المفصل في أحكام الربا (1)
الباب الأول
النهي عن الربا في القرآن الكريم
الباب الثاني
النهي عن الربا في السنة النبوية
الباب الثالث
أحكام الربا في السنة النبوية ...
الباب الرابع
الخلاصة في أحكام الربا عند الفقهاء ...
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
((مقدمة هامة ))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فمنذ أن سقطت الخلافة الإسلامية وغزي العالم الإسلامي وأقصيت الشريعة عن الحياة انتشرت الموبقات والمحرمات في العالم الإسلامي ، والتي قضى عليها الإسلام أمثال الربا والزنا وغيرهما 0
حيث فرض الغزاة الجدد مناهجهم على بلاد المسلمين ، وهي قائمة على الكفر والفسوق والعصيان ، ومن ذلك البنوك الربوية ، والتي أصبحت في جميع بلاد المسلمين ، دون استثناء!!
وقد روَّج اليهود والنصارى والملحدون للربا في بلادنا ، بحجة أن الاقتصاد لا يمكن أن يقوم إلا على الربا ، ولما صحا المسلمون من غفوتهم قام رجال عقلاء بالرد على هذه الدعوة الباطلة ، وبينوا حرمة الربا سواء كان فرديا أو عن طريق البنوك ، بل ووجدت البنوك الإسلامية التي لا تتعامل بالربا ، وانتشرت في بعض الدول، وانهال الناس عليها ، لأنهم لا يحبون أن يغضب الله عليهم ، وأدت دروا طيبا وممتازا ، ولكنها حوربت حربا لا هوادة فيها من قبل أعداء الحل الإسلامي ، والذين انبهروا بحضارة الغرب وقيمه الجاهلية ، وآخرها لقاء عملته قناة الجزيرة منذ ثلاث سنوات في عمان حول الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية ، فأتت بأناس حاقدين على الإسلام ( كعادتها كثيرا ) فأخذوا يقولون (زورا ) : ليس هناك من فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية ، كما كان يقول أهل الجاهلية تماما: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة
ولذا يجب التحذير من كثير من برامج الجزيرة وغيرها من قنوات فضائية ، لأنها تصبُّ في خانة أعداء الإسلام ، وإن كان فيها أشياء أخرى نافعة
ثم يأتينا مفتي مصر سابقا وشيخ الأزهر حاليا (الدكتور محمد سيد طنطاوي ) بفتواه الجديدة والتي يؤيد فيها فتوى سابقة لمفتي مصر ( محمود شلتوت في عهد الهالك عبد الناصر ) ، وهي أن ربا البنوك ليس بحرام وذلك لأنه ليس أضعافا مضاعفة ، وكذلك فإن هذه الفوائد تعود إلى خزينة الدولة ، والتي تصرفها على المصالح العامة
وهذه الفتوى باطلة من أساسها لأمور كثيرة منها :
الأول - مصادمتها للنصوص القطعية في تحريم الربا بكل أشكاله وأنواعه
الثاني - مخالفتها للنظام الاقتصادي الإسلامي، الذي لا يقوم على الربا أصلا 0
الثالث - تبريرها للواقع الجاهلي المخالف للإسلام 0
الرابع ــــ تكريسها للظلم ، وإعانة الظالمين على المظلومين 0
=======================
خطورة منصب الفتوى
إن منصب الإفتاء منصب خطير جدا في الإسلام ، ومن ثم كان يتهيب منه كبار أهل العلم 0
ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِى غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ ».
وعنده عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ ». (1)
ولكن لا عجب أن تصدر تلك الفتاوى الباطلة من المفتين الرسميين في عصرنا هذا ،حسب أهواء وشهوات الحكام الظلمة والطغاة 0
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء أشد التحذير ، واعتبرهم يشكلون الخطر الأكبر على الأمة الإسلامية ؛لأنهم يتاجرون بالدين ، ففي مسند أحمد عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ». (2)
وفي مسند أحمد أيضا عَنْ أَبِى تَمِيمٍ الْجَيْشَانِىِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ كُنْتُ مُخَاصِرَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً إِلَى مَنْزِلِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ :
« غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِى مِنَ الدَّجَّالِ ». فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَدْخُلَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ شَىْءٍ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِكَ مِنَ الدَّجَّالِ قَالَ « الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ».(3)
فهؤلاء يخدعون الأمة باسم الدين ومن ثم اعتبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أخطر على أمته من الدجال
قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (79) سورة البقرة
قال العلامة السعدي رحمه الله (4):
توعد تعالى المحرفين للكتاب، الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق، وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس، فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق، بل بأبطل الباطل، وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: من التحريف والباطل { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة، وفي ضمنها الوعيد الشديد.
قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: { أَفَتَطْمَعُونَ } إلى { يَكْسِبُونَ } فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة، على ما أصله من البدع الباطلة.
وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله، لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معنى الكتاب والسنة، وهذا معقول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين، الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة، لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله.اهـ
__________
(1) - سنن أبى داود برقم( 3659 ) وهو حديث حسن
(2) - سنن الترمذى برقم( 2393) وأحمد برقم( 23056 ) وهو صحيح
قَوْلُهُ : ( إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ )أَيْ دَاعِينَ إِلَى الْبِدَعِ وَالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ
(3) - مسند أحمد برقم(21903) وهو حديث حسن
(4) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 56)(1/1)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }سورة البقرة
قال السعدي رحمه الله (1):
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي، ونبذ أمر الله، فأولئك: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، { وَلا يُزَكِّيهِمْ } أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار، فكيف يصبرون عليها، وأنى لهم الجلد عليها؟"
{ ذَلِكَ } المذكور، وهو مجازاته بالعدل، ومنعه أسباب الهداية، ممن أباها واختار سواها.
{ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ومن الحق، مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وأيضا ففي قوله: { نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه، وتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم { لَفِي شِقَاقٍ } أي: محادة، { بَعِيدٍ } عن الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم، وكثر شقاقهم، وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به، وحكموه في كل شيء، فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه.
وقد تضمنت هذه الآيات، الوعيد للكاتمين لما أنزل الله، المؤثرين عليه، عرض الدنيا بالعذاب والسخط، وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق، ولا بالمغفرة، وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة، ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار، لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه، وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه، فهو في غاية البعد عن الحق، والمنازعة والمخاصمة، والله أعلم.
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (77) سورة آل عمران
وهؤلاء المفتون يشترون بآيات الله ثمنا قليلا زائلا 0
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (77) سورة النساء
وقد أصبح منصب الفتوى اليوم في العالم الإسلامي - إلا ما رحم ربي- حسب العمالة والتبرير لسوءات تلك الدول ، والسير بركابها أينما اتجهت ، وهذا ما يسمى بمفتين تحت الطلب 0
ولو ذهبنا نعدد الفتاوى الباطلة التي أصدرها كثير من مفتي العصر الرسميين، وغير الرسميين لعجزنا عن الحصر ، فحسبنا الله ونعم الوكيل
ولكن لا يجوز أن تؤخذ الفتوى من هؤلاء، لأنهم غير أحرار فيما يفتون ،وغير تقاة ،وغير مؤهلين لذلك إلا من رحم ربي ( وقليل ما هم )
وقد ضرب الله مثلا في القرآن الكريم لمن آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب قال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف
إنه مشهد من المشاهد العجيبة , الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته , ويخلع عليه من فضله , ويكسوه من علمه , ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ; فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة , انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . .
أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ? . .
ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ; ويتجرد من الغطاء الواقي , والدرع الحامي ; وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ; ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ; فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق , ولا يحميه منه حام ; فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . .
إذا نحن بهذا المخلوق , لاصقا بالأرض , ملوثا بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب , يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . .
كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ; والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع
سمع التعليق المرهوب الموحي , على المشهد كله:
(ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) . .
ذلك مثلهم ! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان , هابطون عن مكان "الإنسان" إلى مكان الحيوان .
مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين . . وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ; وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم , فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين !
(ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون !) . .
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً ?
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 82)(1/2)
وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى ? وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى ?
وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا ? من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي , ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها , ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض , الحائر القلق , اللاهث لهاث الكلب أبداً !!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد ; إلا هذا القرآن العجيب الفريد !!
وبعد . . فهل هو نبأ يتلى ? أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً . فهو من هذا الجانب خبر يروى ?
. فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها . . وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ; ما أكثر الذين يعطون علم دين الله , ثم لا يهتدون به , إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه . واتباع الهوى به . .
هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا .
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها . ويعلن غيرها . ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة , والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل ! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً !
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول:إن التشريع حق من حقوق الله - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية . ومن ادعى الألوهية فقد كفر . ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ! . .
ومع ذلك . .
مع علمه بهذه الحقيقة , التي يعلمها من الدين بالضرورة , فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع , ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . . ممن حكم عليهم هو بالكفر !
ويسميهم "المسلمين" ! ويسمي ما يزاولونه إسلاما لا إسلام بعده ! . .
ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ; ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر . .
ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس , ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه . .
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ? وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: (ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث !) . .
ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته . ولكنه - سبحانه - لم يشأ , لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه , ولم يتبع الآيات . .
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله ; فلم ينتفع بهذا العلم ; ولم يستقم على طريق الإيمان . وانسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان !
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع ?
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها . ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً . والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه ; فهو منطلق فيه أبداً !
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة . .
حتى إنه لتمر فترات كثيرة , وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله . فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله , ممن لا ينسلخون من آيات الله , ولا يخلدون إلى الأرض ; ولا يتبعون الهوى ; ولا يستذلهم الشيطان ; ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان ! . .
فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده ; وما هو بمحصور في قصة وقعت , في جيل من الزمان !
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله , كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها . ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى , ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة ; وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً ; وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو . فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة !
ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه ; أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة !
فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم ! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا !
اللهم اعصمنا , وثبت أقدامنا , وأفرغ علينا صبراً , وتوفنا مسلمين . .
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى . .
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها ; وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى . .
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية , ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ; ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً . .
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة "نظرية " للدراسة . .
فهذا مجرد علم لا ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً . .
إنه علم بارد لا يعصم من الهوى , ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً . ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها !
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في "النظام الإسلامي" ولا في "الفقه الإسلامي" ولا في "الاقتصاد الإسلامي" ولا في "العلوم الكونية " ولا في "العلوم النفسية " ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية !
إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية ; تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل ; وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع ; وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول ; وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر ; يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر , لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء , وثقلة الأبدان , وإغواء الشيطان !
ويقدمه ميزانا للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم , وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم ; فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه ; وما رفضه هذا الميزان كان خاطئا يجب الإقلاع عنه .
ويقدمه منهجا للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة . وفق خطاه هو ووفق تقديراته . .
وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم , وأصول شريعتهم , وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم . ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية , وعلومهم الكونية والنفسية , وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية . . يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها , وجدية الشريعة وواقعيتها ; واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها .
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية . .(1/3)
أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة , فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ; ولا يقدم للحياة البشرية خيرا ! (1)
وهو كذلك ممن قال تعالى فيهم :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت , وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها , وتخضع له , وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها , مستولياً عليها , تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ?) . .
أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب !
وهو يستحق من الله أن يضله , فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !
(وأضله الله على علم) . .
على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق , لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه:
(وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) . .
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ; وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .
(فمن يهديه من بعد الله ?) . .
والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله , الذي لا يشاركه فيه أحد , حتى رسله المختارون .
(أفلا تذكرون ?) . .
ومن تذكر صحا وتنبه , وتخلص من ربقة الهوى , وعاد إلى النهج الثابت الواضح , الذي لا يضل سالكوه . . (2)
=================
هذا وقد قسمت هذه الموسوعة لتمهيد ، وستة أبواب
أما التمهيد فقد ذكرت فيه ، تعريف الربا لغة ، وذكرت فيه أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي ومقوماته
وأما الأبواب الستة فهي كما يلي :
الباب الأول - النهي عن الربا في القرآن الكريم
حيث ذكرت الآيات القرآنية التي تحرم الربا ، وبينت تفسيرها من كتب التفسير المعوَّل عليها ، ومن كتب آيات الأحكام
الباب الثاني - النهي عن الربا في السنة النبوية
ذكرت الأحاديث الصحيحة والحسنة التي تحذر من الربا ، وتبين عاقبته في الدنيا والآخرة ، وقد ذكرت شرحها كلها - تقريبا- في الهامش
الباب الثالث أحكام الربا في السنة النبوية ...
