربا الفضل وعلة ربا النسأ , قال العلامة القرطبي في تفسيره : (6) واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك , وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم ، والقطاني كالفول والعدس واللوبيا والحمص وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت والثمار كالعنب والزبيب والزيتون , واختلف في التين , ويلحق بها العسل والسكر فهذا كله يدخله الربا من جهة النسأ وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام : « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » (7) , ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضروات . ا ه .
__________
(1) الشرح الكبير ص37 - 38 ج 3 للدردير .
(2) الشرح الصغير ص37 ج 3 .
(3) الشرح الكبير ص42 ج 3 للمالكية .
(4) أضواء البيان ص247 ج 1 .
(5) الشرح الكبير ص42 ج 3 للمالكية . أضواء البيان ص247 ج 1 .
(6) ص353 ج 3 .
(7) صحيح مسلم المساقاة (1587),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
وهو كلام إذا عرضناه على المصادر التي نقلنا منها الكلام الذي قبله وجدناه يختلف بعض الاختلاف فلعله اختيار له .
وقد رجح العلامة ابن القيم قول مالك حيث قال : (1) [ وطائفة خصته ] أي جريان الربا في القوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه , ثم قال بعد ذلك : (2) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها ؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها , فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف , ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها .
وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها , وسر ذلك - والله أعلم - أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره , وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير لا سيما أهل العمود والبوادي , وإنما يتناقلون الطعام بالطعام , فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان ؛ إذ لو جوز لهم النسأ فيها لدخلها : (إما أن تقضي وإما أن تربي ) فيصير الصاع الواحد قفزانا كثيرة , ففطموا عن النسأ ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد ؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى تجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة .
القول الثاني : أن العلة في هذه الأربعة هي الطعمية - أي كونها مطعومة -وهذا قول الشافعي في الجديد , ورواية عن الإمام أحمد وهو الأظهر في مذهب الشافعية (3) , واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « الطعام بالطعام مثلا بمثل » (4) , قال معمر راوي الحديث : وكان طعامنا يومئذ الشعير (5) فدل على أن العلة الطعم وإن لم يكل ولم يوزن ؛ لأنه علق ذلك على الطعام وهو اسم مشتق , وتعليق الحكم على الاسم المشتق يدل على التعليل بما منه الاشتقاق .
__________
(1) إعلام الموقعين ص137 ج 2 .
(2) ص138 من الإعلام .
(3) مغني المحتاج ص22ج 2 ، وإعلام الموقعين ص137 ج 2 .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1592),مسند أحمد بن حنبل (6/401).
(5) رواه أحمد ومسلم ، المنتقى مع شرحه ص205 ج 5 .
والطعام : ما قصد للطعم بضم الطاء مصدر طعم بكسر العين , أي أكل غالبا , وذلك بأن يكون أظهر مقاصده الطعم وإن لم يؤكل إلا نادرا كالبلوط والطرثوث , وإن لم يكل ولم يوزن , وسواء أكل بقصد الاقتيات أو التفكه أو التداوي , فالبر والشعير المقصود منهما التقوت فألحق بهما ما في معناهما كالأرز والذرة , والتمر المقصود منه التفكه والتأدم , فألحق به ما في معناه كالتين والزبيب , والملح المقصود منه الإصلاح , فألحق به ما في معناه كالمصطكي والسقمونيا والطين الأرمني والزنجبيل , ولا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن , فإن الأغذية لحفظ الصحة , والأدوية لرد الصحة ، هذا حاصل هذا القول (1) لكن نوقش (2) الاستدلال له بالحديث السابق بأن راويه قال : وقد كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الطعام بالطعام مثلا بمثل » (3) , قال عقبة : (وكان طعامنا يومئذ الشعير ) ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير , وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام , فلا يعم لفظ الطعام الوارد في الحديث كل مطعوم ؛ لأنه خصص بالعرف , ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن التخصيص بالعرف موضع خلاف بين الأصوليين ليس محل وفاق .(2/183)
القول الثالث : أن العلة في الأربعة المذكورة كونها مكيلة , جنس فيتعدى الحكم فيها إلى كل مكيل ولو كان غير طعام كالجص والنورة والأشنان ، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه (4) وأبي حنيفة (5) واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا , وما كيل فمثل ذلك , فإذا اختلف النوعان فلا بأس به » وغيره من الأحاديث التي ورد فيها لفظ ( مثلا بمثل ) فإنه يدل على الضبط بالكيل والوزن , قال العلامة الشنقيطي (6) : وهذا القول أظهر دليلا . ا ه .
__________
(1) المنتقى مع شرحه ص205 ج 5 ..
(2) أضواء البيان ص249 ، 250 ج 1 .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1592),مسند أحمد بن حنبل (6/401).
(4) إعلام الموقعين ص136 ج 2 .
(5) بدائع الصنائع ص183 ج 5 .
(6) أضواء البيان 251 ج 2 .
فعلى هذا لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات , فتباع بيضة وخيارة وبطيخة ورمانة بمثلها (1) .
القول الرابع : وهو قول الشافعي في القديم (2) أن العلة فيها هي الطعمية مع الكيل أو الوزن , فالعلة فيها كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين , فعلى هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه مما لا يكال ولا يوزن (3) ولا فيما يكال أو يوزن لكنه غير مطعوم كالزعفران والأشنان والحديد والرصاص ونحوها , وهذا قول سعيد بن المسيب وهو أيضا رواية عن أحمد (4) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : (5) [ والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد رحمه الله ] . ا ه .
هذا حاصل آراء المذاهب الأربعة في علة الربا في الأصناف المنصوصة , وهناك آراء أخرى في هذه المسألة ذكرها العلامة الشنقيطي في تفسيره ، والإمام ابن حزم في المحلى فليراجعها من شاء .
وكنتيجة لما سبق من خلاف في تحديد العلة كل على مذهبه فيها نختم بالجملة التالية :
يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه على صحيح مسلم ( 11 \ 9 ): وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا ومؤجلا , وذلك كبيع الذهب بالحنطة وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل , وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل , وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب , وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير .
وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير , ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا إلا ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة . ا ه .
__________
(1) المبدع ص129 ج 4 .
(2) مغني المحتاج ص22ج 2 .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم ص9ج 11 .
(4) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص470 ج 29 ، وإعلام الموقعين ص137 ج 2 ، ج 9 .
(5) الاختيارات ص 127 , وانظر مجموع الفتاوى الوضع السابق .
7 - تحريم الوسائل والحيل الربوية :
الربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع , وكل وسيلة إلى الحرام فهي حرام , لكن قد أخبر صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته ستستحل الربا باسم البيع فقال : « يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع » ، والربا لم يحرم لمجرد لفظه بحيث إذا غير هذا اللفظ تغير حكمه وانتقل من التحريم إلى الإباحة , وإنما حرم لحقيقته ومعناه , وهذه الحقيقة موجودة رغم الحيل والمراوغات , وقد قال صلى الله عليه وسلم : « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » , والتحيل لا يرفع المفسدة التي حرم الربا من أجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا , قال العلامة ابن القيم (1) : وذلك من وجوه عديدة :
منها : أنه يقدم على مطالبة المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المرابي الصريح ؛ لأنه واثق بصورة العقد واسمه .
ومنها : اعتقاده أن ذلك تجارة مدارة حاضرة والنفوس أرغب شيء في التجارة ، ومن الذرائع التي حرمها الشارع لإفضائها إلى الربا :
1 - أنه نهى عن بيع الربوي بالربوي عن طريق الخرص والتخمين في تقديرهما أو تقدير أحدهما خشية من وقوع ربا الفضل , وقد ترجم لذلك العلماء بقولهم : الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل , ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره (2) بسنده عن جابر قال : لما نزلت { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله » (4) , ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض , والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض , والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض , إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا ؛ لأنه لا
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 367 .
(2) ص327 ج 1 .
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سنن أبو داود البيوع (3406).
يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف , ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة , ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه , وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم إلى أن قال : والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام , كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . انتهى كلام ابن كثير .
وقد عد المزارعة من وسائل الربا وهذا على قول من يحرمها , والمسألة خلافية كما هو موضح في كتب الفقه وشروح الحديث فليرجع إليها .
2 - نهى الشارع عن بيع العينة قال صلى الله عليه وسلم : « إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم » , وبيع العينة : أن يبيع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها ممن باعها منه بثمن حال أقل مما باعها به - سميت عينة لحصول النقد - لأن المشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده (1) ، فالقصد التفاضل في الدراهم وإنما جعلت السلعة وسيلة إلى ذلك .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : « يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع » (2) يعني العينة ؛ فإن مستحلها يسميها بيعا , وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع , فإن المسلم لا يستحل الربا الصريح وإنما قد يستحله باسم البيع وصورته .
والتعامل ببيع العينة إنما يقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربح في المائة ما أحب , فيبيعه المائة بضعفها بواسطة سلعة يعانها ، وكان الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل دين فيأتيه عند حلول الأجل فيقول له : إما أن تقضي وإما أن تربي , فإن قضاه وإلا زاد المدين في المال وزاد الغريم في الأجل , فيكون قد باع المال بأكثر منه إلى أجل , فأمرهم الله إذا تابوا أن لا يطالبوا إلا برأس المال , وأهل الحيل يقصدون ما يقصده أهل الجاهلية لكنهم يخادعون الله , ولهم طرق منها بيع العينة .
__________
(1) نفس المصدر باختصار .
(2) صحيح البخاري البيوع (1954),سنن النسائي البيوع (4454),مسند أحمد بن حنبل (2/435),سنن الدارمي البيوع (2536).(2/184)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (1) ومسألة العينة غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم , وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك . ا ه .
وأجازها الشافعي وأصحابه (2) أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وأبي هريرة : « بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (3) , والجمع هو التمر الرديء ، وقيل : هو التمر المجموع من أنواع مختلفة , والجنيب هو التمر الجيد (4) , ووجه الاستدلال أنه لم يخص بقوله : ثم اشتر بالدراهم جنيبا غير الذي باع له الجمع , واستدلوا بالاتفاق على أن من باع السلعة التي اشتراها ممن اشتراها منه بعد مدة فالبيع صحيح , فلا فرق بين التعجيل في ذلك والتأجيل , فيدل على أن المعتبر في ذلك وجود شرط في أصل العقد وعدمه فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطل (5) , وطرحوا الأحاديث الواردة في تحريم العينة (6) ، قال الصنعاني : (7) ولعلهم يقولون حديث العينة فيه مقال فلا ينتهض دليلا على التحريم .
والحق ما ذهب إليه الأكثر من تحريم بيع العينة , ويجاب عن استدلال المخالفين بحديث أبي سعيد وأبي هريرة بأنه عام فيخصص بأحاديث تحريم بيع العينة أو بأنه مطلق يجب تقييده بالأدلة الدالة على وجوب سد الذرائع , ويجاب عن الاستدلال الثاني بأنه إن صح ما ادعوه من الاتفاق على جواز بيع السلعة من بائعها الأول بعد مدة - أي بعد قبضه ثمنها - فلا نسلم قياس ما قبل القبض على ما بعده ؛ لأنه قياس في مقابلة نص فلا يصح , ويجاب عن طرحهم الاستدلال بأحاديث تحريم العينة لضعفها عندهم بأنها أحاديث يقوي بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فيحصل من مجموعها الدلالة الواضحة على تحريم العينة , قال شيخ الإسلام ابن تيمية (8) : فهذه أربعة أحاديث تبين أن
__________
(1) مجموع الفتاوى ص446ج 29 .
(2) نيل الأوطار ص 220 ج 5 , وشرح النووي على صحيح مسلم 11 \ 21 .
(3) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),مسند أحمد بن حنبل (3/60),موطأ مالك البيوع (1314),سنن الدارمي البيوع (2577).
(4) انظر سبل السلام ص9 ج 3 .
(5) فتح الباري ص401 ج 4 .
(6) نيل الأوطار ص220 ج 5 .
(7) سبل السلام ص 14 - 15 ج 3 .
(8) مجموع الفتاوى الكبرى ص 135 - 136 ج 3 .
رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا - يعني بيع العينة . حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة , وقد فسرت في الحديث المرسل بأنها من الربا , وفي حديث أنس وابن عباس بأنها بيع حريرة , مثلا بمائة إلى أجل ثم يبتاعها بدون ذلك نقدا , وقالوا : هو دراهم بدراهم وبينهما حريرة , وحديث أنس وابن عباس أيضا : هذا ما حرم الله ورسوله , والحديث المرسل الذي له ما يوافقه أو الذي عمل به السلف حجة باتفاق الفقهاء , وحديث عائشة : أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب يعني لما تعاطى بيع العينة ، ومعلوم أن هذا قطع بالتحريم وتغليظ له , ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة .
واستحلال مثل هذا كفر ؛ لأنه من الربا واستحلال الربا كفر , لكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم , ولهذا أمرت بإبلاغه , فمن بلغه التحريم وتبين له ذلك ثم أصر عليه لزمه هذا الحكم , وإن لم تكن قصدت هذا فإنها قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فما كأنه عمل شيئا . ا ه .
3 - التورق - وهو أن يحتاج إلى نقد فلم يجد من يقرضه فيشتري سلعة ليبيعها من غير بائعها الأول , ويأخذ ثمنها ليدفع به حاجته فليس به حاجة إلى نفس السلعة وإنما حاجته إلى ثمنها , فيأخذ مثلا ما قيمته مائة بمائة وعشرين مؤجلا ليبيعها ويرتفق بثمنها ، والفرق بينها وبين العينة أن يبيعها من غير من اشتراها منه ، وسميت هذه المسألة بمسألة التورق ؛ لأن المقصود منها الورق .
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين : قول بالجواز ؛ لأنها لم تعد إلى البائع بحال بل باعها المشتري لآخر , فلا تدخل في مسألة العينة ، وهو قول إياس بن معاوية ورواية عن الإمام أحمد .
والقول الثاني : كراهة مسألة التورق , وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد وقول عمر بن عبد العزيز , واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (1) ، فعلى هذا القول تعتبر من وسائل الربا , قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم
__________
(1) مجموع الفتاوى ص 434 ج 29 ، وتهذيب السنن ص 108 ج 5 .
أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل , وهذا المعنى موجود في هذه الصورة , وإنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى , وإنما الذي أباحه الله البيع والتجارة وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها , فأما إذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم أكثر منها فهذا لا خير فيه .
وقال في الاختيارات (1) : وتحرم مسألة التورق وهو رواية عن أحمد , وقال العلامة ابن القيم : تهذيب سنن أبي داود ص108 ج 5 . وعلل الكراهة بأنه بيع مضطر , وقد روى أبو داود عن علي : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر » (2) , وفي المسند عن علي قال : سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك , قال تعالى : { وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } (3) (4) , ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وذكر الحديث , فأحمد - رحمه الله تعالى - أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد ؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض , فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها , فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة , وإن باعها من غيره فهي التورق , ومقصوده في الموضعين الثمن , فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه , ولا معنى للربا إلا هذا , لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة , ولو لم يقصده كان ربا بسهولة . ا ه .
والذي يظهر لي جواز مسألة التورق إذا حصلت من غير تواطؤ مع طرف ثالث وهو المشتري الأخير ؛ لأنها حينئذ تفترق عن العينة , وكذلك لا بد أن تكون السلعة موجودة في ملك البائع الأول حين العقد , والله أعلم .
4 - النهي عن بيع كل رطب من حب وتمر بيابسه , عن سعد بن أبي وقاص قال : « سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب فقال لمن حوله : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم فنهى عن ذلك » (5) , قال الشوكاني : (6) قوله : (أينقص ) الاستفهام هاهنا ليس المراد به حقيقته - أعني طلب الفهم - لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بأنه ينقص إذا يبس بل المراد تنبيه السامع بأن هذا الوصف الذي وقع عنه الاستفهام هو علة النهي , ومن المشعرات
__________
(1) ص129 .
(2) سنن أبو داود البيوع (3382),مسند أحمد بن حنبل (1/116).
(3) سورة البقرة الآية 237
(4) البقرة من آية 237 .
(5) سنن الترمذي البيوع (1225),سنن النسائي البيوع (4545),سنن أبو داود البيوع (3359),سنن ابن ماجه التجارات (2264),مسند أحمد بن حنبل (1/179),موطأ مالك البيوع (1316).
(6) نفس المصدر .
بذلك الفاء في قوله : (فنهى عن ذلك ) , ويستفاد من هذا عدم جواز بيع الرطب بالرطب ؛ لأن نقص كل واحد منهما لا يحصل العلم بأنه مثل نقص الآخر , وما كان كذلك فهو مظنة الربا . ا ه .(2/185)
وقال الخطابي في معالم السنن (1) : وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة ولجفافه نهاية فإنه لا يجوز رطبه بيابسه كالعنب والزبيب واللحم النيئ بالقديد ونحوهما , وكذلك على هذا المعنى لا يجوز منه الرطب بالرطب كالعنب بالعنب والرطب بالرطب ؛ لأن اعتبار المماثلة إنما يصح فيهما عند أوان الجفاف , وهما إذا تناهى جفافهما كانا مختلفين ؛ لأن أحدهما قد يكون أرق رقة وأكثر مائية من الآخر , فالجفاف ينال منه أكثر , وتتفاوت مقاديرهما في الكيل عند المماثلة ، إلى أن قال : وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن بيع الرطب بالتمر غير جائز , وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل , وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن , وعن أبي حنيفة (2) جواز بيع الرطب بالتمر نقدا . ا ه .
وقال ابن رشد في بداية المجتهد (3) : وأما اختلافهم في بيع الربوي الرطب بجنسه من اليابس مع وجود التماثل في القدر والتناجز فإن السبب في ذلك ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أينقص الرطب إذا جف ؟ فقالوا : نعم , فنهى عن ذلك » (4) فأخذ به أكثر العلماء ، وقال : لا يجوز بيع التمر بالرطب على حال - مالك والشافعي وغيرهما - وقال أبو حنيفة يجوز ذلك ، وخالفه في ذلك صاحباه . . وسبب الخلاف معارضة ظاهر حديث عبادة وغيره له , واختلافهم في تصحيحه , وذلك أن حديث عبادة اشترط في الجواز فقط المماثلة والمساواة , وهذا يقتضي بظاهره حال العقد لا حال المآل , فمن غلب ظواهر أحاديث الربويات رد هذا الحديث , ومن جعل هذا الحديث أصلا بنفسه قال : هو أمر زائد ومفسر لأحاديث الربويات . ا ه .
قال صاحب بدائع الصنائع من الحنفية (5) ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - الكتاب الكريم
__________
(1) ص33ج 5 من التهذيب .
(2) بدائع الصنائع ص188 ج 5 .
(3) ص138 ج 2 .
(4) سنن الترمذي البيوع (1225),سنن أبو داود البيوع (3359),سنن ابن ماجه التجارات (2264),مسند أحمد بن حنبل (1/179),موطأ مالك البيوع (1316).
(5) ص188 ج 5 .
والسنة المشهورة ، أما الكتاب فعمومات البيع من نحو قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (1) , وقوله عز شأنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (2) .
فظاهر النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل , وقد خص البيع متفاضلا على المعيار الشرعي فبقي البيع متساويا على ظاهر العموم . وأما السنة المشهورة فحديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما حيث جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر مثلا بمثل , عاما مطلقا من غير تخصيص وتقييد , ولا شك أن اسم الحنطة والشعير يقع على كل جنس الحنطة والشعير على اختلاف أنواعهما وأوصافهما , وكذلك اسم التمر يقع على الرطب والبسر ؛ لأنه اسم لتمر النخل لغة , فيدخل فيه الرطب واليابس والمذنب والبسر والمنقع . ا ه .
ولا شك أن الحق ما ذهب إليه الأكثر والأئمة الثلاثة من عدم جواز بيع الرطب باليابس ؛ لأن غاية ما تمسك به الإمام أبو حنيفة رحمه الله عمومات تخصص بحديث النهي عن بيع الرطب باليابس مع وجوب سد الذريعة المفضية إلى الربا ، والله أعلم .
5 - النهي عن بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما , ويترجم له الفقهاء بمسألة - مد عجوة - لأن من صوره أن يبيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ونحو ذلك , والأصل فيها « حديث فضالة بن عبيد قال : اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا يباع حتى يفصل » (3) رواه مسلم (4) , قال النووي : في هذا الحديث إنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل فيباع الذهب بوزنه ذهبا , ويباع الآخر بما أراد , وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة , وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة والملح مع غيره بملح , وكذا سائر الربويات , بل لا بد من فصلها (5) , وقال شيخ الإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 29
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3352),مسند أحمد بن حنبل (6/21).
(4) صحيح مسلم مع شرح النووي (11 \ 18 ) .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم الموضع السابق .
ابن تيمية : وأصل مسألة مد عجوة (1) أن يبيع مالا ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما , فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : المنع مطلقا كما هو مذهب الشافعي (2) ورواية عن أحمد (3) .
والثاني : الجواز مطلقا كقول أبي حنيفة (4) , ويذكر رواية عن أحمد .
والثالث : الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا أو لا يكون وهذا مذهب مالك (5) وأحمد (6) في المشهور عنه ، ثم رجح القول الثالث حيث قال : فإن الصواب في مثل هذا القول بالتحريم كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد , وإلا فلا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى القليل شيئا من هذا (7) . انتهى .
__________
(1) قال في القاموس 4 \ 359 : والعجوة بالحجاز التمر المحشي وتمر المدينة .
(2) مجموع الفتاوى 29 \ 457- 458 ، وانظر مغني المحتاج 2 \ 28 .
(3) انظر الإنصاف 5 \ 33 - 34 .
(4) انظر حاشية ابن عابدين 4 \ 239 .
(5) انظر بداية المجتهد لابن رشد 2 \ 195 .
(6) انظر الإنصاف 5 \ 33 - 34 .
(7) مجموع الفتاوى 29 \ 457 - 458 ، 461 .
ماذا يفعل من تاب من الربا ؟
التوبة مطلوبة وواجبة على العبد من كل ذنب في أسرع وقت ممكن قبل فوات أوانها , قال الله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (1) { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (2) , والربا من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله فهو أحد السبع الموبقات , فتجب المبادرة بالتوبة منه على من كان يتعاطاه , فإذا من الله على المرابي فوفقه فتاب وقد تعامل بالربا فماذا يفعل للتخلص من أموال الربا ؟ إنه لا يخلو من إحدى حالتين :
__________
(1) سورة النساء الآية 17
(2) سورة النساء الآية 18(2/186)
الحالة الأولى : أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه بعد , ففي هذه الحالة قد أرشده الله تعالى إلى أن يسترجع رأس ماله , ويترك ما زاد عليه من الربا فلا يستوفيه ممن هو في ذمته , قال الله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (1) قال الإمام القرطبي رحمه الله : روى أبو داود (2) عن سليمان بن عمر عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : « ألا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع , لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (3) , فردهم تعالى مع التوبة إلى رءوس أموالهم وقال لهم : لا تظلمون في أخذ الربا , ولا تظلمون في مطل ؛ لأن مطل الغني ظلم , فالمعنى : أنه يكون القضاء مع وضع الربا إلى أن قال : قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (4) تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه (5) , وقال الإمام ابن القيم : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (6) يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رءوس أموالكم لا تزادون عليها فتظلمون الآخذ , ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها , فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة , وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم (7) , وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه على أن التراضي بين الطرفين على فعل محرم لا يبيحه قال : وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه ، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره (8) , وقال أيضا : وهذا المرابي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره , فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها , لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل يعفى عنه , وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (9) , والله أعلم (10) .
الحالة الثانية : أن يكون التائب من الربا قد قبضه وتجمعت عنده أموال منه والفتوى
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سنن أبي داود .
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود البيوع (3334),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) تفسير القرطبي (3 \ 365) .
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) التفسير القيم لابن القيم (172 - 173 ) .
(8) مجموع الفتاوى 151 \ 126 .
(9) سورة البقرة الآية 278
(10) مجموع الفتاوى (29 \ 437 ) .
في هذا خطيرة جدا ، وأنا أنقل في هذا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال : قاعدة في المقبوض بعقد فاسد , وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه ، أو لا يعتقد الفساد ، فالأول يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه ، لكنه بشبهة العقد وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف ؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد ؟ وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام مثل بيع الخمر والربا والخنزير , فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) فأمر بترك ما بقي وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد ووجب رد المال إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا , والأصل فيه قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (2) إلى قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (3) أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام , وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رءوس الأموال , فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه ، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ , وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال , ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض , ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام ؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته , وذلك العقد أوجب ذلك القبض , فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة , وذلك خلاف ما تقدم , وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل , ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته , ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بيعها , فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقض بعد ذلك لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
انتهى (1) , وحاصل هذه القاعدة أن الشيخ يفرق بين من قبض مالا بعقد فاسد يعتقد صحته كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه أو تحاكمه إلينا ، وكالمسلم إذا عقد عقدا مختلفا فيه بين العلماء وهو يرى صحته ، فهذا النوع من المتعاقدين يملك ما قبضه .
أما من تعامل بعقد مختلف في تحريمه وهو لا يرى صحته أو بعقد مجمع على تحريمه , فما قبضه بموجب ذلك العقد فهو فيه كالغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه , ويقرب مما ذكره الشيخ ما قاله ابن القيم في كسب الزانية حيث قال : فإن قيل : ما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت , هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها أم تتصدق به ؟ قيل : هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام , وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه , فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه , فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه ، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته , فإن تعذر ذلك تصدق به عنه . . إلى أن قال : وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض عن خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع ؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم , فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض , فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه . . إلى أن قال : ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث . . . فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به ، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة , ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع , فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام , ولا يجب رده على دافعه (2) . انتهى .(2/187)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (3) : على قول الأصحاب المقبوض بعقد فاسد إنه مضمون على القابض كالمغصوب : أقول واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون , وأنه يصح التصرف فيه ؛ لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة , وإنما أمر برد الربا الذي لم يقبض , وأنه قبض برضى مالكه فلا يشبه المغصوب , ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على
__________
(1) مجموع الفتاوى (29 \ 411 - 412 ) .
(2) زاد المعاد (4 \ 779 \ 780 ).
(3) الفتاوى السعدية ص303 .
رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت والله أعلم , وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار على قوله تعالى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1) أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم , بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (2) يحكم فيه بعدله , ومن العدل أن لا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه (3) . انتهى , أقول : ولعلنا من هذه النقول نستفيد أن من تاب من الربا وعنده أموال مجتمعة منه , فإن من مقتضى التوبة الإمساك والتوقف عن التعامل بالربا إلى الأبد ، ولا يرد الأموال الربوية إلى من أخذها منهم ؛ لأن هذا يعينهم على المراباة مع غيره بحيث يستغلونه في ذلك ، ولا يأكل هذه الأموال الربوية ؛ لأنه من كسب خبيث , ولكن يتخلص منها بالتصدق بها أو جعلها في مشاريع خيرية .
وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4) جواب للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه - الله قال فيه : (إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض فيظهر مما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله - في آية الربا في قوله تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (5) فاقتضى أن السالف للقابض , وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر , وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب والعقوبة عليه أمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له وإلا عاقبه ثم قال : { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (6) فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض , وقال : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (7) إلا أنه يستثنى منها ما قبض وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافرا بالربا وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكافر بالعقود التي يعتقدون حلها , وأما المسلم فله ثلاثة أحوال : تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد ، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم ، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) تفسير المنار (3 \ 97 \ 98 ) .
(4) ج 5 ص71 - 72 .
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 279
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك محرم قيل : يرد ما قبض كالغاصب ، وقيل : لا يرده وهو أصح إذا كان معتقدا أن ذلك حلال , والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية ، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر الله ما استحله , ويباح له ما قبضه ، فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر له .
إذا فمن أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله , وأما المسلم الجاهل فهو أبعد , لكن ينبغي أن يكون كذلك فليس هو شرا من الكافر , وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء ؟ على قولين أظهرهما لا قضاء عليه , إلى أن قال : فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ثم علمه لم يعاقب , وإذا عامل بمعاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ولا يكون شرا من الكافر , والكافر إذا غفر له ما قبضه لكونه قد تاب فالمسلم بطريق الأولى , والقرآن يدل على هذا بقول : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1) وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى , فقد جعل الله له ما سلف - انتهى - لكن هذا الكلام ينصب على الكافر إذا أسلم وعنده أموال قد قبضها بطريق التعامل الربوي ، والمسلم الذي تعامل ببعض المعاملات المختلف فيها هل هي من الربا أو لا ؟ أو لكونه يجهل الربا وقبض بموجبها ما لا تحصل لديه ثم تبين له أنها من الربا وتاب منها , وتبقى قضية المسلم الذي تعامل بالربا متعمدا وهو يعلم أنه ربا ثم تاب منه وقد تحصل لديه منه مال فهذا موضع الإشكال , ولعل الحل لهذا الإشكال أن يتصدق به ولا يرده للمرابين كما ذكره ابن القيم في الكلام الذي نقلناه عنه في مهر البغي , والله أعلم .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
الخاتمة والفهارس
الخاتمة :
تبين لنا مما سبق شدة تحريم الربا وخطورته , وأن آكله والمعين على أكله كلاهما ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الوسائل المفضية إليه تأخذ حكمه في التحريم والإثم ، وأن من استباحه فهو كافر , ومن أكله مع الإقرار بتحريمه فهو فاسق ، وقد عرفنا ما هو الربا وما هي الأشياء التي يدخلها .
فيجب على المسلم الابتعاد عنه والتحرز منه ؛ لأنه قد كثر الوقوع فيه في هذا الزمان لما طغت المادة وضعف المسلمون وفشا الجهل بأحكام الدين , وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : « ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا , فمن لم يأكله أصابه من غباره » (1) , قال المناوي (2) في شرح هذا الحديث : ( ليأتين ) اللام جواب لقسم محذوف , ( على الناس زمان لا يبقى منهم ) أي من الناس , ( أحد إلا أكل الربا ) الخالص , ( فإن لم يأكله أصابه من غباره ) أي يحيق به ويصل إليه من أثره بأن يكون موكلا أو متوسطا فيه أو كاتبا أو شاهدا أو معامل المرابي أو من عامل معه وخلط ماله بماله , ذكره البيضاوي إلى أن قال : وفي رواية : ( من بخاره ) وهو ما ارتفع من الماء من الغليان كالدخان والماء لا يغلي إلا بنار توقد تحته , ولما كان المال المأكول من الربا يصير نارا يوم القيامة يغلي منه دماغ آكله , ويخرج منه بخار ناسب جعل البخار من أكل الربا ، والبخار والغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من حضر وإن لم يأكل . ووجه النسبة بينهما أن الغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من حضر وإن لم يكن هو أثاره , كما يصيب البخار إذا انتشر من حضر وإن لم يتسبب فيه , وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم , فإن من تأمل حال الناس اليوم أدرك مصداق هذا الحديث الشريف . وذلك أنه لما فاضت الأموال وتضخمت في أيدي كثير من الناس وضعوها في البنوك الربوية فأصابهم من الربا ما أصابهم , فمنهم من أكله , ومنهم من لم يأكله لكن أعان على أكله فأصابه من غباره , والله المستعان , اللهم أغننا بحلالك عن حرامك , واكفنا بفضلك عمن سواك , وقنعنا بما رزقتنا , وبارك لنا فيما أعطيتنا .
والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
__________(2/188)
(1) سنن النسائي البيوع (4455),سنن أبو داود البيوع (3331),سنن ابن ماجه التجارات (2278).
(2) فيض القدير ( 5 \ 346 ) .
المراجع
1 - القرآن الكريم .
2 - تفسير ابن جرير .
3 - تفسير ابن كثير .
4 - تفسير القرطبي .
5 - التفسير القيم لابن القيم .
6 - أضواء البيان للشنقيطي .
7 - تفسير المنار .
8 - صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري .
9 - صحيح مسلم مع شرح النووي .
10 - نيل الأوطار للشوكاني .
11 - الزواجر لابن حجر الهيتمي .
12 - المعاملات المصرفية لابن دريب .
13 - الروضة الندية للشيخ محمد بن إبراهيم .
14 - الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ محمد رشيد رضا .
15 - مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .
16 - إعلام الموقعين لابن القيم .
17 - زاد المعاد لابن القيم .
18 - القاموس المحيط في اللغة .
19 - مغني المحتاج في الفقه .
20 - المبدع شرح المقنع .
21 - بداية المجتهد لابن رشد .
22 - الاختيارات الفقهية .
23 - إغاثة اللهفان لابن القيم .
24 - الكافي لابن عبد البر .
25 - المحلى لابن حزم .
26 - سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني .
27 - بدائع الصنائع في الفقه .
28 - مجلة البحوث الإسلامية .
29 - الفتاوى السعدية .
30 - الشرح الكبير للدردير .
31 - الشرح الصغير .
32 - تهذيب سنن أبي داود لابن القيم .
33 - فتح القدير فقه حنفي .
34 - كشاف القناع عن متن الإقناع .
35 - تهذيب الأسماء واللغات للنووي .
================
الربا في ضوء الكتاب والسنة
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 11 / ص 191)
الشيخ عبد الله عبد الغني الخياط
من مواليد مكة المكرمة ، تلقى علومه الأولية في مدينة الخياط بمكة مكرمة ، ودرس المنهج الثانوي في المدرسة الراقية ، تخرج في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة ، ودرس على المشايخ في المسجد الحرام وغيره .
عمل مديرا للمدرسة الفيصلية بمكة المكرمة ، فمديرا لمدرسة الأمراء أنجال الملك عبد العزيز ، فمستشارا لوزارة المعارف بمكة ، ثم مشرفا على إدارة التعليم ومديرا لكلية الشريعة بمكة المكرمة .
يعمل عضوا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخطيبا بالمسجد الحرام ، وعضوا في هيئة كبار العلماء وعضوا في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي .
من مؤلفاته : اعتقاد السلف - دليل المسلم - ما يجب أن يعرف المسلم عن دينه - الخطب في المسجد الحرام - الرواد الثلاثة - صحائف مطوية - حكم وأحكام من السيرة النبوية - تأملات في دروب الحق والباطل
الربا في ضوء الكتاب والسنة
بقلم الشيخ عبد الله عبد الغني خياط
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (2) .
تقديم
الإسلام دين العمل والكد ، وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ ، وبقدر ما يغرس يحظى بالثمار ، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه دون عناء وبذل جهد ، فليس ذلك من دين الإسلام ، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام وحض عليه ورغب فيه ، ألا ترى كيف توحي الآية الكريمة التالية وأمثالها بمزاولة العمل بعد أداء فريضة الله ابتغاء رزق الله ، ودفعا للتبطل ، يقول الله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (3) { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة الجمعة الآية 9
(4) سورة الجمعة الآية 10
فالأمر بالانتشار في الأرض قرنه سبحانه بالفريضة التي هي عماد الدين ، وفتح الأنظار للاتجاه إليه والأخذ كمقوم للحياة ترتكز عليه ، وجاء في الحديث : « ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده » (1) ، وفي حديث آخر يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفقير جاء يطلب مددا من المال : « لئن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلا يعطيه أو يمنعه » (2) .
هذه مقدمة وضعناها بين يدي بحث اليوم لنركز في الأذهان أن الربا تبطل وقعود عن الكسب المشروع ، واستمراء لحياة رتيبة لا نصب فيها ولا كد ولا عناء أو جهد ، بل يعيش صاحبها على حساب الآخرين يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم ، ويجعلهم كالأجراء يعملون له ، وليتهم يأخذون أجرا على عملهم ، وإنما يأكلون من فتات المائدة لو فضل من المائدة فتات ، وسوف نسير - إن شاء الله - في كتابة هذا البحث على المخطط الذي رسمناه له على ضوء الكتاب والسنة ، فنبدأ أولا بتعريف الربا لغة وشرعا ، ( 2 ) الربا في آي الكتاب العزيز ، ( 3 ) الربا في السنة ، ( 4 ) حكم الربا في الإسلام ، ويشتمل هذا المبحث على : -
أ - مضار الربا .
ب - تحريم الربا .
ج - أنواع الربا وحكم كل نوع .
د - وسائل القضاء على الربا ويتفرع عنه ما يأتي :
1 - القرض الحسن .
2 - الحض على التعاون لصالح الفرد والمجتمع ، وهذا التعاون يترجم عنه التعاون الصناعي والتعاون الزراعي التعاون الاجتماعي .
3 - خطر الربا الاستهلاكي والإنتاجي .
4 - خاتمة .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (1966),سنن ابن ماجه التجارات (2138),مسند أحمد بن حنبل (4/132).
(2) صحيح البخاري الزكاة (1401),صحيح مسلم الزكاة (1042),سنن الترمذي الزكاة (680),سنن النسائي الزكاة (2589),مسند أحمد بن حنبل (2/300),موطأ مالك الجامع (1883).
تعريف الربا لغة وشرعا
أما التعريف اللغوي فهو : الزيادة على الشيء ومنه (أربى فلان على فلان ) إذا زاد عليه (وربا الشيء) إذا زاد على ما كان عليه فعظم (فهو يربو ربوا) ، وإنما قيل للرابية (رابية) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم (ربا يربو) ، ومن ذلك قيل (فلان في رباوة قومه) يراد أنه في رفعة وشرف منهم فأصل الربا الأناقة والزيادة , ثم يقال : (أربى فلان) أي أناف ماله حين صيره زائدا وإنما قيل للمربي (مرب) لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه ولذلك قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (1) (2) .
وأما تعريف الربا في الشرع فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النسء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال : « إنما الربا في النسيئة » (3) ، وقال عمر بن الخطاب إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة .(2/189)
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر ؛ لأنه كان عالما بأسماء اللغة ؛ ولأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نسء ربا ، وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الإسلام موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) آل عمران ، من الآية 130 ، تفسير الطبري ج 6 ص7 .
(3) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200),سنن الدارمي البيوع (2580).
(4) أحكام القرآن ج1 ص551 - 552 .
مبحث الربا في الكتاب العزيز
ننتقل بعد هذا البسط في مدلول الربا لغة وشرعا إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الربا موضحا قال تعالى في سورة البقرة { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (2) { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (4) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (5) { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (6) { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (7) .
تفسير الآيات
يقول الحافظ ابن كثير - يرحمه الله- : " لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين للنفقات المخرجين للزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (8) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك أنه يقوم قياما منكرا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق . رواه ابن أبي حاتم ، ونقل- أي ابن كثير - عن بعض مفسري السلف نحو هذا المعنى , ثم استمر يرحمه الله في نقل الروايات عن مفسري السلف في أن قيامهم على الوضع المذكور يكون يوم القيامة ونقل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 277
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 280
(7) سورة البقرة الآية 281
(8) سورة البقرة الآية 275
عن ابن جرير بالسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (1) الآية وذلك حين يقوم من قبره (2) , وجاء في "فتح القدير" عند تفسير قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (3) قوله : اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل ، وقوله : { لَا يَقُومُونَ } (4) أي يوم القيامة كما يدل عليه قراءة ابن مسعود وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر ، وقيل : المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون كما يقال لمن يسرع في مشية ويضطرب في حركاتها : إنه قد جن , ومنه قول الأعشى :
وتصبح من غب السرى وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أولق
فجعلها - أي ناقته - بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون ، وقوله : { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } (5) أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه , والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع , والمس : الجنون , والأمس : المجنون , وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } (6) أو متعلق بيقوم , وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع , وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان وليس بصحيح وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان .
كما أخرجه النسائي وغيره قوله ذلك إشارة إلى ما ذكر من مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا , أي : إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك فرد الله عليهم بقوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (7) أي أن الله أحل البيع وحرم نوعا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا . والبيع
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) تفسير ابن كثير , ج2 ص 54-55 .
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 275
(7) سورة البقرة الآية 275(2/190)
مصدر باع يبيع أي دفع عوضا وأخذ معوضا ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب ، قوله : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ } (1) أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا فانتهى أي : فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف ، أي : قوله : فانتهى على قوله : جاءه وقوله : من ربه متعلق بقوله : (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي كائنة من من ربه فله ما سلف أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا ، وقوله : { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (2) قيل : الضمير عائد إلى الربا ، أي : وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمراره ذلك التحريم , وقيل الضمير يرجع إلى المرابي , أي : أمر من عاد بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية ومن عاد إلى أكل الربا والمعاملة به { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (3) والإشارة إلى من عاد ، وجمع أصحاب باعتبار معنى من ، وقيل إن معنى من عاد هو أن يعود إلى القول { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (4) وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود , وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد [أي : طويل البقاء] ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } (5) أي يذهب بركته في الدنيا ، وإن كان كثيرا فلا يبقى بيد صاحبه . وقيل : يمحق بركته في الآخرة , قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (6)
قوله : اتقوا قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا , وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا ، قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (7) قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ، وقيل : إن إن في هذه الآية بمعنى (إذ) قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه ، قوله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } (8) يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (9) أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به , وقيل هو من الأذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طريق العلم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك , وتنكير الحرب للتعظيم وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 276
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 279
(9) سورة البقرة الآية 279
الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته ، قوله فإن تبتم أي من الربا { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1) تأخذونها { لَا تَظْلِمُونَ } (2) غرماءكم بأخذ الزيادة { وَلَا تُظْلَمُونَ } (3) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص , والجملة حالية أو استثنائية وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم ، قوله : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } (4) لما حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى يسار , [والعسرة] ضيق الحال من جهة عدم المال , ومنه جيش العسرة , [والنظرة] التأخير , [والميسرة] مصدر بمعنى اليسر وارتفع ذو بكان التامة بمعنى وجد ، واستمر في شرحه لرفع ذو ثم أورد رواية للمعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان : "إن كان ذا عسرة" قال النحاس ومكي والنقاش وعلي : هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين وإليه ذهب الجمهور .
قوله : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا } (5) بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد أي : وأن تصدقوا على معسر غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من الإنظار قاله السدي .
ونقل ابن جرير الطبري في تفسيره أن المراد : التصدق برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم قال : ( وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه ) (6) .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (7) جوابه محذوف أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به ، قوله : { وَاتَّقُوا يَوْمًا } (8) هو يوم القيامة ، وتنكيره للتهويل ، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف ، قوله { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } (9) وصف له , وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم قوله إلى الله وفيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ } (10) من النفوس المكلفة ما كسبت أي : جزاء ما عملت من خير أو شر وجملة { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (11) حالية , وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء , كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب ,
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 280
(6) تفسير الطبري ,ج6 ص 35 .
(7) سورة البقرة الآية 280
(8) سورة البقرة الآية 281
(9) سورة البقرة الآية 281
(10) سورة البقرة الآية 281
(11) سورة البقرة الآية 281(2/191)
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس , وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (1) قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا . فأنزل الله هذه الآية , وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع , فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة , وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية , فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (2) فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال : إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب , وبسند ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } (3) قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه , وأخرجوا أيضا عنه في قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } (4) قال : استيقنوا بحرب ، وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع , لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس » (5) . وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (6) وبالسند عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } (7) قال : نزلت في الربا ، وأخرج عبد الرزاق بالسند عن ابن جريج عن الضحاك في الآية قال : وكذلك كل دين على مسلم , وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره , وبالسند عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } (8) وعن ابن عباس أيضا كان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوما , وعن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال (9) ا هـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 280
(8) سورة البقرة الآية 281
(9) فتح القدير (1ص 297 ـ 298- 299 ) .
خلاصة التفسير
تلخص من مجموع ما أوردناه في تفسير الآيات ما يأتي :
1- المراد بأكل الربا جميع التصرفات وعبر عن ذلك بالأكل لأنه الغرض الرئيسي وغيره من الأغراض تبع له .
2- تشبيه المرابي بالمصروع لأن المصروع يتخبط في سيره فينهض ويسقط وكذلك آكل الربا يوم القيامة .
3- تشبيه البيع بالربا مبالغة في جعل الربا أصلا في الحل والبيع فرعا والعكس هو الصحيح .
4- المحقق يشمل ما يأتي :
أ - المحق بالكلية بحيث يذهب المال من يد المرابي دون أن ينتفع به .
ب - محق بركة المال مهما كثر فإن عاقبته إلى قل .
5- إسدال الستر على ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه فلا يلحق المرء تبعته .
6- الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله لها .
7- الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم .
8- للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه .
9- الترغيب في إنظار المعسر أو إبراء ذمته من الدين .
10- توجيه الأنظار ليوم القيامة والتذكير بالوقفة فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال .
( مبحث الربا في السنة النبوية )
قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا فيما تقدم من هذا المبحث للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه
والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة النبوية في موضوع الربا ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها بما يلي :
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله , والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل الربا , وأكل مال اليتيم , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » (1) رواه البخاري ومسلم .
الشرح
قوله (اجتنبوا) أي : أبعدوا وهو أبلغ من قوله دعوا واتركوا لأن النهي عن القربان أبلغ كقوله : { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } (2) قوله : الموبقات أي : المهلكات وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب , وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال : « الكبائر تسع وذكر السبعة المذكورة وزاد والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين » (3) إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تعداد الكبائر ، قوله : (الشرك بالله) هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله . بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به في الأرض كما في الصحيحين عن ابن مسعود « سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك » (4) الحديث ، وأخرجه الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال ثم أورد الحديث بتمامه وقال : صحيح .
قوله : (السحر) السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه ، وقال في الكافي : السحر عزائم ورقى يؤثر في القلوب والأبدان إلى آخر ما أفاض فيه الشارح يرحمه الله ، قوله : ( وقتل النفس التي حرم الله) أي حرم الله قتلها وهي نفس المسلم المعصوم . (إلا بالحق) أي : بأن تفعل ما يوجب قتلها , قوله : (وأكل الربا) تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (5) الآيات من سورة البقرة ، قال ابن دقيق العيد : وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك وأكل مال اليتيم يعني التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع , قوله : ( والتولي يوم
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2615),صحيح مسلم الإيمان (89),سنن النسائي الوصايا (3671),سنن أبو داود الوصايا (2874).
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سنن أبو داود الوصايا (2874).
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4207),صحيح مسلم الإيمان (86),سنن الترمذي تفسير القرآن (3183),سنن النسائي تحريم الدم (4014),سنن أبو داود الطلاق (2310),مسند أحمد بن حنبل (1/434).
(5) سورة البقرة الآية 275(2/192)
الزحف) أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال ، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال كما قيد به في الآية (15) في سورة الأنفال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ } (1) وقوله : (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) أي : المحفوظات من الزنا والمراد الحرائر العفيفات (2) .
2 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه » (3) رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ النسائي : « آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة » (4) .
3 - عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية » (5) رواه أحمد .
الشرح
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه » (6) وقال : هم سواء . وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند النسائي وعن أبي جحفة , وحديث عبد الله بن حنظلة أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد رجال الصحيح ، ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ : « الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه » (7) وهو حديث صحيح , وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ : « الربا ثلاثة وسبعون بابا أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه » (8) ، وأخرج ابن جرير نحوه ، وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ : « الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم » (9) وهو حديث صحيح ، وقوله (آكل الربا) ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا أي : ولعن مطعمه غيره ، وسمي آخذ المال آكلا ، ودافعه مؤكلا ؛ لأن المقصود منه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 15
(2) فتح المجيد (ص 237 إلى 240) فتح الباري 12 \ 181-184, وصحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 83-88 .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535).
(4) سنن النسائي الزينة (5102),مسند أحمد بن حنبل (1/465).
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/225).
(6) صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن النسائي الطلاق (3416),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535).
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(8) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(9) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
الأكل وهو أعظم منافعه وسببه إتلاف أكثر الأشياء .
قوله : (وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي وشاهديه أو شاهده ، قوله : (وكاتبه) دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك ، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم ، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد , قوله : (أشد من ست وثلاثين . . . إلخ ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح ، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعله الشارع أربى الربا . فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل (1) .
4 - حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي : قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه فقال : هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله ، فسألنا يوما هل رأى أحد منكم رؤيا فقلنا : لا ، قال : ولكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض مستوية أو فضاء ، فمررنا برجل جالس ورجل قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقه فيشقه حتى يبلغ فاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به مثل ذلك ، قال : قلت ما هذا؟ قالا : انطلق ، واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سرد رؤيته إلى أن قال : فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل قائم بين يديه حجارة فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج منه رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرده حيث كان ، فقلت لهما : ما هذا؟ قالا : انطلق » (2) . الحديث أخرجه البخاري نعرض بعد هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين :
قالا : أما الرجل الذي رأيت يشق شدقه فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فهو يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة ، وأما الرجل الذي رأيته يشدخ رأسه فإن ذلك رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار فهو
__________
(1) نيل الأوطار , ح 5 ( ص 296-297) .
(2) صحيح البخاري التعبير (6640),صحيح مسلم الرؤيا (2275),سنن الترمذي الرؤيا (2294),مسند أحمد بن حنبل (5/15).
يعمل به ما رأيت إلى يوم القيامة ، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا وهذه الفقرة هي المقصودة من إيراد هذا الحديث (1) .
وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا الحديث أو على الفقرة التي جاء فيها الوعيد لآكل الربا بقوله . . . " إن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم بالحجارة وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام في الدنيا ، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال اليتيم بغير حق ، والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا » (2) أخرجه الحاكم وأبو الشيخ والمقدسي في المختارة ، وقد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضا تقع فيها يوم السبت ، فيأخذونها يوم الأحد . فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير ، وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين (3) . ا هـ .
وحسبنا الأحاديث التي أوردناها عن الربا وبشاعته وعقوبة المرابين ، ننتقل بعد ذلك إلى :
__________
(1) شرح السنة , ص 51-52-53 .
(2) سنن النسائي الزكاة (2562),مسند أحمد بن حنبل (2/69).
(3) الكبائر , ص68-69 .
مبحث حكم الربا في الإسلام(2/193)
وقد تقدم من آي الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ما يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالا للتردد في ذلك أو التأويل ولم يحرم الإسلام شيئا إلا لحكمة واضحة أو منفعة تعود على العباد وتبعا لتحريمه حرم الوسائل المفضية إليه سدا للذريعة ، فمثلا : حرم بيع العينة بكسر العين وفتح النون وهي : أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته ، وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها ؛ ولأنه يعود إلى البائع عين ماله ، واستدل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم » (1) .
ففي هذا الحديث دليل على تحريم هذا البيع ، وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية قالوا : لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع ، قال القرطبي : لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغوا (2) . ا هـ . نعود إلى الحديث آنف الذكر « إذا تبايعتم بالعينة » (3) الحديث . لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سنده يهبط به عن درجة الصحة .
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : " هو حديث صحيح لمجموع طرقه وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا ، الأولى : عن إسحاق أبي عبد الرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال : فذكره- أي الحديث - إلى أن قال- أي الشيخ الألباني - : روي ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث ، وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما وهو الطريق الثانية : عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أخرجه أحمد ، الثالثة : عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد .
ثم وجدنا له شاهدا من رواية بشير بن زياد الخراساني حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره- أي الحديث ، أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير هذا من (الكامل) وهو غير معروف ، في حديثه بعض النكارة ، وقال الذهبي ولم يترك (4) . وجاء في (معالم السنن) توجيه الخطابي لوجهة نظر المحرمين للعينة ، قال المحرمون للعينة : الدليل على تحريمها من وجوه , أحدها : أن الله تعالى حرم الربا والعينة وسيلة إليه بل هي من أقرب وسائله ، والوسيلة إلى الحرام حرام ، فهنا مقامان أحدهما : بيان كونها وسيلة ، والثاني : بيان الوسيلة إلى الحرام حرام ، فأما الأول فيشهد له النقل والعرف والنية
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84).
(2) سبل السلام , ج3 , ص 55 .
(3) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84).
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة , ج1 , ص15ـ 16 .
والقصد وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة إلى أن قال : وأما شهادة العرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير بل قد علم الله وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها , ولا غرض لهما فيها بحال وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول ، مائة بمائة وعشرين وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث ، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه بل جيء به لمعنى في غيره ، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد لأنهم لا غرض لهم فيها ، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا . وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما ، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محلالا لما حرم الله ورسوله .
وأما المقام الثاني وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام ، فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول ، فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة ، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم ، وقال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل . والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أو شرعية والخداع حرام , وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا . وإنما قصده حقيقة الربا .
وأيضا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بأختها أصلا ؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين ، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه ، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما . والثاني باطل قطعا فتعين الأول ، وأيضا فإن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم الفساد والضرر فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل (1) ا هـ .
__________
(1) مختصر سنن أبي دواد , ج 5 ص (100, 101, 102 ) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - جملة فتاوى في مسألة بيع العينة منها : أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم واشتراه منه بألف ومائتي درهم إلى أجل معلوم .
فأجاب : لا يحل له بذلك بل هو ربا باتفاق الصحابة والعلماء ، كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة تم ابتاعها لأجل زيادة درهم فقال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ، وسئل عن ذلك أنس بن مالك فقال : هذا مما حرم الله ورسوله . وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فمتى كان المقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل ، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة , وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (1) , وفيه أيضا : « إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم » (2) وهذا كله بيع العينة وهو بيعتان في بيعة ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يحل سلف وبيع ولا سلف ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك » (3) قال الترمذي : حديث صحيح ، فحرم صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل شيئا ويقرضه مع ذلك فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض حتى ينفعه فهو ربا . وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا ، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وما أشبه ذلك ، والله أعلم (4) .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
(2) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84).(2/194)
(3) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),سنن الدارمي البيوع (2560).
(4) مجموع الفتاوى , ج29 ـ ص431, 432, 433
الخلاصة
اتضح مما أوردناه من آي الكتاب العزيز وتفسيرها والسنة النبوية وشروحها وأقوال الصحابة والتابعين : اتضح تحريم الربا في الإسلام والوسائل المفضية إليه فتلخص من ذلك ما يأتي :
1 - النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل .
2 - إنه من الموبقات أي المهلكات .
3 - إنه من كبائر الذنوب .
4 - لعن آكل الربا ومؤكله وكل من تعاون عليه بكتابة أو شهادة .
5 - معصية أكل الربا تجاوزت الحد في القبح لأنها تعدل معصية الزنا .
6 - آكل الربا كما جاء في حديث سمرة وتعليق صاحب شرح السنة : يعذب في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر ، ويلقم بحجارة من نار ، وعليه اللعنة ثم الحيلولة بينه وبين دخول الجنة .
7 - حرمة عرض المسلم وتحريم الاستطالة فيه .
8 - أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل تحيلهم على أكله .
9 - من وسائل التحيل لآكل الربا بيع العينة .
10 - الوعيد الوارد على التبايع بالعينة .
11 - الوسيلة للحرام محرمة .
12 - تحريم الربا وإباحة الوسيلة الموصلة إليه هو جمع بين النقيضين وذلك لا يقره الإسلام .
13 - لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع .
14 - ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا ، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وأمثال ذلك .
مضار الربا وحكمة تحريمه
قلت في مقدمة هذا البحث : إن الإسلام دين العمل وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ ، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه فليس ذلك من دين الإسلام بل هو مناقض لما جاء به الإسلام . ومن ثم نجد المدخل لمضار الربا فهو تبطل يعيش المتعاطي له على حساب الغير ؛ يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم إلى آخر ما سطرته في المقدمة ، بالإضافة إلى أنه يسبب العداء بين أفراد المجتمع . ودين الإسلام دين التراحم والتعاطف والمساواة لا يقر الهامل الذي يعيش كالمتطفل على كدح غيره ، يستمرئ حياة الدعة ليأكل الربا غنيمة باردة دون عناء وجهد في الكسب ، ولذلك أباح الله البيع وحرم الربا ؛ للفارق العظيم بين البيع والربا ، فالبيع : كد وجهد مبذول ولقمة يأكلها البائع من عرق الجبين ، بخلاف المرابي فإنه تتضخم ثروته وينمو ماله بالغنيمة الباردة التي يستبزها من الفقير المحتاج .
وهنالك خسارة قد تحيق بالمرابي دون أن يحسب لها حسابا ألا وهي هبوط الأسعار والديون التي أثقل بها نفسه وأخذها بفائدة ليوسع بها تجارته قد ينجم عنه الإفلاس ، فهو مضطر إذا حان أجل التسديد أن يبيع السلعة برأس مالها حتى يأتي على كل السلع التي تحت يديه والتي كانت قوام تجارته ويغدو صفر اليدين ، بل قد تلجئه الحاجة إلى أن يتكفف الناس أو يركن إلى الاستدانة ، وذلك ما تترجم عنه الآية الكريمة : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } (1) والحديث النبوي الشريف : « الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل » (2) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر بعض العلماء المعاصرين عن مضار الربا أنه وسيلة للاستعمار وشقائه فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي القائم على المعاملات الربوية كان التمهيد الفعال للاحتلال العسكري الذي سقطت أكثر دول الشرق تحت رحمته ، فقد اقترضت الحكومات الشرقية بالربا وفتحت أبواب البلاد للمرابين الأجانب فما هي إلا سنوات معدودة حتى تسربت
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2279),مسند أحمد بن حنبل (1/395).
الثروة من أيدي المواطنين إلى هؤلاء الأجانب حتى إذا أفاقت الحكومات وأرادت الذود عن نفسها وأموالها استعدى هؤلاء الأجانب عليها دولهم فدخلت باسم حماية رعاياها ، ثم تغلغلت هي كذلك فوضعت يدها مستثمرة مرافق البلاد ، ولهذا لعن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء (1) .
أما حكمة تحريم الربا فتشمل الجانب الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي ، وتفصيل ذلك ملخصا فيما جاء في تفسير الفخر الرازي وهي كما يلي :
1 - إن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض . ومال الإنسان متعلق بحاجته وله حرمة عظيمة كما جاء في الحديث : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (2) فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرما .
2 - إن الاعتماد على الربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة ، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والصناعات الشاقة والتجارة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق . ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات ، وهذا هو الجانب الاقتصادي .
3 - إنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ؛ لأن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدراهم واسترجاع مثله . ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ، وهذا هو الجانب الأخلاقي .
4 - إن الغالب أن المقرض يكون غنيا والمستقرض يكون فقيرا ، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين من يأخذ من الفقير الضعيف مالا زائدا وذلك غير جائز برحمة الرحيم وهذا هو الجانب الاجتماعي . ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي ونتيجته أن يزداد الغني غنى والفقير فقرا مما يفضي إلى تضخم طبقة من المجتمع على حساب طبقة
__________
(1) رواه مسلم ـ روح الدين الإسلامي ص 332 .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/446).
أو طبقات أخرى مما يخلق الأحقاد والضغائن ويورث نار الصراع بين المجتمع بعضه ببعض ، ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة ، كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا والمرابين على السياسة والحكم والأمن المحلي والدول جميعا (1) .
__________
(1) الحلال والحرام ص 263 .
أنوع الربا وحكم كل نوع(2/195)
الشح : خلة وضعة وهوان تزري بصاحبها وتجعله نشازا في مجتمعه ، يجمع المال ويشح بإنفاقه حتى على مصالح نفسه . وعلى العكس منه البذل بسخاء خاصة في وجوه البر والخير وإغاثة الملهوف وكل ما فيه مصلحة للمجموع . وعلى هذا الاعتبار جاء تحريم الربا والترغيب في البذل ابتغاء كريم الأجر ، ونزل القرآن والعرب تتعامل بالربا لتفكك مجتمعهم وانفصام عرى التآلف بينهم ، فعندما تنزل الحاجة بأحدهم أو يوصله الفقر بالرغام لا يجد من يسعفه أو يعينه في محنته أو ينقذه من ذل الحاجة إلا بنكبته بالزيادة على ما يقرضه ، والمفاضلة بين ما يقبضه ويعيده من مال ، وذلك هو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه ، وقد أوردنا من آي الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يكفي عن المزيد ، بقي أن نوضح نوعية الربا المحرم والذي كانت العرب تتعامل به ، جاء في كتاب "أحكام القرآن " قوله : الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلا من جنس واحد ، هذا كان المتعارف المشهور بينهم ، ولذلك قال تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } (1) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (2) إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة ، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا من البياعات وسماها ربا ، فانتظم قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (3) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع ، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرناه من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة البقرة الآية 275
مع شرط الزيادة (1) ا هـ .
وذكر صاحب تفسير آيات الأحكام أن الربا ينقسم إلى قسمين : ربا النسيئة ، وربا الفضل . فربا النسيئة : هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية لا يعرفون غيره وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا . فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا فإن تعذر الأداء زادوا في الحق والأجل .
وربا الفضل : أن يباع من الحنطة بمنوين منها أو درهم بدرهمين أو دينار بدينارين أو رطل من العسل برطلين ، وقد كان ابن عباس لا يحرم إلا القسم الأول ، وكان يجوز ربا الفضل اعتمادا على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنما الربا في النسيئة » (2) ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد » (3) وذكر الأصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغيره رجع عن قوله .
وأما قوله عليه السلام : « وإنما الربا في النسيئة » (4) فمحمول على اختلاف الجنس ، فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين . أما (الأول) : فقد ثبت تحريمه بالقرآن ، (وأما الثاني) : فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح . كما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » (5) . واشتهرت روايته هذه حتى كانت مسلمة عند الجميع .
ثم اختلف العلماء بعد ذلك فقال نفاة القياس : إن الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة ، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء : إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل تتعداها إلى غيرها . وأن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة ، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه تلك العلة ، ثم اختلفوا في هذه العلة . فقال الحنفية : إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر- أي الكيل والوزن- فمتى اتحدت البلدان في الجنس والقدر حرم الربا كبيع الحنطة بالحنطة وإذا عدما معا حل التفاضل والنسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل . وإذا عدم القدر واتحد الجنس حل الفضل دون النسيئة كبيع عبد بعبدين ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص , ص 552 .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/232).
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200).
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
وإذا عدم الجنس واتحد القدر حل الفضل دون النسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشعير .
وقال المالكية : إن العلة هي اتحاد الجنسين مع الاقتيات أو ما يصلح به الاقتيات . وقال الشافعية : إن العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع النقدية ، وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم , والتفاضل في أمر الربا يعلم من كتب الفقه (1) .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام , ص 162 , 263
نوعية الربا كما أوضحها ابن القيم
وقفت في جملة ما وقفت عليه من المراجع على كتاب بعنوان : (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) لمؤلفه " حسن عبد الله الأمين " أورد فيه نص ابن قيم الجوزية رحمه الله عن نوعية الربا وقدم له بقوله :
تكلمنا فما سبق عن التقسيم الفقهي القديم للربا : ربا النسيئة ، وربا الفضل . . . وبقي هناك قسم ثالث للربا وضعه عالم جليل هو ابن القيم الجوزية وهو تقسيم يتفق في مضمونه مع تقسيم الربا : إلى ربا ديون ، وربا بيوع ولكنه يسمي الأول : الربا (الجلي) وأن تحريمه تحريم مقاصد ؛ لأنه ثابت بالقرآن الكريم وهو ما كانت تفعله الجاهلية . ويسمي النوع الثاني : الربا (الخفي) وأنه حرم سدا للذريعة من الربا الجلي فتحريمه تحريم وسيلة وهو الذي ثبت بالسنة في الأصناف الستة ، ثم ذكر النص من كتاب (إعلام الموقعين) فقال - أي ابن القيم - : الربا نوعان : جلي وخفي ؛ (فالجلي) : حرم لما فيه من الضرر العظيم ، (والخفي) : حرم لأنه ذريعة إلى الجلي . فتحريم الأول قصدا ، وتحريم الثاني وسيلة .
فأما الجلي : فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال . وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا (1) .
وأما ربا الفضل : فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء » (2) والرماء هو الربا . فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة ،
__________
(1) إعلام الموقعين , ج2 ـ ص 99 .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/109).(2/196)
وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعيين ، إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك ، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة ، وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذرائع ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا أو نسيئة (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين , ج2 ـ ص 99-100 .
التعامل مع البنوك
التعامل مع البنوك على إقراض المال بفائدة مشروطة محددة كاثنين في المائة مثلا أو أكثر أو أقل ، هل هو من أنواع الربا المحرم أم له احتمال آخر؟
نعود مرة أخرى إلى كتاب الودائع المصرفية آنف الذكر فنجد المؤلف يقرر بصراحة أن معنى الزيادة في القرض عند العقد هي إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن ، ونص كلامه كالآتي : (إذا كان معنى الفائدة يختلف عن معنى الربح في المصطلح الفقهي ولا يلتقي معه بحال ، فماذا يكون موقف الفائدة من الربا ، هل تلتقي معه في إحدى صوره أم أنها تختلف عنه كما اختلفت عن الربح ولا تلتقي معه في واحدة منها ، ثم أفاض في البسط حتى قال : تبين لنا على ضوء ما تقدم أن معنى (الفائدة) على ضوء ما تقدم يلتقي تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد وهي أحد صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن ، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية حتى أن الجصاص بالغ في التوكيد عليها لدرجة أنه قال : ولم يكن تعاملهم - أي : عرب الجاهلية- بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع الزيادة ، فالفائدة إذن ما هي إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالة الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار بدليل عدم وجودها في الودائع الجارية - أي : تحت الطلب- مع أنها هي أيضا معتبرة قرضا في الفقه والتشريع ، كما أنها زيادة في قرض مؤجل أيضا لمصلحة البنك في حالة إقراضه لشخص آخر ، فالزيادة في حالة استقراض البنك بقبول الودائع المؤجلة أو إقراضه بدفع قروض من أمواله الخاصة
أو من ودائع المقترضين الآخرين هي ربا . بل هي الربا الذي لا يشك فيه ؛ لأنها إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به والذي حرمه القرآن تحريما قاطعا بقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : « ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب » (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود البيوع (3334),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي
يفرق بعض علماء الاقتصاد من الغربيين بين تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي بدعوى أن تحريم الربا كان من الضروريات في الماضي وأن إباحته في هذا العصر من الضروريات أيضا ؛ لأن الدين فيما مضى كان للاستهلاك وأما الآن فهو للإنتاج . وهو زعم متداع ؛ لأن الربا إن كان للاستهلاك فهو لنفقة المستدين على حاجاته الضرورية فإنه لا يجوز أن يرهق برد زائد على دينه ، فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة . وإن كان للإنتاج فالأصل أن الجهد الذي يبذله المستدين هو الذي ينال عليه الربح لا المال الذي يستدينه فالمال لا يربح إلا بالجهد (1) .
وفي إطار الحديث عن أنواع الربا يتحدث الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي في الفصل الخامس من كتابه (الربا) تحت عنوان "الربا وأحكامه " فيقول : إن الربا هو الزيادة التي ينالها الدائن من مدينه نظير التأجيل ، وهذا النوع من الربا يصطلح عليه شرعا بربا النسيئة أي الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل ، وهذا النوع من الربا هو المنصوص على تحريمه في القرآن ، وأجمع على تحريمه السلف الصالح والعلماء المجتهدون من بعدهم وتعاقبت القرون على ذلك الإجماع ولم يتطرق إليه الريب في عصر من العصور واستمر في البسط إلى أن قال : لقد كان الإسلام إنما نهى عن التعامل بالربا في شئون الدين والقرض في بادئ الأمر ، واستمر في البسط فتحدث عن ربا الفضل وقال : وهذا النوع أيضا قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يفتح الباب في وجه الناس إلى الربا الصريح وينشئ فيهم
__________
(1) روح الدين الإسلامي , ص333, 334 .
عقلية من نتائجها اللازمة شيوع المراباة في المجتمع ، وذلك عين ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا تبيعوا الدرهم بدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء » (1) وهو الربا . وتحدث عن حكم ربا الفضل وأورد حديث عبادة بن الصامت وجملة أحاديث في معناه ، ثم علق عليها تعليقا ضافيا ثم ذكر خلاف الفقهاء في علة تحريم ربا الفضل وخلص من ذلك إلى القول بأن الاختلاف بين المذاهب في الأمور التي يدخلها الربا إنما هو من الأمور المشتبهة الواقعة على الحد بين الحلال والحرام ، فإن حاول أحد الآن محتجا بهذه المسائل المختلف فيها أن يرمي بالاشتباه أحكام الشريعة في المعاملات التي قد وردت النصوص على كونها من الربا ويفتح باب الرخص والحيل بهذا الطريق للاستدلال ويدعو الأمة إلى سلوك طرق الرأسمالية فلا شك أنه يعد تاركا للكتاب والسنة للظن والخرص وضالا مضلا ولو كان مخلصا صادق النية عند نفسه (2) ا هـ .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/109).
(2) الربا ص90, 91, 98 .
وسائل القضاء على الربا
من مزايا دين الإسلام أنه لم يحرم شيئا إلا وأوجد له بديلا يغني عنه ، ويأخذ بحجز المسلمين من أن يقعوا في المحرم المنكور ، ولا نطيل ضرب الأمثلة لذلك وإنما نكتفي بتحريم الخمر . أبدل الله المسلمين عن شربها بشرب جميع العصيرات والمنتبذات مما لا يكون فيه شبهة حرام وعندما حرم الربا أباح البيع والتجارة في الأمور المباحة وأنواع المضاربة ، وهكذا فلم يرهق المسلم من أمره عسرا ، ولم يكلفه شططا ، وإنما أوجد له الحلول وشرع وسائل من شأنها القضاء على الربا والتجافي عنه والترفع عن مزالقه والتورط في إثمه ، ويشمل ذلك ما يأتي :
(أ) القرض الحسن : فبدلا من أن يقرض المسلم ماله بفائدة تقض مضجع المقترض وتزيد من محنته وبلباله ، رغب الإسلام في القرض الحسن بالوعد الكريم والجزاء الضافي كما قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } (1) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 245
وقال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } (1) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 11
(ب) إنظار المعسر ريثما يزول إعساره والترغيب في إبراء ذمته من الدين دون مطالبته كما قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(2/197)
(جـ) التعاون في مختلف دروبه وبكل وسائله يشمل التعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي ويدخل في إطار ذلك الضمان الاجتماعي وتمويل المزارعين وأصحاب الصناعات بما يشد أزرهم ويضاعف إنتاجهم فيما يعود بالخير للمجموعة الإسلامية ، وثمة فتح المدارس وبناء المستشفيات ودور العجزة ، وما إليه مما تشمله الآية الكريمة { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (1) , فيغدو المجتمع في ظلال هذا التعاون الشامل سعيدا بعيدا عن مآسي الربا والانزلاق إلى أوحاله ، ولا يغيب عن الأذهان إخراج زكاة الأموال ودفعها إلى مستحقيها كما نصت على ذلك الآية الكريمة { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } (2) ، وجملة القول أن وسائل القضاء على الربا والأخذ بها والتعاون على تنفيذها وفي الطليعة إخراج الزكاة دون تهرب أو تسويف أو طغيان الأنانية على بعض النفوس فتستأثر بالمال وتحتجزه وتشح به فلا تستجيب لإنفاقه كما أمر الله وكما قال تعالى : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } (3) ، كل أولئك مما يحول دون الارتداع في أرجاس الربا والوقوع في أوحاله .
وقبل أن نضع القلم يجدر أن نعرض لموضوع كثر الأخذ به في أعقاب الزمن وهو بيع التورق ، يشتري المرء السلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به وذلك ما يسمى بمسألة التورق لأن البائع ليس له حاجة في السلعة وإنما حاجته في الورق ، وإيضاح ذلك من قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في فتاويه حيث يقول : وقد
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة الحديد الآية 7
سئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا هل يجوز أم لا؟ فأجاب : إذا باع السلعة إلى أجل ثم اشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى ( مسألة العينة ) . وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك ، فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل فقال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ، وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال : إذا اشتريت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم . فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم - والأعمال بالنيات- وهذه تسمى ( التورق ) . فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها وتارة يشتريها ليتجر بها فهذان جائزان باتفاق المسلمين ، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ الدراهم فينظر كم تساوي نقدا فيشتري بها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد فمقصوده الورق . فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء ، كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد إلى آخر ما أفاض فيه يرحمه الله مما خرج به للاستطراد (1) .
__________
(1) الفتاوى , ج29 ـ ص 446, 447 .
خاتمة البحث
نأتي بعد أن فرغنا من كتابة البحث بتوفيق الله إلى الخاتمة فقد عرضنا بعد المقدمة لتعريف الربا لغة وشرعا وأوردنا الآيات القرآنية التي جاءت منتظمة عن الربا مع تفسيرها وقد تحصل من التفسير ما يأتي :
ا- المراد بأكل الربا جميع التصرفات .
2 - تشبيه المرابي بالمصروع .
3 - المحق يشمل ذهاب المال وذهاب بركته .
4 - لا يلحق متعاطي الربا تبعة التعامل به قبل التحريم .
5 - الترغيب في بذل الصدقات .
6 - الوعيد لمن تعاطى الربا بعد التحريم .
7 - للمرء أن يأخذ رأس ماله بعد التوبة من تعاطي الربا .
8 - الترغيب في إنظار المعسر وإبراء ذمته ، وأردفنا ذلك بمبحث الربا في السنة وإيراد نص ما ورد من الأحاديث مع شرحها ثم بيان حكم الربا في الإسلام وأنه محرم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأساطير العلم بما في ذلك تحريم كل وسيلة تفضي إليه كبيع العينة واستخلصنا من مجموع ذلك ما يأتي :
أ- النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل .
ب- إنه من الموبقات ومن كبائر الذنوب .
جـ- لعن آكل الربا كل متعاون عليه .
د- معصية الربا تجاوزت الحد في القبح .
هـ- تحريم الاستطالة في عرض المسلم .
و- آكل الربا يعذب في البرزخ وعليه اللعنة ويحال بينه وبين دخول الجنة .
ز- أكلة الربا يحشرون في أسوأ صورة .
ح- تحريم التبايع بالعينة والوعيد عليها .
ط- الوسيلة للحرام محرمة .
ك- لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع .
ل- ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فهو ربا محرم سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض .
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مضار الربا وحكمة تحريمه ، وأوردنا نقولا عن ذلك من أقوال العلماء القدامى والمعاصرين مبسوطة في الصفحات (18 ، 19) وعقبنا بمبحث أنواع الربا وحكم كل نوع فذكرنا ربا النسيئة وأنه هو الربا الذي كانت تتعامل به الجاهلية الأولى وهو الذي ورد تحريمه بالقرآن ، ثم ربا الفضل وتحريمه جاءت به السنة النبوية سدا للذريعة ، وعرضنا لعلة تحريم ربا الفضل واختلاف العلماء فيها ، ثم لنوعية الربا كما أوضحها ابن القيم -يرحمه الله- ثم لبحث التعامل مع البنوك وفيه القرض بالفائدة المشروطة وأنها محرمة ، ثم تناولنا بحث تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي ورد نظرية تحريم الربا في الماضي وإباحته في الحاضر ، وأردفنا ذلك بالحديث عن وسائل القضاء على الربا وذكرنا أن منها القرض الحسن وإنظار المعسر وإبراء ذمته والتعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي وتوزيع أموال الزكاة ، ثم أنهينا البحث بموضوع التورق وأنه مكروه وأوردنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- في هذه المسألة . وأسأل الله أن يأجرني بقدر ما بذلت في هذا البحث من جهد علمي وجسمي ولم أصل فيه إلى الكمال ، وإنما هو إسهام وجهد مقل ، وأن يشمل سبحانه بتوفيقه ابني أسامة على ما أسهم به من تهيئة المراجع المطلوبة للبحث والعون بجهد مشكور وينفع به كل من قرأه مغضيا عما لعله أن يكون فيه من مآخذ - فالكمال لله وحده- ويأجر أيضا كل من تعاون على إشاعته بكل وسيلة خاصة مجلة البحوث بالرياض ورئاسة تحريرها والمشرفين عليها .
وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيله وسار على نهجه ، وقد فرغت من وضعه في شهر جمادى الثانية سنة ألف وأربعمائة وأربعة .
والله يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشاد ، ، ،
ثبت المراجع والمصادر
1 - ابن تيمية ، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني . (الفتاوى) .
الطبعة : الأولى 1382 هـ .
الرياض : مطابع الرياض .
2 - ابن حجر ، أحمد بن علي العسقلاني .
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) .
الطبعة : الأولى .
تصحيح وترقيم : محمد فؤاد عبد الباقي - محب الدين الخطيب .
القاهرة : المطبعة السلفية (13 جزء) .
3 - ابن جرير ، أبو جعفر محمد بن جعفر الطبري .
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
تحقيق : محمود محمد شاكر - أحمد محمد شاكر .
الطبعة : الأولى .
القاهرة : دار المعارف (15 جزء) .
4 - ابن كثير ، أبو الفداء عماد الدين القرشي الدمشقي .
(تفسير القرآن العظيم) .
الطبعة : الأولى 1347 هـ .
القاهرة : مطبعة المنار (9 أجزاء ومعه تفسير البغوي) .
5 - ابن حنبل ، أحمد بن محمد الشيباني .(2/198)
(المسند) .
الطبعة : الأولى .
القاهرة : المطبعة الميمنية المصرية (6 أجزاء) .
6 - الأمير الصنعاني ، محمد بن إسماعيل .
(سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام) .
الطبعة الأولى .
القاهرة : إدارة الطباعة المنيرية (4 أجزاء) .
7 - الألباني ، محمد ناصر الدين الألباني .
(سلسلة الأحاديث الصحيحة) .
الطبعة : الثانية 1399 هـ .
بيروت : المكتب الإسلامي . (4 مجلدات) .
8 - الأمين ، حسن عبد الله .
(الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام) .
الطبعة : الأولى .
جدة : دار الشروق .
9 - البخاري ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن بردزيه .
(الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) .
القاهرة : إدارة الطباعة المنيرية . (9 أجزاء) .
10 - البغوي ، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء .
(شرح السنة) .
الطبعة : الأولى 1399 هـ .
بيروت : المكتب الإسلامي (16 جزء) .
11 - الجصاص .
(أحكام القرآن) .
12 - الذهبي ، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد .
(الكبائر ) .
تصحيح وتعليق : محمد عبد الرزاق حمزة .
الطبعة : الأولى 1356 هـ .
13 - السايس ، محمد علي .
(تفسير آيات الأحكام) .
القاهرة : مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح (4 أجزاء) .
14 - الشوكاني ، محمد بن علي .
(فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير) .
بيروت : محفوظ العلي (6 أجزاء)
15 - طباع ، عفيف عبد الفتاح .
(روح الدين الإسلامي) .
الطبعة : الثانية عشرة .
بيروت : دار العلم للملايين .
16 - القرضاوي ، يوسف .
(الحلال والحرام في الإسلام) .
17 - مسلم ، ابن الحجاج القشيري النيسابوري .
(الجامع المسند المختصر من السن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي .
بيروت : تصوير دار الكتاب العربي (5 أجزاء) .
18 - المودودي ، أبو الأعلى .(الربا) . الطبعة : بيروت : مؤسسة الرسالة .
=================
أقوال العلماء في حكم من تاب من الكسب الحرام كالربا وأنواع المكاسب المحرمة الأخرى
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 16 / ص 209)
أقوال العلماء
في حكم من تاب من الكسب الحرام
كالربا وأنواع المكاسب
المحرمة الأخرى
أعده الباحث بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
عبد الله بن حمد بن عبد الله بن العبودي
ماذا يفعل من تاب من الكسب الحرام كالربا
وأنوع المكاسب المحرمة الأخرى
المقدمة
الحمد لله الذي أحل لعباده ما يتبادلون به المنافع بينهم ، وحرم عليهم ما يضر بهم من مكاسب شفقة بهم وحرصا على مصلحتهم ، وفتح لهم أبواب التوبة وغفر لتائبهم ، وجعل للكسب الحلال طرقا كثيرة عن الحرام تغنيهم والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي حث أمته على الكسب الحلال وحذرهم من الكسب الحرام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد فقد قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : « إن الحلال بين , وإن الحرام بين , وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » .
وإن من أعظم ما يضر بالفرد والجماعات ويفسد أخلاقهم المكاسب المحرمة كالربا ونحوه ، فخطورتها عظيمة ، وضررها جسيم . ولذا حرم سبحانه وتعالى الربا أشد تحريم وجعله من الكبائر ومن السبع الموبقات . وجعل آكله والمعين عليه أخذا وإعطاءا في الإثم والعقوبة سواء ، وكذا حرم سبحانه وتعالى ما هو شبيه به من المكاسب كحلوان الكاهن وأجرة الزانية والمغني والنائحة ونحو ذلك ، ومن المعلوم أن استباحة الأموال بمثل هذه المكاسب المحرمة من أعظم الذنوب والخطايا . وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والرجوع إليه سبحانه في أسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان فقال تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (1) { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (2) .
وبما أن الربا من أعظم الذنوب وأكبرها بعد الشرك بالله ومن السبع الموبقات فتجب المبادرة بالتوبة إلى الله منه على من كان يتعاطاه ويتعامل به ، كما تجب المبادرة بالتوبة إلى الله على كل من كان يتعاطى أمثاله من
__________
(1) سورة النساء الآية 17
(2) سورة النساء الآية 18
المكاسب التي حرمها الله ورسوله كأجرة الغناء والموسيقى وبيع المحرمات . فإذا من الله سبحانه وتعالى على من كان يتعاطى أمثال ما ذكر من هذه المكاسب المحرمة ووفقه للتوبة وأراد أن يتخلص مما في يده من الأموال المحرمة التي تحصل عليها فماذا يفعل؟ هذا ما أريد الكتابة عنه بعون الله تعالى وتوفيقه .
وستكون الكتابة على النحو التالي:
أ- فيما يتعلق بالربا .
ب- أنواع المكاسب المحرمة الأخرى ويدخل فيها الربا .
جـ- حكم المال المغلول .
د- مقتطفات من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في كيفية التخلص من الأموال المحرمة .
أرجو من الله العلي القدير أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والصلاح ، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه ويرزقنا التوبة النصوح إنه جواد كريم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
أ- الربا
أما بالنسبة للربا فقد تكلم المفسرون رحمهم الله تعالى على ذلك عند قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) .
وسأختار ما تيسر من أقوالهم ؛ قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
لقوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1)(2/199)
يعني جل ثناؤه بذلك إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم كما حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (2) المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا ، حدثني المثنى قال حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم . حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (3) قال ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزاد عليه شيئا ، حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (4) الذي أسلفتم وسقط الربا ، حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: « ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب » (5) حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: « إن كل ربا موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس » (6) .
القول في تأول قوله تعالى { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (7) .
يعني بقوله لا تظلمون بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحهم التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه أو لم يكن لكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),سنن الدارمي المناسك (1850).
(6) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),سنن الدارمي المناسك (1850).
(7) سورة البقرة الآية 279
قبل (ولا تظلمون) يقول ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه ؛ لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } (1) فتربون ولا تظلمون فتنقصون ، وحدثني يوسف قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) قال لا تنقصون من أموالكم ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم (3) .
وقال القرطبي : رحمه الله تعالى (الرابعة والثلاثون) قوله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (4) روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: « ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (5) .
وذكر الحديث فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم لا تظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل ؛ لأن مطل الغني ظلم . فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا ، وهكذا سنة الصلح ، وهذا أشبه شيء بالصلح . ألا ترى « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين أبي حدرد بوضع الشطر فقال: كعب
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) تفسير الطبري المسمى (جامع البيان في تفسير القرآن)، - المجلد الثالث، ص 72.
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر قم فاقضه » (1) ، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات . إلى أن قال رحمه الله تعالى :
(الخامسة والثلاثون) قوله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (2) تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد ، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع ؛ لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد ، كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض ؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض ، ولو كان مقبوضا لم يؤثر ، هذا مذهب أبي حنيفة وهو قول لأصحاب الشافعي . ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف ، ويروى هذا الخلاف عن أحمد . وهذا إنما يتمشى على قول من يقول : إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض . وأما من يمنع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا ، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين ، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أهوال وصلت إليهم بالهبة فلا يتعرض له ، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل ، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى كما حكى عن اليهود في قوله تعالى { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } (3) وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } (4)
فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به ، نعم يفهم من هذا العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إذا كانت معقودة على فساد .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (445),صحيح مسلم المساقاة (1558),سنن النسائي آداب القضاة (5408),سنن أبو داود الأقضية (3595),سنن ابن ماجه الأحكام (2429),مسند أحمد بن حنبل (3/454),سنن الدارمي البيوع (2587).
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة النساء الآية 161
(4) سورة هود الآية 62
ثم بين رحمه الله تعالى حكم المال الحلال إذا خالطه حرام فقال:
السادسة والثلاثون : ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب ؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام . قال ابن العربي : وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه ، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه ، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه ، والمثل قائم مقام الذاهب ، وهذا بين حسا بين معنى والله أعلم .
ثم بين رحمه الله تعالى رأيه فيمن يريد التخلص مما بيده من الأموال الربوية فقال:(2/200)
قلت: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ، ويطلبه إن لم يكن حاضرا ، فإن التبس من وجوده فليتصدق بذلك عنه ، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه ، فإن التبس عليه الأمر ولم يدركم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده . حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه ، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه . فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين أو إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبته وقوت يوم ؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه وإن كره ذلك من يأخذه منه ، وفارق هاهنا المفلس في قول أكثر العلماء؛ لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه ، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه ، وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته ، ثم كل ما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ، ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه (1) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } (2) أي بأخذ الزيادة ولا تظلمون الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه . وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسن بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب عن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب كله » (3) كذا وجده سليمان بن الأحوص ، وقد قال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى ، أخبرنا مسدد ، أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (4) . وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة المرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره (5) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه على آيات الربا:
ثم قال: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (6) يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه ، وقد عاقدتم عليه ، فإنما لكم رؤوس أموالكم
__________
(1) تفسير القرطبي المسمى (الجامع لأحكام القرآن)، جزء (3)، من ص 365 إلى صفحة 376.
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(4) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، جزء (1)، صفحة 331.
(6) سورة البقرة الآية 279
لا تزيدون عليها فتظلمون الآخذ ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها ، فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة ، وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم ، فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه (1) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا من تفسير المنار على قوله تعالى
{ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (2)
أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد انتهاءا عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم بل يكتفى منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (3) يحكم فيه بعدله ، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه . ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف رخصته للضرورة وتومئ إلى أن رد ما أخذ من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أفضل العزائم ؛ ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم 5: 95- { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } (4) وأنه عقب هذه الإباحة بإبهام الجزاء وجعله إلى الله والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة ، كما قال في آخر آية محرمات النساء 4 : 23-
{ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (5) أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله . لعله يغص بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه ، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي فقال تعالى { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (6) أي ومن عاد إلى من كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك
__________
(1) التفسير القيم لابن القيم, ص 172 و 173 .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) سورة النساء الآية 23
(6) سورة البقرة الآية 275
البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم (1) .
وحول تفسير ما سبق من الآيات في الربا قال محمد بن أحمد بن رشد (فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله قبض الربا أو لم يقبضه . فإن كان قبضه رده إلى صاحبه ، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله ، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه ، فإن لم يعلمه تصدق به عنه لقول الله عز وجل { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (2) الآية . وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له ، لقول الله عز وجل: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (3) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أسلم على شيء فهو له » .
وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه وهو موضوع عن الذي هو عليه ولا خلاف في هذا أعلمه؛ لقول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (4)
نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم ، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه . وقيل نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: « ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب » (5) .
خلاصة ما سبق من كلام المفسرين ما يلي: أن المرابي لا يخلو من إحدى حالتين:
__________
(1) تفسير المنار، جزء (3)، ص 97- 98.
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
الحالة الأولى:(2/201)
أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه بعد ، ففي هذه الحالة قد أرشده الله تعالى إلى أن يسترجع رأس ماله ويترك ما زاد عليه من الربا فلا يستوفيه ممن هو في ذمته قال الله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض كلامه على أن التراضي بين الطرفين على فعل محرم لا يبيحه: قال: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه . ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره (2) وقال أيضا : وهذا المرابي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره ، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها ، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل يعفى عنه ، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط ؛ لقوله تعالى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (3) والله أعلم (4) .