ذكرت فيه الأحاديث الصحيحة التي تحرم الربا ، وتبين أنواعه ، وقد ذكرت شرحها كاملا من كتب الشروح المعتمدة
الباب الرابع - الخلاصة في أحكام الربا عند الفقهاء
ذكرت فيه ما ورد بالموسوعة في الفقهية ، حيث فيها كل المذاهب الفقهية ، وذكرت ذلك من كتب أخرى
الباب الخامس - فتاوى وبحوث معاصرة حول الربا وأحكامه
وهو أضخم هذه الأبواب ، حيث قمت باستقصاء آراء العلماء الذين لم تفتنهم حضارة الغرب العفنة ، والتي تحذر من الربا ، وتبين خطره ، وتردُّ على من يقول بجوازه ، وكذلك بينت كثير من الصور المعاصرة للمعاملات البنكية وغيرها ، وهي إما محرمة اتباعا للقياس الجلي ، أو اختلط فيها الحلال بالحرام ، أو أنها ليست محرمة ولكن التبس حكمها على الناس
الباب السادس - أحكام التأمين
وقد ذكرت أحكام التأمين عند الفقهاء المعاصرين ، بكل أشكاله وأنواعه
الباب السابع -فوائد البنوك
ذكرت فيه أهم الفتاوى التي تحرم الفوائد البنكية ، وتحذر منها ,تبين ضررها ، وكيفية التوبة منها
الباب الثامن - شهادات الاستثمار
ذكرت فيه أهم الفتاوى التي تبين حكم شهادات الاستثمار والتي غالبها التحريم ، وبيان ضررها ، وفساد شبه من يجيزها والرد عليهم
===================
أما المصادر التي اعتمدت عليها في إعداد وجمع مفردات هذه الموسوعة فكثيرة جدا قديمة وحديثة وسأذكر أهمها في نهاية هذه الموسوعة
وأما مواقع النت فكثيرة وأهمها :
صيد الفوائد
الشبكة الإسلامية
الإسلام اليوم
الإسلام سؤال وجواب
شبكة نور الإسلام
المختار الإسلامي
فتاوى اللجنة الدائمة
فتاوى العلامة ابن باز
فتاوى العلامة ابن عثيمين
فتاوى الأزهر
الفقه الإسلامي وأدلته
وغيرها كثير
====================
نسأل الله تعالى أن يسلمنا في ديننا ودنيانا من كل شرٍّ
ونسأله تعالى أن يجعله في موازين أعمالنا
وأن يجزي كل من قرأه وعمل به أو دلَّ عليه أو نشره بين المسلمين
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) [البقرة/278-281] }
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
1 شعبان 1428 هـ الموافق 14 /8/2007 م
- - - - - - - - - - - - - - - - -
تمهيد
أولا تعريف الربا لغة
وفي النهاية (3):
{ ربا } ... قد تكرر ذكرُ [ الربا ] في الحديث والأصلُ فيه الزِّيادة . ربا المالُ يربُوا رَبْواً إذا زاد وأرْتَفع والاسمُ الرّبا مَقْصُور وهو في الشَّرع : الزّيادةُ على أصْل المالِ من غير عَقْد تبايُع وله أحكامٌ كثيرةٌ في الفقهِ . يقال : أربَى الرجل فهو مُرْبٍ
- ومنه الحديث [ من أجْبَى فقد أرْبَى ]
- ومنه حديث الصَّدقة [ فتَرْبُوا في كفّ الرحمن حتى تكونَ أعظمَ من الجبل ]
( ه ) وفيه [ الفردوس رَبْوة الجنَّة ] أي أرْفَعُها . الرُّبْوة بالضم والفتح : ما ارْتفع من الأرض
( ه ) وفي حديث طَهْفة [ من أبَى فعليه الرِّبْوَةُ ] أي من تَقَاعد عن أدَاء الزَّكاةِ فعليه الزِّيادة في الفَريضَة الواجبةِ عليه كالعُقُوبة له ويُروى [ من أقَرَّ بالجِزْية فعليه الرِّبْوة ] أي من امْتنَع عن الإسلام لأجْل الزكاة كان عليه من الجِزْية أكثَرُ مما يجب عليه بالزكاة
( ه ) وفي كتابه في صُلْح نَجْران [ أنه ليس عليهم رُبِّيَّةٌ ولا دمٌ ] قيل إنما هي رُبْيَة من الرِّبا كالحُبْية من الإحْتِباء وأصلُهُما الواوُ والمعنى أنه أسْقَط عنهم ما اسْتَسْلَفُوه في الجاهلية مِن سَلفٍ أو جَنَوْه من جِنَايةٍ . والرُّبية - مخفَّفة - لُغَة في الرِّبا والقياسُ رُبْوَة . والذي جاء في الحديث رُبّيَّة بالتشديد ولم يُعْرف في اللغة . قال الزمخشري : سَبيلُها أن تكون فُعُّولَة من الرِّبا كما جعل بعضهم السُّرِّية فُعُّولة من السّرْوِ لأنها أسْرِى جَواري الرجُل
- وفي حديث الأنصار يوم أُحُدٍ [ لإن أصَبْنَا منهم يوماً مثلَ هذا لنُرْبيَنَّ عليهم في التمثيل ] أي لنَزِيدَنّ ولنُضَاعِفَنّ
( ه ) وفي حديث عائشة [ مالَكِ حَشْياءَ رابيةً ] الرَّابِية التي أخذَها الرَّبْوُ وهو النَّهيجُ وتواتُرُ النَّفَس الذي يَعْرِض للمُسْرع في مَشْيهِ وحرِكته
0000000000000000000000
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 198)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 433)
(3) -النهاية في غريب الأثر - (ج 2 / ص 467)(1/4)
وفي اللسان (1):
( ربا ) رَبا الشيءُ يَرْبُو رُبُوّاً ورِباءً زاد ونما وأَرْبَيْته نَمَّيته وفي التنزيل العزيز ويُرْبي الصدَقات ومنه أُخِذَ الرِّبا الحَرام قال الله تعالى وما آتَيْتُم من رباً ليَرْبُوَ في أَموالِ الناسِفلا يَرْبُو عند الله قال أَبو إِسحق يَعني به دَفْعَ الإِنسان الشيءَ ليُعَوَّضَ ما هو أَكثرُ منه وذلك في أَكثر التفسير ليس بِحَرامٍ ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أَخذ قال والرِّبا رِبَوانِ فالحَرام كلُّ قَرْض يُؤْخَذُ به أَكثرُ منه أَو تُجَرُّ به مَنْفَعة فحرام والذي ليس بحرام أَن يَهَبَه الإِنسان يَسْتَدْعي به ما هو أَكْثَر أَو يُهْديَ الهَدِيَّة ليُهْدى له ما هو أَكثرُ منها قال الفراء قرئ هذا الحرف ليَرْبُوَ بالياء ونصب الواو قرأَها عاصم والأَعمش وقرأَها أَهل الحجاز لتَرْبُو بالتاء مرفوعة قال وكلٌّ صوابٌ فمن قرأَ لتربو فالفعل للقوم الذين خوطبوا دل على نصبها سقوط النون ومن قرأَها ليَرْبُوَ فمعناه ليَرْبُوَ ما أَعطيتم من شيء لتأْخذوا أَكثر منه فذلك رُبُوّه وليس ذلك زاكياً عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فتلك تَرْبُو بالتضعيف وأَرْبى الرجل في الرِّبا يُرْبي والرُّبْيَةُ من الرِّبا مخففة وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح أَهل نجران أَن ليس عليهم رُبِّيَّةٌ ولا دَمٌ قال أَبو عبيد هكذا روي بتشديد الباء والياء وقال الفراء إِنما هو رُبْيَة مخفف أَراد بها الرِّبا الذي كان عليهم في الجاهلية والدماءَ التي كانوا يُطْلَبون بها قال الفراء ومثل الرُّبْيَة من الرِّبا حُبْيَة من الاحْتِباء سماعٌ من العرب يعني أَنهم تكلموا بهما بالياء رُبْيَة وحُبْيَة ولم يقولوا رُبْوَة وحُبْوة وأَصلهما الواو والمعنى أَنه أُسقط عنهم ما اسْتَسْلَفُوه في الجاهلية من سَلَفٍ أَو جَنَوه من جناية أُسقط عنهم كلُّ دمِ كانوا يُطْلبون به وكلُّ رِباً كان عليهم إِلاَّ رؤوسَ أَموالهم فإِنهم يردّونها وقد تكرر ذكره في الحديث والأَصل فيه الزيادة من رَبا المالُ إِذا زاد وارْتَفَع والاسم الرِّبا مقصور وهو في الشرع الزيادة على أَصل المال من غير عَقْدِ تبايُعٍ وله أَحكام كثيرة في الفقه والذي جاء في الحديث رُبِّيَّة بالتشديد قال ابن الأَثير ولم يعرف في اللغة قال الزمخشري سبيلها أَن تكون فُعُّولة من الرِّبا كما جعل بعضهم السُّرِّيَّة فُعُّولة من السَّرْوِ لأَنها أَسْرى جواري الرجل وفي حديث طَهْفةَ من أَبى فعليه الرِّبْوَةُ أَي من تَقاعَدَ عن أَداءٍ الزكاةِ فعليه الزيادةُ في الفريضة الواجبة عليه كالعُقُوبة له ويروى من أَقَرَّ بالجِزْية فعليه الرَّبْْوَةُ أَي من امتنع عن الإِسلام لأَجْل الزكاة كان عليه من الجِزْية أَكثرُ مما يجب عليه بالزكاة وأَرْبى على الخمسين ونحوها زاد وفي حديث الأَنصار يوم أُحُدٍ لئِنْ أَصَبْنا منهم يَوْماً مثلَ هذا لَنُرْبِيَنَّ عليهم في التمثيل أَي لَنَزِيدَنَّ ولَنُضاعِفَنَّ الجوهري الرِّبا في البيع وقد أَرْبى الرجلُ وفي الحديث من أَجْبى فقد أَرْبى وفي حديث الصدقة وتَرْبُو في كَفِّ الرحمن حتى تكونَ أَعْظَمَ من الجبل ورَبا السويقُ ونحوه رُبُوّاً صُبَّ عليه الماءُ فانْتَفَخ وقوله عز وجل في صفةِ الأَرضِ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ قيل معناه عَظُمَتْ وانْتَفَخَتْ وقرئ ورَبأَتْ فمن قرأَ ورَبَتْ فهو رَبا يَرْبُو إِذا زاد على أَيِّ الجهاتِ زاد ومن قرأَ ورَبأَتْ بالهمز فمعناه ارْتَفَعَتْ وسابَّ فلان فلاناً فأَرْبى عليه في السِّباب إِذا زاد عليه وقوله عز وجل فأَخَذَهم أَخْذَةً رابِيَة أَي أَخْذَةً تَزِيدُ على الأَخَذات قال الجوهري أَي زائِدَةً كقولك أَرْبَيْت إِذا أَخَذْتَ أَكثرَ مما أَعْطَيْتَ والرَّبْوُ والرَّبْوَةُ البُهْرُ وانْتِفاخُ الجَوْفِ أَنشد ابن الأَعرابي ودُونَ جُذُوٍّ وابْتِهارٍ ورَبْوةٍ كأَنَّكُما بالرِّيقِ مُخْتَنِقانِ أَي لسْتَ تقدر عليها إِلاَّ بَعْدَ جُذُوٍّ على أَطْراف الأَصابِعِ وبَعْدَ رَبْوٍ يأْخُذُكَ والرَّبْوُ النَّفَسُ العالي ورَبا يَرْبُو رَبْواً أَخَذَه الرَّبْوُ وطَلَبْنا الصَّيْدَ حتى تَرَبَّيْنا أَي بُهِرْنا
__________
(1) -لسان العرب - (ج 14 / ص 304)(1/5)
( * قوله « حتى تربينا أي بهرنا » هكذا في الأصل ) وفي حديث عائشة رضي الله عنها أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ما لي أَراكِ حَشْيَا رابيَةً أَراد بالرابية التي أَخَذَها الرَّبْوُ وهو البُهْرُ وهو النَّهِيجُ وتَواتُرُ النَّفَسِ الذي يَعْرِضُ للمُسْرِعِ في مَشْيِه وحَرَكَتِه وكذلك الحَشْيا ورَبا الفَرَس إِذا انَتَفَخَ من عَدْوٍ أَو فَزَعٍ قال بِشْر بن أَبي خازم كأَنَّ حَفِيفَ مُنْخُرِه إِذَا مَا كتَمْنَ الرَّبْوَ كِيرٌ مُسْتَعارُ والرِّبَا العِينَة وهو الرِّمَا أَيضاً على البَدَل عن اللحياني وتثنيته رِبَوانِ ورِبَيان وأَصله من الواو وإِنما ثُنِّيَ بالياء للإِمالة السائغة فيه من أَجل الكسرة ورَبَا المالُ زادَ بالرِّبَا والمُرْبِي الذي يَأْتي الرِّبَا والرَّبْوُ والرَّبْوَةُ والرُّبْوَةُ والرِّبْوة والرَّباوة والرُّباوة والرِّباوَة والرَّابِيَة والرَّباةُ كلُّ ما ارْتَفَعَ من الأَرض ورَبا قال المُثَقِّب العَبْدي عَلَوْنَ رَباوَةً وهَبَطْنَ غَيْباً فَلَمْ يَرْجِعْنَ قَائِمَةً لِحِينِ وأَنشد ابن الأَعرابي يَفُوتُ العَشَنَّقَ إِلْجامُهَا وإِنْ هُوَ وَافَى الرَّبَاةَ المَدِيدَا المديدَ صفة للعَشَنَّقِ وقد يجوز أَن يكون صفة للرَّبَاةِ على أَن يكون فَعِيلاً في معنى مَفْعولةٍ وقد يجوز أَن يكونَ على المعنى كأَنَه قال الرَّبْوَ المَدِيدَ فيكون حينئذ فَاعِلاً ومَفْعولاً وأَرْبَى الرجلُ إِذا قام على رابِيَة قال ابن أَحمر يصف بقرة يَخْتَلِف الذِّئْبُ إِلى ولَدها تُرْبِي له فَهْوَ مَسْرورٌ بطَلْعَتِها طَوْراً وطَوْراً تَناسَاهُ فتَعْتَكِرُ وفي الحديث الفِرْدَوْسُ رَبْوَة الجَنَّةِ أَي أَرْفَعُها ابن دُرَيْدٍ لفُلان على فلان رَباءٌ بالفتح والمَدِّ أَي طَوْلٌ وفي التنزيل العزيز كمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ والاختيار من اللغات رُبْوةٌ لأَنها أَكثر اللغات والفتحُ لُغة تَمِيمٍ وجَمْعُ الرَّبْوة رُبىً ورُبِيُّ وأَنشد ولاحَ إِذْ زَوْزَى به الرُّبِيُّ وزَوْزَى به أَي انْتَصَب به قال ابنُ شُمَيْلٍ الرَّوابِي ما أَشْرَف من الرَّمْلِ مثلُ الدَّكْدَاكَةِ غيرَ أَنها أَشَدُّ منها إِشْرافاً وهي أَسْهَلُ من الدَّكْداكةِ والدَّكْدَاكَةُ أَشَدُّ اكْتِنازاً منها وأَغْلَظُ والرَّابِيَة فيها خُؤُورَةٌ وإشْرافٌ تُنْبِتُ أَجْوَدَ البَقْلِ الذي في الرّمال وأَكثرَه يَنْزِلُها الناسُ ويقال جَمَل صَعْبُ الرُّبَةِ أَي لَطيف الجُفْرةِ قاله ابن شميل قال أَبو منصور وأَصله رُبْوَةٌ وأَنشد ابن الأَعرابي هَلْ لَكِ يا خَدْلَةُ في صَعْبِ الرُّبَهْ مُعْتَرِمٍ هامَتُه كالحَبْحَبَهْ ؟ ورَبَوْت الرَّابِية عَلَوْتها وأَرضٌ مُرْبِية طَيّبة وقد رَبَوْت في حِجْرِهِ رُبُوّاً ورَبْواً الأَخيرة عن اللحياني ورَبِيْتُ رِباءً ورُبِيّاً كِلاهما نَشَأْتُ فيهم أَنشد اللحياني لمسكين الدارمي ثَلاثَة أَمْلاكٍ رَبَوْا في حُجُورِنَا فهَلْ قائِلٌ حَقّاً كمَنْ هُوَ كاذِبُ ؟ هكذا رواه رَبَوْا على مِثال غَزَوْا وأَنشد في الكسر للسَّمَوْأَل بنِ عَادِياءَ نُطْفَةً مَّا خُلِقْتُ يومَ بُرِيتُ أَمِرَتْ أَمْرَها وفيها رَبِيتُ كَنَّها اللهُ تحتَ سِتْرٍ خَفِيٍّ فتَجافَيْتُ تَحْتَها فَخَفِيتُ ولكُلٍّ من رِزْقِه ما قَضَى الْ لَهُ وإِن حكّ أَنْفَه المسْتَمِيتُ ابن الأَعرابي رَبِيت في حجرِه ورَبَوْتُ ورَبِيتُ أَرْبَى رَباً ورُبُوّاً وأَنشد فَمَنْ يكُ سائلاً عَنِّي فإِنِّي بمَكَّة مَنْزِلي وبِها رَبِيتُ الأَصمعي رَبَوْتُ في بَني فلان أَرْبُو نَشَأْتُ فيهِم ورَبَّيْتُ فلاناً أُرَبِّيه تَرْبِيَةً وتَرَبَّيْتُه ورَبَبْتُه ورَبَّبْته بمعنى واحد الجوهري رَبَّيْته تَرْبِية وتَرَبَّيْته أَي غَذَوْتُه قال هَذا لكل ما يَنْمِي كالوَلَد والزَّرْع ونحوه وتقول زَنْجَبيل مُرَبّىً ومُرَبَّبٌ أَيضاً أَي معمول بالرُّبِّ والأُرْبيَّة بالضم والتشديد أَصل الفَخِذِ وأَصله أُرْبُوَّة فاستثقلوا التشديد على الواو وهما أُرْبِيَّتان وقيل الأُرْبِيَّة ما بَيْنَ أَعْلى الفَخِذ وأَسْفَل البَطْنِ وقال اللحياني هي أَصل الفخذ مما يلي البطنَ وهي فُعْلِيَّة وقيل الأُرْبِيّة قَرِيبَة من العانَة قال وللإِنسان أُرْبِيَّتان وهما العانَة والرُّفْعُ تَحْتَها وأُرْبِيَّة الرجل أَهلُ بَيْتِه وبنُو عَمِّه لا تكون الأُرْبِيَّة من غيرهم قال الشاعر وإِنِّي وَسْطَ ثَعْلَبةَ بنِ عمروٍ بِلا أُرْبِيَّة نَبَتَتْ فُروعا ويقال جاء في أُرْبِيَّةٍ من قومه أَي في أَهل بيته وبَنِي عمّه ونحوهم والرَّبْوُ الجَماعة هم عشرة آلاف كالرُّبَّة أَبو سعيد الرُّبْوة بضم الراء عشرة آلاف من الرجال والجمع الرُّبي قال العجاج بَيْنَا هُمُو يَنْتَظِرون المُنْقَضَى مِنَّا إِذا هُنَّ أَراعِيلٌ رُبَى وأَنشد أَكَلْنا الرُّبَى يا أُمَّ عَمْروٍ ومَنْ يَكُنْ غَرِيباً بأَرْضٍ يأْكُلِ الحَشَراتِ والأَرْباء الجماعات من الناس واحدهم رَبْوٌ غير مهموز أَبو حاتم الرُّبْية ضَرْب من الحَشَرات وجمعه رُبىً قال الجوهري الإِرْبيانُ بكسر الهمزة ضرب من السمك وقيل ضَرب من السمكِ بيضٌ كالدُّود يكون بالبصرة وقيل هو نَبْتٌ عن السيرافي والرُّبْية دُوَيْبَّة بين الفَأْرة وأُمِّ حُبَيْنٍ والرَّبْوُ موضع قال ابن سيده قَضَيْنا عليه بالواو لوجودنا رَبَوْت وعدمنا رَبَيت على مثال رَمَيت
0000000000000000000
وفي تاج العروس (1):
__________
(1) -تاج العروس - (ج 1 / ص 8397)(1/6)
( ربا ) الشئ يربو ( ربوا كعلو ) وفى الصحاح ربوا بالفتح ( ورباء ) هو مضبوط في سائر النسخ بالكسر وفى نسخ المحكم بالفتح وصحح عليه ( زاد ونما ) وعلا ( وارتبيته ) هكذا في النسخ وفى المحكم وأربيته نيمته وهو الصواب ومنه قوله تعالى ويربى الصدقات قال الراغب وفيه تنبيه على ان الزيادة المعقولة المعبر عنها بالبركة ترتفع عن الربا ( و ) ربا ( الرابية علاها ) نقله الجوهرى ( و ) ربا ( الفرس ) يربو ( ربوا ) بالفتح ( انتفح من عدوا وفزع وأخذه الربو ) وهو الانبهار قال بشر بن أبى خازم كان حفيف منخره إذا ما * كتمن الربو كير مستعار ( و ) ربا ( السويق ) الذى في النسخ بفتح القاف على انه مفعول ربا وفى المحكم ربا السويق ونحوه بضم القاف على انه فاعل ربا ربوا كعلوا ( صب عليه الماء فانتفخ والربا باالكسر العينة ) وقال الراعب هو الزيادة على رأس المال زاد صاحب المصباح وهو مقصور على الاشهر وقال اللحيانى الرماء بالميم لغة فيه على البدل كما سيأتي قال الراغب لكن خص في الشريعة بالزيادة على وجه دون وجه ( وهما ربوان ) بالواو على الاصل ( و ) يقال ( ربيان ) بالياء على التخفيف مع كسر الراء فيهما وفى المحكم وأصله من الواو وانما ثنى بالياء للامامة السائغة فيه من أجل الكسرة وقدر بالمال يربو زاد بالربا ( والمربى من يأتيه ) وقال الزجاج في قوله تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا بربو عند الله يعنى به دفع الانسان الشئ ليعوض أكثر منه فذلك في أكثر منه فذلك في أكثر منه فذلك في أكثر التفسير ليس بحرام ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذ قال والربا ربوان فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجر به منفعة وما ليس بحرام ان يهب ما يستدعى به أكثر منه أو يهدى ليهدى له أكثر منها قال الفراء قرأ عاصم والاعمش ليربو بياء وفتح الواو وأهل الحجاز بتاء وسكونها وكل صواب ( والربو والربوة والرباوة مثلثتين ) وأشار في المحكم بتثليث ربوة فقط والفتح والكسر في رباوة بضبط القلم وصحح عليه الارموى ومثله في مفردات الراغب والضم في الرباوة عن ابن جنى كذا رأيته في هامش كتاب المقصور والممدود لابي على القالى وفي التهذيب في الربوة ثلاث لغات والاختيار الضم ولغة الفتح ( و ) كذلك ( الرابية والرباة ) كله ( ما ارتفع من الارض ) ومنه قوله تعالى ربوة ذات قرار ومعين وسميت الربوة رابية كأنها ربت بنفسها في مكان وأنشد ابن الاعرابي يفوت اعشنق الجامها * وان هو وافى الرباة المديدا وقيل الروابي ما أشرف من الرمل كالد كداكة غير انها أشد منها اشرافا تنبت أجود البقل الذى في الرمال وأكبره ينزلها الناس ( و ) قوله تعلى فاخذهم ( أخذة رابية ) أي أخذة ( شديدة ) وقال الفرء أي ( زائدة ) نقله الجوهرى ( وربوت في حجره ) وفى الصحاح في بنى فلان ( ربوا ) بالفتح كما هو مقتضى اطلاقه والصواب بالضم وهم عن اللحيانى وهكذا ضبط في المحكم ( وربوا ) كعلو ( وربيت ) هو في النسخ بالفتح والصواب بكسر الباء كما هو مضبوط في الصحاح والمحكم ( رباء ) كسحاب ( وربيا ) كعتى أي ( نشأت ) وأنشد اللحيانى لمسكين الدارمي ثلاثة أملاك ربوا في حجورنا * فهل قائل حقا كمن هو كاذب كذا رواه ربوا زنة غزوا وأنشد في الكسر للسمؤل نطفة ما خلقت يوم بريت أمرت أمرها وفيها ربيت كنها الله تحت ستر خفى * فتخافيت تحتها فخفيت ولكل من رزقه ما قضى الله * وان حك أنفه المستميت ( وربيته ) أنا تربية ) أي ( غذوته ) وقال الراغب وقيل أصل ربيت من المضاعف فقلب تخفيفا مثل تظنيت ( كتربيت ) قال الجوهرى هذا لكل ما ينمى كالولد والزرع ونحوه ( و ) ربيت ( عن خناقه نفست ) عنه وهو مجاز نقله الزمخشري ( و ) من المجاز تقول ( زنجبيل مربى ومربب ) أيضا أي ( معمول بالرب ) ومربب قد ذكره في الباء وأعاده هنا كانه تبعا للجوهري في سياقه ويقال أيضا ربيت الاترج بعسل والورد بسكر ( والرباء كسماء الطول والمنة ) يقال لفلان على فلان رباء أي طول نقله الجوهرى عن ابن دريد ( والاربية كاثفيه أصل الفخذ ) كما في الصحاح زاد اللحيانى مما يلى البظر وفي الاساس لحمة في أصل الفخذ تنعقد من ألم وهما أربيتان وأصله أربوة فاستثقلوا التشديد على الواو كما في الصحاح ( أو ما بين أعلاه وأسفل البطن ) كذا في النسخ ومثله في نسخة التهذيب وفى نص اللحيانى في النوادر أسفل البظر كما هو نص المحكم ( و ) من المجاز الاربية ( أهل بيت الرجل وبنو عمه ) ونحوهم ولا تكون الاربية من غيرهم يقال جاء فلان في أربيته وأربية من قومه وفى الاساس وهم أهل بيته الادنون وقال سويد بن كراع وانى وسط ثعلبة بن عمرو * بلا أربية نبتت فروعا قال الصاغانى والرواية الى أربية لا غير ( والربوة بالكسر عشرة آلاف درهم كالربة بالضم ) فيه أمران الاول ان قوله عشرة آلاف
درهم غلط والصواب ان الربوة اسم للجماعة وقال بعضهم هم عشرة آلاف كما هو نص المحكم فليس فيه نص على ذكر الدرهم ومثله في الاساس ومرت ربوة من الناس أي جماعة عظيمة كعشرة آلاف والثانى قوله كالربة بالضم يدل على انه بتخفيف الموحدة وانه من هذا الباب وليس كذلك وانما هو بالتشديد ومحله ر ب ب وقد تقدم له ان الربة الجماعة من الناس فتأمل ذلك ثم ان الزمخشري جعله من باب المجاز وهذا لا يؤاخذ به المصنف فان من عادته تخليط الحقائق بالمجازات ( والربو ) بالفتح ( الجماعة ج أرباء ) ونص ابن الاعرابي الارباء الجماعات من الناس واحدهم ربو بلا همز ( والربية ) بالضم ( كزبية شئ ) وفى الصحاح ضرب ( من الحشرات ) جمعها ربى عن أبى حاتم ( و ) الربية ( السنور ) وفى المحكم دويبة بين الفأر وأم جبين ( والاربيان بالكسر سمك كالدود ) وفى الصحاح بيض من السمك كالدود يكون بالبصرة ( ورابيته ) مراباة ( درايته ) ولا ينته ( والربى كهدى ع ) جاء في شعر ويقال أيضا الراب فاله نصر * ومما يستدرك عليه أربى على الخمسين ونحوها زاد وربت الارض ربوا عظمت وانتفخت والربو والربوة انتفاخ الجوف أنشد ابن الاعرابي ودون جذو وانتهاض وربوة * كانكما بالريق تختنقان وربا أخذه الربو وينسب الى الربا على لفطه فيقال ربوي قاله أبو عبيدة وزاد المطرزى فقال الفتح في النسبة خطأ وأربى الرجل دخل في الربا وجمع الربوة بالضم ربا كمدية ومدى وتجمع أيضا على ربى كعتى ومنه قول الشاعر * ولاخ إذ زوزت به الربى * زوزت أي انتصبت والربو موضع وامرأة حشياء رابية وهى التى أخذها الربو ويقال لها أيضا الربواء وأربيان بفتح فكسر موحدة قرية بنواحي نيسابور منها أبو عبد الله الحسن بن اسمعيل الاربيانى توفى بعد العشر والثلثمائة والربية مخففة لغة في الربا وجاء في الحديث ربية بضم فتشديد باء مكسورة ثم تشديد ياء مفتوحه قال الفراء انما هو ربية مخففة سماعا من العرب يعنى انهم تكلموا بها بالياء وكان القياس ربوة بالواو وكذلك الحبية من الاحتباء كذا في الصحاح والنهاية قال الزمخشري سبيلها ان يكون فعولة من الربا كما جعل بعضهم السرية فعولة من السرى لانها أسرى جواري الرجل وربا فلان حصل في ربوة والاربيان بالكسر نبت عن السيرافى والربية بالضم الفأر جمعه الربى عن ابن الاعرابي وأنشد أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن * غريبا بارض ياكل الحشرات وقد قيل في تفسير قوله تعالى الى ربوة ذات قرار ومعين انها ايلياء لأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا أو دمشق أو الرملة وقيل مصر عن الزمخشري والربوة موضع بدمشق به مسجد مشهور يزار وروابي بنى تميم قرب الرقة(1/7)
=================
ثانيا- أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي
معالم النظام الاقتصادي في الإسلام(1)
الكلام في موضوع الاقتصاد يحتاج إلى بحث طويل وتخصص وتعمق، ولا يمكن الإحاطة بمضمون نظرية اقتصادية إلا بعد دراسة مستفيضة لها، والحق أن النظريات الاقتصادية الحديثة يصعب أن نجد لها مثيلاً مفصلاً عند فقهاء الإسلام وكل مالدينا هو مبادئ وخطط عامة في الاقتصاد، يمكن التماسها والسير في هديها لمعرفة مدى مطابقتها أو مغايرتها إجمالاً لما هو سائد اليوم في عالم الاقتصاد.
وهكذا يمكننا رسم معالم السياسة الاقتصادية في الإسلام من عدة وجوه منها ما يأتي من البحوث:
المبحث الأول ـ الاقتصاد الإسلامي ومعالمه الكبرى :
تمهيد: إن الاقتصاد في الماضي والحاضر والمستقبل هو عصب الحياة النابض وشريانها المتدفق حيوية وغزارة وفاعلية، لذا فإنه يؤثِّر في الإنسان تأثيراً مباشراً في جميع أحواله الفكرية والدينية والسلوكية، ويؤثِّر في الأمة من جميع نواحيها العسكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية، فالاقتصاد القوي عنوان المجد والقوة والسيادة، والاقتصاد الضعيف رمز التخلف والتأخر والانحطاط، ولقد كانت الحروب والمنازعات على الصعيدين القبلي والدولي ترجع في أغلبها إلى أسباب اقتصادية. وما زال الناس أفراداً وجماعات منذ فجر التاريخ مهتمين بوسائل المعاش ومتاع الحياة، وينعكس أثر الاقتصاد على السياسة الدولية بشكل واضح، فما الاستعمار وآثامه، والمؤتمرات الدولية التي يتكررا انعقادها في المناسبات والأزمات والأسواق الدولية المشتركة سوى انعكاس لاقتصاد الدولة، وتخطيط سياستها المالية، والتنمية المطلوبة لديها.
وإذا كان هذا هو شأن الاقتصاد وتأثيره في العالم، فلا بد من أن يكون للإسلام خطة واضحة في القضايا الاقتصادية، إذ إنه شريعة الخلود الدائمة التي تقدر تماماً ما للوضع الاقتصادي من تأثير كبير في حياة الأمة، والتي تتجاوب مع مقتضيات التطوروالتبدل الذي يمر على البشرية. وليس من المعقول ألا يكون هناك أساس اقتصادي للحضارة الإسلامية التي سادت العالم عدة قرون من الزمان، وكان الرفاه والرخاء يعم الأوساط الإسلامية، حتى إنه لايكاد يجد الغني أحداً من الفقراء يعطيه زكاة أمواله في بعض عهود الدولة الإسلامية الزاهرة.
لذا فإني أذكر أهم معالم النظام الاقتصادي الإسلامي، تلك المعالم التي لم يستغرب المرء منها أن تكون أساساً صالحاً للمجتمعات المتحضرة في مختلف مراحل التطور البشري؛ لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية، وتلتقي مع العدالة والحرية والرحمة، وتصدر عن تخطيط إلهي أو عن تنظيم اقتصادي مستقل، مجرد عن النزعات والأهواء الخاصة. وأسس هذا النظام الاقتصادي الإسلامي تجمع بين ما هو معروف في مجال الفكر الاقتصادي بصفة عامة من (السياسة الاقتصادية) و(المذهب الاقتصادي) والمقصود بالسياسة الاقتصادية: هو ذلك النوع من الفكر الاقتصادي الذي يحاول حل المشكلات الاقتصادية الطارئة على المجتمع. وموضوع هذه السياسة دراسة خير السبل والوسائل التي يجب أن تتبعها السلطات العامة للوصول إلى هدف معين أو غاية محدودة. وأما المقصود بالمذهب الاقتصادي: فهو المرحلة الثانية من مراحل التفكير الاقتصادي الذي يحاول فيه الباحث أن يتخذ موقفاً معيناً بالحكم التقييمي على نظام اقتصادي معين، فيحبِّذ قبوله أو رفضه، ويدافع عن الأخذ به أو العدول عنه. وبعبارة أخرى: هو الطريق التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشكلاتها العملية.
ولقد تضمن النظام الإسلامي أحكاماً تتعلق بموضوع السياسة الاقتصادية، كما أن هذه الأحكام حددت رأياً مذهبياً واضحاً تجاه القضايا الاقتصادية حسبما يتطابق مع المثل العليا التي يجب أن تكون عليها الحياة الإنسانية. وأبدأ بما يأتي:
أولاً ـ لمحة عابرة عن خصائص النظامين الاشتراكي والرأسمالي :
أما النظام الرأسمالي: فإنه كما تقدم يقوم على أساس الاعتراف بمبدأ الملكية الفردية، فللأفراد الحق في تملك أموال الاستهلاك والإنتاج، ويمكن توارث ذلك عنهم، إلا أن الدولة تتدخل دائماً لانتزاع جزء كبير من ثروة المتوفى. وتعتبر حرية التعاقد والتبادل من ركائز هذا النظام فهو يعتبر دائماً نظام سوق، كما أنه يقوم على مبدأ الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل من الدولة لوضع قيود على الإنتاج أو الاستهلاك، فالحرية الاقتصادية تقتضي ترك تحديد الإنتاج، وأن الفرد حر في التصرف في ثروته استهلاكاً وادخاراً، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرِّك للنشاط الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي.
وقد انتقد هذا النظام كما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من العمال والفلاحين وغيرهم، كما أن هذا النظام يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة مستبدة، وإلى انتشارا لبطالة، والاحتكارات الطبيعية والصناعية التي تتكون وتستغل المستهلك والطبقات الضعيفة. ومن أخطر عيوب هذا النظام: استعمار الشعوب الذي ترتكز عليه سياسة الدول الرأسمالية النامية، فكان من نتيجة كل ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغد ة للبشرية، وبالتالي انهيار مذهب الحرية الاقتصادية المطلقة. وهذا ما جعل أنصار المذهب الرأسمالي ينادون بضرورة تدخل الدولة لتنظيم الحريات الاقتصادية ، وعلى الدول أن تقوم بنفسها بجمع المشاريع الاقتصادية التي يحتاجها المجتمع...
وأما النظام الاشتراكي
فإنه كما تقدم يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، فلا وجود للملكية الفردية، ولا مجال للحرية الاقتصادية إلا بقدر ما يمنحه المجتمع للفرد، وتطالب المذاهب الاشتراكية من الناحية الاجتماعية بتحقيق المساواة بين الأفراد، أي بإلغاء الفوارق بين الطبقات، ولا يقصد من ذلك تحقيق المساواة التامة الكاملة، وإنما إلغاء الفوارق التي لا يكون مردها الكفاءة في الإنتاج أو العلم، أو العمل لصالح المجموع. فالاشتراكية تكافئ كل فرد بحسب عمله مع مراعاة ظروفه ومواهبه الشخصية على أن يتحقق أولاً إشباع الحاجات الضرورية لكل إنسان.
وقد انتقد هذا النظام كما تقدم بأنه يصادم ما استقر في فطرة الإنسان من حبه التملك الفردي، واستئثاره بثمرات جهوده التي يبذلها كاملة وبإضراره بمصلحة الإنتاج العام لانعدام روح المنافسة الشرعية، كما أن النظرية الماركسية التي تجعل قيمة أي سلعة بحسب ما يبذل في إنتاجها من عمل منتقدة أيضاً؛ لأن عنصر العمل ليس هو العنصر الإنتاجي الوحيد، وإنما هناك عناصر إنتاج أخرى من طبيعة ورأس مال لا يمكن ردها إلى العمل. وكذلك مبدأ التوزيع القائل: ( من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله) يخلق لوناً جديداً من الطبقية: طبقة القيادة الحاكمة، وغيرها من الطبقات ،كالتي تنشأ بين العمال مثلاً بحسب اختلاف مواهبهم وكفاءاتهم ونوعية العمل ودرجة تعقيده، فيظهر مثلاً الصراع بين العمال الفنيين والعمال اليدويين.
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 1)(1/8)
وهذه الانتقادات دفعت الاشتراكيين في روسيا إلى التزام جانب الاعتدال فاعترفوا بالملكية الخاصة بالأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع ودخول ومدخرات متأتية من العمل ويحترم ميراث هذه الأشياء. كما أن الروس سمحوا بملكية خاصة لأموال الإنتاج عن طريق قيام مشاريع زراعية صغيرة خاصة بالفلاحين ومشروعات حرفية للصناع، وكذلك أجازو للأفراد مزاولة المهن الحرة كالطب والكتابة والفن، وبالرغم من محاولات إصلاح هذا النظام وتدارك سلبياته وعيوبه، فلم يكتب له النجاح، حتى أدى أخيراً إلى سقوطه كنظام اقتصادي شامل في عهد جورباتشوف رئيس جمهوريات الاتحاد السوفييتي عام 1989م في خطته المسماة بالبيروستريكا أي إعادة البناء والإصلاح.
الفروق الأساسية بين الفكر الإسلامي والفكر الماركسي :
من أهم هذه الفروق مايأتي:
أولاً - إن الفكر الماركسي فكر ملحد يقوم على أساس المادة، وأن المادة وتطور قوى الإنتاج هو الذي يحدد علاقات الأفراد ويصنع تطور المجتمع. بخلاف الأمر في الإسلام فهو فكر مؤمن بالله وحساب اليوم الآخر، وإن خشية الله تعالى وابتغاء مرضاته والتزام تعاليم الإسلام، هي التي تصوغ علاقات الأفراد بعضهم ببعض وتحدد مسار المجتمع.