الحالة الثانية:
أن يكون التائب من الربا قد قبضه وتجمعت عنده أموال منه ، وفي هذا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: قاعدة في المقبوض بعقد فاسد ؛ وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه أو لا يعتقد الفساد . فالأول: يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه لكنه لشبهة العقد وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه ، أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، الجزء (الخامس عشر)، ص 126.
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جزء (29)، صفحة 437.
وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد: مثل أهل الذمة فيما يتعاملون به بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام مثل بيع الخمر ، والربا ، والخنزير ، فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ، ويملكون ما قبضوه بلا نزاع ؛ لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1)
فأمر بترك ما بقي وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسد العقد ووجب رد المال إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا ، والأصل فيه قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (2) إلى قوله { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (3) (4) .
وحاصل هذه القاعدة أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يفرق بين من قبض مالا بعقد فاسد يعتقد صحته كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه أو تحاكمه إلينا ، وكالمسلم إذا عقد عقدا مختلفا فيه بين العلماء وهو يرى صحته فهذا النوع من المتعاقدين يملك ما قبضه ، أما من تعامل بعقد مختلف في تحريمه وهو لا يرى صحته أو بعقد مجمع على تحريمه مما قبضه بموجب ذلك العقد فهو فيه كالغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه .
ومما أجاب به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قول القائل لغيره أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام ، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره ، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين ، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية ، والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا ، وإن كان فانيا رد مثله ولا يستحق الدافع أكثر
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) تفصيل الكلام على هذه القاعدة مستوفى في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، في الجزء (29)، صفحة 411 و 412 فارجع إليه.
من ذلك ، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم دون الزيادات ، فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله وقد قال تعالى { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (3) (4) .
أقول
ومن كلامه رحمه الله تعالى يتضح لنا حرمة المداينة المعمول بها حاليا على نحو ما ذكره وأعظم منها حرمة قلب الدين على المدين ؛ لأنه بيع دراهم بأكثر منها نسأل الله العافية .
وحينما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث أم لا؟ قال:
أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه . إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن ، وإلا تصدق به والباقي لا يحرم عليه ، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال ، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به ، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين . وحينما سئل أيضا عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام أجاب بقوله:
يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه وقدر الحلال له . وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) مجموع الفتاوى، جزء (29)، ص 437 و 438.
(5) مجموع الفتاوى، جزء (29)، ص 307.
وحول التصدق بالأرباح المكتسبة عن طريق البنوك التي تتعامل بالربا ، ورد هذا السؤال لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة في وقته رحمه الله تعالى:
إذا سلمت بضاعة تبع شركة الأسمنت واشتغلت الشركة في أموالها فوردت مكائن وأخذت مقاولات عمارات وكسبت أرباحا من البنك ، وقدموا لك بيان حسابك ، ووجدت فيه قسما يختص بأرباح البنك وهي أرباح ربوية فهل تقبضها وتجعلها مع مالك أو تردها على البنك أو تتصدق بها؟
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله:
هذه الزيادة التي أخذت مقابل أرباح البنك تتصدق بها والله أعلم والسلام عليكم (1) .
وفيما يلي سأذكر بمشيئة الله وعونه وتوفيقه بعض ما تيسر من كلام العلماء رحمهم الله تعالى في كيفية التخلص من أنواع المكاسب المحرمة الأخرى ، ويدخل فيه أيضا الربا ، وإنما أفردت الكلام عنه فيما سبق ؛ لأنه من أعظم المكاسب المحرمة إثما وأنكاها عقوبة . نسأل الله العافية .
__________
(1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، جـ 7، صفحة 178.
ب- أنواع المكاسب المحرمة
من ربا وغيره(2/202)
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » (1) . رواه البخاري ومسلم .
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:
ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط ، فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد : ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا شيئا لا يعرف . واختلف أصحابنا هل هو مكروه أو محرم على وجهين ، وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله ، وقد روى الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله ، وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه ، قال سفيان يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي ، وقال الزهري ومكحول : لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه نص عليه أحمد في رواية حنبل . وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسليمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضى من الربا والقمار . ونقله عنه ابن منصور وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي ، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه ، وهو قول الحنفية وغيرهم ، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي . ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه فصح كما تقدم عن مكحول والزهري ، وروي مثله عن الفضل بن عياض وروي في ذلك آثار عن السلف (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى وقال تعالى تم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك » (4) رواه مسلم . - مما جاء في شرح هذا الحديث يقول ابن رجب : وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول » (5) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه » (6) وذكر الحديث ، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ
__________
(1) جامع العلوم والحكم، من ص 58 إلى ص 62، وله زيادة تفصيل في الموضوع فارجع إليه.
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015),سنن الترمذي تفسير القرآن (2989),مسند أحمد بن حنبل (2/328),سنن الدارمي الرقاق (2717).
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }
(4) سورة البقرة الآية 172 (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
(5) صحيح مسلم الطهارة (224),سنن الترمذي الطهارة (1),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272),مسند أحمد بن حنبل (2/73).
(6) صحيح البخاري الزكاة (1344),صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (661),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/431),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » (1) ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه » أخرجه ابن حبان في صحيحه ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة ، وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم » . وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حلة فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث ، وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الخبيث لا يكفر الخبيث ، ولكن الطيب يكفر الخبيث ، وقال الحسن : أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت (2) .
واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه ، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه . ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته . كذا قاله جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا ، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال لا يؤجر أنت ولا صاحبها . ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب . إلى أن قال:
واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/387).
(2) جامع العلوم والحكم , ص 87 ـ 88 .
موقوفا على إجازة مالكه ، فإن أجاز تصرفه فيه جاز . وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة . وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه . وهو خلاف نص أحمد . وحكي عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازه المالك أجزأت عنه (1) .(2/203)
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب : أن يتصدق عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء: منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم . قال ابن عبد البر : ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي ، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري ، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه ، وقال قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان ، وكذلك المغصوب . انتهى .
وروي عن مالك بن دينار قال سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول : إن ذلك يجزئ عنه . قال مالك كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب . وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم ، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله ، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن وخالفه ابن
__________
(1) لمزيد من التفاصيل والإيضاح في هذا الموضوع جامع العلوم والحكم لابن رجب , من ص 88 حتى صفحة 90
المبارك وقال : يتصدق بالربح خاصة . وقال أحمد يتصدق بالربح ، وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته: إنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك : منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه ، والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها ، وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به . وقال لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب . والصحيح الصدقة به ؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه ، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه ، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث وإنما هي صدقة عن مالكه ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1) .
ونستخلص مما سبق في شرح الحديثين ما يلي:
أ- معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط: إن كان أكثره الحرام فينبغي تجنبه وهو الأولى؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: (ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يعرف) .
وإن كان المال شبهة فالورع في تركه بل هو ما ينبغي عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: « فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول العمى يوشك أن يرتع فيه » (2) ، والمال المشتبه حلاله بحرامه إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي ، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله .
ب- أن الصدقة بالمال الحرام غير مقبولة لما تقدم من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: « إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا » (3) ، ولقوله
__________
(1) جامع العلوم والحكم , ص 88, 89, 90 .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
(3) صحيح مسلم الزكاة (1015),سنن الترمذي تفسير القرآن (2989),مسند أحمد بن حنبل (2/328),سنن الدارمي الرقاق (2717).
أيضا: « لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول » (1) . وغير ذلك من الأحاديث التي مرت . والمقصود بذلك أن السارق أو الغاصب أو الخائن مثلا ، لا يجوز له أن يتصدق بما سرقه أو بما اغتصبه أو بما خانه أو جحده عن نفسه فإنه لا يقبل منه ولا يؤجر عليه بل يأثم بتصدقه بمال غيره بغير إذنه ولا يحصل للمالك أيضا بذلك أجر لعدم قصده ونيته
جـ - أن السارق للمال أو الغاصب أو الخائن له إذا أراد أن يتصرف في هذا المال بعد توبته يجوز له أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته . وهذا هو الأولى وذلك لاختيار الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة ، ومنهم الإمام مالك وأبو حنيفة كما قالوا في الغال إذا تفرق العسكر أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي ، وكما قالوا في جواز التصدق باللقطة بعد تعريفها وانقطاع صاحبها وجعلوه إذا جاء مخيرا بين أن يكون أجر التصدق بها له أو الضمان .
وهذا ما أراه نظرا ؛ لتظافر الأدلة السابقة عليه ؛ ولأن القائل به كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى .
ولأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه ، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه ، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا بالخبيث ، وإنما هي صدقة به عن مالكه . والله أعلم
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما فإن هذه عامة النفع لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير إما لكونها قبضت ظلما كالغصب وأنواعه من الجنايات والسرقة والغلول . وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ، ولا يعلم عين المستحق لها . وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه ، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة . والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (224),سنن الترمذي الطهارة (1),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272),مسند أحمد بن حنبل (2/73).
فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها . ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال . فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب والعواري والودائع إنها تحفظ حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة . ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء ، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد والقسمة عند أبي حنيفة . إلى أن قال: وتحريم هذه جميعا يعود إلى الظلم فإنها تحرم لسببين:
أحدهما: قبضها بغير طيب نفس صاحبها ولا إذن الشارع ، وهذا هو الظلم المحض كالسرقة ، والخيانة ، والغصب الظاهر ، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم .
والثاني: قبضها بغير إذن الشارع . وإن أذن صاحبها وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا ونحو ذلك والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها . فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة: « فإن وجدت صاحبها فارددها إليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء » (1) وكذلك اتفق المسلمون على أن من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين .
إلى أن قال: وله دليلان قياسيان قطعيان كما ذكرنا من السنة والإجماع فإن ما لا يعلم بحال أو لا يقدر عليه بحال ، هو في حقنا بمنزلة المعدوم ، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه . والدليل الثاني: القياس مع ما ذكرنا من السنة والإجماع أن هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس ، وإما أن تتلف ، وإما أن تنفق .
فأما إتلافها فإفساد لها { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (2) وهو إضاعة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال ، وإن كان في مذهب أحمد ومالك
__________(2/204)
(1) سنن أبو داود اللقطة (1709),سنن ابن ماجه الأحكام (2505),مسند أحمد بن حنبل (4/162).
(2) سورة البقرة الآية 205
تجويز العقوبات المالية تارة بالأخذ وتارة بالإتلاف كما يقوله أحمد في متاع الغال ، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار . وغير ذلك . فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا . وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك .
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على إيصالها إليه فهذا مثل إتلافها . فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها من انتفاع الآدميين بها ، وهذا تعطيل أيضا . بل أهو أشد منه من وجهين .
(أحدهما): أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به .
(الثاني): أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق فيكون حبسها إعانة للظلمة ، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة فيكون قد منعها أهل الحق ، وأعطاها أهل الباطل ، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله ، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله ، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها ، فإذا كان إتلافها حراما وحبسها أشد من إتلافها تعين إنفاقها ، وليس لها مصرف معين فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته . فتصرف في سبيل الله والله أعلم (1) .
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام (باختصار)، جزء (28)، من ص 592 إلى ص 597، والفتاوى الكبرى لابن تيمية الجزء الثاني، من ص 194 حتى ص 197، ولمزيد من الفائدة انظر الفتاوى جزء (28)، من صفحة 598 حتى صفحة 599 .
وخلاصة ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
أن الأموال التي يجهل أصحابها ومستحقوها إما لكونها قبضت ظلما إما بغصب ونحوه من أنواع الجنايات كالسرقة والنهب والغلول ، وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ونحوهما . فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها . والشافعي يرى أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة ، ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين يوقف الأمر حتى يصطلحا . ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء ونحو ذلك . وفي مال الميت الذي لا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين . أقول: وما قيل عن الصدقة بهذه الأموال التي جهل أصحابها أو صرفها في مصالح المسلمين هو الأولى في نظري والله أعلم ؛ لأنها إما أن تحبس ، وإما أن تتلف وإما أن تنفق .
فأما إتلافها فإفساد لها { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (1) وهو أيضا إضاعة لها وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال- اللهم إلا ما كان من العقوبة بإتلاف المال أحيانا لما فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما فرع له ذلك كما يفعل بأوعية الخمر ومحل الخمار ونحو ذلك . وكما يقوله الإمام أحمد رحمه الله تعالى في متاع الغال والله أعلم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - تحت عنوان ( ما تصنع البغي إذا تابت بما عندها من أجر البغاء ) ما نصه:
نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا هل يتصدقون بها . أو يجب أن يردوها إلى من أعطاهموها فيها قولان
__________
(1) سورة البقرة الآية 205
أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة ، ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها . وتصرف في مصالح المسلمين ، كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر .
ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر: لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بالربا أو نحوه من العقود الفاسدة ، فيقال له : المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه . كما في تقابض الربا عند من يقول: المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد . فأما إذا تلف المقبوض عند القابض فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا . وحينئذ فيقال: إن كان ظاهر القياس يوجب ردها ، بناءا على أنها مقبوضة بعقد فاسد ، فالزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم ، واستوفوا العوض المحرم: والتحريم الذي فيه ليس لحقهم ، وإنما هو لحق لله تعالى ، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض ، والأصول تقتضي: أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر ، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال .
وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أحد منفعتيه وعوضهما جميعا منه ، بخلاف ما لو كان العوض خمرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواتها . فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه .
ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه ، بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها . فيقال على هذا: فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها .
قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها ، كعقود الكفار المحرمة ، فإنهم إذا أسلموا على القبض لم نحكم بالقبض . ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد ، ولكن في حق المسلم تحرم هذه الأجرة عليه ، لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر . وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرطت ، حيث صرفت قوتك في عمل محرم ، فلا يقضى لك بأجرة . فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده فإنما أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له : دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذه فرد إليه ما أخذته . إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر .
وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وقبضها وشراها ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع ولا سيما ونحن نعاقب الخمار بياع الخمر بأن نحرق الحانوت التي تباع فيها . نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيها الخمر ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق قرية يباع فيها الخمر ، وهي آثار معروفة ، وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع ؛ وذلك لأن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة (1) .
وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى وهي محافظة على طاعة الله تعالى فهل المال الذي اكتسبته من حلي وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسها ، وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله ، وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر . فهنا لا يقضى له به قبل القبض . ولو أعطاه إياه لم يحكم برده . فإن هذا معونة لهم على المعاصي: إذا جمع لهم بين العوض والمعوض ولا يحل هذا المال للبغي
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم, صفحة 247, 248 .(2/205)
والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين . فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم ، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال ، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن .
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك ، وأما إذا تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مهر البغي خبيث » (1) (2) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه عن حقوق العباد وصورها في مسائل إلي أن قال:
فصل : المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة ، وقبض العوض كالزاني والمغني وبائع الخمر ، وشاهد الزور ونحوهم ، ثم تاب والعوض بيده ، فقالت طائفة: يرده إلى مالكه . إذا هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح .
وقالت: طائفة بل توبته بالتصدق به ، ولا يدفعه إلى من أخذه منه .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين ، فإن قابضه إنما قبضه ببذل مالكه له ، ورضاه ببذله ، وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض ، وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله ، ورضي بإخراجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا؟ وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسن الشرع أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها طوعا أو كرها . فيعطاه وقد نال عوضه ، وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ ، فملك صاحبه قد زال
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1568),سنن الترمذي البيوع (1275),سنن النسائي الصيد والذبائح (4294),سنن أبو داود البيوع (3421),مسند أحمد بن حنبل (3/464),سنن الدارمي البيوع (2621).
(2) الفتاوى الجزء (29) , صفحة 308- 309 .
عنه بإعطائه لمن أخذه ، وقد سلم له ما في قبالته من النفع ، فكيف يقال ملكه باق عليه ويجب رده إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصدقة به ، فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضى صاحبه وبذله له بذلك ، وصاحبه قد رضي بإخراجه عن ملكه بذلك ، وألا يعود إليه فكان أحق الوجوه به: صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان ، ويجمع له بين الأمرين .
وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام ، وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ، ويطيب باقي ماله . والله أعلم (1) .
وقال أيضا: في كسب الزانية فإن قيل فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها ، أم تتصدق به؟
قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه ، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفي عوضه رده عليه . فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه ، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته ، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه ، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله ، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة ، وإن كان المقبوض برضى الدافع ، وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع ؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه ، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا
__________
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، جزء (1)، صفحة 391 وص 392.
مما تصان الشريعة عن الإتيان به ، ولا يسوغ القول به ، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر ، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا ، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة . ولكن لا يطيب للقابض أكله . بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لخبث مكسبه لا نظلم من أخذ منه ، فطريقة التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة ، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث ؛ لخبث عوضه عينا كان أو منفعة ، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه (1) . أقول : وخلاصة ما سبق فيما يتعلق بما تصنعه البغي إذا تابت ، وماذا يفعل من اختلط ماله الحلال بالحرام؟
أ- أن الأموال التي بذلت في المنفعة المحرمة كأجرة الزانية أو المغنية لا ترد إلى الفساق الذين بذلوها ولا يباح لهم أخذها كما لا يحل هذا المال للباغية أو المغنية ونحوهما بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين؛ لأن في ردها إلى الفساق الذين بذلوها معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض .
ب- ومن اختلط ماله الحلال بالحرام وتاب من الكسب الحرام وتعذر عليه تمييز الحلال فإن عليه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله إذا تاب مما عمل وندم على ما فات وعزم على ألا يعود والله أعلم .
جـ- النقولات الآتية الواردة في هذا البحث مثل ما ذكره النووي عن
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، جزء (4)، صفحة 251 وما بعدها والكلام مستوفى هناك.
الغزالي وكذا ما أضفته أيضا في هذا البحث من كلام الغزالي وما ذكره أبو يعلى في كتابه طبقات الحنابلة وما قاله ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة وما قاله الشيخ ملا علي القارئ في كلامه عن التوبة وأركانها ونحو ذلك مما ورد في آخر البحث لا تحتاج إلى خلاصة ؛ لأنها في الغالب إما فروع أو مسائل مختصرة أو مترابطة يفهمها ويدركها كل من قرأها والله أعلم .
وقال النووي رحمه الله تعالى (فرع)
قال الغزالي : لو كان في يده مغصوب من الناس معين فاختلط بماله ولم يتميز وأراد التوبة فطريقه أن يترضى هو وصاحب المغصوب بالقسمة ، فإن امتنع المغصوب منه من ذلك رفع التائب الأمر إلى القاضي ليقبض منه ، فإن لم يجد قاضيا حكم رجلا متدينا . لقبض ذلك ، فإن عجز تولى هو ذلك بنفسه ، ويعزل قدر ذلك فيه الصرف إلى المغصوب منه سواء أكان دراهم أو حبا أو دهنا أو غيره من نحو ذلك ، فإذا فعل ذلك حل له الباقي ، فلو أراد أن يأكل من ذلك المختلط وينفق من قبل تمييز قدر المغصوب فقد قال قائلون يجوز ذلك ما دام قدر المغصوب باقيا ، ولا يجوز أخذ الجميع ، وقال آخرون: لا يجوز له أخذ شيء حتى يميز قدر المغصوب بنية الإبذال والتوبة .
(فرع) من ورث مالا ولم يعلم من أين كسبه مورثه؟ أمن حلال أم حرام؟ ولم تكن علامة فهو حلال بإجماع العلماء ، فإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج قدر الحرام بالاجتهاد .(2/206)
(فرع) قال الغزالي : إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله ، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه ، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة ، كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة ، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه ، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه ؛ فإن سلم إليه صار المسلم ضامنا بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد متدينا عالما ، فإن التحكيم أولى من الانفراد فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه ، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة .
وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير بل يكون حلالا طيبا ، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا ؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم ، بل هم أولى من يتصدق عليه . وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ؛ لأنه أيضا فقير . وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب وهو كما قالوه ، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع ؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر ، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين ، والله سبحانه وتعالى أعلم (1) .
أقول: وقد فصل الغزالي الكلام على هذا الموضوع في كتابه (الإحياء) في الجزء الثاني منه تحت عنوان- باب كيفية خروج التائب عن المظالم المالية- فذكر كيفية التمييز والإخراج والمصرف فارجع إليه لمزيد . ومن مسائله التي ذكرها ما يلي:
__________
(1) المجموع شرح المهذب، جزء (9)، صفحة 342 و 343.
مسألة :
إذا كان الحرام أو الشبهة في يد أبويه فليمتنع عن مؤاكلتهما ، فإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى ، فإن كان شبهة وكان امتناعه للورع فهذا قد عارضه أن الورع طلب رضاهما ، بل هو واجب فليتلطف في الامتناع فإن لم يقدر فليوافق ؛ وليقلل الأكل بأن يصغر اللقمة ويطيل المضغ ولا يتوسع فإن ذلك عدوان . إلى أن قال:
مسألة:
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقال له قائل: مات أبي وترك مالا وكان يعامل من تكره معاملته فقال تدع من ماله بقدر ما ربح فقال: له دين وعليه دين فقال: تقضي وتقتضي ، فقال: أفترى ذلك؟ فقال: أفتدعه محتبسا بدينه؟ وما ذكره صحيح وهو يدل على أنه رأى التحري بإخراج مقدار الحرام ؛ إذ قال : يخرج قدر الربح ، وأنه رأى أن أعيان أمواله ملك له بدلا عما بذله في المعاوضات الفاسدة بطريق التقابض والتقابل مهما كثر التصرف وعسر الرد وعول في قضاء دينه على أنه يقين فلا يترك بسبب الشبهة (1) .
__________
(1) كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، الجزء (الثاني)، من ص 163 إلى صفحة 172، نشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع.
ويقول شمس الدين محمد بن مفلح في كتابه (الآداب الشرعية) ما نصه:
(فصل في الحلال والحرام والمشتبه فيه وحكم الكثير والقليل من الحرام)
هل تجب طاعة الوالدين في تناول المشتبه وهو ما بعضه حلال وبعضه حرام؟ ينبني على مسألة تحريم تناوله وفيها أقوال في المذهب .
أحدها: التحريم مطلقا قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب في كتابه المنتخب ذكره قبيل باب الصيد . وعلل القاضي وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك لاختلاط الأموال لأخذه من غير جهته ووضعه في غير حقه . قال الأزجي في نهايته : هو قياس المذهب كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة ، وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني . وقد قال أحمد : لا يعجبني أن يأكل منه . وقال المروذي : سألت أبا عبد الله عن الذي يتعامل بالربا يؤكل عنده قال لا؟ قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة ، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام » (1) . وفي البخاري عن أنس بن مالك قال: (إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه) وعن الحسن بن علي مرفوعا: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه .
والثاني: إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا . قدمه في الرعاية لأن الثلث ضابط في مواضع .
والثالث: إن كان الأكثر الحرام حرم ؛ وإلا فلا إقامة للأكثر مقام الكل لأن القليل تابع قطع به ابن الجوزي في المنهاج . وذكر الشيخ تقي الدين أنه أحد الوجهين ، وقد نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالا ينبغي إن عرف شيئا بعينه أن يرده ، وإلا كان الغالب في ماله الفساد تنزه عنه أو نحو هذا ، ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالا إن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532).
كان غالبه نهبا أو ربا ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه إلا أن يكون يسيرا لا يعرف ، ونقل عنه أيضا هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالا مضاربة ينفعهم وينتفع؟ قال إن كان غالبه الحرام فلا .
والرابع: عدم التحريم مطلقا قل الحرام أو كثر وهو ظاهر ما قطع به وقدمه غير واحد لكن يكره ، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته . قدمه الأزجي وغيره وجزم به في المغني ، وعن أبي هريرة مرفوعا: « إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه . وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه » (1) رواه أحمد ، وروى جماعة من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال: لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني؟ فقال مهنأة لك وإثمه عليه ، قال الثوري إن عرفته بعينه فلا تأكله ، ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا . وروى جماعة من حديث معمر أيضا عن أبي إسحاق عن الزبير بن الحارث عن سلمان قال إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله ، فإنه مهنأة لك وإثمه عليه . قال معمر وكان عدي بن أرطاة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل منها ويعلم أصحابه . وبعث عدي إلى الشعبي وابن سرين والحسن فقبل الحسن والشعبي ورد ابن سيرين . قال : وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم كانوا يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم (2) وحول ما يتلف من المنكر ومذاهب العلماء فيه . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (الحسبة في
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/399).
(2) انظر كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية جزء (1)، من صفحة 496 إلى ص 502 فالكلام مستوفى هناك.
الإسلام) ما نصه:
مقدار ما يتلف من المنكر ومذاهب العلماء .(2/207)
وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه . نهي عن العود إلى ذلك المنكر وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق ، بل إذا لم يكن في المحل مفسد جاز إبقاؤه إما لله وإما أن يتصدق به ، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء كالخبز والطعام الذي لم ينضج ، وكالطعام المغشوش وهو الذي خلط بالردئ وأظهر المشتري أنه جيد أو نحو ذلك يتصدق به على الفقراء فإن ذلك أولى من إتلافه .
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه .
وعمر أتلفه ؛ لأنه يغني الناس بالعطاء فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلا وأما معدومين ، ولهذا جوز طائفة التصدق به وكرهوا إتلافه . ففي المدونة عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أو بالصاحبة ، وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم ورأى أن يتصدق به وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية وقال: ( لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا) لكن الأول أشهر عنه . وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش ، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه ولا يهراق . قيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال ما أشبهه بذلك إذا كان هو غشه فهو كاللبن ، قال ابن القاسم : هذا في الشيء الخفيف منه ، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة لأنه يذهب في ذلك أموال عظام يريد في الصدقة بكثيره . قال بعض الشيوخ وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا ؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره . وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا . وذلك إذا كان هو الذي غشه ، وأما من وجد عنده شيء من ذلك مغشوش لم يغشه هو إنما اشتراه أو وهب له ، أو ورثه فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك . وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان قال في الملاحف الرديئة النسج تحرق بالنار ، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق ، وقال تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا ، وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين فأنكر عليه ابن القطان وقال لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه .
قال القاضي أبو الأصبغ : وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين ، وابن عتاب أضبط في أصله ذلك ، وأتبع لقوله .
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش . إما بإزالة الغش ، وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره .
قال عبد الملك بن حبيب ، قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟
قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق ، وما كثر من الخبز واللبن ، أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب . قال عبد الملك بن حبيب : ولا يرده الإمام إليه وليؤمن ببيعه عليه من يأمن أن يغش به ، ويكسر الخبز إذا كثر ، ويسلمه لصاحبه ، ويباع عليه العسل ، والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله ويبين له غشه . هكذا العمل فيما غش من التجارات .
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم (1) .
وقال القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى رحمه الله تعالى في كتابه طبقات الحنابلة في ترجمة عبد الله بن محمد بن المهاجر المعروف بفوزان قال عنه:
ومن جملة مسائله قال: سمعت أحمد يقول: إذا اختلط المال وكان فيه حلال وحرام . فالزهري ومكحول قالا إذا اختلط الحلال والحرام فكل هذا عندي من مال السلطان كما قال عليه رحمه الله تعالى (بيت المال يدخله الخبيث والطيب) فمال السلطان يدخله الحلال والحرام ، فيوصل إلى الرجل فيأكل منه فأما إذا كان حلالا وحراما من ميراث ، أو أفاد رجل مالا حراما وحلالا: فإنه يرد على أصحابه فإن لم يعرفهم ولم يقدر عليهم: تصدق به ، فإن لم يعلم كم الحلال والحرام يتصدق بقدر ما يرى أن فيه من الحرام . وأكل الباقي (2) .
ومما قاله ابن رجب رحمه الله تعالى في الذيل على الطبقات المذكورة ما نصه:
ومما نقلته من خط السيف بن المجد من فتاوى جده الشيخ موفق الدين وقد سئل عن معاملة من في ماله حرام فأجاب الورع: اجتناب معاملة من في ماله حرام فإن من اختلط الحرام في ماله: صار في ماله
__________
(1) انظر كتاب '' الحسبة في الإسلام'' لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، تحقيق محمد زهري النجار، من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض، من صفحة 101 إلى 105.
(2) انظر كتاب طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، الجزء (الأول)، صفحة 196.
شبهة بقدر ما فيه من الحرام إن كثر الحرام كثرت الشبهة ، وإن قل قلت ، وذكر حديث « الحلال بين والحرام بين » (1) وأما في ظاهر الحكم: فإنه يباح معاملة من لم يتعين التحريم في الثمن الذي يؤخذ منه؛ لأن الأصل: أن ما في يد الإنسان ملكه . وقد قال بعض السلف بع الحلال ممن شئت يعني إذا كانت بضاعتك حلالا فلا حرج عليك في بيعها ممن شئت ، ولكن الورع ترك معاملة من في ماله الشبهات ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك »
وقال ابن نجيم - القاعدة الرابعة عشرة- ما حرم أخذه حرم إعطاؤه كالربا ومهر البغي وحلوان الكاهن والرشوة وأجرة النائحة والزامر إلا في مسائل الرشوة ؛ لخوف على نفسه أو ماله أو ليسوي أمره عند سلطان أو أمير إلا للقاضي فإنه يحرم الأخذ والإعطاء كما بيناه في شرح الكنز من القضاء وفك الأسير ، وإعطاء شيء لمن يخاف هجوه . ولو خاف الوصي أن يستولي غاصب على المال فله أداء شيء ليخلصه كما في الخلاصة . انتهى (2) .
وقال الشيخ ملا علي القارئ في كلامه عن التوبة وأركانها : فإن كانت من مظالم الأموال فتتوقف صحة التوبة منها مع ما قدمناه في حقوق الله تعالى على الخروج عن عهدة الأموال وإرضاء الخصم في الحال والاستقبال بأن يتحلل منهم أو يردها إليهم أو إلى من يقوم مقامهم من وكيل أو وارث هذا ، وفي القنية رجل عليه ديون لأناس لا يعرفهم من غصوب أو مظالم أو جنايات يتصدق بقدرها على الفقراء على عزيمة القضاء إن وجدهم مع التوبة إلى الله .
ولو صرف ذلك المال إلى الوالدين والمولودين أي الفقراء يصير معذورا
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
(2) انظر كتاب الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة، صفحة 158.
فيها أيضا عليه ديون لأناس شتى كزيادة في الأخذ ونقص في الدفع فلو تحرى في ذلك وتصدق بثوب قوم بذلك يخرج عن العهدة ، قال : فعرف بهذا أن في هذا لا يشترط التصدق بجنس ما عليه . وفي فتاوى قاضيخان : رجل له حق على خصم فمات ولا وارث له تصدق عن صاحب الحق بقدر ما له عليه ليكون وديعة عند الله يوصلها إلى خصمائه يوم القيامة .(2/208)
وإذا غصب مسلم من ذمي مالا أو سرق منه فإنه يعاقب به يوم القيامة ؛ لأن الذمي لا يرجى منه العفو فكانت خصومة الذمي أشد ، ثم هل يكفيه أن يقول : لك علي دين فاجعلني في حل أم لا بد أن يعين مقداره ، ففي النوازل رجل له على آخر دين وهو لا يعلم بجميع ذلك ، فقال له المديون : أبرئني مما لك علي . فقال الدائن : أبرأتك فقال نصير رحمه الله لا يبرأ إلا عن مقدار ما يتوهم أي يظن أنه عليه ، وقال محمد بن سلمة رحمه الله عن الكل قال الفقيه أبو الليث حكم القضاء ما قاله محمد بن سلمة وحكم الآخرة ما قاله نصير ، وفي القنية من عليه حقوق فاستحل صاحبها ولم يفصلها فجعله في حل يعذر إن علم أنه لو فصله يجعله في حل وإلا فلا قال بعضهم : إنه حسن وإن روى أنه يصير في حل مطلقا . وفي الخلاصة رجل قال لآخر حللني من كل حق هو لك ففعل فأبرأه إن كان صاحب الحق عالما به برئ حكما بالإجماع ، وأما ديانة فعند محمد رحمه الله لا يبرأ ، وعند أبي يوسف يبرأ وعليه الفتوى- انتهى ، وفيه أنه خلاف ما اختاره أبو الليث ، ولعل قوله مبني على التقوى (1) .
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى هذا السؤال: إذا دخل عليه محرم لكسبه فما الحكم؟ فأجاب بما نصه:
ج: من دخل عليه محرم لكسبه ، فلا يخلو من ثلاث حالات: إحداها: أن يكون عن منفعة محرمة استوفاها من انتقل منه المال
__________
(1) كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة وشرحه للشيخ ملا علي القارئ الحنفي، ص 44ا- 145.
فهنا لا يرد المال لصاحبه ، لكن على من كان بيده التصدق به .
الثانية: أن يصل إليه لا عن وجه المعاوضة كالمغصوب فيلزم رده إلى مالكه أو ورثته .
الثالثة: أن يكون بيده مال لغير من يعلمه كالمغصوب والودائع التي جهل أربابها فله دفعها إلى الإمام أو نائبه وله التصدق بها عنهم؛ لعدم إيصال نفع مالهم إليهم إلا في هذه الصورة . فإذا وجد صاحبه أو ورثته بعد ما تصدق بها خيره بين إمضاء ذلك التصرف ، أو يكون الأجر لصاحبها الأصيل ، وبين أن يرد هذا التصدق ، ويكون الأجر للذي تصدق به ، ويضمن المال لصاحبه . أما المحرم لذاته كالميتة ، فلا يجوز مطلقا (1) كما سئل رحمه الله تعالى هذا السؤال: إذا كان عندك مال مغصوب وتعذر معرفة صاحبه فما الحكم؟ وعلى أي قاعدة ينبني؟ فأجاب بما نصه:
ج: من تعذر عليه معرفة صاحب الشيء يتصدق به عن صاحبه بشرط الضمان ، أو يسلمه إلى الحاكم ويبرأ من تبعته ، وذلك مثل إذا كان عندك وديعة لإنسان أو مال مغصوب ، وتعذر عليك معرفة صاحبه وأيست من ذلك فأنت بالخيار ؛ إما أن تعطيها الحاكم ؛ لأن الحاكم ينوب مناب الشخص المجهول ويجعلها في المصالح العامة ، وإما أن تتصدق بها عن صاحبها وتنوي إذا وجدته خيرته بين أن تقدمها له ويكون لك أجر الصدقة بها أو يمضي ما تصدقت به . ويكون الأجر له (2)
__________
(1) الفتاوى السعدية، الجزء (الأول)، صفحة 434.
(2) الفتاوى السعدية، الجزء (الأول)، صفحة 430.
جـ- حكم المال المغلول
لما كان المال المغلول من المكاسب التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم رأيت أن أكتب بعض ما قاله العلماء فيه .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى (حديث آخر) قال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلولا قال: فسأل سالم بن عبد الله فقال حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه » (1)
قال: وأحسبه قال (واضربوه) قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما ؟ فقال بعه وتصدق بثمنه . وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي . زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به ، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا ، وقال الدارقطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط ، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل ومن تابعه من أصحابه . وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه . ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد المملوك ويحرم نصيبه) . وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال ، بل يعزر تعزير مثله: وقد قال البخاري وقد
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2713),مسند أحمد بن حنبل (1/22),سنن الدارمي السير (2490).
امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ، ولم يحرق متاعه والله أعلم (1) انتهى المقصود مما ذكره ابن كثير رحمه الله تعالى .
وعند تفسير قوله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (2)
ذكر القرطبي رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . . » (3) . ) الحديث .
ومن كلام القرطبي على هذا الحديث قال:
الرابعة : وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع الوجل الذي أخذ الشملة ، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات الذي ترك الصلاة عليه " ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم ولو فعل لنقل ذلك في الحديث ، وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه » (4) فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة وهو ضعيف لا يحتج به . قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي ، وهو منكر الحديث .
وروى أبو داود أيضا عنه قال: (غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد العزيز بن عمر وعمر بن عبد العزيز ، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه ، قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين ، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه . قال أبو داود
__________
(1) تفسير ابن كثير، جزء (1)، صفحة 423.
(2) سورة آل عمران الآية 161
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2908),سنن أبو داود الزكاة (1658).
(4) سنن الترمذي الحدود (1461),سنن أبو داود الجهاد (2713),سنن الدارمي السير (2490).
وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه . قال أبو عمر قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه واحرقوا متاعه . وهذا الحديث يدور على صالح بن محمد وليس ممن يحتج به . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث » (1) وهو ينفي القتل في الغلول . وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع » (2) . وهذا يعارض حديث صالح بن محمد ، وهو أقوى من جهة الإسناد .(2/209)
الغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل .
وقال الطحاوي : لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال؛ كما قال في مانع الزكاة : "إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات الله تعالى" (3) وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثلها معها ، وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في التمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال ، وهذا كله منسوخ ، والله أعلم .
الخامسة : فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه ، وأدب وعوقب بالتعزير .
وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث لا يحرق متاعه ، وقال الشافعي والليث وداود إن كان عالما بالنهي عوقب ، وقال الأوزاعي يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه ، ولا تنزع منه دابته ، ولا يحرق الشيء الذي غل ، وهذا قول أحمد وإسحاق
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6484),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676),سنن الترمذي الديات (1402),سنن النسائي تحريم الدم (4016),سنن أبو داود الحدود (4352),سنن ابن ماجه الحدود (2534),مسند أحمد بن حنبل (6/181),سنن الدارمي الحدود (2298).
(2) سنن الترمذي الحدود (1448),سنن النسائي قطع السارق (4971),سنن أبو داود الحدود (4391),سنن ابن ماجه الحدود (2591),مسند أحمد بن حنبل (3/380),سنن الدارمي الحدود (2310).
(3) في نهاية ابن الأثير: ''قال الحربي غلط الراوي في لفظ الرواية، إنما هو وشطر ماله شطرين أي يجعل ماله شطرين، ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا تلزمه فلا ''. وعزمة: حق من حقوقه وواجب من واجباته.
وقاله الحسن إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا ، وقال ابن خويز منداد : وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه ، قال ابن عبد البر ، وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز ، وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور . وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة ، ولا إنفاذ حكم؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه . وما ذهب إليه مالك ومن تابعه في هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر . والله أعلم .
السادسة : لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن ، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم ، وينزع الثمن من يد الذمي عقوبة له؛ لئلا يبيع الخمر من المسلمين . فعلى هذا يجوز أن يقال : تجوز العقوبة في المال ، وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء .
السابعة : أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك ، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له ، وخرج عن ذنبه واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه ، فقال جماعة من أهل العلم يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي . هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري . وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وقال الشافعي ليس له الصدقة بمال غيره ، قال: أبو عمر فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته ، وأما إن لم يمكن شيء من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله تعالى . وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان ، وكذلك المغصوب ، وبالله التوفيق (1) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في الكلام على هذه المسألة ما نصه:
المسألة السابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة ، فلا يطلع عليه الإمام ولا يضمه مع الغنيمة .
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح وهو مذهب الإمام أحمد ، وبه قال الحسن وفقهاء الشام ، منهم مكحول والأوزاعي ، والوليد بن هشام ، ويزيد بن زيد بن جابر ، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه .
وقال يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله ، رواهما سعيد في سننه ، قال ابن قدامة في المغني :
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود : وصالح هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه » (2) . قال: فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه- فقال بعه وتصدق بثمنه . انتهى بلفظه من أبي داود .
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم وسعيد وقال أبو داود أيضا: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي ، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد ، قال غزونا مع الوليد بن هشام ، ومعنا سالم بن
__________
(1) تفسير القرطبي، جزء (4)، من صفحة 258 حتى صفحة 261.
(2) سنن الترمذي الحدود (1461),سنن أبو داود الجهاد (2713),سنن الدارمي السير (2490).
عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعا ، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه . قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد ، وكان قد غل وضربه .
حدثنا محمد بن عوف : قال حدثنا موسى بن أيوب ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه . » (1)
قال أبو داود : وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه قال أبو داود : وحدثنا الوليد بن عتبة ، وعبد الوهاب بن نجدة ، قالا حدثنا الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منه سهمه ، انتهى من أبي داود بلفظه ، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي ، والحاكم والبيهقي .
قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبو واقد الليثي ، وهو منكر الحديث .
قال المنذري : وصالح بن محمد بن زائدة : تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وقد قيل : إنه تفرد به . وقال البخاري عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول ، وهو باطل ليس بشيء ، وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد . قال: وهذا حديث لم يتابع عليه ، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمحفوظ أن سالما أمر بذلك وصحح أبو داود وقفه فرواه موقوفا من وجه آخر ، وقال: هذا أصح كما قدمنا ، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2715).
الخراساني . وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها ، وقال البخاري عن أحمد كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر .
وقال أبو حاتم : حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه . انتهى .
وقال البيهقي : ويقال إنه غير الخراساني ، وإنه مجهول . انتهى .(2/210)
وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيب ، وقال ابن حجر : إن وقفه هو الراجح .
وذهب الأئمة الثلاثة ، مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة : إلى أنه لا يحرق رحله ، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال ، وبما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عبد الله بن عمرو ، « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة ، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا قال نعم . قال ما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة . فلن أقبله عنك » (1) . هذا لفظ أبي داود . وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم وصححه .
وقال البخاري : قد روي في غير حديث عن الغال ، ولم يأمر بحرق متاعه . فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى ، وهم أكثر العلماء (2) .
وبعد ما ساق رحمه الله تعالى آراء العلماء في هذه المسألة وأدلتهم على ما رأوه فيها بين رأيه الذي يرجحه فيها فقال:
قال مقيده -عفا الله عنه- والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ذكر الخلاف المذكور في
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2712),مسند أحمد بن حنبل (2/213).
(2) أضواء البيان، جزء (2)، من صفحة 404 إلى 407.
المسألة: والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة ، فإنه حرق وترك وكذلك خلفاؤه من بعده . ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة . فليس بحد ولا منسوخ وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام . انتهى
وإنما قلنا : إن هذا القول أرجح عندنا ؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة ، كما علم في الأصول ، والعلم عند الله تعالى (1)
__________
(1) أضواء البيان، جزء (2)، صفحة 407.
د- مقتطفات من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية والإفتاء في كيفية التخلص من المكاسب المحرمة
ورد إلى اللجنة هذا السؤال: ( إن بعض البنوك السعودية تعطي أرباحا بالمبالغ التي توضع لديها من قبل المودعين ، ونحن لا ندري حكم هذه الفوائد هل هي ربا أم هي ربح جائز يجوز للمسلم أخذه؟ ) فأجابت بما يلي:
الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين على المبالغ التي أودعوها فيه تعتبر ربا ، ولا يحل له أن ينتفع بهذه الأرباح ، وعليه أن يتوب إلى الله من الإيداع في البنوك الربوية ، وأن يسحب المبلغ الذي أودعه وربحه ويحتفظ بأصل المبلغ وينفق ما زاد عليه في وجوه البر من فقراء ومساكين ، وإصلاح مرافق عامة ونحو ذلك (1) .
كما ورد إليها أيضا هذا السؤال:
هل يجوز للولد أن يرث من مال أبيه مع علمه بأن المال خبيث ومن طريق غير مشروع كالربا والتجارة في المحرمات؟ فأجابت بما يلي:
__________
(1) من الفتوى رقم 7133 وتاريخ 6 \ 7 \ 1404هـ.
إذا علم أن مال أبيه كله حرام أخذ ما يخصه منه وتخلص منه بإنفاقه في وجوه البر تعففا بما علم أنه حرام ونصح لورثة أبيه أن يتخلصوا مما لهم من هذا المال .
كما سئلت اللجنة أيضا هذا السؤال:
شخص عاش يكسب من حرام مدرسا للموسيقى وعازفا للموسيقى في الملاهي والمراقص ثم تاب واعتزل ذلك الحرام ، ولجأ إلى الله فهل من شرط توبته أن يتخلى عن ذلك المال الذي جمعه من هذا الطريق ، ثم هو يسأل كيف يتصرف في تلك الأموال مع استعداده لتركها بالكلية ، وهل يختلف الأمر إذا كان مستعدا أو غير مستعد للتنازل عن المال ومكتفيا من غيره أم غير مكتف؟ فأجابت بما يلي:
إذا كان كافرا وقت كسبه ما ذكر من الحرام ثم تاب توبة نصوحا من كفره ومن هذا الكسب الحرام تاب الله عليه ولم يجب عليه التخلص مما مضى من الكسب الحرام قبل إسلامه .
وإن كان غير كافر وقت أن كسب هذا المال الحرام ولكنه فاسق بهذا الكسب الحرام ثم تاب فمن شرط قبول توبته التخلص من هذا المال الحرام بإنفاقه في وجوه البر ؛ لأن ذلك دليل صدقه في توبته وإخلاصه فيها (1) .
هذا وأسأل الله سبحانه أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه ، وأن يوفقنا إلى العمل بما يرضيه ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عبد الله بن حمد بن عبد الله العبودي
__________
(1) من الفتوى رقم 7631 وتاريخ 24 \ 10 \ 1404هـ.
مصادر البحث
1 - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين- تأليف السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى - طبعة هندية .
2 - إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ- نشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع .
3 - الآداب الشرعية والمنح المرعية تأليف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي ، نشر مكتبة الرياض الحديثة- توزيع الرئاسة .
4 - الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان - تأليف الشيخ زين العابدين بن إبراهيم بن نجيب - نشر دار الكتب العلمية بيروت- لبنان .
5 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن تأليف محمد الأمين بن محمد المختار الحلبي الشنقيطي المطبوع على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز والموزع من قبل الرئاسة .
6 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم- لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق محمد حامد الفقي - مكتبة السنة المحمدية .
7 - بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفوائد الربوية .
8 - تفسير الطبري (المسمى جامع البيان في تفسير القرآن) تأليف الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 - طباعة دار المعرفة والنشر- بيروت - لبنان .
9 - تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل
ابن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 طباعة 1403هـ ، دار المعرفة - بيروت - لبنان .
10 - تفسير القرطبي المسمى (الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671- مطبعة دار الكتب المصرية .
11 - تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضاء - مكتبة القاهرة- الطبعة الرابعة .
12 - " التفسير القيم- للإمام ابن القيم المتوفى سنة 751 تحقيق محمد حامد الفقي - لجنة التراث العربي- لبنان .
13 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم- تأليف زين العابدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر .
14 - الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق محمد زهري النجار - من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض .
15 - الذيل على طبقات الحنابلة- تأليف أحمد بن رجب الحنبلي - مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة .
16 - زاد المعاد في هدي خير العباد- لابن القيم - الطبعة الثالثة عام 1973م ، 1392هـ ، الطبعة المصرية .
17 - صحيح البخاري .
18 - صحيح مسلم .
19 - طبقات الحنابلة- للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى - مطبعة السنة المحمدية- القاهرة .
20 - الفتاوى السعدية- تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - مطبعة دار الحياة- دمشق .
21 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .(2/211)
22 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة في وقته- جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى .
23 - الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تقديم حسين محمد مخلوف - دار الكتب الحديثة لصاحبها توفيق عفيفي ، 14 شارع الجمهورية .
24 - الفقه الأكبر للإمام أبي حنفية - وشرحه للشيخ ملا علي القارئ الحنفي المتوفى سنة 1001 طبع مطبعة دار الكتب العربية الكبرى على نفقة أصحابها مصطفى البابي الحلبي وأخويه بكري وعيسى بمصر . 25- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم - توزيع الرئاسة .
26 - المجموع شرح المهذب- للإمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي تحقيق وتكميل محمد نجيب المطيعي ، نشر مكتبة الإرشاد بجدة .
27 - مجلة البحوث الإسلامية - العدد العاشر .
28 - مدارج السالكين- للإمام ابن القيم المطبوع على نفقة محمد سرور الصبان والموزع من قبل الرئاسة .
29 - (مقدمات ابن رشد ) تأليف الفقيه الحافظ (قاضي الجماعة بقرطبة) أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 420هـ- أول طبعة على نفقة الحاج محمد أفندي ساسي المغربي التونسي التاجر
بجوار محافظة مصر - طبع مطبعة السعادة بجوار ديوان محافظة مصر لصحابها محمد إسماعيل سنة 1325هـ .
30 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار تأليف محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ ، نشر وتوزيع الرئاسة . الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م- طباعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت - لبنان .
==============
ذكر الأسباب التي يرى الدكتور إبراهيم عبد الناصر تحريم الربا لأجلها والرد عليها
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 18 / ص 137)
دراسة لمقال الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
للدكتور / محمد بن أحمد الصالح (1) .
تقديم : الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد : فقد قرأت هذا المقال القيم المتضمن الرد على ما كتبه الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر في موضوع الربا تحت عنوان : موقف الشريعة الإسلامية من المصارف . الصادر من فضيلة الدكتور محمد بن أحمد بن صالح ، فألفيته قد أعطى المقام حقه واستوفى الأدلة الدالة على بطلان ما حاوله الدكتور إبراهيم من تحليل أنواع الربا ما عدا مسألة واحدة ، وهي : ما إذا أعسر المدين واتفق مع الدائن على التأجيل بفائدة معلومة . ولا ريب أن ما حاوله الدكتور إبراهيم في بحثه المذكور من تحليل أنواع الربا ما عدا المسألة المذكورة ، قد حاد فيه عن الصواب بشبه واهية أوضح الدكتور محمد في مقاله المذكور بطلانها وكشف زيفها . فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أنصار الحق .
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة الصحيحة علم تحريم ربا الفضل وربا النسيئة في جميع الصور التي تتعامل بها البنوك وبعض التجار الذين
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر ، ص 304
لا يتحرجون من المعاملات الربوية . وقد توعد الله المرابين بأشد الوعيد فقال سبحانه { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (2) ، وقال عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (3) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (4) ، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء . » (5)
والأحاديث في تحريم الربا بأنواعه كلها كثيرة جدا ، فالواجب على كل مسلم أن يحذر المعاملات الربوية وأن يبتعد عنها وألا يغتر ببعض من زلت قدمه في تحليلها أو التساهل فيها .
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لكل خير وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يوفق أخانا الدكتور محمد بن أحمد للمزيد من العلم النافع والعمل الصالح وأن يشكر له سعيه ويجزل مثوبته .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح البخاري اللباس (5617),سنن أبو داود البيوع (3483),مسند أحمد بن حنبل (4/308).
وأن يهدي الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر للحق وأن يلهمه رشده ويعيذه من شر نفسه إنه جواد كريم . وصلي الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
بداية الدراسة : يتضمن هذا المقال : محاولة إثبات أن الربا الذي جاء القرآن بتحريمه غير متحقق في معاملة المصارف بالاستدانة منها بفائدة يحددها المصرف ويلتزم المستدين بدفعها إلى المصرف مع أصل الدين ، ومن ثم تكون هذه المعاملة مشروعة .
وقبل أن نناقش ما جاء في هذا المقال نحب أن نقرر هنا أمورا : أ ) إن إخضاع الشريعة لواقع الناس في معاملاتهم وتصرفاتهم غير جائز شرعا ، ومن ثم يجب رفضه ؛ لأن الشريعة حاكمة يخضع الناس لأوامرها ونواهيها ، وليست محكومة لواقع الناس وأهوائهم وأغراضهم يتبعونها عندما تحلو لهم ، وينأون عنها إذا لم تصادف هوى في نفوسهم ، يقول الله تعالى في تقرير هذا المبدأ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1) . ويقول جل شأنه : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (2) ، ويقول عز وجل : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3) .
إذن فمحاولة إضفاء الشرعية على العملية المصرفية المذكورة وما يترتب عليها من فوائد تبريرا لما يتعامل به الناس مع المصارف أمر غير جائز شرعا ؛ لأنه هدم للشريعة ومحاولة للتخلص من اتباعها .
ب ) إن فقهاء الأمة في كل عصر ومصر مطالبون بإيجاد البديل عن
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة الأحزاب الآية 36
(3) سورة النور الآية 51(2/212)
المعاملات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم ولا تقرها الشريعة ، إما بسبب انحراف الناس عن اتباع سنن الشريعة فيها ، أو تقليد غير المسلمين في تعاملهم بها ، وهذا البديل لا بد أن يكون في ظل الشريعة ، فإن كان حكم المعاملة منصوصا عليه طبق عليها ، وإلا ففي ميدان السياسة الشرعية التي يبنى فيها الحكم على المصلحة متسع له بشرط ألا يخالف نصا أو إجماعا ، فإن أعوزنا النص ولم تسعفنا السياسة الشرعية - ونادرا ما يحصل هذا - حكمنا ببطلان هذه المعاملة ؛ لظهور تحقق المفسدة فيها حينئذ .
ج ) إن أحكام الشريعة يأخذها المرء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذا كان أهلا للاستنباط منهما ، فإن لم يكن أهلا أخذها من أقوال فقهاء أهل الشريعة المعترف بإمامتهم وحذقهم في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما .
أما أدعياء الاجتهاد والبحث الذين لم ينشأوا في رحاب الشريعة ، ولم يتمرسوا بها ، ولكنهم أقحموا أنفسهم في ميدانها لغرض من الأغراض ، فهؤلاء لا تؤخذ عنهم شريعة الله ولو ظهرت لهم كتب أو مقالات أو أبحاث تحمل أسمائهم وذلك لعدم الثقة بها والاطمئنان إليها .
د ) إن فقهاء الشريعة يقسمون أحكامها إلى قسمين : 1 - أحكام قطعية : ويريدون بها الأحكام التي ثبتت بأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ، وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم أو السنة المتواترة ، إذا كانت دلالتها على المعنى لا تحتمل معنى آخر غير ما تدل عليه بأصل وضعها اللغوي .
2 - أحكام ظنية : وهي التي ثبتت بأدلة ظنية الثبوت والدلالة معا ، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة ، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة ،
وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم إذا كانت دلالتها تحتمل أكثر من معنى ، والأحكام الثابتة بالسنة غير المتواترة ، سواء كانت ظنية الدلالة أو قطعيتها .
ولا يعني هذا التقسيم أن الأحكام الظنية لا يجوز العمل بها ؛ لأن أدلتها ضعيفة ، أو لمعارضة مصلحة لها فتترجح عليها ، بل على العكس يجب العمل بها ؛ لأن الإجماع قد قام على وجوب العمل بالأحكام الظنية التي بينا حقيقتها ، ويؤيد ذلك أن أغلب أحكام الشريعة أحكام ظنية ، أما التقسيم المذكور فالغرض منه بيان تنوع الأحكام الشرعية وخصائص كل نوع ، وإذن فالتشكيك في قيمة الأحكام الظنية أو توهين العمل بها بقصد أو بدون قصد ، أو جعلها عرضة لأهواء بعض المعاصرين يرفضونها بأهوائهم استنادا إلى المصالح التي يزعمونها يعتبر هدما للأحكام الشرعية .
هـ ) إن بتر النص والاستشهاد ببعضه الذي يؤيد دعوى المدعى وإغفال البعض الآخر الذي لا يؤيده ، أو الاستشهاد بنص مع إغفال النصوص الأخرى وعدم ربط بعضها ببعض يعتبر ذلك كله خارجا عن المنهج السليم في البحث ، ويشبه أن يكون من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر وهذا أمر مذموم بنص القرآن الكريم .
وإذن فالإدعاء بأن فلانا من الفقهاء المعترف لهم بالإمامة قال كذا ، بدون ذكر صدر القول أو عجزه ، أو بدون ربطه بما ذكره هذا الفقيه في مواضع أخرى من مؤلفه أو مؤلفاته قول لا قيمة له في البحث العلمي ، وهو منهج مرفوض ومسلك مردود في مجال الإثبات والاستدلال لدى أهل الجدل والبحث والمناظرة من الفقهاء والعلماء .
و ) يعرف الفقهاء الربا بأنه : فضل مال بلا عوض لأحد المتعاقدين في
معاوضة مال ربوي بجنسه ويقسون الربا إلى قسمين : ربا النسيئة وربا الفضل .
فربا النسيئة عبارة عن الزيادة في مقابل الأجل ، ومنه الربا الذي كان معروفا في الجاهلية ، وهو أن يكون للشخص دين على آخر فيقول الدائن للمدين عند حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن لم يقضي المدين زاده في المال وزاد الدائن في الأجل .
أما ربا الفضل فهو : الزيادة التي لا يقابلها عوض في معاوضة مال بمال ، سواء كانت في الأشياء الستة الواردة في الصحيحين وغيرهما ، وهي : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، أو في غيرها بطريق القياس عليها ، والربا بقسميه محرم بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) ، فإن النص يفيد تحريم الربا بجميع أقسامه ، لأن - أل - في الربا للجنس ، و - أل - الجنسية تفيد العموم كما نص على ذلك الأصوليون ، فيكون تحريم جميع أنواع الربا ثابتا بعموم النص القرآني .
أما السنة فالأحاديث الكثيرة في ذم الربا ، والوعيد الشديد لمن يمارسه ، والتقبيح والتشنيع على من يتعامل به وكذلك الأحاديث الواردة في المنع من ربا الفضل ، مثل حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - المتفق عليه وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ، - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز » (2) ، وفي لفظ « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).
والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء » (1) رواه أحمد والبخاري (2) . وفي لفظ « لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء » (3) رواه أحمد ومسلم ففي الأحاديث الثلاثة الصحيحة دلالة على تحريم ربا الفضل ؛ لورودها بصيغة النهي الدالة على التحريم والفساد والبطلان كما هو مقرر عند علماء الأصول ) .
أما الإجماع : فقد اتفق المجتهدون من الأمة من لدن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يومنا هذا على تحريم الربا بنوعيه ربا النسيئة وربا الفضل ، والاختلاف بين الفقهاء ليس في أصل تحريم ربا الفضل ، إنما هو في جريان الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تلك الأحاديث ، وذلك بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته ، بدليل أن الأصناف الربوية الستة التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حرمتها ليست محل خلاف بين أحد من الفقهاء . أما ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من جواز ربا الفضل ، فقد صح رجوعه عن هذا القول عندما بلغته الأحاديث الصحيحة بالتحريم التي لم يكن قد اطلع عليها ، على أن العلماء لم يسوغوا هذا الخلاف لورود الأحاديث الصحيحة بتحريم ربا الفضل في الصحيحين وغيرهما ، والخلاف الذي لا يسوغه العلماء لا قيمة فيه لرأي المخالف ، وذكره في الكتب لمجرد الحكاية والتاريخ ، وأيضا فقد نقل التحريم عن الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم .
وبعد هذه المقدمة الموجزة والتي تضمنت أمورا في غاية الأهمية نتناول مقالة الكاتب بالدراسة والتحليل فنقول :
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067,2089),صحيح مسلم المساقاة (1584,1584),سنن الترمذي البيوع (1241,1241),سنن النسائي البيوع (4565,4565),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (3/50,3/97),موطأ مالك البيوع (1324,1324).
(2) كتاب البيوع 3 \ 6 .
(3) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).(2/213)
1 - إن قول صاحب المقال ( إن الربا المجمع على تحريمه هو ربا النسيئة فقط ) . خطأ فاحش لما قدمنا من الإجماع على أصل تحريمه في الأصناف الستة وإن الاختلاف بينهم إنما هو في غير الأصناف الستة بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته ، أي أنه اختلاف في التطبيق وليس اختلافا في الأصل (1) .
2 - إن ما جاء في المقال من ( أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابلة الأجل هو ربا الفضل ) . خطأ أيضا ، وهو خلط بين القسمين لأن الزيادة في مقابل الأجل من خصائص النسيئة غالبا ، وقد يجتمع النوعان في ربا النسيئة كما لو باع ذهبا بذهب أكثر منه أو أقل إلى أجل أو فضة بفضة أكثر منها أو أقل منها إلى أجل وهكذا ما يشبه ذلك من أصناف الربا ، ثم أي فرق بين الزيادة لأجل الأجل في ابتداء عقد الدين ، والزيادة لأجل الأجل في المرة الثانية عند عجز المدين عن الوفاء وطلبه التأجيل ؟ ولماذا كانت الزيادة في المرة الأولى جائزة مع وجود ربا الفضل والنسيئة ومحرمة عند أنظاره في آخر العقد عند العجز ؟ . اللهم إن هذا حكم لا يقوم عليه دليل وخلط غير مستقيم .
3 - إن بعض الكتاب المعاصرين من الذين يدعون التحرر والاجتهاد ويقسمون الربا إلى نوعين : ربا استهلاك وربا استثمار .
ويريدون بربا الاستهلاك الربا الذي يدفعه المدين مع القرض الذي استهلكه في حاجة نفسه وأولاده من طعام وكسوة وسكنى ودواء ودفع حاجة ونحوها .
ويريدون بربا الاستثمار : ما يدفعه المدين مع القرض الذي
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني 5 \ 161 - 167
صرفه في توسيع تجارته أو مصانعه أو أرضه بقصد الربح والفائدة . ويقولون إن النوع الأول هو المحرم ؛ لأن الغني يستغل حاجة الفقر المحتاج . أما النوع الثاني فإنهم يقولون بجوازه وحله ، ومن هؤلاء صاحب المقال الذي بين أيدينا ، وسيأتي بيان وجهة نظرهم والرد عليها .
4 - أما بالنسبة لإضفاء الشرعية على المعاملة المصرفية وهي الاقتراض من المصرف بفائدة تدفع مع أصل الدين حسب اتفاق المصرف مع المدين ، إن الكاتب استند في ادعاء هذه الشرعية إلى شبه نوردها ثم نبدي رأينا فيها :
الشبهة الأولى : إن الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وربا الفضل حرم سدا للذريعة ، وما كان كذلك فيجوز التعامل به إذا اقتضت مصلحة الناس هذا التعامل ، وقد اقتضت المصلحة ذلك لأن معاش الناس لا يتم إلا بهذا التعامل . وقد استند في هذه الشريعة إلى فتوى الشيخ رشيد رضا وأقوال لابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن حزم - ص 4 من المقال .
تفنيد هذه الشبهة : نرد على هذه الشبهة بالنقاط التالية : أ- إن الزيادة الأولى ليست من ربا الفضل وحده ، بل هي جامعة لربا الفضل والنسيئة كما تقدم لأنها في مقابل التأجيل قطعا ، واعتبارها من ربا الفضل وحده قول لا نعلمه لأحد من أهل العلم ممن يعتد بقوله من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين ، فهو قول باطل وفيه مغالطة وتلبيس .
2 - إن القول بأن ربا الفضل حرام سدا للذريعة قول باطل لا يقوم على دليل ، إذ إن ربا الفضل محرم ابتداء وقصدا ، كما تدل عليه
الأحاديث الخاصة بتحريمه ، ونسبة هذا القول لابن القيم خطأ إذ لم يقل به أصلا (1) . وإنما تحدث رحمه الله عن بيع المعدوم وأشار إلى أن الشريعة تراعي المصالح ولم يتحدث عن ربا الفضل أصلا ، وقد ساق الكاتب عبارته عن الأخذ بالمصالح مبتورة محرفة .
3 - إن القول بجواز التعامل به إذا اقتضت المصلحة ذلك بناء على أن تحريمه مبني على سد الذريعة قول باطل ؛ لأن تحريم ربا الفضل ثابت بنصوص السنة الصحيحة الصريحة القوية في دلالتها ومثل هذه لا يجوز معارضتها بالمصلحة ؛ لأن المصلحة لا اعتبار لها أمام النصوص الصحيحة ، إذ هي لا تعتبر إلا في الوقائع المسكوت عنها ، أي التي لم يرد بحكمها نص بالاعتبار أو الإلغاء ، أو في الوقائع التي بني الحكم فيها على سد الذريعة ابتداء ، على أن القول بتحكيم المصلحة في النصوص قول باطل لم يؤثر إلا عن نجم الدين الطوفي من فقهاء الحنابلة في القرن الثامن ، وقد رفضه العلماء قديما وحديثا مبينين بطلانه وفساده إذ لو حكمت المصالح في النصوص تهدمت الشريعة وخضعت لأهواء الناس وفي ذلك ضياع لها والعياذ بالله .
4 - إن القول بأن معايش الناس لا تتم إلا بهذه المعاملة قول لا يؤيده شيء من النصوص أو واقع المعاملات بين الناس ، بل إن النصوص ومعاملات الناس تدل على استقامة الحياة وتمام المعيشة بدون هذه المعاملة الربوية ، ولما دخلت هذه المعاملة حياة الناس أوجدت الكثير من النكد والتنغيص وفساد الحالة الاقتصادية ، ومما يؤيد ذلك ما
__________
(1) في الكتاب الذي أشار إليه صاحب المقال وهو '' زاد المعاد ''
قرره أساطين الاقتصاد في العالم من أن أكبر ضربة قاصمة توجه إلى اقتصاد أي دولة تأتي من ناحية الربا ، ولقد حرمت روسيا الملحدة التعامل بالربا ، فهل ضعف اقتصادها وهل أصاب معيشة أهلها شيء من الضنك والضيق والمشقة بسبب عدم التعامل بالربا ؟
بل إن ما أصابهم ويصيبهم من الضيق والضنك إنما هو لجور الأنظمة الماركسية . إن اقتراض التجار وأصحاب رؤوس الأموال من الأغنياء لا تدعو إليه حاجة فضلا عن الضرورة ، فالتاجر يقترض من المصرف لتوسيع تجارته وصاحب المصنع يقترض للتوسع في صناعته وأصحاب المزارع يقترضون للتوسع في الزراعة ووفرة الإنتاج ، وهذه ليست أمورا أساسية لا تتم حياة الناس ومعايشهم إلا بها ، وإنما هي أمور توسيعيه لا تشكل حاجة في حياة الناس فضلا عن الضرورة .
وقد يقال إن الأمة في حاجة إلى التوسع في وسائل الإنتاج لتكون قوية وقادرة على مواجهة الأحداث الاقتصادية ومواجهة الدول التي تستغل الدول الإسلامية نتيجة ضعفها المادي والاقتصادي . والجواب عن هذا : إن الحاجة إلى التوسع المذكور تسد من قبل الدولة أو من قبل الأفراد بتكوين الشركات الضخمة والمصانع العملاقة واستصلاح الأراضي البور ، وذلك كله وظيفة الدولة وهي وظيفة واجبة كلها ومسؤولة عنها أمام الله سبحانه وتعالى .
5 - أما فتوى الشيخ رشيد رضا التي استند إليها الكاتب في كلامه فإنه ليس ممن يحتج بقوله إذا كان معه غيره فما بالك إذا انفرد وخالف النص ، أما ما نقله الكاتب عن ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن حزم فهي نصوص بعضها مبتور عن أصله ، وبعضها غير
موافق لما قالوه في غير هذه المواضع وكلا الأمرين غير صالح للاحتجاج (1) .
__________
(1) وعلى فرض موافقتها لرأي الكاتب قد تقرر في الأصول أن كل رأي يخالف النصوص من الكتاب والسنة لا يجوز التعويل عليه يقول اللّه عز وجل : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ، وقوله سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(2/214)
الشبهة الثانية : أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة المحتاج ، والظلم غير متحقق في اقتراض كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال من المصارف بالفوائد لتنمية أموالهم وتجارتهم ومصانعهم ؛ لأنهم ليسوا محتاجين ويستأنس الكاتب بقول الشيخ رشيد رضا : ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي التي لولاها فاتتهما المنفعة معا لا تدخل في هذا التعليل { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) .
الرد على هذه الشبهة : إن الشبهة ليست بشيء في مقام الاستدلال لما يأتي : أ ) إن حكمة تحريم الربا ليست منحصرة في إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة الفقر ، بل هناك حكم أخرى للتحريم ، منها القضاء على البطالة والكسل بالنسبة للدائنين ودفعهم إلى العمل واستخلاص الرزق بالسعي في الأرض والمشي في مناكبها . ومنها أنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل لعدم العوض المقابل للزيادة الربوية . ومنها أنه يؤدي للعداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات ؛ لأنه ينزع عاطفة التراحم من القلوب وتضيع به المودة ويذهب المعروف بين الناس وتحل القسوة محل الرحمة .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
ب ) إن هذا الوجه في الاستدلال تعليل بالحكمة والراجح لدى الأصوليين هو عدم التعليل بالحكمة لعدم انضباطها وظهورها .
ج ) إنه على فرض جواز التعليل بالحكمة وانحصارها في إزالة الظلم فإنها ليست منحصرة في الفقير المحتاج ، بل هي أيضا متحققة أيضا بالنسبة للغني غير المحتاج ، إذ هي أكل لماله بالباطل لعدم المقابل للزيادة الربوية من مال أو منفعة أو مصلحة ، ويؤيد ذلك أن النص القرآني الوارد في تحريم الربا لم يفرق بين الفقير المحتاج والغني غير المحتاج ؟ كما يؤيده أيضا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع « ( وأول ربا أضعه تحت قدمي هاتين ربا عمي العباس ) » (1) ومعروف أن العباس يتعامل مع تجار قريش من الأغنياء ، ولم يكن مع الفقراء المحتاجين ؛ لأن مكانته من ذلك معروفة بإطعام الحجاج وسقايتهم ومواساة المحتاجين لا يسيغ هذا الإدعاء .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
الشبهة الثالثة : إن عملية الاقتراض من المصرف بفائدة تعتبر من البيع ، والبيع جائز حلال ، وفي ذلك يقول الكاتب نقلا عن الشيخ رشيد رضا ومقرا لقوله : إن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج . ثم يضيف إلى ذلك قولا للشيخ رشيد وهو : أنه ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلما لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام . اهـ .
الرد على هذه الشبهة : للرد على هذه الشبهة نقول : إن المعاملة المصرفية التي نحن بصدد مناقشتها لا تعتبر بيعا بأي معيار أو قياس من المعايير أو المقاييس الشرعية إذ ليس فيها بائع ومشتري ومبيع وثمن ، وإنما هي قرض بفائدة مقابل الأجل وهذا هو الربا بعينه ، نعم قد يبيع المقترض ويشتري ويتاجر بما اقترضه ولكن ذلك مع غير المصرف والمصرف لا علاقة له بهذه التجارة ؛ لأنه لم يعطه المال مشاركة أو مضاربة
أو على أي وجه من الوجوه التجارية ، وإذن فالادعاء بأن هذه المعاملة من قسم البيع ادعاء باطل وتخرج سخيف لا يقصد منه في نظرنا إلا التمويه على الناس لدفعهم إلى التعامل بالربا .
أما فتوى الشيخ رشيد رضا بحل أخذ الربح من صناديق الادخار والتوفر والمصارف فهي فتوى مخالفة للنصوص الشرعية ، إذ لا يجوز أخذ الربح من صندوق التوفر أو من المصارف التي تدفع أرباحا عن الأموال المودعة بها ، وذلك لأن صناديق التوفر والمصارف لا تستثمر أموالها في تجارة أو صناعة أو زراعة تحصل منها على أرباح وأموالها تأتي عن طريق إقراضها بفوائد فيأخذ البنك حصة منها ويعطي المدخر أو المودع البعض الآخر ، فالكثير من البنوك الآن يعطي المودع 6% فوائد بينما يأخذ هذا البنك نفسه من المقترض 14 % كما أفاد البنك المركزي المصري دار الإفتاء المصرية بذلك ، وإذن فما يأخذه المدخر أو المودع يعتبر أكلا للمال بالباطل وهذا ظلم فبطلت هذه الشبهة .
الشبهة الرابعة : إن خصائص الربا القرآني - في نظر الكاتب - لا تتحقق في المعاملة المصرفية التي نحن بصددها وهي الاقتراض بالفائدة . ويحدد الكاتب خمس خصائص للربا القرآني التي يسميها أسبابا ثم يري أنها ليست متحققة في المعاملة المصرفية ، ومن ثم تكون هذه المعاملة جائزة في نظر الشريعة الإسلامية ونستعرض هذه الخصائص وتطبيقها ثم نبين وجه البطلان فيها أو في تطبيقها أو فيهما معا : أ ) يرى الكاتب أن الخاصة الأولى من الربا القرآني المحرم هي : أن المدين لا بد أن يكون محتاجا للصدقة عملا بظروف الدين ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه .
ويمكن أن نرد شبهة الكاتب ومن سبقه في هذا الميدان بأن النصوص
القرآنية المحرمة للربا وردت عامة أو مطلقة لم تفرق بين الفقير المحتاج والغني القادر ، فتخصيصها أو تقييدها بما يكون مع الفقير المحتاج يحتاج إلى دليل ، وما ذكر على أنه دليل للتخصيص أو التقييد لا يعتبر دليلا أو شبه دليل لما يلي : أولا : أن الحث على التصدق لم يرد في كل آيات الربا وحسبنا أن آية التحريم الصريحة هي قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) لم يعقبها الحث على الصدقة .
ثانيا : أن الحث على التصدق الوارد عقب بعض الآيات ليس خاصا بالمدين دينا ربويا ، بل يشمله ويشمل غيره ، لورود الحث على الصدقة بصيغ عامة .
ثالثا : أن الغرض من الحث على الصدقة في بعض الآيات هو بيان الطريق السوي الأمثل الذي يجب أن يسلكه المرابي بدل طريق الربا المحرم ، بل هو حث له ولغيره فلا علاقة للحث على الصدقة التي تكون للفقير المحتاج بحقيقة الربا المحرم .
رابعا : أنه على فرض دلالة الحث على الصدقة على أن الربا المحرم هو الذي يكون مع الفقير المحتاج فإنه لا طريق لذلك إلا الاقتران ، ودلالة الاقتران دلالة غير معتبرة عند كثير من العلماء ومن يعتبرها فإنه يقرر أنها دلالة ضعيفة .
خامسا : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهدر ربا عمه العباس - رضي الله عنه - ومن المعروف أن العباس كان يرابي مع التجار الأغنياء ولم يكن يرابى مع المحتاجين من الفقراء كما قررناه من قبل ، وهذا يدل على أن الربا المحرم ليس قاصرا على المعاملة مع الفقراء المحتاجين ، والرسول عليه الصلاة والسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
مبين لما جاء في القرآن الكريم وكل ذلك يدل على بطلان هذه الخاصة .(2/215)
سادسا : أن العرب كانوا تجارا وكانت تجارتهم تمتد إلى خارج بلادهم في الشام واليمن فما المانع لهم من التعامل بالربا في التجارة ؟ ثم الذي يقول ( إنما البيع مثل الربا ) هم التجار أو الفقراء المحتاجون للصدقة ؟ أليسوا هم التجار الذين يتعاملون بالربا ويقيسونه على البيع ويجعلونه نوعا من أنواع البيع كما يقول بعض كتاب هذا العصر ؟ وما دخل الفقراء المحتاجين في جعل الربا مثل البيع وهم لا يزاولون بيعا ولا تجارة ؟ ثم أليس في مقابلة الربا بالبيع في قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) ما يشعر بأن العرب كانت تتعامل في الربا للأغراض التجارية ؟ إن ذلك كله يدل على أن تحريم الربا نزل في مجتمع كان فريق التجار فيه يتعاملون بالربا ، وهو ربا استغلالي وليس ربا استهلاكيا ، ومعنى هذا أن تحريم الربا يشمل الربا الاستهلاكي والاستغلالي ومن ثم تبطل شبهتهم ودعواهم في قصر الربا على الربا الاستهلاكي . ثم هل قامت المصارف أو تقوم بإقراض أهل الحاجة والفقر قروضا حسنة بدون فوائد ؟ أو أنها سلبتهم البقية الباقية من أموالهم بدون إشفاق على ضعفهم أو رحمة بصغارهم أو مراعاة لحاجتهم وأحوالهم .
سابعا : أن قصر الربا القرآني المحرم على المعاملة مع الفقير المحتاج دون الغني القادر ، أو بعبارة أخرى قصره على الربا الاستهلاكي دون الربا الاستغلالي لم يقل به أحد من المفسرين ولا أحد من الفقهاء ، ولم يظهر منه شيء في تعريفاتهم للربا على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم ، ولم يظهر القول به إلا في هذا العصر على لسان من يدعي التحرر والاجتهاد ومن هؤلاء صاحب المقال . ولكنه بكل أسف على حساب الشريعة بإخضاعها لواقع الناس وأهوائهم ، إننا لسنا ضد التجديد والاجتهاد بل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
على العكس ندعو إلى فتح أبوابهما على مصاريعها ولكن في إطار نصوص الشريعة وقواعدها الكلية ، وفي الحدود المرسومة للاجتهاد والاستنباط من الكتاب والسنة ، ونخلص من ذلك كله إلى أن الاحتياج للصدقة ليس خاصية للربا المحرم ولا جزءا من حقيقته ولا وصفا لازما له ، وإن الرأي القائل بأن الربا القرآني المحرم هو ربا الاستهلاك أي الربا الذي يأخذه الدائن من الفقير الذي يستهلك الدين في حاجته الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء دون ربا الاستغلال أي الربا الذي يأخذه الدائن من الغني الذي يقصد بدينه الاستثمار في التجارة أو الزراعة أو الصناعة ، قول باطل لعدم استناده إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو لغة أو نظر سليم أو قول لأحد من الفقهاء ، بل الأدلة قائمة على تحريم كل من ربا الاستهلاك وربا الاستغلال بما ذكرناه سابقا وبما سيأتي .
ونختم هذه النقطة بفتوى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ ( مايو 1965م ) ونصها : والفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ( الاستغلالي ) ، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام ، والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة والاقتراض بالربا كذلك ، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة ، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير الضرورة . وقد جاء في بحث هيئة كبار علمائنا ما نصه (1) : أما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا ، ربا الفضل وربا النسيئة حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخير .
ب ) يرى الكاتب أن الخاصة الثانية في الربا القرآني هي أن الدائن ينفرد
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد الثامن ، ص 41 ، 42
وحده بالمنفعة من الربا وهذه الخاصة غير متحققة في المعاملات المصرفية التي نحن بصددها ؛ لأن الدائنين فيها وهم الملاك الصغار - نقصد الذين أودعوا أموالهم في البنوك ابتغاء الفائدة - ويمثلهم المصرف لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين ، بل يشترك مع الكبار في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه . ويوضح الكاتب هذا المعنى فيقول في ص 6 : لأن المدين وهو المالك الكبير مشترك في المنفعة مع الدائن وهو المالك الصغير وذلك باستثماره أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع . ونرد على هذا التوجيه بأن المنفعة التي جاءت عن طريق الكبار واشترك فيها الصغار منفعة غير مشروعة ، إذ لا سند لها سوى ما ادعاه الكاتب من أنها تمت بموجب عقد تجاري رضائي ، وهذه دعوى غير صحيحة إذ ما هو نوع العقد التجاري ؟ إن كان بيعا فأين هو البائع ؟ إن كان صغار المالكين فهؤلاء لا يعرفهم الآخذ من المصرف ولا يعرفونه ، وإن كان المصرف فأين المبيع الذي وقع التعاقد عليه ، وإن كان نوع العقد شركة ، فتحديد المصرف نسبة معينة يبطل الشركة بإجماع الفقهاء ، لماذا تكون هذه النسبة ضئيلة في الغالب ؟ ثم إن كانت شركة فلماذا لا يتحمل المصرف الخسارة كما هو الشأن في سائر الشركات ، وإن كان نوع المعاملة رهنا فأين العين المرهونة ؟ لا شيء من ذلك كله ، إذا فأين الحقيقة ؟ إن النظر الفقهي السليم لا يمكن أن يكيف هذه المعاملة إلا بأنها قرض بفائدة ، وهذا هو عين الربا .
ثم إن قول الكاتب إن المدين دائما يكون من كبار المالكين قول ينقضه الواقع ، إذ إن كثيرا ممن يتعامل مع المصارف ليسوا من كبار المالكين ، بل فيهم الموظف الذي يقترض بضمان مرتبه وغير الموظف الذي يقترض بضمان أحد القادرين ، فهذا التعميم الذي ادعاه الكاتب غير صحيح
من ناحية الواقع العملي ويؤدي إلى أن تعامل المصرف مع هؤلاء غير جائز شرعا في نظر الكاتب ؛ لأن هؤلاء محتاجون إلى الصدقة فيعود هذا التعميم على أصله بالنقض وهو مالا يرضاه الكاتب .
وقول الكاتب إن المالك الكبير يستثمر أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع مغالطة مكشوفة ، إذ أن المالك الكبير يستثمر أموال الدين لمصلحته فقط ويعطي المصرف الفائدة المتفق عليها فقط دون المشاركة في الربح ، والقول بغير هذا مكابرة وإنكار لواقع المعاملة .
ج ) ويذهب الكاتب إلى أن الخاصة الثالثة للربا المحرم هي مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدين من تجارة ينتفع بها الطرفان ، وإن هذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية ؛ لأنها تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ودعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ ، ثم قال والمعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج ، ويؤيد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر فيها على أحد قول ابن قدامة : إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز ، وإن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها وإنما يرد بمشروعيتها ، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه : إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا .
ونرد على الكاتب بأن المعاملة المصرفية التي نحن بصددها ليست من التجارة ولا من قسم البيع لعدم سمات التجارة فيها ، ولأنه لا يوجد بها مبيع يقع عليه عقد البيع وإنها لا تتم في المصرف على أنها بيع ، بل على أنها قرض بفائدة محددة تدفع في كل عام ، والتدليل على أنها تجارة بتعارف الناس عليها تعليل غير سليم ؛ لأن الناس جميعا لم يتعارفوا عليها(2/216)
ولو فرض تعارفهم فهو عرف فاسد لمخالفته نصوص الربا العامة والمطلقة ، وكل عرف في مقابل النص فهو عرف فاسد لا يبنى عليه حكم ، وكذلك التدليل بأن هذا النوع من المعاملة قد دعت إليه حاجة الناس أجمعين تعليل غير سليم ؛ لأن الواقع الفعلي أن حاجة الناس جميعا لا تدعو إلى هذه المعاملة ، بل إن هذه المعاملة المصرفية تشكل حرجا للناس في معاملاتهما وتضعف اقتصاد الأمم والشعوب كما قرر ذلك أساطين الاقتصاد في العالم . وكثير من الناس - والحمد لله - يزاولون نشاطهم التجاري بدون أي حاجة إلى هذا النوع من المعاملة ، وقول ابن قدامة وابن تيمية وارد في المصالح التي سكت الشارع عليها ، فلم يرد باعتبارها أو إلغائها نص من الشارع ، كما صرحوا بذلك في كثير من المواضع وصرح به الأصوليون في كلامهم على حجية المصالح المرسلة .
وقول الكاتب إن الدائنين في المعاملات المصرفية هم من صغار المالكين لم يستغلوا المدينين الذين هم جميعهم هنا من كبار المالكين ، بل قد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم : قول غير صحيح لأن جل المنفعة يستأثر بها المدينون الذين هم من كبار الأغنياء ، وليس للدائنين وهم صغار المالكين إلا نسبة ضئيلة محدودة وقعت الاستدانة من المصرف على أساسها ، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق .
د ) ويرى الكاتب أن الخاصة الرابعة للربا القرآني تجعل صاحب الدين المرابي عند عجز المدين عن أداء الدين كالذي يتخبطه الشيطان من المس إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة ؛ لأنه فقد رأس ماله فوق فقده لأرباحه الربوية . وهذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية لأن المتعاملين فيها من معط وآخذ جميعهم يشعرون بالأمان والاطمئنان وذلك لقيام
إدارة المصرف نيابة عنهم باتخاذ جميع الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة على السواء لمصلحة الدائن والمدين .
والرد على ما ذكره الكاتب في هذه الخاصة : أن التصوير المقترح لمن يأكل الربا ليس تصويرا له عند عجز المدين عن الوفا أو عند تخوفه من عدم الوفاء ، وإنما هو تصوير له عند قيامه من قبره كما تظافرت بذلك أقوال المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد ، ويؤيد ذلك التفسير قراءة ابن مسعود ( لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس ) . وإذا لم يكن هذا تصوير للدائن في الدنيا فإنه لا يصلح أن يكون خاصة له ، لأن خاصة الشيء تكون لازمة للشيء ، والشيء الذي لا يتحقق إلا في الآخرة لا يكون ملازما له في الدنيا لانفكاك الجهة على أن هذا التصوير البشع جزاء المرابي في الآخرة ، أي أنه مترف بأكل الربا . وأثر الشيء لا يكون جزءا من حقيقته ولا وصفا له ولا ملازما له ملازمة عقلية لحصول الأثر عقب المؤثر ، فانتفى أن يكون هذا الوصف خاصة للربا القرآني .
على أن كلام الكاتب يقصر التصوير على آكل الربا الذي عجز المدين فيه عن الوفاء أو تخوف الدائن من عدم الوفاء مع أن التصوير القرآني يشمل أيضا من سلم له رأس المال والربح ، بل إن التصوير قاصر على من سلم له رأس المال والربح بدليل التعبير بيأكلون ، ولا يوصف بذلك إلا من سلم له رأس المال والربح ، وإذن فكيف يكون هذا التصوير خاصا بالدائن الذي عجز مدينه عن الوفاء . ثم يدلل الكاتب على انتفاء هذه الخاصة في المعاملة المصرفية بأنه لا يوجد فيها خوف من العجز عن الوفاء لقيام المصرف باتخاذ الإجراءات التي تمنع هذا الخوف . . . إلخ .
ما قاله من الأمن والسلامة في المعاملة المصرفية . نقول ردا على هذا : إن الأمن غير متحقق أيضا في المعاملة المصرفية رغم قيام المصرف بالمراقبة والإشراف ، وذلك لحصول الإفلاس من المدين في كثير من الأحيان والواقع الفعلي يؤيد هذا كما ظهر أخيرا من معاملات المدينين مع مصارف القاهرة ؛ حيث هربوا عن البلاد وضاع على المصارف ما دفعته إليهم ، وكما حدث في سوق المناخ بالكويت ، وإذن فالأمن منعدم في عملية المصرف كما هو منعدم في عملية المرابي .
هـ ) ويرى الكاتب أن الخاصة الخامسة للربا القرآني هي أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المحتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء ، وهي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ولا يقابلها في هذا العقد الجديد إلا تأجيل الاستيفاء من المدين من غير أي نفع مادي للمدين ؛ لأن التأجيل لا ينتفع به المدين في طعامه أو تجارته على حين أن الزيادة في الربا للدائن كانت زيادة مالية وقد اقتصرت عليه فقط دون مقابل للمدين ، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل ، ثم قال وهذه الخاصة منتفية في المعاملة المصرفية لأن الزيادة فيها تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية مع مدينين أغنياء من رجال الأعمال وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج ، وذلك يجعلها ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة . ونقول في الرد على ذلك أن ادعاء الكاتب أن الزيادة في المعاملة المصرفية تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية قول ينقضه الواقع ؛ لأن العملية المصرفية لا تحدد للدائن نوع نشاطه الاقتصادي ولا نوع التجارة التي يزاولها ، وأقصى ما يقوم به المصرف هو التوثق من الدين وكل ما يهمه بعد ذلك هو الحصول على الفائدة المتفق عليها ، والمدين بعد ذلك حر في نشاطه ولا يتبادل مع المصرف منفعة ما سوى الفائدة ، أما ثمرة نشاط
المدين بعد الفائدة فكله له هذا إن ربح ، أما إذا خسر فلا يتحمل المصرف شيئا من خسارته ، وهذا أكبر دليل على أن العلاقة بين المصرف والمدين ليست علاقة تجارية ، وإنما هي قرض بفائدة معينة يدفعها المدين في كل عام . على أنه إذا كانت العلة في تحريم الربا القرآني هي مقابلة الزيادة بالأجل فهذا المعنى متحقق في المعاملة المصرفية ؛ لأن الزيادة فيها عن الدين في مقابل الأجل فأي فرق بين المعاملتين ؟
أما ادعاء الكاتب أن الربا القرآني هو الزيادة الطارئة عند عجز المدين عن الوفاء في مقابل الأجل وذلك بعقد مستقل ، فقد سبق إبطال هذا الادعاء وبينا أن الزيادة في ابتداء الدين في مقابل الأجل ربا صريح ، والقول بغير هذا قول باطل لا أساس له .
وقد اختتم الكاتب مقارنته بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن وبين المعاملة المصرفية بقوله : يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماما عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم ؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا ؛ ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحته بيع السلم رغم ما فيه من بيع غير موجود ، وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأصل ، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه ، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها ، إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها ، ولذلك فإنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه ، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج في معاشهم(2/217)
لا مثيل له ، بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم ، بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام .
وردنا على ما انتهى إليه الكاتب في موضوع الأسباب الذي ألمحنا إليه يتلخص فيما يلي : أ ) إنه قد سبق لنا عند مناقشة الأسباب ومقارنتها بيان أن ما ذكره الكاتب من أسباب للربا المحرم بعضه ليس من باب الأسباب ، والبعض الآخر متحقق في المعاملة المصرفية وأنه لذلك تنطبق عليها حقيقة الربا المحرم ، إذ هي قرض بفائدة محددة في مقابل الأجل وأن القول بغير هذا إما جهل أو مكابرة ، ومن ثم فإنه لا يجوز النظر في إباحتها من خلال المصالح المدعاة إذ لا عبرة للمصلحة في مقابل النص .
ب ) إن جواز المعاملة المصرفية قياسا على السلم لعلة الحاجة قياس غير سليم من وجهين : الأول : أن علة الحاجة غير متحققة في الفرع وهو المعاملة المصرفية ، إذ حاجة الناس تتم دون هذه المعاملة ومن ثم لا حاجة إليها .
الثاني : إن السلم ثابت شرعا بالنصوص الصحيحة الصريحة من السنة المطهرة هذا مع العلم بأنه لو فتح باب إبطال النصوص بالمصالح والحاجات المدعاة ؛ لكان في ذلك إبطال الشريعة وهدمها بأهواء الناس والعياذ بالله .
ج ) إن حظر المعاملة المصرفية لا يوقع الناس ولا الدولة في حرج لا مثيل له كما يدعي الكاتب ، ولا يقضي نهائيا على المصالح الاقتصادية لأن الناس عاشوا ويعيشون بدون هذه المعاملة المصرفية ، وتتم مصالحهم المعيشية بدونها بل العكس هو الصحيح ، فإن شيوع الربا عن طريق المصارف أو
غيرها أكبر ضربة توجه إلى اقتصاد الدول والشعوب كما صرح بذلك أساطين الاقتصاد كما أشرنا إلى ذلك آنفا .
د ) إن القول بحضر هذه المعاملة ليس مبنيا على ارتياح النفس أو عدم ارتياحها ، وإنما هو مبني على النص والإجماع المحرمين لهذه المعاملة التي لا تكييف لها إلا أنها قرض بفائدة محدودة مقابل الأجل ، ومع ذلك فإننا نقول بالبديل عنها وهو نظام المضاربة ( القراض ) المجمع على جوازه شرعا ، وهو ما تعامل به المسلمون في سائر العصور إذ لا يتحقق في هذه المعاملة الربا ، ويتحمل فيها كل من صاحب المال والعامل نصيبه من الربح والخسارة ومن ثم ينتفي فيها الظلم عن كل منهما .
والخلاصة أن الكاتب لم يوفق في إضفاء الشرعية على معاملة المصارف التي تقرض المستغلين من أصحاب المصانع والمتاجر والعقارات ونحوهم بفائدة محدودة ، وأن كل ما ذكره لإثبات هذه الشرعية إنما هي شبهات واهية لا يثبت بها ما يدعيه . ولم يزد على أن جاء بملخص لما سبقه إليه الدكتور معروف الدواليبي في مقاله الذي نشره باللغة الفرنسية عام 1371 هـ الموافق 1951م (1) ، وقد اطلعت عليه في العام الماضي مكتوبا باللغة العربية . والذي نراه بديلا لهذه المعاملات الربوية هي المضاربة إذا التزم فيها أحكام الشرع التي قررها الفقهاء استنباطا من كتاب الله العزيز وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع فقهاء الأمة .
والله تعالى ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
محمد بن أحمد الصالح
__________
(1) انظر تاريخ الفكر الاقتصادي ص57 للدكتور لبيب شقير .
بل الفائدة المصرفية من ربا النسيئة
رد على بحث الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر حول "موقف الشريعة الإسلامية من المصارف .
" للدكتور / شوقي أحمد دنيا
الاسم شوقي أحمد دنيا .
الميلاد من مواليد جمهورية مصر العربية .
المؤهل 1 ) بكالوريوس تجارة قسم الاقتصاد كلية التجارة جامعة الأزهر .
2 ) ماجستير في الاقتصاد بعنوان " الإسلام والتنمية الاقتصادية " من تجارة الأزهر .
3 ) دكتواره في الاقتصاد بعنوان " تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي - دراسة مقارنة من تجارة الأزهر .
العمل عضو هيئة التدريس بقسم الاقتصاد الإسلامي - كلية الشريعة - الرياض .
الإنتاج العلمي : من مؤلفاته : ( 1 ) دراسات في الاقتصاد الإسلامي " كتاب " .
( 2 ) أعلام الاقتصاد الإسلامي " كتاب " .
( 3 ) نقد لكتاب في الفكر الاقتصادي الإسلامي للدكتور فاضل عباس الحسب " بحث منشور " .
( 4 ) النقود بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي " بحث منشور " .
( 5 ) تقلبات القوة الشرائية للنقود وأثر ذلك على الائتمان الاقتصادي والاجتماعي " بحث منشور " .
بالإضافة إلى أبحاث أخرى في مؤتمرات وندوات خاصة بالاقتصاد الإسلامي .
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله وعلى اله وصحبه ومن عمل بشريعته وتمسك بسنته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذه ورقة حول الدراسة التي قدمها الدكتور إبراهيم الناصر المستشار القانوني بمؤسسة النقد السعودي بشأن " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " .
وبداية نحب أن نؤكد على أن مهمة وحدود هذه الورقة هي مجرد مناقشة الورقة التي قدمها الدكتور إبراهيم ، وبيان ما فيها وما عليها ، مع العلم بأن الموضوع في ذاته هو أكبر بكثير من هذه الورقة ، وهو برغم كثرة ما كتب فيه بحاجة إلى بحث معمق يحتاج إلى مزيد من الجهد ومن الوقت ، نرجو الله تعالى أن ييسر لنا ولغيرنا ذلك .
ومجمل مناقشتنا يخلص إلى مخالفة الدكتور إبراهيم فيما قدمه من مقدمات وفيما توصل إليه من نتائج . منهجنا في هذه الورقة هو مناقشة التحليلات والمقدمات التي طرحها الأخ الكاتب ، وكذلك مناقشة ما توصل إليه من نتائج ، مع إعطاء لمحة سريعة عن البديل الإسلامي .
ويمكن إجمال ما قدمه الكاتب في ورقته في صيغتها الثانية الأكثر شمولا وتفصيلا بأنه تناول مفهوم الربا في كل من القرآن والسنة كما فهمه . ثم عرض لموقف بعض العلماء من المصارف مضيفا إلى ذلك . مناقشة لطبيعة الأعمال المصرفية وبوجه خاص ومراكز ، بل وأساسي عملية " الإيداع " وبعجالة عملية " الإقراض المصرفي " وخلص من بحثه هذا إلى نتائج تتلخص في أن الأعمال المصرفية الحالية لا تدخل في الربا القرآني المجمع على تحريمه , وإنما هي معاملة مستجدة تخضع للقواعد العامة للشريعة ومقاصدها المتمثلة في تحقيق مصالح الناس .
ولم يقف عند هذا الحد بل واصل القول مصرحا بأنها حلال استنادا إلى أنها ليست من الربا الذي حرمه القرآن الكريم وعملا بالمصلحة التي نوه بها بعض العلماء واستئناسا بموقف العلماء المعاصرين ، كما دعم هذا الموقف بما أشار إليه من أن بعض أنواع الربا حرمت تحريم وسائل لا تحريم مقاصد فتباح عند الحاجة ، كما أن فكرة الترخيص معتد بها شرعا وهناك سوابق في إباحة بعض المحظورات كالسلم ، كذلك فقد استند إلى التقلبات الكبيرة في قيمة النقود والهبوط المستمر لها ، ومن ثم فمن العدل القول بإباحة الفائدة على القروض خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان الأهمية الكبيرة التي تحتلها المصارف في حياتنا المعاصرة .
هذه هي الفكرة الأساسية التي تدور حولها ورقة الأخ الكاتب (1) .
وقبل المناقشة التفصيلية لما في هذه الورقة من مقدمات ونتائج نرى من الضروري أولا الإشارة في عجالة وإجمال إلى بعض النقاط الأساسية التي تعتبر بمثابة قواعد أو مسلمات أساسية لا يقوم أي نقاش علمي جاد لهذا الموضوع في غيبتها .(2/218)
نقاط جوهرية يجب التنويه بها : 1- القرآن الكريم والسنة الشريفة كلاهما مصدران أساسيان للتشريع الإسلامي ، وما تحرمه السنة فهو محرم قطعيا ، وتحريمه ليس في الحقيقة قاصرا على السنة بل هو محرم في القرآن وبالقرآن أيضا ، قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) ،
__________
(1) تجدر الإشارة إلى أن بحث الدكتور إبراهيم الناصر يكاد يكون صورة طبق الأصل من بحث سبق أن تقدم به من قبل الدكتور معروف الدواليبي ، ومن ثم فإن بحثنا هذا هو رد على هذا الاتجاه كله .
(2) سورة النساء الآية 80
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (1) ، { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (2) ، { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } (3) { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) . إذن كافة ما حرم في القرآن أو في السنة سواء كان بنص صريح جزئي من القرآن أو بنص صريح من السنة هو في الحقيقة محرم فيها معا وبها معا ، ولا فرق بين هذا وذاك ، وليس لهذا درجة تحريم وللثاني درجة أعلى أو أقل .
2 - مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي تبليغ دين الله وشرعه لمن أرسل إليهم من العباد وتبيينه لهم بيانا واضحا كوضوح الشمس في كبد السماء بل أكثر وضوحا . قال تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (5) ، { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (6) ، { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (7) ، { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (8) ، { وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } (9) . ومعنى هذا أنه يجب الإذعان والاعتقاد الكامل بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين للناس كل ما في القرآن من أحكام ومبادئ وكل ما يريده الله تعالى من عباده ، ولم يلتحق بالرفيق الأعلى وهناك شيء من الإسلام غامض أو غير مبين ، بل تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها . ومن الواضح أن أهمية
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النور الآية 54
(6) سورة النحل الآية 44
(7) سورة إبراهيم الآية 4
(8) سورة العنكبوت الآية 18
(9) سورة الحجر الآية 89
هذه القاعدة تجعلها أكبر بكثير من أن تعارض ببعض أقوال منسوبة لهذا الصحابي أو لذاك ، وعلينا أن نتحرى جيدا في توثيق ما قد يكون هناك من أقوال منسوبة ، ثم تحديد مضمونها بما لا يتعارض مع تلك القاعدة التي لو اهتزت قيد أنملة لانهار الإسلام من أساسه .
3 - من الحقائق الثابتة ثبوتا لا يقبل الشك أن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا ، بل لقد كان إحدى حقائق عصرهم ومعيشتهم واقتصادهم ، وأن صور هذا التعامل الربوي لم تكن واحدة بل كانت متعددة سواء من حيث الشكل والصورة أو من حيث الدوافع والأهداف ، فمن حيث الصورة والشكل وجدت الزيادة على الدين التي تشترط ويتفق عليها عند عقد الدين ، كما وجدت الزيادة التي تحدث عند انتهاء الأجل وعدم المقدرة على السداد ، هذه ثابتة وهذه ثابتة ، ومن يطلع على كتب التفسير والتاريخ وغيرها يعلم ذلك يقينا . وسوف نعرض لذلك في حينه .
ومن حيث الدوافع والأهداف كان هناك الدين بربا لأغراض الاستهلاك ، وكان هناك بكثرة وغالبية الدين بربا لأغراض البيع والتجارة والإنتاج (1) ، ويكفي أن نشير إلى أنه كان مصدرا أساسا من مصادر تمويل رحلتي الشتاء والصيف " تمويل التجارة الخارجية " كما أنه لم يكن قاصرا على ضعف المركز المالي للمدين في مواجهة المركز المالي للدائن بل كثيرا ما كان العكس ، تاجر كبير أو قبيلة كبيرة تتاجر فتحصل على التمويل " الدين بربا " من أفراد عديدة فتذهب لتشتري وتبيع وتسدد الدين برباه .
هذا كله ثابت ثبوتا راسخا بمصادر علمية موثقة .
__________
(1) د . محمد فاروق النبهان '' مفهوم الربا في ظل التطورات المعاصرة '' ص80 .
4 - القرآن الكريم حرم الربا دون أن يخصص ذلك بنوع دون نوع وصورة دون أخرى ، وليس هناك نص قراني أو حتى نبوي أن الربا الذي حرمه القرآن هو فقط ربا الجاهلية .
ومعنى ذلك أنه إذا كانت هناك صورة قائمة عند نزول التحريم أو قبله فإنها تحرم ، فإذا أحدثت صور أخرى للربا فإنها تحرم هي الأخرى بنص القرآن الكريم ، ومعنى ذلك أن كل صور الربا تحرم بالنص حتى ولو لم تظهر إلا بعد آلاف السنين من نزول القرآن ؛ لأن القرآن لم ينزل لعصر دون عصر بل نزل لأمة ممتدة عبر الزمن موغلة في الاستقبال ، ويخاطب به آخر فرد زمنا في أمة الدعوة تماما كما خوطب به أول فرد فيها . وإذن فلا وجه لمن يقول ولو كان القائل فقيها إن الربا المحرم في القرآن هو ربا الجاهلية فقط ، وإلا فسوف يطرد ذلك على كل المحرمات ، زنا الجاهلية ، كذب الجاهلية ، سرقة الجاهلية . . إلخ . يضاف إلى ذلك أنه كما هو معروف فإن آيات الربا في سورة البقرة هي من أواخر آيات النزول . هذه المسلمة لها دلالتها الخطيرة في موضوعنا هذا ، فمن المعروف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قال وفعل وأقر الكثير والكثير خلال فترة الدعوة الممتدة ، ومن ذلك ما يتعلق بالربا ، سواء ما كان معروفا لدى الجاهلية أو ما كان يمارس دون أن يعرف بأنه ربا ، وعندما باع صحابي تمرا بتمر بزيادة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم : « أوه عين الربا » (1) وكررها . من الواضح أن تلك صورة جديدة لم تكن تدخل في صور الربا المعروفة وإلا ما عملها الصحابي أو أن هذه كانت بداية التشريع في موضوع الربا . وسواء كان هذا أو ذاك فإن قول الرسول عليه الصلاة والسلام : « عين الربا » (2) يفهم منه
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2188,2188),صحيح مسلم المساقاة (1594,1594),سنن النسائي البيوع (4557),مسند أحمد بن حنبل (3/62).
(2) صحيح البخاري الوكالة (2188),صحيح مسلم المساقاة (1594),سنن النسائي البيوع (4557),مسند أحمد بن حنبل (3/62).
أن جوهر الربا وحقيقته ومعناه واحد والذي يتميز ويختلف هو الصور والأشكال . وهناك احتمالان ، إما أن هذا الحديث وغيره مما يدخل في موضوعنا قد قاله الرسول عليه السلام قبل نزول آيات الربا أو بعده . فإن كانت الآيات قد نزلت سلفا ، فتكون تلك الأحاديث مبينة وشارحة لمضمون الربا الذي ورد في القرآن الكريم ، بالإضافة إلى ما هو معهود أصلا لديهم من صوره التي كانت تمارس في الجاهلية . وإن كانت الآيات قد نزلت لاحقا فمعنى ذلك أن الربا في القرآن الذي ورد ودون تخصيص أو تغيير يشمل كل صور الربا ، سواء منها ما كان معروفا في الجاهلية أو ما بينته السنة الشريفة ، وكذلك كل صورة تجد له إلى قيام الساعة حيث بقاء الأمة والدعوة .(2/219)
5 - من القواعد الهامة أن العبرة بالمعاني والمقاصد يقول الإمام مالك : " إنما تعبدنا بالمعاني والمقاصد " أي أن الاسم أو الصورة أو الشكل أو الأسلوب كل ذلك لا أثر له طالما أن المعنى والمقصود والمضمون واحد . وبالطبع فذلك واضح تماما من القرآن الكريم " قصة أصحاب السبت " وكذلك من السنة المطهرة ، فإذا كان الشائع هو كون المدين شخصا فأصبح مؤسسة أو شركة أو حتى دولة فإن الدين هو الدين ، وسواء سميت رشوة أو عمولة أو هدية أو إكرامية أو أتعاب . . إلخ . فإن الحكم واحد طالما أن المضمون والمقصود والمعنى متحد ، والأمثلة في كل باب أكثر من أن تحصى .
6 - لا أحد ينكر أن المصلحة مقصود التشريع الإسلامي . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1) ، { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ } (2)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الإسراء الآية 82
لكن من الذي يدرك جوهر المصلحة وحقيقتها على مر الأيام إنه الخالق عز وجل ، وإذن ففي كل ما في الإسلام من أحكام بالحرمة أو الإباحة أو الوجوب إلخ نجد المصلحة ولا مصلحة دون ذلك ، بمعنى أن ما ينص عليه الإسلام بالقرآن أو بالسنة فهو المصلحة ، وإن بدا للبعض غير ذلك . ويترتب على ذلك أنه مع النص الصريح الثابت لا كلام عن مصلحة تغايره على الإطلاق ، وإنما يرد الكلام عنها عند عدم وجود نص ، عند ذلك نتلمس المصلحة ملتزمين في ذلك بقول الثقاة من العلماء الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا إلا الله . في ضوء تلك الحقيقة الكلية ينبغي أن ندرس ونفهم ما قاله العلماء في باب المصلحة .
هذه بعض الأساسيات التي كان لا بد لنا من التمهيد بها قبل الدخول في المناقشة التفصيلية للورقة التي قدمها أخونا الدكتور إبراهيم . وآن لنا هنا أن نجري تلك المناقشة ، فنقول وبالله التوفيق : في بداية كلامه يقول الكاتب " يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد " واضح تماما أنه يريد أن يقول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بلا فوائد . وهذا خطأ بالاعتبار الشرعي والاعتبار التاريخي ، أما الاعتبار الشرعي فسنفصل القول فيه من خلال هذه الورقة ، أما الاعتبار التاريخي فمن الثابت والمعلوم بالضرورة أن القوة الإسلامية وجدت كأحسن ما تكون دون قوة اقتصادية ، ثم وجدت القوة الإسلامية ومعها القوة الاقتصادية دون بنوك وفوائد . كما أن القوة الإسلامية والقوة الاقتصادية للمسلمين قد ضعفتا كأقوى ما يكون
الضعف بوجود تلك المصارف بفوائدها ، وهذه قضية لا تحتاج إلى نظر بعيد . كما أنه في بداية حديثه قد صرح بأن مجال الدراسة هو القرض بفائدة ، وقد تساءل بتعجب وإنكار : لماذا يعتبر ذلك محرما في نظر الفقهاء ؟ وهذه نقطة لها أهميتها حيث إنه يحاول جاهدا طوال بحثه أن يخرج الأعمال المصرفية " الإيداع " من حيز القروض ويدخلها في حيز التجارة . في عرضه لمفهوم الربا في القرآن الكريم يشير إلى ما هنالك من ربط بين التحذير من الربا والصدقة على المدين ، مع أن الربط بالمعنى الذي يحاول الكاتب أن يبرزه ليستخدمه مقدمة يصل منها إلى ما يريد من نتائج هذا الربط غير وارد ، وعلى سبيل المثال لقد ذكر الآية الكريمة : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (1) ، والآية الكريمة { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } (2) لا نرى مثل هذا التصور الذي يتصوره الكاتب ليصل إلى أن المصرف ليس محلا للصدقة ، ومن ثم فمعاملته بعيدة تماما عن هذا النطاق الربوي . كل ما هنالك أن الآيتين الكريمتين تبرزان سلوكين ، سلوك الربا والاستغلال والظلم والتقاطع ، وسلوك التراحم والتعاون والتكامل ، كما تبين عاقبة كل من هذين السلوكين .
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 276
وبعد ذكر الكاتب لبعض آيات الربا بين فهمه لها وما رآه من أسباب لتحريم الربا المذكور منها وقد ذكر لذلك خمسة أسباب ، نناقشها واحدا تلو الآخر .
السبب الأول : هو أن المدين محتاج للصدقة عملا بظروف الدين ، ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه . أما أن المدين محتاج للصدقة فهذا لا يسلم به على إطلاقه ، وليس كل مدين يحتاج للصدقة ، وعند الإعسار فإنه يحتاج للصدقة باعتبار الغرم كما هو مفصل في بند الغارمين ، لكن ليس هناك علاقة على الإطلاق بين حرمة الربا وبين كون مصير المدين الإعسار واحتياجه للصدقة فيما بعد . أما أن المدين مظلوم بأخذ الربا منه فهذا حق ، ومن الحق الذي لا يقل عنه أيضا أنه ظالم بتعامله الربوي وإعطائه الربا لغيره ، فالظلم قد وقع من الطرفين بل من كل أطراف العملية كما سنوضح ذلك فيما بعد.
السبب الثاني : هو أن الدائن ينفرد وحده بالمنفعة من الربا ويستغل أبشع استغلال ظروف ذلك المحتاج للصدقة ، ولذلك فهو ظالم استحق الوعد الكبير إن لم يذر الربا مع مدينه . أما قوله بانفراد الدائن بالمنفعة فهذا غير مسلم به فالمدين يستفيد من الدين وينتفع به انتفاعا مؤكدا حتى ولو كان الدين لأغراض الاستهلاك ناهيك عن أغراض الإنتاج ، يضاف إلى ذلك أن هذا غير مؤثر في الحكم ، والتمويل الربوي للتجارة في الجاهلية لم يكن هذا الاستغلال ظاهرا فيه كما يتصور الكاتب ومع ذلك حرم ، ولو كان أحد الطرفين مستغلا ومظلوما ما كان آثما وما استحق العذاب الشديد شأنه شأن الطرف الثاني بنص الحديث الشريف « لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال هم في الإثم سواء » (1) إذن العملية كلها ملوثة وذميمة وكل من يشارك فيها ولو لم يكن أحد ركني العقد فهو آثم .
السبب الثالث : أن الربا تنمية من جانب واحد ، بمعنى أن العائد فيها لطرف والغرم أو التكلفة على الطرف المقابل ، فهو غنم من جانب وغرم
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5102),مسند أحمد بن حنبل (1/402).
من جانب آخر . ولنفرض أن هذا صحيح في بعض الصور إلا أن ذلك لا يخدم الكاتب فيما استهدفه .
السبب الرابع : قدم تفسيرا لقوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (1) ، والكاتب ليس من رجال التفسير من جهة حيث للتفسير رجاله المستكملون لشروطه ، وما قدمه من تفسير هو مجرد رأي محتمل . وما رأيه فيمن ذهب من المفسرين إلى أن الأكل في الآية معناه التعامل ، ويكون المعني الذين يتعاملون بالربا وهو فوق هذا وذاك لا يعتبر سببا من أسباب التحريم ، فهل يعقل أن يكون سبب تحريم الربا أن آكله يتخبط كما يتخبط المجنون !!!(2/220)
السبب الخامس : هو أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المدين المحتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء ، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين أي " الإنساء " وهو ربا النسيئة القطعي من غير أي نفع مادي للمدين وهو أكل أموال الناس بالباطل ، ولذا كان هذا ظلما صريحا . . إلخ . جوهر هذا السبب يدور حول فكرة أن ربا الجاهلية المحرم قطعيا كان عبارة عن زيادة طارئة مشترطة على المدين نظير تأجيل استيفاء الدين ، وبالطبع فإن المعاملة المصرفية الحالية ليست هكذا ، فهي زيادة في صلب العقد الأول ، ومن ثم فإنها لا تدخل في الحرمة لهذا الاختلاف . هذه هي أهم فكرة يدور حولها بحث الكاتب كله ، وهي عند التحقيق أوهن من بيت العنكبوت . أما دعواه بأن ربا الجاهلية كان فحسب زيادة طارئة ، فهذا خطأ باعتراف
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
المفسرين والمؤرخين وغيرهم من علماء الإسلام ، والكاتب بنفسه قد سجل ذلك مما نقله عن ابن حجر وعن الرازي ، فالصورة الثانية وهي الزيادة الأصلية كانت قائمة وسائدة حتى أن الجصاص في " أحكام القرآن " ذهب إلى أنه لم يكن موجودا سواها .
هذه هي الأسباب الخمسة التي ذهب الكاتب إلى أنها كانت وراء تحريم الربا في القرآن ، وقد رأينا أنها كلها تنهار واحدا تلو الآخر ، ثم إنه ما كان أحرى بالكاتب وهو يتصدى لهذا الموضوع أن يرجع إلى مراجع التفسير والفقه وأصول الفقه والحديث ؛ ليتأكد على الأقل من معنى السبب وعلاقته بالحكم الشرعي .
خلاصة القول هنا أن الكاتب قد انطلق من منطلق خاطئ هو اعتباره الربا هو فقط الزيادة الطارئة بعد حلول أجل الدين ، وأن المدين هو دائما محتاج للصدقة مظلوم مستغل ، وكل ذلك غير صحيح وبفرض صحة بعضه فلا أثر له في الحكم ، وهب أن المدين غني جدا هل يجوز إقراضه بفائدة ؟
انتقل الكاتب بعد ذلك إلى بيان مفهوم الربا في السنة الشريفة ، وجاء كلامه عنها وفيها قاصرا إلى غاية الغاية . ولا أدري تفسيرا لذلك على وجه التحديد ، وهل هو عدم الدراية الكافية بالسنة ؟ أم هو موقف متعمد حيث إن المزيد من الدراسة والبدل يجلب على الكاتب مالا يود الوصول إليه ؟ يبدأ الكاتب بقوله لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم ، وإنما ورد تعيينها في السنة . ومبدئيا فإذا كان قد ورد تعيينها في الحديث فما الذي يبقى للكاتب أو لغيره ؟ هل نحذف بعض هذه الأموال ؟ وهل ما لدينا من أموال مغاير لتلك الأموال المعينة في الحديث ؟
يضاف إلى ذلك أن كلامه غير مسلم به على علاته ، فإن الحديث الشريف الذي حدد أموالا معينة قد حددها على ورود ربا البيع فيها كما صرحت بعض روايات الحديث ، ولذا فقد اشتهر على ألسنة الفقهاء أن هناك ربا بيوع وهناك ربا ديون ، وإذا كان ربا البيوع بنوعيه إنما يرد في أموال معينة ، فإن ربا الديون ومنه ربا القروض يرد في كل مال سواء كان من تلك الأموال التي وردت في الحديث أو من غيرها . وفي ذلك يقول ابن رشد : " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين ؛ في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك " (1) ، وقال ابن حزم : " والربا لا يجوز - أي لا يقع - في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط . . . وهو في القرض في كل شيء " (2) . وقال الجصاص : " والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به " (3) وقال الرازي : " أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ، ويكون رأس المال باقيا ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق وفي الأجل " (4) وقال القرطبي : " وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة " (5) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 \ 140 دار الفكر .
(2) المحلى 9 \ 503 مكتبة الجمهورية .
(3) أحكام القرآن 1 \ 464 دار الكتاب العربي .
(4) التفسير الكبير 7 \ 85 دار الكتب العلمية .
(5) الجامع لأحكام القرآن 3 \ 241 دار الكتاب العربي .
أعتقد أنه من الواضح البين أن هناك ربا ديون أو قروض وهناك ربا بيوع ، وأن الأول لا يختص بمال دون مال ، ونحب أن نذكر أخانا الكاتب هنا بتساؤله الذي صدر به بحثه بتعجب وإنكار لم حرمت الفائدة على القرض في نظر الفقهاء ؟ كما أحب أن أذكره بنص عبارة الرازي وعبارة الجصاص حتى يراجع نفسه في ادعائه بأن ربا الجاهلية كان فقط زيادة طارئة ولم يكن هناك تراض بين الطرفين ، وكل ذلك مغاير للمعاملة المصرفية فهي زيادة أصلية ونتجت عن تراض بين الطرفين .
هذا هو كل ما ذكره عن الربا في السنة الشريفة ثم سرعان ما ركز على وجود تيارين متعارضين في أمر الربا حتى في الصدر الإسلامي الأول ، مبينا أنه كان هناك المتشددون فيه وهناك المتلطفون معه ، ثم ينقل كلمة منسوبة إلى سيدنا عمر - رضي الله عنه - دون أن يجري حولها أية دراسة من حيث التوثيق والمضمون ، وما إذا كانت قد وردت فعلا عن سيدنا عمر وأقوال الثقاة من العلماء فيها ، بل إنه لم يشر مجرد إشارة إلى مصادره في ذلك (1) ، وقد سبق أن علقنا على تلك المسألة وغيرها في صدر الورقة . ثم يقول الكاتب : " إن هناك تيارا يتلطف في الربا ويحصره في ربا الجاهلية الذي نزل فيه القرآن ، لكن ما لبث هذا التيار أن جرفه التيار المعارض " ونحب أن نقول للأخ الكاتب إن المسألة لا تدخل في باب العواطف والمشاعر حتى يكون فيها تلطف وقسوة وتشدد بل هي
__________
(1) يقال إن سيدنا عمر قال : إن آخر ما نزل من القرآن آيات الربا '' في البقرة '' وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبض ولم يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة . ولكلام العلماء في هذه المقولة وتضعيفهم لها انظر سنن ابن ماجه جـ 2 ص2276 . وتهذيب التهذيب لابن حجر مادة ( سعيد ) ، والمصنف لعبد الرزاق جـ10 ص 301 ، والسنن الكبرى للبيهقي جـ6 ص 225 . وفي فهم عمر للربا بكافة جوانبه خاصة ربا الفضل وتشدده فيه انظر شرح السنة للبغوي جـ 8 ص 61 ، والمنتقى شرح الموطأ جـ2 ص 636 .
أحكام شرعية وأمانة الالتزام الكامل بها ، كما أنها ليست معركة ولا حربا حتى يجرف تيار تيارا ، إنما هو الإقناع والاقتناع .
ثم انتقل الكاتب بعد ذلك سريعا إلى القول بوجود ثلاثة اتجاهات متدرجة في التضييق من منطقة الربا هي : 1 - أقلها تضييقا لنطاق الربا هو ما ذهب إليه ابن رشد وابن القيم من التفرقة بين الربا الجلي ربا النسيئة والربا الخفي ربا الفضل . وقبل أن نناقش الكاتب في مقولته هذه نناقشه أولا في نسبة هذه المقولة إلى ابن رشد ، وحتى يكون النقاش أكثر فعالية نضع نص عبارة ابن رشد والتي نقلها الكاتب في ورقته . يقول ابن رشد : " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين : في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك ، فأما الذي تقرر في الذمة فهو صنفان ، صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية ، والثاني ضع وتعجل وهو مختلف فيه " (1) .(2/221)
وسؤالنا للأخ الكاتب هو : في أي فقرة من تلك العبارة فرق فيها ابن رشد بين ربا الفضل وربا النسيئة ؟ وأين هو الجلي والخفي في كلام ابن رشد ؟ ربما يكون الأخ الكاتب قد ظن أن قولة ابن رشد " والثاني هو ضع وتعجل " يقصد بها ربا الفضل ، وهذا بالطبع لا يحتاج إلى مناقشة هنا وبيان ، بل يحتاج من الكاتب الرجوع إلى كتب الفقه للتعرف على مضمون تلك الجملة " ضع وتعجل " وموقف العلماء منها ، ولعل القارئ يلاحظ أن ابن رشد ينقل اتفاق العلماء على ربا البيوع دون تفصيل ، أما الذي فصل فيه فهو ربا الديون .
__________
(1) ابن رشد '' بداية المجتهد '' جـ 2 ص 140 .
ثم أخذ الكاتب بعد ذلك يتحدث عن ابن القيم ورأيه ، ومبدئيا فإن ابن القيم واحد من آلاف العلماء يؤخذ منه ويرد ، ولا يعتبر رأيه حجة إلا باستناده إلى القواعد والمبادئ الإسلامية ، وكيف يؤخذ كلامه هنا على علاته في ضوء الحديث الشريف الذي قاله لمن اشترى تمرا بتمر حالا متفاضلا : « أوه عين الربا » (1) ومن الواضح أن الحلول هنا بين جلي وليس فيه شبهة ولا ذريعة للتأجيل ، ومع ذلك بين المصطفى صلى الله عليه وسلم « أنه عين الربا » (2) ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ابن القيم رحمه الله قد حاول أن يجد تفسيرا لحرمة ربا الفضل بالمقارنة بربا النسيئة ، فقال إنه حرم لأنه قد يفضي إلى ربا النسيئة (3) ، وهب أن هذا تفسير مقبول ، هل يؤدي ذلك إلى اختلاف في الحرمة ؟ لا ، وهذا ما نص عليه ابن القيم ، يضاف إلى ذلك وربما تكون أهم نقطة من حيث موضوعنا وهي : ما علاقة هذا بموضوع الورقة التي قدمها الكاتب ؟ وهب أن في ربا الفضل من حيث نطاقه كلاما وكلاما - مع أن الجميع متفق على أن هناك ربا فضل وأنه محرم في الأصناف الستة بنص الحديث ، ولا اجتهاد في ذلك ، لكن ما علاقة هذا بالمعاملة المصرفية الحالية !!! فهل هي من باب ربا الفضل أم من باب ربا الدين ؟ العجيب أن الكاتب في بعض عبارته يشير إلى أنها من ربا الفضل بينما الزيادة الطارئة هو فقط من ربا الدين استنادا إلى كلام عزاه للشيخ رشيد رضا ، لكن ذلك مرفوض منه ومن المرحوم الشيخ رشيد إن كان قد قال ذلك . فأين البيع هنا حتى يكون ربا فضل ، وما هو الفرق بين حقيقة وطبيعة
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2188,2188),صحيح مسلم المساقاة (1594,1594),سنن النسائي البيوع (4557),مسند أحمد بن حنبل (3/62).
(2) صحيح البخاري الوكالة (2188),صحيح مسلم المساقاة (1594).
(3) للرجوع إلى نص كلام ابن القيم انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 154 وما بعدها .
الزيادتين ؛ الأصلية والطارئة ؟ لا فرق ولا خلاف اللهم إلا في زعم الكاتب فقط ، فقد زعم أن الزيادة الطارئة هي في نظير التأجيل ليس إلا فهي نسيئة ، أما الزيادة الأصلية فليست كذلك والسؤال هو إذا لم تكن نظير التأجيل أو على الأقل لم يكن التأجيل عنصرا بارزا فيها ففي نظير أي شيء تكون ؟ وهل نسي الكاتب أنه في الكثير الغالب من عباراته يسلم بأننا في مجال القرض بفائدة ؟ وبعد ذلك يخلص الكاتب ما ترتبه التفرقة بين ربا النسيئة وربا الفضل من نتائج أهمها أن الحرمة في ربا النسيئة أشد من الحرمة في ربا الفضل ، ومن ثم لا يجوز ربا النسيئة إلا عند الضرورة بينما يجوز ربا الفضل عند الحاجة ، وذلك عندما لا يمكن اتخاذه ذريعة لربا النسيئة فينتفي سبب التحريم . سبحان الله ، من الذي له سلطة المفاضلة بين المحرمات وعمل سلم لها ؟
ومن الذي له سلطة إباحة المحرم وتحديد الضرورة وتحديد الحاجة ؟ وبفرض التسليم بذلك فإن الكاتب يناقض نفسه ويناقض كلام ابن القيم الذي اعتمد عليه ، فهو يقول عند الحاجة يباح ربا الفضل عند ما لا يمكن أن يتخذ ذريعة لربا النسيئة ، فإذا ما جئنا لنطبق ذلك على المعاملة المصرفية " الإيداع " وبفرض أنها من باب ربا الفضل ، ألم تؤد هذه المعاملة إلى ربا النسيئة ؟ وأليس هناك تأجيل صريح واضح ؟ يا أخي الكريم ما قاله ابن القيم هو أن 5 مقابل 6 حالا حرم حتى لا يكون الحلول فيه ظاهريا فقط ، والحقيقة هو التأجيل أي تأجيل الستة ، وما يحدث في المعاملة المصرفية أن المودع لا يأخذ مثل ماله مع إضافة الفائدة حالا بل مؤجلا ، وهذا أمر بدهي : أليس هذا هو النسيئة بعينه ؟ وهو الذي خشي ابن القيم من الوصول إليه خفية فإذا بنا نصل إليه
مباشرة وعلانية وهذا عن الاتجاه الأول كما عرضه الكاتب ، فهل فيه ما يؤيد وجهة نظره من قريب أو بعيد ؟
2 - الاتجاه الثاني : هو الذي يميز بين ربا القرآن وربا السنة . وقد وصف ربا القرآن بالربا الجلي وربا السنة بالربا الخفي ، وقد بين أن هذا الاتجاه يقسم الربا ثلاثة أنواع هي : أ- ربا الجاهلية : وهو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم ، وحقيقته كما ذكر الكاتب أن يقول الدائن للمدين عند حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي .
ب- ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف . وقد قال فيه الكاتب إنه أوسع كثيرا في مداه من ربا الجاهلية ، بل ويختلف عنه اختلافا بينا في كثير من الصور .
جـ- ربا الفضل الوارد في الحديث وهو بيع المكيل أو الموزون بجنسه متفاضلا أو بيع الطعام أو الثمن بجنسه متفاضلا .
هذا كل ما قاله الأخ الكريم عن الاتجاه الثاني . والحقيقة أن الكاتب هنا قد وضع نفسه في موضع لا يحسد عليه . فهل ما ذكره هنا يعتبر اتجاها ذهب إليه بعض العلماء ؟ أم أنه تفصيل من العلماء كلهم لصور وأنواع الربا ؟ وهل هناك فقيه واحد لا يقول بتلك الأنواع للربا ؟ إنها عملية تفصيل وتميز بين الأنواع المختلفة للربا ، وليس لهذا التفصيل أي مدخل من قريب أو بعيد في الحل والحرمة فكلها محرمة . فكيف يقال عن ذلك إن هذا هو اتجاه من الاتجاهات التي تضيق من نطاق الربا ، فأين هو التضييق والتوسيع فيما ذكره من هذا الاتجاه ؟ وبالطبع فإن كلامه عن النوع الأول هو غير صحيح ، وسبق أن فندناه أما النوع الثاني فتارة
يقول عنه هو أوسع كثيرا من ربا الجاهلية ، وتارة يقول إنه يختلف عنه اختلافا بينا . ولا يخفى ما في ذلك من التضارب فالتباين غير العموم والشمول . ثم إن قوله عن الثاني هو أوسع بكثير عن الأول غير مسلم به ، فهذا في بيع وهذا في دين أو قرض ، وهذا أصل بذاته وذاك أصل بذاته . ومع ذلك فالكل حرم بنصوص إسلامية لا فرق بين هذا وذاك .
ونحب أن نعلق بكلمة أخيرة بمناسبة تركيز الكاتب على وصف بعض الأنواع بالجلي وبعضها بالخفي ، والذي نحب أن يكون واضحا وجليا في ذهن القارئ أن مقصود من قال بذلك من العلماء لا يحمل على الإطلاق تفرقة في الحرمة أو في درجتها ، فالربا الخفي لا يقل حرمة عن الربا الجلي ، وليس كل خفي أقل ضررا وخطورة من الجلي .
3 - الاتجاه الثالث : يقول عنه الكاتب هو الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم وحده ، ويقول إنه على رأس هذا الاتجاه ابن عباس ويستدل بحديث « لا ربا إلا في النسيئة » (1) فأصحاب هذا الاتجاه لا يحرمون ربا الفضل بل فقط ربا النسيئة . ونقاشنا للكاتب يدور حول تلك النقاط . فمن جهة ، هذا - إن صدق - فهم لبعض العلماء يعارضه فهم الغالبية . مع ملاحظة أن الكاتب في صدر حديثه يقول عن هذا التيار إن التيار المتشدد قد جرفه ، بمعنى أنه لم يبق هناك إلا تيار واحد ، ثم يعود فيقول إن ابن عباس ظل على موقفه هذا حتى الوفاة . وهنا مفارقة ، والعجيب أن الكاتب يرجع في قوله هذا عن ابن عباس إلى غير مرجع فهو يرجع إلى مجلة " المسلمون " وهل تلك المجلة - مع
__________(2/222)
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580).
احترامنا لها - تعد مصدرا لمثل تلك المعلومة الخطيرة ؟ كنا نتوقع من الكاتب أن يتحقق لنا من ذلك وينقل لنا بأمانة ودقة ما قاله العلماء الثقاة في الحديث المذكور وفي موقف ابن عباس ، لكن الكاتب لم يفعل ذلك ولا شيئا منه ، وفي الغالب خشية أن يوصله ذلك إلى غير ما يريد الوصول إليه . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فهب جدلا أن ما قاله هنا صحيح فما وجه تدعيم ذلك لوجهة نظر الكاتب ؟ ليس له وجه ولو خافتا ، فهذا في مجال آخر ونحن في مجال آخر هناك التفاضل يدا بيد ، وهو ما عبر عنه السبكي بـ " النقد " وهنا التأخير والتأجيل ، فأين هذا من ذاك ؟ ومن جهة أخرى فإن مما يدلنا على أن نسبة هذا الكلام لابن عباس وبقاءه عليه فيها الكثير من النظر ، إنه من غير المتصور أن يبيع شخص ذهبا بذهب من نفس النوع والجودة حالا متفاضلا ، هذا غير متصور ، والمتصور إحدى اثنتين ، إما أن أحدهما ردئ أو أن أحدهما مؤجلا حتى يكون للتفاضل وجه يتصور من خلاله ، أما التأجيل فلا خلاف بين ابن عباس أو غيره في حرمته ، وأما الرداءة والجودة فهي الصورة الوحيدة التي يمكن تصورها فيما لو ثبت ذلك عن ابن عباس . وعندئذ فهي خارجة عن مجالنا لأنها حالة من جهة ومغايرة صفة من جهة أخرى (1) .
__________
(1) إن كل من تكلم من ثقات العلماء في هذه المسألة أكد على رجوع ابن عباس عن قوله . انظر في ذلك : نيل الأوطار جـ 5 ص 216 ، 217 ، شرح مسلم للنووي جـ 11 ص 24 ، 25 ، شرح السنة للبغوي ، المطالب العالية لابن حجر . وقد قال القرطبي وابن عبد البر ، والسرخسي : إنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . والأمر سيان \ ج1 ص 393 . في رجوع ابن عباس أو عدم رجوعه فإذا ثبتت السنة فلا قول معها لأحد . انظر الجامع لأحكام القرآن جـ 3 ص 348 ، المبسوط جـ 2 ص 111 وتكملة المجموع للسبكي جـ 10 ص 34 .
ثم خلص الكاتب من ذكر تلك الاتجاهات إلى ما أسماه حقيقة لا تحتاج إلى دليل وهي : ما ملخصه أن الربا المحرم هو الذي نزل فيه القرآن الكريم وهو ربا الجاهلية وخاصيته - كما يقول - هو الزيادة عند حلول الأجل نظير تمديد الأجل ، وهو الربا الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع قال : « ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب » (1) ، أما ربا الفضل فهو محرم أيضا ، لكن تحريم وسائل وما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة . ثم أضاف إلى ذلك معلومة أخرى وهي أن الربا المحرم قطعيا هو الذي يتخذ صورة التضعيف . ثم ينقل سببا من أسباب نزول الآية الكريمة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (2) مشيرا إلى أن الجاهلية كانوا يضاعفون الدين بمضاعفة الأجل . هذا ملخص للحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل . والغريب أن الكاتب ينقل بعض الفقرات ويترك بعضها ، وكنا نود منه طالما أنه تعرض لهذه المسألة أن يعرض لنا أقوال العلماء والمفسرين في معنى هذه الآية وما وراء هذا القيد أضعافا مضاعفة ومدى تدخله في الحل والحرمة ، وهل لو كان الربا غير مضاعف كان حلالا . وهل التضعيف يرجع للدين أم يرجع للربا كما هو واضح من الآية . وهل يخفى على القارئ نوعية الفائدة المصرفية وهل هي بسيطة أم مركبة ؟ وهل يخفى عليه ما هنالك من ديون تضاعفت أضعاف أضعاف بفعل الفائدة المصرفية ؟
إن هذا الوصف ما ذكر لتقييد الحرمة به بل هو لشناعة وبشاعة ما يؤول إليه التعامل الربوي من نتائج ، لا لأن ما عدا تلك الصورة .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(2) سورة آل عمران الآية 130
- بفرض حدوثها - غير محرم أو أقل حرمة ، إن القطرة من الخمر لا تقل في حرمتها عن الدن منها . والأمثلة في ذلك كثيرة لا تحتاج إلى بيان .
ولا أدري ماذا وراء قول الكاتب في حقيقته هذه " وهو الربا الذي ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع " ، وهل يفهم من ذلك أن هذا هو الحرام وما عداه من صور الربا فهي غير ذلك ؟ وهل يعني وضع ربا الجاهلية أن ربا غير الجاهلية غير موضوع !!!
مع أنني لست من المختصين في الحديث ولا في أصول الفقه إلا أنه في حدود فهمي للحديث الشريف - وأرجو أن يصحح لي هذا الفهم أهل الاختصاص - أن آيات الربا نزلت متأخرة وإلى نزولها كان هناك آثار باقية من عمليات ربوية تمت في الجاهلية ، فعندما نزلت آيات الربا ثم جاءت حجة الوداع في هذا الحشد الهائل من كل صوب وحدب بين الرسول الكريم أن كل الآثار المترتبة والمتبقية من ربا الجاهلية موضوعة بمعنى أنه لا حق لدائن قبل مدين إلا برأس المال فقط ، ومن باب القدوة والأسوة بدأ بالديون التي لعمه العباس على الغير . ماذا في ذلك ؟ وما علاقته بحرمة بقية أنواع الربا التي بينتها السنة ، وبالطبع فإنها تلاشت في المجتمع الإسلامي ولم يعد لها بقاء أو أثر حتى يوضع ، بل عولجت معالجة كاملة قاطعة في حينها . أما ربا الجاهلية فربما كان يظن أنه طالما تم ذلك في الجاهلية ، فيكون من حق الدائنين الحصول عليها كاملة فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ربا الجاهلية موضوع .
وفي فقرته الثالثة تناول الكاتب ما أسماه بموقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف . ومن استعراضه غير المدون في ورقته لمجمل كلامهم تبين له :
1 - أن الربا محرم تحريما قطعيا لا شك فيه .
2 - أن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية ، أم ربا الفضل فقد حرم سدا للذريعة ، وما كان كذلك فيجوز للمصلحة .
3 - أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم وعدم استغلال الغني حاجة الفقير ، وبعد أن يستعرض بعض كلام للشيخ رشيد رضا يضيف قائلا : " إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية ، ولذلك تخضع المصارف لأحكام الشريعة على طريق القياس ، فإذا كان الشبه كاملا من غير أي فرق بينهما وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضا قطعا أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريما قطعيا . وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب . . إلخ " .
ولا ندري ما هو سر تركيز الكاتب وترديده لعبارة محرم تحريما قطعيا لا شك فيه . وهل هناك محرم غير قطعي ؟ وهل هناك شك في أي تحريم ثبت كونه حراما ؟ ونحن نتفق معه في أن من جوانب حكمة تحريم الربا إزالة الظلم ، لكن ما هو هذا الظلم ؟ وهل هو ظلم طرف أطرف في العملية ؟ وما هو الطرف الظالم والطرف المظلوم ؟ أم أن كلا منهما ظالم ومظلوم ؟ أم أنهما معا ظالمان لغيرهما من شتى أفراد المجتمع الحاضرين والمستقبلين ؟ وماذا عن ترديده وإصراره على قوله أهل العلم وكبار رجال الفتوى ؟ وهل من تحدث عنهم هم كبار رجال الفتوى ؟ أم أنهم نفر من رجال الفتوى ؟ يعارض رأيهم جمهور إن لم يكن سائر من عداهم .(2/223)
وفي فقرته الرابعة يتناول الكاتب طبيعة أعمال المصارف . ويقول : إنه بعد دراسة مفهوم الربا في القرآن والسنة وموقف أهل العلم من المصارف ندرس طبيعة أعمال المصارف لنرى هل تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن تحريما قطعيا لا شك فيه أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف ، وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة ، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد منه ويخلص إلى هذه النتيجة : إن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن على النحو التالي : أولا : لأن الدائن في المعاملات المصرفية هو دائما من المالكين لرأس المال غير أنه يملك سيولة صغيرة لا يستطيع استثماره ، أما المدين فهو دائما من كبار المالكين لرأس المال غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى ، أي أن الذي يحتاج للآخر في تلك المعاملة هم دائما الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس ، ويترتب على ذلك أن هؤلاء المدينين لا تحل لهم الصدقة فيما لو طلبنا إلى هؤلاء أن يتوبوا ويتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء ، عملا بقوله تعالى : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } (1) ، وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم ؛ حيث إن المدين يحتاج للصدقة عكس المدين في المعاملات المصرفية . هذا ما قاله الأخ الكاتب تعمدت نقله نقلا شبه حرفي حتى تكون مناقشته حضوريا .
وأعتقد أن ما يريد أن يقوله الكاتب في هذه الفقرة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح ، لكن ترد عليه الأمور التالية دائما ما يركز على أنه في تلك المعاملة الدائن دائما أقل غنى من المدين ، لكن
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
كون ذلك دائما فهذا غير صحيح خاصة إذا ما علمنا حقيقة المصارف وأنها في غالبيتها شركات مساهمة قد لا تكون ملكية الفرد فيها ذات شأن ، بالإضافة إلى أن هناك من أصحاب الإيداعات من هم من أصحاب الملايين بل والبلايين . ( 2 ) حسنا أن صرح الكاتب بأن العلاقة المصرفية هي علاقة دائنية ومديونية أي أننا في مجال " الدين " وحيث إن الدين إما من بيع أو إجارة أو قرض إلخ ، وحيث إن المصرف لم يشتر ولم يستأجر شيئا من الدائن فيبقى أن يكون مصدر الدين هو القرض ، وعلى أية حال فنحن في مجال الدين ، وقد أجمع العلماء على أن الزيادة المشترطة في عقد الدين هي من الربا القطعي التحريم " بتعبير الكاتب " لأنها صورة من صور ربا الجاهلية . ( 3 ) علينا أن نلاحظ أن المدين إذا أعسر فقد صار مركزه المالي سيئا جدا ، بحيث لم يعد يستطيع سداد ما عليه بغض النظر عما كان عليه في الماضي ، وفي تلك الحالة تجوز عليه الصدقة من الدائن أو غيره ، وهب أن مصرفا قد أفلس وهب أن أعماله مشروعة فما المانع في تلك الحالة من التصدق على مالكيه . ( 4 ) يضاف إلى ذلك أنه كما هو معروف في العقود ، فإن لكل عقد أركانه وطالما استوفى العقد تلك الأركان دخل في نطاق العنوان المتعارف عليه ، فهناك دائن وهناك مدين وهناك دين إذن عقد الدين استكمل مقدماته ، ولا أثر بعد ذلك فيما لو كان الدائن أغنى أو أقل غنى من المدين ، وهكذا نصل إلى أنه ليس كل مدين محتاجا للصدقة ، وكل مدين معسر يحتاج إلى ذلك ، مصرفا كان أو غيره .
ثانيا : لأن الدائن في المعاملة المصرفية لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين عكس ما حذر منه القرآن الكريم ، كما أنه لا يستغل محتاجا للصدقة ، بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه .
ومبدئيا نقول إن هذا الكلام كله بفرض التسليم بصحته لا أثر له في الحكم على الإطلاق ، بل المعول عليه هو وقوع زيادة مشترطة منصوص عليها في دين . وهذا قائم وموجود هنا ثم إن عملية التراضي هي الأخرى لا أثر لها في حل أو حرمة ، فكم من عقد تم بتراضي طرفيه ولكنه حرام ومحظور وفاسد وباطل مثل الكثير من البيوع وغيرها . وكون المنفعة مشتركة هي الأخرى لا أثر لها ، فكم من عقود نجد منفعتها مشتركة لكنها محرمة مثل الزنا والكثير من البيوع والإجارات إلخ ، كما أن قوله لا استغلال فيه غير مسلم به فالاستغلال قائم وموجود حتى ولو كان من قبل المدين . إن عملية الظلم مرفوضة من دائن أو مدين ، من غني لفقير أو من فقير لغني . ولقد اعترف الخبراء باستغلالية المصرف لكل من الطرفين ، المودع " الدائن " والمقترض " المدين " . ووصف الكاتب العقد بكونه تجاريا قاصدا بذلك أننا في عمليات بيع وتجارة وليس في عمليات إقراض اقتراض كما هو الحال في الربا في القرآن الكريم . لكن يرد عليه بأنه بنفسه اعترف أكثر من مرة بأننا هنا أمام دين ودائن ومدين ، بل لقد صرح أكثر من مرة بالقرض ، يضاف إلى ذلك أن كون المصرف أو حتى الطرفين قد حولا القرض إلى صورة تجارة ، وهذا هو الواقع فنحن نعلم أن المصرف يعرف بأنه تاجر ائتمان أي أن يتاجر في عمليات الإقراض والاقتراض ، وبالطبع فإن عملية التجارة هذه لا تخرج الأمر عن طابعه وطبيعته وهو " القرض " وعلينا أن ندرك أن ربا الجاهلية في الكثير من صوره كان لأغراض تجارية .
ثالثا : كرر الكاتب هنا ما قاله في " ثانيا " ومن ثم فلن نعيد الرد عليه اللهم إلا تركيزه على قصد الاتجار هنا وليس القرض لحاجة وأن ذلك من قسم البيع . ونقول للأخ الكريم طالما أنه يصر على ترديد ذلك وكأنه
عنصر جديد ومؤثر في العملية . من تعنى بمن يقصد الاتجار من طرفي العقد إن كان المدين فهذا لا أثر له . ومن الذي قال إن القرض كان في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو في أي عصر أو في عصرنا هذا إنما يكون بقصد الاستهلاك فحسب من قبل المدين أو المقترض ؟ وإن كان الكامن لذلك هو الدائن " المقرض " بأن يستخدم إقراضه أو دائنيته لغيره لإدرار العوائد والفوائد متخذا من ذلك نشاطا تجاريا ، فيقول الإسلام له إن ذلك منك حرام مهما كانت نوعية المقترض أو المدين ، وإذا أردت توظيف مالك توظيفا اقتصاديا فالباب أمامك مفتوح على مصراعيه للولوج منه ، أما أن تترك الباب المشروع لتوظيف الأموال ؛ شركة ، مضاربة ، إلخ بقوانينها وضوابطها ثم تلج من باب القرض ذي الطبيعة الخاصة والقانون المميز مستخدما له استخدام مجال التوظيف الاقتصادي فهذا هو الحرام بعينه . وهذا فإن قصد الاتجار لا يحيل الحرام حلالا طالما نستخدم نفس الأدوات التي لا يجوز أن تستخدم في الاتجار ، وإلا فما أيسر أن تقتصر التجارة في أعمال كثيرة محظورة ، فهل يحيلها هذا القصد المجرد إلى حلال مباح ؟ ؟ إننا نرى اليوم عشرات الأعمال المحظورة والمحرمة أصبحت محلا للتجارة بل وللصناعة - وكلاهما نشاط اقتصادي مشروع - مثل التجارة في الفوائد الدائنة والمدينة " الأعماق المصرفية " ، الزنا وأعمال العهر ، المخدرات ، الملاهي والقمار . . إلخ وادعاء الكاتب بعدم وجود ضرر في تلك المعاملة غير صحيح ، فماذا عن المجتمع ، وماذا عن المديونية التي تجثم على صدر العديد من الدول الإسلامية ومعظمها مصدره الافتراض بفائدة ؟ وماذا عن الآثار الضارة للفائدة على الإنتاج وهيكله ومستواه ، والتوزيع والعمالة ، والاستقرار الاقتصادي مما هو مدون في أمهات كتب الاقتصاد الوضعي ؟ ؟ أليست هذه كلها أضرارا !!!(2/224)
رابعا : في هذه الفقرة أضاف بعدا جديدا هو الشعور بالأمان والاطمئنان في المعاملة المصرفية لكل من الدائن والمدين ، لكن ذلك مفتقر في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم ؛ حيث لا ضمان لأموال المرابين لدى العاجزين عن الوفاء .
سبحان الله !! وهل يتباكى الكاتب على أحوال المرابين وسوء أوضاعهم ، وكأنه يطالب لهم بأمان أكبر . وهل نسي الضمانات المأخوذة هنا وهناك ؟ وهل أمان المصرف على أمواله ميزة تميزه عن المرابي القديم ومن ثم تجعل عمله حلالا ؟ ثم ما هذا الخلط ؟ الكاتب تكاد تقوم ورقته كلها على موضوع " الإيداع " وحديثه هنا لا يتصور انصرافه إلا إلى إقراض البنك للعملاء ، فأين الأمان الذي تتحدث عنه للبنك ؟ أم أنه يتحدث عن ضمان وحماية مال صغار المالكين " الدائنين للبنك " بينما لم يكن ذلك موجودا في الدائن المرابي في الماضي ؟ ما هذا ؟
خامسا : في هذه الفقرة يكرر ما سبق قوله في أن الزيادة في الأعمال المصرفية إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية من مدينين أغنياء من رجال الأعمال ، وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة ، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة ، وهذه الزيادة تختلف تماما عن الزيادة التي أشار إليها القرآن الكريم ، والتي اعتبرها محرمة لأنها لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة . ومبدأ حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء ، هذه عبارة كررت كثيرا ورددنا عليها في أكثر من مكان ، ومضمونها في النهاية خاطئ ولا يعتبر تمييزا بين الربا المحرم وبين تلك الأعمال من قريب أو بعيد .
سادسا : ذكر الكاتب في هذه الفقرة عبارة غريبة عجيبة ننقلها بنصها
لتكون شاهدا حاضرا أمام عين القارئ . يقول الأخ الكاتب : " الفائدة جزء من ربح المضاربة ، فنحن نعرف أن البنك يقدم قرضين ، قرض استهلاكي وقرض إنتاجي . وقرض الإنتاج ما هو إلا أخذ مبلغ من المال من البنك للاستثمار والنماء عن طريق النشاط التجاري أو الصناعي أو كليهما معا ، ويلتقي هذا التصرف مع نظير له في المعاملات الإسلامية أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرف باسم المضاربة أو القرض ، وقوامه المال من شخص والعمل لاستثمار هذا المال من شخص آخر بجزء مسمى على جهة الشيوع من الربح ، وبناء عليه فالفائدة التي تؤخذ على القرض الإنتاجي يمكن احتسابها جزءا من ربح المضاربة المشروعة " ثم أخذ في تعريف المضاربة وبيان حكمها ورأي بعض العلماء المناصرين فيها .
نلاحظ أن حديث الكاتب ينصرف أساسا بل كلية إلى مديونية البنك وليس إلى دائنيه ، لكنه هنا يتحدث عن دائنية البنك وهذا خلط واضح ، ويدعى أن الفائدة جزء من ربح المضاربة . أية مضاربة ؟ وأية فائدة ؟ لا نجد إجابة . ثم يقول الأخ الكاتب بجرأة غريبة إن ما يقدمه البنك من قروض إنتاجية نظير ما هو معروف بالمضاربة ، ويخلص من ذلك إلى إمكانية احتساب الفائدة على القرض الإنتاجي جزءا من ربح المضاربة المشروعة . إذن من المؤكد أنه الآن بصدد الحديث عن الفائدة الدائنة التي هي للبنك على ما يقدمه من قروض .
يضاف إلى ذلك أن الكاتب يصرح بإباحتها على أساس أنها نظير شيء جائز ومعروف في الإسلام . ومن يمعن النظر في كلام الكاتب يجده يناقض بعضه بعضا ، فطوال ما مضى من حديث له كان يبنيه على أساس أن المعاملة المصرفية مغايرة للربا ؛ حيث المدين فيها وهو البنك أغنى بكثير من الدائنين عكس ما هو كائن في الربا . لكن ما نراه الآن يقلب الكلام
رأسا على عقب فها هو المصرف أصبح دائنا والمقترضون أقل غنى منه بكثير طبقا لكلام الكاتب ، أي أنه في تلك الحالة ينطبق عليه تماما ما يتصوره الكاتب في ربا الجاهلية فكيف جوز تلك المعاملة ؟ ونلاحظ أيضا أنه يعترف صراحة هنا بكونها عملية قرض ، والمتفق عليه أن أي زيادة مشترطة في القرض ربا . ثم إنه يمتلك من الجرأة ما تجعله يقول إن القرض نظير المضاربة وما دامت جائزة فيجوز نظيرها . من الذي قال إن القرض نظير المضاربة ؟ وفي تناوله للمضاربة بحيث يؤكد على هذا التشابه والتناظر ، كما يقول ذكر آراء بعض المعاصرين الذين يرى الكاتب رأيهم . ونلاحظ أن من تكلم في المضاربة من المعاصرين من أمثال الشيخ خلاف رحمه الله إنما ناقش مسألة اشتراط كون الربح نسبة وليس مبلغا محددا ، وذهب إلى أن هذا الشرط لا يجب التقيد به لأنه من كلام الفقهاء وليس من القرآن ولا من السنة . ونحن هنا لا نناقش الشيخ خلاف فيما ذهب إليه لسبب بسيط هو أن مجال حديثه غير مجالنا ، فنحن نتكلم عن معاملة مصرفية اعترف الكاتب بأنها قرض وهو يتكلم عن المضاربة وشتان بين هذا وذاك . وهب أن كلام الشيخ خلاف له وجه - مع عدم التسليم به - فإن ذلك لا يخدم وجهة نظر الكاتب لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك لأن القرض عقد ينقل الملكية نقلا كاملا للمقترض بتسلمه للقرض فيصبح القرض ملكا ومالا للمقترض يتصرف فيه كيف يشاء وهو ملتزم برد مثله للمقرض مهما كانت الظروف (1) .
بينما المضاربة عقد شركة لا ينقل ملكية المال بل يظل مملوكا لصاحبه وكل ما للمضارب فيه هو العمل عليه ؛ ولذلك لو تلف أو فقد أو خسر بلا إهمال أو تعد من المضارب ، فإن ذلك كله يحسب على صاحبه عكس
__________
(1) انظر في ذلك : الكاساني : '' بدائع الصنائع '' ج8 ص3596 نشر زكريا يوسف .
القرض ، إذن الطبيعة مختلفة والأركان مختلفة والمقاصد مختلفة . يضاف إلى ذلك أن من تكلم من المعاصرين في المضاربة إنما تكلم فحسب في مسألة الربح وليس في مسألة الضمان ونقل الملكية ، فالكل متفق على بقاء المال على ملك صاحبه .
تبقى لنا كلمة هنا ، لقد نقل الكاتب عن الشيخ خلاف قوله : " واشتراط الفقهاء لصحة العقد ألا يكون لأحدهما من الربح نصيب معين اشتراط لا دليل عليه ، وكما يصح أن يكون بالنسبة يصح أن يكون حظا معينا ولا يدخل في ربا الفضل ولا في ربا النسيئة ؛ لأنه نوع من المضاربة وهذا الاشتراط مخالف لأقوال الفقهاء ولكنه غير مخالف نصا في القرآن الكريم أو السنة " ، والتعليق هنا يقتصر فقط على الجزء الأخير من تلك العبارة . إن كل من له اطلاع على كتب الفقه على اختلاف مذاهبها يجد الإجماع على هذا الشرط " نسبية الربح " ؛ إذن هناك إجماع فقهي ليس على مستوى مذهب أو مذهبين بل على مستوى المذاهب الأربعة ، بل على مستوى الفقه الإسلامي بما فيه من المذهب الظاهري والزيدي والشيعي . . إلخ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقال إن تحديد مقدار معين من الربح يخالف أقوال الفقهاء ولكنه لا يخالف نصا من قرآن أو سنة ؟ لو صح هذا لوقعنا في مأزق حرج ، فلو كان القائل بهذا الشرط فقيه أو مذهب أو مذهبان مع مخالفة غيرهما لأمكن مخالفته ، لكن أن يكون القائل هم كل علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم فيخالف هذا القول الإجماعي ، ثم يقال إنه كلام فقهاء وليس كلام الله ولا كلام الرسول ! وكيف أجمع هؤلاء العلماء على ذلك ؟ وما مستندهم إن لم يكن كتاب الله وسنة رسوله ؟ إن مثل هذا القول فيه تشكيك رهيب في الفقه الإسلامي بل وفي الشريعة نفسها ! هذه كلمة خطيرة - سامح
الله شيخنا الفاضل فيها - ونحن نجزم بأنها لو صحت عنه فإنه لم يكن على دراية كاملة بمدلولها ومفهومها وما يترتب عليها .(2/225)
ثم ينقل الكاتب عما أسماه بالأستاذ وفيق القصار كلاما في فائدة القرض لا يخرج قيد أنملة عما سبق ، وردده رجال الكنيسة في العصور الوسطى تبريرا للفائدة وما يستمر في ترديده الآن رجال الفكر الغربيون . هذا عن الفقرة الرابعة التي تحدث فيها الكاتب عن طبيعة الأعمال المصرفية ومدى مخالفتها للأعمال الربوية كما ذهب الكاتب ، وبعد تلك المناقشة هل هناك خلاف حقيقي بينهما فعلا أم أنه خلاف متخيل متوهم ؟
الفقرة الخامسة : بعد ذلك يذكر الكاتب خلاصة لبحثه لا يزيد فيها عما سبق أن كرره كثيرا وما سبق أن رددنا عليه . ولكنا نحب أن نلفت نظر الأخ الكاتب هنا إلى نقطة صغيرة هي أن الأعمال المصرفية " الإيداع " باتفاق رجال الاقتصاد والقانون في الغرب هي من باب القرض وإن تسميت بوديعة أو بغيرها من التسميات . حتى إن تعريفهم للفائدة ينص صراحة على أنها ثمن استعمال النقود المقترضة . إذن كيف يتضح الخلاف والاختلاف ؟!! والعجيب أنه يقول ما نصه : " لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا ) سبحان الله ! وهل مجرد كونها جديدة يجعلها تختلف عن القديم ، وهل كل جديد يخالف القديم ؟ والأكثر فزعا قوله طالما هي جديدة فلا تخضع في حكمها للنصوص القطعية القرآنية . وكأن القرآن الكريم إنما جاء للمعاملات القديمة التي كانت في الجاهلية وإبان نزوله فحسب ، ثم ما يجد من معاملات يبحث له عن مصدر آخر للتعرف على حكمه . مع أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن كل ما في القرآن والسنة هي نصوص خالدة وليست
تاريخية وتطبق على كل ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث إلى قيام الساعة ، ثم يواصل في خلاصته قائلا : " إن علينا في ضوء ذلك أن ننظر لها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحته للسلم رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع ، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه ) لقد نسي الكاتب أن النصوص الإسلامية كفتنا مؤنة النظر هنا الذي يطالب به الأخ فنصت على حرمة الربا والذي من صوره الأساسية الدين بزيادة مشترطة .
والعمل المصرفي من صميمه . والعجيب أن يقول اقتداء برسول الله في إباحته السلم . وكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجد نصا أو وجد نصا محرما للسلم ولكن مصالح العباد اقتضت أن ينظر في الأمر فيبيحه . وهل يجهل الكاتب أن الرسول الكريم مشرع في الأول والأخير ؟ وكل ما يقوله هو نصوص شرعية واجبة النفاذ ؟ وهل هناك نص صريح يفيد حرمة السلم ؟ وبفرض وجود ذلك فهل إذا جاء الرسول الكريم وقال نصا مغايرا هل يعتبر الحكم الثاني مصدره العمل بالمصلحة أم بالنص الإسلامي ؟ ومن قال من العلماء إن السلم يدخل في باب بيع ما يسمى عندك هم فئة من العلماء وليس كل العلماء ، وهناك منهم من أكد على غير ذلك ( ابن تيمية وغيره ) حيث ذهبوا إلى أن السلم أصل بذاته وليس هو رخصة أو مستثنى من محرم للحاجة ، ثم يواصل الكاتب قائلا : " والمصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها " أما أن المصارف من حيث المبدأ حاجة اقتصادية عصرية فنعم ، لكن ذلك لا يؤدي إلى اعتبار كل عمل تقوم به في حد ذاته حاجة من حاجات الناس . وإلا فيمكن القول أيضا وبنفس القوة إن الربا كان حاجة من حاجات المجتمع الجاهلي ، وكان يمثل مصدرا أساسيا
من مصادر تمويل التجارة ذات الأهمية القصوى في حياتهم واقتصادهم ، بل ولشدة تمسكهم به وحاجتهم إليه شبهوه بالبيع بل شبهوا البيع بقولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (1) . فهل أبيح للحاجة والمصلحة ؟
بل الصواب أن يقال إن المصارف كمؤسسات تمويلية حاجة هامة ، وعلينا نحن المسلمين أن نتعرف على الأعمال التي تؤديها خدمة للمجتمع بما لا يخالف الشريعة وقواعدها وأحكامها ، والحمد لله هناك عمل كبير قد تم في هذا الشأن على المستوى النظري وعلى المستوى التطبيقي ، وبفرض أن في هذا العمل بعض الثغرات فإن الجهد المطلوب ليس هو نقص ما تم ، بل تطويره وتحسينه بحيث يقدم الخدمة المطلوبة على أحسن وجه . ونحن نخالف الكاتب تمام المخالفة من الناحية الاقتصادية فوق مخالفتنا له من الناحية الشرعية ، وذلك في ادعائه بأن تحريم المعاملات المصرفية " الإقراض والاقتراض " يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية . . إلخ ما يقول . فالحقيقة الدافعة أن تلك الأعمال بوضعها الراهن هي إحدى الأدوات الفتاكة التي تحقق ما تخوف منه الكاتب . والتبعية النقدية والمصرفية والسيطرة الغربية على أجهزة المصارف والنقد في العالم والمديونية الهائلة التي تتضاعف عاما بعد عام على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي كلها أمور أوضح من أن تناقش هنا ، وكذلك الآثار الاقتصادية المدمرة لسعر الفائدة على الإنتاج والاستثمار والتوزيع والاستقرار الاقتصادي ، ومن ثم على تقدم المجتمعات وتحقيق الرخاء الحقيقي لكل أفرادها كل ذلك معروف ومدون في كتب الاقتصاد الوضعي ، فكيف يجيء كاتب مسلم ويقول إنه بلا الفائدة لن تكون قوة اقتصادية ، وبلا قوة اقتصادية لن تكون قوة إسلامية . وهكذا يوصلنا إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
مقولة من أغرب ما قيل وهي : إن الإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية كل ذلك رهين وجود الفائدة . وفي نظري أن الأكثر جدوى من إبداء مثالب نظام الفائدة هو تقديم لمحة عن البديل الإسلامي .
وهل البديل الإسلامي عاجز عن إشباع تلك الحاجة وتحقيق هذه المصلحة على وجه أكمل من هذا الأسلوب المحرم ؟ للإجابة على ذلك نعرض في كلمة لهذا البديل ثم لنرى إلى أي مدى يحقق المصلحة لكافة الأطراف .
إن البديل المتعارف عليه حاليا والمتفق عليه بين علماء المسلمين يتمثل في نظام ينحي الفائدة جانبا بكل صورها ويحل محلها أداتين ، القرض الحسن " بلا فوائد " والمضاربة .
فهل هذا البديل يحقق المصلحة التي يتشدق بها أنصار النظام الربوي أم لا ؟
إن الحاجة أو المصلحة برغم تداخلها وترابطها إلا أنه يمكن تحليلها إلى أربع : ( 1 ) حاجة صاحب المال . ( 2 ) حاجة صاحب المشروع . ( 3 ) حاجة الوسيط المالي " المصرف " . ( 4 ) حاجة المجتمع .
أولا : حاجة صاحب المال . وقبل أن نناقش تلك الحاجة يهمنا أن نشير إلي أن أنصار النظام الربوي عادة ، بل غالبا ما يركزون على تلك الحاجة في مناقشاتهم مدعين أن تلك الحاجة إنما تتحقق على الوجه الأكمل في النظام الوضعي عكس النظام الإسلامي . وبمنطق علمي هادئ نناقش تلك المقولة .
إن حاجة صاحب المال تتمثل في توظيف ماله بما يحقق له عائدا مجزيا مع توفير أكبر قدر ممكن من الأمن على ماله ، وقد تتمثل في المحافظة
على ماله والسحب منه عندما يحتاج .
أما عن توظيف ماله فإن نظام المضاربة يحقق له ذلك من خلال ما يقدمه له من حصة في الأرباح كبرت هذه الحصة أو قلت ، كما أن الفائدة ترتفع وتهبط . وبرغم ذلك فعادة ما تثار الغيوم والشكوك . ومن ذلك أن الفائدة مضمونة ومعروفة سلفا وفي ذلك إغراء وتشجيع وأمن كبير .
والجواب عن ذلك متعدد الأبعاد لكنا نكتفي بأنه ليس كل مغر معترفا به شرعا سواء في المعاملات المالية أو في غيرها فالإغراء على العمل في حد ذاته ليس هو المعول عليه في التحليل أو التحريم . ولقد حفت النار بالشهوات وإغراء الشهوة في كل مجال معروف . كذلك قد يقال إن المال نفسه مضمون هناك ومعرض للمخاطر هنا .(2/226)
والجواب عن ذلك يتمثل في : ( 1 ) المال في المصرف الوضعي غير مضمون ضمانا كاملا من الناحية الحقيقية الاقتصادية ، بل هو مجرد ضمان شكلي قانوني ويكفي أن تعرف نسبة رأسمال المصرف إلى ودائعه إنها عادة لا تصل إلى 1 : 5 فأي ضمان هذا ؟ ( 2 ) إن المصرف هو المصرف فكيف يمنح الثقة الكاملة في حالة الفائدة وتسلب منه هذه الثقة في حالة المضاربة ؟ ( 3 ) وهل هناك ما يمنع من وجود دراسات وسياسات للاستثمار وضوابط للمشروعات التي يمارسها المصرف على غرار " عدم السير في بطن الوادي وعدم الاتجار في حيوان وعدم ركوب البحر " ؟ ( 4 ) وهل إذا وظف الشخص ماله في مشروع خاص أو شركة هل يضمن رأسها له وأرباحه مائة في المائة ؟ ( 5 ) وهب جدلا أن بعض المصارف لم يكن على المستوى المطلوب من حيث الكفاية والأمانة ترى هل يظل قائما في السوق ؟ أم سينصرف عنه المتعاملون مما يدفعه دفعا
إلى بذل كل جهد حرصا على النجاح والاستمرار ؟ ( 6 ) وهل هناك ما يمنع من رقابة وإشراف الحكومة وقيامها بوضع الضوابط الكفيلة بمنع أي تلاعب أو انحراف ؟ وقد يقال إن عودة المال إلى صاحبه عندما يحتاجه متيسرة في ظل نظام الفائدة وغير متيسرة في ظل نظام المضاربة . والجواب : أما أنها متيسرة هناك بلا قيد ولا شرط فهذا غير صحيح ، فالودائع الاستثمارية عادة محددة الفترات ، وأما أنه غير متيسر هنا فهو الآخر إلى حد كبير غير صحيح إذ من الممكن في الكثير من الحالات سحب المال أو جزء منه . وعلينا أن نعلم أن التجارة والصناعة وغيرها من جوانب النشاط الاقتصادي تحتاج إلى الزمن ، ويجب أن نحترم هذا العنصر ، وإلا ما تم مشروع واعتقد أن ذلك مصلوب اقتصاديا ، وهب أن الشخص يعمل لحسابه ، فهل من السهولة بمكان أن يقض مشروعه ويحصل على أمواله نقدا عندما يريد ؟ أظن أن الإجابة على ذلك من الناحية الاقتصادية معروفة ولا تحتاج إلى تعليق .
أما عن حاجة صاحب المال المتمثلة في مجرد المحافظة على ماله والسحب منه عند ما يريد على غرار ما هو معروف بالوديعة الجارية . فهل البديل الإسلامي يعجز عن ذلك ؟ إن الفقه الإسلامي قد خصص من أبوابه بابا أسماه بالوديعة ، وقدم لها من الأحكام والضوابط ما يجعلها تنهض نهوضا كاملا بتلبية مصلحة رب المال . وليس هنا مجال مناقشة ذلك لكنا نشير إلى مجرد جزئية فيها لأهميتها . وهي أن الأصل أن يحتفظ المستودع " المصرف " بالوديعة دون التصرف فيها لكن طالما أن الوديعة تأخذ الشكل النقدي والنقد غير متعين عند الكثير من العلماء إلا في حالات معينة ، وطالما أن من حق المستودع أن يتصرف في الوديعة بإذن ، وطالما أن من حقهما " الطرفين " أن يحولا الوديعة إلى قرض يصبح
مالكا له المستودع " المقترض " ويتصرف فيه كما يشاء وله الغنم وعليه الغرم طالما أن ذلك كله متاح في الإسلام . فهل بعد ذلك يعجز البديل الإسلامي عن تلبية مصلحة صاحب المال في حفظ ماله والسحب منه عندما يحتاج ؟ مع ملاحظة أن المودع للوديعة الجارية في النظام الربوي لا يحصل عادة على فوائد ، بل كثيرا ما يدفع مصاريف وهو هنا أيضا لا يحصل على عوائد ، بل ربما يدفع أجرة الحفظ والصيانة اللهم إلا إذا صرح له بالتصرف فيها متحملا الغرم مستفيدا بالغنم ، فعند ذلك تتحول الوديعة إلى قرض لا يحصل المودع على شيء منه ولا يدفع مصروفا له . هذا عن حاجة صاحب المال ومصلحته فهل عجز البديل الإسلامي عن تحقيقها ؟
ثانيا : حاجة صاحب المشروع . إن صاحب المشروع يحتاج إلي تأمين التمويل الكافي لإقامة مشروعه ولاستمراريته . ومن الحقائق المدونة في دنيا الاقتصاد أن حصول صاحب المشروع على خدمات عناصر الإنتاج المختلفة والتي منها خدمة رأس المال لا يتم مجانا وبلا مقابل عادة ، بل لا بد من دفع المقابل أو الثمن . هذا معروف في الاقتصاد الوضعي ولا يعرف غيره . فهل البديل الإسلامي يحقق ذلك فقط ؟ أم لمحققه وزيادة ؟ أم لا يحققه ؟ بالتحري والتدقيق نجد البديل الإسلامي يحقق ذلك وزيادة . فأمام صاحب المشروع أن يذهب للمصرف ويتفاهم معه حول تمويل مشروعه بعد دراسته دراسة جيدة والاطمئنان على سلامته من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الشرعية . وأمامهما عند ذلك أكثر من وسيلة لإنجاز هذا المطلوب من بينها دفع التمويل على سبيل المضاربة أي بحصته فيما يتحقق من أرباح . وهنا نجد أن حاجة صاحب المشروع قد لبيت فقد حصل على التمويل اللازم ، وكل ما عليه أن يتنازل عن حصته
من الربح للمصرف إذا تحقق ربح . كما أنه يمكنه الحصول على قرض حسن من المصرف " الودائع الجارية " وعندئذ يلتزم التزاما قانونيا برده وفي نظير ذلك له كل ما يتحقق من ربح . وإذن فمن الممكن إجراء ترتيب بمقتضاه يمكن منح صاحب المشروع حاجته أو بعضها من التمويل دون دفع ثمن . وهذه الصورة غير موجودة على الإطلاق في النظام الربوي . وهنا قد تثار بعض الشكوك والغيوم ، والتي منها أن صاحب المشروع قد يتعرض للتدخلات الكثيرة والمعوقة من المصرف في أعماله وهذا ما لا يرغبه عكس نظام الفائدة . والجواب عن ذلك إن هذه العملية نظرا لأهميتها وموضوعيتها قد احترمها الإسلام ، ووضع من الأحكام والضوابط ما يجعل هذا التدخل في أدنى الحدود بالقدر الذي يعتبر في حقيقته من مصلحة صاحب المشروع أما ما عدا ذلك فلا تدخل من المصرف ، وأحكام المضاربة تنص بوضوح وتفصيل على ذلك . وفي ضوء ذلك فمن مصلحة صاحب المشروع التعامل بنظام المضاربة بدلا من نظام الفائدة . ذات العبء الثابت والمال المضمون الذي لا بد له من إرجاعه بغض النظر عما قد يحدث للمشروع مع عدم الإهمال .
أما في نظام المضاربة فليس هناك عبء ثابت وليس هناك التزام قانوني برد المال إلا عند الإهمال أو التعدي كما أن هناك دراسة مشتركة لجدوى المشروع مما يخفف من العبء على صاحب المشروع .
ثالثا : حاجة الوسيط المالي "المصرف" . سوف نسلم بأن عملية الوساطة المالية أو عملية الصرافة عملية مباحة ومتاحة أمام من يرغب في ذلك من الأفراد فكما أن من حق الأفراد أن يقيموا شركات تجارية أو زراعية أو صناعية الخ فمن حقهم أن يقيموا مؤسسات أو شركات تمارس عمليات الوساطة أو بمعنى آخر عمليات الربط بين أصحاب الأموال(2/227)
وأصحاب المشروعات . فهل البديل الإسلامي يعجز عن تلبية مصلحة هؤلاء؟ إن مصلحتهم تتمثل في وجود إقبال من أصحاب الأموال عليهم وبالمثل من أصحاب المشروعات . وفي الوقت نفسه الحصول على عائد مجزي من جراء تلك العملية أو ممارسة هذا النشاط . من الملاحظ أن نظام المضاربة يحقق ذلك وذلك من حيث إنه يحقق مصلحة كل من أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال ، وفي الوقت نفسه فإنه يبيح للمصرف الحصول على عائد مجزي إما على سبيل العمولة أو الأجرة أو على أساس اعتباره طرفا أصيلا في العملية مع كل من أصحاب الأموال من جانب وأصحاب المشروعات من جانب آخر . وبالمثل فقد تثار هنا بعض الشكوك حول تخوف المصارف من إعطاء الأموال لأصحاب المشروعات دون ضمان قانوني برجوعها أو الحصول على عوائدها . ولكن الرد على ذلك جد يسير فمن حقها الدراسة الجادة والمتابعة القويمة وأخذ الضمانات الكفيلة لسلامة العملية ، ثم بعد ذلك فإن ما قد يحدث من تلاعب هو وارد على كل نظام ، كما أنه سرعان ما يقضي على نفسه بنفسه . وقد يقال ما مصلحتها في إعطاء قروض حسنة؟ والجواب على ذلك يمثل في: وما ضررها في ذلك طالما أنها هي بنفسها تحصل على قروض حسنة؟ يضاف إلي ذلك أن هذه القروض عادة ما تؤدي إلى توثيق الصلة مع أصحاب المشروعات بل وتوسيع أعمالهم ونشاطهم مما يجعلهم في حاجة إلى المزيد من التمويل عن طريق المضاربة . مع ملاحظة . أن الكثير من عمليات التمويل في النشاط الاقتصادي عادة ما تتم بأساليب غير قرضية .
رابعا : حاجة المجتمع . ونحب أن نشير هنا إلى أن تلك المسألة كثيرا ما تستخدم من قبل أنصار النظام الربوي فدائما ما نسمع صيحات عالية
عن مصلحة المجتمع ومصلحة الاقتصاد القومي وحاجة البلد إلى التنمية والتقدم والقوة والرخاء والعمالة . . الخ . وكأن البديل الإسلامي يناقض كل ذلك!! علما بأنه عند التحري نجد البديل الإسلامي يحقق تلك المصلحة كأحسن ما يكون ذلك . دعونا من ترديد كلمات وعبارات جوفاء وتعالوا نحدد بدقة مضمون حاجة المجتمع ومصلحته في هذا الشأن . ليمكن الحكم العملي على مدى تحقق تلك المصلحة من عدمه في ظل البديل ا لإسلامي .
إن مصلحة المجتمع هنا يمكن إجمالها في كلمة هي توظيف وتشغيل كل ما لديه من موارد وطاقات والعمل المستمر على توسعة تلك الطاقات ووضعها في خدمة إنتاج ما يحتاجه المجتمع من سلع وخدمات . في إطار من قيمه وعقيدته وأخلاقياته . في ضوء هذا التحديد لمصلحة المجتمع فإنني أطلب من كل من لديه اعتراض على البديل الإسلامي أن يدلنا دلالة صحيحة بينة على نقطة الضعف أو العجز في هذا البديل حيال تلك المصلحة . فمن حيث الأموال هل يعجز هذا البديل عن توظيف وتعبئة وجذب كل ما هو متاح من أموال!! ومن حيث المشروعات فهل هناك مشروعات تنتج سلعا وخدمات يحتاجها المجتمع لا يمد لها البديل الإسلامي يد التمويل الذي تحتاجه!! .
هذا هو البديل الإسلامي لنظام الفائدة الربوي فهل هو عاجز عن سد حاجة المجتمع وتحقيق مصلحته؟ (1) وإلى هذه المرحلة من البحث قد يقال إن ذلك يمكن قبوله على المستوي الداخلي . لكن ما العمل على
__________
(1) لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي دراسة مقارنة نشر مؤسسة الرسالة للدكتور شوقي دنيا وكذلك النظام المصرفي الربوي للدكتور محمد نجاة الله صديقي. نشر جامعة الملك عبد العزيز.
المستوى الخارجي؟ ونحن نعلم تشابك الاقتصاد القومي مع الاقتصاد العالمي وحاجة كل دولة إسلامية إلى التعامل الخارجي وحاجة الكثير منها إلى التمويل الخارجي وحاجة البعض فيها إلى توظيف أموالها في الخارج . وهذه حاجات لا تستقيم أحوال الأمة الإسلامية دون الاعتراف بها وأخذها في الحسبان . فكيف نشبع تلك الحاجة في ظل البديل الإسلامي؟ أنا لا أدعي أن الإجابة هنا -من قبل الباحث- جاهزة بوضوح وتفصيل وفي نفس الوقت لا أدعي أنها غير جاهزة على مستوى البحث الفكري الإسلامي عامة . فبالتأكيد هناك دراسات وأبحاث حول هذا الموضوع وللتأكيد أيضا هناك إمكانيات متزايدة لتطوير هذه الدراسات وتحسين هذه الإجابات . وأعتقد أن هذا يحتاج بحثا مستقلا . ولكن ذلك لا يستدعي توقف كل شيء إلى أن يتم كل شيء . فدعونا نؤمن إيمانا كاملا بصلاحية البديل الإسلامي لتحقيق المصلحة الداخلية للمجتمع بكافة أفراده . ودعونا نمارس عملية تغيير الواقع الداخلي نحو هذا البديل شريطة أن نمنحه الدعم الكافي على كل المستويات ونحرص بكل ثقلنا على نجاحه . ولو حدث هذا في المجال الداخلي فإننا نهيئ الجو بطريقة فعالة لاستخدامه في المجال الخارجي بالإضافة إلى الجهود التي تبذل بجد وإخلا0ص نحو تطوير أساليب فعالة لاستخدامه في الخارج .
وهنا نقطة أحب أن أشير إليها وهي أن غيرنا من الأم والمجتمعات قد حرصوا كل الحرص على تطبيق وإنجاز واستخدام ما اعتنقوه من أنظمة وأساليب رغم شدة المفارقة وصعوبة العقبات وكثرة التحذيرات والتخويفات ومع ذلك ما تراجعوا . والأمثلة جد صارخة منها أسلوب التخطيط ونظام الملكية الجماعية ونظام التعاونيات بل ونظام السوق ونظام الملكية الخاصة . . الخ فما بالنا نحن نضعف أمام كل عقبة وإن
هانت وكل تخوف وإن كان وهما ونجري نتسول الأنظمة والأساليب من هنا وهناك رغم ما فيها على عقيدتنا وشريعتنا وأخلاقنا واقتصادنا .