ثانياً - إن الفكر الماركسي يستهدف إلغاء الملكية الخاصة، لتحل محلها الملكية العامة أياً كانت صورتها: ملكية الدولة ( قطاع عام ) أو ملكية الجماعة (ملكية جماعية أو تعاونية) بخلاف الأمر في الإسلام، فالتأميم ليس هدفاً، وإنما هو وسيلة. وتبدو أهمية هذا الفارق في أن الملكية العامة في الاقتصاد الماركسي هو الأصل، والملكية الخاصة هي استثناء، أما في الاقتصاد الإسلامي فالملكية الخاصة والملكية العامة كلاهما على السواء أصل. فإن الإسلام أقر الملكية الخاصة، وفرض عليها عدة قيود، كما أنه أوجد منذ أربعة عشر قرناً الملكية العامة بالقدر الذي تتطلبه احتياجات المجتمع وقتئذ ودرجة تطوره الاقتصادي، ومن قبيل ذلك أرض الحمى للرعي.. والوقف الخيري.. ومؤسسات المساجد، وانتزاع الملكية الخاصة من أجل توسيعها.. وموقف عمر من الأراضي المفتوحة ورفض تمليكها للفاتحين، وتحويلها إلى ملكية جماعية. ويمكن فقهاً التوسيع من دائرة أي نوع من الملكية بحسب ظروف الزمان والمكان.
ثالثاً ـ إن الفكر الماركسي يقوم على أساس الصراع بين الطبقات، وإقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة وهي طبقة البروليتاريا (العمال). وفي حين إن الفكر الإسلامي يقوم على أساس تعاون جميع أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة.
وقد استطاع المسلمون الروس مثل سلطان جالييف وحنفي مظهر التوفيق بقدر الإمكان بين الاشتراكية والإسلام، وحاولوا إقناع القادة الروس بما يعارض الإسلام.
أولاً ـ أوضح سلطان جالييف أنه لا علاقة بين المادية والاشتراكية، وأن محاولة الربط بين التفسير المادي للكون الذي يرفض الدين بالضرورة وبين الاشتراكية هي محاولة لا ضرورة لها ولا محل لها، فقد يكون المادي (الملحد) اشتراكياً وقد يكون غير اشتراكي. كما أن الاشتراكي قد يكون مادياً أو غير مادي. ثم إن التصور المادي للوجود والقول بأن المادة هي سبب كل موجود هو من قبيل التصورات الميتافيزيقية، وهو على هذا النحو نوع من عملية الاستبدال بإله حقيقي هو الله إلهاً آخر هو المادة. وقد بدأ كثير من الماركسيين يسلمون بهذه الحقيقة.
ثانياً ـ وأظهر سلطان جالييف أن إلغاء الملكية الخاصة والتأميم الكامل ليس هدفاً في ذاته، وليس هو السبيل الوحيد للاشتراكية، وإنما المهم هو سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج. وقد اعتنق هذا الاتجاه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي سنة 1956.
ثالثاً ـ أبرز سلطان جالييف أنه بعد انتصار الثورة البلشفية، لم يعد هناك محل لفكرة صراع الطبقات أو الكراهية، كما لم يعد هناك محل لتمييز العمال على الفلاحين، أو إقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة. وحل محل كل ذلك فكرة تعاون أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة. وقد أخذت بذلك دول أوربا الشرقية.
رابعاً ـ يرى سلطان جالييف أن المجال الحيوي لثورة أكتوبر البلشفية هو الشرق وليس الغرب (1) .
ثانياً ـ وظيفة المال وحق الملكية الفردية والقيود الواردة عليه في الإسلام: المال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى كما قال: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/5] والناس جميعاً عباد الله ، فهم شركاء في توزيع المال، سواء تمثّل هذا المال في سلعة اقتصادية أو في سلعة حرة، وتملك الإنسان للمال يعتبر تملكاً مجازياً، أي إنه مؤتمن على المال ومستخلف فيه ونائب أو خليفة عن الله فيه لقوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/57] {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/11] {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [الأنعام:165/6] {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2].
ويترتب على هذا التصور للمال واستخلاف الإنسان فيه، أو وكالته عليه أنه يجب التقيد بأوامر الله تعالى، في التملك حسبما يريد صاحب الملك الحقيقي. والناس على السواء لهم حق في تملك خيرات الأرض، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجات، وإذا كانت الخلافة عن الله في المال للجماعة، فإن الملكية الخاصة تعتبر أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة، وإن لها صفة اجتماعية، لا صفة حق مطلق وسيطرة واستبداد. وللجماعة حق مراقبة ذوي الملكيات الخاصة لاستخدامها في سبيل الصالح العام، فيعتبر صاحب المال حينئذ مسؤولاً أمام الله عن ماله، ومسؤولاً أمام الجماعة أيضاً.
وليس المال مقياساً للاحترام والتعظيم، ولا لاحتكار النفوذ ، فمن قواعد فقهنا: «من عظم غنياً لماله وغناه فقد كفر» .
بهذه النظرة الإسلامية إلى المال بأنه وسيلة لا غاية مقصودة لذاتها، ولا للتجميع والتكديس، يدق الإسلام أول معول في هدم الرأسمالية الظالمة.
وأما حق الملكية في الإسلام فهو نزعة فطرية وحق شخصي أقرته الشريعة وصانته الديانات السماوية، لقوله تعالى: { زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} [آل عمران:14/3] {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم» «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (2) .
إلا أن هذا الحق الشخصي مقيد بقيود كثيرة ستذكر قريباً، ومن أهمها عدم جواز الإضرار بالغير، مما يدل على أن لحق الملكية الفردية في تقدير الإسلام صفتين مزدوجتين: صفة الفردية وصفة الجماعية العامة في وقت واحد.
__________
(1) - من مقال الدكتور محمد شوقي الفنجري في مجلة العربي عدد 180 سنة 1973م.
(2) - الحديث الأول أخرجه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه، والحديث الثاني أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث الثاني أخرجه الدارقطني عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/9)
أما الصفة الفردية: فلأن الحق ليس في أصله وظيفة، بل هو ميزة تمنح صاحبها الحق في الانتفاع بثمرات ملكه والتصرف فيه، ولكن لا تعتبر هذه الملكية الخاصة هي الأصل العام الذي يسمح للأفراد وحدهم بتملك أموال الثروة في البلاد وبحسب النشاط والظروف، وإن الملكية العامة أمر استثنائي تقتضيه الظروف الاجتماعية، كما هو مقرر في النظام الرأسمالي. وعلى هذا فلا يمكن أن يعتبر المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن اعترف بالملكية الخاصة.
وأما صفة الحق الجماعية العامة فتتجلى في تقييد حق الملكية الخاصة بمنع اتخاذها سبيلاً إلى الإضرار بالآخرين، وأنه يمكن أن تقوم ملكيات عامة للجماعة أو الدولة، كالحمى والوقف والأموال العامة بجوار الملكية الخاصة. وعلى هذا فلا يعتبر النظام الإسلامي وإن أخذ بنظام الملكية العامة أو ملكية الدولة لبعض الثروات ورؤوس الأموال متطابقاً مع النظام الاشتراكي الذي يعتبر الملكية الجماعية هي المبدأ العام، ومع هذا فإن الحمى الذي قرره عمر رضي الله عنه إنما كان (تأميمه) صريحاً وبدون مقابل، فقد كانت الأرض التي حماها مملوكة لبني ثعلبة، فلما اعترضوا عليه قال: إنه فعل ذلك في سبيل الله . والخلاصة: إن حق الملكية في الإسلام حق مزدوج يقوم على ركيزتين: الصفة الفردية والصفة الجماعية، وإن الملكية نوعان: ملكية خاصة وملكية عامة. ويكون لحق الملكية الفردية وظيفة اجتماعية، يوجه الحق بمقتضاها نحو البر والخير والصالح العام،وليس هو بذاته وظيفة اجتماعية يمنحها المجتمع له ويقبل الزوال؛ لأن هذا المعنى يؤدي في النتيجة إلى إلغاء فكرة الحق من أصلها.
وأما القيود الواردة على الملكية الفردية في الإسلام فهي كثيرة:
منها قيود سلبية ومنها قيود إيجابية. أما القيود الإيجابية فسأذكرها في بحث وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية ومبدأ تدخل الدولة.
وأما القيود السلبية فهي ما يأتي:
1 - منع الإضرار بالآخرين :
إن حق الفرد في التملك أو الانتفاع بالملك ينظر إليه في الإسلام على أن الفرد عضو في الجماعة المستخلفة عن الله في الأموال، فلا يصح بداهة أن يكون التملك أو استعمال الملك طريقاً للإضرار بالجماعة أو أن يكون مصدر قلق أو اضطراب ومنازعة وسيطرة، لذا فإن المالك يمنع أثناء استعمال ماله من إضرار غيره، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار»(1) فلا يصح اعتبار المال وسيلة ضارة أو طريقاً للتسلط والإيذاء ، سواء أكان الضرر خاصاً أم عاماً.
2 - عدم جواز تنمية المال بالوسائل غير المشروعة :
أوجب الإسلام استثمار المال وتنميته بالطرق المشروعة من زراعة وصناعة وتجارة ونحوها، وحرم كل الوسائل التي لا تتفق مع الإنسانية الحقة الرحيمة مما هو جاثم في بلدان الحضارة المادية والرأسمالية الغاشمة. وأخطرها الربا أو الفائدة، والقمار، والغش، والاحتكار والتدليس، وبذلك هدم الإسلام صرح الرأسمالية التي يمتص فيها الغني دماء الفقراء والطبقة العاملة، كما أنه قضى على مفاسد الرأسمالية والملكية الفردية، كما يظهر فيما يلي:
أما الربا فقد شن الإسلام عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها لاستئصاله من جذوره مهما كانت أشكاله، سواء أكان في القروض الاستهلاكية والإنتاجية أم في عقود المبادلات الأخرى التي يتفق فيها على بيع سلعة بسلعة من النوع نفسه الذي يعتبر من الأقوات الضرورية أو السلع الأساسية للمجتمع كالحبوب والأقطان والمعادن، قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون} [البقرة:278/2-279] ومن المعلوم أن مهاجمة الربا في الإسلام دليل على محاربة مختلف أشكال النظم الرأسمالية التي تتحكم فيها مصالح المرابين، وذلك حتى يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً ومتعاوناً على الخير، لا يستغل القوي فيه حاجة الضعيف، ولا تتكون فيه طبقة تعيش على حساب رأسمالها دون بذل جهد من عمل ولا كسب، أو دون أن تتعرض هذه الفئة كبقية المشروعات الاقتصادية لاحتمالات الربح أو الخسارة.
وأما القمار بمختلف أنواعه ومنه اليانصيب فقد حرمه الإسلام؛ لأنه مرض فتاك خبيث يهدد طاقة الإنسان الجسدية والفكرية من دون فائدة مشروعة، ويعوِّد الإنسان على الخمول والكسل؛ لأنه محاولة للتوصل إلى كسب بلا جهد ولا عمل، وفضلاً عن ذلك فإنه يولّد بين الناس أحقاداً عميقة الجذور، ويثير شرارات نارية من المنازعات والاختلافات التي لا تنتهي ذيولها، حتى وصفه القرآن الكريم بأنه رجس من عمل الشيطان.
وأما الغش في المعاملات: فهو ممنوع منعاً مطلقاً لقوله صلّى الله عليه وسلم : « من غشنا فليس منا » (2) إذ يهدم الثقة بين المتعاملين، ويجعل الحياة التجارية في اضطراب. ويشمل الغش كل أنواع الخلابة (أي خديعة المشتري) من خيانة (كذب في مقدار الثمن).. وتناجش (إيهام الغير برغبة الشراء إغراء له به) وتغرير (إغراء بوسيلة كاذبة للترغيب في العقد) وتدليس العيب (كتمان عيب خفي في المعقود عليه) وغبن فاحش (وهو الإضرار بما يعادل نصف عشر القيمة في المنقولات والعشر في الحيوان، والخمس في العقارات) ومن صور الغبن: حالة تلقي الركبان، أي تلقي ابن المدينة قوافل الباعة الواردة من القرى والبوادي، وشراؤها بأقل من سعر السوق بغبن فاحش.
وأما الاحتكار فقد حرمه الإسلام تحريماً عاماً في كل ما يضرُّ بالناس حبسه ومنعه، وبخاصة السلع الغذائية وضروريات الناس الاستهلاكية ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم : «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» (3) لأن الاحتكار أمر لصيق بتنظيم السوق، ولأن فيه من المخاطر التي يعاني منها النظام الرأسمالي، والسبب في تحريم الاحتكار أمر واضح وهو منع استغلال المحتكر للمستهلكين بمغالاته في الثمن،ومنع السلعة أحياناً من السوق لقوله صلّى الله عليه وسلم : «من احتكر طعاماً يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (4) .
وهكذا حرَّم الإسلام كل أوجه الكسب غير المشروع مثل ما ذكر، ونحوه من الرشوة والاختلاس وابتزاز أموال الغير بالباطل واستغلال الحاكم أو الموظف لمنصبه ليقتنص أموال الناس ظلماً وعدواناً. والقصد من تحريم ذلك هو دفع الإنسان إلى العمل وإبعاده عن البطالة والكسل. وبهذا كله أوصد الإسلام الباب أمام تضخم الثروات؛ لأن الطرق غير المشروعة تؤدي عادة إلى ربح عظيم: قال عليه الصلاة والسلام: « الدنيا خضرة حلوة. من اكتسب فيها مالاً من حِلّه، وأنفقه في حقه، أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حِلّه، وأنفقه في غير حقه، أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله، له النار يوم القيامة» (5) .
3 - منع الإسراف والتقتير :
__________
(1) - أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) - أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(3) - أخرجه ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه، لكنه ضعيف.
(4) - أخرجه أحمد والحاكم عن أبي هريرة، وهو حديث حسن.وفي رواية: « لايحتكر إلا خاطئ » عند مسلم وأحمد وأبي داود والترمذي (الترغيب والترهيب 582/2) والخاطئ: الآثم.
(5) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح(1/10)
أوجب الإسلام الاعتدال في النفقة لقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً} [الإسراء:29/17] فلا يكون التقتير مقبولاً لما يترتب عليه من اكتناز الثروات الضخمة الذي يحول بدوره دون توفر نشاط تداول الأموال، الذي هو أمر ضروري لانتعاش الحياة الاقتصادية في كل مجتمع، فحبس المال تعطيل لوظيفته في توسيع ميادين الإنتاج وتهيئة وسائل العمل للعاملين، قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/9].
وكذلك يحرم الإسلام الإسراف وتبذير الأموال من دون وجه مشروع أو يؤدي إلى الضرر ولو في سبيل الخير، قال الله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/17] فالتبذير طريق الفقر الذي يصبح به المبذر في النهاية عالة على المجتمع، مما ينذر بمخاطر اجتماعية سيئة، فضلاً عن أن التبذير سبيل لغرس الأحقاد والبغضاء بين الناس والمحرومين، وهكذا أوضح الإسلام مبدأ سياسة الاعتدال في الاستهلاك والادخار، فقال الله سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31/7].
4 - ليس المال سبيلاً إلى الجاه والسلطان :
حظر الإسلام على أرباب الأموال استخدامها في هضم الحقوق عن طريق الرشوة أو للتوصل إلى منصب سياسي أو جاه أو وظيفة ليس أهلاً لها، قال الله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة:188/2] وفي هذا إيصاد الباب أمام ما تفعله التكتلات الاحتكارية والشركات العالمية في التأثير على السياسة الداخلية والخارجية في الدول الرأسمالية..
5 - توزيع المال بعد الوفاة مقيّدٌ بنظام الإرث :
ليس المرء حراً بالتصرف في ماله بعد وفاته حسبما يشاء كما هو مقرر في النظام الرأسمالي، وإنما هو مقيد بنظام الإرث الذي يعتبر في الإسلام من قواعد النظام الإلهي العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فالإرث حق جبري، ولا يجوز الإيصاء بأكثر من ثلث المال، ولا يصح تفضيل بعض الورثة على حساب الآخرين، أو حرمان وارث أو الإضرار بالدائنين، وللسلطة القضائية الحق في إبطال التصرفات غير الشرعية في الإرث والوصية، فيكون تشريع الإرث عاملاً مهماً من عوامل تفتيت الثروات الضخمة، وتوزيع الملكيات والقضاء على التفاوت الفاحش بين الطبقات.
ثالثاً ـ مبدأ الحرية الاقتصادية :
إذا كان مبدأ الاعتراف بالملكية المزدوجة (الخاصة والجماعة) وبمبدأ الملكية الفردية المقيدة بقيود كثيرة هو الركن الأول من أركان الاقتصاد الإسلامي كما تقدم، فإن مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة في حدود معينة هو الركن الثاني من أركان هذا النظام، وليست هذه الحرية مطلقة غير محدودة كما في النظام الرأسمالي، ولا هي غير موجودة كما في النظام الاشتراكي، وإنما هي مقررة ضمن حدود معينة، بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم : «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (1) .
ولقد نادى ابن خلدون بمبدأ الاقتصاد الحر، وحبَّذ الإسلام نظام المنافسة الكاملة الشريفة الذي يمنع فيه الاحتكار، والذي يتحدد فيه ثمن السلع طبقاً لمساومات البائعين والمشترين دون تدخل من جانب الدولة، إلا أن هذا كان في عصر صدر الإسلام حيث كانت صفات الورع والتقوى والتدين لها السيطرة المطلقة على النفوس، ثم أفتى الفقهاء السبعة في المدينة بجوار تدخل الدولة لتسعير الحاجيات ووضع حد لجشع التجار، ومنع الغبن، لأنه يجب أن يكون الثمن عادلاً غير مجحف بالبائع والمشتري. وبه يتبين أن مبدأ الحرية الاقتصادية أصبح مقيداً فيما يجيزه تشريع الإسلام من نشاط اقتصادي اجتماعي للأفراد، ولايجوز للإنسان الخروج عليه كالتعامل بالربا والاحتكار ونحو ذلك.
كما أن هذا المبدأ مقيد بالرقابة الحازمة للدولة وإشراف الحاكم على النشاط العام، وتوجيهه وجهة تتمشى مع حفظ المصالح العامة، ومنع الضرر عن الجماعة، حسبما يقدر الاقتصاديون المتخصصون، قال الله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء:59/4] وأولو الأمر: هم الحكام والعلماء المختصون، فما يقرره أهل الخبرة واجب الطاعة لحماية الأمة، وللحفاظ على كيان الدولة، ولتحقيق مبدأ التوازن الاجتماعي الإسلامي على وفق ما تقرره الشريعة.
رابعاً - قيمة العمل ودوره في الحياة الاقتصادية وأثره على أثمان الأشياء :
العمل شرف ومجد وفريضة على كل قادر عليه، ولقد حث الإسلام عليه، وحارب الكسل والخمول والبطالة والتسول؛ لأن الفقر مذلة ومرض اجتماعي خطير، وتنفير الإسلام منه لأنه يضر بالمصلحة العامة، فالأمة قوية بقوة أفرادها، ضعيفة بضعف أبنائها ، قال عليه الصلاة والسلام: « كاد الفقر أن يكون كفراً » (2) واعتبر الإسلام العمل هو الوسيلة المفضلة الأغلبية للتملك، وأن لاعمل من غير أجر، وأن الأجر على قدر العمل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : « أطيب الكسب كسب الرجل من عمل يده » (3) ، « ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (4) « من أمسى كاَّلا ـ أي متعباً ـ من عمل يده أمسى مغفوراً له » (5) « إن الله يحب العبد المحترف » (6) « طلب الحلال فريضة بعد الفريضة » (7) « إن من الذنوب ذنوباً لايكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة » (8) « إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (9) ... وقال عمر رضي الله عنه « والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فإن من قصَّر به عمله لم يسرع به نسبه » وهذه الأحاديث النبوية مستمدة من القرآن الكريم وملتقية معه. قال الله تعالى: { ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لايُظلمون } [الأحقاف:19/46] { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } [هود:85/11] { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } [الملك:15/67] {فابتغوا عند الله الرزق} [العنكبوت:17/29].
__________
(1) - أخرجه الجماعة ( أحمد وأصحاب الكتب الستة ) إلا البخاري عن جابر رضي الله عنه بلفظ: « لايبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض » .
(2) - أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس، وسكت عنه السيوطي.
(3) - أخرجه البزار وصححه الحاكم عن رفاعة بن رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: « أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرر » .
(4) - أخرجه أحمد والبخاري عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
(5) - أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه ضعيف.
(6) - أخرجه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكنه ضعيف.
(7) - أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، لكنه ضعيف.
(8) - أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) - أخرجه الخمسة ( أحمد وأصحاب السنن ) عن عائشة رضي الله عنها.(1/11)
وعقد النبي صلّى الله عليه وسلم موازنة بين العمل والاستجداء فقال: « لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيذهب به إلى الجبل، ثم يأتي به فيحمله على ظهره، فيأكل، خير له من أن يسأل الناس» (1) « لاتزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى، وليس في وجهه مُزْعة لحم » (2) « اليد العليا خير من اليد السفلى » (3) « اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير » (4) « لاتحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سوي » (5) .
كل هذه الآيات والأحاديث النبوية تدل على تقديس الإسلام للعمل وتقدير تأثيره في الحياة الاقتصادية، وإن من حق العمال أن يتقاضوا من الأجور بقدر مايبذلونه من جهود، وبما يتفق مع خبراتهم ومواهبهم، فالكفاية وحدها، والمقدرة وحدها، هما معيار أهلية الفرد، وبذلك كفل الإسلام تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الناس كافة في السعي، والجد المشروع في اكتساب المعاش والتماس الرزق، ولكن لاتشترط المساواة في ثمار هذا السعي؛ لأن الإسلام لايقول بالمساواة في الرزق نفسه، ولايعقل بل من الظلم الفاحش عدم الاعتراف بالتفاوت الفطري بين الأفراد في الإمكانات والمواهب والجهود، قال الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32/43] {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16].
إن العمل في تقدير الإسلام سبب لملكية العامل نتيجة عمله. وتكون القاعدة في الإسلام: ( أن العمل سبب الملكية ) لا قاعدة ( أن العمل سبب لتملك المجتمع لا الفرد ) أو قاعدة (أن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب تملك العامل لها). ويشترك العمل أحياناً مع رأس المال المستثمر في كسب الملكية كما في شركة المضاربة، وكما تقرر نظرية كينز، فالعامل يتملك الربح بسبب عمله في المضاربة ورب المال يستثمر ماله ويشغله، فيكون ربح العامل بسبب جهده، وربح رب المال بسبب رأسماله الذي يحرك عجلة التجارة، كما أن ماله سبب في انتعاش السوق الاقتصادية، وفي ربح العامل بدون مشاركة في الخسارة، وإنما رب المال يتحمل وحده الخسارة التي هي حالة اضطرارية وغير غالبة.
وإذا كان ابن خلدون مؤسس علم الاقتصاد ومن بعده ريكاردو وما ركس واضع نظرية الاشتراكية العلمية يرون أن العمل أساس القيمة، أي أن قيمة السلع والأشياء تتحدد بقيمة العمل الداخل فيها أو ساعات العمل التي بذلت في صنعها، فإن النظرية الإسلامية تجعل قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب الواقعين عليها مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة على تطبيق العدالة، أي أن قيمة الأشياء تتدخل فيها اعتبارات الندرة في المال، وسعر السوق النسبي، بحسب حاجة الشخص للسلعة وهو ما يريده الفقهاء من سعر المثل. وإذا كان مبدأ الاشتراكية في التوزيع (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) فإن مبدأ الإسلام (لكل حسب عمله، أو حسب حاجته) إذ قد يعجز الإنسان عن العمل، فتلتزم الجماعة بإغنائه وتوفير حاجياته رحمةً به، وتكريماً لإنسانيته.
خامساً ـ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد :
الكلام في تدخل الدولة وحدود هذا التدخل يتضح فيما يأتي:
1 - رقابة الدولة على أعمال الأفراد :
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (6) في هذا الحديث دلالة واضحة على أن الدولة مسؤولة عن كل شيء يجري في داخلها. فلها الإشراف على نشاط الأفراد العام، ولها حق التدخل بالمصالح الخاصة لحماية المصالح العامة وكفالة تطبيق وتنفيذ الشريعة، ولها محاسبة الموظفين وأصحاب الولاية والسلطة في نواحي الدولة. ويمكنها أن تحاكمهم على أساس المبدأ القائل: (من أين لك هذا). ليتبين الوجه المشروع لكسب المال. ولقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يحاسب ولاته ويشاطر عماله كما فعل مع عمرو بن العاص عامله على مصر، حينما شك في ماله وكسبه وطريقة إنمائه، وشاطر خالد بن الوليد أمواله، حتى زوجي نعله، وللدولة أن تراقب أرباب الأموال في كيفية استثمار أموالهم، فإذا جنحوا إلى تعطيل استثمار المال، جاز اتخاذ التدابير التي تحمي المصلحة العامة، فإذا وضع امرؤ يده على أرض موات بقصد إحيائها وتعميرها واستصلاحها وهو ما يعرف بالاحتجار، ثم لم يقم بواجبه جاز سلخها عنه وإعطاؤها لغيره، قال صلّى الله عليه وسلم : «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (7) « ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» (8) لأنه لا بد من مداومة استثمار المال، حتى لا يؤدي الإهمال إلى فقر المال والإضرار بمصالح المجتمع وإفقار الأمة وخسارة الدخل القومي العام وضآلة الإنتاج.
وإذا حاول الناس تركيز استثمار أموالهم في نشاط اقتصادي معين، كان لولي الأمر حق التدخل بما يراه من إجراءات لتوزيع الناس أموالهم بين مختلف مصادر الإنتاج ( وهي الأرض والعمل والمال )، وعندئذ تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه. وإذا تضخمت الثروة في أيدي فئة قليلة من المواطنين، ثم ثبت عجز أصحابها عن استثمارها، كان للحاكم أن يتدخل في استثمار الأموال أو وضعها تحت ولاية الدولة بما يدرأ الضرر العام عن المجتمع، كإلزامهم باتباع الأساليب الرشيدة في استثمار الأموال، ووضعها تحت ولاية الدولة لضمان تشغيلها بما ينفع البلاد.
2 - إقرار الملكية الجماعية :
قال الرسول صلّى الله عليه وسلم : «الناس شركاء في ثلاث» وفي رواية: «في أربع: الماء والكلأ والنار والملح» (9) والنص على هذه الأمور فقط لأنها كانت من ضروريات الحياة في بيئة العرب، فهي مباحة لجميع الناس، والدولة هي التي تمثل مصالح الجماعة، فلها وضع اليد عليها، وعلى كل الأشياء الضرورية التي تعتبر من قبل الثروات الطبيعية الخام، والصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد الأولية، والاستيلاء على المرافق العامة والتي تتغير وتتبدل وتتطور بحسب البيئات والعصور، مثل مختلف الأنهار العامة، والمعادن والنفط ولو وجدت في أرض مملوكة ملكية خاصة، والكهرباء، والمنشآت العامة ونحوها من المرافق الحيوية الأساسية لمصلحة الجماعة. ومما يؤيد وجود الملكية الجماعية: أن النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين قد اعتبروا بعض الأراضي كالنقيع والرَّبذَة (موضعين قرب المدينة) حمىً في سبيل الله لترعى فيها خيل المسلمين، أي من أجل الصالح العام وهو المعروف بـ (الحمى) قال عليه الصلاة والسلام: «لاحمى إلا لله ولرسوله» (10) أي لا حمى لأحد الأشخاص العاديين.
3 - التأميم أو نزع الملكية الخاصة :
__________
(1) - أخرجه أحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) - أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) - أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح.
(4) - أخرجه أبو الشيخ ابن حبان وفي مسند الفردوس للديلمي عن أنس رضي الله عنه، لكنه ضعيف.
(5) - أخرجه أبو داود والترمذي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، والمرة: القوي ، والسوي: المستوي الخلق، التام الأعضاء.
(6) - أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(7) - أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(8) - أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب رحمه الله ، ولكنه ضعيف.
(9) - أخرجه أحمد وأبو داود، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الطبراني عن ابن عمر.
(10) - أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن الصعب بن جثّامة رضي الله عنه.(1/12)
إذا كان المبدأ العام في الإسلام هو الاعتراف بالملكية الفردية وبالحرية الاقتصادية كما أوضحت، فإنه لا مانع من تدخل الدولة لحماية مصلحة الأمة في وقت معين، بأن تتخذ من التدابير ماتجده محققاً للصالح العام، بناء على المبدأ المعروف في الإسلام بالاستحسان والمصالح المرسلة، وقواعد دفع الضرر العام، وأنه يتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر العام، وأنه يجب على الجماعة كفاية الجائع والعريان عملاً بالمبدأ الشرعي القائل: (إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد) ولكن بشرط دفع الثمن. وقال عمر قبيل وفاته: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء » : وهذا ما يجعل النظام الاقتصادي الإسلامي أبعد عن النظام الرأسمالي القائم في أصله على أساس من الحرية الفردية المطلقة.
لذا فإنه يحق للدولة التدخل في الملكيات غير المشروعة، كالملكية الحادثة بالسلب والقهر أو الاغتصاب، فترد الأموال إلى أصحابها أو تصادرها، وتستولي عليها بغير تعويض، سواء أكانت منقولة أم عقارية، لقوله صلّى الله عليه وسلم : «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) وقوله: «ليس لعرْقٍ ظالمٍ حق» (2) ، وقوله: «من زرع أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء وله نفقته» (3) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاطر بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولاياتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة، وهو البعد بالملكية عن الشبهات، وعن اتخاذها وسيلة للثراء غير المشروع، وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل في التوزيع، سواء في حق أصل الملكية، أو منع المباح، أو في تقييد حرية التملك الذي هو من باب تقييد المباح، والملكية من المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعمال الملك إلى ضرر عام. وعلى هذا فيحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية الزراعية ، فيحددها بمقدار مساحة معينة، أو ينتزعها من أصحابها إذا عطلها أو أهملها حتى خربت، أو ينزع ملكيتها من أي شخص مع دفع تعويض عادل عنها، إذا اقتضت المصلحة العامة أو النفع العام ذلك.
كماحدث في وقتنا الحاضر من تأميم المصارف والشركات الكبرى، وكما فعل عمر بن الخطاب في سبيل توسعة المسجد الحرام حينما ضاق على الناس،فأجبر الناس المجاورين للمسجد على بيع دورهم المحيطة به، وقال لهم: «إنما أنتم الذين نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم» . وكذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الفعل مرة أخرى وقال : « إنما جرأكم علي حلمي، فقد فعل عمر بكم ذلك فلم تتكلموا» ثم أمر بحبسهم لمدة، مما يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق والمقابر وإقامة المساجد وإنشاء الحصون والمرافئ والمؤسسات العامة كالمشافي والمدارس والملاجئ ونحوها؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ثم إن فقهاء المذاهب قرروا أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإذا منع من فعل مباح صار حراماً، وإذا أمر به صار واجباً. والدليل على إعطاء ولي الأمر مثل هذه الصلاحيات في غير المنصوص على حكمه صراحة هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: هم الأمراء والحكام والعلماء، كما تبين سابقاً.
ولكن ليس كل مايتوهم من ضرر، أو يتخيل من مصلحة يكون مسوغاً لتقييد الملكية أو مصادرتها بالتعويض، وإنما ينبغي أن تكون المصلحة العامة محققة الحدوث، أو الضرر العام محقق الوقوع، أو غالب الوقوع، لا نادراً ولا محتملاً، ويكفي عند فقهاء المالكية والحنابلة أن يكون احتمال وقوع الضرر مسوغاً لمنع الفعل أخذاً بقاعدة: «دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح» .
ويلاحظ أن مبدأ تقدير الضرر مقيد بثلاثة أمور:
أولاً ـ أن كل ضرر يلحق الناس كافة هو ممنوع.
ثانياً ـ لا ينظر في الأضرار العامة إلى قصد الضرر أو عدم قصده وإنما ينظر إلى النتائج المترتبة في الواقع..
ثالثاً ـ لا يعتبر الضرر الواقع بآحاد الناس إلا إذا قصد الشخص إضرار غيره بالفعل بأن يتعسف في استعمال حقه، أو يستعمله استعمالاً غير عادي.
ومن هنا يمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها: كون صاحبها مانعاً لحقوق الله فيها، أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان أو للتبذير والإسراف، أو لإشعال نار الفتن والاضطرابات الداخلية أو للاحتكار والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو لتأمين متطلبات الدفاع عن البلاد، أو لدفع ضرر فقر مدقع ألم بفئة من الناس على أن يكون كل هذا إجراء استثنائياً بحسب الحاجة وبشرط عدم استئصال أصل رأس المال، مع دفع العوض. ولقد قرر دارسو الأوضاع الاقتصادية في البلاد العربية أن تركز أكثر الثروة القومية في أيدي فئة قليلة من الأغنياء ينشأ عنه ضرر عام جسيم بمصلحة البلاد، على عكس ما يتطلبه القرآن الكريم الذي يطالب بتداول الأموال في المجتمع في قوله تعالى: { كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } [الحشر:7/59] ومما لا شك فيه أن تأميم المرافق العامة التي تقدم خدمات للشعب كالمواصلات والكهرباء والماء يرفع الحرج عن الناس، ومثل ذلك تحديد ملكية الأراضي الزراعية برفع الحرج عن الناس، وأما تأميم المصانع والشركات المملوكة للأفراد، فيتطلب وجود مصلحة عامة فيه.
ومن أدلة منع الضرر: الحديث النبوي السابق ذكره: « لا ضرر ولا ضرار» (4)وحديث « لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره » (5) ومن الوقائع التاريخية لتدخل الحاكم المسلم في ملكيات الأفراد في دائرة منع الضرر: « أنه كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذي صاحب الأرض، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال الرسول لصاحب النخل: بعه: فأبى: فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم فاقطعه، فأبى ، قال: فهبه ولك مثله في الجنة فأبى، فالتفت رسول إليه، وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال، اذهب فاقلع نخله » (6) ففي هذه الحادثة مايدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية.