إن الحقيقة الدامغة التي لا جدال فيها أن درجة إيماننا بالبديل الإسلامي من حيث الصحة والفعالية لم ترق بعد كي تصل إلى الحدود الدنيا المقبولة ، وإذا كان ذلك في حد ذاته مؤسفا ومحزنا فإن الأكثر مدعاة للأسف والأسى أن ذلك الموقف السلبي لم يرتكز على أي مستند حقيقي بل إما الانبهار بالنظام القائم والنظر إليه على أنه خير ما يمكن أن يكون أو أنه الجهل أو العداء لكل ما هو مستمد من الإسلام وإن كان فيه ما فيه من المصلحة الحقيقة . أو هو اللمز والغمز والتشكيك المستمر حول تجربة المصارف الإسلامية المعاصرة . إن الموقف الصحيح الذي ينبغي أن تحرص عليه المجتمعات الناهضة هو الدراسة الجادة المستمرة لكل ما يمكن أن تستفيد من قيمها وعقائدها من تنظيمات وأساليب . ولا شك أن الوضع الأمثل في مسألتنا هذه هو قصر التطبيق والاستخدام على البديل الإسلامي على الأقل لكونه لا يتعارض مع العقيدة والشريعة ثم العمل المستمر على تطويره وتحسينه ، فإذا لم يكن هذا الوضع الأمثل فالوضع الأقل درجة هو أن يعامل البديل الإسلامي معاملة مفضلة ويمنح الدعم السياسي الكافي كي يأخذ فرصته لإثبات وجوده فإذا لم يكن ذلك فإن الوضع الأقل درجة وهو أقل وضع يمكن قبوله شرعا بصفة مرحلية هو أن يمنح البديل الإسلامي فرصة متكافئة بجوار البديل الوضعي ولنترك لهما العمل بحرية وبلا قيود وعرقلات ثم لنرصد النتائج لكن للأسف الشديد- وتلك حقيقة ، وإن كان فيها ما فيها من المرارة والمكاسفة في الوقت نفسه أن غالبية دول العالم الإسلامي لم ترق في موقفها من البديل الإسلامي بعد إلى الوضع الأدنى خاصة على المستوى
الرسمي ، بل نجد إما الحظر الكامل أو الموافقة الشكلية المحضة كل ذلك تذرعا بالخوف على الاقتصاد القومي وعلى انهياره لكن الحقيقة المرة وراء ذلك ببعيد .(2/228)
ولنفرض أن في التجربة المصرفية الإسلامية المعاصرة ما فيها من الملاحظات والثغرات فهل بناء على ذلك ترفض التجربة كلية ويطرد البديل الإسلامي أم تعالج وتقوم وتطور؟ وهل قامت إحدى الدول بمثل تلك الدراسات الجادة وعمل التطوير السليم وأعطت ذلك ما يستحقه من جهد وعناية؟ وهل نجد من أجهزة الإعلام والتوعية توجها صادقا حقيقيا نحو هذا البديل؟
وهل هناك أعمال جادة من قبل الجامعات ومراكز البحث العلمي حيال هذا البديل وتلك التجربة؟ وإذا كان هناك مثل ذلك فهل وجد الأذن الصاغية من قبل المسؤولين؟ وهل من الصواب أن يغلق الباب أمام الموضوع إلى أن يكتمل وينضج؟ وإذا فعلت ذلك كل دولة إسلامية فأين يتم ذلك؟ إن الصدق مع النفس مطلوب في كل شأن من شؤوننا وعلينا أن نتحراه وإن رأينا فيه الهلاك فإن فيه النجاة .
هذا تعليق سريع على البديل الإسلامي وإلى أي مدى يمكنه أن يلبي مصلحة الأمة الإسلامية .
نعود إلى خلاصة الباحث فقد بقي فيه نقطتان:
الأولى : هي القيمة المالية للزمن في النشاط الاقتصادي ، وقد ذكرها الكاتب مدعما بها وجهة نظره وبالتأكيد فإن ما قدمه في هذا الصدد يحسب عليه ولا يحسب له ، وإضافة هذه الفقرة زادت الكلام وهنا على وهن . ذلك أنه باتفاق العلماء فإن للزمن قيمة مالية معتدا بها شرعا في النشاط الاقتصادي ، فالثمن المؤجل يمكن شرعا أن يكون أكبر من
الحال والثمن في السلم يمكن أن يكون أقل من الثمن في غيره ، الإسلام لم يعتد بأي قيمة مالية للزمن في مجالات أخرى من أهمها الدين والقرض ففيه خمسة حالة تساوي تماما خمسة مؤجلة ، وكيلوجرام حال يعادل كيلو قمح مؤجلا تماما بتمام . ومعنى ذلك أننا نحتكم للإسلام في الاعتداد بالقيمة المالية للزمن من عدمه . وكم كان حريا بالأخ الكاتب أن يدرك أن القرض بزيادة هو إعمال للقيمة المالية للزمن ، فهل الشرع بذلك؟ ولو تأمل الكاتب الأقوال العديدة التي نقلها في الصدد عن الفقهاء لاتضح له أنهم قالوها في معرض تحريم الربا في معرض تجويزه وإباحته . وإلا لجاز شرعا بيع خمسة بستة مؤجلا التساوي في القيمة المالية بين خمسة حالة وستة مؤجلة لكن ذلك بنص الحديث الشريف ، وهناك دراسات حديثة توضح تلك المسألة على حقيقتها (1) .
الثانية : وهي النقطة الأخيرة في بحث الأخ الكاتب وتتعلق بتقلب وتدهور قيمة النقود بفعل التضخم المستمر . ويخلص من ذلك إلى أنه من العدل إباحة الفائدة قائلا: "ولذلك لا يستطيع أحد الآن أن القيمة العددية للنقود معبرة عن قدرة اقتصادية أو قوة شرائية يتعين المدين أن يردها كاملة ، ولذلك فإن المهلة الممنوحة للمدين في القرض لم تفوت على الدائن مكسبه فحسب بل إن هذه المهلة بل إن هذه المهلة تسبب له خسارة مالية بسب نقص القوة الشرائية لديه ، ومن ثم فهناك توازن ضار بالدائن الأمر الذي نستخلص منه ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معا في احتمالات التقلبات النقدية وذلك بأن يتحمل الدائن نقص قيمة النقود ,
__________
(1) من ذلك كتاب تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي لكاتب هذه الورقة نشر مؤسسة الرسالة .
والمدين بأن يدفع الفوائد وبذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم " .
أما أن قيمة النقود تتعرض للتقلب الدائم فهذا ما لا شك فيه لأنه حقيقة قائمة ، لكن علاج ذلك من خلال الفائدة غير صحيح شرعا واقتصادا . وهناك أبحاث متخصصة في ذلك (1) يمكن للكاتب الرجوع إليها وهل يجادل الأخ الكاتب بأن الفائدة ذاتها هي أحد العوامل الأساسية وراء هذا التقلب المستمر في قيمة النقود؟ وكنا نود من الكاتب أن يعمل فكره ليجد لنا علاجا ناجعا لهذه المشكلة صحيحا شرعا بدلا من القول باستخدام أداة مجمع على حرمتها وضررها الاقتصادي أبلغ من نفعها إن كان لها نفع . ثم إن الترخيص هو تشريع ، ومن الذي يملكه هل أنا أو هو أو أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالاعتماد القوي الواضح على نص شرعي وإذا كان من يملكه لم يفعله فهل الشريعة جاءت لعصر دون عصر؟ ويختم الكاتب كلامه بالتوجه بالدعوة الملحة لأهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي حول الأعمال المصرفية . ونحن نضم صوتنا لصوته لكنا نذكر الكاتب بالقرار الذي اتخذه مجمع البحوث الإسلامية بتحريم الفائدة على الدين بالإجماع ، وكذلك بالعديد من الفتاوى التي صدرت عن الرئاسة العامة للإفتاء بهذا الشأن .
وبعد فهذا تعقيب أو رد على ما قدمه الكاتب ويمكن إجمال هذا كله في كلمة؛ لقد تصور الباحث أن الربا المحرم قطعيا فقط هو ربا الجاهلية المذكور في القرآن الكريم وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل
__________
(1) انظر في ذلك للكاتب بحث ''تقلبات القوة الشرائية للنقود وأثر ذلك على الائتمان الاقتصادي والاجتماعي''. مجلة المسلم المعاصر العدد 41.
قد استند إلى مقدمات واهية في تحديده لربا الجاهلية؛ لقد حدده بزيادة طارئة لمدين محتاج للصدقة . ومعنى ذلك أن الزيادة الأصلية ليست محرمة لأنها ليست من ربا الجاهلية وهو بذلك يخرج قسما كبيرا من ربا الجاهلية أو ربا النسيئة من نطاق الحرمة ، كذاك فإنه يقيده بما إذا كان المدين أقل غنى من الدائن وأنه تجوز عليه الصدقة وأي صورة لا تحقق ذلك لا تدخل في نطاق ربا الجاهلية وهكذا فهو لم يقصر الربا المحرم على ربا النسيئة حسب بل قصر الحرمة على بعض صور ربا النسيئة . وقد ثبت لنا كل ذلك غير صحيح ، كما ثبت أيضا أن الإيداع المصرفي الذي هو باعتراف خبرائه من باب القرض هو صورة طبق الأصل من صور ربا الجاهلية وقد أجمع العلماء بكافتهم على حرمة الزيادة المشترطة على الدين أو القرض بغض النظر عن كون القرض لغرض إنتاجي أو استهلاكي وعن كون المدين أكثر غنى أو أقل غنى من الدائن .
وفي النهاية يهمني أن أؤكد أنني ما قصدت بذلك تعريضا أو سوء ظن بالكاتب أو بغيره بل كل القصد أن أسهم بما لدى من معرفة ضئيلة في هذا الموضوع عسى أن يكون فيها ولو بعض الصواب فينتفع بها الناس في دنياهم وأخراهم .
وإنني أهيب بالأخ الكريم أن يتقي الله تعالى فينا وفي عمله ووظيفته وبدلا من هذا الجهد الذي أقل ما يمكن أن يوصف بأنه جهد ضائع . ومضيع لمجهود الغير بدلا من ذلك نهيب به أن يبذل جهدا فعالا ومؤثرا في إبراز مساوئ الفائدة بأسلوب تحليلي ثم في تطوير الأسلوب البديل الذي يحقق أعلى فعالية اقتصادية في إطار من الشريعة الإسلامية . والله تعالى نسأل أن يهدينا جميعا سواء السبيل .
شوقي أحمد دنيا من أفذاذنا العلماء الشيخ محمد بن إبراهيم
=================
رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين على الدكتور إبراهيم الناصر
حول بحثه : موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 23 / ص 121)
رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين
على الدكتور إبراهيم الناصر
حول بحثه : موقف
الشريعة الإسلامية من المصارف
كان الدكتور إبراهيم الناصر قد دفع البحث الذي كتبه بعنوان " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " إلى صالح الحصين ، وطلب منه أنه يكتب ملاحظاته على البحث بكل صراحة وبدون مجاملة ، فكتب له رسالة مطولة نقتطف منها ما يأتي مع ملاحظة أنا حافظنا على عبارات الأصل عدا حالات نادرة اقتضى حسن السياق تغيير اللفظ مع بقاء المعنى .
الملاحظة الأولى :(2/229)
ليست مناقشة بل هي بالأحرى عتب ، إذ كان الانطباع لدي عند قراءتي للبحث لأول وهلة أنه لم يكتب بجدية تتناسب مع موضوعه ، بل أخشى أن يكون كتب بطريقة أقرب إلى العبث وعدم الاحتفال .
لا أقصد ، وقد انتصبتم للاجتهاد في الإفتاء في مسألة ترونها جديدة وخطيرة . (ص 11) أنه كان يجب أن تطلعوا على النصوص الشرعية المتصلة بالموضوع وأن تعملوا القواعد الفقهية في الاستنباط منها ، وأن تستخدموا المقاييس والموازين الشرعية للترجيح بين الأدلة ، فأنتم معذورون في التقصير في هذا ؛ لأنه ليس لديكم الإمكانيات اللازمة لذلك .
أقول لا أقصد هذا وإنما أقصد أنه كان يتوقع منكم وقد تصديتم للكتابة في مثل هذا الموضوع أن تتقيدوا بمنهج البحث العلمي تفكيرا وتعبيرا ، الأمر الذي حرم منه هذا البحث كما يتضح من الملاحظة الثانية .
الملاحظة الثانية :
أدق وصف للبحث أنه خليط مشوش من اقتباسات أخذت من كتابة سابقة ، كانت أكثر جدية وقد حررت للهدف نفسه الذي رمى إليه البحث وهو التماس المخرج الفقهي لإباحة " الفائدة الربوية " .
والإشكال جاء من أن الكتابة المشار إليها كانت عرضا لنظريات متباينة ومتعارضة فكل نظرية منها ذهبت مذهبا في التأسيس والتخريج ، وكان من المستحيل أن يجيء باحث فيأخذ بها جميعا في وقت واحد ، إنك لا تستطيع أن تصل إلى هدف واحد بالسير في إتجاهين متعارضين .
إن الباحث لم ينتبه لهذا التناقض الذي وقع فيه البحث ؛ لأنه في حمى الوصول إلى النتيجة التي قررها مسبقا لم يبال أن يصل إليها بمقدمات وهمية ، أو يكون إيصالها للنتيجة وهما ، لقد اكتفى بصورة الحجة لا حقيقتها ، عناه أن يكون يورد الشبهة ولم يهتم بإيراد الدليل .
إن الكتابة المشار إليها التي اقتبس منها هي بحث " محل العقد" في كتاب ( مصادر الحق ) للأستاذ السنهوري ، وبدون أن يشير لهذا المرجع نقل منه بالنص (1) . وقد يكون الأمر في هذا قاصرا على عدم الالتزام الخلقي لو أحسن النقل ولم ينقل بعض الأفكار نقلا خاطئا ، ولو استطاع الاستفادة من المعلومات التي تضمنها هذا المرجع ، أو من طريقة البحث التي انتهجها ، ولكن كل ذلك لم يحصل .
لقد اهتم الأستاذ السنهوري غفر الله له - كما اهتم الباحث - بالوصول إلى إباحة الفائدة ، وعرض ثلاث نظريات في الموضوع ، وجاء الباحث فاقتبس من كل هذه النظريات مع اختلافها في الأساس وتعارضها فلم يكن
__________
(1) الصفحات رقم 4 ، 5 ، 6 فنقلها بالحرف من ( مصادر الحق) الجزء الثالث من ص 197 ، 223 ، 224 ، 225 ، 226 ، 227 ، 229 ، 242 ، 243 ، 248 .
غريبا أن يؤدي هذا الخلط المشوش من الاقتباسات إلى وقوع البحث في التناقض ، والبعد عن الطريقة العلمية .
لقد قرأت البحث عدة مرات بغرض مناقشته ، ولكني انتهيت إلى أن من المستحيل أن تناقش مناقشة علمية بحثا يبعد كل هذا البعد عن الطريقة العلمية ، ولا يلتزم بقواعد المنطق القانوني ، ورأيت أن السبيل الوحيد لمناقشة البحث ، أن أرده أولا إلى الأصول التي أخذ منها ، وأن أعرضها بالصورة التي وردت بها في مرجعه ثم أناقشها . ويتضح هذا بالملاحظة الثالثة .
الملاحظة الثالثة :
عرض الأستاذ السنهوري في مصادر الحق ثلاث نظريات لإباحة الفائدة .
(1) نظرية الدكتور معروف الدواليبي وهو موضوع محاضرة ألقاها في مؤتمر الفقه الإسلامي المعقود في باريس عام 1951 م ، ويلخصها الأستاذ السنهوري بما يأتي :
الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها إلى الاستهلاك لا إلى الإنتاج ، ففي هذه المنطقة - منطقة الاستهلاك - يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش ، أما اليوم وقد تطورت النظم الاقتصادية وانتشرت الشركات وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك ، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور في الأحكام ، ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من الجماهير وصغار المدخرين ، فإن الآية تنعكس والوضع ينقلب ويصبح المقترض وهو الشركات والحكومات هو الجانب القوي المستغل ، ويصبح المقرض أي صغار المدخرين هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية ، فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في
الفقه الإسلامي ، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض ، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك ، والحل الصحيح أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة ، ويمكن تخريج هذا على فكرة الضرورة أو فكرة المصلحة أي تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، كما لو تدرع العدو بمسلم فيقتل المسلم للوصول للعدو .
(2) نظرية الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وهي كما تتلخص من المرجع المشار إليه آنفا كما يأتي :
الربا المحرم هو ربا الجاهلية وحده ، فهو الربا الوارد في القرآن الكريم ، وهو الربا الذي يؤدي إلى خراب المدين . أما ربا النسيئة وربا الفضل الواردان في الحديث الشريف فالنهي عنهما إنما جاء للذريعة إلى الربا المحرم القطعي وهو ربا الجاهلية ، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية فالشيخ رشيد يرى أن بيع الأصناف الستة بمثلها مع التفاضل فضلا عن تثمير الأموال في الشركات التجارية كل هذا لا يدخل في الربا المحرم يقول : " وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرم القطعي ، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية ، ومن المنهيات في الحديث ما هو محرم وما هو مكروه وما هو خلاف الأولى . "
(3) نظرية الأستاذ السنهوري غفر الله له وملخصها :
الأصل في الربا تحريم الربا في جميع صوره سواء كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل على أن هناك صورة من الربا هي أشنع هذه الصور صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية ، فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين ويقول : " إما أن تقضي وإما أن تربي" . وهذا أشبه بما نسميه اليوم . . الربح المركب . . هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية ، وهي محرمة تحريما قاطعا لذاتها تحريم مقاصد لا تحريم وسائل .
أما الصور الأخرى من الربا ، الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل فهي أيضا محرمة .
ولكن التحريم هنا تحريم وسائل لا مقاصد ، بعض هذه الصور ، وهي الخاصة بالأصناف الستة وبفائدة القرض وردت بنصوص صريحة في الأحاديث الشريفة وبعضها وهي الخاصة بالأصناف الأخرى . . كان من عمل الفقهاء ، وهي تقوم على صناعة فقهية لا شك في سلامتها ، وكلها وسائل لا مقاصد وقد حرمت سدا للذرائع ، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم وتجوز استثناء إذا قامت الحاجة إليها ، والحاجة هنا معناها مصلحة راجحة في صورة معينة من صور الربا تفوت إذا بقي التحريم على أصله عند ذلك تجوز هذه الصورة استثناء من أصل التحريم وتجوز بقدر الحاجة القائمة فإن ارتفعت الحاجة عاد التحريم .(2/230)
وفي نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد . . تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال حتى يستغله بعمله وقد أصبحت شركات المضاربة وغيرها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم . . القروض هي الوسيلة الأولى وكذلك السندات ، والمقترض هنا هو الجانب القوي والمقرض هو الجانب الضعيف . . . فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رؤوس الأموال من طريق القرض . . فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة ونقصد بذلك ( أولا ) : أنه لا يجوز بحال مهما كانت الحاجة قائمة أن تتقاضى فوائد على متجمد الفوائد ، فهذا هو ربا الجاهلية الممقوت . ( ثانيا ) : وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة يجب أن يرسم لها واضع القانون حدودا لا تتعداها من حيث سعرها ، ومن حيث طريقة تقاضيها ، ومن وجوه أخرى وذلك حتى نقدر الحاجة بقدرها .
وحتى بعد كل هذا فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم كما قدمنا إلا في
نظام رأسمالي كالنظام القائم فإذا تغير هذا النظام ، ويبدو أنه في سبيله إلى التغيير . . . عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة فقد لا تقوم الحاجة فيعود الربا إلى أصله من التحريم . انتهى .
بعد استعراض هذه النظريات لن أناقشها من ناحية الفقه الشرعي ، وإنما أترك لرجل من أعظم رجال القانون في العالم العربي ، وهو الأستاذ السنهوري أن ينقض النظريتين الأوليين على أساس المنطق القانوني ، وقبل ذلك ألفت النظر إلى الاختلاف الكامل بل إلى التعارض بين النظريات الثلاث في الأساس الذي بنت عليه الأمر الذي لا يسمح بالجمع بينها كما فعل الباحث .
عن النظرية الأولى نظرية الدكتور معروف الدواليبي يقول الأستاذ السنهوري في المرجع السابق المشار إليه : " يؤخذ على هذا الرأي أمران :
(1) يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية ، قد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج كالقروض التي تعقدها الحكومات والشركات لكن . . . من القروض صورا أكثرها وقوعا وهي القروض التي يعقدها الأفراد مع المصارف ، فهل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة المعقولة أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها الفائدة أصلا ؟ وهل نستطيع هذا التمييز في كل حالة على حدة فنبيح هنا ونحرم هناك ؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر ولا بد إذن من أحد الأمرين إما أن تباح الفائدة المعقولة في جميع القروض أو تحرم في جميعها .
(2) إذا فرضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج فإن تخريج جواز الفائدة المعقولة في هذه القروض على فكرة الضرورة لا يستقيم ؛ فالضرورة بالمعنى الشرعي ليست قائمة ، وإنما هي الحاجة لا الضرورة ، وينبغي التمييز بين الأمرين .
وعن نظرية الشيخ محمد رشيد رضا يقول السنهوري في المرجع ذاته :
غني عن البيان أن القول بأن ربا النسيئة وربا الفضل إنما نهي عنهما في
الحديث الشريف نهي كراهة لا نهي تحريم لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب الفقهية ، وقد اعترض الأستاذ زكي الدين بدوي بحق على هذا الرأي في مقاله المنشور في مجلة القانون والاقتصاد حيث قال : " إنه يتعذر التسليم بقوله بعدم دخول الأصناف الستة في الربا المحرم ؛ لأن بيع هذه الأصناف وإن كانت وسائل وذرائع إلى الربا إلا أنها وسائل وذرائع منصوصة ، ودلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الأفهام ، أما قوله أن النهي عن بيع هذه الأصناف كان تورعا ؛ لإفادة أن بيعها خلاف الأولى أو للكراهة فقط لا للتحريم ، فدعوى تتعارض مع ظواهر النصوص والمأثور عن الصحابة " ، ويبدو أنه يجب الذهاب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ زكي الدين ، والقول بأن ربا النسيئة وربا الفضل لا يقتصران على الأصناف الستة المذكورة في الحديث الشريف بل يجاوزانها إلى ما عداهما إليه المذاهب الفقهية من الأصناف الأخرى ، وهذا هو الذي انعقد عليه الإجماع ، وإن كل ذلك ربا محرم لا مكروه فحسب ، وننتهي الآن إلى مناقشة نظرية أستاذنا السنهوري فنقول :
إذا كان الأستاذ السنهوري معذورا من جهة أنه حرر نظريته والواقع المعاش في ذلك الوقت أنه لا يوجد تطبيق مصرفي عملي إلا محكوما بأحد النظامين ؛ النظام اللاربوي الشيوعي والنظام الربوي الرأسمالي ؛ فإن الوضع الآن قد تغير ووجدت تطبيقات عملية وتجارب معاشة لنظام مصرفي ليس ربويا ولا شيوعيا هذا من ناحية ، أما من الناحية الأخرى فإن الحاجة حينما تعتبر مثل هذا الاعتبار في بعض الأحكام إنما يقصد بها الحاجة التي تفرض على الإنسان من الخارج ولا يستطيع دفعها ، أما أن يكون في إمكان الإنسان دفع الحاجة ، ثم لا ينشط لذلك فلا يجوز اعتبارها في هذه الحال وواضح بعد تغير الظروف ونجاح التطبيقات للنظام المصرفي غير الربوي أن في إمكان أي دولة إسلامية أن تحول نظامها المحلي - على الأقل - إلى نظام لا ربوي لو أرادت ذلك . وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله .
ومن حيث بناء النظرية على التمييز بين صورة من صور الربا الجاهلية بالقول بأنها مقصودة في القرآن ، والمحرمة تحريم مقاصد وربا النسيئة - ومنه ربا القرض - بالقول بأنه ليس من الربا المقصود في القرآن ، ومحرم تحريم وسائل فهو خطأ واضح كالشمس ، ووهم زل به عالم جليل نقصد به الشيخ رشيد رضا ( وندعو الله أن يعفو عنه في جانب حسناته الجليلة والله أعلم بها ) ولكن لا يجوز تقليده في زلته ، ولو لم ترد النصوص موضحة أن ربا الجاهلية لا يقتصر على تلك الصورة لوجب أن نستيقن ذلك من طبائع الأمور وحكم العقل .
كانت مكة واديا غير ذي زرع فلم يكن اقتصاد قريش قائما على الزراعة ، وإنما كان قائما على التجارة وكانت لهم رحلتا الشتاء والصيف ، وكان منهم أصحاب الأموال ( الممولون ) وأصحاب العمل ( المحتاجون للتمويل ) وكان من الطبيعي أن يكون القرض الأداة الرئيسية للتمويل ، ولا يعقل أن الممولين من قريش لم يعرفوا إلا القرض الحسن الذي لا يكون فيه ربا .
وعندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية تحت قدميه الشريفتين لم يفهم أحد أبدا أنه وضع فقط صورة ( إما أن تقضي أو تربي ) وترك ربا القرض قائما غير موضوع . وحين وضع ربا العباس ، لم يكن الموضوع فقط ما كان على صورة " إما أن تقضي أو تربي " والنصوص تشهد لهذا .
فقد روى الطبري عن السدي في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (1) قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف . . الحديث ج 6 ص 33 . كما روى عن السدي في تفسيره قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (2) قال : الذي أسلفتم وأسقط الربا . ج 1 ص 27 . والسلف في اللغة هو القرض .
والعلماء عندما ذكروا صورة " إما أن تقضي وإما أن تربي " على أنها ربا
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(2/231)
الجاهلية كانوا يقصدون حصر ربا الجاهلية في هذه الصورة ، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين : ربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ومثل بصورة " إما أن تقضي أو تربي " ، وأفسد من فهم أن ربا الجاهلية قاصر على صورة " إما أن تقضي أو تربي " نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه لم يكن يرى ربا في غير هذه الصورة ، في حين أن هذا غير صحيح إنه إنما نقل عنه فقط الخلاف في ربا الفضل ، وها أنا أنقل من كتاب السنهوري نفسه : " قال ابن رشد : أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين أنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط ، وإنما صار ابن عباس إلى ذلك ؛ لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا ربا إلا في النسيئة » (1) فأخذ ابن عباس بظاهر الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة .
بل إن بحث الدكتور إبراهيم الناصر نفسه وردت فيه هذه العبارات ( ص 8 ) : وقال الشافعي رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث : " كان ابن عباس لا يرى في دينار بدينارين ولا في درهم بدرهمين يدا بيد بأسا ، ويراه في النسيئة وكذلك عامة أصحابه .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580).
الملاحظة الرابعة :
وردت في البحث هذه التقريرات الانفعالية في المقدمة : " لن تكون هناك قوة إسلامية بدون اقتصاد ، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون بنوك بلا فوائد ، إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادها تشبه القلب بالنسبة لجسم الإنسان ، يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر ( ص 1 ) . وفي الخاتمة : " نستخلص ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة ، بذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو حظر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في
تعزيز وتقوية الاقتصاد الوطني فالعائد سيصبح ثابتا ومضمونا ومثمرا وذلك بسبب تنوع وتوسع المشروعات ، والنتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية " ص 20 .
أحقا أن الدكتور إبراهيم يعيش معنا على هذه الأرض ؟
في المدة الأخيرة العنوان الذي لا نفتقده يوميا في الصحافة والإذاعة الحديث عن دول العالم الثالث ، ومن بينها مع الأسف عدد من البلدان الإسلامية ، وتخبطها في مشكلة الديون للدول والبنوك الأجنبية حيث تعاني العجز عن تسديد فوائد الديون لا عن أقساطها فحسب ، لنترك هذه الصورة ولننتقل لصورة ثانية ، لقد وجدت البنوك الربوية في العالم الإسلامي أو في جزء منه على الأقل منذ أكثر من مائة سنة ، ولم تنجح البلدان الإسلامية في إقامة نظام يصلح أن يكون ندا أو مثيلا لنظام في البلدان المتقدمة إلا في النظام البنكي ، ربما كانت الاختلافات يسيرة بين بنك في الرياض أو في جدة وبنك في جنيف أو لندن ، ولكن هل تحققت النتيجة التي تنبأ بها الدكتور إبراهيم القوة الاقتصادية ، إن الهزائم التي يعاني العالم الإسلامي منها في المجال العسكري والسياسي ليست أكبر من الهزائم في المجال الاقتصادي ، إن المصارف الربوية ونظام الفائدة لم يخلق للعالم الإسلامي إمكانيات تمكنه من اجتياز حاجز التخلف ، وإذا اعتبر معيار التخلف مدى العجز عن الانتفاع بالإمكانيات ( لا أقصد فقط الإمكانيات المالية ، بل ولا الإمكانيات الإيجابية ، بل أقصد أيضا الإمكانيات السلبية ) فإن بلدان العالم الإسلامي مع الأسف ( مقلا ومستكثرا ) عاجزة لا عن العمل بل عن عدم العمل إذ من المعروف ، والمشاهد أن بلدان العالم الإسلامي تتخبط في مشاكل كان يمكن أن تحلها باتخاذ مواقف سلبية ولكنها مخذولة حتى عن ذلك ، بالتأكيد أن نظام الفائدة لم يكسبها قوة اقتصادية ، والبنوك ( لم تسير الدم في عروق حياتها الاقتصادية لتعيش وتزدهر ) .
ولكن ألا يمكن أن يكون الأمر على العكس من ذلك ؟ لقد شرط الله لنصرنا أن ننصره { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (1) ووضع لنا قانونا أصدق من القوانين الرياضية { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } (2) أي : لم تذروا الربا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (3) ولو آمنا حق الإيمان بكلمات الله لكان لنا شأن آخر .
غير أن اليقين أضحى مريضا مرضا باطنا كثير الخفاء
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
الملاحظة الخامسة :
إن النظريات التي سبقت الإشارة إليها في الملاحظة الثالثة قد وجدت بضغط من عوامل الواقع المعاش عند وجودها وذلك ما يلتمس به العذر لأصحابها في الخطأ ، ولكن الظروف تغيرت كثيرا ، وتلك العوامل تجاوزها الزمن فما بال الدكتور إبراهيم يصر على أن يحارب تحت راية من أشباح الماضي ، في الوقت الذي وجدت فيه تلك النظريات وأشباهها لم يكن يوجد على أرض الواقع مصرف واحد يقوم بمختلف الخدمات المصرفية دون أن يحتاج لاستخدام أداة الفائدة .
أما الآن فربما بلغ عدد المصارف اللاربوية خمسين أو يزيد إذا استثنينا الباكستان وإيران ، وبحسب التقرير الذي أصدرته حكومة الباكستان في عام 1985 م فقد تحولت جميع فروع المصارف البالغة سبعة آلاف فرع إلى النظام المصرفي اللاربوي ، وقد اهتمت بهذه الظاهرة دراسات وبحوث كثيرة للخبراء الاقتصاديين والماليين الغربيين لعله يكون مفيدا للدكتور إبراهيم أن نقتبس من أحد النماذج لهذه البحوث ففي عام 1981 م نشر أنجو كارستن الأستاذ في مؤسسة السياسة الاقتصادية في جامعة كييل ( ألمانيا الغربية ) وكان حينذاك يعمل خبيرا في البنك الدولي نشر بحثا عن الإسلام والوساطة المالية ، نشرت ترجمته مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي ( 2 \ 1 ) ، وأورد هنا بعض ما ورد في المقال أو ملخصه .
عدد المقال مبررات وجود المصرف اللاربوي فلم يفته الإيضاح عن المبرر الاقتصادي ، وهو المقولة الاقتصادية المسلمة أن ( معدلات الفائدة تعوق الاستثمار والعمالة ) . ثم تكلم عن مدى نجاح المصارف الإسلامية ( ولم يكن بين يديه في ذلك الوقت إلا معلومات عن حوالي 20 مصرفا ) فقال " تشير البيانات المحدودة التي أتيحت لنا إلى أن المصارف الإسلامية عملت بنجاح لا بأس به في العام الماضي 1980م ، ففي الباكستان أعلنت المصارف التجارية عن حصص الأرباح على حسابات الادخار القائمة على المشاركة ، وعلى الودائع المؤجلة للنصف الأول من عام 1981 م ، وتم دفع معدل سنوي ( 9% ) للأولى ، بينما أغلت الثانية ( 11 . 5 % ) في حين كان عائد الحسابات الربوية المقابلة ( 9 . 5 % ) لستة أشهر - سنة وسجل البنك الإسلامي الأردني ربحا كليا بنسبة ( 8 . 2 % ) لحسابات الاستثمار لعام 1980م في حين أن المصارف التقليدية - أي الربوية - في الأردن دفعت عام 1980م معدلات ما بين 7 . 5 . 7 للحسابات المؤجلة لسنة ، كما أن المودعين لدى بنك البحرين قبضوا عام 1980م معدلات أرباح 9 - 9 . 5 % على حساب الودائع و 5 . 5 % على حسابات الادخار ، بينما كانت معدلات الفائدة للفترة نفسها على المصارف البحرينية الربوية لثلاثة أشهر 7 . 5 - 8 % وعلى الودائع لمدة 6 - 15 شهرا 8 . 5 - 9 . 5 % .
ثم يقول: " إن المعلومات عن مستوى أداء المصارف الإسلامية قليلة في الواقع إلا أنها تشير إلى أن المصارف الإسلامية قادرة على مزاحمة المصارف التقليدية" .(2/232)
ثم يشير في بحث آثار النظام المصرفي الإسلامي على التنمية الاقتصادية والاستقرار إلى أنه " لدى تحليل الانعكاسات الناشئة من تحويل أساس عمليات القطاع المصرفي إلى المشاركة في الربح والخسارة فإن من المنافع المحتملة للتوسع في عمليات المشاركة في ظل بعض الظروف تحصيل معدلات
العائد الحقيقية اللاحقة من آثار التغيرات غير المتوقعة في معدل التضخم ، وزيادة معدل المرونة الواقعي في الظروف التي تكون فيها العوائد الاسمية ( لزجة ) ، وزيادة تدخل الوسطاء الماليين في الأداء المالي للمقترضين وجاذبية الوسائل المالية للمدخرين الذين يشعرون بزواجر دينية حيال الأصول التقليدية ذات الفائدة .
لقد تعمدت كثرة الاقتباس من الأستاذ كارستن وإن كان يتحدث عن مرحلة مبكرة من تاريخ المصارف الإسلامية ، وهي مرحلة تجارب وخطوات أولى ؛ لكي يقارن الدكتور إبراهيم بين طريقة تفكيره وطريقة تفكير الأستاذ كارستن ، بين التفكير المستشرف للمستقبل لرجل غير مسلم ، وطريقة تفكير مسلم يعيش أسير أفكار الماضي .
أرجو أن الدكتور إبراهيم يتابع بالقراءة والاطلاع الكتابات المستجدة في مجال القانون والاقتصاد ، ومع ذلك فسوف أتطفل بأن أذكر له أن مجلة الإداري في عددها الصادر في كانون الثاني لعام 1987م . نشرت على صفحاتها 35 - 51 بيانات إحصائية عن أكبر مائة مصرف إسلاميا في إحدى دول مجلس التعاون حصل على المركز الأول بين البنوك المحلية في تلك الدولة في مردود الأسهم وواردات الأصول ، وفي مجال المصرف الأكثر فعالية أما عند مقارنته بكل بنوك المملكة فإنه يتقدمها في كل هذه المجالات بمراحل ، ولعل مما يثير دهشة الدكتور إبراهيم أن يعرف أن هذا المصرف مشهور بتشدده ومحافظته وحرصه على التقيد بالقيود التي يتسامح فيها غيره ، وقد حقق هذا الإنجاز بدون استخدام أداة الفائدة .
الملاحظة السادسة :
قرأت مرة في إحدى صحفنا أن مائة وستين ألف شخص تقدموا للمساهمة عندما طرحت أسهم أحد البنوك الربوية للاكتتاب العام في حين
قدرت عدد المواطنين السعوديين الراغبين في الاستثمار والقادرين عليه والذين علموا عن طرح الأسهم في الاكتتاب ثم نسبت لهم عدد المتقدمين ، فعلا أصابني فزع شديد وخشيت أن يكون لذلك دلالة على مدى ما وصلت إليه منزلة الدين في مجتمعنا إلى درجة أن تستهل هذه النسبة الكبيرة من المواطنين اقتحام خطر الربا ، وأن ينضموا بسهولة إلى الجانب الذي أذن الله بالحرب ، غير أني رجعت إلى نفسي وقلت لعل من هؤلاء كثيرا لا يهون عليهم ارتكاب معصية أقل خطرا . وإذن ما تفسير هذه الظاهرة ؟
وأجبت لعل تفسيرها أن هؤلاء قد تقحموا الخطر تحت تأثير الاتجاه العام دون أن يكون لذلك دلالته على هوان أمر الإسلام في قلوبهم ، ولو صح هذا التفسير فلا شك أن كثيرا من هؤلاء - والنذر والمواعظ تقرعهم كلما سمعوا خطبة أو قرأوا القرآن - يعانون من الصراع النفسي ، ولذلك فإني أخشى أن يكون البحث مصدر فتنة لمثل هؤلاء ، إن العوام - وأقصد بالعوام هنا غير المختصين في الفقه أو القانون - لا سيما مع الرغبة الشديدة في التخلص من الصراع النفسي والميل الجارف لتطمين الضمير لن يكونوا في حالة ذهنية ونفسية قادرة على تقييم البحث ، إنهم ليسوا في وضع يمكنهم من التمييز بين الحقائق والأوهام بين الحجج الصورية والحجج الصحيحة بين الشبه والأدلة ، ولذلك فإن البحث سيؤدي دورا لم يقصده كاتبه فهو الإضلال بغير علم ، وإني بصدق أخشى على الكاتب من مقتضى الآية الكريمة : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (1) ، عافانا الله وإياكم ، ولا أجد للأخ المكرم - والنصيحة له فرض - لا أجد له مخرجا إلا بمحو هذه الآثار ، فرحمة الله وسعت كل شيء وهي مكتوبة للمتقين .
__________
(1) سورة النحل الآية 25
الملاحظة السابعة :
أقدم الأخ المكرم على أمر منكر حينما أقدم على التعرض لكلام الله بتفسيره بجهل ، والصفحة الأولى والثانية أبلغ شاهد على ذلك ، ولا أدري أين
عزب فهمه عندما أقدم على تفسير { لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (1) في صفحة ( 14 ) فجاء بتفسير كان ينبغي أن يثير الضحك والسخرية لولا أنه يتعرض لكلام الله ، فحقه أن يثير الغضب ، هدى الله الأخ الكريم وأنقذه من وعيد من قال في القرآن برأيه أو بغير ما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار .
وقال الله تعالى : { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (2) فقرن القول على الله بغير علم بالشرك به أعاذنا الله وإياكم .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الأعراف الآية 33
الملاحظة الثامنة :
إن من العبث حقا تتبع شبه البحث وحججه الوهمية ، وتسويد الورق بمناقشتها واحدة واحدة ، ولكن إذا كان الأخ المكرم الدكتور إبراهيم لا يزال جاهلا أن ربا النسيئة من الأمور الغامضة ولا من الأمور التي ليس للاجتهاد فيها مجال ، وأن إجماع الأمة على تحريمه تحريم مقاصد لا وسائل من الأمور غير الخفية ، فضلا عن النصوص القاطعة الثبوت القاطعة الدلالة فلعله يفيده أن يعرف - وهو حديث عهد بالعمل في مؤسسة النقد - أن الجهاز الذي يعمل فيه كان حريصا على المصلحة العامة وازدهار الاقتصاد ومدركا لأسباب رقيه ، ومع ذلك فبجهد المحافظ السابق للمؤسسة ومساندة ومتابعة المحافظ الحالي قامت المؤسسة بعمل دؤوب وجهد متواصل وبذل مشكور حتى أثمر ذلك مشروعا متكاملا لقيام مؤسسة مصرفية إسلامية لا تستخدم الفائدة ، وقامت وزارة التجارة ثم مجلس الوزراء بدورهما المشكور في هذا السبيل والآن يوشك أن يخرج هذا المشروع إلى النور { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } (1) { بِنَصْرِ اللَّهِ } (2)
لعل من المناسب أن يضاف إلى الملاحظة السابقة هذه الملاحظة :
أن نظام مؤسسة النقد العربي السعودي ( وهي البنك المركزي
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سورة الروم الآية 5
للمملكة ) ينص في المادة الثانية منه على أنه " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة " ، وينص في المادة السادسة منه على أنه " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء ، فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال " .
ومع صراحة هذه النصوص فإما أن يكون الدكتور إبراهيم الناصر لم يطلع على نظام المؤسسة وهذا هو الأحرى ، وإن كان غريبا أن لا يطلع المستشار القانوني للمؤسسة على نظامها ، أو يرى أن المؤسسة قائمة على قواعد تخالف المنطق السليم ، وتخالف التفسير الصحيح للشريعة إذ يقرر نظامها أن دفع وقبض الفوائد يعارض الشريعة في حين يرى هو أن دفع وقبض الفوائد يوافق الشريعة ، وأنه لا اقتصاد سليم بدون بنوك تبني عملياته على الإقراض والاقتراض بالفائدة .
صالح بن عبد الرحمن الحصين
==================
التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها لغرض الحصول على الربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 23 / ص 397)
التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها
لغرض الحصول على الربا
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، أما بعد : -(2/233)
فقد اطلعت على إعلان باللغة الإنجليزية كان قد نشر في جريدة الرياض الصادرة في يوم الأربعاء الموافق 14 \ 10 \ 1407هـ . وقد تضمن الدعاية لإيداع الأموال في البنك الفدرالي للشرق الأوسط الكائن في دولة قبرص ؛ للحصول على نسبة أعلى من الفوائد الربوية من البنك المذكور .
ولا يخفى على كل مسلم بصير بدينه أن التعامل بالربا وأكله منكر ومن كبائر الذنوب ، كما قال الله عز وجل :
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (2) .
وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء » (3) . والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا ، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك التوبة إلى الله سبحانه منه ، وترك المعاملة به مستقبلا وعدم الانصياع لمثل هذه الدعايات الباطلة طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك عاجلا وآجلا ، وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله ، عملا بقوله سبحانه وتعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (4) .
وقوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } (5) . الآية .
وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب ، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) صحيح البخاري اللباس (5617),سنن أبو داود البيوع (3483),مسند أحمد بن حنبل (4/308).
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة التحريم الآية 8
حديث شريف
عن عقبة بن عامر قال : « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : إني بين أيديكم فرط ، وأنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض وإني لناظر إليه من مقامي هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها . قال : فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم » (1)
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (3816),صحيح مسلم الفضائل (2296),سنن النسائي الجنائز (1954),سنن أبو داود الجنائز (3223),مسند أحمد بن حنبل (4/149).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1)
( سورة التوبة ، الآية 60 )
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر
===============
تعليق عن التفريق بين الفائدة البنكية والربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 31 / ص 123)
الشيخ \ صالح بن عبد الرحمن الحصين
من المعروف أن الربا مكروه من قديم الزمان وفي مختلف العصور ، ولكن ربما كان أقدم نص مكتوب في تحريم الربا الفاحش في العصر الفرعوني هو قانون الفرعون بوخوريس من الأسرة الرابعة والعشرين ، وحرمت التشريعات الموسوية والمسيحية الربا بمختلف أشكاله ومهما كان قدره ، إلا أن اليهود بعد موسى أجازوا الربا مع غير اليهود على أساس أن مال غير اليهود حلال لليهود : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } (1) وقد عاب الله في القرآن الكريم اليهود بذلك فقال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (2) { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } (3) والربا الذي كانت تأخذه اليهود كما هو معروف هو الزيادة التي يأخذونها على القروض التي يقدمونها لغير اليهود ، فيأخذون زيادة على رأس مال القرض مقابل الأجل ، وقد ظل العالم المسيحي يكره اليهود ويشنع عليهم أخذهم الربا ، ومن آثار ذلك المسرحية المشهورة لشكسبير ( تاجر البندقية ) عن المرابي اليهودي ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة النساء الآية 160
(3) سورة النساء الآية 161
وقد ظل اليهود يتألمون من هذه المسرحية ويكافحون ضد ظهورها ، ولولا أن القيمة الأدبية لها قد حمتها لكانت قد اختفت من الآثار الثقافية .
وقد ظلت القوانين في البلاد المسيحية تحرم الربا ، فلما جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789 م أباحت الفائدة على القروض في حدود معينة وانتقلت هذه الإباحة إلى تقنين نابليون الصادر عام 1804 م والنافذ حتى الآن في فرنسا ، ثم صدر في فرنسا عام 1808 م قانون يحدد السعر القانوني للفائدة بـ 5 % في المسائل المدنية و 6 % في المسائل التجارية ، وفي 5 أغسطس عام 1935 م صدر قانون يجعل من يتقاضى فوائد زائدة عن حدود معينة مرتكبا جريمة الربا ، وبالمثل اعتبرت المادة 644 من القانون الجنائي الإيطالي الجديد من يتقاضى فوائد زائدة عن حدود معينة مرتكبا جريمة الربا .
وهكذا نرى أن الضمير الإنساني لم يستطع حتى الآن أن يتخلص من كراهيته للربا واعتباره جريمة وعملا غير أخلاقي ، وإن تسامح في حدود معينة ونسب محددة للفائدة يتحكم واضع القانون في تقييمها بين وقت وآخر .(2/234)
أما الإسلام فقد جاء بنصوص قاطعة الدلالة ، قاطعة الثبوت على تحريم ربا النسيئة ( أو أخذ زيادة في القرض عن رأس المال مقابل الأجل ) ووردت بذلك آيات سورة البقرة التي قررت أن الدائن لا يجوز له أن يأخذ زيادة عن رأس ماله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) أي لا تظلمون المدين يأخذ زيادة عن رأس المال ، كما وردت بذلك الأحاديث الصريحة المتواترة تواترا معنويا ، ثم أجمعت على ذلك الأمة ، وقد وجد النزاع بين العلماء قديما وحديثا في صور عديدة من التعامل هل تدخل في الربا ، ولكن طوال القرون الماضية لم يوجد نزاع ( بل لم ينقل ) حول ربا النسيئة ، فالأمة متفقة على تحريمه بكل صوره سواء كان قليلا أم كثيرا .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
وقد حدث أن وقعت البلاد الإسلامية ( عدا المملكة العربية السعودية واليمن ) تحت الاستعمار الأوروبي فنقل إليها النظام البنكي المعتمد على الفائدة الربوية وأنتج ذلك نتيجتين :
النتيجة الأولى : شل التعامل الاقتصادي المتحرر من الربا ، وتقليد البلدان الإسلامية الدول الغربية العلمانية في تقنين التفريق بين قليل الربا وكثيره ، فسمحت التقنينات المدنية العربية مثلا بتقاضي فوائد يحددها القانون وحرمت الزيادة عليها ، كما حرمت الفوائد المركبة ( الفوائد على متجمد الفوائد ) بعد أن سمحت بالفوائد البسيطة فنصت المادة ( 236 ) من التقنين المدني المصري الجديد على تحديد سعر الفوائد بـ 4% في المسائل المدنية و 5% في المسائل التجارية ، كما نصت المادة ( 237 ) منه على أنه ( يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفوائد على ألا يزيد هذا السعر عن 7% ، فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا السعر وجب تخفيضها إلى 7% ويمكن رد ما دفع زائدا على هذا القدر ، وكل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة وتكون قابلة للتخفيض ) ونصت المادة ( 233 ) منه على أنه ( لا يجوز تقاضى فوائد على متجمد الفوائد ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال ) ، والحال الأخيرة يقصد بها تراكم الفوائد لسنوات كثيرة تبلغ بها رأس المال . وتتضمن التقنينات المدنية العربية الأخرى السوري والليبي والعراقي نصوصا مماثلة عدا تحديد نسبة الفائدة . ويقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري - وهو الذي وضع أصول القوانين الأربعة المشار إليها في شرحه لهذه المواد : ( ويتكفل القانون بتحديد مقدار الفوائد والسبب في ذلك كراهية تقليدية للربا لا في مصر فحسب ، ولا في البلاد الإسلامية وحدها ، بل في أكثر تشريعات العالم ، فالربا مكروه في كل البلاد وفي جميع العصور ومن ثم لجأ المشرع إلى تحديده للتخفف من رزاياه وهذا هو المبرر القوي الذي حمل القانون في هذه الحالة على التدخل - ثم يقول - وسنرى فيما يلي كيف كره المشرع المصري الربا
فحدد لفوائد رءوس الأموال سعرا قانونيا وسعرا اتفاقيا ، وتشدد في مبدأ سريان هذه الفوائد ، وأجاز استرداد ما يدفع زائدا على السعر المقرر ، وأعفى المدين في حالات معينة من دفع الفوائد حتى في الحدود التي قررها منع تقاضي فوائد على متجمد الفوائد ، في هذه وغيرها آيات على كراهية المشرع ( المصري ) للربا وعلى الرغبة في التضييق منه حتى لا يستفحل فيرهق المدين وقد يؤذيه بالإفلاس والخراب ، ثم يقول : " وقد زاد التقنين الجديد على التقنين القديم في كراهية الربا ( ثم يذكر أمثلة ) " (1) .
__________
(1) الوسيط ، جـ 1 ، ص 883 .
النتيجة الثانية : لما كانت البنوك التي وجدت في العالم الإسلامي تحت ظل المستعمر في الأغلبية الساحقة بنوكا أجنبية ، وكانت أداة فعالة لاستغلال أموال المواطنين تحت نير الاستعمار ، وكانت المشكلة الكبرى للمسلم كيف يوفق بين قلبه الذي يمنعه من الربا ، خوفا من الله ، وتفكيره الذي يمنعه من ترك الفوائد الربوية عن إيداعاته لعدوه المستعمر الكافر ، وكان هذا الأمر يشكل أعظم أزمة فكرية يواجهها العالم المفتي كما تصور ذلك أبلغ تصوير الفتاوى التي نقلت عن الشيخ محمد رشيد رضا .
ومن ناحية أخرى فإن البنوك الربوية الاستعمارية وقد شلت التعامل الاقتصادي المتحرر من الربا ، وصارت هي المسيطرة على التعامل الاقتصادي في البلاد الإسلامية كما هي المسيطرة في غيره من العالم ، قد شككت بعض المثقفين المسلمين في إمكانية الخروج عن سيطرة التعامل البنكي الربوي ، وأصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن لا بديل للاقتصاد الاشتراكي إلا الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربا .
وحينما عقد أسبوع الفقة الإسلامي في باريس عام 1953م حضره مجموعة كبيرة من القانونيين الغربيين ، كما حضره من المسلمين الدكتور معروف الدواليبي ، والشيخ محمد عبد الله دراز . وتبعا لطريقة الدكتور معروف الدواليبي في التفكير وشغفه بالحلول السياسية حتى بالنسبة للمشاكل الفقهية ، ونظرا لعاطفته الإسلامية القوية ورغبته في أن يجمل وجه الفقه الإسلامي أمام علماء
القانون الغربيين وأن يقنعهم بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، وأنه لا يعارض المصالح الواقعية ، فقد عرض نظرية غريبة مفادها أن الإسلام لا يحرم ربا النسيئة في كل صوره ، وإنما يحرم هذا الربا في مجال قروض الاستهلاك ، أما مجال قروض الإنتاج والاستثمار فلا يحرم فيها ربا النسيئة ويجوز فيها تقاضي الفوائد عن القروض ، ولحسن الحظ فقد كان طرح الشيخ محمد عبد الله دراز في تلك الندوة معاكسا تماما لطرح الدكتور الدواليبي ، إذ أوضح أن الإسلام يحرم ربا النسيئة بمختلف صوره دون تفريق بين مجال قروض الاستهلاك والاستثمار ، وأنه من المستحيل إثبات وجود مثل هذا التفريق ، وكان حضور الشيخ دراز - رحمه الله - وطرحه توفيقا من الله ، إذ لو استقر في أذهان أعضاء الندوة أن فكرة الدكتور الدواليبي تمثل حقا الفقه الإسلامي لانتهوا إلى عكس الهدف الذي توخاه الدكتور الدواليبي ، إذ سوف يعتبرون الفقه الإسلامي يمكن أن يكون له مجال في عالم الأخلاق والمثل ولكن لا يمكن أن يكون له مجال في عالم الواقع والتشريع ، إذ أن التمييز بين مجال القروض الاستهلاكية ومجال القروض الاستثمارية إن أمكن في بعض الصور فهو غير ممكن في غالب الصور ، كما أوضح ذلك الدكتور السنهوري في تعليقه على هذه الفكرة في كتابه المشهور مصادر الحق ، يوضح هذا أن التفريق بين قروض الاستثمار وقروض الاستهلاك يعتمد في أغلب الصور على محض النية الباطنة للمتعاملين والتي لا تتخذ بالضرورة مظهرا يمكن الحكم عليه ، ومحض النية يصلح معيارا للنظام الأخلاقي ولكنه لا يصلح معيارا للنظام التشريعي إلا إذا تشكل في مظهر يمكن أن يكون محلا للحكم .
وعلى كل حال ومع أن الإنسان عندما يخترع فكرة فإنها عادة تسيطر عليه ولا يستطيع أن يتخلص من أسرها ، إلا أنا مع ذلك لا نظن أن الدكتور الدواليبي يصر حتى الآن على فكرته - تلك - لاسيما بعد أن وضح له لا من قبل علماء الشرع بل من قبل علماء القانون أن فكرته تستند على أساس من الوهم لا من الحقيقة .(2/235)
ما سبق يضع أمامنا صورة لأعظم أزمة فكرية للمثقف المسلم قبل ثلاثين عاما ، وكان العالم الإسلامي ينتظر - للتخلص من هذه الأزمة - روادا عظاما ينظرون لإمكانية الإفلات من أسر النظام البنكي الغربي الربوي ، ويثبتون صلاحية الأدوات الفقهية الإسلامية كبديل كفء . وينتظر مؤسسات تطبق هذا التنظيم وتثبته واقعا ملموسا ، وقد تم هذا ولله وحده الحمد والشكر .
أما الفضل - بعد الله - فيرجع لحكومة المملكة العربية السعودية في فتح الآفاق المباركة ، فبفضل إيمانها وشجاعتها حرصت عندما أصدرت نظام بنكها المركزي ( مؤسسة النقد العربي السعودي ) في عام 1377 هـ على أن تضمن المادة الثانية منه النص على أنه ( لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة وإنما يجوز لها فقط فرض رسوم لقاء الخدمات التي تؤديها للجمهور أو للحكومة وذلك لسد نفقات المؤسسة ) ونصت المادة السادسة على أنه : " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي القيام بأي عمل من الأعمال الآتية :
( 1 ) مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال .
وهكذا رفعت المملكة الراية للمسيرة المباركة ، وأعلنت بوضوح أن العمل على التحرر من النظام البنكي الربوي ليس ممكنا فحسب ، بل هو واجب . ثم أتيح لها في فرصة أخرى أن تعزز هذه الريادة فعند صياغة نظام البنك الإسلامي للتنمية وضعت كل ثقلها في جانب تضمن نظام البنك نصوصا تقضي بأنه لا يجوز للبنك أن يتقاضى فوائد عن قروضه ، وأن تتم معاملاته كلها وفق القواعد الشرعية .
وقد توالت الثمار ، فمن ناحية التنظير وجدت أعمال فكرية تنتهج الموضوعية والأسلوب العلمي تشرح الحلول الفقهية الإسلامية وتثبت كفاءتها لأن يعتمد عليها اقتصاد نام وسليم .
ومن بين الأعمال الكثيرة نقدم هنا مثالين :
( 1 ) لاحظ الأستاذ \ سامي حسن حمود الذي تدرج في وظائف البنك الأهلي الأردني حتى وصل إلى رتبة نائب مدير البنك ، أن كثيرا من عملاء البنك يمتنعون تورعا من تقاضي فوائد على إيداعاتهم ، وقد عرف أن سبب ذلك هو تحريم الإسلام لتقاضي الفوائد الربوية ، وقد لفت هذا نظره إلى البحث في الفقه الإسلامي فاكتشف أن هذا الفقه زاخر بإمكانيات البدائل عن النظام الربوي ، وعند تقدمه للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة كان موضوع أطروحته ( تطوير المعاملات المصرفية بما يوافق الشريعة الإسلامية ) . ويعتبر هذا الكتاب - وقد صدر قبل حوالي خمسة عشر عاما - من أفضل الكتب في موضوعه ، ويمتاز بالتزامه بالمنهج التزاما دقيقا ، وقد هيئ للدكتور سامي حمود فيما بعد أن يشرف على تطبيق أفكاره في هذه الأطروحة عند تأسيس البنك الأردني الإسلامي وقيامه بإدارته .
( 2 ) تولى الأستاذ الدكتور عمر شابرا منصب الخبير الاقتصادي لمؤسسة النقد العربي السعودي لمدة طويلة كادت تبلغ ربع قرن ، وقد كان درس الاقتصاد على المنهج الغربي ، ولكن عند التحاقه بالعمل في المؤسسة كان من الطبيعي أن تلفت انتباهه نصوص نظام المؤسسة المشار إليها آنفا والتي تحرم على المؤسسة دفع أو اقتضاء الفوائد وتوجب أن تكون معاملاتها موافقة للقواعد الشرعية ، وكان من الطبيعي أن يتوجه اهتمامه إلى البحث في الأساليب الاقتصادية الإسلامية ، وأن يكتشف نتيجة للبحث الطويل العميق امتياز الأساليب الإسلامية وصلاحيتها الكاملة لإقامة نظام اقتصادي قوي وسليم ، وكانت الثمرة المباركة لهذه الجهود صدور كتابه المعنون towards a gust monetary system وقد صدر في إنجلترا قبل حوالي ثلاث سنوات ، إن الكتاب يتضمن دراسة علمية لعدد من الوسائل الاقتصادية الشرعية وأثبت بوضوح ودقة امتياز هذه الوسائل وكفايتها
لأن يستند عليها نظام اقتصادي سليم ، ولا يعنينا في هذا المجال هذا وإنما سنهتم بنتيجة الموازنة العلمية الدقيقة بين الوسائل الشرعية ، والوسائل الربوية التي تضمنها الفصل الخامس ، فبالاستناد إلى الاكتشافات والأفكار الاقتصادية الحديثة وبالرجوع إلى أساطين الاقتصاد الغربي المعاصرين وإلى الإحصاءات وتقارير الخبراء أثبت عجز الوسائل الربوية ( أو نظام الفائدة ) كأساس يعتمد عليه في البناء الاقتصادي السليم وذلك على النحو الذي نلخصه فيما يلي ، ( وإن كان هذا التلخيص تلخيصا مبتسرا قد لا يقدم الصورة بالوضوح والقوة الذي جاءت به في الكتاب ) .
ما مدى كفاءة نظام الفائدة كأساس للاقتصاد ؟ إنه من حيث إن المعروف أن الاقتصاد القوي السليم يجب أن يتوافر له من ضمن ما يتوافر شروط أربعة ، هي :
( أ ) القدرة على التخصيص الأمثل للموارد .
( ب ) المناخ الاستثماري الإيجابي الذي يشجع على الادخار والتكوين الرأسمالي .
( جـ ) الاستقرار .
( د ) قابلية النمو الاقتصادي ، فقد أوضح الكتاب أن نظام الفائدة الربوي عاجز عن توفير هذه الشروط وذلك على النحو التالي :
أ - فمن ناحية التخصيص الأجدى للموارد ، يلاحظ أن للفائدة وظيفة رئيسية مفترضة هي أنها وسيلة لتخصيص الأموال النادرة المقدمة من المدخرين إلى المستثمرين بطريقة موضوعية على أساس القدرة على دفع الثمن ، وإذا تغير الطلب على الأموال القابلة للإقراض أو تغير عرضها تم عند معدل فائدة مختلف التوصل إلى توازن جديد ، إن هذه المقولة مبنية على افتراض أن المعدل النقدي للفائدة يعتبر أداة ناجحة لتخصيص الموارد بطريقة مثالية . ولكن هذا الافتراض غير صحيح إذ يوجد في الواقع دليل مقنع على العكس ، وقد تجمعت لدى إنزلو وكونراد وجونسن أدلة تثبت أن رأس المال الحالي قد أسيء تخصيصه - ربما إلى حد خطير - بين قطاعات الاقتصاد . إن افتراض باريتو في تخصيص
الموارد لا يوجد إلا في عالم الأحلام عالم نموج التوازن التنافسي الكامل .
إن معدل الفائدة التوازني لا يوجد إلا في الكتب المدرسية فقط ، أما في الواقع فلا يوجد معدل مقاصة سوقية فعالة ، بل هناك مزج نظري من معدلات قصيرة الأجل وطويلة الأجل مع فروق واختلافات هائلة في مستوياتها ولا يوجد مفهوم واضح لكيفية توحيد هذه المعدلات المتعددة في معيار واحد ، إن معدل الفائدة في الحقيقة والواقع تعبير عن المفاضلة لا لصالح المقترض الأجدى إنتاجا بل لصالح الأكثر غنى ؛ لأن المعيار في الواقع هو الجدارة الائتمانية فكلما كانت الجدارة الائتمانية لشخص أكبر كان معدل الفائدة الذي يدفعه أقل ، والعكس بالعكس ، وبذلك تحصل المنشأة الكبيرة ( بغض النظر عن مدى حاجتها للتمويل ومدى درجتها في الجدوى الإنتاجية ) تحصل على أموال أكثر بسعر فائدة أقل وذلك فقط بسبب ارتفاع درجة تصنيفها الائتماني ، بمعنى آخر فإن المنشأة الكبيرة التي هي أقدر على تحمل عبء الفائدة تحمل عبئا أقل ، وعلى العكس فإن المنشأة المتوسطة أو الصغيرة التي قد تكون ذات إنتاجية أعظم بمقياس المساهمة في الناتج الوطني تحصل على مبالغ أقل بكثير نسبيا وبأسعار فائدة أعلى بكثير ، وهذا يعني أن الكثير من الاستثمارات الأجدى إنتاجية بالقوة لا توجد بالفعل بسبب عدم قدرتها التنافسية في الحصول على القروض التي تنساب إلى مشاريع أقل جدوى إنتاجية ، ولكنها متقدمة في سلم التصنيف الائتماني .(2/236)
وبهذا يتضح أن معيار الفائدة ليس معيارا موضوعيا للجدوى الإنتاجية للمنشأة ، وإنما معيار متحيز من معايير التصنيف الائتماني ، وهذا هو أحد الأسباب في النظام الرأسمالي للنمو السرطاني للمنشآت الكبيرة واختناق المنشآت المتوسطة والصغيرة ، ويقع هذا بصفة خاصة في حالة ارتفاع معدل الفائدة ، إن زيادة تدفق الائتمان إلى الأغنياء - في النظام الربوي صار حقيقة معترفا بها على نطاق واسع . يقول جالبريت على سبيل المثال : " إن المنشأة الكبيرة عندما تقترض تحظى بصفة العميل المفضل لدى المصارف وشركات التأمين " ويقول :
" إن أولئك الأقل حاجة إلى الاقتراض هم المفضلون ، وأولئك الأكثر حاجة إلى الاقتراض هم الأقل حظا في نظام المنافسة السوقية " .
ب - وبالنسبة لأثر الفائدة على الادخار والتكوين الرأسمالي ، فيجب أن نلاحظ أولا أنه لخلق مناخ استثماري إيجابي نشط لا بد من المحافظة الدائمة على العدالة والتوازن بين المدخرين والمستثمرين ، ثم نشير إلى أنه بسبب المعدل الاجتماعي للتفضيل الزمني فقد يعتقد بأن للفائدة دائما دورا إيجابيا مطردا على الادخار والتكوين الرأسمالي ، غير أنه بدراسة الواقع فإن الدلائل الإحصائية لا تشير إلى وجود ترابط كبير بين الفائدة والادخار في البلاد الصناعية ، أما في البلدان النامية فإن أغلب الدراسات توضح أنه لا تأثير لمعدل الفائدة على الادخار على الإطلاق ، وحتى من الناحية النظرية فإن عددا من الاقتصاديين يرفض افتراض بوم باورك التفضيل الزمني الإيجابي حتى أن جراف شكك بأن له وجودا فعليا بالمرة ، على أن آراء آخرين تقول بأن التفضيل الزمني لدى المستهلك الرشيد قد يكون موجبا أو صفرا أو سالبا وقد لاحظ ساملسون " أن الأدلة تهدي إلى أن بعض الناس يقل ادخارهم بدلا أن يزيد عند ارتفاع معدل الفائدة ، وأن البعض يزيد ادخارهم في تلك الحالة وأن الكثير لا يتأثر ميلهم للادخار في حالة الارتفاع أو الانخفاض " .
من الطبيعي أن يعاني المدخرون إذا كانت الفائدة منخفضة وأن يعاني المستثمرون إذا كانت مرتفعة ، وأن الظلم الواقع في توزيع المردود بين المدخر والمستثمر بسبب معدلات الفائدة المتغيرة أو الثابتة يؤدي إلى تشويه جهاز الثمن وإلى سوء تخصيص الموارد ومن ثم إلى تباطؤ التكوين الرأسمالي .
لقد كان ارتفاع معدل الفائدة مانعا كبيرا من الاستثمار في النظام الرأسمالي ، ولما كانت تكاليف الفائدة تقتطع من الأرباح فقد أنتج هذا تآكل ربحية الشركات ، هو ما اعتبر في تقرير مصرف التسويات الدولية ( عاملا كبير الأهمية في إضعاف الحجم الكلي للاستثمار ) وقد أدت معدلات التكوين الرأسمالي المنخفضة في الولايات المتحدة ، إلى إيجاد دور وتسلسل حيث إن هبوط
الإنتاجية أدى إلى تقليل القدرة على تعويض التكلفة المرتفعة للقرض ، وهذا أدى إلى هبوط في الربحية وهبوط أكثر في معدل التكوين الرأسمالي ، فزاد اعتماد المنشآت على الديون التي إنما تحصل عليها بمعدل مرتفع للفائدة .
وبالمقابل فإن معدلات الفائدة المنخفضة لا تقل ضررا عن المرتفعة ، ففي حين أن المرتفعة تضر المستثمرين فإن المنخفضة تضر المدخرين ، وقد شجعت معدلات الفائدة المنخفضة على الاقتراض من أجل الاستهلاك فزادت بذلك الضغوط التضخمية كما شجعت الاستثمارات غير الإنتاجية ، وزادت من حدة المضاربة في أسواق السلع والأوراق المالية ، وبالجملة فقد أنتجت خفض المعدلات الإجمالية للادخار ، وتدني نوعية الاستثمارات . وأحدثت قصورا في التكوين الرأسمالي .
جـ - وبالنسبة لأثر الفائدة على الاستقرار الاقتصادي فإن من المؤكد أن الفائدة من أهم العوامل المخلة بالاستقرار في الاقتصاد الرأسمالي ، لذا لم يكن غريبا أن يجيب في عام 1982 ميلتون فردمان عن السؤال عن أسباب السلوك الطائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي بأن ( الإجابة البديهية هي السلوك الطائش الموازي في معدلات الفائدة ) .
إن التقلبات الطائشة في معدل الفائدة تحدث تحولات لولبية في الموارد المالية بين المستفيدين منها ، إن زيادة تقلب معدل الفائدة تحقن السوق المالي بكثير من الشكوك ، وهذا من شأنه تحويل المقرضين والمقترضين على السواء من الأجل الطويل إلى الأجل القصير في سوق المال ، واستمرار التقلب في نصيب الفائدة في مجموع عائد رأس المستثمر يجعل من الصعب اتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأجل بثقة ، ومن ناحية أخرى فإن الثابت أنه في ظل نظام تعويم المعدل في سوق قصيرة الأجل أنه كلما ارتفع معدل الفائدة ارتفع معدل الإفلاس التجاري للمنشآت ، وذلك بسبب الهبوط المفاجئ في نصيب المنشأة من مجموع العائد على رأس المال لا بسبب عدم كفاءة المنشأة ، ونحن نعرف أن الإفلاسات التجارية لا تقتصر فقط على الخسارة الشخصية لمالكي المنشأة
بل تستتبع الانخفاض في العمالة والناتج والاستثمار والطاقة الإنتاجية وهي خسائر يصعب وتطول فترة تعويضها وبديهي أن لكل هذه العوامل آثارا خطيرة على الاستقرار الاقتصادي .
لسنا في حاجة إلى إيضاح أثر تقلب معدلات الفائدة على القلق في الأسواق المالية والسلع ، ولما كانت هذه الأسواق للاقتصاد الرأسمالي بمثابة مقياس الضغط الجوي فإن التقلبات التي تحدثها الفائدة على هذه الأسواق تعكس تأثيرا موجبا للاضطراب على الاقتصاد بجملته .
وأخيرا فبالنسبة لتأثير الفائدة على إجراءات السياسة النقدية فإن البنك المركزي في إمكانه إما أن يراقب معدلات الفائدة أو يراقب رصيد النقود ، فإذا ما حاول تثبيت معدل الفائدة فقد السيطرة على عرض النقود ، وإذا ما حاول تحقيق نمو معين في عرض النقود تقلبت معدلات الفائدة وبخاصة القروض القصيرة الأجل .
وقد دلت التجربة على أنه من المستحيل تنظيم كلا العنصرين بطريقة متوازنة يمكن معها السيطرة على التضخم دون إضرار بالاستثمار ، ونستشهد بهذه العبارة المتحفظة في تقرير التسويات الدولية لعام 1982 " إن التقلب الشديد في معدلات الفائدة يمكن أن يسهم في التقلبات الحادة في النشاط الاقتصادي كما قد يؤدي إلى مشكلات هيكلية سواء في الاقتصاد أو في النظام المالي " .
د - بالنسبة لتأثير الفائدة على النمو الاقتصادي ، نشير إلى أن الفاعلية الاقتصادية تعاق كثيرا بوجود حالة الشك الذي يصعب معه التوقع للمستقبل ، فلا يملك معه المستثمرون القدرة ولا الجرأة على التخطيط لاستثمارات طويلة الأجل ، وإن الاعتماد في التمويل على القروض الربوية من شأنه أن يوجد مناخا للشك إذ يزداد الخطر الذي يواجه المستثمر ( المنظم ) لأن نصب عينه دائما أن الفائدة الربوية لا بد من دفعها بصرف النظر عن ربحية المشروع ، وتزيد حدة الشك إذا تقلبت معدلات الفائدة تقلبا طائشا ولا سيما إذا تضمن عقد(2/237)
التمويل معدلا عائما للفائدة كما هو المتبع بصفة عامة في الوقت الحاضر . وبصعوبة القيام باستثمارات طويلة الأجل فإن الاستثمار في النهاية يعاني من هبوط الإنتاجية ، وانخفاض معدل النمو ، ومن المعروف أنه عندما ارتفعت معدلات الفائدة في السبعينات هبطت نسبة إجمالي الاستثمار الثابت المحلي إلى إجمالي الناتج الوطني في البلدان الغربية ، كما انخفض النمو الدولي انخفاضا كبيرا في كل مكان عما كان عليه في العقود التي أعقبت الحرب العالمية مباشرة ، ومن المعترف به أن الأداء الاستثماري الأفضل هو مفتاح النمو الأسرع ، ومع الأسف فإن خفض معدل الفائدة ليس علاجا ناجحا لهذه الحالة لأن ذلك لا يزيل حالة الشك في المستقبل ، لا سيما إذا أخذ في الاعتبار العجز المرتفع المتكرر في موازنات بعض الدول الصناعية الرئيسية .
إن ما تقدم يمكن أن يعتبر اختصارا مخلا لما ورد في الكتاب ، ولكن لعله يكون كافيا لإقناع القارئ بهذه الفرضية : إننا ننساق مع الوهم إلى حد كبير حينما نظن أن تبني الاقتصاد الرأسمالي نظام ( الفائدة الربوية ) هو سبب ازدهار هذا الاقتصاد وقوته ، بل الصحيح القول : إن لازدهار الاقتصاد الرأسمالي أسبابا متعددة ساهمت في هذا الازدهار بالرغم من ( نظام الفائدة الربوية ) .
والحقيقة الواضحة أنه إذا كان لنظام الفائدة في كثير من الأحوال تأثير سلبي على الاقتصاد - كما شرح - وذلك في البلدان التي تتقبل اتجاهاتها الأخلاقية هذا النظام ، فما ظنك بأثر هذا النظام على الاقتصاد في بلاد استقر في ضمائرها واتجاهها الخلقي كراهيته إلى درجة أن تعتقد أنها بقبوله تأذن بالحرب على الله ، وتعتقد أن نتيجته على سلوكها الاقتصادي المحق والدمار .
وهذه الحقيقة توجب الإشارة إلى حقيقة أخرى هي :
أنه لا بد لنجاح نظام اقتصادي في بلد ما أن يتناسق ويتناغم مع النظام الخلقي والقيم الثقافية التي تسود في ذلك البلد ، ومن المستحيل أن يزدهر نظام اقتصادي أو أساليب اقتصادية في بلد مع معارضة ذلك النظام أو تلك الأساليب
للقيم الخلقية والمعتقدات السائدة ، إن الشرط الأساسي لازدهار الاقتصاد في بلد ما أن يحور لينسجم مع نظام البلد الأخلاقي ، أو أن يحور النظام الأخلاقي لينسجم مع الاقتصاد وبدون ذلك يكون الاقتصاد كشجرة مغروسة في تربة ومناخ غير ملائمين لها .
إن الأفكار النظرية وحدها لم تكن لتقوى على تحرير الفكر ، وزعزعة التصور الذي ساد قبل ثلاثين عاما في أذهان المثقفين المسلمين عن نظام الفائدة الربوية ، لو لم توجد إمكانية لوضع تلك الأفكار النظرية موضع التطبيق ، ولو لم تتح فرصة اختبارها في ظروف الواقع واجتيازها لهذا الاختيار بنجاح . وقد أمكن في خلال السنوات القليلة الماضية وجود حوالي خمسين مؤسسة مصرفية تستخدم الأساليب الإسلامية ، وتحرر معاملاتها من الفائدة الربوية ، وقد حاز بعضها نجاحا كبيرا بمختلف المعايير ، صحيح أن عددا قليلا منها لم يوفق تمام التوفيق بسبب سوء الإدارة ، لنقص الإخلاص أو نقص الكفاءة ، أو بسبب ظروف خارجية . ولكن نجاح مؤسسة من هذه المؤسسات دليل كاف على كفاءة الأساليب المالية التي طبقتها ، إذ لو تخلفت كفاءتها لاستحال نجاح المؤسسة ، وعلى العكس من ذلك فإن فشل بعض هذه المؤسسات لا يدل على عدم كفاءة الأساليب الإسلامية ؛ لأن الفشل له أسباب كثيرة أخرى كما أشرنا ، ويجب أن نتذكر أنه في تجربة المملكة مع المؤسسات المصرفية التي اعتمدت نظام الفائدة الربوي تكررت الإخفاقات ، ولا حاجة للتذكير بأبرزها - وهو انهيار البنك الوطني - لأنه كابوس لا ينسى .
ولم يقتصر الأمر على قيام مؤسسات مصرفية تعتمد الأساليب المالية الإسلامية ، بل إن أكبر دولة إسلامية - بعد أندونسيا - وهي الباكستان أعلنت تقريرها عام 1985 تؤكد أنها حررت فروع بنوكها المحلية البالغة 7000 فرع من نظام الفائدة ، وذلك باستثناء الاتفاقيات السابقة والمعاملات مع الخارج .
تلخيص
لعل القارئ قد تنبه إلى أن ما سبق لم يتضمن آراء تقبل الجدل حولها والحكم عليها بالصحة أو الخطأ ، وإنما تضمن تسجيل وقائع ، ولا سبيل إلى تكذيب هذا التسجيل لأنه كما يلاحظ القارئ مدعوم بالتوثيق وإذا فيمكن للكاتب بكل اطمئنان أن يقول بأن ما تقدم يكشف الحقائق الآتية :
( 1 ) إن الربا ليس مفهوما غامضا وإنما هو معاملة معروفة ، استقر في الضمير الخلقي للإنسان ( منذ أقدم العصور ) كراهيته واعتباره عملا غير أخلاقي .
( 2 ) إن هذا المفهوم ليس شيئا غير ربا النسيئة حيث يدفع الممول المال لطالب التمويل لأجل بشرط أن يرده بزيادة في مقابل الأجل .
( 3 ) الربا بهذا المفهوم حرمته الشرائع السماوية الموسوية والمسيحية والإسلام ، وذلك بمختلف صوره ومهما كان حجمه .
( 4 ) الربا بهذا المفهوم هو الذي ارتكبته اليهود مع الناس من غيرهما ، وذمهم الله به ، وكانوا به موضوعا للكراهية والتعيير والسخرية من قبل الناس : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (1) .
( 5 ) إنه حتى بعد أن انتصرت العلمانية - ممثلة في الثورة الفرنسية - على الكنيسة وقوانينها ، وأباحت الربا فإنها لم تبحه إلا في حدود ضيقة ، وقد سمحت لها بذلك الفكرة العامة التي تعتنقها العلمانية عن نسبية القيمة الخلقية ، ومع ذلك فإنها لم تستطع أن تتحرر تماما من كراهية الربا المغروسة في الضمير الإنساني ، فظلت قوانينها الجنائية تعتبر التعامل بما يزيد على الحد الذي تسمح به نصوص القوانين من الربا جريمة تعاقب بعقوبات الجرائم .
( 6 ) الدكتور السنهوري الذي تولى صياغة النصوص التي تسمح بالفائدة في حدود معينة في القوانين المدنية : المصري والسوري والليبي والعراقي عندما قام بشرح هذه النصوص لم يسمح له احترامه للعقل والمنطق أن
__________
(1) سورة النساء الآية 161
يتجنب تسمية الفائدة باسمها وأن يخفي طبيعتها ، فوصفها بأنها ربا سمح به القانون على سبيل الاستثناء مع بقاء اتجاهه العام في كراهية الربا ، ومحاولة تضييق دائرته ، ولا بد أن يقارن القارئ الواعي هذا الاتجاه للدكتور السنهوري باتجاه بعض إخواننا الطيبين الذين يفزعهم أن تسمى الفائدة باسمها ، ويزعجهم أن يواجهوا بأن الفائدة البنكية هي ربا النسيئة ، إن ربا النسيئة ليس مجالا للرأي والاجتهاد والخلاف وإنما هو محرم بالنصوص القاطعة الثبوت القاطعة الدلالة كما هو محرم بالإجماع ، وأنه إذا كان قد نقل عن بعض الصحابة الخلاف في بعض الأنكحة الفاسدة كنكاح المتعة أو نقل عن بعض الأئمة خلاف في تحريم خمر الشعير أو التفاح ، أو نقل خلاف حول ربا الفضل أو بعض المعاملات الأخرى ؛ فإنه لم ينقل عن أحد طوال ثلاثة عشر قرنا خلاف على تحريم ربا النسيئة ، بل إن الأمة متفقة على أن تحريم ربا النسيئة معلوم من الدين بالضرورة ، يكفر مستحله ، وإنه إذا لم يتب مستحله من المسلمين بعد استتابته فيقتل مرتدا .(2/238)
( 7 ) في الفترة الماضية وبسبب ظروف سياسية وثقافية وغيرها ، سيطرت على المثقف المسلم تصورات مبنية على الأوهام عن نظام الفائدة الربوي ، ولكن التاريخ لا يقف والحياة تمضي قدما ، والأوهام أعجز من أن تثبت في مواجهة الوعي ، فهيأ الله روادا عنوا باكتشاف الحقائق وتقديمها وتقدمت كوكبة من صالحي المسلمين الذين درسوا الاقتصاد الرأسمالي في بلاد الغرب ، واكتشفوا أسراره ، وتحرروا من رهبة المجهول ، ثم انصرفوا لموروثهم الثقافي ، فاكتشفوا إمكانيات عظيمة كفيلة بأن يبني عليها العالم الإسلامي اقتصادا ناميا سليما إذا توفرت لديه القدرة والجرأة على الانتفاع بإمكانياته المتاحة المادية والمعنوية . ثم قامت المؤسسات المالية التطبيقية - وكان من المنتظر أن تواجه بالعقبات والتجارب الفاشلة - التي تواجه عادة من يشق أرضا مجهولة جديدة ، ولكن الله الذي وعد من يتقيه بأن يجعل له من أمره يسرا ، ووعد من ينصره بالنصر ، هيأ
لها النجاح بقدر ما وفقت له من إخلاص النية والقوة في الأخذ بالأسباب المادية ، ولعل من الملفت للنظر أن التقارير الإحصائية أثبتت بالأرقام أن أكثر هذه المؤسسات تحفظا ودقة في ممارسة الأساليب الإسلامية كانت أعظمها توفيقا ونجاحا .
( 8 ) أثبتت التجارب الواقعية والكتابات والإحصاءات الحديثة أن نظام الفائدة الربوي ليس حجر الفلاسفة الذي يحول الرصاص إلى ذهب ، وإن هذا النظام ليس فقط عاجزا عن توفير الشروط لوجود اقتصاد نام مستقر سليم بل إن هذا النظام في كثير من الأوقات دمر شروط ودعائم الاقتصاد ونموه واستقراره .
( 9 ) إن الفكرة التي اخترعها قبل أكثر من 35 سنة دولة الدكتور معروف الدواليبي بدافع ظروف معينة ، والتي تفترض إمكانية التفريق بين الفائدة في قروض الاستهلاك والفائدة عن قروض الإنتاج أو الاستثمار ، باعتبار أن الأولى تقتضي استغلال المقرض للمقترض بخلاف الثانية ، هذه الفكرة بالرغم من ظهور بطلانها لمعارضتها للنصوص القاطعة والإجماع الذي لم يفرق بين ربا وربا ، فقد كشف رجال القانون منذ ظهور الفكرة أنها لا تستند إلى حقائق وإنما إلى أوهام ، فمن وجه واضح أن التفريق بين قروض الاستهلاك وقروض الاستثمار من الناحية العملية مبني على معيار النية الباطنة ، وهذا المعيار يصلح للتفريق في القضايا الأخلاقية ولكنه لا يصلح للتفريق في قضايا المعاملات ، إلا إذا اتخذت النية مظهرا خارجيا يمكن الحكم عليه ، ومن وجه ثان فإن الاستغلال لا يكون ملازما دائما لقروض الاستهلاك وانتفاؤه لا يكون لازما دائما لقروض الإنتاج ، فمثلا يمكن أن يقترض أحد المترفين تمويل شراء يخت للنزهة ، ويمكن أن يقترض مهني فقير لإنشاء ورشة صغيرة يعتاش منها - فكما نرى - القرض الأول قرض استهلاك والقرض الثاني قرض إنتاج فهل يمكن عقلا القول بأن المقرض في القرض الأول مراب استغل حاجة المقترض ، وأن المقرض الثاني ممول شريف لم يستغل حاجة المقترض .
الخاتمة
إن هدف الورقة أن تحمل المثقف السعودي على مواجهة الذات وإثارة الأسئلة والتماس أجوبتها المبنية على الحقائق الموضوعية ونتائج المحاكمة المنطقية ، وأن يتحرر من العبودية للأفكار السائدة والتصورات الشائعة المبنية على الوهم والخيار والتي كل سندها وسر قوتها إلفها وغلبة انتشارها على الجمهورية ، قد يعذر المثقف السعودي في عجزه عن استشراف المستقبل ، ولكنه ليس معذورا عن أن يتعامى عن حقائق الحاضر وأن يصر على التشبث بأوهام الماضي .
إن سمة هذا العصر الواضحة هي تسارع التغيير والتطور فلا مجال لمواكبة الحياة لمن يستنيم لأغلال الاتجاهات الدجماتية في أمر لا مجال للدجماتية فيه .
إن التقدم لا يتم بنقل مظاهره من البلاد المتقدمة ، وإنما بالسيطرة على منهج التفكير وطريقته في البلاد المتقدمة ، وبإدراك هذه البديهة : إن المقياس الدقيق للتقدم هو مدى القدرة على الانتفاع بالإمكانيات المتاحة سواء كانت مادية أم معنوية ، بل سواء كانت إيجابية أو سلبية ، إذ من مظاهر التخلف الغربية أن بعض مشكلات التخلف يمكن حلها بأن يتوقف البلد المتخلف عن خلق المشكلة ، وتثبيتها على التخلف يعجزها لا عن الانتفاع بإمكانية العمل بل عن الانتفاع بإمكانية عدم العمل .
إن واجب المثقف السعودي المشغول بالتفكير في التقدم الاقتصادي لبلده أن يلح على نفسه بالسؤال ، هل اكتشفنا إمكانياتنا المتاحة المعنوية قبل المادية ، وما هو مدى شجاعتنا وقدرتنا على الانتفاع بهذه الإمكانيات ، والله المستعان ، وصلى الله على النبي الكريم الذي بتربيته تحول رجال الصحراء إلى قادة أخرجوا الناس في بلاد الحضارة من ضيق الدنيا إلى سعتها ، وقدموا إنجازات مذهلة - بكل المعايير - في المجال الاقتصادي لا يمنع من تقديرها حق قدرها إلا الجهل بها .
==============
من أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 42 / ص 33)
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان :
قال عمر رضي الله عنه إن من الربا أبوابا لا تخفى ، منها السلم في السن ، ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا فعلم أنه قال ذلك توقيفا فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء . والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحنطة بالحنطة مثلا مثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا » (1) وذكر اسم التمر والملح والذهب والفضة فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس : « إنما الربا في النسيئة » (2) وفي بعض الألفاظ : « لا ربا إلا في النسيئة » (3) فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى ، وقد كان ابن عباس يقول: لا ربا إلا في النسيئة ، ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله . قال جابر بن زيد : رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة ، وإنما معنى حديث أسامة : النساء في الجنسين ، كما روي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد » (4) وذكر الأصناف الستة ثم قال : « بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد » (5) وفي بعض الأخبار : « وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد » (6) فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل ، فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا .
ومن الربا المراد بالآية شراء ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن ، والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبي العالية
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/232).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580).
(4) صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/232).(2/239)
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
(6) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
قال: كنت عند عائشة فقالت لها امرأة إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمانمائة درهم وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة فقالت : بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ، فقالت : يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (1) فدلت تلاوتها لآية الربا عند قولها " أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي " أن ذلك كان عندها من الربا وهذه التسمية طريقها التوقيف ، وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال: سألته عن رجل باع طعاما من رجل إلى أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه فقال هو ربا ، ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا .
وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي وقال الحسن وابن سيرين في آخرين : إن باعه بنقد جاز أن يشتريه فإن كان باعه بنسيئة لم يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل .
وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز ، ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن ، فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع ، وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم بالصواب .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
-===============
ومن أبواب الربا الدين بالدين :
وقد روى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه نهى عن الكالئ بالكالئ » وفي بعض الألفاظ : عن الدين بالدين وهما سواء ، وقال في حديث أسامة بن زيد : « إنما الربا في النسيئة » (1) إلا أنه في العقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس؛ لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان وإن افترقا قبل التقابض بطل .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
================
من أبواب الربا الوضع مقابل التعجيل
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه: من أبواب الربا الوضع مقابل التعجيل
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمسمائة حالة فلا يجوز ، وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال: سألت ابن عمر : يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك ؟ فقال: هو ربا ، وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك ، وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم ، وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء ، وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي : لا بأس بذلك . والذي يدل على بطلان ذلك شيئان : أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف ، والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه وقال: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1) وقال تعالى: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (2) حظر أن يؤخذ للأجل عوض فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه ، ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز ؛ لأن المائة عوض من الأجل ، كذلك الحط
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278
في معنى الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال : إن خطته اليوم ؛ فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم - أن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه ؛ لأنه بمنزل بيع الأجل على النحو الذي بيناه .
ومن أجاز من السلف إذا قال : عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه ، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط ، وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا ، على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة ، وأن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلى الله عليه وسلم: « وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد » (1) وقوله: « إنما الربا في النسيئة » (2) وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله : « إنما الربا في النسيئة » (3) وقوله : « إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد » (4) وتسمية عمر إياه ربا ، وشراء ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا . وشرط التعجيل مع الحط ، وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة ، وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله ، واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره ، واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب ، وأن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة . وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا أن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها .
ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع ، ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله: « الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل » (5) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
(5) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565),موطأ مالك البيوع (1324).(2/240)
فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس . ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز وجل: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (1) وقوله تعالى { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } (2) فأطلق اسم الربا على المأكول ، قالوا فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول ، وهذا عندنا لا يدل على ما قالوا من وجوه:
أحدها : ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه ، وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله .
والثاني : أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات ، وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية ، ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة وجب أن لا يصح الأجل في القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل وجب أن يكون القرض كذلك ، فإن قال قائل ليس القرض في ذلك كالبيع ؛ لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف . قيل له إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين ، وإنما بطل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة آل عمران الآية 130
البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر ، ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس ؛ أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما ، فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض ، ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف ، ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل ، فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن ، ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم ، فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال ، ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما الربا في النسيئة » (1) ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع ، ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصلح إلا مقبوضا ، أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة ، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم التأجيل فيها بقوله : « من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده » (2) فأبطل التأجيل المشروط في الملك ، وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها ، وعاريتها قرضها ؛ لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها ، ولذلك قال أصحابنا : إذا أعاره دراهم فإن ذلك قرض ، ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها ، فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض .
ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تدرون أي الصدقة خير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : خير الصدقة المنحة ؛ أن تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة ، » (3) والمنحة هي العارية فجعل قرض الدراهم عاريتها ، ألا ترى إلى قوله في حديث آخر : « والمنحة مردودة » (4) فلما لم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(2) صحيح مسلم الهبات (1625),سنن الترمذي الأحكام (1350),سنن النسائي العمرى (3747),سنن أبو داود البيوع (3551),سنن ابن ماجه الأحكام (2380),مسند أحمد بن حنبل (3/386),موطأ مالك الأقضية (1479).
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/463).
(4) سنن الترمذي الوصايا (2120),سنن أبو داود البيوع (3565),سنن ابن ماجه الأحكام (2398).
يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض وأجاز الشافعي التأجيل في القرض وبالله التوفيق ومنه الإعانة .
- - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الخامس ... 1
فتاوى وبحوث معاصرة حول الربا وأحكامه ... 1
الباب الخامس ... 2
فتاوى وبحوث معاصرة حول الربا وأحكامه ... 2
وفي فتاوى الزحيلي ... 2
بطاقات الائتمان ... 2
ما من حرام إلا وقد شرع الإسلام بديلا عنه من الحلال ... 32
التأمين والأسهم والسندات ... 40
هل يمكن أن نستخدم الفوائد (أرباح البنوك) من أجل تغطية كلف العمليات المصرفية (استخدام الفائدة في دفع نفقات فتح الحسابات المصرفية). ... 41
ما حكم العمل فى شركات التأمين؟ ... 42
هل القروض من المصرف الصناعي لإقامة أو توسيع مشروع صناعي جائزة كذلك قروض المصرف العقاري؟ وهل الفوائد المصرفية جائزة؟ مع أنني أعرف أن كل الجمعيات الخيرية تضع أموالها في البنك وتأخذ فائدة عليه . ... 42
ماحكم شراء البيوت بالربا في غير دار الإسلام؟ وماحكم شراء البيوت للسكن عن طريق البنوك مع خضوع ذلك للتعامل بالربا؟ ... 42
إنسان عنده كيلو غرام من الحلي أراد تأجيرها لبائع حلي بأجر معلوم على أن يستردها متى أراد على شكل حلي لكن بشكل آخر لأنه عندما استعملها هذا البائع استعملها حلياً وباعها؟ ... 43
حكم شهادات الاستثمار ... 43
وفي فتاوى الفوزان : ... 44
الربا وحكمه ... 44
وفي فتاوى الشيخ عبد الرحمن البراك : ... 50
هل صحيح أن الإسلام يمنع الاستثمار المالي في المؤسسات التي تعطي نسبة عائد ثابتة ؟. ... 50
زكاة الفواكه ... 51
وفي فتاوى الأزهر : ربا النسيئة ... 52
الموضوع (1252) عائد شهادات الاستثمار ... 57
الموضوع (1255) التعامل مع البنوك بفائدة محرم شرعا ... 58
الموضوع (1256) شهادات الاستثمار. ... 59
الموضوع (1257) الأموال المودعة فى البنوك وبنك فيصل الإسلامى. ... 60
الموضوع (1258) ايداع الأموال فى البنوك بدون فائدة مباح. ... 62
الموضوع (1259) شهادات الاستثمار والعائد منها والزكاة فيه ... 64
الموضوع (1260) نقص قيمة الشهادات مع أرباحها عن قيمتها لا يحل الفائدة ... 66
الموضوع (1263) تحديد فوائد التجارة. ... 68
الموضوع (1301) القرض بفائدة حرام شرعا ... 69
الموضوع (1303) الفوائد وتعليق الصور فى المنازل ... 71
الموضوع ( 615 ) الدين بفائدة محرم شرعا. ... 73
الموضوع ( 617 ) فوائد السندات محرمة. ... 74
الموضوع ( 618 ) التصدق بالفوائد المحرمة غير جائز. ... 74
الموضوع ( 620) الاعانة فى عمل الريا محرمة شرعا. ... 76
الموضوع ( 621 ) استثمار المال فى المصارف من قبيل الربا المحرم. ... 76
حكم التعامل بالربا في بلاد الغرب ... 77
حكم التعامل بالربا مع غير المسلمين ... 82
وفي كتاب الربا وأضراره -فتاوى في مسائل من الربا المعاصر ... 84
المسألة الأولى: العملة الورقية وأحكامها من الناحية الشرعية: ... 84
المسألة الثانية: مسألة الحيلة الثلاثية: ... 87
المسألة الثالثة: بيع المداينات بطريقة بيع وشراء البضائع وهي مكانها ... 88(2/241)
المسألة الرابعة: صرف العملة إلى عملة أخرى: ... 89
المسألة الخامسة: بيع الذهب المستعمل بذهب جديد مع دفع الفرق ... 90
المسألة السادسة: بيع الذهب أو الفضة ديناً: ... 92
المسألة السابعة: المساهمة في شركات التأمين: ... 93
المسألة الثامنة: التعامل مع المصارف الربوية: ... 93
المسألة العاشرة: التأمين في البنوك الربوية: ... 97
المسألة الحادية عشرة: شراء أسهم البنوك: ... 98
المسألة الثانية عشرة: العمل في المؤسسات الربوية: ... 99
المسألة الثالثة عشرة: فوائد البنوك الربوية: ... 99
المسألة الرابعة عشرة: قرض البنك بفوائد سنوية: ... 100
المسألة الخامسة عشرة: القرض بعملة والتسديد بأخرى: ... 100
المسألة السادسة عشرة: القرض الذي يجرّ منفعة: ... 102
مفاسد الربا وأضراره وأخطاره وآثاره ... 107
مَاذَا تَعْرِفُ عَنْ : " ضَعْ وتَعَجَّلْ " ؟ ... 119
الربا وتدمير الأمة ... 126
كيف بدأ الربا.. وكيف انتشر؟.. ... 144
مستقبل الربا ... 149
وقفة مع خطبة الوداع في تحريم الربا ... 162
الربا ... 168
المرابون....؟؟!! ... 181
حكم المساهمة في شركة المراعي ... 189
حكم المساهمة في شركة الاتصالات السعودية ... 192
حكم الاستثمار المالي في المؤسسات التي تعطي نسبة عائد ثابتة ... 196
رسائل عاجلة في شركة ينساب ... 197
إلى كل من خسر أو تعلق أو تورط في الأسهم ... 202
رُبَّ سهمٍ أصاب مقتل ... 211
حكم القروض الزراعيّة ... 220
وضع المال في البنك ، وأخذ الفائدة عليه ، والتصرف بها ... 224
من أحكام الأسهم ... 234
ما حكم الاكتتاب في شركة إعمار المدينة الاقتصادية وحكم تداول أسهمها؟ ... 242
المساهمة في الشركات ... 248
حكم المساهمة في شركة الاتصالات ... 261
ماذا لو قيل لك : هذا النّاكح أمه ؟! ... 266
حكم التعامل مع المصارف الربويّة ... 269
مناقشة علمية هادئة للقول بجواز الاكتتاب في ينساب ... 271
رسالة إلى التاجر المسلم ... 277
حكم تملك الأوراق المالية وأرباحها بالقبض ... 286
تحذير الجالية من المنكرات السارية (1) ... 302
المساهمة في شركات أصل نشاطها مباح ... 312
التأخر في الإنجاب حتى قضاء الديون ... 319
استثمار المال فى المصارف من قبيل الربا المحرم ... 321
هل العائد من البنوك الإسلامية من باب الربا؟ ... 322
الفرق بين الربا والرشوة ... 323
سبب تحريم الربا ... 324
الربا ثلاث وسبعون بابا ... 324
ما هي الأشياء التي يحرم فيها الربا؟ ... 326
الربا على المرابي والمقترض ... 326
أكل الربا للضرورة ... 329
الشهادة على عقد الربا ... 330
دفع فوائد الربا المحصول عليها مقابل فوائد الربا المطالب بها من البنك ... 331
أخذ الربا لتسديد الضرائب الملزم بها ... 331
من لم يجد ما يسد حاجته إلا عن طريق الربا ... 333
التصرف في الفوائد بعد التوبة من أخذ الربا ... 334
جريان الربا في الورق النقدي ... 334
قاعدة الربا ... 336
: مسألة : تحريم الربا ... 338
باب الربا ... 339
باب الربا- عَمَّنْ بَاعَ نِصْفًا فِضَّةً بِأَرْبَعِينَ فِضَّةً وَزْنُهَا ... 341
باب الربا- الْعِشْرِونَ مُدًّا بِثَلَاثِينَ مُدًّا مَثَلًا ... 342
الفصل السادس في تفسير الربا وأحكامه ... 343
صورة من صور الربا ... 344
وجوب التخلص من الربا الحاصل على رأس المال: ... 345
تغليظ الشارع في تحريم الربا: ... 346
صور من البيوع التي يدخل فيها الربا: ... 349
حرمة أخذ الربا وكيفية التخلص منه: ... 350
بعض أنواع بيوع الربا: ... 351
حكم الاستعانة بمن يتعامل الربا: ... 354
حكم أخذ الورثة من التركة التي تكون من الربا: ... 355
صورة من صور الربا: ... 356
كيفية نصح العاملين في البنوك وتحذيرهم من الربا: ... 356
فوائد البنوك ( الربا ) ... 357
حساب التوفير ربا ... 358
العمل في البنوك الربوية حرام ... 360
فوائد صندوق التوفير هي الربا المحرم ... 362
هل الربا أعظم من الزنى؟ ... 366
هل هو شريك في إثم الربا ؟ ... 367
هل هذه المعاملة من الربا؟ ... 368
ما يدخله الربا من صرف النقود ... 369
شبهات لأكل الربا ... 371
شبهات لأكل الربا ... 373
شبهة جريان الربا في العملات الورقية! ... 375
هل هذا من الربا؟ ... 377
العمل في البنوك ... 379
التقسيط بين البنك والمعرض ... 380
أموال الربا بعد التوبة ... 381
الوفاء بدين الربا ... 383
هل هذا من الربا ... 384
كفالة مقترض الربا ... 388
هل هذا الصرف من الربا؟ ... 389
العمل في شركة أصل مالها من الربا ... 390
القانون يُلزمه بتسديد فائدة الربا فماذا يفعل؟ ... 391
هل الربا ضرورة اقتصادية؟ ... 392
الصلاة في مركز إسلامي اشتُرِي بمال الربا ... 399
هل يدخل هذا في الربا؟ ... 400
هل هذا من بيع الآجل أم الربا؟ ... 401
هل أنا مُعينٌ لهم على الربا؟ ... 403
التخلص من الربا بإعطائه للأم! ... 404
الربا والصرف ... 405
(الربا والقرض والعمل في البنوك) ... 408
التحايل على الربا ... 410
التحايل على الربا أيضاً ... 411
ليس هذا المال من الربا ... 412
هذه المعونة عين الربا ... 413
العمل في بنوك الربا إعانة لها على الإثم ... 414
العمل في بنوك الربا لا يجوز ... 414
الربا والتحايل عليه ... 416
بعض حيل الربا ... 421
الربا في الذهب ... 427
دروس من سورة يوسف عليه السلام ( التمكين ) - الربا ... 431
دروس من سورة يوسف ( الربا ) ... 435
الربا والقرض ... 439
الربا وآثاره ... 442
الربا .. حكمه وخطره ... 447
حول الربا والبنوك والمؤسسات الربوية والمساهمة فيها ... 453
عن الربا ... 462
التحذير من الربا ... 470
أكل الربا ... 478
خطر الربا ... 485
الربا: صوره، أقسام الناس فيه ... 490
فتاوى حول الربا والمفطرات ... 502
تنويه ورد (حول كلام الشيخ ابن باز فى الربا) ... 504
الربا والأدوات النقدية المعاصرة (1) ... 505
الربا والادوات النقدية المعاصرة (2) ... 516
الربا والأدوات النقدية المعاصرة (3) ... 530
من مسائل الربا ... 544
التحذير من الربا وخطره ... 545
أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا ... 555
كفالة مقترض الربا ... 558
كيف يستثمر المسلم ماله بعيداً عن شبهات الربا ... 560
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني ... 571
كفالة مقترض الربا ... 581
الربا في ضوء الكتاب والسنة ... 582
أحاديث ربا الفضل وأثرها في العلة والحكمة في تحريم الربا ... 624
تفسير آيات الربا ... 656
علة الربا في النقدين ... 704
القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله ... 712
تعريف الربا ... 771
الربا في ضوء الكتاب والسنة ... 843
أقوال العلماء في حكم من تاب من الكسب الحرام كالربا وأنواع المكاسب المحرمة الأخرى ... 888
ذكر الأسباب التي يرى الدكتور إبراهيم عبد الناصر تحريم الربا لأجلها والرد عليها ... 949
رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين على الدكتور إبراهيم الناصر ... 1026
التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها لغرض الحصول على الربا ... 1045
تعليق عن التفريق بين الفائدة البنكية والربا ... 1048
من أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان ... 1070
ومن أبواب الربا الدين بالدين : ... 1073(2/242)
من أبواب الربا الوضع مقابل التعجيل ... 1073(2/243)
المفصل في أحكام الربا (3)
الباب الخامس
فتاوى وبحوث معاصرة حول الربا وأحكامه
(2)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 42 / ص 39)
باب البيع
قوله عز وجل: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (1) عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما ، وهذا هو حقيقية البيع في مفهوم اللسان . ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده ، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد الخصوص ؛ لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات نحو بيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء ، وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات ، وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه ، وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف ؛ لقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (2) والبيع اسم للإيجاب والقبول ، وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان
وقوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (3) حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان ، فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية ، وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض .
وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (4) وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
يوجب إجمال لفظ البيع ، وليس كذلك عندنا لأن ما لا يسمى ربا من البياعات فحكم العموم جار فيه ، وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا ، وقد بينا ذلك في أصول الفقه . وأما قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (1) حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات ، وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه . قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (2) يحتج به في جواز بيع ما لم يره المشتري ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض ، وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك ، فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض وهو كقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (3) المراد تحريم الاستمتاع بهن . ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (4) من وجهين :
أحدهما : ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض .
والآخر : إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة .
وأما قوله تعالى: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (5) فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد ما لم يقبض لأن قد ذكر في نسق
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة البقرة الآية 275
التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) فأبطل الله من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (2) وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين ، وقال تعالى: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (3) فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض ، ثم قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (4) وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة ، وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة - وقال جابر بعرفات - : « إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب » (5) فكان فعله صلى الله عليه وسلم مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا ما لم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان مقبوضا ، وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ضروب من الأحكام
أحدها: أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في حال وقوعه وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب في فسخه ، وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا ، وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد ، وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشتري بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض وإن كانت الخمر مقبوضة ثم أسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم ، فهذا جائز في
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح البخاري التمني (6803),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).(3/1)
نظائره من المسائل ، ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا يبطل البيع ، وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها ، والقيمة قائمة مقام المبيع ، وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب . وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد ، وهو قول أصحاب الشافعي ، وقال مالك : لا يبطل والثمن لازم للمشتري إذا لم يمنعه ، ودلالة الآية ظاهرة في أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد ؛ وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال ، فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد ، وأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه ، وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ ، وإن كانت معقودة على فساد ؛ لأنه معلوم أنه كان بين نزول وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها ، فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا .
وقوله تعالى: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1) يدل على ذلك أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام .
وقد قيل إن معنى قوله الله تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } (2) من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها له ، وليس هذا كذلك لأن الله تعالى قد قال : { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (3) يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب فلم يعلمنا حكمه في الآخرة ، ومن جهة أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما فيغفر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى: { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (1) وقوله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (2) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (3) قال أبو بكر يحتمل ذلك معنيين :
أحدهما: إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له
الثاني: إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن اعتقدوا تحريمه ، وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله ، وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه . وقوله تعالى : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (4) لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي ، قال زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر رأى معاذا يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: « اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة » (5) . فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر .
وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: « أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم » (6) وقال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } (7) .
والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق ، وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن ابن ماجه الفتن (3989).
(6) سنن الترمذي المناقب (3870),سنن ابن ماجه المقدمة (145).
(7) سورة المائدة الآية 33
دون الكفر وقوله تعالى: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) إخبار منه بعظم معصيته وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام ، فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزير والردع .
وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها ، وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه ، وقوتلوا حتى ينتهوا ، وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة .
وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة ، وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا ممتنعين ، وهؤلاء أعظم جرما من آكلي الربا؛ لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعا ، وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا ، ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه ، وآخذو الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة ، فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين : أحدهما الكفر والآخر منع الزكاة ، وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها فانتظمها به معنيين أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى ؛ وذلك كفر ، والآخر الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموآله م إلى الإمام ، فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا ، ولذلك قال : لو منعوني عقالا ، وفي بعض الأخبار عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . فإنما قلنا : إنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة لأن الصحابة سموهم أهل الردة وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا ، وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم ، ولو لم
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه المسيرة وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين ؛ أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل ردة ، فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر ، وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة ، وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا ، وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا .(3/2)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة نصارى : « إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله ، » وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبد الله بن أبي حميد عن أبي مليح الهذلي : « أن رسول الله صلى عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب إليهم كتابا في آخره : على أن لا تأكلوا الربا ، فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة » . فقول الله تعالى { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) عقيب قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (2) هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر ، فمن رد الأمر قوتل على الردة ، ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا ، وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام .
وقوله تعالى { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (3) إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون لله ورسوله ، وفي ذلك إخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة ؛ وهي أن يسموا محاربين لله ورسوله ، وهذه السمة يعتورها معنيان : أحدهما الكفر إذا كان مستحلا والآخر الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
التحريم على ما بيناه ، ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم ، ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها ؛ كقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } (1) فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجها إليهم إذا كانوا ذوي منعة ، وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب ، وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 58
( ب) قال أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي في كتابه "أحكام القرآن" : الآية السابعة والثمانون قوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (1) هذه الآية من أركان الدين ، وفيها خمس مسائل :
( المسألة الأولى ) في سبب نزولها . ذكر من فسر أن الله تعالى لما حرم الربا قالت ثقيف : وكيف ننتهي عن الربا وهو مثل البيع ؟! فنزلت فيهم الآية .
(المسألة الثانية) قال علماؤنا : قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (2) كناية عن استيجابه في البيع وقبضه باليد لأن ذلك إنما يفعله المربي قصدا لما يأكله فعبر بالأكل عنه وهو مجاز من باب التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته وهو أحد قسمي المجاز كما بيناه في غير موضع .
(المسألة الثالثة) قال علماؤنا : الربا في اللغة هو الزيادة ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به ، فلأجل ذلك اختلفوا : هل هي عامة في تحريم كل ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها ، والصحيح أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون ، وكان الربا عندهم معروفا يبايع الرجل الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال : أتقضي أم تربي , يعني أم تزيدني على ما لي عليك وأصبر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
أجلا آخر ، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة ، ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه ، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة ، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع ، ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر وقد فاوضت فيها علماء وباحثت رفعاء فكل منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا : أن من زعم أن هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة فإن الله تعالى أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم هو منهم بلغتهم ، وأنزل عليهم كتابه تيسيرا منه بلسانهم ، وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة فأنزل عليهم مبينا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه فقال تعالى { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) والباطل كما بيناه في كتب الأصول هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة العوض ، والتجارة هي مقابلة الأموال بعضها ببعض وهو البيع وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة ، أو ما في معنى المال كالمنافع ، وهي ثلاثة أنواع :
عين بعين : وهو بيع النقد ، أو بدين مؤجل : وهو السلم ، أو حال : وهو يكون في الثمن ، أو على رسم الاستصناع ، أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة .
والربا في اللغة هو الزيادة ، والمراد به في الآية كل زيادة لم يقابلها عوض , فإن الزيادة ليست بحرام لعينها بدليل جواز العقد عليها على وجهه ولو كانت حراما ما صح أن يقابلها عوض ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرهما ، وتبين أن معنى الآية : وأحل الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل وحرم منه ما وقع على وجه الباطل ، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم ، فتزيد زيادة لم يقابلها عوض ، وكانت تقول : إنما البيع مثل الربا أي إنما الزيادة عند حلول
__________
(1) سورة النساء الآية 29
الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد فرد الله تعالى عليهم قولهم وحرم ما اعتقدوه حلالا عليهم ، وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدى أنظر إلى الميسرة تخفيفا ، يحققه أن الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه ، وذلك على قسمين :
أحدهما : تولي الشرع تقدير العوض فيه وهو الأموال الربوية ، فلا تحل الزيادة فيه ، وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين: أحدهما ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع ، ومنه ما يخرج عن العادة ، واختلف علماؤنا فيه : فأمضاه المتقدمون وعدوه من فن التجارة ، ورده المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدوا المردود بالثلث .
والذي أره أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض لأنهما يفتقران إلى ذلك في الأوقات وهو داخل تحت قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وإن وقع عن جهل من أحدهما فإن الآخر بالخيار ، وفي مثله ورد الحديث : « أن رجلا كان يخدع في البيوع فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل : لا خلابة » (2) زاد الدارقطني وغيره : « ولك الخيار ثلاثا » وقد مهدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف فهذا أصل علم هذا الباب .
فإن قيل : أنكرتم الإجمال في الآية وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبينا ولا يوجد عنها من القول ظاهرا .
قلنا: هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ولا ألقي إليه السمع وهو شهيد وقد توضح في مسائل الكلام أن جميع ما أحل الله لهم أو حرم عليهم كان معلوما عندهم لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم فقد أطلق لهم حل ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه ، وحرم عليهم أكل المال بالباطل وقد كانوا يفعلونه
__________
(1) سورة النساء الآية 29(3/3)
(2) صحيح البخاري البيوع (2011),صحيح مسلم البيوع (1533),سنن النسائي البيوع (4484),سنن أبو داود البيوع (3500),مسند أحمد بن حنبل (2/130),موطأ مالك البيوع (1393).
ويعلمونه ويتسامحون فيه ، ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا فألقى إليهم وجوه الربا المحرمة في كل مقتات ، وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا وألحق به بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والبيع والسلف وبين وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوما كالخمر والميتة والدم وبيع الغش ، ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر إليه في الباب ، وبقي ما وراءهما على الجواز إلا أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يصح ستة وخمسون معنى نهي عنها :
الأول والثاني : ثمن الأشياء جنسا بجنس .
والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع: بيع المقتات أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا أو جنسا بغير جنسه نسيئة أو بيع الرطب بالتمر أو العنب بالزبيب أو بيع المزابنة على أحد القولين أو عن بيع وسلف وهذا كله داخل في الربا وهو مما تولى الشرع تقدير العوض فيه فلا تجوز الزيادة عليه .
الثامن : بيعتان في بيعة . التاسع : بيع الغرر ، ورد بيع الملامسة والمنابذة والحصاة وبيع الثنيا وبيع العريان وما ليس عندك والمضامين والملاقيح وحبل حبلة ويتركب عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وبيع السنبل حتى يشتد والعنب حتى يسود وهو مما قبله وبيع المحاقلة والمعاومة والمخابرة والمحاصرة وبيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن وبيع الطعام قبل أن يستوفي من بعض ما تقدم والخمر والميتة وشحومها وثمن الدم وبيع الأصنام وعسيب الفحل والكاب والسنور وكسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن وبيع المضطر وبيع الولاء وبيع الولد أو الأم فردين أو الأخ والأخ فردين وكراء الأرض والماء والكلأ والنجس وبيع الرجل على بيع أخيه وخطبته على خطبة أخيه وحاضر لباد وتلقي السلع والقينات .
فهذه ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر مما نهي عنه أوردناها حسب نسقها في
الذكر ، وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام : ما يرجع إلى صفة العقد ، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين ، وما يرجع إلى العوضين ، وإلى حال العقد ، والسابع وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة أو في آخر جزء من الوقت المعين للصلاة ، ولا تخرج عن ثلاثة أقسام وهي الربا والباطل والغرر ، ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين .
وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى ، ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا ، ومنها ما يخرج عنها ظاهرا ، ومنها ما يدخل فيها باحتمال ، ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألفا بينهم لما في التدابر من المفسدة .
(المسألة الرابعة): قد بينا أن الربا على قسمين : زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان والزيادة في سائرها ، وذكرنا حدودها وبينا أن الربا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ولا خلاف فيه ، وكذلك يجوز الربا في هبة الثواب .
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها . فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم ، وقد انتهى القول في هذا الغرض ها هنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف ، ومنه ما تيسر على آيات القرآن في هذا القسم من الأحكام .
(المسألة الخامسة): من معنى هذه الآية وهي في التي بعدها قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1) ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
والذي بقي هو الحرام وهو غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه ، ولو تلف لقام المثل مقامه ، والاختلاط إتلاف لتميزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسابين معنى ، والله أعلم) .
(جـ) قال أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره : قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) .
لما ذكر الله تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات : شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات . أخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (2) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ، وذلك أنه يقوم قياما منكرا ، وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق ، رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك ، وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: في قوله { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3) يعني .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
لا يقومون يوم القيامة ، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد ، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف عن أبي عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة " - وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب وقرأ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (1) وذلك حين يقوم من قبره .
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء كما هو مذكور في سورة "سبحان" : « أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم فقيل : هؤلاء أكلة الربا » . رواه البيهقي مطولا ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا » (2) ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به ، وفي إسناده ضعف(3/4)
وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : « فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا » (3) وذكر في تفسيره أنه آكل الربا .
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (4) أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسا منهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2273).
(3) صحيح البخاري التعبير (6640),مسند أحمد بن حنبل (5/9).
(4) سورة البقرة الآية 275
للربا على البيع ؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا (إنما البيع مثل الربا) أي هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا .
وقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم ؛ أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ، ولهذا قال : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (2) ؛ أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } (3) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : « وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس » (4) ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف ، كما قال تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } (5) قال سعيد بن جبير والسدي : فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم .
وقال ابن أبي حاتم : قرأ علي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أبقع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد زيد بن أرقم : يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم ، قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ، قالت: فقلت : أرأيت
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة المائدة الآية 95
(4) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),سنن الدارمي المناسك (1850).
(5) سورة البقرة الآية 275
إن تركت المائتين وأخذت الستمائة قالت : نعم { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1) وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة .
ثم قال تعالى: { وَمَنْ عَادَ } (2) أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ، ولهذا قال : { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (3) وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر قال : لما نزلت { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله » (5) ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض ، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا ؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ، ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (6) .
باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا- يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ، والشريعة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سنن أبو داود البيوع (3406).
(6) سورة يوسف الآية 76
شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » (1) .
وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) .
وفي الحديث الآخر : « الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس » (3) وفي رواية : « استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك » (4) .(3/5)
وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، رواه البخاري عن قبيصة بن عقبة وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة . وقال : رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : " إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم" وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا فذكره ، ورده الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجه : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والربا ثلاثة وسبعون بابا » (5) ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله وزاد : « أيسرها أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم » (6) وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقال ابن ماجه : حدثنا عبد الله بن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532).
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553),سنن الترمذي الزهد (2389),مسند أحمد بن حنبل (4/182),سنن الدارمي الرقاق (2789).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/228),سنن الدارمي البيوع (2533).
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
سعيد حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه » (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : من لم يأكله منهم ناله من غباره » (2) وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به .
ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات ، الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت : « لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر » (3) وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت: « لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر » (4) قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه : « لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها . وأكلوا أثمانها » (5) وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسير قوله : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (6) قوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه » (7) قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا بالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » (8) وقد
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(2) سنن النسائي البيوع (4455),سنن أبو داود البيوع (3331),سنن ابن ماجه التجارات (2278),مسند أحمد بن حنبل (2/494).
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4266),صحيح مسلم المساقاة (1580),سنن النسائي البيوع (4665),سنن أبو داود البيوع (3490),سنن ابن ماجه الأشربة (3382),مسند أحمد بن حنبل (6/127),سنن الدارمي البيوع (2569).
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4266),صحيح مسلم المساقاة (1580),سنن النسائي البيوع (4665),سنن أبو داود البيوع (3490),مسند أحمد بن حنبل (6/127),سنن الدارمي البيوع (2569).
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3273),صحيح مسلم المساقاة (1582),سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257),سنن ابن ماجه الأشربة (3383),مسند أحمد بن حنبل (1/25),سنن الدارمي الأشربة (2104).
(6) سورة البقرة الآية 230
(7) سنن الترمذي النكاح (1120),سنن النسائي الطلاق (3416),مسند أحمد بن حنبل (1/448),سنن الدارمي النكاح (2258).
(8) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564).
صنف الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه .
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (1) { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (2) .
يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى : { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } (3) وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } (4) وقال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } (5) الآية وقال ابن جرير : قوله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } (6) وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : « الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل » (7) وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل » (8) وقد رواه ابن ماجه عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن أبي زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 277
(3) سورة المائدة الآية 100
(4) سورة الأنفال الآية 37
(5) سورة الروم الآية 39
(6) سورة البقرة الآية 276
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2279),مسند أحمد بن حنبل (1/395).
(8) سنن ابن ماجه التجارات (2279),مسند أحمد بن حنبل (1/395).(3/6)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل » (1) وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الهيثم بن نافع الظاهري حدثني أبو يحيى - رجل من أهل مكة - عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال: ما هذا الطعام ؟ فقالوا: طعام جلب إلينا ، قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه ، قيل: يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال: من احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان ، وفلان مولى عمر ، فأرسل إليهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا : يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع ، فقال: عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام » (2) فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا ، وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع ، قال أبو يحيى : فقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه : « من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام » (3) .
وقوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } (4) قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي كثره ونماه ينميه وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية ، قال البخاري : حدثنا عبد الله بن كثير أخبرنا كثير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل » (5) كذا رواه في كتاب الزكاة
وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار فذكر بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2279).
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2155),مسند أحمد بن حنبل (1/21).
(3) سنن ابن ماجه التجارات (2155),مسند أحمد بن حنبل (1/21).
(4) سورة البقرة الآية 276
(5) صحيح البخاري الزكاة (1344),صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (661),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/331),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
بن مخلد فذكره قال البخاري : ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الظاهر بن السرح عن أبي وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به والله أعلم .
قال البخاري وقال : ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس المروزي عن أبي الزناد هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد » (1) وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعيد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد » (2) وتصديق ذلك في كتاب الله { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } (3) وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه الترمذي
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1344),صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (661),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/331),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
(2) صحيح البخاري الزكاة (1344),صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (662),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/404),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
(3) سورة البقرة الآية 276
عن أبي كريب عن وكيع به وقال حسن صحيح ، وكذا رواه الترمذي عن عباد بن منصور به ، ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة عن القاسم به ، وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا » (1) وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب والمحفوظ ما تقدم ، وروي عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد » (2) تفرد به أحمد من هذا الوجه .
وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرجل ليتصدق من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه » (3) أو قال فصيله ثم قال : لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس .
وقوله : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (4) أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/268).
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/251).
(3) صحيح البخاري الزكاة (1344),صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (661),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/541),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
(4) سورة البقرة الآية 276(3/7)
جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم يأكل أموال الناس بالباطل - ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (2) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (3) { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (4) { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (5) .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } (6) أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (7) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (8) أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك .
وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا ، وقالت بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 277
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 281
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 248
الآية ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (2) فقالوا : نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا ، فتركوه كلهم ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ، قال ابن جريج قال ابن عباس : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } (3) أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله ، وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، ثم قرأ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (4) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (5) فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي عن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح ، وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة . رواه ابن أبي حاتم
وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأن ضد قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (6) قال : وهذا المعنى ذكره كثير قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (7) أي بأخذ الزيادة ولا تظلمون أي بوضع رؤوس الأموال أيضا بل لكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 279
ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة البارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : « ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله » (1) كذا وجده سليمان بن الأحوص وقد قال ابن مردويه : حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إلا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (2) وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره .
وقوله : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (3) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (4) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي . ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (5) أي وإن تتركوا المال بالكلية وتضعوه عن المدين .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود البيوع (3334),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 280
2 - نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها
(أ ) نصوص من صحيح البخاري مع شرحها لابن حجر رحمه الله :
باب بيع التمر بالتمر :
حدثنا أبو الوليد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « البر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء ، وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء » (1) .
قوله باب بيع التمر بالتمر أورد فيه حديث عمر مختصرا . وسيأتي الكلام عليه بعد .
__________(3/8)
(1) صحيح البخاري البيوع (2062),صحيح مسلم المساقاة (1586),سنن الترمذي البيوع (1243),سنن النسائي البيوع (4558),سنن أبو داود البيوع (3348),سنن ابن ماجه التجارات (2253),مسند أحمد بن حنبل (1/45),موطأ مالك البيوع (1333),سنن الدارمي البيوع (2578).
باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام :
حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة » (1) . والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا ) .
حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة » (2) . قال : والمزابنة أن يبيع التمر بكيل : إن زاد فلي وإن نقص فعلي ) .
قال : وحدثني زيد بن ثابت : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها » (3) قوله : ( باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام ) ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين : وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب . وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب . وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر . وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب ، والذي في الحديث : الزبيب بالكرم . قال الإسماعيلي : لعله أخذ ذلك
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2091),صحيح مسلم البيوع (1542),سنن النسائي البيوع (4549),سنن ابن ماجه التجارات (2265).
(2) صحيح البخاري المساقاة (2254),صحيح مسلم البيوع (1540),سنن النسائي البيوع (4543).
(3) صحيح البخاري البيوع (2064),سنن الترمذي البيوع (1300).
من جهة المعنى قال : ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رؤوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى ، انتهى . ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب : وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام . وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا : « الطعام بالطعام مثلا بمثل » (1) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592),مسند أحمد بن حنبل (6/401).
باب بيع الشعير بالشعير :
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس أخبره : ( أنه التمس صرفا بمائة دينار ، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا ، حتى اصطرف مني ، فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة ، وعمر يسمع ذلك . فقال : والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء » (1) .
قوله : ( باب بيع الشعير بالشعير ) أي ما حكمه ؟
قوله: (أنه التمس صرفا ) بفتح الصاد المهملة أي من الدراهم بذهب كان معه ، وبين ذلك الليث في روايته عن ابن شهاب ولفظه : " عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : أقبلت أقول من يصطرف الدراهم ؟ " قوله ( فتراوضنا ) بضاد معجمة أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص كأن كلا منهما كان يروض صاحبه ويسهل خلفه . وقيل المراوضة هنا المواصفة بالسلعة . وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه .
قوله: ( فأخذ الذهب يقلبها) أي الذهبة .
والذهب يذكر ويؤنث فيقال ذهب وذهبة . أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك . وفي رواية الليث : فقال طلحة إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك ، ولم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2027),صحيح مسلم المساقاة (1586),سنن الترمذي البيوع (1243),سنن النسائي البيوع (4558),سنن أبو داود البيوع (3348),سنن ابن ماجه التجارات (2253),مسند أحمد بن حنبل (1/45),موطأ مالك البيوع (1333),سنن الدارمي البيوع (2578).
طلحة . قوله ( من الغابة ) بالغين المعجمة وبعد الألف موحدة يأتي شرح أمرها في أواخر الجهاد في قصة تركة الزبير بن العوام ، وكان طلحة كان له بها مال من نخل وغيره ، وأشار إلى ذلك ابن عبد البر .
قوله ( حتى تأخذ منه ) أي عوض الذهب ، في رواية الليث : والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره .
قوله ( الذهب بالورق ربا ) قال ابن عبد البر : لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفاظ حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك ، وتابعه معمر والليث وغيرهما . وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة . وشذ أبو نعيم عنه فقال : ( الذهب بالذهب ) ، وكذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري ويجوز في قوله ( الذهب بالورق ) الرفع أي بيع الذهب بالورق فحذف المضاف للعلم به ، أو المعنى الذهب يباع بالذهب ، ويجوز النصب أي بيعوا الذهب ، والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها ، والورق : الفضة ، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما . وقيل : بكسر الواو : المضروبة ، وبفتحها : المال ، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة .
قوله ( إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة وقيل: بالكسر وقيل بالسكون . وحكي القصر بغير همز وخطأها الخطابي ، ورد عليه النووي وقال : هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات .
وحكي (هاك) بزيادة كاف مكسورة ويقال: هاء بكسر الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين ، وقال ابن الأثير هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده ، كالحديث الآخر : « إلا يدا بيد » (1) يعني مقابضة في المجلس . وقيل معناه خذ وأعط . قال : وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض ويتنزل منزلة (ها) التي للتنبيه .
وقال ابن مالك : ها اسم فعل بمعنى خذ . وإن رفعت بعد إلا فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيا فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584).
المتبايعين هاء وهاء . وقال الخليل : كلمة تستعمل عند المناولة . والمقصود من قوله ( هاء وهاء ) أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس ، قال ابن مالك : حقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء . واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس وهو قول أبي حنيفة والشافعي .
وعن مالك : لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما . ومذهبه أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف ، سواء كانا في المجلس أو تفرقا . وحمل قول عمر (لا يفارقه) على الفور حتى لو أخر الصيرفي القبض حتى يقوم إلى قعو دكانه ثم يفتح صندوقه لما جاز .
قوله ( البر بالبر ) بضم الموحدة ثم راء : من أسماء الحنطة ، والشعير بفتح أوله : معروف وحكي جواز كسره . واستدل به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور . وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا هما صنف واحد .(3/9)
قال ابن عبد البر في هذا الحديث: إن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه . وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة ، وفائدته الأمن من الغبن ، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره ، وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئا لا يجوز ينهى عنه ويرشد إلى الحق ، وأن من أفتى بحكم حسن أن يذكر دليله ، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم . وفيه اليمين لتأكيد الخبر ، وفيه الحجة بخبر الواحد ، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو حديث رسوله .
وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق ، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد ، وكذا الورق بالورق يعني إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه
محفوظة فيؤخذ الحكم من دليل الخطاب وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم ؛ أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالورق فيستغنى حينئذ بذلك عن القياس .
باب بيع الذهب بالذهب :
حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا إسماعيل بن علية قال حدثني يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قال أبو بكرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم » (1) .
قوله : ( باب بيع الذهب بالذهب ) تقدم حكمه في الباب الذي قبله ، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحاق ورجال الإسنادين بصريون كلهم . وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله : « وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم » (2) وفي الرواية الأخرى : « وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا » (3) الحديث ، وسيأتي الكلام عليه .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
(2) صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
(3) صحيح البخاري البيوع (2071),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4578),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
باب بيع الفضة بالفضة :
حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه قال : حدثني سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال : يا أبا سعيد : ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في الصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الذهب بالذهب مثلا بمثل والورق بالورق مثلا بمثل » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1584),موطأ مالك البيوع (1324).
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز » (1) .
قوله ( باب بيع الفضة بالفضة ) تقدم حكمه أيضا . قوله (حدثني عبيد الله بن سعد ) زاد في رواية المستملي " وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف " وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم .
قوله : (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال : يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في الصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ) فذكر الحديث . هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف . فقال أبو سعيد فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله (مثل ذلك) أي مثل حديث عمر؛ أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله ، وتكلف الكرماني هنا فقال : قوله (مثل ذلك ) أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة ولو وقف على رواية الإسماعيلي لما عدل عنها .
وقوله (فلقيه عبد الله ) أي بعد أن كان سمع منهم الحديث فأراد أن يستثبته فيه ، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة ، وهي هذه ، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده .
فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري عن طريق سالم وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه : " أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث : إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).
نافع : فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال : إن هذا أخبرني أنك تخبر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل » (1) الحديث فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال : أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل » (2) (الحديث) . ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد ( أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس فسأذكرها في الباب الذي يليه .
قوله في الرواية الأولى : ( الذهب بالذهب) يجوز في الذهب الرفع والنصب وقد تقدم توجيهه . ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسر وحلي وتبر وخالص ومغشوش ، ونقل النووي تبعا لغيره في ذلك الإجماع .
قوله (مثل بمثل) كذا في رواية أبي ذر بالرفع ولغير أبي ذر ( مثلا بمثل ) ، وهو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن ، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه « إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء » (3)
قوله ( ولا تشفوا ) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء : أي تفضلوا ، وهو رباعي من أشف والشف بالكسر الزيادة ، وتطلق على النقص .
قوله (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) بنون وجيم وزاي مؤجلا بحال ، أي والمراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا ، والناجز الحاضر ، قال ابن بطال : فيه حجة للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له؛ لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينا؛ لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب ، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر قال :
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067),صحيح مسلم المساقاة (1584),مسند أحمد بن حنبل (3/51).
(2) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/73),موطأ مالك البيوع (1324).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1584),مسند أحمد بن حنبل (3/9).(3/10)
« كنت أبيع الإبل بالبقيع : أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء » (1) فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينا ؛ لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم يقصد إلى التأخير في الصرف قاله ابن بطال ، واستدل بقوله (مثلا بمثل ) على بطلان البيع بقاعدة مد عجوة ؛ وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا بدينارين مثلا ، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتى تفصل أخرجه مسلم . وفي رواية أبي داود فقلت إنما أردت الحجارة ، فقال : لا ؛ حتى تميز بينهما .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242),سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),سنن الدارمي البيوع (2581).
باب بيع الدينار بالدينار نساء :
حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم فقلت له : فإن ابن عباس لا يقوله . فقال أبو سعيد : سألته فقلت سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله ؟ قال كل ذلك لا أقول ، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني ، ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا ربا إلا في النسيئة » (1) .
قوله ( باب بيع الدينار بالدينار نساء) بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا . أي مؤجلا مؤخرا يقال أنساه نساء ونسيئة . قوله ( الضحاك بن مخلد) هو أبو عاصم شيخ البخاري وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع . قوله ( سمع أبا سعيد الخدري يقول : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم) كذا وقع في هذه الطريق . وقد أخرجه مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فزاد فيه ( مثلا بمثل) من زاد أو ازداد فقد أربى ) قوله ( أن ابن عباس لا يقوله) في رواية مسلم ( يقول غير هذا ) . قوله
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580).
(فقال أبو سعيد سألته) في رواية مسلم ( لقد لقيت ابن عباس فقلت له ) . قوله ( فقال كل ذلك لا أقول) بنصب ( كل) على أنه مفعول مقدم ، وهو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين ( كل ذلك لم يكن ) فالمنفي هو المجموع . وفي رواية مسلم ( فقال لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل ) ولمسلم من طريق عطاء أن أبا سعيد لقي ابن عباس فذكر نحوه وفيه ( فقال كل ذلك لا أقول ) أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به ، وأما كتاب الله فلا أعلمه ) أي لا أعلم هذا الحكم فيه . وإنما قال لأبي سعيد أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتابة والسنة . قوله (لا ربا إلا في النسيئة ) في رواية مسلم (الربا في النسيئة ) وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس ( إنما الربا في النسيئة) زاد في رواية عطاء ( ألا إنما الربا) وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس (لا ربا فيما كان يدا بيد ) وروى مسلم من طريق أبي نضرة قال ( سألت ابن عباس عن الصرف فقال : أيدا بيد قلت: نعم قال: فلا بأس . فأخبرت أبا سعيد فقال : أو قال ذلك سنكتب إليه فلا يفتيكموه) وله من وجه آخر عن أبي نضرة ( سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا ، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال : ما زاد فهو ربا . فأنكرت ذلك لقولهما ، فذكر الحديث قال ( فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه) .
والصرف بفتح المهملة: دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه .
وله شرطان :
منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه ، ومن التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور . وخالف فيه ابن عمر ثم رجع وابن عباس واختلف في
رجوعه . وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية ( سألت أبا مجلز عن الصرف فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد . وكان يقول: إنما الربا في النسيئة ، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث وفيه : « التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل ، فمن زاد فهو ربا » (1) فقال ابن عباس : أستغفر الله وأتوب إليه . فكان ينهى عنه أشد النهي ) .
واتفق العلماء على صحة حديث أسامة . واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل منسوخ ، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وقيل المعنى في قوله (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره . وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم . فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم .
وقال الطبري : معنى حديث أسامة لا ربا إلا في النسيئة) إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد .
(تنبيه): وقع في نسخ الصغاني هنا (قال أبو عبد الله ) يعني البخاري ( سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة ، هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ، ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة) قلت : وهذا موافق . وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم ويوقفه على معنى قوله ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع ، ويحتج عليه بالأدلة وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن النسائي البيوع (4565),مسند أحمد بن حنبل (3/50).
باب بيع الورق بالذهب نسيئة :
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة قال أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصرف ، فكل واحد منهما يقول : هذا خير مني ، فكلاهما يقول : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا ) .
قوله (باب بيع الورق بالذهب نسيئة) البيع كله إما بالنقد أو ( بالعرض ) حالا أو مؤجلا ، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة ، أو بنقد غيره وهو الصرف . وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا ، وبيع العرض بالعرض يسمى مقايضة . والحلول في جميع ذلك جائز ، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز ، وإن كان العرض جاز ، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم ، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع ، والله أعلم .(3/11)
قوله (عن الصرف ) أي بيع الدراهم بالذهب أو عكسه وسمي به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه . وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان . وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال ( باع شريك لي دراهم أي بذهب- في السوق نسيئة . فقلت : سبحان الله أيصلح هذا ؟ فقال لقد بعتها في السوق فما عابه علي أحد . فسألت البراء بن عازب فذكره . قوله (هذا خير مني ) في رواية سفيان المذكورة " قال : فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة فسألته " فذكره .
وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان " فقال : صدق البراء " وقد تقدم في (باب التجارة في البر ) من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ : ( إن كان يدا بيد فلا بأس . وإن كان نسيئا فلا يصلح . وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع وإنصاف بعضهم
بعضا ، ومعرفة أحدهم حق الآخر ، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم ، وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى .
باب بيع الذهب بالورق يدا بيد :
حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا عباد بن العوام أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال : « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء ، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا » (1) .
قوله ( باب الذهب بالورق يدا بيد) ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب وليس فيه التقييد بالحلول . وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه : فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه ( فسأله رجل فقال : يدا بيد . . فقال : هكذا سمعت ، وأخرجه مسلم عن طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره : ( والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد) ، واشتراط القبض في الصرف متفق عليه ، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد . وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ : « فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم » (2) .
نصوص أخرى منه مع الشرح المذكور :
حدثني عمرو بن زرارة أخبرنا إسماعيل بن علية أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر العام والعامين ، أو قال
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2071),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4578),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
عامين أو ثلاثة - شك إسماعيل - فقال : من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم » (1) .
حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل عن ابن أبي نجيح بهذا . . « في كيل معلوم ووزن معلوم » (2) .
قوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم . كتاب السلم ، باب السلم في كيل معلوم ) كذا في رواية المستملي والبسملة متقدمة عنده ومتوسطة في رواية الكشميهني بين كتاب وباب ، وحذف النسفي كتاب السلم وأثبت الباب وأخر البسملة عنه . والسلم بفتحتين : السلف وزنا ومعنى ، وذكر الماوردي أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز - وقيل السلف تقديم رأس المال والسلم تسليمه في المجلس ، فالسلف أعم ، والسلم شرعا : بيع موصوف في الذمة ، ومن قيده بلفظ السلم زاده في الحد ، ومن زاد فيه ببدل يعطى عاجلا فيه نظر لأنه ليس داخلا في حقيقته ، واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب ، واختلفوا في بعض شروطه . واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع ، وعلى تسليم رأس المال في المجلس . واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا ؟
وقول المصنف (باب السلم في كيل معلوم ) أي فيما يكال ، واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل . إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق . ثم أورد حديث ابن عباس مرفوعا : « من أسلف في شيء » (3) الحديث عن طريق ابن علية . وفي الباب الذي بعده من طريق ابن عيينة كلاهما عن ابن أبي نجيح . وذكره بعد من طرق أخرى عنه ، ومداره على عبد الله بن كثير وقد اختلف فيه فجزم القابسي وعبد الغني والمزي بأنه المكي القارئ المشهور وجزم الكلاباذي وابن طاهر والدمياطي بأنه ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي . وكلاهما ثقة . والأول أرجح فإنه مقتضى صنيع المصنف في تاريخه .
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2124),صحيح مسلم المساقاة (1604),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/217),سنن الدارمي البيوع (2583).
(2) صحيح البخاري السلم (2124),صحيح مسلم المساقاة (1604),سنن الترمذي البيوع (1311),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/358),سنن الدارمي البيوع (2583).
(3) صحيح البخاري السلم (2126),مسند أحمد بن حنبل (1/222).
وأبو المنهال شيخه هو عبد الرحمن بن مطعم الذي تقدمت روايته قريبا عن البراء وزيد بن أرقم . قوله : (عامين أو ثلاثة شك إسماعيل ) يعني ابن علية ، ولم يشك سفيان فقال : ( وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث ، وقوله عامين وقوله السنتين منصوب إما على نزع الخافض أو على المصدر ، قوله ( من سلف في تمر) كذا لابن علية . بالتشديد . وفي رواية ابن عيينة (من أسلف في شيء ) وهي أشمل وقوله ( ووزن معلوم ) الواو بمعنى أو (والمراد اعتبار الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن .
قوله (حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل هو ابن علية ، واختلف في محمد فقال الجياني لم أره منسوبا وعندي أنه ابن سلام وبه جزم الكلاباذى ، زاد السفيانان ( إلى أجل معلوم) وسيأتي البحث فيه في بابه .
باب السلم في وزن معلوم :
حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث ، فقال : من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » (1) .
حدثنا علي حدثنا سفيان قال حدثني ابن أبي نجيح وقال: ( فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم ) .
حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عند عبد الله بن كثير عن أبي المنهال قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم . وقال: « في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » (2) .
حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي المجالد وحدثنا يحيى حدثنا وكيع عن شعبة عن محمد بن أبي المجالد حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2126),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/358),سنن الدارمي البيوع (2583).
(2) صحيح البخاري السلم (2126),صحيح مسلم المساقاة (1604),سنن الترمذي البيوع (1311),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/222),سنن الدارمي البيوع (2583).(3/12)
قال أخبرني محمد أو عبد الله بن أبي المجالد قال : ( اختلف عبد الله بن شداد بن الهاد وأبو بردة في السلف ، فبعثوني إلى ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - فسألته فقال : « إنا كنا نسلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر » (1) وسألت ابن أبزى فقال مثل ذلك .
قوله ( باب السلم في وزن معلوم ) أي فيما يوزن ، وكأنه يذهب إلى أن ما يوزن لا يسلم فيه مكيلا وبالعكس ، وهو أحد الوجهين ، والأصح عند الشافعية الجواز ، وحمله إمام الحرمين على ما يعد الكيل في مثله ضابطا ، واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر ، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة ، فإذا أطلق صرف إلى الأغلب ، وأورد فيه حديثين : أحدهما حديث ابن عباس الماضي في الباب قبله ، ذكره عن ثلاثة من مشايخه حدثوه به عن ابن عيينة . قال في الأولى : « من أسلف في شيء ففي كيل معلوم » (2) الحديث . وقال في الثانية : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم » (3) ولم يذكر الوزن وذكره في الثالثة . وصرح في الطريق الأولى بالإخبار بين ابن عيينة وابن أبي نجيح .
وقوله ( في شيء ) أخذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقا للعدد بالكيل والمخالف فيه الحنفية . وسيأتي القول بصحته عن الحسن بعد ثلاثة أبواب . ثانيهما حديث ابن أبي أوفى .
قوله ( عن ابن أبي المجالد ) كذا أبهمه أبو الوليد عن شعبة ، وسماه غيره عنه محمد بن أبي المجالد ، ومنهم من أورده على الشك محمدا وعبد الله ، وذكر البخاري الروايات الثلاث ، وأورده النسائي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن عبد الله ، وقال مرة ( محمد ) وقد أخرجه البخاري في الباب الذي يليه من رواية عبد الواحد بن زياد وجماعة عن أبي إسحاق الشيباني فقال ( عن محمد بن أبي المجالد ) ولم يشك في اسمه ، وكذلك ذكره البخاري في تاريخه في المحمدين ، وجزم
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2127),سنن النسائي البيوع (4615),سنن أبو داود البيوع (3464),سنن ابن ماجه التجارات (2282).
(2) صحيح البخاري السلم (2126),صحيح مسلم المساقاة (1604),سنن الترمذي البيوع (1311),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/358),سنن الدارمي البيوع (2583).
(3) صحيح البخاري السلم (2126).
أبو داود بأن اسمه عبد الله ، وكذا قال ابن حبان ، ووصفه بأنه كان صهر مجاهد ، وبأنه كوفي ثقة ، وكان مولى عبد الله بن أبي أوفى ، ووثقه أيضا يحيى بن معين وغيره ، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد .
قوله ( اختلف عبد الله بن شداد ) أي ابن الهاد الليثي ، وهو من صغار الصحابة ( وأبو بردة ) أي ابن أبي موسى الأشعري . قوله ( في السلف ) أي هل يجوز السلم إلى من ليس عنده المسلم فيه في تلك الحالة أم لا ؟ وقد ترجم له كذلك في الباب الذي يليه .
قوله ( وسألت ابن أبزى ) هو عبد الرحمن الخزامي أحد صغار الصحابة . ولأبيه أبزى صحبة على الراجح . وهو بالموحدة والزاي وزن أعلى ، ووجه إيراد هذا الحديث في باب السلم في وزن معلوم الإشارة إلى ما في بعض طرقه ، وهو في الباب الذي يليه بلفظ ( فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت ؛ لأن الزيت من جنس ما يوزن ، قال ابن بطال أجمعوا على أنه إن كان في السلم ما يكال أو يوزن ، فلا بد فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم ، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم . قلت : أو ذرع معلوم ، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما ، وهو عدم الجهالة بالمقدار ، ويجري في الذرع ما تقدم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذراع ؛ لأجل اختلافه في الأماكن . وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره ، وكأنه لم يذكر في الحديث ؛ لأنهم كانوا يعملون به ، وإنما تعرض لذكر ما كانوا يهملونه .
باب السلم إلى من ليس عنده أصل
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الشيباني ، حدثنا محمد بن أبي المجالد ، قال : ( بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي
أوفى - رضي الله عنهما - فقالا : سله هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون في الحنطة قال عبد الله : كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب في كيل معلوم إلى أجل معلوم ، قلت : إلى من كان أصله عنده ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك . ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى ، فسألته فقال : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ) .
حدثنا إسحاق ، حدثنا خالد بن عبد الله عن الشيباني ، عن محمد بن أبي مجالد بهذا وقال : ( فنسلفهم في الحنطة والشعير ) . وقال عبد الله بن الوليد عن سفيان ، حدثنا الشيباني وقال ( والزيت ) حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الشيباني وقال : ( في الحنطة والشعير والزبيب ) .
حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، أخبرنا عمرو قال سمعت أبا البختري الطائي قال : ( سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال : « نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يؤكل منه وحتى يوزن » (1) . فقال رجل : وأي شيء يوزن ؟ قال رجل إلى جانبه : حتى يحرز ، وقال معاذ : حدثنا شعبة عن عمرو ، قال أبو البختري : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم ) مثله .
قوله ( باب السلم إلى من ليس عنده أصل ) أي مما أسلم فيه ، وقيل المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه ، فأصل الحب مثلا الزرع ، وأصل الثمر مثلا الشجر . والغرض من الترجمة أن ذلك لا يشترط . وأورد المصنف حديث ابن أبي أوفى من طريق الشيباني ، فأورده أولا من طريق عبد الواحد ، وهو ابن زياد عنه ، فذكر الحنطة والشعير والزيت . ومن طريق خالد عن الشيباني ولم يذكر الزيت ، ومن طريق جرير عن الشيباني ، فقال الزبيب بدل الزيت ، ومن طريق سفيان عن الشيباني فقال - وذكره بعد ثلاثة
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2131),صحيح مسلم البيوع (1537),مسند أحمد بن حنبل (1/341).
أبواب من وجه آخر عن سفيان - كذلك . قوله ( نبيط أهل الشام ) في رواية سفيان ( أنباط من أنباط الشام ) ، وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم ، واختلطت أنسابهم ، وفسدت ألسنتهم ، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون البطائح بين العراقين ، والذين اختلطوا بالروم ينزلون في بوادي الشام ، ويقال لهم النبط بفتحتين ، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية ، والأنباط قيل سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء ؛ أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة .
قوله ( قلت إلى من كان أصله عنده ) أي المسلم فيه ، وسيأتي من طريق سفيان بلفظ ( قلت أكان لهم زرع أو لم يكن لهم ) قوله ( ما كنا نسألهم عن ذلك ) كأنه استفاد الحكم من عدم الاستفصال ، وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . قوله ( وقال عبد الله بن الوليد ) وهو العدني . وسفيان هو الثوري . وطريقه موصولة في ( جامع سفيان ) من طريق علي بن الحسن الهلالي عن عبد الله بن الوليد المذكور .(3/13)
واستدل بهذا الحديث على صحة المسلم إذا لم يذكر مكان القبض ، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وبه قال مالك وزاد : ويقبضه في مكان السلم ، فإن اختلفا فالقول قول البائع . وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي : لا يجوز السلم فيما له حمل ومؤنة ، إلا أن يشترط في تسليمه مكانا معلوما . واستدل به على جواز السلم فيما ليس موجودا في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول السلم ، وهو قول الجمهور ، ولا يضر انقطاعه قبل المحل وبعده عندهم . وقال أبو حنيفة : لا يصح فيما ينقطع قبله ، ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله ، لم ينفسخ البيع عند الجمهور . وفي وجه الشافعية ينفسخ ، واستدل به على جواز التفرق في السلم قبل القبض لكونه لم يذكر في الحديث ، وهو قول مالك إن كان بغير شرط ، وقال الشافعي
والكوفيون : يفسد بالافتراق قبل القبض ؛ لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين . وفي حديث ابن أبي أوفى جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم . ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة والاحتجاج بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلا برأسه لا يضره مخالفة أصل آخر .
ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي يليه ، وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ ، وأنه لا مدخل له في هذا الباب ، إذ لا ذكر للسلم فيه . وغفل عما وقع في السياق من قول الراوي إنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل ، وأجاب ابن المنير أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم ، وذلك أن ابن عباس لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح ، فإذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز تعين جوازه في غير المعين للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه ؛ لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوي أي السلف لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها ، فكأنها موصوفة في الذمة .
قوله ( أخبرنا عمرو ) في رواية مسلم ( عمرو بن مرة ) وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة . قوله ( فقال رجل ما يوزن ) لم أقف على اسمه ، وزعم الكرماني أنه أبو البختري نفسه ؛ لقوله في بعض طرقه ( فقال له الرجل ) بالتعريف .
قوله ( فقال له رجل إلى جانبه ) لم أقف على اسمه ، وقوله ( حتى يحرز ) بتقديم الراء على الزاي أي يحفظ ويصان ، وفي رواية الكشميهني بتقديم الزاي على الراء ، أي يوزن ، أو يخرص ، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك ، وصوب عياض الأول ، ولكن الثاني أليق بذكر الوزن ، ورأيته في رواية النسفي ( حتى يحرر ) براءين الأولى ثقيلة ، ولكنه رواه بالشك . قوله ( وقال معاذ حدثنا شعبة ) وصله الإسماعيلي عن يحيى بن محمد عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به .
باب السلم في النخل :
حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن عمرو ، عن أبي البختري قال ( سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال : نهى عن بيع النخل حتى يصلح ، وعن بيع الورق نساء بناجز ، وسألت ابن عباس عن السلم في النخل فقال : « نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يؤكل منه ، أو يأكل منه حتى يوزن » (1) .
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي البختري ( سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال : « نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يصلح ، ونهى عن الورق بالذهب نساء بناجز » (2) . وسألت ابن عباس « فقال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل ، وحتى يوزن . قلت : وما يوزن ؟ قال رجل عنده : حتى يحزر » (3) .
قوله ( باب السلم في النخل ) أي في ثمر النخل . قوله ( فقال ) أي ابن عمر ( نهى عن بيع النخل حتى يصلح ) أي نهى عن بيع ثمر النخل . واتفقت الروايات في هذا الموضع على أنه نهي على البناء للمجهول ، واختلف في الرواية الثانية ، وهي رواية غندر : فعند أبي ذر وأبي الوقت فقال : نهى عمر عن بيع الثمر الحديث ، وفي رواية غيرهما ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم ) واقتصر مسلم على حديث ابن عباس . قوله ( وعن بيع الورق ) أي بالذهب كما في الرواية الثانية . قوله ( نساء ) بفتح النون والمهملة والمد أي تأخيرا . تقول نسأت الدين أي أخرته نساء أي تأخيرا ، وسيأتي البحث في اشتراط الأجل في السلم في الباب الذي يليه . وحديث ابن عمر إن صح فمحمول على السلم الحال عند من يقول به أو ما قرب أجله . واستدل به على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين ، لكن بعد بدو صلاحه وهو قول المالكية . وقد
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1537),مسند أحمد بن حنبل (1/341).
(2) صحيح البخاري السلم (2132).
(3) صحيح البخاري السلم (2130),صحيح مسلم البيوع (1537),مسند أحمد بن حنبل (1/341).
روى أبو داود وابن ماجه من طريق النجراني عن ابن عمر قال : « لا يسلم في نخل قبل أن يطلع ، فإن رجلا أسلم في حديقة نخل قبل أن تطلع ، فلم تطلع ذلك العام شيئا ، فقال المشتري : هو لي حتى تطلع ، وقال البائع إنما بعتك هذه السنة ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : اردد عليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه » (1) وهذا الحديث فيه ضعف ، ونقل ابن المنذر اتفاق الأكثر على منع السلم في بستان معين ؛ لأنه غرر ، وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السلم الحال ، وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون ، « أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان . قال لا أبيعك من حائط مسمى بل أبيعك أوسقا مسماة إلى أجل مسمى » .
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2284).
باب الكفيل في السلم :
حدثني محمد بن سلام ، حدثنا يعلى ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت « ( اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما من يهودي بنسيئة ورهنه درعا له من حديد ) » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2133),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4650),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).
باب الرهن في السلم :
حدثني محمد بن محبوب ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش قال : ( تذاكرنا عند إبراهيم الرهن في السلف ، فقال ( حدثني الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم وارتهن منه درعا من حديد » (1) .
قوله ( باب الكفيل في السلم ) أورد فيه حديث عائشة « اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد ، » (2) ثم ترجم له باب الرهن .
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2134),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4650),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).
(2) صحيح البخاري البيوع (1962),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4650),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).(3/14)
في السلم وهو ظاهر فيه ، وأما الكفيل فقال الإسماعيلي : ليس في هذا الحديث ما ترجم به ، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن ؛ لأنه حق ثبت الرهن به ، فيجوز أخذ الكفيل فيه . قلت : هذا الاستنباط بعينه سبق إليه إبراهيم النخعي راوي الحديث . وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة ، فسيأتي في الرهن ( عن مسدد ، عن عبد الواحد عن الأعمش قال : تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف ، فذكر إبراهيم هذا الحديث ) فوضح أنه هو المستنبط لذلك . وأن البخاري أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث على عادته ، وفي الحديث الرد على من قال إن الرهن في السلم لا يجوز ، وقد أخرج الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش أن رجلا قال لإبراهيم النخعي إن سعيد بن جبير يقول : إن الرهن في السلم هو الربا المضمون ، فرد عليه إبراهيم بهذا الحديث ، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى . قال الموفق : رويت كراهة ذلك عن ابن عمر ، والحسن ، والأوزاعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، ورخص فيه الباقون ، والحجة فيه قوله تعالى : { إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (1) إلى أن قال : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (2) واللفظ عام ، فيدخل السلم في عمومه ، لأنه أحد نوعي البيع ، واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد : « من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره » (3) وجه الدلالة منه أنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان ، فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه ، وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رفعه : « من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه » (4) وإسناده ضعيف ، ولو صح فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد . والله أعلم .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
(4) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
باب السلم إلى أجل معلوم :
وبه قال ابن عباس ، وأبو سعيد ، والحسن ، والأسود .
قال ابن عمر : لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه .
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح ، عن عبد الله بن كثير ، عن أبي المنهال ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال « قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال : أسلفوا في الثمار في كيل معلوم إلى أجل معلوم » (1) . وقال عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان ، حدثنا ابن أبي نجيح ، وقال ( في كيل معلوم ووزن معلوم ) .
حدثنا محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا سفيان عن سليمان الشيباني ، عن محمد بن أبي مجالد ، قال ( أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا : كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى . قال : قلت : أكان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع ؟ قالا : ما كنا نسألهم من ذلك ) .
قوله ( باب السلم إلى أجل معلوم ) يشير إلى الرد على من أجاز السلم الحال ، وهو قول الشافعية ، وذهب الأكثر إلى المنع ، وحمل من أجاز الأمر في قوله ( إلى أجل معلوم ) على العلم بالأجل فقط ، فالتقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول . وأما السلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى لأنه إذا جاز مع الأجل وفيه الغرر فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر . وتعقب بالكتابة وأجيب بالفرق : لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا . قوله ( وبه قال ابن عباس ) أي باختصاص السلم بالأجل ، وقوله ( وأبو سعيد ) هو الخدري والحسن ( أي البصري ) والأسود ( أي ابن يزيد النخعي ) فأما قول ابن عباس فوصله الشافعي من طريق ابن حسان الأعرج ، عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون إلى
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2135),سنن النسائي البيوع (4616),سنن أبو داود البيوع (3463),سنن ابن ماجه التجارات (2280),مسند أحمد بن حنبل (1/358),سنن الدارمي البيوع (2583).
أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (1) وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصححه ، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا . ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بلفظ آخر سيأتي . وأما قول أبي سعيد فوصله عبد الرزاق من طريق نبيح بنون وموحدة ومهملة مصغر ، وهو العنزي بفتح المهملة والنون ثم الزاي ، الكوفي عن أبي سعيد الخدري قال : ( السلم بما يقوم به السعر ربا ، ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم ) . وأما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عنه ( أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان ، إذا كان شيئا معلوما إلى أجل معلوم ) . وأما قول الأسود فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق عنه ، قال : ( سألته عن السلم في الطعام فقال : لا بأس به . كيل معلوم إلى أجل معلوم ) . ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال : ( إذا سميت في السلم قفيزا وأجلا فلا بأس ) وعن شريك عن أبي إسحاق عن الأسود مثله . واستدل بقول ابن عباس الماضي ( لا تسلف إلى العطاء ) لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيء لا يختلف ، فإن زمن الحصاد يختلف ولو بيوم ، وكذلك خروج العطاء ، ومثله قدوم الحاج ، وأجاز ذلك مالك ، ووافقه أبو ثور ، واختار ابن خزيمة من الشافعية تأقيته إلى الميسرة ، واحتج بحديث عائشة : « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي : ابعث لي ثوبين إلى الميسرة ، » (2) وأخرجه النسائي ، وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه ، والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب ؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء ، فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه ، ولذلك لم يصف الثوبين .
قوله : ( وقال ابن عمر : لا بأس في
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سنن الترمذي البيوع (1213),سنن النسائي البيوع (4628),مسند أحمد بن حنبل (6/147).
الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ، ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه ) وصله مالك في ( الموطأ ) عن نافع عنه قال : ( لا بأس أن يسلف الرجل في الطعام الموصوف ) فذكر مثله وزاد ( أو ثمرة لم يبد صلاحها ) وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر ، عن نافع نحوه ، وقد مضى حديث ابن عمر في ذلك مرفوعا في الباب الذي قبله ، ثم أورد المصنف حديث ابن عباس المذكور في أول أبواب السلم .
قوله : ( وقال عبد الله بن الوليد : حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي نجيح ) هو موصول في ( جامع سفيان ) من طريق عبد الله بن الوليد المذكور ، وهو العدني عنه ، وأراد المصنف بهذا التعليق بيان التحديث ؛ لأن الذي قبله مذكور بالعنعنة . ثم أورد حديث ابن أبي أوفى ، وابن أبزى ، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى عن قريب .
باب السلم إلى أن تنتج الناقة :
حدثني موسى بن إسماعيل ، أخبرنا جويرية عن نافع عن عبد الله - رضي الله عنه - قال : « كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه » (1) فسره نافع : إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها .(3/15)
قوله ( باب السلم إلى أن تنتج الناقة ) أورد فيه حديث ابن عمر في النهي عن بيع حبل الحبلة ، وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع . ويؤخذ منه ترك جواز السلم إلى أجل غير معلوم ، ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة . خلافا لمالك ورواية عن أحمد .
( خاتمة ) اشتمل كتاب السلم على أحد وثلاثين حديثا . المعلق منها أربعة ، والبقية موصولة ، الخالص منها خمسة أحاديث ، والبقية مكررة ، وافقه مسلم على تخريج حديثي ابن عباس خاصة . وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار .
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2137),صحيح مسلم البيوع (1514),مسند أحمد بن حنبل (2/144).
( ب ) أحاديث من منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية معها شرحها من نيل الأوطار للشوكاني :
عن ابن مسعود « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا ، ومؤكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، » (1) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، غير أن لفظ النسائي : « آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة » (2) .
( وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشد من ست وثلاثين زنية » (3) رواه أحمد ) .
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان ، والحاكم ، وصححاه ، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، هم سواء » (4) وفي الباب عن علي - عليه السلام - عن النسائي ، وعن أبي جحيفة تقدم في أول البيع . وحديث عبد الله بن حنظلة وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير ، قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد رجال الصحيح . ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ : « الربا اثنان وستون بابا ، أدناها مثل إتيان الرجل أمه » (5) وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ : « الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه » (6) وأخرج ابن جرير عنه نحوه ، وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا . وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم ، وصححه بلفظ : « الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم » (7) .
( قوله : آكل الربا ) بمد الهمزة ، ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا : أي ولعن مطعمه غيره ، وسمى آخذ المال آكلا ودافعه مؤكلا ؛ لأن المقصود منه الأكل ، وهو أعظم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535).
(2) سنن النسائي الزينة (5102),مسند أحمد بن حنبل (1/465).
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/225).
(4) سنن النسائي الزينة (5103),مسند أحمد بن حنبل (1/83).
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
منافعه وسببه إتلاف أكثر الأشياء .
( قوله : وشاهديه ) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي ( وشاهديه أو شاهده ) ( قوله : وكاتبه ) فيه دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك ، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم ، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد .
ومن جملة ما يدل على تحريم كتابة الربا وشهادته وتحليل الشهادة والكتابة في غيره قوله تعالى : { إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (1) وقوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } (2) فأمر بالكتابة والإشهاد فيما أحله وفهم منه تحريمها فيما حرمه .
( قوله : أشد من ست وثلاثين . . . إلخ ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي ؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها ، لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح . وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم . ولهذا جعلها الشارع أربى الربا . وبعد الرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ، ولا تزيد في ماله ولا جاهه ، فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية . هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل ، نسأل الله تعالى السلامة ، آمين آمين .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282
=================
نقول عن بعض علماء المذاهب الأربعة في حكم الربا بدار الحرب وسؤال وجواب لرشيد رضا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 44 / ص 47)
4 - نقول عن بعض علماء المذاهب الأربعة في حكم الربا بدار الحرب مع الأدلة والمناقشة منهم ، وسؤال وجواب من محمد رشيد رضا .
أ - قال الكاساني :
وأما شرائط جريان الربا فمنها أن يكون البدلان معصومين ، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا ، وعند أبي يوسف : هذا ليس بشرط ويتحقق الربا .
وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة ، في حكم الإسلام : أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف : لا يجوز .
وجه قول أبي يوسف أن حرمة الربا ؛ كما هي ثابتة في حق المسلمين ، فهي ثابتة في حق الكفار ؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال ، فاشتراطه في البيع يوجب فساده ؛ كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام .
ولهما : أن مال الحربي ليس بمعصوم ، بل هو مباح في نفسه إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه لما فيه من الغدر والخيانة ، فإذا بدله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى ، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك ، وأنه مشروع مفيد للملك ، كالاستيلاء على الحطب والحشيش ، وبه تبين أن العقد ههنا ليس بتملك ، بل هو تحصيل شرط التملك ، وهو الرضا ؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه ، وما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكا ، لكنه إذا زال ، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد فلا يتحقق الربا ؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد بخلاف المسلم إذا باع حربيا دخل دار الإسلام بأمان ؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان ، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء ، فتعين التملك فيه بالعقد ، وشرط الربا في العقد مفسد ، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين ، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا ؛ لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة ، وما يبطل أو يفسد من بيوعهم إلا الخمر والخنزير على ما نذكر إن شاء الله تعالى .
ومنها : أن يكون البدلان متقومين شرعا ، وهو أن يكونا مضمونين حقا للعبد ، لا يجري فيه الربا .
وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهما بدرهمين ، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام ، أنه يجوز عند أبي حنيفة ، وعندهما : لا يجوز ؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده حتى لا يضمن نفسه بالقصاص ولا بالدية عنده ، وكذا ماله لا يضمن بالإتلاف ؛ لأنه تابع للنفس ، وعندهما نفسه وماله معصومان متقومان ، والمسألة تأتي في كتاب السير .
ولو دخل مسلمان دار الحرب فتبايعا درهما بدرهمين أو غيره من البيوع الفاسدة في دار الإسلام ، لا يحوز ؛ لأن كل واحد منهما معصوم متقوم فكان التملك بالعقد ، فيفسد بالشرط الفاسد .(3/16)
ولو أسلم الحربي الذي بايع المسلم ودخل دار الإسلام ، أو أسلم أهل الدار : فما كان من ربا مقبوض أو بيع فاسد مقبوض فهو جائز ماض ، وما كان غير مقبوض يبطل ؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) ، أمرهم سبحانه وتعالى بترك ما بقي من الربا ، والأمر بترك ما بقي من الربا نهي عن قبضه ، فكأنه تعالى قال : اتركوا قبضه ، فيقتضي حرمة القبض .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل ربا في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي » (2) . والوضع : عبارة عن الحط والإسقاط ، وذلك فيما لم يقبض ، ولأن بالإسلام حرم ابتداء العقد فكذا القبض بحكم العقد ؛ لأنه تقرير العقد وتأكيده ، فيشبه العقد فيلحق به ؛ إذ هو عقد من وجه فيلحق بالثابت من
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),سنن الدارمي المناسك (1850).
كل وجه في باب الحرمات احتياطا ، ومتى حرم القبض لم يكن في بقاء العقد فائدة .
ومنها : أن لا يكون البدلان ملكا لأحد المتبايعين ، فإن كان لا يجري الربا ، وعلى هذا يخرج العبد المأذون إذا باع مولاه درهما بدرهمين ، وليس عليه دين أنه يجوز ؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين فما في يده لمولاه ، فكان البدلان ملك المولى ، فلا يكون هذا بيعا ، فلا يتحقق الربا ؛ إذ هو مختص بالبياعات .
وكذلك المتعاوضان إذا تبايعا درهما بدرهمين يجوز ؛ لأن البدل من كل واحد منهما مشترك بينهما ، فكان مبادلة ماله بماله ، فلا يكون بيعا ولا مبادلة حقيقة . وكذلك الشريكان ، شركة العنان إذا تبايعا درهما بدرهمين من مال الشركة جاز لما قلنا .
ولو تبايعا من غير مال الشركة لا يجوز ؛ لأنهما في غير مال الشركة أجنبيان . ولو كان على العبد المأذون دين فباعه مولاه درهما بدرهمين لا يجوز بالإجماع . أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر ؛ لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عندهم فلم يجتمع البدلان في ملك واحد ، وعندهما وإن كان يملك لكن ملكا محجورا عن التصرف فيه ؛ لتعلق حق الغرماء به ، فكان المولى كالأجنبي عنه . وكذلك المولى إن عاقد مكاتبه عقد الربا لم يجز ؛ لأن المكاتب في حق الاكتساب ملحق بالأحرار ؛ لانقطاع تصرف المولى عنه فأشبه الأجانب .
وأما إسلام المتبايعين ، فليس بشرط لجريان الربا ، فيجري الربا بين أهل الذمة ، وبين المسلم والذمي ؛ لأن حرمة الربا ثابتة في جهنم ؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا . قال الله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } (1) .
وروي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر : إما أن تذروا الربا ، أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله » . وهذا في نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة ، والله سبحانه وتعالى أعلم (2) .
ب - قال : ( ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب )
خلافا لأبي يوسف رحمه الله ، والشافعي رحمه الله : لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا ، ولنا : قوله عليه الصلاة والسلام : « لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب » ، ولأن مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه المسلم ، أخذ مالا مباحا إذا لم يكن منه غدر بخلاف المستأمن منهم ؛ لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان .
( قال ) أي القدوري في مختصره : ( ولا ربا بين المولى وعبده ؛ لأن العبد وما في يده ملك مولاه فلا يتحقق الربا وهكذا ) أي : عدم كون الربا بين المولى وعبده ( إذا كان ) أي : العبد ( مأذونا له ) في التجارة ولم يكن عليه دين ، أما إذا كان عليه دين لا يجوز بالاتفاق ؛ لأن ما في يده ليس ملك
__________
(1) سورة النساء الآية 161
(2) بدائع الصنائع 3127 .
المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ( تعلق به ) أي بما في العبد ( حق الغرماء فصار ) أي : العبد ( كأجنبي ) من مولاه ( فيتحقق الربا كما يتحقق ) أي : الربا ( بينه ) أي : بين المولى ( وبين مكاتبه ) ؛ لأن المكاتب صار كالحر يدا ، أو تصرفا في كسبه ، الربا بينه وبين مولاه ؛ كما يجري بينه وبين غيره .
( قال ) أي القدوري رحمة الله : ( ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب ) أي : ولا ربا أيضا بين المسلم الذي دخل دار الحرب بأمان وباع درهما بدرهمين ، وكذا إذا باع خمرا ، أو خنزيرا ، أو ميتة ، أو قامرهم ، وأخذ المال كل ذلك يحل له إذا كان في دار الحرب ، عند أبي حنيفة ، ومحمد ، ( خلافا لأبي يوسف ، والشافعي ، رضي الله عنهما ) ومالك وأحمد .
( لهما ) أي : لأبي يوسف والشافعي : ( الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا ) يعني : المستأمن من أهل الحرب الذي دخل دارنا بأمان تجري الربا بينه وبين المسلم ، فكذلك بجامع تحقق الفضل الحالي عن العرض المستحق بعقد البيع .
( ولنا قوله عليه الصلاة والسلام ) أي قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب » ، هذا حديث غريب ليس له أصل مسند ، وقال الكاكي : ( ولنا الحديث المذكور في المتن ) . وفي المبسوط عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا ربا بين المسلم . . . » الحديث . وهذا الحديث وإن كان مرسلا فمكحول ثقة ، والمرسل من مثله مقبول ، وقال الأكمل : ( ولأبي حنيفة ، ومحمد رحمه الله ما روى مكحول . . . ) إلى آخره ، ثم قال : ( ذكره محمد بن الحسن وذكره الأترازي كذا ) ، ثم قال : ( كذا في شرح أبي نضر ) قلت : أسند البيهقي في المعرفة في كتاب السير عن الشافعي رضي الله عنه قال : قال أبو يوسف رحمه الله : ( إنما قال أبو حنيفة رضي الله عنه هذا ؛ لأن بعض النسخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا ربا بين أهل الحرب » أظنه قال : « وأهل الإسلام » . قال الشافعي رضي الله عنه : ( هذا ليس بثابت ولا حجة فيه ) . انتهى .
قلت : لا نسلم عدم ثبوته ؛ لأن جلالة قدر الإمام لا تقتضي أن يجعل لنفسه مذهبا من غير دليل واضح ، وأما قوله : ( ولا حجة فيه ) فبالنسبة إليه ، لأن مذهبه عدم العمل بالمرسلات ، إلا مرسل سعيد بن المسيب ، والمرسل عندنا حجة على ما عرف في موضعه ، والله أعلم .
( ولأن مالهم ) أي : مال أهل الحرب ( مباح في دارهم ) ؛ لأنه غير معصوم ، أي : في أخذه ( غدر ) ؛ لأن الغدر حرام ( بخلاف المستأمن منهم ) ، هذا جواب عن قياس أبي يوسف والشافعي رضي الله عنهما تقريره ما قاله بقوله : ( لأن ماله ) أي : من المستأمن ( صار محظورا ) أي : ممنوعا أخذه ( بعقد الأمان ) ، ولهذا لا يحل تناوله بعد انقضاء المدة ، وفي الحجى في الكناية : مستأمن هنا باشر مسلما أو ذميا في دارهم أو من أسلم هناك شيئا من العقود التي لا تجوز فيما بيننا ؛ كالربويات ، وبيع الميتة ، جاز عندهما .
خلافا لأبي يوسف والأئمة الثلاثة ، والله أعلم .
جـ - قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار والتعليق عليه رد المحتار :
( ولا بين حربي ومسلم مستأمن ) ولو بعقد فاسد أو قمار ( ثمة ) ؛ لأن ماله ثمة مباح ، فيحل برضاه مطلقا بلا عذر خلافا للثاني . والثلاثة ( و ) حكم ( من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي ) فللمسلم الربا معه خلافا لهما ؛ لأن ماله غير معصوم فلو هاجر إلينا ، ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقا جوهرة :(3/17)
قلت : ومنه يعلم حكم من أسلما ثمة ولم يهاجرا .
الزائد بلا عوض ، وهو عين الربا تأمل ( قوله : ولا بين حربي ومسلم مستأمن ) احترز بالحربي عن المسلم الأصلي والذمي ، وكذا عن المسلم الحربي إذا هاجر إلينا ، ثم عاد إليهم ، فأنه ليس للمسلم أن يرابي معه اتفاقا ؛ كما يذكره الشارح ، ووقع في البحر هنا غلط حيث قال : وفي المجتبى مستأمن منا باشر مع رجل ، مسلما كان أو ذميا في دارهم ، أو من أسلم هناك شيئا من العقود التي لا تجوز فيما بيننا ؛ كالربويات وبيع الميتة جاز عندهما ، خلافا لأبي يوسف فإن مدلوله جواز الربا بين مسلم أصلي مع مثله أو مع ذمي هنا ، وهو غير صحيح ؛ لما علمته من مسألة المسلم الحربي ، والذي رأيته في المجتبى هكذا مستأمن من أهل دارنا ، مسلما كان أو ذميا في دارهم ، أو من أسلم هناك باشر معهم من العقود التي لا تجوز إلخ . وهي عبارة صحيحة فما في البحر تحريف فتنبه قوله : ( ومسلم مستأمن ) مثله الأسير لكن له أخذ مالهم ولو بلا رضاهم ؛ كما مر في الجهاد ، قوله : ( ولو بعقد فاسد ) أي ولو كان الربا بسبب عقد فاسد من غير الأموال الربوية كبيع بشرط ؛ كما حققناه فيما مر ، وأعم منه عبارة المجتبى المذكورة ، وكذا قول الزيلعي ، وكذا إذا تبايعا فيها بيعا فاسدا ، قوله : ( ثمة ) أي في دار الحرب قيد به ؛ لأنه لو دخل دارنا بأمان فباع منه مسلم درهما بدرهمين ، لا يجوز اتفاقا عن مسكين . قوله : ( لأن ماله ثمة مباح ) قال في فتح القدير : لا يخفى أن هذا التحليل إنما يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم ، والربا أهم من ذلك إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان أي في بيع درهم بدرهمين من جهة المسلم ومن جهة الكافر . وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين ، وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له ، فالظاهر أن الإباحة بقيد نيل المسلم الزيادة ، وقد ألزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة نظرا إلى العلة ، وإن كان إطلاق الجواب خلافه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . اهـ .
قلت : ويدل على ذلك ما في السير الكبير وشرحه قال : وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان ، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموآله م بطيب أنفسهم بأي وجه كان ؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عري عن الغدر فيكون ذلك طيبا له ، والأسير والمستأمن سواء ، حتى لو باعهم درهما بدرهمين أو باعهم ميتة بدارهم ، أو أخذ مالا منهم بطريق القمار فذلك كله طيب له . اهـ ملخصا .
فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموآله م برضاهم ، فعلم أن المراد من الربا والقمار في كلامهم ما كان على هذا الوجه ، أي ولو بعقد فاسد . قوله : ( بلا عذر ) ؛ لأنه لما دخل دارهم بأمان ، فقد التزم أن لا يغدرهم ، وهذا القيد لزيادة الإيضاح ؛ لأن ما أخذه برضاهم لا غدر فيه . قوله : ( خلافا للثاني ) أي أبي يوسف ، وخلافه في المستأمن دون الأسير . قوله : ( والثلاثة ) أي الأئمة الثلاثة . قوله : ( لأن ماله غير معصوم ) العصمة الحفظ والمنع ، وقال في الشرنبلالية : لعله أراد بالعصمة التقوم أي لا تقوم له ، فلا يضمن بالإتلاف ؛ لما قال في البدائع معللا لأبي حنيفة ؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة ، فالتقوم ليس بثابت عنده حتى لا يضمن بالإتلاف ، وعندهما نفسه وماله معصومان متقومان . اهـ .
قوله : ( فلا ربا اتفاقا ) أي لا يجوز الربا معه فهو نفي بمعنى النهي ؛ كما في قوله تعالى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } (1) فافهم . قوله : ( ومنه يعلم . . . ) إلخ . أي يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثمة ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضا ؛ كما في النهر عن الكرماني ، وهذا يعلم بالأولى . قوله : ( إلا في هذه الست مسائل ) أولها السيد مع عبده وآخرها من أسلما
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
ولم يهاجرا ، وحقه أن يقول المسائل بالتعريف ، والله سبحانه أعلم (1) .
د - جاء في المدونة الكبرى ما نصه في الربا بين المسلم والحربي وبيع المجوسي من النصراني :
قلت : هل سمعت مالكا يقول : بين المسلم إذا دخل بلاد الحرب وبين الحربي ربا ؟ ( قال ) : لم أسمع من مالك شيئا ، ولا أرى للمسلم أن يعمد لذلك (2) .
وفي مقدمات ابن رشد : ( فصل ) فإن فات البيع ، فليس له إلا رأس ماله قبض الربا أو لم يقبضه ، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه ، وكذلك من أربى ، ثم تاب ، فليس له إلا رأس ماله ، قبض الربا أو لم يقبضه ، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه ، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله ، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه ، فإن لم يعلمه تصدق به عنه ؛ لقول الله عز وجل : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (3) الآية ، وأما من أسلم ، وله ربا فإن كان قبضه فهو له ؛ لقول الله عز وجل : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (4) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من أسلم على شيء فهو له » ، وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه ، وهو موضوع عن الذي هو عليه ولا خلاف في هذا أعلمه ؛ لقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (5) . نزلت هذه
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 186 .
(2) المدونة الكبرى للإمام مالك وبهامشه مقدمات ابن رشيد - الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية 3 \ 79 .
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 278
الآية في قوم أسلموا ، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم ، وكانوا قد اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه ، وقيل : نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما من الربا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في يوم عرفة في حجة الوداع : « ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب » (1) .
( فصل ) وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ؛ لأن مكة كانت دار حرب ، وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما ، إما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي ، فقال له : إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : « أما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، فافد نفسك » (2) أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي عليه الصلاة والسلام بالرسالة وتصديقه ما وعده به . وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة ، وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده ، وقال : الذهب بالذهب وزنا بوزن » (3) . فلما لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/353).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19).(3/18)
من رباه بعد إسلامه ؛ إما من قبل بدر وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة ، وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه ، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا ، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر ، هو ما روى أنس بن مالك أنه قال للنبي عليه الصلاة السلام حين فتح خيبر : إن لي بمكة أهلا ، وقد أردت أن آتيهم فإن أذنت لي أن أقول فعلت ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا وأني جئت لأخذ مالي فأبتاع من غنائمهم ، ففرح بذلك المشركون ، واختفى من كان بها من المسلمين ، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له : ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به ، فقال له : اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له : ليخل لي بيتا فإن الخبر على ما يسر ، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه ، ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلى به في بعض بيوته ، وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين ، واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه ، وأن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء فيستخرج ماله ، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج ففعل ، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ، ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين ، والحمد لله رب العالمين . نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله ، وبالله التوفيق .