ومن الأمثلة أيضاً: ( أن رجلاً اسمه الضحاك بن خليفة أراد أن يمر بماء له في أرض محمد بن مَسْلمة، فأبى، فاشتكى الضحاك إلى عمر فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيل جاره، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك ) (7) ففي هذه الواقعة ما يدل على أنه لا يكفي الامتناع عن الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره، مادام لاضرر عليه فيه..
__________
(1) - أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) والحاكم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(2) - أخرجه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى.
(3) - أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
(4) - أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) - أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) - رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين.
(7) - أخرجه الإمام مالك في الموطأ.(1/13)
وعندما حمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَّبَذَة قرب المدينة، قال: «المال مال الله والعباد عباد الله ، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» فهذا يدل على أن تخصيص بعض الأراضي للمصلحة العامة أمر جائز، وأن نزع الملكية لضرورة المصلحة العامة للجماعة أو لدفع الحرج عن الناس لا مانع منه شرعاً..
هذا .. وقد حدد الفقهاء أربع حالات يجوز فيها شرعاً أن تنزع الأملاك وهي:
الحالة الأولى : أن تنزع الملكية للمنافع العامة كفتح الطرق وتوسيع المساجد والمقابر ونحوها، ولم يوجد عنه بديل، ودليل ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجازوا توسيع المسجد الحرام مرتين في عهد عمر وفي عهد عثمان.
الحالة الثانية : أن يترتب على صاحب الملك دين من نفقة أو خراج أو معاملة أو غير ذلك، ويمتنع عن أدائه، فيحكم القاضي بالبيع جبراً لوفاء الدين، فيبدأ بما بيعه أهون. وقد نصت على ذلك المادة 998 من المجلة.
الحالة الثالثة : أن تنزع الملكية منعاً من الاحتكار. وذلك كما إذا احتكرت طائفة من التجار أقوات الناس وحصل بذلك ضرر، فإنه يجوز للحاكم أن يمنعه ببيع أو تسعير دفعاً للضرر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم «نهى عن احتكار الطعام» وقد بيَّن ابن قدامة في المغني: 198/4 شروط الاحتكار المحرم.
الحالة الرابعة : حالة الأخذ بالشفعة للشريك، وذلك مراعاة لحق المالك القديم على الجديد. وما عدا ذلك لا يؤخذ ملك أحد إلا برضاه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] وحديث سابق: «إن دماءكم وأموالكم علي حرام» .
4 - تحقيق التوازن الاقتصادي :
إذا كان الإسلام يسمح بقيام ودوام الملكية الشخصية، فلا يدل ذلك أنه يجيز ما يعرف في النظام الرأسمالي بنظام الطبقات الذي يسمح لطبقة معينة تملك المال أن تملك السلطات ووسائل التشريع مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، فطبيعة نظام
كم التشريع الإسلامي الذي يمنع من اكتناز النقود، ويحرم الفائدة المصرفية في غير حال الضرورة القصوى، ويفتت الملكية عن طريق الإرث، ويلغي الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، كل ذلك يؤدي إلى إذابة الفوارق بين الطبقات، ويقلل التفاوت الصارخ بين الأفراد في تملك الأموال. وهكذا جفف الإسلام كل المنابع التي تؤدي إلى الطبقية، كما أن لولي الأمر صلاحيات واسعة النطاق في تحقيق العدالة ومنع الضرر والتعسف في استعمال الحق، مما يوجد نوعاً من التوازن الاقتصادي. ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين الفقراء وبين الأنصار، فكان يقاسم المهاجري مال الأنصاري، وكان أبو بكر الصديق يسوي في العطاء من الغنائم بين الناس، وحينما اتسعت الفتوحات الإسلامية، أجمع الصحابة بقيادة عمر بن الخطاب على عدم توزيع الأراضي بين الفاتحين، وإنما تركت في أيدي أهلها حفاظاً على مبدأ التوازن الاقتصادي بين الرعية جميعاً، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59] أي إن أموال الفيء والأراضي ملك للجميع.
سادساً ـ أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام :
مبدأ العدالة الاجتماعية هو الركن الثالث من أركان النظام الاقتصادي الإسلامي، ولقد استطاع المسلمون أن يترجموا هذا المبدأ إلى واقع فعلي فعّال، جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً متعاوناً متآخياً متحاباً، متناصراً متضامناً وقت اليسار والإعسار. وتلك هي صفات المجتمع الإنساني الأفضل، ذلك المجتمع الذي صانه الإسلام من مختلف العيوب الخلقية والاجتماعية والاقتصادية، فقرر ضرورة القضاء على الفقر و الجهل والمرض والبطالة والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري والخضوع السياسي أو الإذلال المدني.
والكلام عن العدالة الاجتماعية في الإسلام كثير معروف يهمنا الإشارة فقط إلى أمرين:
أولهما ـ واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي.
ثانياً ـ القيود الإيجابية الواردة على حق الأفراد في الملكية الخاصة.
أما الأمر الأول ـ وهو واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي: فإنه يستمد وجوده من اعتبار الدولة مسؤولة عن رعاياها، وأن المسلمين جميعاً يكفل بعضهم بعضاً. فالإسلام ألزم الدولة بضمان معيشة أفرادها، وعليها أن تهيء لهم سبل الكسب المشروع ووسائل العمل الشريف، وفرصة المساهمة في أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة التي تعود عليهم بالخير والثمار اليانعة بما يحقق لهم أولاً إشباع الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، ثم الحاجات الكمالية بقدر المستطاع، قال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها» (1) ، هذا يدل على أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وما عداها فهو من الحاجات الكمالية، وإذا أصبح المرء عاجزاً عن العمل، ومحتاجاً إلى النفقة فعلى الدولة كفايته وتأمين حاجياته وسد عوزه ليعيش عيشة حرة كريمة تليق بعزة الإنسان، وتستطيع الدولة تأمين المال اللازم لهذه الغاية السامية، مما يساهم به الأفراد، ويلتزمون بدفعه من التكاليف المالية الآتية وهي موضوع الأمر الثاني.
والأمر الثاني ـ هو القيود الإيجابية المفروضة على أصحاب الملكيات الخاصة: فرض الإسلام طائفة من القيود المتعددة على حق الملكية الفردية لتحقيق العدل والمصلحة العامة، منها قيود سلبية ذكرت أهمها، كمنع الاحتكار والتسعير الجبري، وعدم الضرر بالآخرين، ومنع تملك المباح إذا أفضى استعماله إلى ضرر عام. ومنها قيود إيجابية تجعل حق الملكية ذا هدف أو معنى اجتماعي أو ذا وظيفة اجتماعية تبعد فكرة الحق عن معنى السلطة المطلقة، أو حب الذات وتخفف من وجود الملكيات الكبيرة ، وتقيم بناء التكافل الاجتماعي بين الأفراد في الإسلام على أمتن الأسس وأقوى الدعائم الدينية والخلقية والتشريعية من أجل رفع مستوى المعيشة العامة ورعاية مصالح الفقراء، وليؤخذ بأيديهم نحو الكسب المستقل، وأهم هذه القيود الإيجابية هي:
1 - فريضة الزكاة :
تعتبر الزكاة كما هو معلوم ـ من أركان الإسلام، فهي تشريع مدني إلزامي يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه وإعطائه لمستحقيه من الفقراء، وتقوم الدولة في الأصل بجباية الزكوات من أصحاب رؤوس الأموال وتجبرهم على أدائها، فليست الزكاة كما يظن بعض الناس مجرد صدقة مستحبة، كما أنها ليست طريقاً لإذلال الفقير وإنما هي حق مستقيم واجب الأداء، قال الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25] والهدف منها أن يؤخذ بيد الضعيف، ويتجه إلى الاعتماد على نفسه من طريق الكسب الحر، فهو علاج مؤقت لحالة كل فقير، وليست طعمة دائمة إلا للعاجزين عن العمل، وتستوفى الزكاة كما هو معروف من ثلاثة أنواع من الأموال: هي النقود المتداولة والسلع التجارية بنسبة 25% ، والإبل والبقر والغنم السائمة (أي التي ترعى الكلأ المباح) بنسب تصاعدية، والزروع والثمار بنسبة العشر فيما يعتمد على الأمطار والأنهار العامة، ونصف العشر فيما يسقى بآلة ونحوها.
__________
(1) - أخرجه البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه، وهو حديث حسن.(1/14)
وإذا لم تكف حصيلة زكاة هذه الأموال، فلا مانع شرعاً في رأي فقهاء العصر من إيجابها على أصناف الأموال المستحدثة في زمننا وهي الآلات الصناعية، الأوراق المالية (كالأسهم والسندات) وكسب العمل والمهن الحرة، والدور والأماكن المستغلة عن طريق الإيجارات. غير أن قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة لم يوجب الزكاة على المستغلات العقارية ونحوها إلا بعد حولان الحول على الأموال المدخرة.
والعلماء يطالبون المسؤولين بالعودة إلى جباية فريضة الزكاة في وقتنا الحاضر كما فعلت بعض الدول الإسلامية والعربية بقانونها الحديث؛ لأنه مبدأ حيوي يحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية.
2 - كفاية الفقراء :
للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي المسؤولة عن رعاية مصالحهم؛ لأن الإسلام يجعل العلاقات الاجتماعية قائمة على أساس من التراحم والتعاطف والتوادد، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «كاد الفقر أن يكون كفراً» (1) . وقال صلّى الله عليه وسلم لعلاج ذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (2) ولقد أوجب الدين الحنيف أيضاً تكليفاً في المال غير الزكاة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (3) بل إن مبدأ كفاية الفقراء للعاجزين على العمل يتجلى في أصدق صورة في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم؛ ولن يُجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً » (4) هذا بالإضافة إلى حث الإسلام على تقديم الصدقات المستحبة تقرباً إلى الله عز وجل كما هو معروف، يقول عليه الصلاة والسلام: « من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له » (5) .
وكذلك يجب على الإنسان تقديم النفقات لكفاية أقاربه الفقراء المحتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم.
3 - الإنفاق في سبيل الله :
أوجب الإسلام على المسلمين الإسهام بالإنفاق في سبيل الله، والمقصود به الإنفاق على كل مايتطلبه المجتمع من مصالح ضرورية كالدفاع عن البلاد، وتزويد الجيش العامل بالمؤن والسلاح، وبناء المؤسسات الخيرية العامة التي لاغنى لأي بلد متحضر عنها. وللحاكم كيفية تنظيم الحصول على هذه الموارد الكافية لسد العجز في موازنة الخزينة العامة، من طريق وضع نظام ضريبي عادل يلتزم خطة التصاعد بحيث يرتفع سعر الضريبة كلما زاد دخل المكلف، وبحسب درجة الغنى واليسار، و نص فقهاء الإسلام كالغزالي والشاطبي والقرطبي على مشروعية طرح ضرائب جديدة على الأغنياء والغلات والثمار وغيرها بقدر مايكفي حاجات البلاد العامة، وأقر ذلك مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول المنعقد سنة 1964م في قراره الخامس (6) .
والخلاصة: إن الشريعة الإسلامية قيدت المالك في استعمال سلطاته على ملكيته، وفي حق التملك ذاته بقيود كثيرة، تحقيقاً لمبادئ المصلحة والعدل والمساواة بقدر الإمكان.
سابعاً ـ موقف الإسلام من تعارض مصلحتي الفرد والجماعة :
إن النظام الرأسمالي يقدس حرية الفرد ومصلحته، ويعتبر مصلحة الجماعة هي حصيلة المصالح الفردية، وإن النظام الاشتراكي يلغي دور الفرد ويقدس مصلحة الجماعة ويفضلها على مصلحة الفرد. ويعتبر التضامن الاجتماعي هو الأساس الوحيد لحياة الجماعة. والفرد مسخر لخدمة مصالحها. وأما الإسلام فقد راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح في الحالات العادية للفرد أن يطغى على حساب المجموع، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع، وذلك منعاً من الإخلال بميزان العدالة، ورعاية للحقين معاً بقدر الإمكان، فإذا تعارضت المصلحتان في ظرف استثنائي مثلاً، وتعذر التوفيق بينهما، قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة دفعاً للضرر العام، ولكن مع المحافظة على حق الفرد في التعويض.
هذا .. وهناك رأي آخر يقرر تحريم فرض الضرائب، لأنه لا حق في المال سوى الزكاة، ولأن الإسلام احترم الملكية وحرم الأموال كما حرم الدماء والأعراض. والضرائب مهما قيل في تسويغها فهي مصادرة لجزء من المال يؤخذ كرهاً عن مالكيه، ولأن الأحاديث النبوية قد جاءت بذم المكس ومنع العشور.
وعلى أساس هذه النظرة المتوازنة، نظر الإسلام إلى المال، فاعترف بمصلحة الفرد فيه وبحقه في تملكه، كما أنه اعترف بمصلحة الجماعة وبحقها في التملك، وحينئذ تتجاور في الوجود الإسلامي الملكية الخاصة مع الملكية العامة وملكية الدولة، ويكون للإسلام عندئذ غاية مزدوجة رسم لها الشرع حدوداً معينة واضحة، فهو حين يبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ فإنه يضع لها حدوداً وقيوداً تمنع اتخاذها سبيلاً للضرر كما ذكرت، ويسخرها نحو مصلحة المجتمع، وللمجتمع استرداد هذه الملكية أو تعديلها إذا وجد فيما يفعل مصلحة عامة، وذلك كله حماية للمصالح الأساسية التي شرعت من أجلها الحقوق، ودرءاً للتعسف والظلم. وبه يتبين أنه لا خطورة في تشريع الإسلام في اعترافه بالملكية الفردية مادام يملك إلغاءها أو تعديلها.
وبإيجاد هذا النوع من التوازن الاقتصادي بين مصلحتي الفرد والجماعة على أسس من العدل، وحسبما تقتضي المصلحة، استطاع الإسلام حل المشكلة الاقتصادية التي يثيرها الاقتصاديون وهي: كيف يستطيع المجتمع تأمين إشباع الحاجات الكثيرة المتعددة بموارد الطبيعة المحدودة لديه؟
إن إجابة الإسلام عن هذه المشكلة هي أن الطبيعة ليست بخيلة ولا عاجزة عن تلبية حاجات الإنسان، فهي من صنع الله الذي تكفل بالرزق. لجميع مخلوقاته، وإنما المشكلة تتجسد في الإنسان نفسه، فظلم الإنسان في حياته العملية في توزيع الثروة، وعدم استثماره واستغلاله موارد الطبيعة هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعانيها الإنسان منذ القدم، فمتى انمحى الظلم في التوزيع، وجنَّد الإنسان كل طاقاته للاستفادة من الطبيعة المخلوقة المتجددة زالت المشكلة الاقتصادية.
ثامناً ـ أثر الدين والأخلاق والتزام كل مبادئ الإسلام في تكوين مذهبنا الاقتصادي :
__________
(1) - أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه.
(2) - أخرجه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(3) - أخرجه الترمذي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. وأما حديث: « ليس في المال حق سوى الزكاة» فهو ضعيف أخرجه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس.
(4) - أخرجه الطبراني عن علي رضي الله عنه.
(5) - أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(6) - واشترط لجواز فرض الضريبة أربعة شروط: الأول: أن تكون هناك حاجة حقيقية بالدولة إلى المال، ولا يوجد مورد آخر لتحقيق الأهداف وإقامة المصالح دون إرهاق الناس بالتكاليف. الثاني: أن توزع أعباء الضرائب بالعدل بحيث لا يرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا تحابى طائفة وتكلف أخرى. الثالث: أن تصرف الضريبة في المصالح العامة للأمة. الرابع: موافقة أهل الشورى والرأي في الأمة. لأن الأصل في أموال الأفراد الحرمة، والأصل أيضاً براءة الذمة من الأعباء والتكاليف.(1/15)
لا يمكن الحكم على نجاح المذهب الاقتصادي الإسلامي إلا بتطبيق كل أنظمة الإسلام السياسية والاجتماعية والمالية؛ لأن الإسلام كل لا يتجزأ، ووحدة متكاملة مترابطة لا يمكن تجزئة بعضه عن بعض، والاقتصاد الإسلامي يعتمد في الدرجة الأولى على الإطار العام من الدين أو العقيدة، والخلق أو السلوك، والمفهوم الشامل عن الكون والحياة.
العقيدة الإسلامية في قلب المسلم ووجدانه هي الدافع المحرك لاحترام النظام الاقتصادي والإيمان به والإذعان لتعاليمه.
والقيم الخلقية في الإسلام لا تقل أهمية عن النصوص التشريعية الملزمة في توجيه سلوك الفرد بالنسبة لغيره، واحترامه حقوق الآخرين، ورعايته لمصلحة الجماعة، وغيرته على حرمات بلاده والحفاظ عليها بطواعية واختيار ودافع ذاتي ورقابة داخلية للنفس على ذاتها، فالبر والإحسان والرحمة والإخاء العام والتضحية والإيثار والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، كل تلك العواطف التي هي من صميم الدين تؤثر تأثيراً واضحاً في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما ينشده من غايات، وتسمو بالإنسان دائماً إلى مواطن الخير، وتبعده عن عوامل الشر، وتُسهم في إيجاد قاعدة عتيدة من التكافل والتضامن الاجتماعي بين جميع الأفراد، فالمؤمن المخلص التقي هو الذي يرعى مصالح غيره، كما يرعى مصالح نفسه، وهذه هي مقومات المجتمع الإنساني الفاضل.
ومفهوم الإنسان عن الكون والحياة والعلاقات الاجتماعية في أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الله هو القابض والباسط والرازق والمتصرف، وأن المال مال الله، والإنسان خليفة ووكيل عن الله في ملكه، وأن المال وسيلة لا غاية، فهو خير إن استعمله صاحبه في الخير، وشر إن أدى إلى الشر والضرر، قال صلّى الله عليه وسلم : « نعم المال الصالح للرجل الصالح» (1) .
وإن الملكية الخاصة لها طابع ووظيفة اجتماعية، وإنها نعمة كبرى يجب صيانتها، والتوصل إليها من طرق حلال، وأن الربح المعقول هو الخالد الدائم والذي يصون التجارة ومصلحة التاجر، وأن العدو يجب جهاده، وأن الحاكم عادل أمين على مصالح الرعية، كل هذه المفاهيم ونحوها تؤثر في الحقل الاقتصادي تأثيرات بعيدة المدى.
تاسعاً ـ خلاصة هذا المبحث :
إن الإسلام ـ كشأنه في كل ما جاء به ـ هو شريعة التوسط والتوازن والاعتدال، وإنه نظام فريد مستقل بنفسه، قائم بذاته، له خصائص ومزايا تميزه عن كل ما عداه من النظم الأخرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع، وإنه لا قصور فيه عن معالجة المشكلات والأوضاع الحديثة.
لذا فإنه يلتقي مع أحسن ما في النظامين الحاضرين: الاشتراكي والرأسمالي من مزايا وصفات، ويتجنب ما فيهما من مغالاة وانحراف عن سنن الفطرة الإنسانية، ويسير بأبنائه إذا التزموا مبادئه نحو السعادة الحقيقية التي من أبرز مظاهرها شعور الإنسان بالاستقرار المادي، والاطمئنان النفسي والثقة بالذات، والتمتع بالحرية والكرامة.
وليست فلسفة الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية قائمة على مجرد إشباع البطون؛ لأن الإنسان جسم وروح، لا مجرد آلة، وإنما هو يفيض بمشاعر الآمال والآلام، ويحس في قرارة نفسه العجز في يوم ما ، والناس يتفاوتون عادة في قدراتهم الإنتاجية بحسب تفاوت استعدادهم الفطري وقواهم الفكرية والجسدية، وليس من العدل ولا من المعقول حرمان إنسان من ثمرات عمله أو الحد منها ما دامت مشروعة.
ولقد حارب الإسلام الثالوث الهدّام المخيف (وهو الفقر والجهل والمرض) وقاوم كل عوامل التخلف الاقتصادي: وهي البطالة ووسائل الكسب غيرالمشروع وإضعاف الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، كما أنه حقق في الواقع التاريخي مبادئه في التكافل الاجتماعي.
==============
الاقتصاد الإسلامي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
26/4/1426
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فإنَّ الوصية المبذولةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه ومراقبتُه في السّرِّ والعلن، فاتقوا الله عباد الله، وأتبِعوا السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالقوا الناس بخلق حسن، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ [يوسف:90].
أيها الناس، المالُ في هذه الدّنيا شريانُ الحياةِ التنمويّة المادّيّ، كما أنَّ الشرعَ والدين شريانُ الحياة الروحيّ والمعنويّ. وللمال في نفسِ الإنسان حظوةٌ وشرَه وتطَلُّب حثيثٌ، إذا لم يُحكَم بميزان الشّرع والقناعةِ والرّضا فإنه سيصِل بصاحبه إلى درجةِ السّعار المسمومِ والجشَع المقيت. ولا جرَم عباد الله، فإنّ حبَّ ابنِ آدمَ للمال ليسرِي في جسدِه سَرَيان الدّم في العروق، كيف لا والله جلّ وعلا يقول عن ابن آدم: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] أي: المال، ويقول سبحانه عن جماعةِ بني آدم: وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20].
ومِن هذا المنطلَق تنافس الناسُ سَعيًا في تحصيل هذا المال، وَكَدْحًا تلوَ كَدْحٍ في لَمْلَمَةِ المستطاع من هذا المال الفاتن، غيرَ أنَّ صحةَ هذا الكدح أو فسادَه وحصول الأجر فيه أو ذهابَه لمرهونٌ بحُسن القصدِ والموْرِد فيه أو سوئِه، وفي كلا الأمرَين يقول الله جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]؛ لأنَّ المال سلاح ذو حدين، فهو لأهلِ الإسلام والإيمان وحُسنِ القصد به نِعمةٌ يحمدون الله تعالى عليها صباحَ مساء، وهذه هي سِيمَا الأمّةِ الخيرية: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]. وهو لأهلِ الكفر حَسرة وبلاء مهما تعدَّدت مصادره وكثر توافُره؛ لبعدِهم عن وضعهِ في موضعه، وما ذاك إلاّ ليكونَ ندامة ووبالاً عليهم كما قال جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، فإنَّ معظمَ أوجه الإيرادات والصادِرات لدى من كفَر بالله وبرسولِه منصبّة فيما حرَّم الله ورسوله مِنْ أخذِهِم الربا وأكلهم أموالَ الناس بالباطل والصدّ عن سبيل الله، وتلك ـ لعمرُو الله ـ هي الحسرةُ والندامة، ولات ساعةَ مَنْدَم، وليس بعد الكفرِ ذَنب، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
وإنَّ مما يدلّ على أهمّيّة المال في حياةِ الفردِ والجماعة وُرودَه في القرآن متصرِّفًا مَدحًا وذمًّا في أكثرَ من ثمانين موضعًا.
أيّها المسلمون، إنّ الشريعة الإسلاميةَ الغراء جاءَت حاضّة على عمارة الأرض وتنميِتها اقتصاديًّا بما يكون عونًا على أداءِ حقّ الله فيها، فلقد قال رسول الله : ((إذا قامَت الساعة وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرِسها فليغرسها، فله بذلك أَجر)) رواه البخاري(1)[1].
__________
(1) - أخرجه أحمد وابن مَنيع عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.(1/16)
ومن هنا فقدْ حرِصَ الإسلام أشَدّ الحرص على توفيرِ ضمانات أو رَكائز لتحقيقِ هذه التنميَة الاقتصادية واستمرارها، ولعل من أبرزِها تحقيق الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المستقلَّة لدى المجتمع المسلم؛ ليكون قائدًا لا منقادًا، ومَتبوعًا مِنْ قِبَلِ غيرِه لا تابعًا. والاستقلالُ الاقتصاديّ يعني بداهةً نفيَ التبعيةِ الاقتصاديّة للأجنبي وسيطرةَ المجتمع المسلِم على مقدَّراتِ بِلاده الاقتصاديّة دون تدخُّلٍ أجنبيّ؛ لأن فقدانَ السيطرة الاقتصادية فقدانٌ لما عداه من السيطرة السياسيةِ والعسكرية والاجتماعية والثقافيةِ؛ ولذا فإنّ التنميةَ الاقتصادية لدى المجتمع المسلم لا يمكِن أن تتمّ دونَ الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المحلّيّة.
إنَّ الأمة الإسلاميةَ في هذا العصرِ لتكتوِي بلهيب من الفوضَى الاقتصادية والضَّعف التنمويّ، كما أنها تعيش فسادًا اقتصاديًّا يدبّ دبيبًا ويتسلَّل لواذًا بين الحين والآخَر عبر منافذِه الرئيسة في المجتمعاتِ المسلمة، وهي منافذُ التسلّل الفرديّ والمؤسَّسي والمنتظم. وإنَّ اتساع مثل هذه المنافذ لكفيلٌ بتفعيل البلبلة والخلخلَة المسبِّبين عدمَ الاستقرار السياسيّ والاجتماعي، والنتيجةُ التالية لمثل ذلكم تخلّفٌ ذريع في السوق الماليّة والنمو وضَعف اقتصادي فادح بالمسلمين.
وإنَّ كثيرًا من الدراسات الحديثة لتؤكِّد وجودَ علاقة عكسية بين الفساد الاقتصادي وبين النمو. ومن هنا فإنّ الأمة الإسلاميّة لو أخذَت بالمعنى الحقيقيّ للاقتصادِ الإسلاميّ لما حادَتْ عن الجادّة، ولما عاشَت فوضَى التخبّط واللهث وراءَ المغريَات المالية من خلالِ التهافُت على ما يسمَّى بسوق البورصَة والمرابحات الدوليّة التي لم تُحْكَمْ بالأُطُر الشرعية، وفوضَى التخبّط أيضًا في سوء الموازنة وعدم إحكامِ القروض المالية في الحاجيات والتحسينيّات؛ ما يسبِّب تراكمَ الديون على مجتمَعاتٍ لا تطيق حملها، ولذا فإنّ التنميّة الاقتصادية الإسلاميةَ لا تعترِف بتنمية الإنتاجِ الاقتصاديّ في معزِل عن حُسن توزيعه، كما أنّ جهودَ وأهداف الاقتصاد الإسلاميّ يجب أن تكونَ مصاغة بعنايةٍ فائقة للقضاءِ قدرَ الطاقة على فاقةِ الفرد المسلم وبطَالَته وأمِّيّته ومعاناتِه السّكنيّة والصّحّية.
ولو تأمَّل الناس حقيقةَ المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي لما وقعوا في مثلِ هذه الفوضَى ومثل ذلكم التخبّط؛ لأنَّ كلمة الاقتصاد في الأصل مأخوذةٌ من القَصد، وهو الاستقامة والعَدل والتوازُن في القول والعمل، وفي الإيراداتِ والصّادرات وفي الكَسب والإنفاق. فالاقتصاد الإسلاميّ هو في الحقيقةِ توازنٌ في التنمية واعتدالٌ في السوق الماليّة، يحمل المجتمعَ المسلم إلى الاعتدال والموازنَة دون إفراطٍ أو تفريط؛ ولذا ـ عبادَ الله ـ كان واجبًا على المجتمعات المسلمة أن تَسعى جاهدةً إلى أَسلَمَة الاقتصاد والتنمية من خلالِ توحيد المصدر، وهو كتاب الله وسنّةُ رسوله ؛ لأنَّ العقيدة الصحيحةَ وصحّة المصدر كفيلان في إحسانِ تشغيلِ المُلكية على مستوَى الأفراد والشعوب.
وقد يتعجَّب بعض السُّذَّج من مثلِ هذا الطَّرح نظرًا لفَهمِه القاصر على أنّ الاقتصادَ يخضع لضَوابِط ومعايير تُتَرجَم في صِيَغٍ رياضيةٍ فحسب. وللرّدّ على مثلِ هذا الفهم القاصر نقول: إنّ النظام الاقتصاديَّ المهيمن في عالمنا المعاصِر كان في الأصل قد وجِد في بيئةٍ ملائمة له لدى غَير المسلمين، وذلك بعد أن تغيَّرت لديهم مجموعةُ المبادئ والقِيَم التي كانت تحكم تفكيرَهم وسلوكهم، وذلك بأخذِهم بالفلسفة الفرديّة كحَلَقة فلسفيّة تحكم التفكيرَ وتحدُّه بمعيار المصلحة الخاصّة دونَ النظرِ إلى ما سِوى تِلكم المصلحَة الخاصة، ومن هنا صارَتِ النظرة الأجنبيّة للاقتصاد مذبذبةً بين تحليلٍ اشتراكيّ وتحليل رأسمالي. وهذا دليل واضح على تأثيرِ الاعتقاد أيًّا كان نوعه على التنمية الاقتصادية.
ولذا فإنَّ التقدم الحقيقيّ في دِراسة الاقتصادِ الإسلاميّ إنما يجيء في الدّرجَة الأولى من خلالِ رَبطِه بالقيَم والمبادئ الإسلامية، والاحتفاظِ له بالصِّبغة التي أرادها الله، وعدمِ مَسخه وتشويهه بوضعِه في قوالب الاقتصادِ الوضعيّ.
ومما يدلُّ على ما ذكرناه بأنَّ الإسلام ينظر إلى النشاطِ الاقتصاديّ المتعلّق باستخدام الملكيّة والتصرّف فيها على أنه محدودٌ بما شرع الله وما نهى عنه، وهو قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، بل قد جاء في الشّرع ما يدلّ على أنّ فسادَ حالِ المسلمين وذلَّهم وضعفَهم وتمكّنَ عدوِّهم منهم قد يكون بسبَبِ ما يرتكبونه من مخالفاتٍ في أسواقهم الماليّة، فقد قال : ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايَعوا بالعينة وتبِعوا أذنابَ البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلاًّ، فلم يرفعه عنهم حتى يراجِعوا دينَهم)) رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات وصحّحه ابن القطان(2)[2].
وبعد يا رعاكم الله، فإنّ الاقتصاد الإسلاميَّ ليحتاج في النهوض به إلى المستوى المطلوبِ إلى جهودِ المخلصين من العلماء وأهلِ الاقتصاد، ومساهمتهم الجادّة في إيجادِ المفتاح المدخَلِيّ للاقتصاد الإسلامي الصحيح، مع مراعاة فِقهِ هذه المعضِلة في تركيبها الواقعيّ وتشكيلها الاجتماعي، وكذا مراعاة الخضوعِ للخطوات المشهورة في كلِّ دراسة جادّة، وهي أن تُبنَى على الملاحظة والافتراضِ والتجريب والوصول، أو بمعنى آخر: تخضَع لاستخدامِ المنهج الاستقرائيّ والاستنباطيّ بهدفِ الوصول إلى كشف العلّة الكامنة والسّببِ القابِع وراء ضمور الاقتصادِ الإسلاميّ في مقابِل ضدّه. وهذا الأمر يتطلَّب منّا أن نبحَث في المنهج النبويّ كسبيلٍ أساس لكشفِ سنَنِ الهداية والإرشاد انطلاقًا من قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، قد قُلْتُ ما قُلْتُ، إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ المشكلاتِ الاقتصاديةَ التي يواجِهها العالم الإسلاميّ اليوم ما هي إلا بسبَب غيابِ المنهج الاقتصاديّ الإسلاميّ الصحيح، والذي يتناول تنظيمَ جوانب النشاط الاقتصاديّ في الحياة العامّة بعدلٍ وتعاون وتكافل وإحسان، والتي من خِلالها تتحقَّق المصالح للأمة وتُدْرَأُ المفاسد عنها. وإنَّ التطبيقاتِ المعاصرةَ في المؤسَّسات الماليّة الإسلامية في مجال المصارِف والتأمين لفي حاجةٍ ماسّة إلى إدراك المجتمعاتِ والحكومات والسّلُطات الرقابية لقيمتها والأثر الإيجابيّ في دعمِها وتطبيقها.(1/17)
وإذا ما أردنا إذكاءَ مثل ذلكم النشاط الاقتصاديّ الصحيح فعلينا جميعًا أن لا نهمِلَ عنصرين مهمَّين في هذا الميدان الواسع، ألا وهما عنصرُ الزكاة وعنصر الوقف؛ إذ بهما يتحقَّق الدعم اللاَّمحدود لِتحقيق الأمن الاقتصاديّ والاجتماعي للأمة. يضاف إلى ذلكم ـ عِباد الله ـ الوعيُ التامّ في التعامل مع العولمة الاقتصاديّة، والتي أصبحت واقعًا يفرِض نفسَه على العالم أجمع؛ ما يؤكِّد التعاونَ الاقتصاديّ البنّاء بين الدول الإسلاميّة لزيادةِ التبادل التجاريّ بينها وإنشاء سوق إسلامية مشترَكَة تنافِس الأسواقَ الماليّة العالميّة؛ لأنَّ مستقبلَ المسلمين يجب أن يُصْنَع في بلادهم وعلى أرضهم بكدحِهم وأخلاقهم حتى لا يقَعوا فريسةً لأخلاق التسوُّل الفكريّ الاقتصاديّ بكل صنوفه في طاقاتهم ومقدَّراتهم؛ لأنَّ أيَّ أمّة تبنِي مستقبلَها على مثل ذلكم التسوُّل فهي أمة ضائِعة في تيهِ العقلِ الشحّاذ، فأنَّى لها حينئذ الاستقرار أو الظهور؟! هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
هذا وَصَلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلّى عليّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وَارْضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابةِ نبيّك محمّد ...
__________
(1) أخرجه أحمد (3/191)، والبخاري في الأدب المفرد (479)، وعبد بن حميد (1216) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الضياء في المختارة (7/262-264)، وهو في السلسلة الصحيحة (9).
(2) مسند أحمد (2/42، 84) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أبي داود في كتاب البيوع (3462)، والروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقواه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
==============
خصائص ومقومات : الاقتصاد الإسلامي (1)
للشيخ محمد إبراهيم برناوي
مدرس بدار الحديث المدنية
الاقتصاد كما يبدو لنا في بعض معانيه أو جلّها:- هو الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفّريط، الاعتدال في الدخول والإنتاج، والمنصرفات، لضمان بقاء الحياة الاقتصادية في جو معتدل بعيدا عن التدهور والكساد ـ والاقتصاديون يحاولون حل المشاكل الجماعية والفردية وفق المنهج الاقتصادي العادل الذي لا ظلم فيه لأحد على حساب آخر.