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام : « أيما دار قسمت في الجاهلية فهو على قسم الجاهلية » (1) الحديث . وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم ، وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه ، فقال أشهب والمخزومي : ( هو له حلال بمنزلة ما لو كان قبضه ) ، وقال ابن دينار وابن أبي حازم : ( يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا ) ، وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب والمخزومي (2) .
هـ - قال النووي : ( فرع الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام ) . وبه قال مالك ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وعن أبي حنيفة : أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين ، فأما بين الحربيين وبين مسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا ، وقال : ( إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما ) . فالاعتبار عنده بالدار ، وعندهما الاعتبار بالعاقد ، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام من الذمي لم يفسخ ، كذا قال القفال في شرح التلخيص قال : ( وهكذا سائر البياعات الفاسدة ) . والله أعلم .
واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بحديث مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب » ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد ، فالعقد أولى ، ودليلنا عموم الأدلة المحرمة للربا ؛ لأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك ، كسائر الفواحش
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465).
(2) المدونة الكبرى - للإمام مالك ، ومعها كتاب المقدمات لابن رشد - الطبعة الأولى سنة 1324هـ بالمطبعة الخيرية ج 3 حاشية ص ( 23 - 39 ) .
والمعاصي ، ولأنه عقد فاسد يستباح به المعقود عليه كالنكاح .
قلت : وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده ، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى مكحول ، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي ؛ كما بين المسلمين ، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومات ، وأما استباحة أموآله م إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة ، فكذا بعقد فاسد ، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال ؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ، ولا يستباح بعقد فاسد ، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد ، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد .
ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة ، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : « وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب » (1) ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة ، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم .
والجواب : أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه ، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا ، ولو
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
سلم استمراره عليه لم يكن فيه حجة ؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ (1) .
وسئل هل يجوز للمسلم أخذ الربا من الحربي ويقرر عليه في المعاملات وبالتطفيف وغيره ، وما المراد من الحربي وما علامته ؟ ( فأجاب ) بأن الذي صرح به أئمتنا أن العقد مع الحربي بالاختيار كهو مع المسلم ، فلا بد من حل ما أخذه المسلم منه بعقد أن توجد جميع شروط البيع فيه ، وإلا لم يحل له أكله ولا التصرف فيه فعلم أنه لا يجوز أخذ الربا منه ولا التطفيف في كيل أو وزن ، ومن فعل ذلك عزر عليه التعزير الشديد ، والمراد بالحربي : الكافر الذي ليس له أمان بنحو عقد جزية أو تأمين مسلم بشروطها المعروفة في كتب الفقه (2) .
و - ( فصل ) ويحرم الربا في دار الحرب ، كتحريمه في دار الإسلام .
وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، والشافعي ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : ( لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب ) . وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب : ( لا ربا بينهما ) ؛ لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب » ، ولأن أموآله م مباحة ، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام ، فما لم يكن كذلك كان مباحا .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 10 \ 438 .
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية 2 \ 238 .(3/19)
ولنا قول الله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) وقوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (2) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (3) ، وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل . وقوله « من زاد أو ازداد فقد أربى » (4) عام . وكذلك سائر الأحاديث . ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب ، كالربا بين المسلمين ، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته ، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك ، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن ، وتظاهرت به السنة ، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول ، لم يرد في صحيح ، ولا مسند ، ولا كتاب موثوق به ، وهو مع ذلك مرسل محتمل . ويحتمل أن المراد بقوله : لا ربا النهي عن الربا ، كقوله : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (5) ، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام ، فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان ، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل ، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (6) .
ز - أموال أهل الحرب :
من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق ببيتبزرغ - جاوا : محمد بن
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
(5) سورة البقرة الآية 197
(6) المغني 4 \ 39 .
محمد سعيد الفتة . بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله وحده .
ما قول السيد البار بالمسلمين ، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين ، في فتوى بعض العلماء : بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم ، فهو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح ؟ !
أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله ، والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل ؟ الشرك والكفر بغير إكراه ، والقتل عمدا ، وفي القصاص ( كذا ) والسرقة والربا ونحو ذلك ، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر ، وتأجيل بعض العبادات لعذر ؛ كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان ، عدا ما استثناه منهما ؛ كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله المؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطؤ ! ! أفتونا بما أمر الله به أن يوصل ؟
ج - أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وإحرازه بأي صفة كان الإحراز ، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة ، فقالوا : إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال ، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة ، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه ، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم ؟
إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة ، وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة ؛ إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده .
هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام ، وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها ، هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل ، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره ليس من أكله بالباطل ، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطي الزيادة برضاه واختياره ، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما ؛ لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل ، ولذلك عللت في نص القرآن بأنها ظلم ؛ إذ قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) ، وظلم الحربي غير محرم ؛ لأنه جزاء على ظلمه ، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم ؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون ، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب ، ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها ؛ كقتل غير المقاتلين والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام ، ونرى غير المسلمين يرتكبونه ، حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم .
على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ منه إذا كان بمحض اختياره ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره ؛ كما في الصحيحين . ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا . قال أبو هريرة كما في البخاري : « إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له ، فهم به أصحابه ، فقال : دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالا ، واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه فقالوا : لا نجد إلا أفضل من سنه ، فقال : اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء » (1) . وما رواه الحارث عن علي : « كل قرض جر منفعة فهو ربا » فسنده ضعيف ، بل قالوا : إنه ساقط ، فإن راويه سوار بن مصعب متروك يروي المنكر ، بل اتهم برواية الموضوعات .
لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه : إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى . فقد كتب إلينا : إن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها ؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي ؛ كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقا . وهذا سوء فهم منهم ، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا ؛ كما تقدم . ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق ، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2260),صحيح مسلم المساقاة (1601),سنن الترمذي البيوع (1316),سنن النسائي البيوع (4618),سنن ابن ماجه الأحكام (2423),مسند أحمد بن حنبل (2/456).
إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد ؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها عدم إقامة الحدود فيها .
ونقول لهم من جهة أخرى : إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره - ولا مندوحة له عن ذلك - ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم ؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم ، أي يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا ؟(3/20)
إن تحريم الربا من الأحكام المعقولة المعنى لا من التعبديات ، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرره على عباده الخاضعين لشرعه ، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض . والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية ، وهو الربا المضاعف ؛ كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور : ومنه قول ابن زيد - زيد أحد علماء الصحابة الأعلام وابنه من رواة التفسير المأثور : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف ، وفي السن : يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول : تقضيني أو تزيدني . . . ؟ فإذا كان عنده شيء يقضيه ، قضى ؛ وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك ، إن كانت ابنة مخاض ( أي في السنة الثانية ) يجعلها ابنة لبون ( أي في السنة الثالثة ) ، ثم حقة ( أي ابنة السنة الرابعة ) ، ثم جذعة ( في الخامسة ) ، ثم رباعيا ( وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة ) ، ثم هكذا إلى فوق ، وفي العين ( أي الذهب والفضة يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا ، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة أو يقضيه . اهـ . من تفسير آية آل عمران ) .
وضرر هذا عظيم ، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين ، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط . وذكر ابن حجر المكي في الزواجر : أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور ، والذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة ، وفيه ورد حديث : « لا ربا إلا في النسيئة » (1) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا ، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ : « إنما الربا في النسيئة » (2) ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة ؛ كما نص عليه المحققون .
وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل ، فلا نعود إليها هنا ، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات ، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (3) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4580),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/209),سنن الدارمي البيوع (2580).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),سنن الدارمي البيوع (2580).
(3) فتاوى محمد رشيد رضا 5 \ 1974 - 1978 .
==============
بحث في الربا والصرف
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 46 / ص 203)
بحث في الربا والصرف
إعداد فضيلة الشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع (1)
الحمد لله الواهب المعين ، وصلى الله وسلم على رسول رب العالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . . . وبعد:
فاستجابة للرغبة العلمية في الكتابة في موضوع الربا والصرف فعلى بركة الله والاستعانة به تعالى أبدأ ، مستمدا منه العون والتوفيق فهو وحده المستعان .
معنى الربا في اللغة والاصطلاح الشرعي :
الربا من ربا يربو من باب نصر ينصر والمصدر منه ربا وهو في اللغة بمعنى الزيادة ، يقال ربا المال إذا زاد ونما . وربا السويق إذا صب عليه الماء وانتفخ . وربا الرابية إذا علاها . قال في القاموس: ربا ربوا كعلو ، وربا زاد ونما ، وارتبيته . والرابية علاها والفرس ربوا انتفخ من عدو أو فزع . ا هـ .
وقال في مختار الصحاح: قال الفراء في قوله تعالى: { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } (2) أي زائدة كقولك أربي إذا أخذت أكثر مما أعطيت . وقال الزمخشري في كتابه أساس البلاغة: ربا المال يربو زاد . وأرباه الله ويربي الصدقات ، وأربت الحنطة أربحت . وأربى فلان في السباب وأربى عليه زاد ، وأربى على الخمسين . ا هـ .
ومن ذلك قوله تعالى: { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } (3)
__________
(1) 1 - ولد بشقراء عام 1349 هـ المملكة العربية السعودية. 2 - ماجستير في الشريعة الإسلامية من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود. 3 - قاض في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضو هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للأوقاف. 4 - أمضى قرابة عشرين عاما عضوا في الإفتاء وقرابة عامين نائبًا للرئيس العام وأربعة في المجال القضائي لتمييز الأحكام بالمملكة العربية السعودية. * الآثار العلمية: 1 - الورق النقدي. 2 - مع المالكي في رد أضاليله ومنكراته. 3 - مع الاشتراكيين في أضواء الشريعة.
(2) سورة الحاقة الآية 10
(3) سورة الحج الآية 5
وقوله تعالى: { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } (1) ومنه ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم : « فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها » (2) .
أما في الاصطلاح الشرعي فقد اختلف في تعريفه تبعا للاختلاف في تحديد مفهومه . فعرفه بعضهم (3) : بأنه تفاضل في أشياء ونسا في أشياء مختص بأشياء . وبعضهم عرفه (4) : بأنه اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد ، أو تأخير في البدلين أو في أحدهما . وبعضهم عرفه فعرف ربا الفضل (5) : بأنه زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي ، وهو الكيل أو الوزن في الجنس . وعرف ربا النسيئة بأنه فضل الحلول على الأجل ، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس ، أو غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس .
وهناك من يقول بإطلاق الربا في الشرع على البيوع الباطلة ، ويعزى هذا القول إلى عائشة رضي الله عنها ، فقد قالت لما نزلت آيات الربا في آخر سورة البقرة: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرم التجارة في الخمر . » (6) وإلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: إن من الربا بيع التمرة وهي معصفة قبل أدن تطيب (7) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 17
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (577),صحيح مسلم الأشربة (2057),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3270),مسند أحمد بن حنبل (1/197).
(3) ج 3 من كشاف القناع عن متن الإقناع، ص 205.
(4) تكملة مجموع النووي للسبكي، ج10 ص22.
(5) ج5 ص 183 من بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني.
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4267),صحيح مسلم المساقاة (1580),سنن النسائي البيوع (4665),سنن أبو داود البيوع (3490),سنن ابن ماجه الأشربة (3382),مسند أحمد بن حنبل (6/100),سنن الدارمي البيوع (2569).
(7) تكملة مجموع النووي للسبكي، ج10 ص 21.
مما تقدم نستطيع أن نجد العلاقة بين معنيي الربا في اللغة ، وفي الاصطلاح الشرعي في غاية الارتباط . فالمعنيان يدوران حول الزيادة . وإذا كان بعض العلماء يرى أن الربا يطلق على كل البيوع الباطلة ، فالربا الباطل متحقق ، لأن كل بيع باطل مشتمل على زيادة غير مشروعة ، إما لأن أحد العوضين ليس مالا مباحا ، فيكون بذل العوض الآخر في غير مقابلة . لأن هذا المال المحرم في حكم المعدوم لحرمة الانتفاع به شرعا ، وإما أنه غير متكافئ مع مقابله ، فما بينهما من فرق زيادة في غير مقابلة عوض .(3/21)
على أي حال فلسنا في مجال التفضيل بين تعاريف الربا ، ولا تصحيح بعضها وتخطئة البعض الآخر ، وإنما يكفينا منها الاتفاق على أن الربا زيادة في غير مقابلة عوض . أما الاختلاف بين أهل العلم فيما يجري فيه الربا عن بعض الأموال فلأنه يرى أن زيادة بعضها على بعض في مقابلة عوض مشروع . ومن أثبته رأى أن زيادة بعضها على بعض في مقابلة عوض غير مشروع .
فالربا بعبارة مختصرة هو الزيادة في غير مقابلة عوض مشروع . أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه: (وحرم الربا لأنه متضمن للظلم ، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له (1) ا هـ .
فكل معاملة استهدفت هذه الزيادة بصفة مباشرة ، أو كانت وسيلة إليها فهي معاملة ربوية ، وبالتالي فهي محرمة ، لأن زيادة أحد العوضين على الآخر في غير مقابلة مشروعة تعتبر من أكل
__________
(1) ج20، ص341.
أموال الناس بالباطل ، وأكل أموال الناس بالباطل يعتبر عدوانا اجتماعيا ، يهدد العالم بالفوضى والفساد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) .
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية إشارة إلى سر تحريم الربا حيث يقول (3) : ( وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل ، فيلزم الآخذ أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له ، لم يبع ولم يتجر . والمربي آكل مالا بالباطل بظلمه ، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا بغيرها ، بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس ، فإذا كان هذا مقصوده فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم ) ا هـ .
على أن القول بأن تحريم الربا دفع للظلم المحقق وقوعه عن طريق المعاملات الربوية ، لا يعني انحصار حكمة التحريم في دفع الظلم ، فهناك معان إنسانية أخرى كانت من أسباب تحريمه ، تظهر هذه المعاني فيما يكون عليه المرابي من الغلظة في الطباع ، والشح في الإنفاق ، والعزوف عن الصدقات ، والبعد عن فعل الخيرات . يدل على هذا أنه لا تكاد توجد آية من آيات الربا إلا وهي مسبوقة أو متبوعة بآيات الحض على الإنفاق والصدقة ، والعطف على الفقراء والمساكين . فهذه آيات الربا في البقرة مسبوقة بأربع عشرة آية كلها ترغب في الصدقات ، وتحض على
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) ج 20 ، ص 349 .
الإنفاق في سبيل الله .
على أن هناك حكمة تختص بجريان الربا في النقدين ، أشار إليها ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين حيث يقول (1) : ( فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات . والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال ، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع ، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات ، بل الجميع سلع ، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة ، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة ، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ، ولا يقوم هو بغيره . إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض ، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلاف ، ويشتد الضرر ، كما رأيت من فساد معاملاتهم ، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح ، فعم الضرر وحصل الظلم . ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص ، بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس- إلى أن قال- فالأثمان لا تقصد لأعيانها ، بل يقصد التوصل بها إلى السلع ، فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس . وهدا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات ) ا هـ .
وذكر الغزالي في كتابه: (إحياء علوم الدين) ، ونقلها عنه صاحب تفسير المنار في معرض تفسير آيات الربا ، ولتمام الفائدة نستحسن نقل قول الغزالي فيها قال رحمه الله: ( من نعم الله تعالى
__________
(1) ج 2، ص 137، 138 من الإعلام.
خلق الدراهم والدنانير ، وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ، ولكن يضطر الخلق إليها ، من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران مثلا ، وهو محتاج إلى جمل يركبه ، ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران ، فلا بد بينهما من معاوضة ، ولا بد في مقدار العوض من تقدير ، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه مثله في الوزن أو الصورة . وكذلك من يشتري دارا بثياب ، أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار ، فهذه الأشياء لا تناسب فيها . فلا يدري أن الجمل كم يساوي بالزعفران ، فتتعذر المعاملات جدا ، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها ، يحكم فيها بحكم عدل ، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته ، حتى إذا تقررت المنازل ، وترتبت الرتب ، علم بذلك المساوي من غير المساوي .
فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال ، حتى تقدر الأموال بهما ، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار ، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة . فهما من حيث إنهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان . وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض لأعيانهما . ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له ، فلا ينتظم الأمر . فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ، ولحكمة أخرى وهي: التوصل بهما إلى سائر الأشياء ، لأنهما عزيزان في أنفسهما ، ولا غرض في أعيانهما . ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء . لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب ، لأن غرضه في دابة مثلا . فاحتيج إلى شيء هو في صورته كأنه ليس بشيء ، وهو في معناه كأنه كل الأشياء . والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة تفيدها بخصوصها ، كالمرآة ، لا لون لها وتحكي كل لون ، فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية .
وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها ، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم ، بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما . فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما ، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه ، لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم . ولا يحصل الغرض المقصود به ، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما ، فإنهما حجران ، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي ، فيكونا حاكمين بين الناس- إلى أن قال-: وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم ، لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما ، إذ لا غرض في عينيهما ، فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة ، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ) (1) اهـ .(3/22)
بعد هذا نستطيع القول أن لجريان الربا في النقدين أكثر من معنى موجب لذلك ، وأن من أبرز المعاني في جريانه فيهما كونهما محلا للظلم والعدوان ، وأخذ أموال الناس بالباطل ، ولما يحصل للعباد من ارتباك واضطراب في معاملاتهم ، حينما يتخذ النقدان سلعا تباع وتشترى ، فيطرأ عليهما ما يطرأ على السلع من ارتفاع في القيمة ، أو انخفاض تبعا لطبيعة العرض والطلب ، والعدم والوجود ، حيث تفسد بذلك ثمنيتهما على العباد ، فيقعون في ضرر بالغ واضطراب مخل . ولا شك أن ما حل محلهما في الثمنية كالأوراق النقدية أو الفلوس ، تتحقق فيه هذه المعاني ، فيجري فيه الربا كجريانه فيهما ، إذ كل ثمن محل للظلم والعدوان ، وإيقاع الناس في ارتباك واضطراب ، حينما يتخذ ذلك الثمن سلعة تباع وتشترى ، والحال أنه معيار لتقويم السلع وتقديرها . فتحريم الربا في النقدين وما حل محلهما في الثمنية دفع لهذه المفاسد ، وهذه حكمة ذلك ومقتضاه .
__________
(1) ج 3 من تفسير المنار، ص110- 112.
================
خطر الربا وتغليظ تحريمه :
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 47 / ص 351)
خطر الربا وتغليظ تحريمه :
جعل الله المال قوام الحياة ، وجبلت الأنفس على حبه ، والسعي في كسبه ، والضن به ، واعتبر الدفاع عنه من الحقوق المشروعة للإنسان ، كالدفاع عن النفس والعرض ونحوهما من الضرورات الخمس ، التي شرعت الحدود ، ورفعت البنود لحمايتها ، ويعتبر الربا من الاعتداء المغلف على المال ، ومن أكل أموال الناس بالباطل ، استغلالا لحاجة المحتاج ، وكلما اتسعت دائرته عظم خطره ، واستشرى ضرره ، كما هو الحال في البنوك الربوية ؛ لأنه يتجاوز نطاق الفرد إلى امتصاص أموال الأمة وتكبيل اقتصادها ، والسيطرة على قدراتها وإمكاناتها ، ولذلك نجد النظم الوضعية قد أدركت ضرره من قديم الزمان ، فوضعت قوانين بتحريم فاحشه ، ولعل أقدم نص في ذلك ما ورد في القانون الفرعوني في عهد بوخوريس من الأسرة 24 (1) حيث نص على تحريم الفاحش منه .
وأما الشرائع السماوية فقال سيد سابق في فقه السنة : إنه محرم في جميع الأديان السماوية ، ومنها اليهودية والمسيحية والإسلام . وأورد نصوصا بذلك في العهد القديم منها آية 25 فصل 22 من سفر الخروج ، وآية 35 فصل 25 من سفر اللاويين ، وآيتا 34 ، 35 من الفصل 6 من إنجيل لوقا (2) تدل على ذلك ، إلا
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد ''31'' ص 123 .
(2) فقه السنة ، ج3 ص 130 ، 131 .
أن اليهود من بعد موسى - عليه السلام - أجازوه مع غير اليهود ضمن ما أدخلوه فيها من التغيير والتبديل ؛ حيث عاب عليهم القرآن الكريم ذلك ، قال الله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } (1) ، وقال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (2) { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (3) .
وقد بقيت القوانين المسيحية تحرم الربا في جميع بلدانها إلى أن جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789 بإباحة الفائدة على القروض ثم تتابعت القوانين المبيحة له بنسب تتراوح بين 5-7% (4) غير أنه جاء تحريمه في الإسلام أوضح وأشمل ، فوردت نصوص الكتاب والسنة قاطعة الدلالة متظافرة على تحريمه ، والتوعد على اقترافه بأشد العقاب ، قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (5) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (6) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (7) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (8) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة النساء الآية 160
(3) سورة النساء الآية 161
(4) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد ''31'' ص 124 .
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 276
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 279
وفي هذه الآيات الكريمات من الوعيد الشديد الذي تشمئز منه القلوب ، وتقشعر له الجلود ، وما يترتب على متعاطيه من المحق والإيذان بمحاربة الله ورسوله له والخلود في عذاب السعير ، نعوذ بالله من سخطه ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1) .
ثم أكدت الأحاديث النبوية الأمر وزادته وضوحا وجلاء وبينت عظم اقترافه وما ينتج عنه من العقاب العاجل والآجل ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ ، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » (2) رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود والنسائي .
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة ، فأقبل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان ، فقلت : ما هذا الذي رأيته في النهر ، قال : أكل الربا » (3) رواه البخاري .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) صحيح البخاري الوصايا (2615),صحيح مسلم الإيمان (89),سنن النسائي الوصايا (3671),سنن أبو داود الوصايا (2874).
(3) صحيح البخاري البيوع (1979),مسند أحمد بن حنبل (5/9).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لعن الله آكل الربا وموكله » (1) ، وفي رواية : « وشاهديه وكاتبه » (2) رواه مسلم ، والنسائي ، وأبو داود ، والترمذي وصححه .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : « لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال! : "هم سواء » (3) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن خمر ، وآكل ربا ، وآكل مال اليتم بغير حق ، والعاق لوالديه » (4) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد .(3/23)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : « الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه » (5) رواه الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين ، وفي رواية عند البزار وابن ماجه بإسناد صحيح قال : « الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك » (6) .
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشد من ست وثلاثين زنية » (7) رواه أحمد والطبراني في الكبير ، قال المنذري : ورجاله عند أحمد رجال الصحيح .
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : « والذي نفسي بيده ليبيتن الناس من أمتي على أشر وبطر
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1120),سنن النسائي الطلاق (3416),مسند أحمد بن حنبل (1/448),سنن الدارمي النكاح (2258).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن النسائي الطلاق (3416),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/402),سنن الدارمي البيوع (2535).
(3) سنن النسائي الزينة (5103).
(4) سنن النسائي الأشربة (5672),مسند أحمد بن حنبل (2/203),سنن الدارمي الأشربة (2093).
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/225).
ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم ، واتخاذهم القينات ، وشربهم الخمر ، وأكلهم الربا ، ولبسهم الحرير » (1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزوائد ، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : « يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب ، فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير ، وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببني فلان ، وخسف الليلة بدار فلان ، ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها ، وعلى دور ، ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا على قبائل وعلى دور ، بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا ، وقطيعة الرحم » (2) ، وخصلة نسيها جعفر ، رواه أحمد مختصرا واللفظ له ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وكتب الحديث والفقه والتفسير وغيرها مليئة بالنقول عن كبار العلماء ؛ من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب وغيرهم لا نريد الإطالة بذكرها وفي هذا القدر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/329).
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/259).
ما جناه الاستعمار الأوروبي على المسلمين :
ولذلك فقد ظل المسلمون متمسكين بتعاليم دينهم ، مبتعدين عن التعامل بالربا ، إلى أن ابتلوا بالانتكاسات المتتالية ، ودخلت أكثر بلدانهم تحت الاستعمار الأوربي ، باستثناء السعودية والجزء الشمالي من اليمن ، فنقلت إليهم تلك الدول المستعمرة النظام البنكي المعتمد على الفوائد الربوية ، فدب شيئا فشيئا ، حتى سمحت التقنينات المدنية في الدول الإسلامية والعربية بتقاضي فوائد يحددها قانون كل نظام بنسب معينة ، إلى أن أصبح التعامل به مستساغا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وصار الفرد المسلم مكبلا بتلك النظم والتقنينات يرزح تحت نير البنوك الربوية مغلوبا على أمره لا يجد منها مخلصا ، وحيث إن لا مناص للأمة من ذلك إلا بتظافر الجهود من علماء المسلمين وقادتهم ومفكريهم وأهل الحل والعقد فيهم للعمل على تحرير اقتصادهم والعودة بها إلى تحكيم شرع الله في الدقيق والجليل من أمرها ، وتطهير بنوكها ومصارفها من الربا ، وبحمد الله تعالى فإن المجالات واسعة لتنمية أموآله ا واستثمارها عن طريق المضاربات والمشاركات والعقود السليمة من الربا ، إذا صحت النية ، وصدقت العزيمة ، وقد برزت في الأونة الأخيرة بنوك إسلامية ، وصارت الأنظار مشرئبة إليها نسأل الله لها وللقائمين عليها التوفيق والنجاح ، ولا شك أن الرب الذي أحاط بكل شيء علما ، ووسعه رحمة وحكما ، لم يحرم شيئا إلا لخبثه وضرره وسوء عاقبته ، ووجود البديل الأفضل فيما أحله من الطيبات ، قال سبحانه وتعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) .
وها أنا سأحاول بفهمي القليل وعلمي الضئيل أن أبين الربا وأنواعه ، وما يجري فيه من المعاملات حسب ما استنبطه أهل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
العلم من مصادر التشريع بعبارة ميسرة يفهمها القارئ العادي ، فإذا ما عرفها واجتنبها ، واقتصر على ما أحل الله له ، جعل الله له من أمره يسرا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (2) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (3) .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
================
الربا وأنواعه وما يجري فيه
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 47 / ص 357)
الربا وأنواعه وما يجري فيه :
الربا لغة : الزيادة .
وشرعا : ثلاثة أنواع :
الأول : ربا الفضل ، ويقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة ، والمراد بالجنس الصنف الواحد ، ويعتبر الذهب صنفا والفضة صنفا ، وعملة كل نظام صنفا ، والبر صنفا وهكذا بقية أصناف المطعومات ، والمراد بالعلة : العلة المسببة للربا التي وقع تحريمه بسببها ، وهي النقدية فيما سبب الربا فيه النقدية كالذهب والفضة وما يلحق بهما من العملات النقدية أو النقدية والوزن فيما يتداول منها بالوزن كالذهب والفضة ، أو الطعم والكيل في المطعومات كالبر والشعير والتمر والزبيب والملح ونحوها ، فإذا اتحد العوضان جنسا وعلة فلا يجوز البيع فيها إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وإذا لم يحصل التماثل بين العوضين فقد وقع ربا الفضل فالذهب بالذهب لا بد أن يكون وزنا بوزن ، وكذلك الفضة بالفضة والعملة السعودية بالعملة السعودية لا بد أن تكون ريالا بريال ، والورقة من فئة خمسمائة أو من فئة مائة ونحوها بما يعادلها بالريال من الفئات الأخرى سواء بسواء وإلا وقع ربا الفضل وكذلك سائر العملات ، فعملة كل بلد أو نظام جنسا فلا يجوز فيه التفاضل .
وكذلك الحال في المطعومات إذا اتحد العوضان جنسا وعلة ؛ كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح والذرة بالذرة والدخن بالدخن ونحوها ، لا يجوز البيع فيها إلا مثلا بمثلى يدا بيد ، حتى لو كان جيدا برديء ، فلا يجوز فيه التفاضل وإلا وقع ربا الفضل ، لاختلال شرط التساوي ، ومثله في الحكم مجهول التساوي فلا يجوز بيع قلادة من الذهب والخرز بقدر معلوم من الذهب ، ولا قلادة من الفضة والخرز بقدر معلوم من الفضة ، لعدم العلم بالتساوي ، وكذلك لا يجوز بيع صبرة الطعام من البر أو الشعير أو التمر ونحوها بجنسه مكيلا ولا بيع رطب بيابس كالرطب بالتمر أو الزبيب بالعنب أو ثمرة الحائط بجنسه ؛ للجهل بالتساوي لأن مجهول التساوي كمعلوم التفاضل لحديث : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق - والورق : الفضة - إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا غائبا بناجز » (1) متفق عليه . وفي لفظ : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة(3/24)
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).
والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء » (1) رواه أحمد والبخاري . وفي لفظ : « ولا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء » (2) رواه أحمد ومسلم ، ولحديث : (إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة فقال - صلى الله عليه وسلم - : « لا تفعلوا بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (3) راوه البخاري ، وما في هذا المعنى من الأحاديث .
ولحديث : « نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر » (4) رواه مسلم .
ولا بد هنا من التنبيه على مسألة يجهلها كثير من الناس عند شراء الحلي وهي أنه لا يجوز استبدال الرجيع أو الذهب المختلط بغيره أو من عيار أدنى بذهب مصنع أو عيار آخر مقاصة ، بل لا بد من بيع الرجيع ، أو المختلط بغيره ، أو العيار الأدنى بقيمته من غير جنسه ، وقبض الثمن ثم شراء المصنع لئلا يقع في ربا الفضل ، ولا بد أن يكون يدا بيد حتى لا يقع في ربا النسيئة .
ولحديث فضالة بن عبيد قال : « اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : "لا يباع حتى يفصل » (5) رواه مسلم ، والنسائي ، وأبو داود والترمذي وصححه . وفي لفظ : « إن النبي- صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا حتى تميز
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067,2089),صحيح مسلم المساقاة (1584,1584),سنن الترمذي البيوع (1241,1241),سنن النسائي البيوع (4565,4565),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (3/50,3/97),موطأ مالك البيوع (1324,1324).
(2) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4570),مسند أحمد بن حنبل (3/4),موطأ مالك البيوع (1324).
(3) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),مسند أحمد بن حنبل (3/60),موطأ مالك البيوع (1314).
(4) صحيح مسلم البيوع (1530),سنن النسائي البيوع (4547).
(5) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573).
بينه وبينه" ، فقال : إنما أردت الحجارة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا ، حتى تميز بينهما" قال : فرده حتى ميز بينهما » (1) رواه أبو داود .
ولحديث : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة ، وهي أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا ، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا ، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام . نهى عن ذلك كله » (2) متفق عليه .
فتبين من هذه النصوص أن التفاضل في الجنس الواحد ربا ، وأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في وقوع الربا ، إلا ما رخص فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من بيع العرايا ، (فقد رخص في بيع العرية ، النخلة أو النخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) متفق عليه .
الثاني : ربا النسيئة : ويقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة : كالأصناف التي يقع فيها ربا الفضل ، فإنه إذا لم يحصل التقابض فيها في مجلس العقد ، وقع ربا النسيئة أيضا ، فلا يجوز بيع شئ منها بجنسه ولا بغير جنسه إذا اتحدت العلة إلا يدا بيد ، لما سلف من حديث : « ولا تبيعوا غائبا بناجز » (3) متفق عليه .
ولحديث : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد » (4) رواه أحمد والبخاري .
ولحديث : « الذهب بالورق ربا ، إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا ، إلا هاء وهاء ، والتمر
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19).
(2) صحيح البخاري البيوع (2091),صحيح مسلم البيوع (1542),سنن الترمذي البيوع (1300),سنن النسائي البيوع (4549),سنن أبو داود البيوع (3368),سنن ابن ماجه التجارات (2265),مسند أحمد بن حنبل (2/123),موطأ مالك البيوع (1317),سنن الدارمي البيوع (2555).
(3) سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4571),مسند أحمد بن حنبل (3/73),موطأ مالك البيوع (1324).
(4) صحيح البخاري البيوع (2067,2089),صحيح مسلم المساقاة (1584,1584),سنن الترمذي البيوع (1241,1241),سنن النسائي البيوع (4565,4565),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (3/50,3/97),موطأ مالك البيوع (1324,1324).
بالتمر ربا ، إلا هاء وهاء » (1) متفق عليه ، ومعنى هاء وهاء ، أي : هاك وهات .
ولحديث : « فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » (2) رواه أحمد ومسلم ، وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه وفي آخره : « وأمرنا أن نبيع البر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد كيف شئنا » (3) .
فتبين من هذه النصوص أن بيع الجنس بنظيره جنسا وعلة ، يجتمع فيه ربا الفضل عند التفاضل أو عدم العلم بالتساوي وربا النسيئة عند عدم التقابض في المجلس ، ويقع فمه ربا النسيئة وحده فيما إذا اختلف العوضان جنسا واتحدا علة ، كالذهب بالفضة ، والبر بالشعير عند عدم التقابض في المجلس .
وتبين أنه إذا اختلف العوضان جنسا وعلة ، كالطعام بالنقد أو العكس أو انتفت علة الربا ، كبيع الحيوان بالحيوان ، والقماش بالقماش ، والإناء بالإناء ، والسيارة بالسيارة ، والخشب بالخشب ، والحديد بالحديد ، والنحاس بالنحاس ، التي لا يوجد فيها علة الربا التي هي النقدية أو الطعم انتفى الربا بنوعيه ، ربا الفضل وربا النسيئة ، فيجوز بيع البعير بالبعيرين ، والشاة بالشاتين ، والمتر القماش بالمترين ، والإناء بالإنائين ، والسيارة بالسيارتين ، أو أقل من ذلك أو أكثر حاضرا أو إلى أجل ، لحديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : « أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة » (4) رواه أحمد ، وأبو داود ،
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2027,2027),صحيح مسلم المساقاة (1586,1586),سنن الترمذي البيوع (1243,1243),سنن النسائي البيوع (4558,4558),سنن أبو داود البيوع (3348,3348),سنن ابن ماجه التجارات (2253,2253),مسند أحمد بن حنبل (1/45,1/45),موطأ مالك البيوع (1333,1333),سنن الدارمي البيوع (2578,2578).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
(4) سنن أبو داود البيوع (3357),مسند أحمد بن حنبل (2/171).
والحاكم ، وقال صحيح على شرط مسلم ، ورواه البيهقي وقوى الحافظ إسناده ، وقال ابن المنذر : (ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدا بعبدين واشترى جارية بسبعة أرؤس ، وهكذا) .(3/25)
الثالث : ربا القرض ، ويقع إذا حصل المقرض على فائدة بسبب القرض ، سواء كانت مشروطة أو متعارفا عليها ، قلت أو كثرت ، كأن يقرضه مائة ألف ريال مقابل مائة وعشرة آلاف ريال عند الأداء أو مقابل أن يهدي له شيئا وقت الأداء أو قبله أو بعده ، أو يشتري منه سلعة بأكثر من ثمنها ، أو يبيعه سلعة بأقل من ثمنها ، أو تحت أي ستار ، أو يقدم له خدمة لحديث : « إذا أقرض أحدكم أخاه فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك » (1) رواه ابن ماجه .
وعند البخاري في تاريخه : "إذا أقرض فلا يأخذ هدية" ، وأخرج البيهقي عن فضالة موقوفا : « كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا » رواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم ، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي بلفظ : « أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة » ، وفي رواية : « كل قرض جر منفعة فهو ربا » ، قال الشوكاني : قال عمر بن زيد في المغني : لم يصح فيه شيء ، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا : إنه صحيح . ولا خبرة لهم بهذا الفن ، ومعنى هذا الأثر صحيح ، لما سبق من الأدلة ، ولحديث : « إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2432).
بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم » (1) رواه أحمد ، وأبو داود ولفظه : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم » (2) ، والعينة وسيلة إلى الربا ، لأنه يبيع على المحتاج إلى النقد صفقة ، مائة كيس بسعر الكيس بمائة وعشرة ريالات إلى أجل ويشتريها منه بسعر الكيس بمائة ريال ، أو يبيعه السيارة بمائة ألف ريال إلى أجل ، ويشتريها منه بثمانين ألف ريال نقدا ، وكأنه باعه المائة الريال نقدا في الصورة الأولى بمائة وعشرة ريالات إلى أجل ، وباعه ثمانين ألف ريال نقدا في الصورة الثانية بمائة ألف ريال إلى أجل ، والعين التي وقع عليها التعاقد صوريا رجعت له ، ومعلوم أن للوسائل حكم الغايات ، فالوسيلة إلى الربا ربا ، قال ابن القيم في استدلاله على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع » (3) ، وقال : هذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/28).
(2) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/84).
(3) صحيح البخاري البيوع (1954),سنن النسائي البيوع (4454),مسند أحمد بن حنبل (2/435),سنن الدارمي البيوع (2536).
والخلاصة : تبين مما ذكرت أن ربا الفضل يقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة ، وأن مجهول التساوي كمعلوم التفاضل ، ويقع ربا النسيئة فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة ، أو علة فقط ، وإذا اختلف العوضان جنسا وعلة ، أو انتفت علة الربا انتفى الربا ، وتبين أن كل قرض جر نفعا فهو ربا ، سواء كانت الفائدة أو المنفعة التي يحصل عليها الطرف المقرض مشروطة أو متعارفا عليها ، أما إذا قضاه المقترض أفضل مما أخذ منه أو أهدى له هدية وكانت المهاداة بينهما جارية من قبل فلا حرج ، لحديث أبي رافع قال : « استلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل بكرا ، فجاءته إبل الصدقة فقلت : لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أعطه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء » (1) رواه أحمد ، ومسلم ، وأصحاب السنن .
وقال جابر بن عبد الله : « كان لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق فقضاني وزادني » (2) رواه أحمد والبخاري ومسلم .
ومما يجب التنبيه عليه أن أكثر المعاملات التي يجري فيها الربا اليوم فيما أعلم هي :
1 - عند استبدال الحلي ، فيشتري بائع الذهب من العميل ذهبا رجيعا من عيارات مختلفة أو مطعما بفصوص ولآلىء ونحوها بسعر الجرام ويبيع منه ذهبا مصنعا بسعر الجرام أيضا ، وتجري المقاصة بينهما ويدفع الفرق ، فيقع بينهما ربا الفضل للجهل بالتساوي ، وكذلك ربا النسيئة لعدم التقابض .
وللتخلص من ذلك يجب أن يشتري التاجر الحلي الرجيع من العميل ويدفع له ثمنه نقدا من غير جنسه ، ثم يبيع منه الحلي المصنع ويقبض ثمنه منه .
2 - عند حاجة الشخص إلى نقد ، فإنه يأتي إلى التاجر فيشتري منه سلعة بزيادة سعر إلى أجل ، ثم يبيعها من صاحب
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1600),سنن الترمذي البيوع (1318),سنن النسائي البيوع (4617),سنن أبو داود البيوع (3346),سنن ابن ماجه التجارات (2285),مسند أحمد بن حنبل (6/390),موطأ مالك البيوع (1384),سنن الدارمي البيوع (2565).
(2) صحيح البخاري الصلاة (432),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (715),سنن النسائي البيوع (4590),سنن أبو داود البيوع (3347),مسند أحمد بن حنبل (3/319).
المحل بسعر أقل نقدا ، فيقع بينهما ربا الفضل سواء حصل التقابض بينهما أو لم يحصل ، وكأنه باع نقدا حاضرا بنقد مؤجل أكثر منه ، وهذه مسألة العينة السالف ذكرها .
أما لو حاز السلعة التي اشتراها منه وباعها من شخص آخر ليس وكيلا للبائع أو متواطئا معه لشرائها له ، فلا ربا .
3 - إذا أراد شخص بناء بيت أو فتح محل تجاري مثلا واحتاج إلى نقد فإنه يأتي إلى البنك يأخذ منه مائة ألف ريال قرضا ويرهن منه أرضا أو دارا ويوثقه له إلى أجل ، وعند قبض المبلغ يقبض منه ثمانين ألف ريال فقط ، ويكون الفرق هو الفائدة التي حصل عليها البنك ، وكأنه اشترى مائة ألف ريال إلى أجل بثمانين ألف ريال حالة .
أما ما يقع من بيع التقسيط بسعر أعلى من سعر النقد فليس بربا ، ولكنه قد يقع بعض من يتعاطون هذه البيوع في محظور ، وهو بيع ما ليس عنده أو بيع السلعة قبل قبضها ، وهما من البيوع المنهي عنها لحديث : « إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه » (1) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن .
ولحديث : « كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه » (2) رواه البخاري ومسلم .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4603),سنن أبو داود البيوع (3503),سنن ابن ماجه التجارات (2187),مسند أحمد بن حنبل (3/402).
(2) صحيح البخاري البيوع (2017),صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4606),سنن أبو داود البيوع (3499),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (2/142),موطأ مالك البيوع (1337),سنن الدارمي البيوع (2559).
ولحديث : « إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ربح ما لم يضمن » (1) رواه أصحاب السنن .
هذا ما أردت تبيينه والله أسأل أن ينفع به ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا بمنه وكرمه ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/175),سنن الدارمي البيوع (2560).
===============
نقاش آراء العلماء في مناط الربا في النقدين
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 50 / ص 104)(3/26)
علة الربا في النقدين :
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا ، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون : علة الربا في النقدين الوزن ، وفي غيرهما الكيل . فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين ، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت ؟ الواقع أن التعليل بالوزن أو بالكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه ، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم . قال الآمدي في كتابه ( إحكام الأحكام ) في بحثه : القياس وشروطه (1) .
( اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة
__________
(1) ج3 ص12 .
المجردة ، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث . أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم ، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه ، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين : الأول : أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم ، والحكم في الأصل معروف بالخطاب ، لا بالعلة المستنبطة منه . الثاني : أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه ، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع ) . ا هـ .
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه ( أصول التشريع الإسلامي ) نقلا عن صاحب شرح التلويح ما نصه (1) : ( إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد ، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء الحكم عليه ) . ا هـ .
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (2) :
( مسألة ) قال ابن برهان : " لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية - إلى أن قال - وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي ، وهو منصوص أحمد ، ولفظه في المجرد : ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه ، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا ) . ا هـ .
__________
(1) ص132 طبع دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة .
(2) ص377 من مسودة آل تيمية .
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه ( إعلام الموقعين ) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (1) : ( وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ) . ا هـ .
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة ، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول . وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه ( يسر الإسلام وأصول التشريع العام ) ما نصه (2) : ( ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا بأظهر من جعل الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم ، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح ) . ا هـ .
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي ، واعتبره بمثابة المناط . ففي المستصفى للغزالي قال ما نصه (3) : ( لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم ، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر . ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا ، ويجوز أن يقول : من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر ) . ا هـ .
__________
(1) ج2 ص137 .
(2) ص62 .
(3) ج2 ص57
وقال في موضع آخر من المستصفى (1) : ( وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة ) . ا هـ .
وقال في كتابه ( شفاء العليل ) حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه ( ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ) ما نصه (2) : ( فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة ، لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة ) . ا هـ . وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه ( روضة الناظر ) ما نصه (3) : ( ومعنى العلة الشرعية العلامة . ويجوز أن تكون حكما شرعيا - إلى أن قال - وتكون مناسبا وغير مناسب ) . ا هـ .
على أي حال فليس هذا موضوع بحثنا ، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا . وعلى أي حال فسواء أكثر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي ، أم قلوا ؟ فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين ، ومناقشتها واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها .
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة ، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما . فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم ، قصر العلة فيهما مطلقا . سواء أكانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين . وهذا
__________
(1) ج2 ص93 .
(2) ص92 من كتاب ضوابط المصلحة .
(3) ج2 ص313 من روضة الناظر .
مذهب أهل الظاهر ، ونفاة القياس ، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها . فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ، ولا في غيرهما مما يعد نقدا . والأمر في تحريم الربا فيهما عندهم أمر تعبدي .
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة تحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام ، وتتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول واستقصاء ، فاعتبروا النص على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما ؛ لما ينتج التعامل به في حال التفاضل ، أو الإنظار المستلزم الغالب التفاضل من الفساد والظلم والقسوة بين العباد ؛ فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا ، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط . فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن ؛ فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن ، كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها . وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد ، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة ، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان ، وكالفلوس ؛ فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها . وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية . وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي ، فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما . والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين . فالثمنية عندهم طارئة على الفلوس فلا ربا فيها ، وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية . وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد . قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة . وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء .(3/27)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) : ( والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم ، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن ، كما قال جمهور العلماء - إلى أن قال - والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ؛ فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال ، ولا يقصد الانتفاع بعينها . فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية . واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب ؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة ، مع أنها ثمن من طرفين ، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل . فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى ؛ فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل ) .
__________
(1) ج29 ص471 - 472 .
نقاش هذه الآراء :
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين الذهب والفضة ، دون مناقشة أي من هذه الآراء ، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء ، لتظهر لنا حقيقتها ، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمة حظر الربا على الأمة الإسلامية ؛ ليكون لنا عونا ومبررا في توجيهنا ما نراه علة للربا في الذهب .
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا ملخصه : أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات ، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل ، وفي جواز ذلك نقض للعلة . قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في المغني في معرض توجيهه قول القائلين بالثمنية (1) : ( ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات ، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسأ ) . ا هـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيهه القول بالثمنية (2) : ( ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات ، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل ، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا . والمنازع يقول : جواز هذا استحسان ، وهو نقيض للعلة . ويقول :
__________
(1) ج4 من المغني ص4 .
(2) ج29 من الفتاوى ص471 .
إنه جوز هذا للحاجة ، مع أن القياس تحريمه ) . ا هـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه ( إعلام الموقعين ) في معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه : (1) . ( فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما . فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا . فإن ما يجرى فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ . والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها . وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ) 10 هـ .
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات ، مع أنه بيع موزون بموزون إلى أجل ، باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين ، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا . أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض ، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته ، وقالوا : إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا ؛ حيث إن النقدين موزونان بالميزان ، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان ، فاختلف الميزان فجاز (2) .
__________
(1) ج2 من إعلام الموقعين ص137 .
(2) ج5 من بدائع الصنائع ص186 .
ولا يخفى ما في هذا الدفع بهذا القيد من تكلف ظاهر .
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيراد آخر ملخصه : أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن ؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي ، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي ، وبشكل واضح في غالبه ، تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين ، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها ، كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار .
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان ، فتعين المصير إلى مناط جامع مانع .
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين ، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين الذهب والفضة ، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم . قال النووي رحمه الله في مجموعه شرح المهذب في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة (1) : ( وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعية . أحدهما : أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها ، فإن حكم الأصل قد عرفناه ، وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره . والوجه الثاني : أن القاصرة صحيحة ولكن المتعدية أولى . قالوا : فعلتكم مردودة
__________
(1) ج9 من المجموع ص445 .
على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص . قالوا : ولأن علتكم قد توجد ولا حكم ، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها ، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم ، والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها مع أنها ليست أثمانا ) ا هـ .
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين ، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان ، كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا .
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية ، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة . وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله : بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر ، منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي . فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية . أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة .
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة ؛ لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب ؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور ، مع أنه من مادة الذهب والفضة .
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ما نصه (1) : ( وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا ، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد ، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة ، كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه ، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية ، فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان ، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي . وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء ، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها ، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها ، فإنه سفه وإضاعة للصنعة ، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك ، فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه ، لحاجة الناس إليه .(3/28)
فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها البتة ، بل بيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة ، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك ، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب ، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر ، والحيل باطلة في الشرع ، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر ، لشهوة الرطب . وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه ؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع ، فلو لم يجز بيعه
__________
(1) ج2 من الإعلام ص 140 - 141 .
بالدراهم فسدت مصالح الناس ، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع . وغاياتها أن تكون عامة أو مطلقة ، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي ، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة ، والجمهور يقولون : لم تدخل في ذلك الحلية ، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير ، كقوله : « الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير » ، وفي الزكاة قوله : « في الرقة ربع العشر » (1) والرقة هي الورق ، وهي الدراهم المضروبة ، وتارة بلفظ الذهب والفضة ، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين ، وإيجابا للزكاة فيهما ، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما ؛ بل فيه تفصيل . فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها ، وفي هذا توفية الأدلة حقها ، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها .
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان ، ولهذا لم تجب فيها الزكاة ، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان ، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع ، وإن كانت من غير جنسها ، فإن هذه الصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة ، فلا محظور في بيعها بجنسها ، ولا يدخلها ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) . كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل . ولا ريب أن هذا قد يقع فيها ، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر . يوضحه أن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1386),سنن النسائي الزكاة (2455),سنن أبو داود الزكاة (1567),سنن ابن ماجه الزكاة (1800),مسند أحمد بن حنبل (1/12).
الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية ، وكان النساء يلبسنها ، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها . ومن المعلوم بالضرورة أنهم كانوا يعطونها للمحاويج ، ويعلم أنهم يبيعونها . ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه . ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا ، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه ، وأعلم بمقاصد رسوله أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس . يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه ، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف . يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه ، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة ، كما أبيح العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر ، وكما أبيح النظر للخاطب ، والشاهد والطبيب ، والمعامل من جملة النظر المحرم ، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال ، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة ، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلي المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها ، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ) إلى آخر ما ذكره رحمه الله .
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصنوعة لا يجري فيها الربا ، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد قال : « اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا ، فيها ذهب وخرز . ففصلتها فوجدت أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا يباع حتى يفصل » (1) وفي لفظ لأبي داود « أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، حتى تميز بينه وبينه . فقال : إنما أردت الحجارة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، حتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما » (2) .
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب وقد اشتريت بذهب ، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل . وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها ، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا . وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثني عشر دينارا . وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة . فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها ذهبا ، لم يكن للصياغة فيها مقابل ، وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا ، لم يكن لزيادة بعضه على بعض مقابل .
وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا ، ليكون الزائد على ثمنها من الثمن في مقابلة الصياغة . وقد مر بنا قوله : ( وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها ) . وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (3) : ( فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة ) . ا هـ .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/21).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن النسائي البيوع (4573),سنن أبو داود البيوع (3351),مسند أحمد بن حنبل (6/19).
(3) ج2 من الإعلام ص 142 .
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
( وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ؛ بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين (2) ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تباع حتى تفصل » (3) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله (4) ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك ، فيجوز التفاوت ) . ا هـ .
__________
(1) ج 29 من مجموع الفتاوى ص 453 .
(2) هكذا في المطبوع والصواب : ( خيبر ) .
(3) صحيح مسلم كتاب المساقاة (1591),سنن الترمذي كتاب البيوع (1255),سنن النسائي كتاب البيوع (4573),سنن أبو داود كتاب البيوع (3352),مسند أحمد بن حنبل (6/21).
(4) هكذا في المطبوع ولعل الصواب : قد باع ذهبا بذهب مثله وزيادة وخرز . والله أعلم .(3/29)
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا ، يوجب ترك الاحتجاج به ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه ( تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ) ما نصه (1) : ( وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا ، في بعضها : قلادة فيها خرز وذهب ، وفي بعضها : ذهب وجوهر ، وفي بعضها : خرز وذهب ، وفي بعضها : خرز معلقة بذهب ، وفي بعضها : باثني عشر دينارا ، وفي أخرى : تسعة دنانير ، وفي أخرى : بسبعة دنانير ، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة ) . ا هـ .
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا ، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه ، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل . وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب . ا هـ .
قلت : قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر رحمه الله في جوابه هذا ، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه جامع الترمذي الجزء الثاني ص ( 709 ) ما نصه (2) : ( وأما ما أجاب الحافظ عنه بأن المقصود
__________
(1) ج 3 من تلخيص الحبير ص 9 .
(2) body {font-family:"Verdana";font-weight:normal;font-size: .7em;color:black;} p {font-family:"Verdana";font-weight:normal;color:black;margin-top: -5px} b {font-family:"Verdana";font-weight:bold;color:black;margin-top: -5px} H1 { font-family:"Verdana";font-weight:normal;font-size:18pt;color:red } H2 { font-family:"Verdana";font-weight:normal;font-size:14pt;color:maroon } pre {font-family:"Lucida Console";font-size: .9em} .marker {font-weight: bold; color: black;text-decoration: none;} .version {color: gray;} .error {margin-bottom: 10px;} .expandable { text-decoration:underline; font-weight:bold; color:navy; cursor:hand; } Server Error in '/' Application. Timeout expired. The timeout period elapsed prior to obtaining a connection from the pool. This may have occurred because all pooled connections were in use and max pool size was reached. Description: An unhandled exception occurred during the execution of the current web request. Please review the stack trace for more information about the error and where it originated in the code. Exception Details: System.Exception: Timeout expired. The timeout period elapsed prior to obtaining a connection from the pool. This may have occurred because all pooled connections were in use and max pool size was reached. Source Error: An unhandled exception was generated during the execution of the current web request. Information regarding the origin and location of the exception can be identified using the exception stack trace below. Stack Trace: [Exception: Timeout expired. The timeout period elapsed prior to obtaining a connection from the pool. This may have occurred because all pooled connections were in use and max pool size was reached.] Harf.MS.AliftaaComponents.Managers.ContentManager.getMargins(Int32 pMarginID) +222 AliftaaNET2.InterfaceLayer.GetMargins.Page_Load(Object sender, EventArgs e) +112 System.Web.UI.Control.OnLoad(EventArgs e) +99 System.Web.UI.Control.LoadRecursive() +47 System.Web.UI.Control.LoadRecursive() +131 System.Web.UI.Control.LoadRecursive() +131 System.Web.UI.Page.ProcessRequestMain(Boolean includeStagesBeforeAsyncPoint, Boolean includeStagesAfterAsyncPoint) +1061 Version Information: Microsoft .NET Framework Version:2.0.50727.832; ASP.NET Version:2.0.50727.832
من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه ، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في السنن عن فضالة بن عبيد ، قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينارين والثلاثة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن » (1) ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر ، وليس فيه النهي عن بيع ما لم يفصل ، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا . وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها ، وإن كان الجميع ثقات ، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم . ففيه إنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح . وأيضا لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد .
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه ، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة ، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة ، لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها ينقص قيمتها كثيرا ، بل بعضها لا يكون لها قيمة . فكيف يحكم بهذا الشارع ، ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم ؟ ) ا هـ .
أقول : في اعتراضه رحمه الله بقوله : ففيه إنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح ؟ في قوله هذا نظر ملخصه : هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط ؟ كما أن قوله : لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد ، ليس على إطلاقه ؛ بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن أبو داود البيوع (3353),مسند أحمد بن حنبل (6/19).
روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة ، ويتعين التوقف فيها ، وعدم الاحتجاج بها . قال ابن كثير رحمه الله في كتابه ( الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (1) : ( قال الشافعي : وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس ، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره . وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا ، قال : والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ به ثقة أو غير ثقة ، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به ، ويرد ما شذ به غير الثقة - إلى أن قال - فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب : إنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ . يعني المردود ) . ا هـ .
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه ( هدي الساري مقدمة فتح الباري ) من قوله (2) :
( قال الدارقطني أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال : ( كنا نصلي العصر ، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة ) . وهذا مما ينتقد به على مالك لأنه رفعه ، وقال فيه إلى قباء . وخالفه عدد كثير ، منهم شعيب بن أبي حمزة ، وصالح بن كيسان ، وعمرو بن الحارث ، ويونس بن
__________
(1) انظر ص61 من الكتاب نفسه .
(2) الجزء الثاني من هدي الساري ص111 .
يزيد ، ومعمر ، والليث بن سعد ، وابن أبي ذئب ، وآخرون . انتهى .
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك ، وموضع التعقب منه قوله : إلى قباء ، والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي . ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة ) . ا هـ .(3/30)
فقول ابن حجر رحمه الله : ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث ، يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث ، أن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير ، لزم من ذلك القدح في صحة الرواية ، وإن كان الثقة مالكا أو من يدانيه ، فضلا عمن هو دونه .
كما أنه قد يورد مورد اعتراضا على القائلين بمطلق الثمنية ، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه ، في الذهب والفضة ، سواء أكانا سبائك أو كانا مسكوكين ، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا ، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما ، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا ، إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما ، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما ، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا . وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن ، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس ، قال : « جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمشي ، فساومنا سراويل فبعناه ، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له : زن وأرجح » (1) . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : « يا بلال اقضه وزده ، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا » (2) . وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا ، فجاء في مجموع الفتاوى (3) : ( إن الناس في زمن رسول الله ! كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا ) ا هـ .
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه ( إعلام الموقعين ) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت وغيره فقال (4) : ( وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها ، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها ، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات . وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين ، لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها ، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها ، ولهذا قال : تبرها وعينها سواء ) . ا هـ .
ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها - أن نذكره كختام لمبحثنا هذا . قال رحمه الله في كتابه ( إعلام
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1305),سنن النسائي البيوع (4592),سنن أبو داود البيوع (3336),سنن ابن ماجه التجارات (2220),مسند أحمد بن حنبل (4/352),سنن الدارمي البيوع (2585).
(2) صحيح البخاري الوكالة (2185),صحيح مسلم المساقاة (715),سنن الترمذي النكاح (1100),سنن النسائي البيوع (4639),سنن أبو داود النكاح (2048),سنن ابن ماجه النكاح (1860),مسند أحمد بن حنبل (3/314),سنن الدارمي النكاح (2216).
(3) ج 19 ص 248 مجموع الفتاوى .
(4) ج2 من الإعلام ص 140 .
الموقعين ) ما نصه (1) : ( وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين ، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ، ومذهب أبي حنيفة . وطائفة قالت : العلة فيهما الثمنية . وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى . وهذا هو الصحيح بل الصواب .
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما ، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا . فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ . والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها . وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة ، فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية .
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات ، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال ، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا ، لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع ، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات ، بل الجميع سلع ، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة ، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة ، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ، ويستمر على حالة واحدة ، ولا يقوم هو بغيره . إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض ، فتفسد معاملات الناس - إلى أن قال - فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير ، مثل أن يعطي صحاحا
__________
(1) ج2 من الإعلام ص 137 .
ويأخذ مكسرة ، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها ، لصارت متجرا وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد . فالأثمان لا تقصد لأعيانها ، بل يقصد التوصل بها إلى السلعة . فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس ، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات ) . ا هـ .
ونظرا لوجود النص الثابت الصريح في جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، وذلك فيما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » وحيث إنه لا اجتهاد مع نص فإن الربا بنوعيه يجري فيهما في مسكوكهما وسبائكهما وتبرهما إلا ما أخرجته الصنعة منهما فقد اتجه بعض المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما إلى جواز التفاضل في بيع الذهب بجنسه والفضة بجنسها إذا كان أحد العوضين مما أخرجته الصنعة كالحلي مع بقاء الحكم بوجوب التقابض في مجلس العقد رعاية للنص الخالي عما يصرفه عن الحكم العام في جريان ربا النسيئة فيهما . وقد تقدم النقل عن ابن القيم رحمه الله في تعليل ذلك وأن للصنعة فيهما قيمة تقابل زيادة الثمن وزنا على وزن الحلية المبيعة من ذهب أو فضة .
مما تقدم يتضح أن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما ، وأن النص صريح في اعتبارهما مالا ربويا يجب في المبادلة بينهما التماثل والتقابض في مجلس العقد فيما اتحد جنسه ، والتقابض في مجلس العقد في بيع بعضهما ببعض إلا ما أخرجته الصناعة عن معنى الثمنية فيجوز التفاضل بين الجنس منهما دون النسأ على ما سبق من توضيح وتعليل .
وتأسيسا على ما تقدم في البحث من خصائص الذهب وكونه أكثر الأثمان إيغالا في الثمنية ، وما جاء فيه من نص صريح يقضي باعتباره مالا ربويا يلزم في المبادلة بين الجنس منهما المماثلة والتقابض في مجلس العقد ، وفي المبادلة بين الجنسين التقابض في مجلس العقد ، وتأسيسا على ما تقدم لنا من اعتبار الثمنية علة وقوع الربا في الذهب يمكننا الحكم على المسائل التي عرضها مجمع الفقه الإسلامي بجدة .
ومنها : حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر . الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجوازة لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا ؛ حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي ؛ وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله (1) .
ومنها : بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا : أي فيه صنعة
__________
(1) إعلام الموقعين ج 2 ص 140 - 141 .(3/31)
وصياغة . لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب ، وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس . فإذا كان الذهب المبيع مشغولا ، كأن يكون حليا ، فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي ، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل . وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز ، إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد . وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا إذا كان يدا بيد ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت : « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » (1) .
ومنها : المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال . لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم ؛ وما حرم تملكه حرم بيعه . أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام ، والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر ؛ وما حرم تملكه حرم بيعه . قال ابن القيم رحمه الله : ( وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وبغير جنسه ، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية ؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان ، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي ) (2) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
(2) إعلام الموقعين ج 2 ص 147 .
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه ، إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض . وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة ، هي : هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشتري منه حليا جديدا ؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة ، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع بين أعضاء مجلس الهيئة . ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا على مخالفة في الصرف ، ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة ؛ فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه . وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله حيث قال : ( الصحيح جواز قوله : بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا ، ولا يدخل تحت نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ؛ لأن المراد أن يعقد على شيء واحد في وقت واحد عقدين ، وذلك كمسائل العينة وما أشبهها ) (1) ا هـ .
وقال رحمه الله في معرض إجابته عن الذي يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة : ( ويدخل في ذلك مسائل العينة وضدها . . . - إلى أن قال - وأما تفسيره بأن تقول : بعتك هذا البعير مثلا بمائة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة فالمذهب إدخالها في هذا
__________
(1) الفتاوى الجلية ص 96 .
الحديث ، والقول الآخر في المذهب عدم إدخالها وأن لا يتناولها النهي لا بلفظه ولا بمعناه ، ولا محظور في ذلك ، وهو الذي نراه ونعتقده ) (1) ا هـ .
وأما الساعات الذهبية ، فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها ، واستعمالها ، والمتاجرة فيها بالبيع والشراء ، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء . والله أعلم .
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما ، بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به ، فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر ، وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر . فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما ، من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما ، أو بجزء منها ؛ لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها ، ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما ، وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا ، ونظر إلى القاعدة الشرعية : يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا - قال بجواز ذلك . ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
__________
(1) الفتاوى السعدية ص 298 .
يقول : « الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام » . والله أعلم .
ومنها : شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن ؟ اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة ، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا ، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد ، واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد ، وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة » (1) . إلى آخره - واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة ، فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد والقدرة التامة على التصرف فيه تعتبر قبضا . وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا للذمة ؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه . وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر . فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه ؛ لأن تصديقه
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن النسائي البيوع (4565),مسند أحمد بن حنبل (3/97).
يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه ، كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك ، وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه ، وهذا معنى القبض . وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته . ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله ؛ فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه ، وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه ، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه .
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق . وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن ، فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة .
وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله ؛ وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة ، والمصارفة بموجبه في رأيي غير صحيحة ؛ لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق .
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة ، منها احتمال سحبه على غير رصيد ، أو على رصيد لا يكفي لتغطيته ، أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه ، فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه . والله أعلم .(3/32)
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان ، فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين ، وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه ، ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة ، ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها ؛ حيث يتفرق المصارفان بموجبها وليس بينهما شيء . ومع هنا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية . والله المستعان .
ومنها : التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب ، وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ، ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها ، وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات .
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات ، أو من مخازن متخصصة ، لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك ، وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة .
الذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين : أحدهما : أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق ، حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد ، للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه . الثاني : أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه ، فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده ، فيطلب من المشتري الانتظار ، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء . وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة ، فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى . وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها . والله أعلم .
ومنها : حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه ، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب ؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها ؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب ؛ وذلك لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع والإلزام والالتزام وغير ذلك من التصرفات المالية . فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها . ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج . وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة ، كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب . فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه ، حتى يقال بمراعاة شروط الصرف ، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها ، والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها ، فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج . فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ، ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه ، ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط ، وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية ، والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك . ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا . ألا ترى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها أو عليها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة ، كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتمليكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا .
===============
شبهات حول الربا
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 66 / ص 236)
14 - شبهات حول الربا:
يخوض بعض المتأخرين في شبهات حول الربا ، منها أن الاقتصاد العالمي قائم على البنوك والتعامل بالربا . ومنها أن عمل البنوك اليوم يشبه المضاربة ، فالبنك يجني أرباحا من هذه الودائع ، وهو يدفع نسبة من هذه الفوائد عن طواعية ورضا . وإذا وضعنا هذه الأموال في البنوك دون أخذ فائدة - أي الربا - فإننا نعين البنك بذلك ، وإذا أخذناها ، فيمكن أن نساعد منها المحتاجين ، ومعظم هذه الشبهات الدائرة يجمعها قول الكفار منذ ألف وأربعمائة عام ، فيما حكاه عنهم الله تعالى: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (1) فوجه المشابهة لمن أراد أن يتلاعب بشرع الله يمكن أن يوجد ، ولكن الله أحل البيع وحرم الربا .
ونقول: إن شيوع الباطل لا يجعله حقا ، وقد بدأت محاولات محدودة للتعامل البنكي ، قائمة على منهج البيع وتحريم الربا ، وهي داخلة تحت ما أطلق عليه البنوك الإسلامية . وهذه البنوك تحارب من بعض علماء المسلمين ، كما تحارب من البنوك الأخرى الربوية بدعاوى مختلفة .
ومن ضمن هذه المغالطات ، أن البنوك الإسلامية تدفع ربحا غير محدد ، بينما تدفع البنوك الأخرى ربحا محددا ، وهذه أضمن لمصلحة الفقير ، كما أنه يمكن اعتبار ما يدفعه البنك من ربا ، بمثابة نسبة ربح قياسا على المضاربة ، خاصة وأن البنك يدفعها عن رضا ورحابة صدر ، وإذا خسر البنك ، فيمكنه أن يلجأ للقضاء ، ويثبت خسارته ، وبالتالي فإنه يصبح غير ملزم بدفع نسبة الربح المنصوص عليها .
وأقول: إن مثل هذه الشبهات هي ترقيع لواقع اقتصادي بعيد عن الإسلام ، ورحم الله الإمام إبراهيم بن أدهم (2) ، وهو القائل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) إبراهيم بن أدهم: زاهد مشهور، كان أبوه من أهل الغنى في بلخ، فتفقه ورحل إلى بغداد، ثم إلى الشام والحجاز، وتفقه على كثير من علمائها، وكان يعيش بالحصاد وحفظ البساتين، ويشترك مع الغزاة في قتال الروم، وجاءه عبد بعشرة آلاف درهم يخبره بموت أبيه، وأنه خلف له أموالا طائلة، فوهبه المال وأعتقه، وكان فصيحا إذا حضر مجلس سفيان الثوري وهو يعظ، أوجز سفيان في كلامه مخافة أن يزل، توفي سنة 161 هـ الأعلام 1 \ 31 البداية والنهاية 10 \ 135 .
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع (1)
وإلا فإن هذا الواقع الربوي ، هو الذي كان موجودا قبل الإسلام ، وهو ربا النسيئة ، وكان يمكن لذلك المرابي أن يقول: إن الذي أخذ المال بالربا ، اشترى به إبلا وأرضا وتاجر فيه ، وليس بمحرم علي أن يعطيني نسبة مما ربحه ، وكثير من الذين يأخذون الربا قديما وحديثا ، إنما يأخذونه للاستثمار ، وقليل منهم الذي يأخذ للحاجة الماسة أو للضرورة .
ولا أدعي أن البنوك الإسلامية تمثل شرع الله الحنيف ، وبعيدة عن النقص في بعض جوانبها ، ولكن يمكن القول : إن التعامل الأساس المعلن لهذا البنك ، هو موافق لشرع الله ، أما أن البنك قد يستعمل هذه الأموال استعمالا فيه شبهة ، فالإثم على من كذب وغير ، أما صاحب المال فقد اتفق على أن يكون التعامل موافقا لشرع الله .
وبالتالي فإن تشويش بعض العلماء على البنوك الإسلامية ، إنما
__________(3/33)
(1) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي 3 \ 135، دار إحياء التراث العربي ط1 سنة 1417 هـ 1996م، وقال: ورد ذكره في إحياء علوم الدين 3 \ 155 .
يصب في خدمة البنوك الربوية .
ولا أريد أن أذكر أسماء في هذا المقام ، ولكن أحيل إلى بعض المراجع لمن أحب الاستزادة والاستفادة (1) .
__________
(1) موقف الشريعة الإسلامية من المصارف \ د. إبراهيم بن عبد الله الناصر، بحوث في الربا \ محمد أبو زهرة. مجلة البحوث الإسلامية، القروض الإنتاجية وموقف الإسلام منها، د. فاروق النبهان، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، د. السنهوري 3 \ 68.
===============
الربا .. آثام وأضرار
مجلة البيان - (ج 166 / ص 6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الربا .. آثام وأضرار
إبراهيم بن محمد الحقيل
بناء النفس والأسرة ، وبناء المجتمع والأمة لا يكون إلا باكتساب ، ولا
اكتساب إلا بعمل . والعمل لا يكون إلا بالتعامل مع الآخرين ، سواء كان العمل
والاكتساب مشروعًا أم غير مشروع ، أخلاقيًا أم غير أخلاقي .
وأحكام الإسلام لم تكن كنظريات الاشتراكيين التي ألغت الملكية الفردية ،
وقتلت أبناءها ، وأدت بهم إلى العطالة والبطالة . وهي كذلك ليست رأسمالية تعطي
الحرية المطلقة في الأموال ليسحق الأقوياء والضعفاء ، ويكونوا بمثابة العبيد والخدم
لهم ، والعمال لديهم . كلا ! ليست أحكام الإسلام في التعاملات كذلك ؛ إذ وازنت
بين حق الفرد في الملكية الخاصة وبين حاجة المجتمع بما يحقق التقارب والألفة
والأمن ، فأعطت الفرد حق تنمية ماله بالكسب المشروع ، ولم تحرمه من ابتكارات
في التجارة ما دامت في حدود الحلال . وفي الوقت ذاته أغلقت تشريعات الإسلام
منافذ الاستبداد المالي ، والاحتكار التجاري ، واستغلال الطبقات الفقيرة وحاجاتها
إلى المال ، وفتحت أبواب الإحسان والقرض والصدقة ، والمضاربة المشروعة ..
إلخ .
وفي هذه المقالة عرض لبعض آثام الشرعية ، وأضراره الدينية والدنيوية ؛
تلك الكبيرة من الذنوب التي عمت وطمت في العصر الرأسمالي ، وتمت عولمتها
قبل عولمة أي شيء آخر ؛ إذ إن الربا انتشر في كل بلاد العالم انتشار النار في
الهشيم منذ عشرات السنين ، أي قبل أن يتحدث الناس عن العولمة .
ومع بالغ الأسف فإن انتشار هذه الجريمة النكراء هُوَّن وقعها على القلوب ،
حتى ألفتها فلم تعد تنكرها ؛ بل صار الإنكار على من ينكرها في عصر أصبح
الباطل فيه حقًا ولا حول ولا قوة إلا بالله . ومن كان يظن أن هذه الكبيرة المقيتة
ستوجد لها المسوغات وتوضع لها المبررات ؟ وممن ؟ من شيوخ معممين يحملون
أعلى الإجازات العلمية في الدراسات الإسلامية ، ويتربعون على سدة مناصب
الإفتاء في بلادهم .
وأضحت اليوم كثير من المعاملات المحرمة بالأمس تصنع لها المخارج
الشرعية ، وتتحول تدريجيا من دائرة الحرمة المغلظة إلى الأخف إلى المشتبه ، إلى
مسائل خلافية يجيزها بعض ويحرمها الأكثر ، ثم العكس يجيزها الأكثر ويحرمها
بعض ، حتى يخفت صوت المُحرَّم لها شيئًا فشيئًا فتصبح حلالاً .
ولإقناع جمهور الأمة التائه في غابة تلك التعاملات التي تخرج لنا الآلة
الرأسمالية كل يوم منها عشرات الصور ، عمدت كثير من صروح الربا المشهورة
- التي تحاد الله ورسوله وتعلن الربا صراحة - إلى إقناع الواقفين على عتبتها
مترددين بفتاوى تجيز بعض أساليبهم وتعاملاتهم . تصورها وتوزعها وتعلقها على
جدران الصرح الربوي الشامخ ، وإنها لمهزلة أن يكون سند من يجاهر بحرب الله
ورسوله فتوى خطتها أنامل من يدعو إلى الله - تعالى - وإلى سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم .
أضرار الربا الشرعية :
1- الربا من معاملات اليهود والمشركين :
كان من أعظم أمور الجاهلية ، وتعاملاتهم المالية ممارسة الربا وكسب الأموال
عن طريقة ، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن إلغاءه على مسمع من الناس
في حجة الوداع حينما خطبهم فقال : ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي
موضوع ، ثم قال : وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس ابن
عبد المطلب فإنه موضوع كله ) [1] .
واليهود يتعاملون بالربا حتى كان أكلهم له سببًا من أسباب عقوبتهم كما قال
الله - تعالى - : [ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ] ( النساء : 160-161 ) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - : ( أي أن الله قد نهاهم عن الربا
فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه ) [2] .
ولم يفارق اليهود عادتهم القديمة ؛ فأباطرة الربا في هذا العصر وملاك
كبريات مؤسساته ومصارفه هم من اليهود ، وهم الذين أفسدوا اقتصاد العالم ،
ونشروا المعاملات المحرمة ، وحطموا أسعار كثير من العملات ، وأفقروا كثيرًا من
الشعوب .
فمن تعامل بالربا فقد تشبه بأعداء الله - تعالى - من المشركين واليهود ،
وكفى بذلك إثمًا وخسرانا .
2- أنه محاربة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم :
جاء الزجر عن الربا في كتاب الله - تعالى - عنيفًا شديدًا ؛ إذ هو من الذنوب
العظائم القلائل [3] التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله .
وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله - تعالى - بإشهار السلاح ، وإزهاق
الأرواح ، واغتصاب الأموال ، وترويع الآمنين ، وقطع السبيل ؛ فإن أكلة الربا
يحاربون الله - تعالى - بدمار المجتمعات ، والإفساد في الأموال مما يؤدي إلى
الفساد في الأرض ، وتوسيع الهوة بين الطبقات مما يلزم منه حدوث الجرائم وكثرة
الخوف ، وقلة الأمن .
إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق ، ولا يأخذون المال
عنوة ؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم ! ! وينتبهون أموال الناس
وهم يربتون على أكتافهم ! !
إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق ؛ ولكنها أوسع نطاقًا ،
وأكثر تنظيمًا ومخادعة ؛ ففاقت في انتشارها وقبحها رفع السلاح وانتهاب الأموال
بالقوة ، وقد قال الله - تعالى - محذرًا منها : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ] ( البقرة : 278-279 ) .
وويل ثم ويل لمن حارب الله - تعالى - وهو يمشي على أرضه ، ويأكل
رزقه ، وينعم بفضله ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يقال يوم القيامة
لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب [4] . وعنه - رضي الله عنه - قوله في معنى
الآية : [ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ] ( البقرة : 279 ) [5] .
وقال قتادة السدوسي - رحمه الله تعالى - ( أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ؛
فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا ) [6] ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى
سوء خاتمة أكلة الربا [7] .
3- أن فيه كفرًا لنعمة المال :
لم يكتف المتعامل بالربا بما رزقه الله من مال ، ولم يشكر نعمة الله - تعالى-
به عليه ؛ فأراد الزيادة ولو كانت إثمًا ، فكان كافرًا لنعمة ربه عليه ؛ فمال ماله إلى(3/34)
الحق ومزع البركة ، كما قال الله - تعالى - : [ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ ] ( البقرة : 276 ) . قال ابن كثير - رحمه الله -
تعالى : ( أي لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم
هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا
يكتفي بما شرع له من الكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل
بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس
بالباطل ) [8] .
4- أن الربا مخل بالإيمان :
كل معصية تخل بإيمان العبد ، وعلى قدر المعصية يكون اختلال الإيمان ؛ إذ
إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هو مذهب السلف الصالح وأتباعهم
بإحسان ، وقد قال الله - تعالى - في شأن الربا : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ] ( البقرة : 278 ) ، قال القاسمي - رحمه
الله تعالى - ( فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان ) [9] .
ولذا كان المتعامل حقيقًا باللعن والطرد من رحمة الله تبارك وتعالى . قال
جابر - رضي الله عنه - : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله
وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) [10] .
5- أنه من المهلكات للأفراد والأمم :
أما الأفراد فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الربا من التسع الموبقات [11] ،
ثم عده في السبع الموبقات [12] التي حذر منها وأمر باجتنابها .
وأما على مستوى الأمم فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه : ما ظهر في قوم
الربا والزنا إلا أخلوا بأنفسهم عقاب الله [13] ، وكفى بذلك زاجرا عنه للأمم التي تود
المحافظة على اقتصادها ، وتخشى الكوارث والنوازل .
6 - الربا أعظم إثمًا من الزنا :
ورد في السنة النبوية أحاديث كشفت حقيقة تلك الجريمة النكراء ، وأبانت
بشاعتها وقبحها بما يردع كل مؤمن بالله - تعالى - والدار الآخرة عن مقاربتها بله
مقارفتها ؛ ومنها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى
الربا عرض الرجل المسلم ) [14]
وكذا حديث عبد الله بن حنظلة - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين
زنية ) [15] .
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى - : ( وله : أشد من ست وثلاثين ... إلخ
يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي ؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا
هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور ، بل أشد منها ؛ لا شك أنها قد
تجاوزت الحد في القبح ) [16]
ومن نظر في هذين النصين وشواهدهما من السنة النبوية تبين له أن قليل
الربا أعظم من كثير الزنا ، مع ما في الزنا من فساد الدين والدنيا ؛ حيث سماه
الله - تعالى - فاحشة وساء سبيلا ، ونهى عن الاقتراب منه كما قال - تعالى - :
[ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ] ( الإسراء : 32 ) ، وحرمت
الشريعة الطرق المفضية إليه ، وسدت الذرائع الموصلة له ، وفيه خيانة كبرى
لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها ، ويؤدي إلى فساد الأخلاق وارتفاع الحياء ،
واختلاط الأنساب ، وفشو الأمراض ، وحصول الشكوك ، وتبرؤ الزوج من نسبة
ابن زوجته الزانية وملاعنتها على ذلك ، وربما حصل عنده شك في أولاده من
زوجته قبل زناها إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت أن يكون حد
الزناة المحصنين الرجم بالحجارة حتى الموت .
وحد غير المحصنين الجلد والتغريب ، ورد شهادتهم ووصفهم بالفسق إلا أن
يتوبوا ، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور مسجور تشوي فيه أجسادهم .
رغم ما تقدم كله فإن الدرهم من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية ؛ فإذا كان
هذا في درهم واحد فكيف بحال من يأكلون الألوف من الربا بل الملايين والمليارات ؟
وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا ، ومن كان كسبه من فوائد الربا
الخبيثة ، ومن كانت وظيفته كتابة الربا ، أو الدعاية له ، أو حراسة مؤسسته ؟
وما هو مصير جسد ما نبت إلا ما نبت إلا من ربا ، وأولاد ما أطعموا إلا من
كسبه الخبيث وما غٌذّيت أجسادهم إلا عليه ، فما ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت ؟
الصلة بين الربا والزنا :
إن المتأمل للحديثين السابقين وما في معناهما يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين
جريمتي الربا والزنا ، وأن الربا أشد جرمًا من الزنا ؛ فما هو السر في ذلك يا ترى ؟
إن الذي يظهر لي - والعلم عند الله تعالى - أن من أهم أسباب انتشار الزنا
في الأمم تعامل أفرادها بالربا ، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها ، أما الزنا
فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتها وولدها ولا يتعدى ذلك في الغالب إذا
لم يكن ثمة مجاهرة به ، وإقرار له [17] .
إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة ، والفجوة بين الفقراء
والأغنياء التي تزداد اتساعًا وانتشارًا كلما تعامل الناس بالربا تجعل الفقير لكما
اقترض تضاعفت ديونه ، وازداد فقره وأشتد جوعه ؛ حتى يٌضعٍفَ الفقر والجوع
والحاجة غيرته على عرضه ، فلا يأبه إن زنت محارمه إذا كان من وراء ذلك عائد
مالي يقلل فقره ويشبع بطنه . وما زنت الزانية المحتاجة أول ما زنت إلا لما جاع
بطنها ، وصاح رضيعها واحتاج أهلها ، ولربما أمرها وليها بالزنا - عوذًا بالله -
من أجل أن تطعم أسرتها . وإذا انكسر حياؤها مرة فلن ينجبر أبدًا حتى تتخذ الزنا
مهنة لها إلا أن يشاء الله تعالى ؛ والواقع يشهد ذلك في كل البلاد التي عمّ فيها الربا ،
وزال من أفرادها الإحسان ؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات
المرابين ، وأما بقية الناس فيغرقون في ديونهم ، ويموتون جوعًا وفقرًا . فالربا ليس
سببًا في وقوع الزنا فحسب ؛ بل هو سبب لانتشاره في الأمم ، وإذا كان الزنا
جريمة أخلاقية ؛ فإن الربا جريمة أخلاقية مالية تجر إلى كوارث عدة من انتشار
البطالة والفقر والجوع والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة .
7- المتعامل بالربا يُعذَّب في قبره وعند نشره :
الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه ، الآخذ
والمعطي فيه سواء .
وآكل الربا يٌبعث يوم القيامة وهو يتخبط في جنونه كما قال - تعالى - :
[ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ]
( البقرة : 275 ) .
قال سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - : ( بعث آكل الربا يوم القيامة
مجنونًا يخنق ) [18] ، وقال وهب بن منبه : ( يريد أن بُعث الناس من قبورهم
خرجوا مسرعين لقوله : [ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ ] ( المعارج : 43 ) ، إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا ، فأرباه الله في
بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا
يقدرون [19] .
ويشهد لهذا المعنى حديث مرفوع فيه ضعف عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتيت ليلة أسرى بي على
قوم بطونهم كالبيوت فيها حيات تُرى من خارج بطونهم ؛ فقلت : من هؤلاء يا
جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلةُ الربا ) [20] .(3/35)
وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام عن سمرة بن جندب -
رضي الله عنه - وفيه : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأتينا على نهر - حسبت
أنه كان يقول : أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط
النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع
الحجارة عنده ، فيغفر له فأه فيلقمه حجرًا حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الأخر
وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة أكل الربا [21] .
قال ابن هبيرة - رحمه الله تعالى - : ( إنما عوقب أكل الربا بسباحته في
النهر الأحمر وإلقامه الحجارة ؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب ، والذهب أحمر .
وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئًا ، وكذلك الربا فإن
صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه يمحقه ) [22] .
8- أن المتعامل به ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : ( لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء ) [23] .
قال النووي - رحمه الله تعالى - : ( هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين
المترابين ، والشهادة عليهما ، وفيه تحريم الإعانة على الباطل ) [24] .
وقال الصنعاني : ( أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن رحمة ، وهو دليل
على إثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه ، وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع ،
وغيره مثله ) [25] .
أضرار الربا الدنيوية :
إذا تلوثت الأجواء أصاب كل من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث ، وإذا
تكدرت المياه دخل شيء من كدرتها جوف كل شارب منها ، وهكذا يقال في كل
شيء متلوث يباشره الناس ، حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب
المتعاملين بها بيعًا وشراءً ، وأخذًا وعطاءً شيء من خبثها وسحتها ؛ فكيف إذا كانت
بنية الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث ؛ وفقًا للنظرية الرأسمالية المبنية على
الحرية المطلقة في الأموال ، والمقررة أن الغاية تسوِّغ الوسيلة ؟ فلا شك - والحال
ما ذكر - أن تتلوث الأموال عالميًا بالكسب الخبيث ؛ حتى إن من حاول الاحتراز
والتوقي يصيبه رذاذ خبث الأموال ، وغبار الربا المتصاعد منها ، مصداقًا لحديث
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليأتين على
الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا ، فإن لم يأكله أصابه من غباره ) [26] .
وإذا كان الأمر كذلك فإن حصول أضرار دنيوية اقتصادية واجتماعية وغيرها
متحقق ولا مفر مه في كل أمة انتشر فيها الربا وما يتبعه من كسب خبيث كما دلت
على ذلك النصوص والعقل وواقع حال البشر في هذا العصر الذي علا فيها شأن
الاقتصاد المبني على الربا على الشؤون الأخرى .
ومن تلكم الأضرار الدنيوية ما يلي :
1- أن الربا سبب للعقوبات ومحق البركات :
قال الله - تعالى - : [ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ
كُفَّارٍ أَثِيمٍ ] ( البقرة : 276 ) .
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - [ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ
فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ ]
( الروم : 39 ) .
والآياتان دالتان على مباركة المال بالصدقة لترغيبهم فيها ، ومحقه بالربا
لترهيبهم وتنفيرهم منه ، ولا سيما أن النفوس البشرية تحب تملك المال وتنمية له ؛
فبين الله - تعالى - أن البركة تحصل بالصدقة ، والمحق يحصل بالربا .
قال الرازي : ( لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة
في الأمر بالصدقات ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل
الربا ، وكشف عن فساده ، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في
الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير ؛ فبين - تعالى -
أن الربا وإن كان في زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصفة وإن
كانت نقصانًا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ، ولما كان الأمر كذلك كان
اللائق بالعاقل ألا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوراف ،
بل يعول على ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف ) [27] .
والظاهر أن محق الربا للمال يكون في الدنيا والآخرة ؛ لعموم النصوص وعدم
تخصيصها المحق بدار دون أخرى :
ومن صور محقه في الدنيا : عدم بركته ، وإنفاقه فيما لا يعود على صاحبه
بالنفع بل فيها يصره ؛ ليقينه أنه كسب خبيث فينفقه في خبيث أيضًا ، فيكتسب به
إثمين : إثمًا في الاكتساب وإثمًا في الإنفاق ؛ ذلك أن كسب المال في حرام لا يجيز
إنفاقه في الحرام كما يظن كثير ممن يتخوضون في الحرام . ثم إن من استغل حاجة
الفقراء وأكل أموال الناس بالربا فإنهم يبغضونه ويلعنونه ويدعون عليه ؛ مما يكون
سببًا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ، وإذا جمع مالاً عظيمًا بالباطل
توجهت إليه أطماع الظلمة والغاصبين ، ويشجعهم على ذلك أنهم لا يرون أحقيته
بالمال ، فيسوغون لأنفسهم أخذه منه أو مشاركته فيه .
ومن صور محقه في الآخرة : عدم تسخيره في الطاعة لعلمه أنه محرم ، ولو
تصدق به أو حج أو أنفق في وجوه البر لكان حريًا بالرد وعدم القبول ؛ لأن الله -
تعالى - طيب لا يقبل إلا طيبا ، ثم إن ما يحصل له من شدة الحساب والعذاب
المرتب على الربا في البرزخ وعند النشر من أعظم المحق ، ذلك أن الأصل في
المال منفعة ينفع صاحبه ، والمرابي عاد عليه ماله بالضرر .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الربا وإن كثر فإن عاقبته
إلى قلٍّ ) [28] .
قال المناوي - رحمه الله - : ( أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلاً يؤول
إلى نقص ومحق آجلا بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك ؛ فهو مما يكون
هباء منثورا . قال الطيبي : والكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا ؛ فيجب أن يقدر :
مال الربا ؛ لأن مال الربا ربا ) [29] .
ولا يشك مؤمن أن القليل المبارك من المال خير من الكثير الممحوق البركة
ولو كان الكثير محل إعجاب الناس وتطلعاتهم ورغباتهم ؛ ولذا قال الله - تعالى -
[ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي
الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] ( المائدة : 100 ) .
والواقع المشاهد يؤكد هذه الحقيقة التي قررتها نصوص الشريعة سواء على
المستوى الفردي أو الجماعي والأممي .
أما على المستوى الفردي فإن أكثر الناس في هذا العصر - عصر الربا -
يشكون من قلة بركة أموالهم رغم كثرة دخولاتهم وتعدد سبل كسبها .
أما على المستوى الأممي - العالمي - فرغم اختراع الآلة ، واستغلال ثروات
الأرض ، وتنوع الصناعات ، وتعدد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج
منها في اليوم ما لم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات ؛ حتى صارت أرقام الإنتاج
الزراعي والصناعي أرقامًا عالية جدًا ؛ رغم ذلك كله فإن أكثر سكان الأرض
يعيشون فقرًا ، ولا يجدون كفافًا وفي كل يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض ،
فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية ؟ لِمَ لَمْ تسد جمع الملايين من البشر وهي
تبلغ ملايين الملايين من الأطنان ؟ فما كانت إذن قلة إنتاج ، ولكنها قلة بركة فيما
ينتجون ويزرعون ويصنعون ! !
وأما حلول العقوبات ، فإن المحسوس المشاهد منها الذي يعاني منه البشر في(3/36)
عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يعد . وهناك عقوبات معنوية يعاني منها أكثر
الناس ولم يكتشفوا سر تلك المعاناة ومنها : استعباد المادة للإنسان بحيث تحولت من
كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها ، ثم يشقى بحفظها ،
ويخشى فواتها . وتلك عقوبة أيًُّ عقوبة ! !
إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسه الربا يريد الاستغناء بالأشياء ،
فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجس زوالها فيظل شقيًا في تحصيلها ، شقيًا في
الحفاظ عليها ، وهل يجد لذة الحياة من نعم جسده ، وعذّب قلبه ، وأي عذاب أعظم
من عذاب القلب ؟
وقد كان الإنسان قبل العصر الرأسمالي يستغني عما لا يستطيع تحصيله ،
ويقنع بما كتب له ، فيرتاح باله ، ويطمئن قلبه .
2- الربا سبب لازدياد الفقر :
سيطرة المادة على الناس ، وخوفهم من الفقر والحاجة ، وانعدام قناعتهم
بالضروري من العيش ، وتطلعهم إلى كماليات لا يحتاجونها ، إلى غير ذلك انتشر
وساد في العصر الرأسمالي الربوي ، وكل ذلك وتوابعه ليست أخلاقا ذميمة فحسب ؛
بل هو عقوبات وعذاب يتألم الناس من جرائها في زمن انتشار الربا ؛ حتى
أصبح الفقير يريد الغنى ، والغني يريد أن يكون أكثر ثراء ، وصاحب الثراء
الفاحش يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحب الذات
وكراهية المتنافسين ، وغير ذلك من الأخلاق الرديئة ، وصار في الناس مستورون
لا يقنعون ، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى .
وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا ، وارتباط المعاملات
المالية به فإن النهاية المحتومة ازدياد الفقر والجوع حتى يهلك أكثر البشر ،
واجتماع المال في خزائن فئة معدودة من كبار المرابين ، وهذا ما جعل أحد كبار
الاقتصاديين الأوروبيين يطلق على الربا : تجارة الموت ، فيقول : ( الربا تجارة
الموت ، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيل
مضاعفة رأس المال ببيع السلاح ) [30]
وما حطم قيمة الأوراق النقدية ، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي
يقوم عبره عصابة من المرابين بضخ المال في عملة من العملات ثم سبحه من
رصيدها لتقع قيمتها من القمة إلى الحضيض ، فيصيب الفقر شعوبًا وأممًا لا تملك
سوى عملتها التي ما عادت تساوي شيئًا ، وليس ببعيد عن الأذهان ما حصل لبعض
دول شرق آسيا .
3- الربا سبب لرداءة النقود وضعفها :
المتخصصون في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماء الاقتصاد ، والنقود
السليمة هي التي تجعل الاقتصاد سليمًا ؛ ولكن نقود العالم الحالية مريضة بالتضخم
الناتج عن الربا ، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم ، ولن يتم علاجه إلا بإلغاء
فوائد الربا . ويشخص هذه الحقيقة الاقتصادي الألماني : ( جوهان فيليب بتمان )
مدير البنك الألماني ( فرانكفورت ) فيقولك : كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد ، فكما
يؤدي الماء إلى رداءة النقود . قد يبدو الأمر أننا نسوق تعبيرات أدبية ، أو أننا
نبسط المسألة ونسطحها ؛ ولكن الحقيقة أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في
الواقع معادلة سليمة وصحيحة تدل عليها التجربة ، ويمكن إثباتها ؛ فالفائدة العالية
تدمر قيمة النقود ، وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم ، وتتوقف سرعة
التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها [31] .
وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قِلٍّ وهذه صورة من صور المحق
التي يسببها الربا للأموال المتعاملين به .
وبسبب انتشار الربا في المعاملات المالية أضحت البورصات العالمية وكأنها
صالة قمار واسعة ، ليس الأمر فيها يتصل بالمقامرات غير المحسوبة فحسب ؛ بل
إن هناك من يبيع دائمًا ما لا يملك ، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمنًا . ومن
يتظاهر بأن هناك أسهما لشركات وما هي في الواقع بشركات ، ومن يقيد بالدفاتر
مليارات كبيرة دون أن يراها ، ودون أن يقابلها رصيد من أي نوع ، إنها الفائدة
الملعونة المسؤولة عن المصائب الكبرى في النظام النقدي العالمي ، وهي المسؤولة
عن التضخم ، وعن ضياع الأموال ، وعن عجز دفع المدينين ديونهم ، كما قرر
حقيقة ذلك الاقتصادي الغربي ( موريس آليه ) الحائز على جائزة نوبل في
الاقتصاد [32] .
4- الربا سبب لرفع الأمن وانتشار الخوف :
تسود الأنانية وحب الذات وانعدام الرحمة كل المجتمعات التي ينتشر فيها
الربا ؛ فالموسرون المرابون يقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد الربا التي تزداد مع
طول المدة وشدة الحاجة ، مما يجعلهم عاجزين عن السداد . والنتيجة النهائية : إما
أن يسرقوا لسداد القروض الربوية ، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين ؛
ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس ، أو في الملاجئ
والدور الاجتماعية مما يكون سببًا في قتل كرامتهم ، وحرمان المجتمع من عملهم
وإنتاجهم .
إن الربا هو السبب الرئيس في انتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رءوس
الأموال وكبار المرابين ، مما يكون سببًا في رفع الأمن ، وبسط الخوف والذعر في
المجتمعات .
وواقع كثير من البلدان التي ينتشر فيها الربا شاهد على ذلك ، وهل يستطيع إنسان
بِيعَ بيتُه ، وشُرِّدَ هو وأولاده لسداد ما عليه من قروض الربا أن يصبر عن الانتقام ؟
وماذا يبقى له في الدنيا إذا كان يريد العيش لها إلا أنه فقدها فجأة ؟ ! .
وأخيرًا .. اجتناب الربا أهون من التخلص منه :
إن المتعامل بالربا يعز عليه الخلاص منه بعد الغرق فيه ، ولا سيما إذا كانت
تجارته كلها مؤسسة عليه . ولا ينجو من ذلك بعد الانغماس فيه ، ويبادر بالتوبة
والخلاص منه إلا من هدي للرشاد ووفق للخير .
قد يغتر المبتدئ في حياته الوظيفية أو التجارية بالقروض الربوية الميسرة أو
بالفوائد المركبة والبسيطة التي تعلن عنها بين حين وآخر البنوك الربوية ؛ بقصد
أكل أموال الناس بالباطل ، ويتولى إثم الإعلان عنها ، والدعاية لها المؤسسات
الإعلامية المختلفة من مشاهد ومسموع ومقروء ؟ ولكن ذلك المسكين الذي أغتر بها
حين يفرق في الربا ربحًا أو خسارة فلن ينجو بسهولة ، وكان الأسهل عليه أن
يجتنب طريقها أولاً .
إنه قد يربح الفوائد من الإيداع ولكنه سيخسر بركة ماله ، ولقمة الحلال ودينه
وآخرته ، وإن كان مقترضًا فسيجني أغلال الديون مع الإثم والفقر .
والشاب الذي يغريه راتب الوظيفة الربوية وسيارتها وبعثاتها وميزاتها عليه
أن يتذكر أن عاقبة ذلك خسران في الدنيا والآخرة ، والرضى بالقليل الحلال خير
وأعظم بركة من الكثير الحرام ، ولن يندم عبد تحرى الحلال في كسبه وإن فاته
الكثير من المال ؛ لكنه سيندم أشد الندم إن أدخل في جوفه حرامًا ، وقد يكون ندمه
متأخرًا لا ينفعه .
والله - تعالى - قال : [ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ
إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] ( البقرة : 275 )
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج ، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه (147) .
(2) تفسير ابن كثير (1/889- 890) .
(3) لم يأت إطلاق لفظ المحاربة في الشريعة - حسب علمي - إلا على ثلاث من الكبائر : أ- أكل الربا وفيه قول الله - تعالى - : [ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ] (البقرة : 279) ب- قطع الطريق وفيه قوله - تعالى- : [ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن(3/37)
يُقَتَّلُوا ] (المائدة : 33) ج- معاداة أولياء الله - تعالى - وفيه الحديث القدسي : (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وجمع الذنوب والمعاصي فيها نوع محاربة لله ورسوله ، لكن نص الشارع على هذه الثلاث من الكبائر لعظيم جرم مرتكبها ، فهو مستحق لسخط الله ومقته .
(4) انظر : هذا الآثار في جامع البيان ، للطبري 3/ 108 .
(5) أنظر : هذه الآثار في جامع البيان ، للطبري 3/ 108 .
(6) أنظر : هذه الآثار في جامع البيان ، للطبري 3/ 108 .
(7) انظر : محاسن التأويل ، للقاسمي ، 1/ 631 .
(8) تفسير ابن كثير ، 1 / 493 .
(9) محاسن التأويل ، 1/ 631 .
(10) أخرجه مسلم في المساقاة ، باب لعن أكل الربا وموكله (1598) .
(11) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه أخرجه أبو داود في الوصايا (2875) وفيه : .
(هن تسع) وذكر زيادة على السبع المذكورة في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الشيخين : (وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتنا) و الطحاوي في شرح مشكل الآثار (898) و الحاكم وصححه ووفقه الذهبي 1/ 95 .
(12) أخرجه الشيخان البخاري في الوصايا (2766) ، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(13) أخرجه أحمد ، 1/ 402 ، و أبو يعلى كما في المقصد العلي (1859) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وجود إسناده الهيثمي في الزوائد 4/118 ، و المنذري في الترغيب 3/ 194 ، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا ، وصححه ووافقه الذهبي ، 2/ 37 .
(14) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 37 ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا مختصرًا بلفظ : الربا ثلاثة وسبعون باباً (2275) و صححه البوصيري في الزوائد 2/ 198 ، وأخرجه البزار في البحر الزخار (1935) وقال الهيثمي في الزوائد : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح 4/ 116- 117 ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1851) ، وله شاهد عند البيهقي في الشعب (2761) من حديث أبو هريرة - رضي الله عنه - وفي سنده عبد الله بن زياد ، قال البخاري : منكر الحديث كما ي ميزان الاعتدال 2/424 ، وله شاهد آخر من حديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عزاه الألباني للطبراني وصححه في صحيح الجامع (1531) .
(15) أخرجه أحمد 5/ 225 ، و الطبراني في الأوسط (2682) ، و الدراقطني (92819) ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح 4/117 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033) .
(16) نيل الأوطار ، 6 / 278 .
(17) هذا إذا لم ينتشر الزنا في المجتمع ، والغالب أنه لا يخلو مجتمع كبير من حالات زنا ، وقد وقع ذلك في الزمن الأول من الإسلام وهو أفضل العصور ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية - رضي الله عنهم ، ولاعن هلال بن أمية زوجته - رضي الله عنهما - ولعل السبب في ذلك أن الزنا تدفع إليه غزيرة قد يضعف العبد حيالها في وقت من الأوقات ، وتحجب عقله فيقع المحظور خلاف الربا فإنه متعلق بغريزة حب المال وهي أقل تمكنًا من غريزة الشهوة الفطرية ولذلك لم تقع حالات ربا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم - بعد ورود النهي عنه رغم أنه كان من معاملاتهم المشهورة في الجاهلية .
(18) وجاء نحوه عن قتادة و الربيع و الضحاك و السدي و ابن زيد ، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثله ، وهو قول جمهور المفسرين ، وانظر آثارهم في جامع البيان ، 3/103 ، وتفسير ابن كثير 1/ 487 ، 488 .
(19) التفسير الكبير للرازي ، 7/ 79 .
(20) أخرجه ابن ماجه (2273) ، والبيهقي مطولا و ابن أبي حاتم وأحمد كما في تفسير ابن كثير ، 1/ 488 ، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف .
(21) رواه البخاري ، ح / 7047 .
(22) فتح الباري ، لابن حجر 12/ 365 ، وفي : " والله من ورائه محقه " ولعله خطأ مطبعي .
(23) أخرجه مسلم (1598) .
(24) شرح النووي على صحيح مسلم ، 11/ 37 .
(25) سبل السلام ، 5 / 109 .
(26) أخرجه أبو داود (3331) ، و النسائي 7/ 243 ، وابن ماجه (2278) ، والحاكم 2/11 كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة وسماع الحسن - رحمه الله - من أبو هريرة - رضي الله عنه - مختلف فيه ؛ ولذا قال الحاكم بعد روايته : " قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة ، فإن صح سماعه منه فهذا الحديث الصحيح " اهـ ، والذهبي يرى سماع الحسن لهذا الحديث من أبر هريرة، حيث قال : " سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح " انظر التخليص (2162) وتبع الذهبي في تصحيح الحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة 2/ 444 والظاهر أن الألباني - رحمه الله - لا يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة ولذا ضعفه في ضعيف الجامع .
(4874) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه وهو من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(27) التفسير الكبير ، 7/ 83 ، وانظر محاسن التأويل للقاسمي ، 1/ 630 .
(28) أخرجه أحمد 1/ 395 ، والحاكم ، وصححه ووافقه الذهبي ، 2/ 37 ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير ، 2/ 22 ، و أحمد شاكر في شرحه على المسند (3754) ، والألباني في صحيح الجامع (3542) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(29) فيض القدير 4/ 50 .
(30) مجلة الاقتصاد الإسلامي ، عدد (91) ، جمادى الآخرة ، 1409هـ ، ص 7 .
(31) ذكر ذلك في دراسة له عنوانها : كارثة الفائدة ، ترجمها الدكتور أحمد النجار ، ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي ، عدد (194) ، ص 54 .
(32) مجلة الاقتصاد الإسلامي ، عدد (184) ، ص 68 .
============
التورق نافذة الربا في المعاملات المصرفية
مجلة البيان - (ج 195 / ص 8)
دراسات في الشريعة
التورق
نافذة الربا في المعاملات المصرفية
د. محمد بن عبد الله الشباني
* مقدمة :
الواقع المعاصر للمعاملات المالية يتسم بالولوغ في الربا ، فلم يقتصر الأمر
على الربا الصريح الذي تمارسه البنوك التجارية وغيرها من المؤسسات المالية ،ولكن الأمر تعدى ذلك إلى توسيع نطاق الربا تحت مسمى المعاملات الإسلامية .
فدخل التعامل الربوي حياة فئات كثيرة من الناس كانت تتحرج من الاقتراض والإقراض الربوي ، ولكن وقعوا فيه من خلال ما تم طرحه من فتاوى صادرة من اللجان الشرعية لهذه البنوك تجيز الحصول على المال منها ، حيث تتسم تلك الفتاوى بانتهاج أسلوب البحث عن مخارج شرعية لتحليل الربا بإضفاء صيغة البيع على الاقتراض والإقراض الربوي .
وظهرت مسمّيات تزعم بأنها معاملات متوافقة مع الشريعة الإسلامية ، وذلك بالاتكاء على الفتاوى الصادرة من اللجان الشرعية لتلك البنوك ، وأصبح يُطلق على كثير من عمليات التحايل على التمويل الربوي مسميات مضللة ؛ مثل « التورق المبارك » ، و « التمويل المبارك » ، و « تمويل الخير » ، و « التيسير » ، و « تورق الخير » و « برنامج أتقى وأنقى » ، كبديل لما يعرف في البنوك التجارية بالودائع الآجلة ، وكل هذه البرامج من الإقراض والاقتراض تحت تلك المسميات ما هي إلا أكل للربا وتأكيله .
ولقد تحقق ما أشار إليه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود و ابن ماجه و الحاكم و البيهقي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا(3/38)
أكل الربا ، فإن لم يأكله أصابه من غباره » ، وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة قال :
« يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا فمن لم يأكله ناله من غباره » ، وقد
ورد في هذا المعنى حديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : « ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ؛
أم من حلال أم من حرام » .
هذه الظاهرة بدأت في التجذر والاتساع في المعاملات المصرفية لتوسيع نطاق
الربا باستخدام ما يعرف في الفقه الإسلامي بصيغة « التورق » في شراء السلع
وبيعها ، وإدخالها في جميع المعاملات المصرفية ذات الطابع الإقراضي
والاقتراضي باعتباره مخرجاً من الربا ، سواء فيما يتعلق بتمويل الأفراد
والمؤسسات ، أو بإعطاء الفائدة للمودعين فيما يُعرف في المصطلح البنكي بالفائدة
على الودائع لأجل ، واستُخدمت صيغة التورق أداة ومخرجاً للإقراض والاقتراض
من قِبَل المصارف ، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة حقيقة هذه الصيغة وما
ينتج عنها من عقود يتم التعامل بها من قِبَل البنوك التجارية ؛ بدارسة كيفية منحها
التمويل من خلال بيع المرابحة باستخدام صيغة التورق كحيلة لاستحلال الربا ،
وهذا ما سنعرضه من خلال الجوانب الآتية :
أولاً : الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة .
ثانياً : بيع التورق وعلاقته بالحيل الفقهية .
ثالثاً : ماهية الربا وحقيقته .
رابعاً : عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك .
خامساً : ربوية صيغة التورق كما تتم في البنوك .
* أولاً : الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة :
الحيل الفقهية أسلوب من الأساليب التي تُتبع ؛ إما للوصول إلى ما حرّمه الله
تحت غطاء الشرع ، وإما للبحث عن مخارج تحل بعض القضايا التي قد تتعارض
في ظاهرها مع القواعد والعلل التي يستند إليها الفقهاء في تحديد الحكم الشرعي لأي
قضية من القضايا .
المعنى اللغوي للحيل والتي مفردها حيلة : عرفت في المعجم الوسيط
بـ ( تحيل كان حاذقاً جيد النظر قديراً على دقة التعرف في الأمور ) [1] ، وقد
استعرض صاحب كتاب الحيل الفقهية في المعاملات المالية المفهوم الخاص بالحيل ،
ووصل في تحليله لمفهوم الحيل إلى القول ( بأن الحيلة تطلق ويراد بها عدة معان ،
فيراد بها التحول والانتقال من حالة إلى أخرى ومن شيء إلى آخر ، أو بمعنى
الحيلولة والحجز بين الشيئين أو الإنسان والشيء ، أو بمعنى عدم الحمل بالنسبة لكل
أنثى ، وبمعنى طلب الحيلة ؛ أي الاحتيال ، وبمعنى الصفة ) [2] .
أما المعنى الفقهي فيقول ابن القيم : ( فالحيلة هي نوع مخصوص من
التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال ، ثم غلب عليها بالعرف
استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه ؛
بحيث لا يُفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة ، فهذا أخص من موضوعها في اللغة ،
وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً . وأخص من هذا استعمالها في
الغرض الممنوع شرعاً أو عقلاً أو عادة ، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس )
[3] .
ومن هنا فإن الحيل لا تعتبر جميعها محرمة ، وإنما المحرم ما كان وسيلة إلى
الوصول إلى ما حرم أخذه أو فعله . ولذا لا بد من معرفة الفرق بين الحيل المحرمة
والحيل الجائزة ، يقول الشاطبي : ( الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما
هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية ، فإن فُرض أن الحيلة لا تهدم أصلاً
شرعياً ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ) [4] ، وقد
وضع الإمام الشاطبي - رحمه الله - مقياساً يتبين به المتأمل نوع الحيلة ، ومدى
قبولها من رفضها ، يقول : ( فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه
أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب ؛ حتى يصير ذلك الواجب
غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً ؛ فهذا التسبب يُسمّى حيلة
وتحيّلاً ) [5] . ومن هنا يتضح أن أي أسلوب يُتخذ أو يُتبع يؤدي إلى إسقاط
الواجب أو تحليل المحرم في الظاهر ؛ فإنه يُسمّى حيلة عند الفقهاء .
إن التحايل على الأحكام الشرعية بقصد إرضاء النفس والتحايل لأكل الحرام
وفعله ؛ من الأمور التي حرمها الله تعالى في كتابه ، وأجمع على تحريمها سلف هذه
الأمة ، ومن أجاز صوراً من العقود البيعية للبنوك ( والتي سنناقشها لاحقاً ) ؛ بقصد
توفير احتياجات الناس للمال بدون إيقاعهم في الربا ظاهراً ، وبقصد إخراجهم من
الضيق والحرج والتوسعة عليهم بحكم أن الشريعة دائرة أحكامها على التخفيف
واليسر والأخذ بالرخص ؛ فهذا أمر غير مسوَّغ شرعاً ، فإن من الأمور التي يأمر
بها الشرع تقوية الخوف من الله ، وهذا من مقاصد الشرع ، ولهذا نجد في كثير من
الأمور أن الشريعة حرّمت كثيراً من البيوع سداً لذريعة الربا ، كما نهت عن
ممارسة كثير من الأمور المشتبهات بقصد تقوية الخوف من الله حذراً من الوقوع
فيما حرمه ، ولهذا فلا ينبغي تتبع حيل المذاهب من أجل تلبية رغبة الناس
وإرضائهم ، ومن الأمور المؤسفة تتبع الآراء الشاذة والحيل التي وضعها بعض
الفقهاء للابتعاد عن تنفيذ أحكام الله وعن مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت
الشريعة ، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية ، كما هو حاصل الآن من إجازة
عقود تتعارض مع مقاصد الشريعة تلبية لرغبات الناس ، ومن الأمور المقررة
شرعاً أن هناك تلازماً بين مقاصد الشريعة والنية والعمل ، يقول ابن القيم : ( فالنية
روح العمل ولبّه وقوامه ، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ، والنبي
صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم ، وهو قوله :
« إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » ، فيبين في الجملة الثانية
أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه ، وهذا يعم العبادات والمعاملات
والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال ، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد
الربا حصل له ولا يعصمه من ذلك صورة البيع ) [6] .
وقد استشهد - رحمه الله - لما توصل إليه من ارتباط المقاصد بالأفعال بقصة
أصحاب الجنة ؛ ( بأن حرمهم ثمارها لما توصلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط
نصيب المساكين ، وكذا اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ، ولم يعصمهم
التوسل إلى ذلك بصورة البيع ، فلم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها ، فإنها
بعد الإذابة يفارقها الاسم ، وتنتقل إلى اسم الودك ، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة
الاسم لم ينفعهم ذلك ... وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه
الحاكم وغيره : « لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ،
وإن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه » ، يعني ثمنه المقابل لمنفعة
الأكل ، فإذا كان فيه منفعة أخرى ، وكان الثمن في مقابلتها ؟ لم يدخل في هذا . إذا
تبين هذا ؛ فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون
مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته ؛ لم يستحقوا اللعنة لوجهين :
أحدهما : أن الشحم خرج بجمله ( إذابته ) عن أن يكون شحماً وصار ودكاً ،
كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك ،
فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم
اشتراه بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما ، وإنما هي كما قال
فقيه الأمة : « دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة » ؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة(3/39)
بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة البتة ، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف ، بل
المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال وأزيد منها .
الوجه الثاني : أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم ، وإنما انتفعوا بثمنه . ويلزم
من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك ، فلما
لُعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه ؛ علم أن الواجب النظر
إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ) [7] .
* ثانياً : بيع التورق وعلاقته بالحيل :
التورُّق نوع من البيوع اختُلف في جوازه ، فقد منعه كثير من العلماء ، كما
أجازه بعضهم مع تحفظ وشروط لا بد من توفرها عند التعامل بها ، ومن أهمها
توفر صيغة البيع الشرعي الصحيح ، والبيع كما عرفه الجصاص هو : ( تمليك
المال بإيجاب وقبول عن تراض بينهما ) ، ومن هذا التعريف فالبيع الصحيح هو ما
تم فيه نقل الملك ، وتم فيه القبض ، باستثناء بيوع الآجال المرخص فيها ، وكان
ذلك بعوض على وجه جائز شرعاً [8] .
والحيل في البيوع تأتي بفقدان عنصر من عناصر صحة البيع ؛ إما بفقد
التقابض أو التراضي الصحيح ، أو عدم الجواز الشرعي في الثمن أو المثمن ، ومن
هنا تأتي الحيل لتصحيح المعاملة لتأخذ الشكل المباح . يقول ابن قدامة في المغني :
( والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين ، وهو أن يظهر عقداً مباحاً
يريد به محرماً ؛ مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو
إسقاط واجب ) [9] . ويعرّف مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم
الإسلامي في دورته الخامسة عشرة بتاريخ 11 رجب عام 1419هـ التورق بأنه
( شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل ، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع
للحصول على النقد ) ، ومن هذا التعريف ندرك شرط تملُّك السلعة وحيازتها بعينها
لدى البائع قبل البيع ، مع عدم شرائه لها مرة أخرى بأي أسلوب . وهذا البيع نوع
من أنواع بيوع المضطر ، وقد ورد في مسند الإمام أحمد عن علي - رضي الله
عنه - ، كما نقله ابن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) ، قال : ( سيأتي على
الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك ، قال الله
تعالى : [ وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُم ] ( البقرة : 237 ) ، ... ويبايع المضطرون ،
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغرر ،
وبيع الثمر قبل أن يطعم ) . وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله : ( فإن
عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة ؛ يضن بها عليه الموسر بالقرض
حتى يربح عليه في المائة ما حب ، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي
العينة ، وإن باعها لغيره فهو التورق ، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل
الربا . والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق ، وقد كرهه عمر بن عبد
العزيز وقال هو آخية الربا بوزن قضية ، تربط إلى وتد مدقوق تشد بها الدابة ،
وعن أحمد فيه روايتان ، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر ، وهذا من فقهه
- رضي الله عنه - ، قال : فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر . وكان شيخنا
- رحمه الله - يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخِّص
فيها ، وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه ، مع زيادة الكلفة
بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها ، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو
أعلى منه ) [10] .
والتورق صورة من صور بيوع العينة ، فبيع العينة كما عرّفه الفيومي في
المصباح بقوله : ( العينة بالكسر السلف ، واعنان الرجل اشترى الشيء بالشيء
بنسيئة ، والاسم العينة بالكسر ، وفسّرها الفقهاء بأنها بيع الرجل متاعه إلى أجل ثم
يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم له ، وقيل لهذه البيع عينة ؛ لأن مشتري السلعة
إلى أجل يأخذ بدلها عيناً ؛ أي نقداً حاضراً ) [11] ، وقد عرف الإمام ابن تيمية
- رحمه الله - العينة بقوله : ( العينة في الأصل السلف ، والسلف يتم بتعجيل الثمن
وتعجيل المثمن وهو الغالب هنا ، يقال اعنان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء
بنسيئة ، كأنها مأخوذة من العين ( الدنانير والدراهم ) وهو المعجل ، وصيغت على
« فعلة » لأنها نوع من ذلك ، وقال أبو إسحاق الجوزجاني : إنها من العين ؛ لحاجة
الرجل إلى العين من الذهب والورق ) [12] .
وهذا التعريف للعينة ، والتي قد أجمع علماء المسلمين على تحريمها ، ينطبق
على بيع التورق ، حيث إن القصد من بيع التورق هو الحصول على النقد ، فيتم
شراء سلعة مؤجلة السداد لبيعها بقصد الحصول على النقد ، والإمام أحمد - رحمه
الله - عندما أجاز التورق في إحدى روايتيه إنما أجازه مع الكراهة ، يقول ابن القيم :
( وعن أحمد فيه ( التورق ) روايتان الحرمة والكراهة ) ، وأشار في رواية
الكراهة إلى أنه ( المتعامل في التورق ) مضطر . وبالتالي فإن للاضطرار أحكامه ،
فليس كل من رغب في المال لشراء ما تشتهيه نفسه أو يتوسع في تجارته يعتبر
مضطراً ، فيتم التعامل بصيغة التورق ليصبح الأمر حلالاً صرفاً ، كما يتم الإعلان
عنه في الصحف من قِبَل البنوك التي تدعو الناس إلى الاقتراض بأسلوب صيغة
التورق ، مع عدم الالتزام بقواعد التعامل في التورق وفق ما تمت إجازته من قِبَل
أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي ، حيث اشترط التملك والحيازة لبائع السلعة
لمشتريها من البنك ، فهذا الشرط مفقود في التعامل الذي تمارسه البنوك كما سوف
نناقشه لاحقاً .
* ثالثاً : ماهية الربا وحقيقته :
لإدراك علاقة بيع التورق بالربا المعاصر ، وأنه وسيلة من وسائل استحلال
الربا ؛ فإن من الضروري تحديد ماهية الربا وحقيقته ؛ حتى يمكن فهم حقيقة اندفاع
البنوك لتبني هذا النوع من حيل لاستحلال الربا ، وإشاعته ، وتيسير أكله وتأكيله
ضمن غطاء الإباحة الشرعية ، وأنه تعامل تجيزه الشريعة وفق ما أفتت به اللجان
الشرعية التي كونتها هذه البنوك . فهذه الصيغة من التحايل لا تختلف عن حقيقة ما
تمارسه من تعامل ربوي صرف .
إن مادة كلمة الربا تعني الزيادة والنمو ، فقد جاء في لسان العرب بأن الأصل
فيه هو الزيادة من ربا المال إذا زاد ، فالمعنى اللغوي المجرد يعتبر زيادة في ذات
الشيء ، وهذا المعنى قد ورد في القرآن الكريم عند الحديث عن الربا في قوله
تعالى : [ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ] ( البقرة :
278-279 ) ، وقوله تعالى : [ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو
عِندَ اللَّهِ ] ( الروم : 39 ) . والزيادة على المال المقرض إنما هو من أجل التأجيل
كما أشار إليه أبو بكر الجصّاص في كتابه ( أحكام القرآن ) ، يقول : ( معلوم أن
ربا الجاهلية إنما هو قرض مؤجل بزيادة مشروطة ، وكانت الزيادة بدلاً من الأجل ،
فأبطله الله تعالى ) [13] .
وهذا المفهوم يؤكده الإمام الرازي في تفسيره بقوله : ( إن ربا النسيئة التأجيل
هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية ؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل
على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق بحاله ، فإذا حلَّ طالبه برأس
ماله ، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل ) [14] . وهذا المفهوم هو(3/40)
المتعارف عليه في العمل المصرفي ، فالسلعة التي يتعامل بها البنك هي النقد ، فهو
يتجر في النقد ، وبالتالي فإن النقد هو السلعة بدلاً من أن تكون مقياساً لأقيام السلع
فيما بينها ، فأصبح سلعة بذاته ، فخرج النقد عن الوظيفة التي من أجلها تم قبوله
بين الناس ، ولهذا فإن وحدات النقد التي تضاف إلى نفس النقد إنما تتحدد بنسبة من
هذه الوحدات مربوطة بالزمن الذي يبقى في ذمة المقترض ، وبالتالي فإن مكونات
الربا تتمثل في ثلاثة عناصر ، هي زيادة على كمية النقد المقدم ، وهذه الزيادة تحدد
بالمدة ، وهذه النسبة من الزيادة شرط في المعاملة ، وبالتالي فأي تعامل تتوافر فيه
هذه الصفات ؛ فهو في حقيقته تعامل ربوي حتى لو سمّي بغير ذلك .
وقد أشار الإمام محمد بن رشد القرطبي في كتابه ( بداية المجتهد ) إلى أن
أصول الربا خمسة ، هي :
أنظرني أزدك ، والتفاضل ، والنسأ ، وضع وتعجل ، وبيع الطعام قبل قبضه .
وعندما ناقش موضوع ضع وتعجل ، أشار إلى حجة من لم يجز ضع وتعجل ،
والتي تؤكد حقيقة الربا ، بقوله : ( وعمدة من لم يجز « ضع وتعجل » أنه نسيئة
بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها ، ووجه شبهه أنه هل للزمان مقدار من
الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً ، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له
عرضه ثمناً ، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً ) [15] .
والشاهد من هذا أن الربا يرتبط بالزمن ، فالقيمة المضافة على رأس المال
ابتداء أو بعد انتهاء مدة القرض مربوطة بالزمن ، فالزمن هو مقياس تحديد قيمة
النقد باعتباره سلعة يتم بيعها وشراؤها ، وهذا هو حقيقة الربا ، وسوف نلاحظ عند
مناقشة صيغ عقود التورق التي تجريها البنوك لاستحلال أخذ الربا ومنحه ؛ أن تلك
العقود ما هي إلا وسيلة لأخذ الربا وأكله .
* رابعاً : عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك :
الصيغ التي تتبعها البنوك لتوفير المال للمحتاجين إليه من الأفراد والشركات
والمؤسسات ، أو لجذب المال لها كبديل للودائع الآجلة التي تمنح عليها فوائد وفق
ما يطلق عليه الصيغة الإسلامية للتعامل ؛ تفاوتت فيها المسميات التي أطلقتها تلك
البنوك مثل « تيسير الأهلي » ، و « تورق الخير » ، و « برنامج نقاء » ،
و « التورق المبارك » .. وغير ذلك من أساليب الدعاية التي تضلل المتلقي
لهذه الإعلانات بما توجهه له من أن ما يتم ممارسته لا يتعارض مع أحكام
الشريعة الإسلامية . وأن صيغة العمل والمرتكز الذي تدور عليه عملية التمويل
واحدة ، وهو ما أطلق عليه صيغة التورق ، والتي تأخذ شكلية شراء السلع وبيعها
من خلال بورصة البضائع العالمية ، أو من خلال الاتفاقيات مع عدد من نقاط البيع
بالنسبة لما يطلق عليه بطاقة الخير الائتمانية وشبيهاتها من بطاقات الائتمان .
لقد تم التوسع باستخدام صيغة بيع التورق من قِبَل مختلف البنوك ، حيث
يوفر لها وسيلة جذب لإغراق الناس في الاقتراض والإقراض ، وهذا يستدعي
مناقشة العقود التي أمكنني الاطلاع على بعضها حتى يمكن التعرف على كيفية
التعامل مع صيغة التورق التي تمارس من قِبَل هذه البنوك ؛ حتى نتمكن من الحكم
على مدى حرمة هذا التعامل ، وسيتم مناقشة عقد التورق من جانبين :
الأول : جانب أن يكون البائع للسلعة هو البنك ؛ أي أن البنك يقوم بتوفير
السيولة النقدية من خلال صيغة التورق تحت مسمى عقد بيع بالتقسيط وبيع
المرابحة .
والثاني : أن يكون البائع هو المودع الذي يرغب في إيداع أمواله في البنك
وأخذ فوائد عليها ، واستخدام صيغة التورق لأخذ الفائدة على المال المودع لأجل .
وفي كلا الحالتين فما يُتبع هو استخدام صيغة التورق من خلال شكلية بيع
المرابحة بالأجل لسداد الثمن للبائع سواء للبنك أو للمودع لدى البنك .
أما في حالة قيام البنك بتوفير السيولة للمقترض من خلال بيع المرابحة
المقسط ضمن صيغة التورق ؛ فإن الإجراءات التي يتم اتباعها لتنفيذ هذه الصيغة
من البيع تتمثل في الآتي :
1 - يتقدم طالب التمويل إلى البنك بطلب شراء سلعة بالتقسيط من السلع التي
تعرض في سوق البورصة العالمية ، والتي قد تم شراؤها من قِبَل البنك وفق آلية
السوق المالية للسلع ( البورصة ) ، وفي هذا الطلب يتم الحصول على معلومات
عن طالب المال من حيث إمكانياته المالية ؛ أي قدرته على السداد من حيث مقدار
راتبه الذي سوف يكون المرتكز عليه في تحديد حجم المبلغ الذي سيتم دفعه له
ضمن صيغة التورق التي يمارسها البنك بجانب معرفة تعاملاته مع البنوك الأخرى
( أي مقدار الالتزامات التي عليه تجاهها ) مع تحديد نوع السلع التي يتعامل البنك
فيها في سوق البورصة ، والتي يتم تداولها يومياً في أسواق البورصة العالمية ،
ويرفق بالطلب المستندات الثبوتية التي تساعد البنك على تحديد قدرة الطالب على
السداد .
2 - وبعد دراسة الطلب يقوم البنك بتحديد عدد وحدات السلعة المباعة عليه
ومواصفاتها ، وثمن بيعها ، ويرتبط تحديد عدد الوحدات التي سوف تباع عليه
بقدرته على السداد ، وإذا قبل العميل بما عرضه البنك من مقدار التمويل الذي يمكن
للبنك منحه إياه ؛ يتم توقيع عقد بيع سلعة بالتقسيط وفق ما تطلق عليه البنوك
« بيع المرابحة » .
3 - يقوم العميل بتوكيل البنك لبيع وحداته التي اشتراها وفق نموذج وكالة ؛
يتم بموجبها تفويض البنك في بيع هذه الوحدات المباعة عليه في السوق الدولي ،
وإيداع المبلغ في حسابه مع تحمله لكل ما يترتب على التغير في السعر وما ينتج
عن ذلك من خسارة ، وإيداع المبلغ في حسابه لدى البنك .
هذه هي العملية التي يقوم بها البنك من شراء لوحدات في سوق العقود
المستقبلية للبضائع ( البورصة ) ، ثم بيعها مرابحة على العميل طالب التمويل ، ثم
بيعها في سوق السلع الدولية ( البورصة ) لصالح العميل ( المشتري ) مع تحمله
لتقلبات الأسعار . وفي بعض عقود البيع بالتقسيط لدى بعض البنوك يجمع عقد
البيع بالتقسيط مع عقد الوكالة بالبيع في عقد واحد .
بدراسة هذه العقود التي يتم بموجبها توفير النقد للأفراد والمؤسسات ؛ وجد في
بعضها أن البيع يتم على تملك السلعة المباعة على العميل بموجب ما يسمّى بشهادة
التخزين ، والتي يشار فيها إلى أن السلعة موجودة في البلد الذي يوجد فيه عادة
سوق البورصة الذي يتعامل معها البنك ، ويذكر في العقد إجمالي السلع ولا يشار
إلى مقدار الربح بل يدخل ضمن مبلغ البيع مع الإشارة إلى أن البيع تم وفق بيع
المرابحة . أما بعض العقود فيشار في طلب الحصول على المال حسب صيغة
التورق أنه عند الموافقة على طلبه فيتم تحديد مقدار الربح وتكلفة السلعة مع التزامه
بتحديد دفعة أولى لضمان جدية الشراء ، والتزامه أيضاً بدفع رسوم إدارية لعملاء
البنك ؛ أي للمودعين . كما أن من ضمن الشروط في بعضها في حالة التأخر في
سداد الأقساط ؛ التزام المشتري بتعويض البنك عن الأضرار الناتجة عن التأخير ،
وفي بعضها يتم فرض غرامات عليه يتم احتسابها على أساس نسبة من المبالغ
المستحقة مع مدة المطل ، ويقوم البنك بصرفها في أوجه البر والخير .
وأما الحالة الثانية ؛ فهي حالة معكوسة :
يقوم عميل البنك ببيع سلعة من السلع التي يتم تداولها في سوق البورصة على
البنك بأسلوب ما يطلق عليه « بيع المرابحة » ، ويتم سداد المبلغ من قِبَل البنك
عند حلول الأجل ( رأس المال مع الربح ) في الحساب الجاري للعميل ، ويشترط
في العقدين نماذج عرض بيع سلعة ، وطلب شراء سلعة ، وطلب تعجيل ، ووكالة(3/41)
شراء السلعة ، وتفويض البنك ببيع السلعة جزء من العقد .
وهذه النماذج تحدد الخطوات العملية التي يتم بموجبها قيام العميل بإيداع
المبلغ والمبالغ التي يتم بموجبها قيام عميل البنك الذي يتوفر لديه سيولة نقدية
ويرغب في إيداعها لأَجَل وأخذ فائدة عليها ، ولكن بأسلوب ما أطلق عليه أسلوب
التورق بادعاء تجنب الربا .
والإجراءات التي يتم اتباعها في هذه الحالة تتمثل في الآتي :
1 - يوقع العميل على اتفاقية ما يطلق عليه « برنامج نقاء » .
2 - يطلب العميل عرض أسعار ، ويقدم البنك عرض الأسعار مع تحديد نوع
السلعة والعملة والأجل .
3 - يطلب العميل شراء السلعة بعد الموافقة على العرض مع تحديد المبلغ
والعملة والأجل .
4 - يقوم البنك نيابة عن العميل بإتمام عملية شراء السلعة من سوق تبادل
المعادن الدولي لصالح العميل مع إصدار البنك إيجاباً بشراء السلعة من العميل .
5 - يوافق العميل على بيع السلعة المملوكة له للبنك ، ويتم سداده عند الأجل
المحدد ( المبلغ مع ربحه ) .
6 - في حالة التعجيل بسداد المبلغ ؛ يتم ذلك من خلال نموذج عقد تعجيل
سداد بعد أن يتم خصم جزء من أو كل هامش الربح مقابل السداد المبكر . أما التملك
فهو يتم من خلال تملك المستندات فقط دون الحاجة إلى أن يتم تملكها عيناً ، وهذا
في جميع عمليات البيع والشراء التي يتم التعامل بها على صيغة التورق في البنوك .
إن جوهر عملية التمويل فيما يعرف بصيغة التورق التي يتم ممارستها من
قِبَل البنوك ، والتي يتم فيها تداول السلع شراء وبيعاً ؛ إنما هي سلع وفق ما يُعرف
بسوق المعادن والبضائع الدولي ( البورصة ) ، أو ما يطلق عليه بأسواق العقود
المستقبلية ؛ أي الاتجار في أوراق ومستندات غير مبنية على أساس الشراء والبيع
القائم على أساس الاستلام والتسليم للسلع المباعة ؛ أي لا يوجد حيازة تملُّك ولا
قبض للسلع المشتراة والمباعة ، وإنما يتم التداول حسب وثائق يتم تبادلها ضمن آلية
معينة تتولاها بيوت السمسرة ، ولهذا نجد أن البنوك التي تستخدم صيغة بيع التورق
تحدد السلع في أنواع ؛ هي الزنك والبرونز والحديد والصفيح والنحاس والألمنيوم ،
فالتعامل في البورصة إنما يتم على أساس التعامل في العقود المستقبلية ، وما يتم من
تداول للسلع إنما يتم على أساس بيع العقود في أسواق عقود السلع ، وهي أسواق
متخصصة تتعامل في عقود يتم تداولها فيما يعرف بالعقود المستقبلية ، وهي عقود
تعطي لحاملها الحق في شراء وبيع كمية من أصل معين محدد السعر مسبقاً على أن
يتم الدفع والتسليم في المستقبل .
والبورصة العالمية للبضائع قد أبطلت ما كان يُعرف بالسوق الحاضرة ؛ أي
بالسوق النقدية ، حيث يتم فيها استلام السلعة ودفع قيمتها نقداً فور التعاقد ، وقد
تحوّلت السوق الحاضرة إلى سوق للعقود المستقبلية منذ عام 1866م وحلّت محله
السوق المستقبلية .
أما ما يُطلق عليه « شهادة التخزين » ، والذي يشار إليها في بعض عقود
صيغ التورق بأنها تمثل حصة محجوزة قيمة وكمية خاصة بسلعة لصالح البنك عن
طريق السمسار لغرض التصرف فيها مستقبلاً ، فهي لا تمثل شهادة من وكيل البنك
تثبت فيها وجود سلع تم استلامها من المنتجين وتم تخزينها في مستودعات خاصة
بالبنك أو مخازن مؤجرة لصالح البنك تحدد أن هذه السلع خاصة بالبنك ، وما هذه
الشهادة إلا شهادة يصدرها المنتجون لهذه السلع لبيوت السمسرة الذين يمارسون
عمليات إنشاء وتداول العقود في سوق المعادن العالمي ( البورصة ) ، حيث يحدد
فيها مواصفات هذه السلع وكمياتها وتاريخ تسليمها ، ويتم على ضوء هذه الشهادة
تداول العقود بيعاً وشراء ، ومن ثم فلا يوجد مجال للتعامل مع السلعة نفسها داخل
سوق العقود .
* خامساً : ربوية بيوع التورق كما تجريها المصارف :
من خلال الاستعراض السابق لطبيعة صيغ التورق التي تمارسها البنوك
حالياً ، والتي أخذت في الانتشار وأصبحت وسيلة لجذب أعداد كبيرة من
الناس للاقتراض من البنوك بمختلف الأساليب ، سواء فيما يعرف بالتمويل
للمتاجرة في سوق الأسهم المحلية ، أو العالمية ، أو ما يسمونه بتمويل
المتاجرة بالأسهم بالمرابحة أو بالسلع ، وكلها بيوع يتم فيها البيع بالأجل ، وتوفير
المال لمن يحتاج إليه ، أو حصول البنك على المال من المودعين فيما يطلق
عليه بالمضاربة الشرعية في السلع الدولية بالمرابحة ، وكذا ما أطلق عليه
« برنامج نقاء » ؛ إنما هي عقود ووسائل لتحليل الربا ودفع الناس للاقتراض من
البنوك ، وإيداع أموالهم وأخذ فوائد عليها ، وقد أطلقت مسميات توحي بأن هذا
التعامل حلال ولا شبهة فيه ، مثل « التورق المبارك » ، و « التمويل المبارك » ،
و « الحساب المبارك » ، و « بطاقة الخير الائتمانية » ، أو « تيسير الأهلي » ،
وكل هذه الصيغ اتخذت من صيغة التورق نافذة للإقراض والاقتراض بفائدة ،
وإدخال الناس في دوامة الربا .
وحسب ما تمت مناقشته سابقاً حول علاقة بيع التورق بالحيل الفقهية لتحليل
أنواع من البيوع توصلاً لتحليل ما حرم الله ، وكذلك مناقشة صيغ العقود المستخدمة
من قِبَل البنوك فيما يعرف بصيغة التورق من خلال التعامل مع البورصة العالمية
للسلع والأوراق المالية ؛ فإن جميع هذه الصيغ من التمويل التي تمارسها البنوك
ضمن صيغة التورق ؛ إنما هي صيغ محرمة لا يجوز التعامل بها ؛ لأنها نوع من
أنواع بيع العينة المحرم .
وذلك للأمور التالية :
أولاً : إن عقد التورق الذي أجازه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم
الإسلامي قد وضع قيوداً على هذا البيع ، حيث عرف بيع التورق بأنه « شراء
سلعة في حوزة البائع وملكه ... » ، وما يتم من قِبَل البنوك التي تقوم ببيع سلع يتم
تداولها في سوق السلع ( المعادن ) العالمي ( البورصة ) لا يتوفر فيها هذا الشرط ،
فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه البنوك تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى
البنك ، وأن ما يطلق عليه « شهادة التخزين » لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة
تملُّك ، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي ( البورصة ) أن
التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة ، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع
تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقاً مع المنتج ؛ على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق
يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة ، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء
السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري .
وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها ، ولكون هذا
التداول إنما يتم على أوراق ، وليس حيازة وتملكاً للسلع ، فإن بعض تلك البنوك
أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكاً للسلع .
أما بعض البنوك فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب
« شهادة التخزين » ، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى
غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد ، ولتجنب الإلزام ومن أجل ترسيخ التحايل ؛ لم
يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض البنك بالبيع نيابة عنه ، وإنما أشير إلى ذلك في
نص الوكالة ، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من البنك هي سلع يتم تداولها
في سوق السلع ( البورصة ) ، بخلاف بنوك أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة
جزءاً من العقد ، وهذا الأسلوب هو نوع من التهرب والتضليل ومحاولة إضفاء نوع
من صحة البيع ، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسده تفسد البيع . ولكن هذا الأسلوب من
التحايل لا يغير من حقيقة الأمر .(3/42)
ثانياً : إن من أجاز بيع التورق من العلماء السابقين ، ومنهم الإمام أحمد
- رحمه الله - ، فقد أجازه مع الكراهة ، وأشير في رواية الكراهة إلى إنه
مضطر [16] ( أي المتعامل بالتورق ) . أما الإمام ابن تيمية - رحمه الله - فقد وافق
الإمام أحمد في الرواية الثانية بالحرمة ، يقول ابن القيم : ( وكان شيخنا - رحمه
الله - يمنع من مسألة التورق ، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخّص فيها ،
وقال : المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه ، مع زيادة الكلفة بشراء
سلعة وبيعها والخسارة منها ، فالشريعة لا تحرم الضرر الأول وتبيح ما هو أعلى
منه .... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل سلف وبيع ، ولا
شرطان في بيع » ، وقوله : « من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا » رواه أبو
داود ، وذلك لا يمكن وقوعه إلا على العينة ) [17] .
ولا شك أن أسلوب التورق المتبع من قِبَل هذه البنوك هو بيع العينة بعيَنْه ،
حيث يتولى البائع ( البنك ) شراء السلعة من السوق ( البورصة ) ، ثم بيعها على
المشتري ، ثم بيعها مرة ثانية في سوق البورصة بقصد توفير المال الذي من أجله
تمت صياغة هذا العقد ، وهذا ما حرّمه ابن عباس ، فقد نقل ابن القيم عن محمد بن
عبد الله الحافظ المعروف بحطين في كتابه ( البيوع ) عن ابن عباس - رضي الله
عنه - قال : « اتقوا هذه العينة ؛ لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة » ، وفي
رواية « أن رجلاً باع من رجل حريرة بمائة ثم اشترها بخمسين » . قال ابن
عباس عن ذلك : « دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة » ، وسئل ابن
عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال : « إن الله لا يُخدع ، هذا مما حرم الله
ورسوله » . وقد روى ابن بطة باسناده إلى الأوزاعي قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : « يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع » [18] .
فواقع عقود التورق ينطبق على ما أشار إليه ابن عباس - رضي الله عنه - ،
حيث إن بيع المرابحة تحت مسمى التورق إنما هو بيع ريالات بريالات بينهما
بيع مستندي لسلع لم يتم استلامها ولا تملُّكها ، وإنما هي بيوعات مستقبلية في سوق
بورصة البضائع ، لا يتم فيها قبض للسلع ولا تسليم ، وإنما هي بيوع آجلة يتم
المضاربة فيها ، فهي أشبه بالحريرة كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - .
ثالثاً : بجانب ما روي عن الإمام أحمد في إحدى روايتيه بتحريم مسألة
التورق باعتبارها صورة من صور بيع العينة ، فقد روي عن الإمام مالك - رحمه
الله - منع العينة بناء على عدم القبض من البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي
يُتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا [19] . وتحريم الوسائل من الأمور التي جاء الشرع
بها وقال بها الأئمة ، فمن ذلك أن الشافعي - رحمه الله - يحرم مسألة « مد عجوة
( نوع من التمر ) » ، و « درهم بمد ودرهم » ، وبالغ في التحريم خوفاً من أن
يتخذ حيلة على نوع من ربا الفضل ، فالتحريم للحيل الصريحة التي يتوصل بها
إلى ربا النسيئة أولى من تحريم « مد عجوة » بكثير ، فإن التحيل بمد ودرهم من
الطرفين على ربا الفضل ؛ أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء [20] الذي هو
الغاية التي تسعى إليها البنوك في تعاملها من خلال التعامل في شراء وبيع السلع في
سوق السلع العالمي ( البورصة ) المستقبلية ، فإن مفسدة ربا الفضل في مسألة « مد
عجوة » أقل من مفسدة استخدام التورق لاستحلال ربا النسيئة . فلا يتعامل بالتورق
إلا مضطر إلى الاقتراض ، فالمستغني عنه لا يثقل ذمته بزيادة في شراء السلع
مؤجلاً ثم بيعها بخسارة بدون ضرورة وحاجة ، وقد روى أبو داود من حديث علي
بن أبي طالب - رضي الله عنه - : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمر قبل أن تدرك » . وقد أوضح ابن القيم أن
شراء المضطر للسلعة ثم بيعها لبائعها بأنها العينة ، وإن باعها لغيره فهو التورق ،
وإن رجعت إلى ثالث يدخل بين البائع والمشتري ، فهو محلل الربا . والأقسام
الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق ، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو
آخية الربا [21] ، وتشبيه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بأن التورق هو للربا
بمثابة الحبل الموثق إلى وتد تُربط به الدابة ، فالدابة لا يمكن لها الفكاك من هذا
الرباط ، وكذلك التورق هو مربوط بالربا .
رابعاً : إن استخدام صيغة التورق بالشراء والبيع في سوق البورصة ، مع
استخدام أسلوب المرابحة في تحديد مقدار الربا الذي سوف يؤخذ على المال الذي
سوف يتم إقراضه للأفراد والمؤسسات والشركات ، أو اقتراضه من المودعين ؛ إنما
هو حيلة لأخذ الربا وإعطائه ، وتجويز ذلك يتناقض مع ما ورد من النهي عن
الحيل لاستحلال الحرام ، وهذا التحايل الذي تمارسه البنوك فتح الطريق لأكل الربا
وتوسيع نطاقه بين المسلمين ، ومعلوم أن الحيل تتناقض مع القاعدة الشرعية ، وهو
ما يعرف بـ « سد الذرائع » ، فالشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل وسيلة ممكنة ،
والمحتال يفتح الطريق بالحيل ، واستخدام صيغة التورق في التعامل مع البنوك
من خلال البيع والشراء للسلع في سوق البورصة قد أدى إلى الوقوع في الحرام ،
يقول ابن القيم : ( ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله
وأسقط فرائضه بالحيل كقوله : « لعن الله المحلل والمحلل له » ، و « لعن الله
اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها » ، « لعن الله الراشي
والمرتشي » ، « لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ) ، ومعلوم أن الكاتب
والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة
بخلاف ربا المجاهرة الظاهرة .... وآكل الربا مستحله بالتدليس والمخادعة ، فيظهر
من عقد التبايع ما ليس له حقيقة ، فهذا يشمل الربا بالبيع ، وذلك يستحل الزنا باسم
النكاح ، فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب ) [22] ، وهذه العقود التي تمارسها
البنوك لا تعدو في واقع الأمر بأنها حيلة لاستحلال الاقتراض والإقراض بالربا باسم
البيع والشراء .
خامساً : من القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي : أن العبر بالمقاصد
والنيات ، بدليل حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور : » إنما
الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى « الحديث ، ولهذا لا بد من النظر إلى
المقصد والغاية من صيغة التورق في تعامل هذه البنوك في حقيقة أمرها ، وبموجب
التنظيمات التي تحكمها ، وبموجب عقود تأسيسها ، فإنها مبنية على أساس أن النقود
هي مجال عملها ، فهي تتاجر في النقود وليست تتاجر بالنقود ، كما يمارس من قِبَل
الأنشطة الاقتصادية الأخرى ، فهذه البنوك تخضع في أعمالها لأنظمة ومعايير
البنوك المركزية ، ومن تلك البنوك مؤسسة النقد التي تشرف على أعمال البنوك
وفق المعايير الدولية ، ومن مجالات الأعمال التي تمارسها هذه البنوك والمبنية على
أسس ربوية : المتاجرة بالاستثمارات المالية في الأسواق الدولية ، ومن ضمنها
المضاربة في سوق السلع المستقبلية ( بورصة البضائع ) ، حيث يتم احتساب
أرباح المعاملات التي تمارسها وفق ما أطلق عليه المرابحة في سوق السلع
المستقبلية وفق المعادلة الربوية في احتساب الأرباح ، والمتمثلة في احتساب الربح
على أساس القيمة ، والمدة الزمنية للتمويل ، ومعدل الربح ( نسبة الفائدة ) .
ومن هنا نلاحظ أن صيغة التورق المعمول بها من قِبَل البنوك في توفير
التمويل لمن يحتاج إليه ؛ إنما هي وسيلة لإيجاد المخرج لاستحلال الربا تحت(3/43)
مسمى الشراء والبيع في السوق الدولية للسلع ، فالقصد من بيع المرابحة للسلع التي
يتم التعامل بها في سوق المعادن الدولي ( البورصة ) ، ومن ثم بيعها لصالح
المشتري من البنك إنما قصد من ذلك استحلال الإقراض أو الاقتراض ، يقول ابن
القيم - رحمه الله - فيما يتعلق بارتباط المقاصد بالأعمال : ( ولعن اليهود إذ توسلوا
بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه ، وجعل أكل ثمنه لما كان هو
المقصود بمنزلة أكله في نفسه ..... فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها
ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها ، ومن لم يراع القصود في العقود وجرى
مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر ( أي عاصر الخمر ) ، وأن يجوز له عصر
العنب لكل أحد ، وإن ظهر له أن قصده الخمر .... وقاعدة الشريعة التي لا يجوز
هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات ؛ كما هي معتبرة
في التقربات والعبادات ، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً ،
وصحيحاً أو فاسداً ، وطاعة أو معصية ، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو
مستحبة أو محرمة ، أو صحيحة أو فاسدة ) [23] ، وقال في موضع آخر : ( ولهذا
مسخ الله اليهود قردة لما تحيّلوا على فعل ما حرمه الله ، ولم يعصمهم من عقوبته
إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه ، ولهذا عاقب أصحاب الجنة
بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ، ولهذا
لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك
بصورة البيع ، وأيضاً فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها ، فإنها
بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم » الودك « ، فلما تحيلوا على استحلالها
بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك ) [24] ، وهذا هو واقع ممارسة البنوك لصيغة التورق
بالشراء والبيع ، وتغير مسمى الربا ( الفائدة ) باسم الربح في المعاملات التي
تجريها البنوك لا ينزع عنها صفة الربا ، وأن ما يؤخذ من ربح هو ربا على المال
المقرض ، وكذا ما يعطى على المال المقترض ؛ وإن تغيرت المسميات ، وإن عمل
عقود باسم بيوع التقسيط أو المرابحة أو شراء السلع وبيعها في سوق السلع
المستقبلية ( البورصة ) لا يغير من طبيعة التعامل ومقصده وغايته .
إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها في نهاية هذه الدراسة هو أن ما يتم من
استحلال للربا وتصويره للناس بأنه تورق جائز شرعاً ، وأن ما يؤخذ من ربا تحت
مسمى المرابحة أو بيوع التقسيط وإطلاق المسميات كالتورق المبارك ، وتيسير
التمويل ، وبرنامج نقاء ، وغير ذلك من المسميات ؛ لا يغير من حقيقة هذه الصيغ
من أن التعامل هو تعامل ربوي محرم لا يجوز للمسلم التعامل به ؛ بأي صورة من
صور التعامل التي تسعى البنوك إلى تصويرها للناس بأنها صيغ تتوافق مع
الشريعة الإسلامية ، حتى لو تم الادعاء بأنها قد أجيزت من اللجان الشرعية التي
شكلتها تلك البنوك .
__________
(1) المعجم الوسيط ، الجزء الأول ، ص 208 .
(2) الحيل الفقهية في المعاملات المالية محمد بن إبراهيم ، ص 23 ، الناشر الدار العربية للكتاب 1983م ، وهي رسالة علمية قدمها صاحبها للجامعة التونسية عام 1978م .
(3) أعلام الموقعين ، الجزء الثالث ، ص 252 ، المكتبة العصرية .
(4) الموافقات ، للشاطبي ، الجزء الثالث ، ص 285 .
(5) المرجع السابق ، الجزء الثاني ، ص 280 .
(6) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، الجزء الثالث ، ص 321 .
(7) أعلام الموقعين ، الجزء الثالث ، ص 124 - 126 .
(8) الحيل الفقهية ، مرجع سابق ، ص 133 .
(9) المغني ، لابن قدامة ، الجزء الرابع ، ص 62 .
(10) أعلام الموقعين ، الجزء الثالث ، ص 182 .
(11) الحيل الفقهية ، مرجع سابق ، ص 134 .
(12) الفتاوى ، الجزء 3 ، ص 134 ، طبعة عام 1386هـ .
(13) أحكام القرآن ، الجزء الأول ، ص 184 .
(14) تفسير الرازي ، الجزء الرابع ، ص 85 .
(15) بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد ، الجزء الثاني ، ص 144 .
(16) أعلام الموقعين ، الجزء الثالث ، ص 182 .
(17) المرجع السابق ، الجزء الثالث ، ص 182 - 183 .
(18) المرجع السابق ، الجزء الثالث ، ص 178 .
(19) الحيل الفقهية ، مرجع سابق ، ص 146 .
(20) الحيل الفقهية ، مرجع سابق ، ص 147 .
(21) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، مرجع سابق ، الجزء الثالث ، ص 183 .
(22) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، مرجع سابق ، الجزء الثالث ، ص 172 .
(23) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، الجزء الثالث ، ص 107 - 108 .
(24) المرجع السابق ، الجزء الثالث ، ص 124 .
===============
الاستفتاء في حقيقة الربا
مجلة المنار - (ج 170 / ص 7)
الاستفتاء في حقيقة الربا
يعلم قراء المنار أن مسألة الربا أعظم المشكلات الإسلامية المدنية التي شغلت
بال الحكام والزعماء والعلماء في هذا العصر ، ولدينا أسئلة كثيرة في معاملات
المصارف المالية ( البنوك ) والشركات والعقود التي فيها شيء مما يعده الفقهاء من
المعاملات الربوية ، وردت في تواريخ مختلفة ، وكنا نرجئ الجواب عنها إلى
فرصة يتاح لنا فيها حل هذه المشكلة بتفصيل يشمل هذه الفروق أو يبنى عليه بيان
حكمها ، وقد فتحت لنا هذا الباب حكومة حيدر أباد الدكن الهندية الإسلامية منذ
أشهر قليلة إذ نشرت في الأمصار الإسلامية الكبرى رسالة في حقيقة المسألة ، وهي
فتوى لبعض العلماء هناك في محاولة تحرير الموضوع ، طبعتها الحكومة الآصفية
ووُزعت بأمر الصدارة المالية والمحكمة الشرعية فيها على العلماء المشهورين في
الأقطار الإسلامية طالبة منهم بيان آرائهم فيها بالدليل الشرعي وإرسال الأجوبة
بعنوان ( معين صدر الصدور - محكمة الصدارة العالية ) في تلك العاصمة ، وقد
أرسلت إلينا ثلاث نسخ من هذا الاستفتاء : واحدة خاصة بنا ، والأخريان لصاحبي
الفضيلة شيخ الأزهر والشيخ محمد بخيت أرسلناهما إليهما ، وها نحن أولاً ننشر
نص الاستفتاء بحواشيه ، وبعد نشره نبين رأينا فيه ، ثم نشرع بعد ذلك في نشر تلك
الأسئلة أو ما يغني منها عن غيره ونجيب عنها أجوبة مختصرة يغنينا تحرير حقيقة
الربا عن الإطالة فيها ، إن شاء الله تعالى .
وليعلم القرَّاء أننا ننشر هذه الفتوى الطويلة مع حواشيها بنصها المطبوع ، ولا
نعنى بتصحيح شيء منها ولا بالتعليل على ما نراه منتقدًا من عباراتها أو معانيها
في أثناء نشرها إلا ألفاظًا قليلة للكاتب عذر فيها كرسم الربا برسم المصحف
( الربوا ) وكذا رسم الصلاة والزكاة بالواو وهي طريقة إخواننا مسلمي الهند .
بسم الله الرحمن الرحيم
( حامدًا ومصليًا )
{ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }
( هود : 88 )
وبه نستعين
اعلموا أن الله حرَّم الربا في القرآن بقوله جل ثناؤه : { وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة : 275 ) قال ابن كثير في تفسيره : باب الربا من أشكل
الأبواب على كثير من أهل العلم اهـ . فلو لم يفسره الفقهاء المجتهدون - شكر الله
مساعيهم - لما اتضح لنا حقيقته ، فعلينا أن ننقل ما روي عن أئمتنا في تفسيره :
قالوا : إن الأمة اتفقت على أن المعنى اللغوي ليس مرادًا [1] في الآية ؛ لأن
الربا في اللغة : الزيادة مطلقًا ، وهي أعم من كل زيادة ، وظاهر أن كل فرد من أفراد
الزيادة ليس بحرام بل بعضها حرام . وبعد اتفاقهم عليه تشعبوا فرقتين ، فالأئمة(3/44)
وجمهور العلماء عيَّنوا هذه الأفراد بالسنة ، وهو الفضل الذي وردت السنة بكونه
ربا فهو حرام عندهم ، أعني الفضل في البيع ، فالربا عندهم منحصر في البيع لا
غير ، وذهب البعض إلى أن اللام في ( الربا ) للعهد ، والمراد به ربا الجاهلية ،
فالمآل على هذا التفسير أن القرآن حرَّم ربا الجاهلية ، ولما لم يثبت صورة ربا
الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن لم يلتفت الأئمة والجمهور إليه ، وقالوا :
إن ربا القرآن مجمل والحديث مفسر له ، قال القاضي سناء الله في تفسيره المظهري :
قال جمهور [2] العلماء : هذا مجمل ؛ لأن طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في
الجملة ، فالمحرم إنما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك إلا من قبل الشارع فهو
مجمل ، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحقه بيانًا . قال الجصاص الرازي
الحنفي : وهو ( أي الربا ) يقع على معانٍ لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة . وبعد
سرد الأدلة على إجمال الربا قال : فثبت بذلك أن الربا قد صار اسمًا شرعيًّا ؛ لأنه لو
كان باقيًا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالمًا بأسماء اللغة ؛
لأنه من أهلها اهـ . ثم قال : وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء
المجملة المفتقرة إلى البيان ، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعانٍ لم يكن
الاسم موضوعًا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة اهـ [3] . وفي جواب
استدلال الشافعية عن كون علة الربا مأكولاً قال الجصاص الرازي : فهذا عندنا لا يدل
على ما قالوا من وجوه ( أحدها ) ما قدَّمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى
البيان ، فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا
حتى يحرِّمه بالآية . انتهى . وقال صدر الشريعة الحنفي : والمجمل كآية الربا ؛ فإن
قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة : 275 ) مجمل لأن الربا في اللغة هو
الفضل ، وليس كل فضل حرامًا بالإجماع ، ولم يعلم أن المراد أي فضل ، فيكون
مجملاً ، ثم لمَّا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا في غير الأشياء الستة [4] ، وكذا في شرح
التحرير لابن الهمام وفي المسلم وفواتح الرحموت ومرقاة الوصول وشرحه مرآة
الأصول وغيرها من كتب الأصول .
قال العلامة النسفي في كشف الأسرار : وكذلك آية الربا مجملة لاشتباه المراد ،
وهذا لا يُدرك بمعاني اللغة بحال فهو في اللغة الفضل ؛ ولكن الله تعالى ما أراده .
وقال العلامة نظام الدين الشاشي : المجمل هو ما احتمل وجوهًا فصار بحال لا
يوقف على المراد إلا ببيان من قِبَل المتكلم ، ونظيره في الشرعيات قوله تعالى :
{ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة : 275 ) قال ابن نجيم في فتح الغفار : وليس المراد أن كل
مجمل بعد بيان المجمل يحتاج إلى الطلب والتأمل ، فالصلاة بيانها شافٍ فلم تحتج
إلى تأمل بعده ، وبيان الربا غير شافٍ - صار به المجمل مؤولاً وهو يحتاج إلى
الطلب والتأمل كما في الكشف ، فالرجوع إلى الاستفسار في كل مجمل ، والطلب
والتأمل إنما هو في البعض [5] .
قال صاحب فصول البدائع في حكم المجمل : هو التوقف إلى الاستفسار مع
اعتقاد حقيقة ما هو المراد حالاً ثم الطلب والتأمل إن احتيج إليهما كما في الربا ؛ فإن
حديث الأشياء الستة الحاصل من الاستفسار معلل بالإجماع [6] . قال عبد العزيز
البخاري في شرح الأصول للبزدوي : والحاصل أن المجمل قسمان : ما ليس له ظهور
أصلاً كالصلاة والزكاة والربا أو ما له ظهور من وجه كالمشترك [7] .
وإذا ثبت من هذه النقول أن الربا الذي وقع في القرآن مجمل ، وثبت أيضًا
أنه لا يثبت منه حكم بدون تفسير الشارع عليه السلام ، فحينئذ علينا أن نحرر
التفسير الذي ورد عنه عليه السلام ، وهو ما روى عبادة وأبو سعيد وأبو هريرة
وعمر وغيرهم في بيع الأشياء الستة بصورة مخصوصة ، وقد جعله الفقهاء أيضًا
بيانًا للربا كما قال ابن عابدين في نسمات الأسحار : كبيان الربا بالحديث الوارد في
الأشياء الستة وفي نور الأنوار : كالربا في قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة :
275 ) فإنه مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الحنطة بالحنطة )
الحديث ، قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير لابن الهمام : كبيان الربا بالحديث
الوارد في الأشياء الستة في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ،
والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يدًا بيد ، فمن زاد [8] أو
استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ) وكذلك يلحق في تفسير إجمال الآية
حديث أسامة بن زيد ( الربا في النسيئة ) أخرجه مسلم .
ولا يصح تفسيره بالحديث الذي روي عن جابر وعمرو بن الأحوص بلفظ
( إن ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه رِبانا ربا عباس بن عبد المطلب ) لأنه
لم يظهر تفسير ربا الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن حتى يكون بيانًا له ،
وكيف وهو مجمل كربا القرآن ؟
فعلى هذا حقيقة الربا : الفضل الذي يكون في البيع ، سواء كان فضل عين أو
أجل ، وإذا بيع شيء من هذه الستة وما في حكمها من جنسه فالفضل والأجل
كلاهما ربا ، وإذا بيع منها شيء بغير جنسه فالأجل فقط ربا وهو ربا النساء ، وكذلك
الزيادة على الثمن المؤجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل ، ربا ، وهو ربا
النسيئة .
ففي الأولى أي إذا وقع بيع جنس بجنس ، فلابد لجواز البيع من أمرين :
الأول المساواة في الكيل أو الوزن ، والثاني قبض البدلين في المجلس .
وفي الثانية إذا كان الجنسان من هذه الأشياء الستة وما في حكمها مختلفين ،
فلا يشترط ههنا إلا القبض في المجلس ، ولا يشترط المساواة كيلاً أو وزنًا .
( وفي الثالثة ) أي إذا كانت الأشياء من غير هذه الستة وما في حكمها لا
يجوز الفضل على الثمن المؤجل بعد حلول الأجل إن لم يقض هذا الثمن بمقابلة
الأجل .
والأصل فيه أن المتبايعين يريدان المساواة في البدلين وعليه مدار عقد البيع ،
فلهذا وضع لها الشارع عليه السلام أصول وقوانين يُعرف بها المساواة والفضل
الذي يحكم عليه الشرع بأنه ربا ( الأول ) أن للنقد مزية على النسيئة ( والثاني )
إذا كان البدلان - كيليًّا أو وزنيًّا - فلا بد أن يكونا متساويين في الكيل أو الوزن
( والثالث ) إذا كان أحد البدلين غير المكيل والموزون فما تراضى عليه العاقدان فهو
بدل الآخر ومساوٍ له ، ومن هذه الأصول يعلم ما جعل الشارع عليه السلام من
الفضل ربا في البيع والشراء .
فالفضل والأجل كلاهما ربا في بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون من
جنسه ؛ لأنه فضل حقيقة أو حكمًا ولا دخل فيه لتراضي العاقدين والبيعين ؛ فإن
تراضي البيعين في أمثال هذا البيع بالفضل أو الأجل أو بكليهما لا يصحح هذا البيع ،
ويكون الفضل والأجل كلاهما ربا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من زاد ) أي
أعطى الزيادة ( أو استزاد ) أي طلب الزيادة ( فقد أربى ) وفي المدونة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطل أبا رافع فوضع الخلخالين في كفة فرجحت الدراهم ،
فقال أبو رافع : هو لك أنا أحله لك ، فقال أبو بكر : إن أحللته لي فإن الله لم يحله
لي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الذهب بالذهب وزنًا بوزن ،
والورق بالورق وزنًا بوزن ، الزائد [9] والمزاد في النار ) [10] وعند اختلاف الجنس(3/45)
من هذه الأشياء لم يجعل الشارع المساواة باعتبار التساوي كيلاً ووزنًا حتى لم يحرم
في هذه الصورة الفضل كيلاً أو وزنًا ؛ لأنه أمر غير معقول ، بل جعل المساواة
المطلوبة ما تراضى عليها العاقدان والبيعان من كون أحدهما مساويًا للآخر ، نعم جعل
للنقد مزية على النسيئة فيكون الأجل ربا ولا يعد التراضي فيه شيئًا بل يصير ملغى ،
وإذا اختلف جنس البدلين من غير هذه الستة بأن يكون المكيل في طرف وغيره في
طرف آخر ، فالمساواة المطلوبة هي ما تراضى عليها العاقدان ، ولم يكن الأجل ربا
في هذه الصورة لأنه خلاف القياس ، ونحوه ينحصر فيما ورد فيه النص بشرط أن
يكون الأجل من أحد المتعاقدين لا من كليهما لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
الكالئ بالكالئ وإذا عين الأجل بالتراضي ، فإذا حل الأجل ولم يقض المديون وطلب
النظرة وزاد بها في الثمن فتكون هذه الزيادة ربا أيضًا ؛ لأنه فضل على ما تراضى
عليه البيعان أولاً وجعلاه مساويًا للآخر ، فهذه الزيادة لا محالة تكون بمقابلة الأجل ولا
قيمة للأجل مستقلاًّ عند الشارع ، فتكون هذه الزيادة فضلاً محضًا وهو عين الربا .
الحاصل أن هذه الأحاديث المفسرة لربا القرآن تدل على أن في بيع أحد
المتجانسين من الأشياء الستة وما في حكمها الفضل والأجل : كلاهما ربا ، وفي بيع
أحد المتجانسين منها بخلاف جنسه : الأجل فقط ربا ، لا الفضل ، وهو ربا النسيئة ،
وفي البيع بثمن بمؤجل ما يزاد على النسيئة أي الثمن المؤجل عند حلول الأجل
بمقابلة الأجل ربا وهو الربا في النسيئة ، وجميع هذه الأقسام تنحصر في البيع ،
فالربا ثلاثة أنواع وكل منها حرام بالقرآن ؛ لأن المجمل من الكتاب إذا لحقه البيان
كان الحكم بعده مضافًا إلى الكتاب لا إلى البيان في الصحيح [11] الاثنان منها ما
يفسره حديث عبادة بن الصامت ، وأبي سعيد وغيرهما ، والثالث ما يفسره حديث
أسامة بن زيد .
قال القسطلاني في شرح البخاري : وهو ( أي الربا ) ثلاثة أنواع ، ربا
الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر ، وربا اليد وهو البيع مع
تأخير قبضهما أو قبض أحدهما وربا النساء [12] وهو البيع لأجل وكل منها حرام
[13] .
قال صاحب تفسير السراج المنير : وهو لغةً : الزيادة ، وشرعًا : عقد على
عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد ، أو مع تأخير في
البدلين أو أحدهما ، وهو ثلاثة أنواع : ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين
على الآخر ، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما ، وربا النساء
وهو البيع إلى أجل ، وفي هذه الأقوال دلالة واضحة على أن الأنواع الثلاثة للربا
منحصرة في البيع ، فعلى هذا لا يوجد الربا في عقد خلا البيع ، قال ابن كثير في
تفسير سورة الروم : وقال ابن عباس : الربا ربوان ، فربا لا يصح ، يعني ربا البيع ،
وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها [14] ، وفيه تصريح منه
رضي الله عنه على أن الربا الذي لا يجوز هو ربا البيع فقط ، وما خلا ربا البيع فلا
بأس به . قال العلامة العيني في شرح الهداية : ولما فرغ عن بيان أبواب البيوع التي
أمر الشارع بمباشرتها بقوله : { وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } ( الجمعة : 10 ) مع أنواعها
صحيحها وفاسدها شرع في بيان أبواب البيوع التي نهى الشارع عنها بقوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا } ( آل عمران : 130 ) اهـ . ثم قال : وقال
علماؤنا : هو نوع بيع فيه فضل مستحَق لأحد المتعاقدين خالٍ مما يقابله من عوض
شرط في هذا العقد اهـ . وكذا في العناية ، ولذا قال العلامة السرخسي في حده : وفي
الشريعة : هو الفضل الخالي عن العوض المشروط [15] في البيع ( مبسوط ) وما قال
صاحب الهداية : أعني : الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة
الخالي عن عوض شرط فيه فيأول إليه . قال شارحه : الربا هو الفضل الخالي عن
العوض المشروط في البيع ( عناية ) وفي الملتقى : الربا فضل مال خالٍ عن عوض
شرط لأحد العاقدين في معاوضة [16] مال بمال ، وفي العالمكيرية : الربا في الشريعة
عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .
قال صدر الشريعة في التوضيح : وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا
يبقى حجة أصلاً معلومًا كان أو مجهولاً كالربا حيث خص من قوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ
البَيْعَ } ( البقرة : 275 ) اهـ . يعني أن البيع عام يشمل الربا وغيره ، وخص
منه الربا فلو لم يكن الربا فردًا من أفراد البيع وداخلاً تحته كيف يصح تخصيصه من البيع ؟ قال فخر الإسلام البزدوي : وخص الربا من قوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة : 275 ) اهـ . وقال ابن عابدين الشامي : الربا خص من
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ } ( البقرة : 275 ) بقوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة :
275 ) ( نسمات ) .
قال الملا أحمد جيون : نظير الخصوص المعلوم والمجهول قوله تعالى :
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة : 275 ) فإن البيع لفظ عام لدخول لام
الجنس فيه ، وقد خص الله منه الربا وهو في اللغة الفضل ، ولا يُعلم أي الفضل يُراد
به ؟ لأن البيع لم يشرع إلا للفضل فهو حينئذ نظير الخصوص المجهول ، ثم بيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والتمر
بالتمر ) الحديث ( نور الأنوار ) .
خلاصة الكلام أن القرآن حرَّم الربا ، وكان لفظ الربا فيه مجملاً والسنة
الصحيحة فسرته بالأقسام التي كلها تندرج في البيع ؛ ولهذا خصص الفقهاء الربا
بالبيع ، قال العلامة الشاشي في حده : الربا هو الزيادة الخالية عن العوض في بيع
المقدرات المتجانسة . وفي النقاية : الربا هو فضل خالٍ عن عوض بمعيار شرعي
بشرط أحد المتعاقدين في المعاوضة ( منح الغفار شرح تنوير الأبصار ) .
قال محمد رحمه الله : والربا إنما يتحقق في البيع لا في التبرع بعد قوله ؛
لأن القرض أسرع جوازًا من البيع ؛ لأنه مبادلة صورة تبرع حكمًا اهـ ( نشر
العرف ) قال شيخ الإسلام المرغيناني : وهو الربا يعمل في المعاوضات دون
التبرعات ( كتاب الهبة ) قال ابن عابدين ناقلاً عن الزيلعي : وهو ( أي الربا )
مختص بالمعاوضة المالية دون غيرها من المعاوضات والتبرعات [17] .
وقال العلامة الشيخ زادة في مجتمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر : وهو
مختص بالمعاوضات المالية دون غيرها من غير المالية والتبرعات ، وقال ملك
العلماء العلامة الكاساني : فلا يتحقق الربا إذ هو مختص [18] بالبياعات وعليه يدل
ما مر عن المبسوط والهداية وغيرهما .
فحينئذ ظهر أن النفع المعين المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص ؛
لأن الآية كانت مجملة لا يُفهم منها المراد والأحاديث المفسرة لها كلها في البيع لا
في غيره ؛ ولهذا صرَّح فقهاؤنا بأن الربا يتحقق في البيع لا في التبرع ؛ ولعلهم
أنكروا [19] كونه نصيًّا كما يدل عليه ما قال ملك العلماء في البدائع ؛ ولأن الزيادة
المشروطة تشبه الربا [20] فلا يكون الشبيه بالربا عين الربا ، وأيضًا يظهر من كلام
العلامة العيني أن هذا النفع عنده ليس هو الربا المنصوص ؛ لأنه يظهر من كلامه
الذي سيأتي أنه لم يظفر بحديث صحيح في هذا الباب بعد تجشمه وتفحصه مع سعة
نظره وكثرة اطلاعه على الحديث وطرقه ولو كان منصوصًا لم يحتج إلى هذا
التجشم والتفحص .
والحديث الذي أخرجه صاحب ( بلوغ المرام ) عن علي وجرى على ألسنة(3/46)
العوام والخواص بلفظ ( كل قرض جر منفعة فهو ربا ) لا يجوز أن يقع تفسيرًا
للقرآن ؛ لأنه غير ثابت ولا أصل له ، قال ابن حجر : فيه الحارث بن أسامة ،
وإسناده
ساقط ، وقال الحافظ جمال الدين الزيلعي في نص الرواية : ذكره عبد الحق في
أحكامه في البيوع وأعله بسوار بن مصعب وقال : إنه متروك ، وكذا نقل عن أبي
الجهم في جزئه أن إسناده ساقط وسوار متروك الحديث ، قال البخاري في كتابه
( الضعفاء الصغير ) سوار بن مصعب منكر الحديث ، وقال يحيى : يجيء إلينا وليس
بشيء ، وقال النسائي وغيره : متروك ، وكذا قال ابن الهمام في الفتح ، ولذا قال : هو
أحسن ما ههنا عن الصحابة [21] وعن السلف ؛ لأن هذا الحديث عنده كان غير صالح
للاحتجاج ، وعلم منه أنه ليس في الباب حديث صحيح قابل للاحتجاج .
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص عن عمر بن بدر أنه قال في المغني : لم
يصح فيه شيء اهـ . وأما ما قال الغزالي وشيخه : أنه صح ، قال الشوكاني في
النيل : لا خبرة لهما بهذا الفن ، ويدل على هذا المعنى ما قال المفسر الخازن :
( المسألة الرابعة ) في القرض وهو من أقرض شيئًا وشرط عليه أن يرد عليه أفضل
منه فهو قرض جر منفعة ، وكل قرض جر منفعة فهو ربا ، ويدل عليه ما روي عن
مالك قال بلغني أن رجلاً أتى ابن عمر ... إلخ [22] . لأنه لو كان عنده حديث ( كل
قرض ) صحيحًا قابلاً للحجة لم يعدل عنه إلى أثر ابن عمر ، وكذا العلامة العيني
نقل أولاً تضعيف هذا الحديث عن غير واحد من الأئمة ، ثم قال : قال الأترازي
مع دعاويه العريضة : والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض
جر نفعًا وسكت عنه ، وكذا قاله الأكمل وسكت عنه مع أنه [23] كان في ديار
الحديث وكتبه المنوعة والله أعلم ( شرح هداية ) وفيه دلالة على أن [هذا] الحديث
ليس له طريق صحيح وإلا لأتى به ، وكذا لو كان في معناه حديث صحيح لم يترك
إيراده في هذا المقام .
وكذا لا يصح [24] تفسير إجمال الآية بالحديث [25] الموقوف على عبد الله بن سلام الذي رواه بردة عند البخاري بلفظ : قال : أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام ،
فقال : ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت ؟ ثم قال : إنك بأرض الربا
فيها فاشٍ إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل
قت فلا تأخذه . لأنه لابد للتفسير من بيان الشارع عليه السلام ، وهذا الحديث [26]
الموقوف ليس في حكم المرفوع ، وثانيًا أنه متروك العمل باتفاق الأمة ، وثالثًا
تعارضه الأحاديث الصحيحة ، ورابعًا لما قال العلامة عبد العزيز البخاري في شرح
كشف الأسرار للبزودي في تفسيره البيان القاطع الذي يلحق المجمل : احتراز عما
ليس بقاطع ثبوتًا أو دلالة حتى لا يصير المجمل مفسرًا بخبر الواحد وإن كان قطعي
الدلالة ولا بيان فيه احتمال ، وإن كان قطعي الثبوت - وكذا أثر عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه الذي رواه يونس و خالد بن سيرين عن عبد الله بن مسعود أنه سئل
عن رجل استقرض من رجل دراهم ثم إن المستقرض أفقر من المقرض ظهر دابته
فقال عبد الله : ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا - لما بيَّنا ولما قال البيهقي : قال
الشيخ أحمد : هذا منقطع ( إزالة ) لو قيل : لمَ لا يجوز أن يكون هذا الأثر الموقوف
في حكم الحديث المرفوع ؟ قلنا : له شرط وهو أن لا يكون مدركًا بالقياس ، وههنا هو
مدرك بالقياس كما صرَّح العلماء بذلك ، قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات : إن
رجلاً أتى عبد الله بن عمر فقال له : يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت
أفضل مما أسلفته ، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله ، وقال رضي الله عنه :
من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه ، وإن كان قبضة من علف فهو ربا . اهـ .
فهذا الفقيه أنكر كونه ربًا منصوصًا وجعله ربًا قياسيًّا كما يدل عليه قوله: وتفسير ذلك
(أي قول ابن عمر فهو ربا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن ، ربا الجاهلية : إما
أن تقضي وإما أن تربي ؛ لأن تأخيره الدين بعد حلوله على أن يزاد له فيه سلف جر
منفعة [27] على أن الفقهاء لم يتمسكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى زماننا هذا ، ولم يفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا ، بل اتفقوا على
أنها لا تكون ربًا إلا أن تكون مشروطة في العقد ، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار
والأحاديث الواردة في هذا الباب لأنها تدل على حرمة كل منفعة سواء شرطت أو لم
تشترط مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق ، قال العيني : وفيه ما يدل أن المقرض
إذا أعطاه المستقرض أفضل مما اقترض جنسًا أو كيلاً أو وزنًا أن ذلك [28] معروف
وأنه يطيب له أخذه منه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثنى فيه على من أحسن القضاء ،
وأطلق ذلك ولم يقيِّده ( قلت ) هذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن عن شرط منهما حين
السلف ، وقد أجمع المسلمون نقلاً [29] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اشتراط
الزيادة في السلف ربا . اهـ [30] .
قال ابن حجر في باب استقراض الإبل تحت حديث أبي هريرة : وفيه جواز
وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد ، فيحرم حينئذ
اتفاقًا ، وبه قال الجمهور . اهـ . ولما كان هذا الأثر عن عبد الله بن سلام مخالفًا لما
عليه الجمهور تأول ابن حجر قوله رضي الله عنه : ( فإنه ربا ) وقال : يحتمل
أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام ، وإلا فالفقهاء على أنه يكون ربًا إذا شرط ، نعم
الورع تركه . ا هـ . وأيضًا لما أخرج البخاري هذا الحديث بطريق آخر وليس فيه
ذكر الربا ، فهناك قال ابن حجر : زاد البخاري في مناقب عبد الله بن سلام ذكر
الربا ، وههنا فسر الربا المراد في قوله رضي الله عنه بقوله : وإن من اقترض قرضًا
فتقاضاه إذا حل فأهدى إليه المديون هدية كانت من جملة الربا [31] فثبت من هذه
الأقوال أنه لم يقل أحد من العلماء : إن الفضل والزيادة إذا كانت غير مشروطة في
القرض عند العقد أنه ربا سواء كان في صورة الهدية أم في صورة العارية أم في
غيرهما ، فهذا الأثر وما ورد نحوه غير معمول به عند الأمة .
وقد ذهب الجمهور إلى جواز ما كان بدون شرط في العقد لما دلت عليه
الأحاديث الصحيحة والحسان المحتج بها بإعطاء الزيادة في ديون البيع والقرض
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لبلال ( أعطه أوقية من ذهب وزده ) فأعطاني أوقية من ذهب وزادني قيراطًا [32] .
ولفظ البخاري : ( فوزن لي بلال فأرجح في الميزان ) قال النووي في شرحه :
فيه استحباب الزيادة في أداء الدَّين وإرجاح الوزن ، وقد روى هذا الحديث فوق
عشرة عن جابر ، وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء الزيادة في
قرض الحيوان كما في حديث أبي رافع ، قال : استسلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكرًا فجاءته إبل من الصدقة . قال أبو رافع : فأمر لي أن أقضي الرجل بكره ،
فقلت : لا أجد إلا جملاً خياريًّا رباعيًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء ) أخرجه مالك ومسلم والأربعة ، وكما في حديث
أبي هريرة أخرجه الشيخان و الترمذي مختصرًا ومطولاً : أن رجلاً تقاضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فَهَمّ به أصحابه فقال : ( دعوه فإن لصاحب الحق
مقالاً ، واشتروا له بعيرًا فأعطوه إياه ، قالوا : لا نجد إلا أفضل من سنه ، قال :
اشتروه فأعطوه إياه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء ) .(3/47)
وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى الزائد في قرض
الأموال الربوية - أعني المكيل والموزون - كما روى أبو هريرة قال : أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فأعطاه وسقًا فقال
( نصف وسق لك ونصف وسق من عندي ) ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فأعطاه
وسقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وسق لك ووسق من عندي ) أخرجه
المنذري في الترغيب وقال : رواه البزار وإسناده حسن .
ومن حديث ابن عباس قال : استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل
من الأنصار أربعين صاعًا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( ما جاءنا من شيء ، فقال الرجل وأراد أن يتكلم ، فقال صلى الله عليه
وسلم : لا تقل إلا خيرًا فأنا خير من تسلف ) فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين أسلفه
فأعطاه ثمانين ، قال البزار : لم أسمعه إلا من أحمد وهو ثقة ، وأخرجه المنذري
وقال : إسناده جيد ، وقال الهيتمي : رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار وهو ثقة .
ومن حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي برجال الصحيح في السنن الكبرى قال :
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلف فاستسلف له رسول الله صلى الله
عليه وسلم شطر وسق فأعطاه إياه ، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقًا وقال
( نصف لك قضاء ونصف لك نائل من عندي ) وهذه أحاديث صحيحة يحتج بها فلا
يعارضها مثل حديث السوار المتروك والآثار الغير المرفوعة ، وأما كونه ربًا عند
الشرط فهو لا يصح أيضًا لما روي من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطل
أبا رافع ، فرجحت الدراهم ، فقال أبو رافع : هو لك أنا أحله لك ، فقال أبو بكر : إن
أحللته فإن الله لم يحله لي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الزائد
والمزاد في النار ) أو هكذا لأن فيه دلالة على أن الزيادة بغير شرط أيضًا حرام ،
أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام شرطت أو لم تشترط ، فلو كانت الزيادة
في القرض ربا لكانت حرامًا بدون شرط أيضًا مع أن الزيادة في القرض بدون
الشرط مباح باتفاق الأمة ، فثبت أنها ليست بربا .
قال ابن نجيم في البحر : إذا لم تكن [33] المنفعة مشروطة فلا بأس به ، وفي
البزازية من كتاب الصرف ما يقتضي ترجيح الثاني ، قال ولا بأس بقبول هدية
الغريم وإجابة دعوته بلا شرط ، وكذا إذا قضى أجود مما قبض يحل بلا شرط اهـ
كتاب الحوالة .
وأما ما قيل إنه لا حجة في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في
الديوان والقرض لأنه مخصوص به ، وهو إمام وللإمام حق العطاء ، فيكون ما
يعطي الإمام حلالاً ، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليُقتدى به في كل فعل
حتى يقوم دليل على اختصاصه به ، وليس هنا دليل على اختصاصه به صلى الله
عليه وسلم .
وكذا لا يصح تفسير إجمال الآية بحديث أنس والآثار المروية عن أُبي بن
كعب وابن عباس ، أما أولاً فلأنه ليس فيها ذكر الربا فلا يتعين أن النهي والأمر
بالاجتناب لكونه ربا ، وأما ثانيًا فلما مرَّ عن شرح كشف الأسرار بأنه لابد أن يكون
مفسر إجمال القرآن قطعي الدلالة وقطعي الثبوت ، وحديث أنس وآثار أبي بن
كعب وابن عباس لسن بهذه المثابة لا باعتبار الدلالة ولا باعتبار الثبوت .
أما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه بلفظ ( إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه
أو حمله على الدابة فلا يركبه ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك )
والراوي فيه عن أنس مجهول ، وكذا فيه عتبة بن حميد الضبي البصري قال أبو
طالب عن أحمد هو ضعيف ليس بالقوي ، وفيه إسماعيل بن عياش الحمصي وهو
مختلَف فيه وضعيف بالإجماع إذا روى عن غير أهل بلده ، وأخرجه ابن تيمية في
المنتقى بلفظ ( إذا أقرض الرجل الرجل فلا يأخذ هدية ) وقال : أخرجه البخاري في
تاريخه فما ظفرت على سنده حتى أحكم على جودته وصحته ليثبت منه الحرمة ،
وليس ببعيد أن يكون مختصرًا من حديث ابن ماجه فيعود الجرح والتعديل ، مع هذا
هو خلاف ما عليه الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .
أما أثر أبي بن كعب أنه قال لزر بن حبيش : إنك بأرض الربا فيها كثير فاش ،
فإذا أقرضت رجلاً فأهدى إليك هدية فخذ قرضك واردد هديته - ففيه كلثوم بن
الأقمر : مجهول ، وكذلك ما روى ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن
الخطاب من تمر أرضه فردّها ، فقال أبي : لم رددت عليّ هديتي وقد علمت أني
من أطيب أهل المدينة تمرة ؟ فخذ عني ما ترد علي هديتي ، وكان عمر أسلفه عشرة آلاف درهم . قال البيهقي : هذا منقطع ، أي ليس بمتصل إلى أبي أيضًا .
وكذلك ما روى أبو صالح عن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل
عشرون درهمًا ، فجعل يهدي إليه فجعل كلما يهدي إليه هدية باعها حتى إذا بلغ
ثمنها ثلاثة عشر درهمًا ، فقال ابن عباس لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم - لأن أبا
صالح لم يسمع من ابن عباس فالرواية منقطعة ، وكذلك ما روى سالم بن أبي الجعد :
كان لنا جار سمَّاك عليه لرجل خمسون درهمًا فكان يهدي إليه السمك ، فأتى ابن
عباس فقال : قاصه بما أهدى إليك . وأثر [34] فضالة بن عبيد مع ضعفه أيضًا ليس
فيه لفظ الربا حتى يفسر به الإجمال ، بل لفظه : كل قرض جر منفعة فهو وجه من
وجوه الربا - فظاهره يدل على أنه ليس بربا ، بل له شبه من الربا ، وهذه الآثار
والأحاديث كلها أخرجها البيهقي في السنن .
( للفتوى بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) قال فخر الإسلام البزدوي في كشف الأسرار : أما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعًا . قال شارح البخاري كالربا ؛ فإنه اسم للزيادة وهي بنفسها ليست بمرادة اهـ (ص43-ج1) وقال في موضع آخر : ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباهًا لا يُدرك بنفس العبارة ، بل بالرجوع إلى الاستفسار ، ثم الطلب ، ثم التأمل ، وذلك مثل قوله تعالى : [ وَحَرَّمَ الرِّبَا ] (البقرة : 275) فإنه لا يُدرك بمعاني اللغة بحال ، وكذلك الصلاة والزكاة ، وقال شارحه : فإن مطلق الزيادة التي يدل عليها لفظ الربا ، وكذلك الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظ الصلاة والزكاة لم يبقيا بمرادين بيقين ، ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية ، إما مع رعاية المعنى اللغوي أو بدونه فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول (ص155-ج-1) وقال أيضًا : لأن المجمل ثلاثة أنواع ، نوع لا يُفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير ، ونوع معناه مفهوم لغة ؛ ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة (شرح كشف ص 54 ج - 1 وغاية التحقيق شرح الحسامي) ثم قال شارح الحسامي : كآية الربا فإنها مجملة إذ الربا عبارة عن الفضل لغة ، والفضل نفسه ليس بمراد بيقين إذ البيع لم يُشرَّع إلا للاسترباح وتحصيل الفضل فإن كل واحد من المتباعين ما لم ير فضلاً في البدل المطلوب له لا يبذل ملكه بمقابلته (غاية التحقيق) قال العيني في البناية : وليس المراد مطلق الفضل بالإجماع وإن فتح الأسواق في سائر بلاد المسلمين للاستفضال والاسترباح اهـ (شرح هداية كتاب البيوع) وقال الجصاص الرازي بعد تصريح : إجمال الربا لا يصح الاحتجاج بعمومه ؛ وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدليل آخر أنه ربا حتى يحرمه بالآية اهـ أحكام القرآن (ص 464 ج-1) .(3/48)
(2) وإليه مال الإمام الشافعي رضي الله عنه ، والشافعية وأكثر المالكية ، قال الجصاص الرازي : وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملاً أنه يوجب إجمال لفظ البيع (أحكام ص 469 - ج1) قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير [ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ] (البقرة : 275) من المجملات التي لا يجوز التمسك بها . ثم قال : وهذا هو المختار عندي ، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم (ص535-ج2) قال العلامة التفتازاني في التلويح : والمجمل وهو ما خفي المراد منه لنفس اللفظ خفاء لا يُدرك إلا ببيان من المجمل سوا كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك أو لغرابة اللفظ كالهلوع أو لانتقاله من معناه الظاهري إلى ما هو غير معلوم كالصلاة والزكاة والربا . قال البغوي في معالم التنزيل : واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى : [ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ] (الروم : 39) أي ليكثر في أموال الناس ، فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة ؛ إنما المحرَّم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا الحديث . وأورد في تفسير إجماله حديث عبادة بن الصامت وقال في آخره : وهذا في ربا المبايعة - قال الشيخ عبد القادر الجرجاني في شرح الدرر : الذين يأكلون الفضل في المداينات ، والربا في اللغة عبارة عن الزيادة والنماء ، وفي الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفات معهودة ، والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري (الذهب ... ) الخبر ، تلقته الفقهاء بالقبول فدخل في حيز التواتر اهـ . وكذلك نقل السيوطي إجمال الربا قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات : قد اختلف في قوله تعالى : [ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ] (البقرة : 275) ، [ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ] (البقرة : 43) [ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ ] (آل عمران : 97) ، [ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ] (البقرة : 183) هل هي من الألفاظ العامة المجملة؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها (ص121-ج3) وفي موضع آخر : وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في القرآن ، هل هو من الألفاظ العامة يفهم المراد بها ، وتحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصها أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من لفظها أو تفتقر في البيان إلى غيرها ؟ على قولين ، والذي يدل عليه قول عمر بن الخطاب : ( كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا ) أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير (ص41-ج3) .
(3) أحكام القرآن ص 494 - ج1 .
(4) توضيح قسم ثالث ص 125 .
(5) قلمي ص 79 .
(6) ج 2 .
(7) ص 43 - ج1 .
(8) وفيه دلالة على أن الفضل مطلقًا ربا ولو من غير شرط .
(9) فيه دلالة على أن الزيادة في القرض ليست بربا ؛ لأنه لو كانت ربا لحُرِّمت بدون شرط أيضًا ، ولم يقل به الفقهاء ، على أنه ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد وقت الأداء في القرض ، وأثنى على هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وقال ابن عابدين في الدر المختار : فإن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا إلا أن يهبها على ما سيأتي (باب الربا كتاب البيوع) ص 274 - ج4 .
(10) (ص110 ج3) .
(11) كذا في رد المحتار ، باب صفة الصلاة ، مبحث القعود الأخير (ص470) .
(12) المراد به الربا في النسيئة بقرينة أنه سمَّى ربا النسيئة بربا اليد فلا محالة أن يسمى هذا بربا النساء ، وهو البيع نسيئة إلى أجل ، ثم الزيادة عند حلول الأجل وعدم قضاء الثمن بمقابلة الأجل .
(13) (كتاب البيوع ص22 - ج4) .
(14) (ص 348 - ج7) .
(15) قال ابن عابدين في شرح الدر تحت قوله (مشروط) تركه أولى فإنه مشعر بأن تحقق الربا يتوقف عليه وليس كذلك لأن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا اهـ ملخصًا - باب الربا .
(16) وسيأتي أن القرض ليس بمعاوضة مالية .
(17) (ص 273ج-4) كما سيأتي وظاهر أن القرض من التبرعات عند الفقهاء .
(18) بدائع ( 193ج - 5 ) لأن الربا هو الفضل ، والفضل والمماثلة إضافتان تقتضيان الطرفين فلا تحقق لهما بدونهما كسائر النسب والإضافات ، والطرفان لا يوجدان بدون المعاوضة ، فلا يوجد الربا بدون المعاوضة أي بدون البيع ، وظاهر أن الطرفين لا يوجدان في القرض لأن حكم رد المثل في القرض حكم رد العين كما صرَّح به الفقهاء والأصوليون . قال العلامة الشامي : ثم للمثل المردود حكم العين كأنه رد العين اهـ (ص263ج - 4) وإذا لم يتحقق الطرفان في القرض لا يتحقق الفضل فلا يوجد فيه الربا لأن الربا هو الفضل .
(19) وكذا أنكر ابن رشد الفقيه المالكي كونه ربا منصوصًا حيث قال في المقدمات : إن رجلاً أتى عبد الله بن عمر ، فقال له : يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت أفضل مما أسلفته ، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله - وقال رضي الله عنه : من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه ، وإن كان قبضة من علف فهو ربا اهـ - فهذا الفقيه ينكر كونه ربًا منصوصًا حيث يقول : وتفسير ذلك (أي قول ابن عمر فإنه ربًا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن (ص 149ج-3) وكذا العلامة البغوي ينكر كونه ربا نصيًّا ، حيث ذكر تحت آية الربا حديث عبادة ، ثم قال : وهذا في ربا المبايعة ، ومن أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة إلخ مراده أن الآية في ربا البيع ، والنفع المستحصل بالقرض خارج عن حكم الآية فهو داخل تحت (كل قرض جر منفعة) وكذا العلامة الصوفي الشهير بالخازن ينكر كونه ربا منصوصًا حيث يقول : (المسألة الرابعة) في القرض وهو من أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا اهـ . فإنه لم يدخل النفع المعين للقرض تحت ربا القرآن ، بل أدخله في القرض الجارّ منفعة ، يعني أثبت له حكمًا آخر بدليل آخر ، ولو كان عند هؤلاء الأعلام أن نفع القرض هو الربا المنصوص لم يحتاجوا إلى التأويل وأدلة أخرى ، وسيأتي الكلام عليه مفصلاً إن شاء الله تعالى .
(20) (بدائع الصنائع ص 395 ج - 7) .
(21) واتفقوا على كراهته ، وهو دليل على عدم كونه ربا وإلا كان حرامًا .
(22) (ص 204) .
(23) غرضه منه أن هذا الحديث ضعيف ؛ لأنه لو كان صحيحًا في طريق ، أو كان شيء من الأحاديث في الباب صحيحًا لاطلع عليه ، وأورده لأنه كان في ديار الحديث وكتبه المنوعة .
(24) قال السيد الجوزجاني في رسالته : الموقوف : وهومطلقًا ما روي عن الصحابي من قول أو فعل متصلاً كان أو منقطعًا ، وهو ليس بحجة على الأصح ا هـ .(3/49)
(25) أخرج البخاري هذه الرواية عن سليمان بن حرب وعن شعبة عن سعيد بن بردة عن أبيه ، وأخرجه أيضًا عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد عن أبي بريدة ، وليس فيه ذكر القرض ولا ذكر الربا ، ولكن قال ابن حجر : ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا كما أخرجه الإسماعيلي من وجه عن أبي كريب شيخ البخاري لكن باختصار عن الذي تقدم (فتح ص 262-ج13) وأخرج البيهقي عن أحمد بن عبد الحميد عن أبي أسامة عن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه وزاد فيه عن رواية البخاري ولفظه فقال : إنك في أرض الربا فيها فاش ، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يقرض القرض إلى أجل فإذا بلغ أتاه به وبسلَّة فيها هدية فاتقِ تلك السلَّة وما فيها . وأخرجه أيضًا عن شعبة باختلاف يسير ولفظه : على رجل دين فأهدى إليك حبلة من علف أو شعير أو حبلة من تبن فلا تقبله ؛ فإن ذلك من الربا . قال ابن حجر : في رواية أبي أسامة ذكر الربا لكن فيه اختصار عن رواية شعبة وما روى البيهقي عن أبي أسامة فيه زيادة عن رواية شعبة فافهم .
(26) قال ابن عابدين : لأن قول الصحابي إذا كان لا يُدرك بالرأي - أي بالاجتهاد - له حكم المرفوع (رسم المفتي ص41) وسيجيء أن في هذا الحديث مجال القياس أكثر .
(27) (ص 149ج 3) .
(28) هذا دليل على أن الزيادة في القرض ليست بربا ، ولو كانت ربا لم يفترق حكمها حين الاشتراط وعدمه كما مر عن العلامة ابن عابدين ، وأيضًا هذا مقتضى إطلاق الأحاديث في هذا الباب حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الفضل ربا) مطلقًا بدون تقييد شرط وعدمه .
(29) واعلم أن العلامة العيني بعد شرحه للبخاري بكثير من الزمان شرح الهداية حين بلغ من عمره تسعين سنة ، واعترف فيه بأنه لم يثبت في هذا الباب النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعتبر لأنه آخر أقواله ويؤيده الدليل .
(30) (عمدة القاري ص 689 ج - 5) .
(31) هذا التفسير خلاف ما عليه الجمهور فلابد له من بيان .
(32) مسلم ص 29 - ج2 .
(33) فيه أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في القرض ، وليس فيه أنه كان مع شرط أو بدون شرط فمن ادعى الحرمة بالشرط لا بد عليه من بيان ؛ لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة ؛ ولا يجوز تقييدها بدون مخصص .
(34) أخرجه البيهقي بسند إبراهيم بن سعد عن إدريس بن يحيى عن عبد الله بن عياش ، وعبد الله بن عياش منكرالحديث ، وإبراهيم لم يعرف حاله ، وكذا حال إدريس ، ويمكن أن يكون إدريس بن يحيى الخولاني ، ذكره ابن حبان في ثقاته وقال له : مستقيم الحديث إن كان دونه ثقة وفوقه ثقات .
================
مباحث الربا و الأحكام المالية
مجلة المنار - (ج 192 / ص 11)
مباحث الربا و الأحكام المالية
( كنا شرعنا في كتاب بحث فياض في تحرير حقيقة الربا وأحكامه وما
يتعلق به من الأحكام المالية في العقود والشركات والمصارف وغيرها ؛ لكثرة ما
يستفتينا الناس فيها من الأقطار المختلفة ، بدأناه برسالة الاستفتاء في حقيقة الربا
التي نشرتها حكومة حيدر آباد الآصفية الهندية ووزعتها مطبوعة على أشهر علماء
الأقطار الإسلامية ، وسألتهم عن رأيهم في إفتاء مفتيها في المسائل الأربع التي
حصرت الموضوع فيها ، وقفينا عليها بتخطئة ما اعتمده محرر هذه الرسالة في
حقيقة الربا ؛ بناء على مذهب الحنفية وبنى عليه فتواه ، وبينا آراء محققي
المفسرين من علماء مذاهب السنة في القرآن والشيعة وأقوال المحدثين والفقهاء ،
وجعلنا نتيجة هذه النقول بيان حقيقة الربا القطعي المنصوص فيه ، وهو ربا النسيئة ،
وعقدنا بعده فصلاً مهمًّا في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته بالقطعي والظني
المنصوص ، وإبطال دليلهم على هذا الإلحاق . وانتهى بنا البحث إلى الوعد بالكلام
على الحِيَل في الربا وغيره في أول المجلد 31 ( ص37 ) .
وههنا وقفنا ، وأرجأنا وسوَّفْنَا في إنجاز وعدنا ، إذ كنا عزمنا على تحرير
الموضوع بالاستقصاء لأدلته وفروعه بنصوص المختلفين فيه ، وهو ما حال دونه
كثرة أعمالنا إلى الآن ، ورأينا أنها لا تزال تزداد ، فرَّجَحْنَا أن نكتفي بخلاصة آراء
فقهاء المذاهب ورأينا فيها وهو ما يرى القارئ في الفصل التالي .
***
فصل في الحيل في الربا وغيره
الحيلة اسم أو هيئة من حال الشيء يحول إذا تغير حاله أو لونه أو صفته أو
وضعه أو مكانه ، وأصلها حولة كحكمة ، فقلبت الواو ياء ؛ لكسر ما قبلها . قال في
الأساس : حال الرجل يحول حولاً إذا احتال ومنه ( لا حول ولا قوة إلا بالله )
وحال الشيء واستحال تغيَّرَ ، وحال لونه ، وحال عن مكانه تحول - إلى أن قال - :
وحاوله طلبه بحيلة ا هـ . وفي المصباح المنير : والحيلة الحذق في تدبير الأمور ،
وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود ، وأصله الواو ، واحتال طلب الحيلة
ا هـ .
وقال الراغب في مفردات القرآن : والحيلة والحويلة : ما يتوصل به إلى
حالة ما في خفية ، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث ، وقد تستعمل فيما فيه
حكمة ؛ ولهذا قيل في وصف الله عز وجل : { وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ } ( الرعد :
13 ) - بكسر الميم - أي الوصول في خفية من الناس إلى ما فيه حكمة ، وعلى هذا
النحو وصف بالمكر والكيد لا على الوجه المذموم ، تعالى الله عن القبيح ا هـ .
وذكر قبل ذلك أن من الأمثال ( لو كان ذا حيلة لتحول ) .
وأقول : إنه قال في المكر والكيد كما قال في الحيلة والمحال أنه يكثر
استعماله فيما فيه خبث أو قبح ، وسببه كما بيناه في التفسير أن أكثر ما يخفي الناس
هو ما يعد عندهم قبيحًا أو ضارًّا ولو بأعدائهم وخصومهم ، وما لو ظهر لحبط وفسد
عليهم وعجزوا عن إتمامه كما يقع في الحرب وشئون السياسة . ولم يرد لفظ الحيلة
في القرآن إلا فيما هو واجب منها ، وهو قوله بعد وعيد الذين يتركون الهجرة من
دار الكفر والظلم إلى الإسلام والعدل : { إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ }
( النساء : 98-99 ) الآية .
وأول من أدخل الحِيَل في الشرع أبو حنيفة وأصحابه ، وأول من ألف فيها
القاضي أبو يوسف ألف كتابًا مستقلاًّ سمَّاه ( كتاب الحيل ) وتبعه فقهاء مذهبهم فهم
يذكرون في كتب فقههم أبوابًا للحيل التي يصفونها بالشرعية ، ووافقهم الشافعية في
أصل جواز الحيل ، وقال بحظرها فقهاء المالكية و الحنابلة .
وفي الجامع الصحيح للبخاري كتاب خاص سماه ( كتاب الحيل ) فتح فيه
أبوابًا أورد فيها ما صح على شرطه متعلقًا بالحيل والدلالة على كراهة الشرع لها .
أولها ( باب في ترك الحيل ، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها ) وأورد
فيه حديث ( إنما الأعمال بالنية ) الذي افتتح به صحيحه برواية ( بالنيات ) أشار
بهذه الترجمة إلى أن جميع الأحكام الشرعية من فعل وترك تدخل في عموم هذا
الحديث خلافًا لمن خصَّه بالعبادات وما في معناها كالأيمان . وسائر أبوابه في
الصلاة والزكاة والنكاح والبيوع والغصب والهبة والشفعة والاحتيال للفرار من
الطاعون واحتيال العامل ( أي عامل السلطان ) ليهدى له . وقد كتب الحافظ ابن
حجر على عنوان ( كتاب الحيل ) في شرحه له ( فتح الباري ) ما نصه :
الحيل : جمع حيلة وهي ما يُتَوَصَّل به إلى مقصود بطريق خفي ، وهو عند
العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها ، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال
حق أو إثبات باطل فهي حرام ، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو(3/50)
مستحبة ، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي
مستحبة أو مباحة ، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة .
ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول ، هل يصح مطلقًا ، وينفذ ظاهرًا
وباطنًا أو يبطل مطلقًا أو يصح مع الإثم ؟ ولمن أجازها مطلقًا أو أبطلها مطلقًا أدلة
كثيرة فمن الأول قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } ( ص :
44 ) وقد عمل به صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى وهو من حديث
أبي أمامة بن سهل في السنن ومنه قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا }
( الطلاق : 2 ) وفي الحيل مخارج من المضايق ، ومنه مشروعية الاستثناء ، فإن
فيه تخليصًا من الحنث ، وكذلك الشروط كلها ، فإن فيها سلامة من الوقوع في
الحرج ، ومنه حديث أبي هريرة و أبي سعيد في قصة بلال : ( بع الجمع بالدراهم
ثم ابتع بالدراهم جنيبًا ) .
( ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث : ( حرمت عليهم الشحوم
فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها ) وحديث النهي عن النجش ، وحديث : ( لعن المحلل
والمحلل له ) .
والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم هل المعتبر في صيغ العقود
ألفاظها أو معانيها ؟ فمن قال بالأول أجاز الحِيَل ، ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ
ظاهرًا وباطنًا في جميع الصور أو في بعضها ، ومنهم من قال تنفذ ظاهرًا لا باطنًا ،
ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه
القرائن الحالية . وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية ؛ لكون أبي يوسف صنَّف
فيها كتابًا لكن المعروف عنه ، وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق قال
صاحب المحيط : ( أصل الحيل قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } ( ص : 44 )
الآية وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن ، وإن كانت
لإبطال حق مسلم فلا ، بل هي إثم وعدوان ) ا هـ .
أقول : إن هذا الأصل لا ينفعهم ، فإنه تخفيف من الله على نبيه أيوب عليه
السلام فهو نص إلهي استثنائي لا يصح أن يقيس عليه من قال : إن شرع من قبلنا
شرع لنا ، فضلا عمن يقول : ليس شرعًا لنا ، وهو الحق بنص القرآن أو هو من
قبيل خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم في شرعنا . ومثله احتيال يوسف عليه
السلام لأخذ أخيه مع عدم المخالفة لشرع ملك مصر ، وهو مما يستدلون به على
شرعية الحيل ، فإن الله تعالى قال : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } ( يوسف : 76 ) فهو
إذًا إذن منه تعالى ، فلا يقاس عليه ما يفعل مخالفة شرعه ، وسيأتي الكلام على ما
أشار الحافظ من الأحاديث في أدلة الفريقين .
ثم كتب الحافظ في الكلام على حديث النية منه ما نصه متعلقًا بالموضوع :
( واستدل به من قال بإبطال الحيل ، ومن قال بإعمالها ؛ لأن مرجع كل من
الفريقين إلى نية العامل . وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى
بيان ذلك ، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه : إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو
مطلوب ، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم ، ونص الشافعي على كراهة تعاطي
الحيل في تفويت الحقوق ، فقال بعض أصحابه : هي كراهة تنزيه ، وقال كثير من
محققيهم كالغزالي : هي كراهة تحريم ويأثم بقصده ، ويدل عليه قوله : ( وإنما لكل
امرئ ما نوى ) فمن نوى بعقد البيع الربا ، وقع في الربا ، ولا يخلصه من الإثم
صورة البيع ، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللاً ، ودخل في الوعيد على
ذلك باللعن ، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح ، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل
الله أو تحليل ما حرم الله كان آثمًا ، ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على
الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له ، والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له .
( واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون ؛ لأنهما ليسا
من أهل العبادة ، وعلى سقوط القود في شبه العمد ؛ لأنه لم يقصد القتل ، وعلى
عدم مؤاخذة المخطئ والنَّاسِي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما ، وقد تقدم ذلك
في أبوابه ، واستدل به لمن قال كالمالكية : اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه
التورية ، وعكسه غيرهم ، وقد تقدم بيانه في الأيمان .
( واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا ( اليمين على نية
المستحلف ) وفي لفظ له ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) وحمله الشافعية على
ما إذا كان المستحلف الحاكم ، واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار
المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه .
( وضبط بعضهم ذلك بأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام :
( أحدها ) أن تظهر المطابقة إما يقينًا وإما ظنًّا غالبًا . ( والثاني ) أن يظهر
أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينًا وإما ظنًّا ( والثالث ) أن يظهر في معناه ويقع التردد
في إرادة غيره وعدمها على حد سواء ، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو
لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره ، وإذا ظهرت إرادته
بخلاف ذلك ، فهل يستمر الحكم على الظاهر ، ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما
ظهر من إرادته ؟
( فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة إلى
الربا ، ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان فساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد
به البيع من هذا الظن ، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلاً مسلمًا
بغير حق ، فإن العقد صحيح ، وإن كانت نيته فاسدة جزمًا ، فلم يستلزم تحريم القتل
بطلان البيع ، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق
الأولى ) .
( واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل ، فيصير بها تارة حرامًا وتارة
حلالاً كما يصير العقد بها تارة صحيحًا وتارة فاسدًا كالذبح مثلاً ، فإن الحيوان يحل
إذا ذبح لأجل الأكل ، ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة واحدة ، والرجل يشتري
الجارية لوكيله فتحرم عليه ، ولنفسه فتحل له ، وصورة العقد واحد ، والأول قربة
صحيحة ، والثاني معصية باطلة ، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر
رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم . وقد نقل النسفي
الحنفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال : ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من
أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق . ا هـ .
هذا ما كتبه الحافظ في الفتح في حديث النية ، ونقلناه كله ؛ لما فيه من الفوائد
ويقول : إن فقهاء المذاهب كعلماء القوانين الوضعية يستنبطون الأحكام من عبارات
نصوص المذهب من غير نظر في النيات الباعثة على الأعمال ، ولا في موافقة
حكم التشريع وعلله الدينية ، وما يرضي الله ويثيب عليه ، وما يُسْخِطه ويعاقب
عليه ، ويسمون هذه الأحكام شرعية فيفهم الناس أنها شرع الله الذي خاطبهم به
ويحاسبهم عليه ، فما صححوه منها فهو الحلال الذي يرضيه ، وما أبطلوه فمخالفته
حرام يسخطه ، وليس الأمر كذلك بإطلاقه ، بل الحق ما تقدم أنفًا بالإجمال مجملاً ،
وهنا تحقيق القول فيه مفصلاً مؤصلاً .
التحقيق الفلسفي في المسألة :
التحقيق في هذه المسألة : أن الأحكام الشرعية لها نصوص تبينها وتضبطها ،
وحِكَم هي المقصودة بالتشريع والمراد منه ، وعلماء الحقوق وفلسفة القوانين
يعبرون عن هذا الحكم بروح القانون ، وعن الأول بحرفية القانون أو بالمعنى
الحرفي له ، وهم متفقون على أن القاضي العادل هو من يجمع في أحكامه بين
موافقة نص القانون ومدلوله اللفظي الذي هو هيكله الظاهر ، وبين روحه والمقصود(3/51)
منه في الباطن ، وهو الحق والعدل والإصلاح بين الناس في القضايا الشخصية ،
سواء كان الخصم الشخصي فيها فردًا ، أو جماعة كالشركات أو مصلحة عامة
كالحكومة ، فإذا تعارض نص القانون الحرفي هو وروحه الذي تتحقق به حكمة
الشارع وغرضه فإنهم يسمون من يرجح الأول قاضي القانون ، ويسمون من يرجح
الثاني قاضي العدل والإنصاف ، والفقهاء يفرقون أيضًا بين ما يثبت قضاء وما
يجب تدينًا .
فالمراتب ثلاثة : أعلاها الجمع بين مدلول اللفظ وحكمته المقصودة منه ،
وهما كالجسد والروح للشخص ، ودونها المحافظ على الحكمة وإرجاع اللفظ إليها
ولو بضرب المثل من التأويل ، ودونهما الجمود على الظواهر اللفظية .
وموضوع الحِيَل في الشرائع والقوانين والعقود والوعود والأيمان والنذور بيانًا
وإفتاءً وحكمًا وتنفيذًا دون هذه الثلاثة ، وهو التحول عن مدلول اللفظ الحرفي
بتأويل أو تحريف أو معارضة تقتضي ترجيح غيره عليه ، وإنما يفعله الإنسان هربًا
وتَفَصِّيًا مما يوجبه عليه النص ، والمؤاخذة في القضاء الدنيوي إنما تترتب على
مخالفة النص التي تسمى عصيانًا للشرع والقانون ، فإن كان النص قطعي الدلالة
فلا مفر من العقاب على مخالفته ، وإن كان غير قطعي بأن كان محتملاً لمعنيين أو
أكثر كان الترجيح لأحد معانيه بالاجتهاد ، وكان أقوى وجوه الترجيح مراعاة غرض
الشارع وحكمته من النص . وفقهاء الشرع والقانون متفقون على هذا الأصل ، ومن
كان يدين الله بعلمه وعمله فهو أولى بمراعاته عندما يؤلف أو يفتي أو يحكم .
فمن رجَّح معنى على معنى بالاحتمال اللفظي المخالف لروح التشريع وحكمة
الشارع منه كان متبعًا للهوى لا للحق ، والله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام :
{ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } ( ص : 26 ) وهذا
الأمر والنهي من أصول الشرع الديني الإلهي الذي لا يُنْسَخ ولا يتغير بتغير
الشرائع ، فهو كالتوحيد في العقائد .
وقد بينا في التفسير وغيره أن نصوص الكتاب والسنة قسمان ( أحدهما ) ما
كان قطعي الدلالة كالرواية وهو الذي عليه مدار التشريع العام الذي عليه مدار
الاجتهاد ، والواجب أن يعذر المختلفون بعضهم بعضًا فلا يكون سبب للتفرق
والعداء بالاختلاف وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل لأمته ، وجرى
عليه خلفاؤه وعلماء صحابته ، وأئمة السلف الصالح من بعدهم قبل حدوث عصبيات المذاهب والشِّيع ، مثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ( البقرة : 219 ) فهم منها بعض
الصحابة تحريم ما إثمه أرجح من نفعه فتركوا الخمر والميسر ، ولم يفهم هذا
الآخرون ولعلهم الأكثرون فظل شرب الخمر شائعًا مباحًا كالميسر الذي كان قليلاً ،
ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركهما ؛ لأن دلالة الآية على تحريمها غير
قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة فتركهما الجميع ، وصار
صلى الله عليه وسلم يعاقب من يشرب الخمر . وهكذا كان صلى الله عليه وسلم
يعذر المختلفين في فهم كلام الله تعالى ، وكلامه الظني الدلالة دون القطعي ،
وشواهده كثيرة .
وأما الفقهاء المقلدون فإن منهم من يجعلون نصوص علمائهم أصولاً شرعية
دينية يوجبون الاعتماد على مدلولها اللفظي في العمل والقضاء ويبيحون الحيل
لتطبيق ذلك عليها ، وإن خالف ما هو معلوم بنص المعصوم من مراد الله تعالى
وحكمته ، وما كان مجمعًا عليه ، فهم من الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :
( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع ، حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه . قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قل : فمن ؟ ) رواه البخاري
ومسلم وغيرهما ، وشر ما اتبعوا فيه سننهم جعل كتبهم ككتاب الله تعالى في التحليل
والتحريم بنصوصها ومفاهيمها ، بل جعلها مقدمة عليه في العمل ، كما فعل أولئك ،
وقد شرحنا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِّن دُونِ اللَّهِ } ( التوبة : 31 ) [1] .
واعلم أن هذه الحيل المبسوطة في كتب الحنفية تكاد تعلم الناس التفصي من
أكثر أحكام الشرع الدينية والدنيوية ، فلو لم يتعد أصحابها نصوص كتبهم إلى
نصوص الكتاب والسنة لما كانت جناية على الدين مضعفة أو قاتلة لسلطانه على
القلوب كما علمت مما تقدم في الفتوى الهندية من تعريف الحنفية للربا ، وكونه
خاصًّا ببيع المواد الستة المنهي عنها ، وما ترتب على ذلك من الأحكام المخالفة
لنص القرآن والربا القطعي المعروف عند نزوله ، وعرَّفه الشافعية بأنه ( عقد على
عِوَض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في
البدلين أو أحدهما ) فهذا التعريف يُدْخِل في الربا القطعي ما ليس منه ، ويخرج منه
ما هو منه ، ويحتمل من الحِيَل ما لا يقبله النص الشرعي كما سيأتي .
والعمدة عند الشافعية في الحيلة حديث أبي سعيد المتفق عليه في إنكاره صلى
الله عليه وسلم بيع الصاعين من التمر الرديء كالجنيب بصاع من الجيد كالبرني
وأمره ببيع الرديء بالدراهم وشراء الجيد بها . قالوا : فهذا نص في جواز مطلق
الحيلة في الربا وغيره ؛ إذ لا قائل بالفرق .
( للموضوع بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) راجع تفسيرها في ص 363 من جزء التفسير العاشر .
===============
فتاوى في أسهم الشركات
حاتم بن عبد الرحمن الفرائضي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فمصدر الفتاوى :
1 معظمها من فتاوى (( اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء )) بالرياض
2 فتوى ل(( المجمع الفقهي الإسلامي )) المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي
3 فتوى ل(( مجمع الفقه الإسلامي )) المنبثق عن (( منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ))
[[]] المحتويات :
أولاً : فتاوى تمثل قواعد عامة
ثانياً : فتاوى عن أهمية معرفة شرعية تعامل الشركة قبل المساهمة فيها
ثالثاً : فتاوى عن الشركات التي قد تتعامل بالربا في بعض معاملاتها !!
رابعاً : فتاوى عن أهمية التزام الشركة بالشريعة الإسلامية
خامساً : فتاوى عن حكم الشركة بين مسلم وكافر .
سادساً : فتاوى عن الشركات التي يشك في عدم استقامتها على شرع الله.
أخيرا !! موعظة من خير الكلام خير الهدي .
أولاً : فتاوى تمثل قواعد عامة
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 16766) برقم ص 352 [[ الأصل في المعاملات الحل والجواز ، ولا يحرم إلا ما دل الشرع على تحرمه مما فيه غرر ، أو تغرير ، أو رباً ، وأكل لأموال الناس بالباطل ، وعليه فإن المساهمة في أي شركة من الشركات التجارية يترتب بيان الحكم فيها جوازاً وتحريماً على معرفة نظامها وتعاملها ، فإن كان في تعاملها ما يحرم شرعاً حرمت المساهمة فيها ، وإلا فلا 0]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، عضو : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، عضو : صالح الفوزان ، عضو : عبد الله بن غديان ، عضو : بكر بن عبد الله أبو زيد(3/52)
[[]] سؤال إلى اللجنة : [[ هل تصح المساهمة في الشركات التجارية ، كشركة سابك ، وشركة الراجحي للاستثمار ، من أجل الحصول على بعض الأرباح التجارية ، التي تجنيها هذه الشركات ، بأن يعطيهم الشخص مبلغاً من المال ، يستثمرونه له ، وتعود بعض أرباحه له ، أم لا ؟ ]]
قالت اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء في الفتوى رقم ( 18401 ) م 14 ص 301 [[ تجوز المساهمة في الشركات التي تتاجر في الحلال ، بتنمية أموالها وأموال مساهميها عن طريق الاستثمارات الشرعية ، والواجب على المسلم في هذا أن يسأل ويحتاط عن نشاط أي من الشركات ، فإن وجدها على ما ذكر ساهم فيها ، وإلا تركها ]] الرئيس: عبد العزيز بن باز نائب الرئيس : عبد العزيزآل الشيخ ، عضو : صالح الفوزان ، عضو : عبد الله بن غديان ، عضو : بكر أبو زيد
ثانياً : فتاوى عن أهمية معرفة شرعية تعامل الشركة قبل المساهمة فيها
[[]] السؤال : [[ من حين إلى آخر تعلن بعض الشركات أو البنوك الإسلامية عن استعدادها لتلقي أموالاً ممن يريد الاستثمار ، لتوظيفها في مشاريع اسثمارية وفق الشريعة الإسلامية ،
والإنسان العادي لا يمكنه في الغالب التأكد من ذلك بشكل قطعي ، وجل ما يستطيع عمله عادة هو : قراءة النشرات التي تصدرها الشركات الإسلامية للتعريف عن نفسها ، وفي بعض الأحيان يذكر في هذه النشرات أسماء شخصيات إسلامية معروفة ، كأعضاء مشاركين في التأسيس ، أو كلجنة فتوى مشرفة على جواز العمليات الاستثمارية التي تقوم بها الشركة 0
وسؤالي هو : إلى أي حد يجب على المسلم أن يستقصي في ذلك حتى يجوز له أن يشارك في مثل هذه الشركات إذا ما تأكد أنها تتعامل فعلاً وفق الشريعة الإسلامية ؟ وما هي طرق الاستقصاء من الناحية العملية في الوقت الحاضر - إن كنتم على علم بذلك ؟
ثم إني أرفق برسالتي نشرة من إحدى هذه المؤسسات ، فهل لكم أن تفتوني في جواز مساهمتي فيها ؟ جزاكم الله خيراً 0
جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من الفتوى ( 15088) م 14 ص 296 [[ إذا كان يغلب على ظنك سلامتها مما يخالف الشرع المطهر فلا حرج عليك في الاشتراك فيها ، مع بذل المستطاع لمعرفة الحقيقة قبل التعامل معها ؛ لقول الله عز وجل (( فاتقوا الله ما استطعتم )) ]] الرئيس : عبد العزيز بن باز
نائب الرئيس : عبد الرزاق عفيفي ، عضو: عبد العزيز آل الشيخ ، عضو : صالح الفوزان ، عضو : عبد الله بن غديان
ثالثاً : فتاوى عن الشركات التي قد تتعامل بالربا في بعض معاملاتها
[[]] من قرارات وتوصيات الدورة السابعة ل (( مجمع الفقه الإسلامي )) المنبثق عن (( منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة )) المنعقد بجدة 1412 هـ
قالوا [[ الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة . ...]]
نقلاً عن ك قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص 135 ط 2 دار القلم دمشق 1418 هـ طالع أيضا ً [[ مجلة المجمع (( ع 6ج2 ص1273)) ((ع7 ج 1 ص 73 )) ((ع9 ج2 ص5 (( ]]
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 16383 ) م 14 ص 297 [[ الأصل إباحة المساهمة في أي شركة إذا كانت لا تتعامل بمحرم من رباً وغيره ، أما إذا كانت تتعامل بمحرم كالربا فإنها لا تجوز المساهمة فيها ، وعليه فإن كان شيء من المساهمات المذكورة في شركة تتعامل بالربا أو غيره من المحرمات فيجب سحبها منها والتخلص من الربح بدفعه للفقراء والمساكين ... ]]الرئيس:عبد العزيز بن باز نائب الرئيس:عبد الرزاق عفيفي،عضو: عبد العزيز آل الشيخ،عضو: صالح الفوزان،عضو:عبدالله بن غديان
[[]] قال (( المجمع الفقهي الإسلامي )) المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي
في القرار الرابع في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة 1415 من الهجرة:
[[ القرار الرابع (( بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا ))
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 00
أما بعد :
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة
والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415 هـ 21/ 1 / 1995 م قد نظر في هذا الموضوع وقرر ما يلي :
1 - بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعاً .
2 - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم ،
كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها 0
3 - لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف
إذا كان في بعض معاملاتها ربا ، وكان المشتري عالماً بذلك 0
4 - إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا ،
ثم علم فالواجب عليه الخروج منها 0والتحريم في ذلك واضح
لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا ،
ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك ،
يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا ،
لأن السهم يمثل جزءاً شائعاً من رأس مال الشركة ،
والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة ،
فكل مال تقرضه الشركة بفائدة ، أو تقترضه بفائدة ، فللمساهم نصيب منه ؛
لأن الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة
يقومون بهذا العمل نيابة عنه وبتوكيل منه ،
والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز 0
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين 0]]
توقيع رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي : عبد العزيز بن عبد الله بن باز
توقيع نائب الرئيس : د 0 أحمد محمد علي توقيع عبد الله العبد الرحمن البسام
توقيع د 0 بكر عبد الله أبو زيد توقيع محمد بن جبير توقيع عبد الرحمن حمزة المرزوقي توقيع د 0 مصطفى أحمد الزرقاء توقيع د 0 صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان توقيع محمد بن عبد الله السبيل توقيع محمد سالم عدود توقيع د 0 يوسف القرضاوي توقيع د 0 محمد الحبيب بن الخوجه توقيع مبروك مسعود العوادي
توقيع د 0 أحمد فهمي أبو سنة توقيع محمد الشاذلي النيفر أبو الحسن علي الحسني الندوي لم يحضر د 0 رشيد راغب القباني اعتذر عن الحضور
وقد شارك في مناقشة هذا الموضوع فريق من العلماء والخبراء وهم :
1 - د 0 وهبة مصطفى الزحيلي 2 - أ 0 د 0 الصديق محمد الأمين الضرير
3 - د 0 علي محي الدين القرة داعي 4 - الشيخ عبد القادر محمد العماري
5 - الشيخ محمد الشيباني محمد أحمد 6 - د 0 علي أحمد السالوس
((( توقيع د 0 أحمد محمد المقري مدير المجمع الفقهي ومقرر المجلس )) ]]
نقلاً عن (( مجلة المجمع الفقهي الإسلامي )) السنة السابعة العدد التاسع 1416 من الهجرة ص 343
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتوى رقم ( 8131 ) م 14 ص 299 [[ أولاً : كل شركة ثبت أنها تتعامل بالربا ، أخذاً أو عطاء ،
تحرم المساهمة فيها ؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ،
قال الله تعالى : [ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ] 0ثانياً : من سبق أن ساهم في شركة تعمل بالربا فعليه أن يبيع سهمه بها ، وينفق الفائدة الربوية في أوجه البر والمشاريع الخيرية 0]] الرئيس : عبد العزيز بن باز نائب الرئيس : عبد الرزاق عفيفي ، عضو : عبد الله بن قعود ، عضو : عبد الله بن غديان
[[]] قال اللجنة في فتوى رقم ( 18670 ) م 14 ص 300(3/53)
[[ إذا كانت هذه الشركة التي ساهمت فيها لا تتعامل بالحرام من الربا وغيره ، فأرباحها حلال لك ، وإن كانت تتعامل بالحرام فالمساهمة فيها لا تجوز ، وأرباحها حرام 0 ]] الرئيس : عبد العزيز بن باز نائب الرئيس : عبد العزيز آل الشيخ
،عضو : صالح الفوزان ، عضو: عبد الله بن غديان ، عضو: بكر أبو زيد
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 7978 ) م 14 ص 312 [[ كل شركة ثبت أنها تتعامل بالربا أخذاً أو عطاء تحرم المساهمة فيها ؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ، قال الله تعالى (( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )) أما تعامل الشركة المذكورة بالربا فلا نعلم عنه حالياً شيئاً 0]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو :عبد الله بن غديان ، عضو :عبد الله بن قعود
[[]] قال اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم 17629 م 14 ص 321 [[ 000 إذا كانت الشركة تتعامل بالربا ، كالإقراض بالفائدة ، فإنه لا يجوز الاشتراك فيها ؛ لأن الإقراض بالفائدة رباً صريح ، وقد حرم الله الربا ، وتوعد عليه بأشد الوعيد ، وأجمع المسلمون على تحريم الربا بأنواعه 0]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، عضو : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، عضو : صالح الفوزان ، عضو : بكر بن عبد الله أبو زيد
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 6340 ) م 14 ص 336 [[ من علم أن هذه الشركات التي تباع أسهمها تتعامل بالربا أخذاً أو عطاء فلا يجوز شراء أسهمها ، ولا التعامل معها ، وأما من لم يعلم عنها شيئاً فيجوز له الشراء والتعامل معها ، على الوجه الشرعي ، وإن تحرى وسأل عن حال الشركة فحسن 0]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو :عبد الله بن غديان ، عضو :عبد الله بن قعود
رابعاً : فتاوى أهمية التزام الشركة بالشريعة الإسلامية فعدم تعامل الشركة بالربا لا يكفي .
[[]] قال اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 7673 ) م 14 ص 311 [[ تجوز المساهمة في الشركات التي تشتغل وفق الشريعة الإسلامية ، وإخراج الزكاة حسب واقع الشركة وأعمالها ...]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو :عبد الله بن غديان
[[]] قالت اللجنة في الفتوى رقم ( 1526 ) م 14 ص 315 [[ يجوز للإنسان أن يساهم في هذه الشركات إذا كانت لا تتعامل بالربا ،
فإن كان تعاملها بالربا فلا يجوز ذلك ؛ لثبوت تحريم التعامل بالربا في الكتاب والسنة والإجماع ، وكذلك لا يجوز للإنسان أن يساهم في شركات التأمين التجاري ؛ لأن عقود التأمين مشتملة على الغرر والجهالة والربا ،
والعقود المشتملة على الغرر والجهالة والربا محرمة في الشريعة الإسلامية 0 ]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو :عبد الله بن غديان
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 11967 ) م 14 ص 354 [[ لا يجوز التعامل في شراء وبيع أسهم الشركات التي تتعامل بالربا ، أخذاً أو عطاءً أو تبيع المحرمات من لحوم الخنزير ، الخمور ونحوها ، أو التي تعمل في التأمين التجاري ؛ لما فيه من الغرر والجهالة والربا 0]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي
[[]] سؤال إلى اللجنة : [[ نحن القاطنون في سكن التحلية في الجبيل ، نساهم في الجمعية التعاونية الموجودة في السكن ، والتي تبيع الدخان بأنواعه والمجلات أمثال : النهضة ، سيدتي ، مجلات الأزياء ، بوردا ، الحوادث ، الدستور 00 إلخ 0 ونود أن نسأل : 1 – ما حكم المساهمة في هذه الجمعية ؟ 2 – ما حكم الأرباح العائدة من المساهمة في هذه الجمعية ؟ ... ]]
قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم ( 10238 ) م 14 ص 357 [[ لا يجوز الاشتراك في الجمعية المذكورة ؛ لأن التدخين محرم بيعاً وشراءً ، واستعمالاً ؛ ولأن الكثير من المجلات يحرم الاشتراك فيها ؛ لما في نشرها من الفساد والدعوة إلى فشو المنكرات ، كمجلة سيدتي والنهضة والأزياء ونحو ذلك 0وأما الأرباح فتصدق بها على الفقراء خروجاً من عهدتها 0]] الرئيس:عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو : عبد الله بن غديان
خامساً : فتاوى عن حكم الشركة بين مسلم وكافر .
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتوى ( 7707 ) م 14ص 286 [ تجوز الشركة بين المسلم والكافر فيما أباحه الله ، 000]
الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي
، عضو :عبد الله بن غديان ، عضو :عبد الله بن قعود
[[]] قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتوى ( 17443 ) م 14 ص 286 [[ إذا كان التاجر النصراني أو غيره يتاجر بمواد محرمة ، أو يتعامل بمعاملات محرمة ، فإنها لا تجوز مشاركته ، ولا استثمار الأموال عنده ،
وأما إذا كان يتعامل بمواد مباحة ، ومعاملات مباحة فلا بأس بمشاركته واستثمار الأموال عنده بجزء مشاع من الربح إن حصل ربح ، كالثلث والربع أو أقل أو أكثر ، وأما المبلغ المقطوع المضمون من الفوائد فإنه لا يجوز ؛ لأنه من الربا الصريح ، لكونه في حكم القرض الذي شرطت فيه المنفعة 0]] الرئيس : عبد العزيز بن باز ، عضو : بكر أبو زيد ، عضو : عبد العزيز آل الشيخ ، عضو : صالح الفوزان ، عضو : عبد الله بن غديان
سادساً : فتاوى عن الشركات التي يشك في عدم استقامتها على شرع الله .
[[]] سؤال إلى اللجنة : [[ هل تجوز المساهمة بالشركات والمؤسسات المطروحة أسهمها للاكتتاب العام في الوقت الذي نحن يساورنا فيه الشك من أن هذه الشركات أو المؤسسات تتعامل بالربا في معاملاتها ، ولم نتأكد من ذلك ؟ مع العلم أننا لا نستطيع التأكد من ذلك ، ولكن كما نسمع عنها من حديث الناس 0]]
جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من الفتوى رقم ( 6823 ) م 14 ص 310 [[ الشركات والمؤسسات التي لا تتعامل بالربا وشيء من المحرمات تجوز المساهمة فيها ، وأما التي تتعامل بالربا أو شيء من المحرمات فتحرم المساهمة فيها ، وإذا شك المسلم في أمر شركة ما فالأحوط له أن لا يساهم فيها ؛ عملاً بالحديث (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني : (( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) ]] الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب الرئيس :عبد الرزاق عفيفي ، عضو :عبد الله بن غديان ، عضو :عبد الله بن قعود
أخيرا !!(3/54)
[[]] قال الله تعالى : [[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) ]] سورة البقرة
[[]] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ]
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال [ اجتنبوا السبع الموبقات
قالوا: يا رَسُول اللَّهِ وما هن؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ]] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[ عن كعب بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم
[[ ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه]] رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
وعن عبد اللَّه بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال نام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم على حصير فقام وقد أثر في جنبه. قلنا: يا رَسُول اللَّهِ لو اتخذنا لك وطاء.
فقال [ ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها] رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم
[ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال النووي في الرياض قال أهل اللغة والغريب معنى قوتاً أي ما يسد الرمق.
وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال [ قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه اللَّه بما آتاه] رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال[ ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وعن عبد اللَّه بن الشخير - بكسر الشين والخاء المشددة المعجمتين - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنه قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم وهو يقرأ[ ألهاكم التكاثر ]
قال [[ يقول ابن آدم: مالي مالي!!!
وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت،
أو تصدقت فأمضيت؟! ]] رَوَاهُ مُسلِمٌ.
عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال :
[[ إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ،
فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
[ما ظهر في قوم الربا و الزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله ]
[ إذا ظهر الزنا و الربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ]
[ لعن الله آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه ]
[ لعن الله آكل الربا و موكله و شاهديه و كاتبه هم فيه سواء ]
[ إن أبواب الربا اثنان و سبعون حوبا أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام
[ الربا اثنان و سبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه ]
[ الربا ثلاثة و سبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ]
[ الربا و إن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل ]
[ ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة ]
جمعها
الفقير إلى الله أبو حمزة حاتم بن عبد الرحمن بن محمد بن سياد الفرائضي
خطيب جامع ابن عباس رضي الله عنهما بجدة
29 ربيع الأول من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
===============
أخطاء تقع كثيراً عند بيع الذهب!
سعد بن ضيدان السبيعي
* لايجوز بيع الذهب المستعمل بذهب جديد مع دفع الفرق :
وهذا داخل في الربا فالذهب لايباع بالذهب إلا مثلاً بمثل ، يداً بيد .
في صحيح مسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز.
وفي صحيح مسلم (1588) عن أبي هريرة قال قال رسول الله الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا .
ولتخلص من الربا في هذه المسألة يباع الذهب المستعمل ثم تقبض النقود يداً بيد ثم يشترى بها الذهب الجديد .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى الذهبية:( ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواءٍ يداً بيد )) وثبت عنه أنه قال : (( من زاد أو استزاد فقد أربى )) ، وثبت عنه أنه أتي بتمر جيد فسأل عنه فقالوا : كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة .فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد البيع وقال : (( هذا عين الربا )) ثم أرشدهم أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم ثم يشتروا بالدراهم تمراً جيداً.ومن هذه الأحاديث نأخذ أن ما ذكره السائل من تبديل ذهب بذهب مع إضافة أجرة التصنيع إلى أحدهما أنه محرم لا يجوز وهو داخل في الربا الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
والطريق السليم في هذا أن يباع الذهب الكسر بثمن من غير مواطأة ولا اتفاق وبعد أن يقبض صاحبه الثمن فإنه يشتري الشيء الجديد في مكان آخر فإذا لم يجده رجع إلى من باعه عليه واشترى بالدراهم وإذا زادها فلا حرج ، المهم أن لا تقع المبادلة بين ذهب وذهب مع دفع الفرق ولو كان ذلك من أجل الصناعة هذا إذا كان التاجر تاجر بيع أما إذا كان التاجر صائغاً فله أن يقول : خذ هذا الذهب اصنعه لي على ما يريد من الصناعة ، وأعطيك أجرته إذا انتهت الصناعة وهذا لا بأس به).
* لايجوز بيع الذهب وشرائه إلى أجل أو بالتقسيط :
فما يفعله البعض من شراء ذهب ويدفع المبلغ بعد مدة هذا داخل في ربا النسيئة
في صحيح مسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز(3/55)
والشاهد قوله (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز ).قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (11 /10) وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلا وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى الذهبية:بيع الذهب بالدراهم إلى أجل حرام بالإجماع لأنه ربا نسيئة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت حين قال (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة .. الخ الحديث ، قال : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )) هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال أيضا في الفتاوى الذهبية:يجب أن تعلم القاعدة العامة بأن بيع الذهب بدراهم لا يجوز أبداً إلا باستلام الثمن كاملاً
وقال أيضا في الفتاوى الذهبية :ومثل ذلك أيضاً بيع الذهب بالأوراق النقدية المعروفة فإنه إذا اشترى الإنسان ذهباً من التاجر أو من الصائغ لا يجوز له أن يفارقه حتى يسلمه القيمة كاملة إذ أن هذه الأوراق النقدية بمنزلة الفضة وبيع الذهب بالفضة يجب فيه التقابض في مجلس العقد قبل التفرق - لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : (( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ))
* لا يجوز استرجاع الذهب بعد شرائه وأخذ ذهب دونه في الثمن مع دفع الفرق لأنه بيع ذهب بذهب مع زيادة دراهم.
والطريقة الشرعية الصحيحة رد الذهب وأخذ الدراهم ثم يشتري بالدراهم ذهب أقل من ثمن الأول.
* ولا يجوز حجز الذهب بدفع بعض القيمة لأن هذا ربا نسيئه
بل لابد من دفع قيمة الذهب كاملة لقوله : صلى الله عليه وسلم ( فإذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا إذا كان يداً بيد )
============
القول الصائب في حكم بيع اللحم بالتمر الغائب
قال في زاد المستقنع: (ويحرم ربا النسيئة في بيع كلِّ جنسين اتفقا في علَّة ربا الفضل أي: الكيل أو الوزن ليس أحدهما نقداً، كالمكيلين والموزونين، وإن تفرَّقا قبل القبض بطُلَ، وإن باعَ مكيلاً بموزونٍ جازَ التفرُّق قبل القبضِ والنَّساء).
قال في الشرح: (لأنَّهما لم يجتمِعا في أحَدِ وصفي عِلَّة ربا الفضل أشبَهَ الثيابَ والحيوان، وقال في المقنع (وأمَّا ربا النسيئة فكلُّ شيئين ليس أحدُهما ثَمَناً - علَّةُ ربا الفضل فيهما واحدة: كالمكِيلِ بالمكِيلِ والموزونِ بالموزونِ - لا يجوزُ النَّساءُ فيهِما، وإن تفرَّقا قبل التقابُضِ بطُلَ العَقْدُ، وإنْ باعَ مكيلاً بموزونٍ جاز َالتفرُّق قبل القَبضِ، وفي النَّساء روايتان) انتهى.
قال في الحاشية: (إحداهما يجوزُ وهي المذهب، وبِه قال النخعي لأنَّهما لم يجتمعا في أحد وصفي عِلَّة ربا الفضل فجازَ النَّساءُ فيهما كالثياب بالحيوان، وعند من يُعَلِّلُ بالطُّعمِ لا يجيزُه هنا وجهاً واحداً، و الثانية لا يجوزُ قَطَعَ به الخِرقي وصاحبُ الوجيزِ(1) لأنَّهما من أموالِ الرِّبا فلم يجُزْ النَّساءُ كمكيلٍ بمثله) انتهى، وقال: (العِلَّة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطُّعم، وهو رواية عن أحمد) انتهى.
قال في الاختيارت: (والعِلَّة في تحريم ربا الفضل "الكيل أو الوزن مع الطُّعْمِ"، وهو روايةٌ عَن أحمد) انتهى.
وقال خليل من المالكيَّة: (علَّة طعام الربا اقتيات وادِّخار) انتهى.
وقال القدُّوري من الحنفيَّة: (الربا محرَّم في كلِّ مكيلٍ أو موزون إذا بِيعَ بجنسِه متفاضلاً، فالعلَّة فيه "الكيل مع الجنس"، أو "الوزن مع االجنس"، فإذا بيع المكيلُ بجنسِه أو الموزون بجنسه مِثلاً بمثل جازَ البيعُ، و إن تفاضلا لم يجُزْ، ولا يجوز بيع الجيِّد بالرديء مِمَّا فيه الربا إلاَّ مثلاً بمثلٍ فإذا عُدِمَ الوصفان: الجنسُ والمعنى المضمومُ إليه حلَّ التفاضلُ و النساءُ، وإذا وُجِدا حَرُم التفاضلُ والنَّساءُ، وإذا وُجِد أحدُهما وعُدِمَ الآخرُ حلَّ التفاضلُ وحرُم النَّساءُ، وكلُّ شيءٍ نصَّ رسول الله r على تحريم التفاضل فيه كيلاً فهو مكيل أبداً، وإن ترك الناس فيه الكيلُ، مثل: الحنطةِ والشعيرِ، و التمرِ والملحِ، وكلُّ ما نُصَّ على تحريِم التفاضلِ فيه وزناً فهو موزونٌ أبداً، وإن تركَ الناسُ الوزنَ فيه مثل: الذهبِ والفضةِ، وما لم يُنصَّ عليه فهو محمولٌ على عاداتِ الناس) انتهى.
وقال النووي في المنهاج: (إذا بِيعَ الطعامُ بالطعام: إن كان جنساً اشتُرِطَ الحلُولُ والمماثلةُ والتقابضُ قبل التفرُّقِ، أو جنسين كحنطةٍ وشعير جازَ التفاضلُ واشتُرِطَ الحُلُولُ والتقابُضُ، والطعامُ: ما قُصِدَ للطُّعْمِ اقتِياتاً أو تفَكُّهاً أو تداوِياً، و أدقَّةُ(2) الأصول المختلفة الجنس وخُلولُها وأدهانها أجناس، واللحوم والألبان كذلك في الأظهر، والمماثلة تُعتبرُ في المكيلِ كيلاً والموزون وزناً، والمعتبرُ غالبُ عادةِ أهل الحجاز في عهدِ رسول الله r، وما جُهِلَ يُراعَى فيه عادة بلد البيع، وقيل: الكيل، وقيل: الموزون، وقيل: يتخيَّر، وقيل: إذا كان له أصلٌ اعتُبِرَ، والنقدُ بالنقدِ كطعامٍ بطعامٍ) انتهى.
وقال الشيخُ عبدالرحمن بن قاسم في كتابِه: (الدررُ السَّنِيَّة في الأجوبة النجدية): (سُئِل الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله عن بيعِ الحديد بالنحاس واللحمِ بالتمر نسيئة فأجابَ: و مسألةُ الحديد بالنحاس واللحم بالتمر نسيئةً ما ندري عنها، والورَعُ ترْكُه).
و أجاب ابنُه الشيخ عبدالله: (وأمَّا السَّمن بالتمرِ واللحم بالتمرِ والأقِطُ بالتمرِ فالذي يعملًُ علَيه أكثرُ أهلِ العلمِ أنَّه لا يجوزُ، و يُنهَى عنه، وهو الذي نعمل عليه).
وأجاب أيضاً: (وأمَّا إذا باع ذُرةً بِبُرٍّ نَساءً فهذا لا يجوزُ، وهو رباً إلاَّ إذا كان يداً بيدٍ وأمَّا بيع السمن بالحَبِّ مؤجَّلاً فلا ينبغي فِعلُه).
وأجاب أيضاً: (و أمَّا بيع الحيوان بالتمر نَساءً فلا أرى به بأساً، و أمَّا بيع الدُّهنِ بالتمر والبُرِّ نساءً فلا يجوز عند جمهور العلماء، وأجازه نُفاةُ القياس القائلون بقَصْر الرِّبا على الأنواع الستة المذكورة في حديث عُبادة، ولكن قول الجمهور أولى و أحوط، وأمَّا إذا بِيعَ ذلك يداً بيدٍ فهو جائزٌ لقوله عليه السلام: (فإذا اختلفت هذه الأجناس) .. إلى آخره، وأمَّا بيعُ الدراهم بالحَبِّ وبيع الحَبِّ بالدراهمِ مؤجَّلاً فجائزٌ إذا حَضَرَ أحدُ النوعين).
وأجاب الشيخ عبدالرحمن بن حسن: (أمَّا بيع اللحم بالطعام نسيئةً فإذا كان الطعام مكيلاً فهو من باب بيع الموزون بالمكيل، لأنَّ اللحم من الموزونات، فيجوز حالاًّ مقبوضاً بلا ريبٍ، وأمَّا إذا اشترى به مكيلاً ففيه روايتان: إحداهما يجوز وهو المذهب، صحَّحه في الخُلاصة وغيرها، و هو الذي ذكرتَه عن شيخِنا حمد بن ناصر رحمه الله أنَّهُ أفتاكَ به، والرواية الثانية أنَّه لا يجوز، قطَعَ به الخِرقيُُّ وصاحبُ الوجيز وصحَّحه في التصحيح، وهذه الرواية تجري على مذهب مالك إذا كان كلاهما من القوت، وتجري أيضاً على الرواية الثانية عن الإمام أحمد وقولِ الشافعي وابنِ المسيَّب أنَّ العِلَّة الطُّعمُ، فتأمَّلْه يظهر لك أقواهما) انتهى.
قُلتُ: الأظهرُ قولُ الأكثرِ، لأنَّ العِلَّة هي الكيل مع الطُّعم أو الوزن مع الطُّعم - كما اختارَهُ شيخ الإسلام -، وهي موجودةٌ في بيع اللحم بالتمر ونحوه نسيئةً، واللحمُ جِنسٌ، والتَّمرُ جِنس، فيجوزُ بيعُ اللحمِ بالتمرِ حاضراً، ولا يجوزُ إذا كان أحدُهما غائباً.(3/56)
لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم : (الذهب بالذهب و الفضة بالفضَّة و البرُّ بالبِّر والشعيُر بالشعيِر والتمرُ بالتمرِ والملحُ بالملحِ، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ) رواه مسلم.
===============
حتى لا تغرق في الديون
بقلم
عادل بن محمد آل عبد العالي
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
راية ارتفعت على رؤوس عدد من الناس ، وظاهرة انتشرت في عدد من البيوت .. إنها الديون التي كبلت أيدي الكرماء ، وأخافت قلوب الأمناء .. داءٌ لابد من الوقوف في وجهه قبل أن يستفحل فلا يُبقي أحداً .
* لقد تكاثرت الديون على الناس حتى انتهى ببعضهم الأمر إلى السجون أو إلى لجنة تبيع الممتلكات لتُعيد للدائنين أموالهم أو بعضها .
بل تكاثرت الديون حتى أُنشئت مكاتب لتحصيل الديون من هذا وذاك ممن يُماطلون أو لعجز يختفون ويتهربون .
* المحاكم الشرعية تستقبل الشكاوى ، وتتابع القضايا ، والظاهرة مستمرة ، فماذا عسانا أن نفعل ؟
إن أقل ما يمكن فعله في هذا الشأن هو توعيةُ الناس وتذكيرهم بخطورة الديون على أنفسهم حاضراً ومستقبلاً .. ويشترك في ذلك العلماء والمصلحون من الدعاة والخطباء وأهل الخبرة ، ولعل هذه الرسالة (( حتى لا تغرق في الديون )) تفي ببعض الذكرى وقد ضمنتها وصايا عديدة اقتبستها من كلام العلماء ومجالس الفضلاء واستفادتها من تجربة المجربين وصيحات النادمين (1) ، والله أسأل أن ينفع بها المسلمين وأن يتقبلها ربي في كفة الحسنات اللهم آمين ... وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
عادل بن محمد آل عبد العالي
أمام وخطيب جامع السلام بالدمام
5 صفر 1416 هـ
حتى لا تغرق في الديون
بين يديك - أخي القارئ - أضع هذه الوصايا ، أنصح بها نفسي وأياك حتى لا نعض أصابع الندم عاجلاً أو آجلاً من ديونٍ قد غرقنا فيها إلى عيون رؤوسنا أو أقل من ذلك بقليل .
الوصية الأولى : استشعر الأحاديث المفزعة في عاقبة الديون :
لقد جاء في السنة النبوية أحاديث صريحة في سوء عاقبة من مات وفي ذمته دين لأحد من الناس ، ومن ذلك :
* ما رواه عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل ليصلي عليه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( صلوا على صاحبكم ، فإن عليه ديناً )) .
وفي رواية : (( لعل على صاحبكم ديناً )) ؟ قالوا : نعم ، ديناران فتخلف - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( صلوا على صاحبكم )) .
قال أبو قتادة : هو عليَّ [ أي الدين الذي على الميت ] .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بالوفاء )) فصلى عليه (2) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه )) (3) .
قال الصنعاني : (( وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت وأنه أهم الحقوق وإذا كان هذا في الدَّين المأخوذ برضا صاحبه فكيف بما أُخذ غصباً ونهباً وسلباً )) (4) .
* وعن عبدالله بن عمرو قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يُغفرُ للشهيد كل ذنب إلا الدين )) (5) .
* وعن أبي قتادة قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : (( يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي ؟ )) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (( نعم )) فلما ولى الرجل ، ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر به ، فنودي له فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كيف قلت ؟ )) فأعاد عليه قوله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريلُ عليه السلام )) (6) .
* وعن محمد بن جحش قال : (( كنا جلوساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته ، ثم قال : (( سبحان الله ماذا نُزل من التشديد ؟ )) فلما كان من الغد .. سألته : ما هذا التشديد الذي نُزل ؟ فقال : (( والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أُحيِيَ ثم قُتل ثم أُحيي ثم قتل وعليه دينٌ ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه ))(7) .
وجاء في رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن فلاناً مأسورٌ بدينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم اسلموه إلى عذاب الله )) .
إلى غير ذلك من أحاديث يتذكر المسلم معها أن الأولى به أن يُعرض عن الاستدانة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ويسارع لسداد ما عليه ليلقى الله سالماً غير نادم .
الوصية الثانية : لا تقترض إلا مضطراً :
* إن الواقع يشهد أن كثيراً من الناس يقترض دون اضطرار لذلك ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أن اقترض ، اقترض طعاماً احتاجه ، ورهن درعه عند المُدين ليضمن براءة ذمته ، فعن عائشة رضي الله عنها (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد )) (8) .
قال ابن المنير : (( وجه الدلالة منه أنه - صلى الله عليه وسلم - لو حضره الثمن ما أخره ، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته ديناً ، لما عُرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزم إخراجه )) (9) .
ولعل من فوائد الرهن أنه يدعو المستدين إلى أن يكون جادّاً في سداد دينه مُعجلاً غير مؤجل .
وما ذُكر ، يدعونا للرضى بالقليل والقناعة بالموجود وعدم التكلف برفاهية زائدة أو بمظاهر زائفة ، كما قال تعالى : {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
* حُدثتُ أن عدداً من الإخوان أغنياء رزقهم الله مالاً وفيراً إلا واحداً منهم ، فلما قام أولئك ببناء قصور كبيرة ، سارع هذا ليلحق بصنيعهم فأغرق نفسه بالديون تكلفاً ثم مرت الشهور ، وذاق مرارة الدين فأصيب بضائقةٍ نفسية ، حتى أنه نُقل عنه أنه أصبح لا يغادر بيته إلا شذراً ، يكاد أن يهلك من حسراته وندمه .
وفي هذا يقول الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - : إني لأعجب من قوم مدينين عليهم ديون كثيرة ، ثم يذهب أحدهم يستدين ، يشتري من فلان أو فلان أثاثاً للبيت زائداً عن الحاجة ، يشتري كساءً أو فرشاً للدرج ... وهو فقير عليه ديون .. هذا سفهٌ ، سفهٌ في العقل وضلال في الدين ... )) (10) .
الوصية الثالثة : اتق الله قبل الدَّين ومعه :
* فإن العبد إذا اتقى الله وأراد أن يأخذ مالاً ليرفع ضيقاً عن نفسه وأهله ، وصدق العزم في رده عند تيسره لقي من الله الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر قال الله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [ الطلاق: من الآية4] .
وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق: من الآية2- 3] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أخذ أموال الناس يُريدُ اداءها أدّى الله عنه ، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله )) (11) .(3/57)
قال ابن حجر : ( أتلفه الله ) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه ، وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين ، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة )) (12) .
فمن لم يتق الله في الدَّين الذي عليه وماطل ، لقي من الله عنتاً وتلفاً والجزاء من جنس العمل ، فإن أحسن في القضاء أدَّاهُ الله عنهُ في الدنيا قبل الآخرة قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من مسلم يدانُ ديناً ، يعلمُ الله منْهُ أنَّهُ يريدُ أداءهُ إلا أدَّاه الله عنهُ في الدنيا )) (13) .
وحسب المؤمن رهبة من مماطلة الناس في أموالهم ما جاء عن صهيب الخير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( أيُّما رجُلٍ يدينُ ديناً ، وهو مُجمعُ أن لا يوفيهُ إيَّاهُ لقي الله سارقاً )) (14) .
الوصية الرابعة : الديون همّ بالليل وذل بالنهار :
* إن كثيراً من الرجال أريقت مياه وجوههم واختفوا عن أعين الناس خوفاً من عتاب الدائنين ، وهروباً من كلماتهم الساخنة .. ومن ذلك ما رواه الطحاوي عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تخيفوا الأنفس بعْد أمنْها )) قالوا : يا رسول الله ، وما ذاك ؟ قال : (( الدينُ )) (15) .
لذا ، ينبغي على المرء أن يستشعر أن الدين مذلة للرجال ، كما جاء في الأثر : (( الدين همٌّ بالليل ومذلة بالنهار )) .. قال القرطبي : قال علماؤنا : (( وإنما كان شيناً ومذلة لما فيه من شُغلِ القلبِ والبال والهمِّ اللازم في قضائه والتذللِ للغريم عند لقائه ، وتحمُّلِ منته بالتأخير إلى حين أوانه )) (16) . وقد ذكر في الأثر صور من ذلك أيضاً :
* جاء أبو قتادة - رضي الله عنه - إلى رجل قد استدان منه ديناً ... جاء إليه ليتقاضاه في أحد الأيام فما كان من هذا المقترض إلا أن اختفى عن ناظريه واختبأ عنه .. وقُدر أن يخرج صبيٌ من دار ذلك المقترض ، فسأله أبو قتادة عن أبيه ؟ فقال الصبي : هو في البيت يأكل خزيرةً - نوع من الطعام - فنادى أبو قتادة بأعلى صوته : يا فلان أخرج فقد أخبرتُ أنك هاهنا ... فخرج ... فقال له : ما يُغيبك عني ؟ قال الرجل : إني معُسرٌ وليس عندي ما أسدد به ديني . فاستحلفه أبو قتادة أنه معسرٌ .. فحلف الرجلُ على ذلك .
فبكى أبو قتادة أن يصل الأمر بأخيه إلى هذه الحالة البائسة . فقال بعد ذلك : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة )) (17) .
* حُدثتُ أن رجلاً تكاثرت عليه الديون حتى زادت على المليونين من الريالات وبالطبع تتابع الطُراق عليه ، ووجهت إليه الكلمات اللاذعة حتى بلغ به الأمر أن فرّ من بيته وترك أهله لسنة كاملة !! فكانت المضايقات تتابع على أبنه الصغير حتى أُصيب بضائقة نفسية سيئة .. والبقية تأتي !!- إلا أن يتداركهم الله برحمته - .
الوصية الخامسة : إياك وخداع البنوك :
* ترفع البنوك بين الحين والآخر إعلانات تتضمن التشجيع على الاقتراض ، ويزعمون أن هذه القروض تجعل حياتك أكثر رفاهية ، فما عليك إلا أن توفر الشروط وتقوم بتعبئة النموذج المُعد لذلك ثم تكون النقود بين يديك لتتصرف بها بحريةٍ كاملة . وهذه البنوك إنما تشجع على الديون لأنها تتكسب من ذلك أموالاً طائلة ، وبخاصة أنها إنما تقرض بفوائد ربوية تتضاعف بمرور الزمن ، وهذا الأسلوب الاستثماري .
أولاً : مما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال تبارك وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ آل عمران:130] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشدُ من ستٍ وثلاثين زنية )) (18) .
وقد لعن عليه الصلاة والسلام : آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه: (( هم سواء )) (19).
ثانياً : هذا القرض المالي الذي يفرح به المقترض لأيام معدودة يسبب له ضعفاً في إيمانه ، واضطراباً في قلبه . يقول الدكتور عمر الأشقر : (( الربا يُحدث آثاراً خبيثة في نفس متعاطيه ، وتصرفاته وأعماله وهيئته ، ويرى بعض الأطباء أن الاضطرابُ الاقتصادي الذي يولدُّ الجشع الذي لا تتوفر أسبابه الممكنة يسبب كثيراً من الأمراض التي تُصيب القلب ، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر ، أو الذبحة الصدرية أو الجلطة الدموية ، أو النزيف في المخ ، أو الموت المفاجئ ..
وقد قرر الدكتور عبدالعزيز إسماعيل عميد الطب الباطني في كتابه ( الإسلام والطب الحديث ) أن الربا هو السبب في كثرة أمراض القلب ... (20) .
وما قيل ليس من باب المبالغة بل الديون الحاصلة من قروض الربا تأتي بأكثر من ذلك!
ثالثاً : إن القروض الشخصية التي تقدمها هذه البنوك ربحها الدائم للبنوك فحسب يقول الدكتور ( شاخت ) مدير بنك الرايخ الألماني : (( إن الدائن المرابي ( أي البنك ) يربح دائماً في كلِّ عملية ، بينما المدينُ معرضٌ للربح والخسارة ، ومن ثم فإن المال كلُهُّ في النهاية لابد بالحساب الرياضي أن يصير إلى الذي يربح دائماً .. )) (21) .
والمعادلة في ذلك لا يطول حسابها .. يقول المراغي في تفسيره : (( الربا يُسهلُ على المقترضين أخذ المال من غير بدلِ حاضر ويزينُ لهم الشيطانُ إنفاقه في وجوه الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها ، ويغريهم بالمزيد من استدانة ، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم فإذا حلَّ الأجل لم يستطيعوا الوفاء ، وطلبوا تأجيل الدين ، ولا يزالون يماطلون ويؤجلون، والدَّين يزداد يوماً بعد يوم ، حتى يستولي الدائنون قسراً على كلِّ ما يملكون ، فيصبحون فقراء مُعدمين ، وصدق الله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } ... )) (22) .
الوصية السادسة : أغلال البطاقات ! .
* يشارك كثير من الناس في بطاقات تحت مسميات مختلفة، ومنها ما يُسمى بـ ((البطاقة الائتمانية )) والمشترك فيها يتحصل على خدمة خلاصتها أن حامل البطاقة يشتري ما يريد حاضراً وتقوم الجهةُ المُمولة للبطاقة بتسديد قيمة الفاتورة لصاحب المتجر بعد حين، وظاهرُ هذه الخدمة الرحمة، ولكن إذا علمت أن للمشترك زمناً محدداً للسداد للبنك أو الشركة ، فإذا انقضى هذا الزمن تضاعف المبلغ عليه بزيارة ربوية كلما تأخر .. عند ذلك يتبين للمشترك خطورتها ، ويتبين أن هؤلاء الذين يتعاملون بهذه البطاقات وقعوا في محذورين :
المحذور الأول : أنهم سيسرُفون في المصايف ، وسيغرقون في الديون ما دام غيرهم يدفع عنهم .
المحذور الثاني : أنهم إن لم يسددوا فوراً فإنهم سيقعون في الربا . - والعياذ بالله -(23).
وحاصل ما ذكرنا تكاثر الديون وهذا ما يُراد الهروب منه ، والفرار عنه .
الوصية السابعة : فِرَّ من التقسيط فرارك من الأسد :
* إن اندفاع الناس إلى التقسيط أصبح ظاهرة ، والحق أنها ظاهرةٌ غير صحيحة البتة ، فلا يليق بالمجتمع المسلم أبداً أن يغرق في الديون ، كما يحدث بالفعل في مجتمعات أُخرى .. إن مرارة التقسيط تُعلم قطعاً بعد الخوض في تجربته ، فإن المشتري بالتقسيط يرى أن الشركة تأكله من فوقه إلى أسفل قدميه ، وهو للوهلة الأولى لا يدرك ذلك بالطبع فيخوض مع الخائضين .(3/58)
ولنأخذ مثلاً الشركات التي تبيع السيارات الجديدة بالتقسيط ، فهم أولاً : لا يبيعون السيارة بثمنها في السوق وإنما بسعرها في البطاقة الجمركية ، ومعلومٌ أنه أعلى وأكبر غالباً ، ثم يجعلون الزيادة المالية على السعر الأعلى ولذلك تكون الزيادة ضخمة نسبياً ، وكلما ازداد الأجل بُعداً كلما أزداد الثمن الكلي على المشتري فانظر ماذا ترى .. ؟
الوصية الثامنة : احذر المفاهيم الخاطئة :
* إن من المفاهيم الخاطئة عند فئة من الناس – وهم قليل – ما صاغه أحدهم سؤالاً قُدم بين يدي فضيلة الشيخ محمد العثيمين ونصه كما يلي : (( ما رأيك في فئة من الناس يرون أن من لا دين عليه ، عنده نقصٌ في رجولته ، بل إن من دينه قليلٌ تناله سخريتهم فيقولون : فلانٌ دينه دين عجوز ، مع أنهم يستدينون بنية عدم الوفاء ؟ فكان جواب الشيخ : (( أقول أن هذا بلا شك خطأ ، وأن العز والذل تبع الدَّين وعدمه ، فمن لا دين عليه فهو العزيز ومن عليه دين فهو الذليل ، لأنه في يوم من الأيام قد يطالبه الدائن ويحبسه ، وما أكثر المحبوسين الآن في السجون ، بسبب الديون التي عليهم ، فهذا القائل – بهذا المفهوم الخاطئ – لاشك أنه سخيف العقل ، وأنه ضال في كلامه .. ولكن الذي يظهر أنه كالإنسان المريض يُحبُّ أن يمرض جميع الناس .. فهو مريضٌ بالدَّين ويريد أن يستدين جميع الناس حتى يتسلى بهم .... ))(24) .
فحري بالعاقل ألا يلتفت لهؤلاء من قريب ولا من بعيد .
الوصية التاسعة : اللهم إني أعوذ بك من ضلع الدينِ :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ من الدعاء ويطلب السلامة من ضلع الدين فعن أنس رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعاءٍ ذكره : (( اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن والعجز الكسل والجُبن والبُخل وضلع الدَّين وغلبة الرجال )) (25) . قال القرطبي : قال العلماء: (( ضلع الدَّين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه ))(26) .
وكم من الناس من هو كذلك ... وما أكثر من لا يجد أموالاً تتناسب مع ضخامة الدين عليه . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو في الصلاة ويقول : (( اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم )) – أي الدَّين – فقال رجلٌ : يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم !! قال – صلى الله عليه وسلم – : (( إن الرجل إذا غِرم كذب ، ووعد فأخلف )) (27) .
وعلى هذا ، فحري بمن أصيب ببلاء الديون أن يعتصم بالله ويدعوه بهذه الأدعية المأثورة ، وقال المهلب : (( يستفاد من هذا الحديث سد الذارئع ، لأنه – صلى الله عليه وسلم – استعاذ من الدَّين لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث والخلف في الوعد مع مالصاحب الدين عليه من المقال )) ا.هـ (28) .
الوصية العاشرة : أكرم الضيف دون إسراف :
* كما أن الشرع أمرنا بإكرام الضيف والحفاوة به .. أمرنا كذلك بعدم الإسراف والتبذير قال الله تبارك تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
وقال تعالى : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .
وقال تعالى : { وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} .
وقال تعالى : { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
ولا عجب أن كثيراً من الناس يعلمون هذه الآيات وقد يرددونها ، ولكن نزولاً عند العادات والتقاليد تجدهم يُكلفون أنفسهم مالا يطيقون في أمور هي من الإسراف بمكان ، وحاصل ذلك الغرق في الديون .
* حُدثت أن رجلاً انتقل وزوجته إلى مدينة بعيدة عن أهله وعشيرته ، وكان ذلك من أجل وظيفة متواضعة تغنيه عن السؤال . فلما استقر به المقام ، برزت له مشكلة لا حل لها بادي الرأي ... وخلاصتها أن أهل قريته كلما جاءوا إلى هذه المدينة توجهوا إليه – وهو بالطبع – مطالب عند ذلك بذبح الذبيحة والذبيحتين إكراماً لهم وحفاوة بقدومهم .. يقول هذا الرجل : (( فأصبحت أقبض الراتب من هنا .. فأنفقه على استضافة هذا وذاك )) ومرت به الشهور وهو على هذه الحال ، فما كان منه إلا أن قدَّم استقالته من تلكم الوظيفة ... ورجع إلى قريته هروباً من الإحراج الذي يؤدي به إلى الغرق في الديون غداً أو بعد غد .
الوصية الحادية عشرة : لا تكلف نفسك مالا تطيق :
يتردد في المجالس أن رجلاً استدان ليقضي شهر رمضان في جوار بيت الله الحرام وآخر استدان الآلاف من الريالات ليصل أرحامه في منطقة بعيدة وليحضر زواج ابنتهم ... وهؤلاء وأمثالهم في الحقيقة يكلفون أنفسهم مالا يطيقون ومن ثم يغرقون في الديون من حيث لا يشعرون ، ولو أنهم رفقوا بأنفسهم ما حصلت لهم المشقة هذه ، وقد أمرنا الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- بما نطيق وما عداه يسقط بالعذر بعدم الاستطاعة .. قال تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : (( عليكم بما تطيقون )) . الحديث (29) .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : (( سددوا وقاربوا )) الحديث .
وقد جعل الشرع الفرائض على عظم مكانتها مقيدة بالقدرة ، وخذ مثلاً لذلك ركناً من أركان الإسلام وهو الحج يقول الله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وعدد من العلماء يفتون بسقوط الحج عن الفقير المستدين حتى ينقضي دينه(30) فكيف بعد ذلك بالنوافل والمستحبات ؟!
الوصية الثانية عشرة : الدَّين أحقُّ بالحرج :
يتحرجُ البعضُ من أخذ الزكاة المشروعة ، بينما لا يتحرجون من أخذ الأموال ديناً في ذمتهم ، مع أنهم من يستحقون الزكاة – وهذا خطأ – فالدَّين أحقُّ بالحرج ، والزكاة حق للفقراء على الأغنياء ، أوجبه الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – رحمةً ورفقاً من هؤلاء بأولئك وأحسب أن من أقرب الصور لذلك ما يفعله بعض الشباب من الغرق في الديون من أجل الزواج مع أنهم في وضعٍ يستحقون به الزكاة كما أفتى بذلك كثيرٌ من أهل العلم .
يقول الشيخ محمد العثيمين – حفظه الله - : (( إن الإنسان إذا بلغ به الحد إلى الحاجة الملحة للزواج وليس عنده شيء وليس له أبٌ ينفق عليه ويُزوِّجُه فإن له أن يأخذ من الزكاة ، ويجوز للغني أن يُعطيه جميع زكاته حتى يتزوج بها ... ))(31) .
الوصية الثالثة عشرة : دراسة الجدوى قبل الوقوع بالبلوى :
لمجرد أن فلاناً من الناس نجح في مشروع تجاري تجد آخرين يجمعون الأموال من هنا وهناك ثم يتسابقون للقيام بنفس المشروع ، وغالباً ما تكون عاقبتهم الخسارة ومن ثمَّ غرقهم في الديون . ولا شك أن التوفيق بيد الله إلا أن عدم دراستهم للجدوى الاقتصادية سببٌ من أسباب فشلهم فينبغي النظر إلى حاجة الناس وعدد المنافسين في السوق ومناسبة الموقع ومجموع التكاليف الشهرية .. وهكذا أما أن يستقرض المرء ويتورط فهذا مما لا يفعله عاقل ولا يقول به من الأكياس قائل ..
الوصية الرابعة عشرة : ليكن تسديد الديون همك الأول :
إن مما يساعد على تقليل الديون بل القضاء عليها ، التخطيط لسدادها والجدولة الشهرية لذلك ، والقاعدة في هذا أن (( سدد الديون بالتقسيط ولا تستقلل المدفوع )) ، وفي ذلك فوائد منها ؛ ستحافظ على ما يتوفر بين يديك من مال لسداد الديون ، ثم إنك – إن شاء الله – ستنتهي من الديون في أقرب فرصة ، ويذهب عنك همُّها وغمُّها ومتى كان سداد الديون همَّك الأول استغنيت عن الكماليات والترف الزائف أو أقللت منه وفي كلٍّ خير .(3/59)