والمتأمل في النظريات الاقتصادية السائدة ـ اليوم ـ يراها تقوم على أصل مضاعفة الإنتاج الذي يعتبره رجال الاجتماع والاقتصاد الحل الوحيد للمشكلات الاقتصادية، فهذا الحل في الواقع وجيه وسليم لولا ما في ذلك من إنكار ذات الفرد في المجتمع وإنكار ملكيته وتحديد الدخل القومي للمجتمع بأسره باسم القضاء على الطبقات لتحل محل ذلك المساواة -المزعومة-... كي تصبح السلطة في يد الدولة ـ الحاكمة ـ فيتجرع مرارة ذلك الحرمان الشعب المغلوب على أمره... وقد وضع الاقتصاديون لذلك خطة عنيفة تمشيا مع التفسير المادي للتاريخ الذي يرون فيه أنه نتيجة للصراع الطبقي على هذه البسيطة.
وأسلوب الخطة يتلخص عندهم فيما يأتي: ـ
1- التحليل المادي للتاريخ: فيزعمون أن التطور المادي في مكان ما هو وحده الذي يفرض نظام المجتمع الواجب الاتباعِ.
2-إنكار كيان الفرد، ومحاربة الحوافز الفردية ووجوب تغيير نظام المجتمع القائم على هذا الأساس...
3- حتمية الصراع الطبقي من أجل تغيير المجتمع، وإلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج فيه.
4- إلغاء الدولة عندما يصبح الناس فيها اشتراكيين ويتضمن هذا القضاء على الطبقات- هذه أفكار المذاهب التجريبية عند الشيوعيين والاشتراكيين... وتلك هي الفلسفة المادية التي جعلت المجتمع الذي يرزح تحت سيطرتها طبقة واحدة من الفقراء والبؤساء، فلا هي تركت الفقير يعالج مشكلاته الاقتصادية على أساس من حرية الكدح والاكتساب المشروع لتنمية وتغطية احتياجاته الاقتصادية في هذا الصدد، ولا هي تركت الغني يعيش في مستواه الطبيعي ويستثمر مدخولاته لتنمية مورده الاقتصادي في هذا المجال.
الاقتصاد في نظام الاشتراكية:-
يؤسس الاقتصاديون النظام الاشتراكي على أساس التفسير المادي للتاريخ... فهم يفسرون الصراع الطبقي في الحياة بأنه نتيجة للحالة الاقتصادية لدى الأفراد والجماعات التي يحتاجها الإنسان، وضربوا لذلك مثلا بتأمين المأكل، والمشرب، والمسكن، والجنس... فإذا اشترك الناس جميعا في هذه الأمور فقد تمت المساواة بينهم، ولا محل للصراع والشقاء في نظرهم...
ومن ثم قرروا ما يلي:
1- إنكار كيان الفرد في المجتمع ومحاربة الحوافز فيه، ضرورة تغيير نظام المجتمع.
2- إلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج.
ومعلوم أن إلغاء الملكيةَ الفرديةَ وهدم كيان الفرد وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات يؤدي إلى تدهور الحالة الاقتصادية لديهم، حتى تصبح السلطة الرئيسية للدولة، وبالتالي تكون هي المسيطرة على الحالة الاقتصادية في البلاد بزعم المساواة في الطبقات وما ذهبوا إليه لحل المشاكل الاقتصادية التي اصطنعوها ويودون حلها بهذه الفكرة، إنما هي في الحقيقة عمل مضاد للمنهج الإلهي العادل وكذلك للسنن الكونية، والفطرة الإنسانية السليمة.
المنهج الإسلامي:
في الظروف الحرجة التي تضل فيها البشرية الطريق السوي لتنظيم حياتها وحلّ مشكلاتها في شتى نواحي الحياة، وحينما يعجز المفكرون عن وضع الحلول المناسبة لإنقاذ الإنسانية عامة، ويصلون بتجاربهم وفلسفاتهم ونظرياتهم المادية إلى طريق مسدود. يقف الإسلام دائما لإنقاذ البشرية من حمأة المادة وويلاتها، ويصف لها العلاج الناجع في هذا الصدد؛ لأنه المنهج الصالح لكل زمان ومكان، وهو بحق الكفيل بتنظيم حياة الإنسان خاصها وعامها في شتى النواحي الاقتصادية الفردية والجماعية، لأنه المنهج الرباني العادل الذي لا ظلم فيه ولا حيف، بعكس النظم الوضعية النفعية التي تظلم فريقا لتحقيق رغبات فريق آخر. وهذا مشاهد في الأنظمة الشيوعية والاشتراكية.
أما الإسلام فهو نظام مستقل إذ يقدر للعاملين نتيجة عملهم وكسبهم المشروع في الحياة، ويحقق مصلحة الفرد والجماعة، بل ويحثهم على السعي كما في قوله جل وعلا في سورة الجمعة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والشاهد في هذه الآية هو الانتشار في الأرض ابتغاء فضل الله، وكذلك كما في قوله تعالى في سورة الملك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فالإسلام يحث المسلم على الكدح في ميادين الحياة الفسيحة. مع مراعاة الطهر والنزاهة، وعطاء إخوانه السائلين والمحرومين حقهم المعلوم، فتطيب نفوسهم وتنتزع منهم الأحقاد.
__________
(1) - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - (ج 22 / ص 489)(1/18)
إن الإسلام يعلم المسلم أن المال في الحقيقة هو مال اللّه، واللّه تبارك وتعالى هو الذي استخلفه فيه، والسائل والمحروم إذا لم يُعط حقه في هذا المال يمتلئ قلبه حقدا وحسدا على الغني الذي منعه حقها، أما إذا أدى الأغنياء حقوق اللّه فيه؛ شعر الفقراء أنهم أخوة لهم، وبهذا يعيش المجتمع المسلم حياة كلها وئام وصفاء لا ترف فيها الأنانية أو النفعية الخاصة، التي لا تعرف الرحمة، ولا تعرف حق الإنسان- نحو الإنسان الذي يدعو إليه دعاة (حقوق الإنسان) الذين أكلوا حقوق الإنسانية كلها تحت هذا الستار.
مرة أخرى نقول إن نظام الإسلام الاقتصادي أفسح المجال للعاملين والكادحين لمضاعفة- الإنتاج في شتى النواحي الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية على السواء وأتاح الفرصة- أيضا لتسخير جميع القوى الإنسانية الفردية منها والجماعية والآلية على طول الخط شريطة ألا تضر بالمصالح العامة على حساب المصالح الخاصة كما أن استثمار الأموال يجب أن يبعد عن الطرق غير المشروعة كالقروض الربوية طويلة المدى والقصيرة المدى وما شابه ذلك من احتكار وغش وتدليس، تلك هي بعض الأسس التي يقوم عليها النظام الإسلامي لتنظيم حياة البشرية في شتى مجالات الحياة، ولن تصل الإنسانية كافة إلى ما تصبو إليه من سعادة وطمأنينة واستقرار، وتحقق معنى الخلافة في الأرض إلا إذا طبقت منهج اللّه العادلة.
خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي
قلنا إن النظريات الاقتصادية الغربية هي نتيجة- الصرع الطبقي التي دعت الإنسان لحب التملك والاستعلاء كما يزعمون...
لكنا نحاول بيان مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي بعد أن عرفنا موطن الداء في النظريات الاقتصادية- السلبية- التي تتنافى مع فطرة الإنسان ومع المصلحة الجماعية في آنٍ واحد، فضلا عن منافاتها للسنن الكونية. فمنهج الإسلام كما يبدو واضحا وواسعا وشاملا في نفس الوقت- تراعى فيه مصلحة الجماعة من جهة وتراعى فيه مصلحة الفرد من جهة أخرى لأن الفرد عضو في هذه الجماعة وليس كمًّا مهملا ساقطا من أي اعتبار وإنما هو كيان له ما للجماعة المتمثلة في بقية الأفراد.
فالشريعة الإسلامية لا تسقط من حسابها مصلحة الفرد، ولا تهمل أيضا المصلحة الجماعية كذلك فهي تقيد هذه وتلك بقيود لا تتنافى مع العدل والإنصاف، ولا تترك العنان لإحدى المصلحتين- الجماعية أو الفردية، أن تطغى على الأخرى.
فلئن كانت المصلحة الجماعية مقدمة في الأصل على المصلحة الفردية فكذلك الربط بين المصلحتين الفردية والجماعية أيضا، فلا تضر الشريعة بمصلحة الفرد على حساب المصالح الجماعية، وإنما تدور هذه المصالح جميعها في فلك واحد لا يتنازعان على طول الخط مادام هناك تقدير لجهود الفرد- ومادام هناك شعور بحق الجماعة كما سلف.
وهذه هي أبرز مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي نلخصها فيما يلي:-
1- تسخير ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء.
2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية.
3- مراعاة المصلحة الفردية.
4- مراعاة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف.
5- محاربة الفوائد الربوية بشتى طرقها.
تلك هي أهم خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي كما سنوضح ذلك بإذن الله تعالى.
1- تسخير الله ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء:
بهذه الخاصية نستدل على أن الإسلام خول للناس جميعا حرية العيش في الأرض، واستخدام- الوسائل التي تمكنهم من الاستفادة مما خلق اللّه لهم في السماوات والأرض بشتى الطرف. بل وطلب الإسلام من الإنسان أن يستخدمها ليستفيد ويفيد. فالله سبحانه وتعالى ذلل لهم ما خلق في السماوات وما خلق في الأرض وسخر جميع ما فيها من خيرات ومواد وخامات وجعلها معايش للناس جميعا لا احتكار فيها ولا استئثار فيها لأحد دون أحد، والآيات- التي تشير إلى ذلك وتحث الناس على أن يشكروا للّه تلك النعم الكثيرة التي لا تحصى؛ يقوله تعالى من سورة البقرة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً الآية} وقوله تعالى من سورة الأعراف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى من سورة الملك: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهذه الآيات المتقدمة تشير إلى أن اللّه خلق جميع ما في الأرض للناس على السواء. والهدف من هذا كله هو الانتفاع بذلك ليكون عونا لهم على عبادته جل وعلا؛ لأنه في الحقيقة لم يُمكن اللّه العباد في هذه الأرض هذا التمكين ويكشف لهم عن- أسرارها ودواخلها وما تحويه بين طياتها من كنوز ومعادن ومواد إلا ليعبدوه وحده، لا لتسيطر عليهم "مادة"فيعبدوا من دونه فتثقلهم، وتقعدهم عن السمو بأرواحهم، بل ليعيشوا مع خالقهم ورازقهم الذي منحهم هذه الأشياء بمحض كرمه وامتانه، وإلا فإن اللّه قادر على قهرهم وعدم تمكينهم من أن يتوصلوا إلى كل هذه الاكتشافات، ولكنه سبحانه يبلوهم فيما آتاهم على حد قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك). وبهذا نستطيع تحديد الأبعاد... ما بين طبيعة المنهج الرباني الذي وضعه اللّه للناس على علم، وما بين الفلسفات "المادية التي وضعها البشر"، وشتان ما بينهما، فبينما يسخر اللّه تبارك وتعالى كل ما في الأرض وما في السماء للبشرية عامة ويطلب منهم أن يجتهدوا في طلب الرزق على تفاوت منازلهم ليعموا هذا الكون وفق منهجه، إذا بالفلسفات الحمقاء تقف حجر عثرة على الطريق لتعرقل سير الإنسانية عن هذا الطريق السوي بكبت المواهب وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات، فتحجر عليهم طرف الكسب والتحصيل كما سنوضع ذلك في محله، فإلى أين تذهب البشرية في عملياتها إلى متى تستمر في تنكبها عن الطريق.
2- حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية:
وهذه الخاصية كسابقتها من حيث الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله فلم تضيق الشريعة الإسلامية الخناق على الناس في طرق كسبهم من الرزق المقدور لهم شريطة ألا يتعدى ذلك المنهج الذي رسمه الله لهم وألا يخرج عن إطاره، وعلى الفرد أن يختار بعد ذلك العمل الذي يريده من حرف يدوية، وصناعة آلية ومن بيع وشراء وما إلى ذلك بصور فردية جماعية. مادام ذلك الكسب والتحصيل بطرق شرعية نظيفة.
والطرق الشرعية في ذلك كثيرة. نذكر أهمها فيما يلي:
أ- البيع والشراء الشرعيان.
ب- طرق المضاربة. برؤوس الأموال.
جـ- العمل بأجر أو الاحتراف وما إلى ذلك.
ويشترط فيها جميعها "الطهارة والنزاهة وصدق المعاملة"في كل كلمة واحدة منها مع عدم الغش والتدليس.
3- مراعاة المصلحة الفردية:
سبق لنا القول عن حرية الكسب والتحصيل وكيف سخر اللّه ما في السماوات وما في الأرض للناس جميعا. إلا أننا نكرر في هذه الخاصية ما سبق أن ذكرناه من أن الشريعة الإسلامية نظرت للمصلحة الفردية بعين الاعتبار، فراعت تلك المصلحة بل وجعلتها من المصلحة العامة أيضا أفمن مراعاتها للمصلحة الفردية وجعل مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة هو مقت البطالة ومحاربتها بشتى الوسائل حتى ولو كانت عن ظهر غنى وتلك من مصلحة الجماعة أيضا؛ لأن توقف هذا الفرد عن العمل بدون أي مبرر هو خسارة فادحة على المجتمع بأسره إذ قد خسر المجتمع موهبة هذا الفرد الذي كان بإمكانه أن يسهم بدوره في رفع إنتاج البلاد فيفيد ويستفيد.(1/19)
فالإسلام يشجع على العمل، ويمقت البطالة ويعتبر العامل في نظر الشريعة الإسلامية- كالمجاهد، وهو يفضل على العابد المنقطع للعبادة وحدها، فقد جاء في الأثر "أن من الذنوب.. ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة [1] يكفرها الهموم في طلب المعيشة"وجاء أيضا في الحديث الصحيح: "ما أكل ابن آدم طعاما قط خيرا من عمل يديه".
تلك هي مراعاة المصلحة الفردية التي تدعو الفرد لتنمية مواهبه وثرواته المادية وتقدر له ذلك حق التقدير، وترى أن عود الفائدة ليست له وحده، وهو كذلك بلا شك فقد تعود الفائدة إلى ورثته من بعده، وقد تعود للمصلحة العامة التي يشترك فيها جميع إخوانه من المسلمين، وتعتبر تلك الثروات التي قدمها زيادة الإنتاج كان له دوره في إسهامه وتعود فيه الفائدة أيضا على الجميع فضلا عما يقدمه هو لآخرته من أعمال البر والإحسان ليكون له رصيد يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
4- مصلحه الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف:
في هذه الخاصية نرى الترابط الوثيق بين المصلحتين. فمصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة في نفس الوقت، ولكن المصلحة الجماعية في الحقيقة لها دورها الكبير في هذا المجال لأنها مصلحة الأمة بأسرها والتي يعتبرها الشرع من المصالح العامة التي لا يحل لفرد من أفراد الأمة استغلالها لحسابه الخاص، فمن هذه المصالح العامة على سبيل المثال ما يلي:-
1- الطرق والميادين العامة وما شابهها والتي جعلت للناس كافة، فلا يحل لفرد من الأفراد استغلالها لمصالحه الشخصية.. فيعرقل مصالح المسلمين بوضع عوائق في طرقاتهم وشوارعهم.
2- الأموال العامة تعتبر من المصالح العامة للمسلمين فلا يحل لوال من الولاة التصرف فيها وصرفها في غير وجهها، وإنما يوزعها على المستحقين وفق العدل والإنصاف فيقرض من يحتاج إلى القرض. ويحمى بها الثغور الإسلامية.
3- عدم احتكار أقوات الناس للإضرار بهم لحساب مصلحة شخصية، كما هو الحال لدى أصحاب رؤوس الأموال حينما يلجئون لكسب السوق، بتعطيل المصالح الجماعية فلا يحل لفرد من الأفراد أن يبخل على إخوانه ببعض ما أتاه اللّه فيبيعهم بالأسعار المناسبة المعقولة فضلا عن احتكار أقواتهم وأرزاقهم فقد جاء في الحديث أن المحتكر ملعون والجالب مرزوق.
هذه هي النظرة الإسلامية لمصلحة الأفراد والجماعات، وهى في حقيقتها نظرة عادلة لا ظلم فيها ولا حيف؛ لأنها تقدر حق الفرد ولا تسقط من حسابها حق الجماعة المتمثلة في هؤلاء الأفراد وتلك هي سنة العدل والإنصاف.
5- محاربة الفوائد الربويه:-
المتأمل في عمليه الربا يجدها في الواقع عملية (( سلبية بحته )) جامدة فضلا عن نتائجها السيئة التي تأباها الفطرة السليمة. ولما كانت الشريعة الإسلامية تنظر- نظرتها الواسعة للأمور وتضع لكل مشكلة حلولها المناسبة لها بعد علم المقدمات والإحاطة الشاملة "بالنتائج "عندها تحلل وتحرم عن علم ودراية بمصالح البشرية كافة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وما كان الربا من أفحش الظلم وأشنعه حرمة إلا لأنه يتنافى مع العدل الذي أراد الله أن يُسَوِّد العباد- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة).
فلئن ظن المرابي أنه يحقق بهذه العملية رغباته في الحياة ويصبح من أصحاب الأموال الطائلة التي لا تحصى، بما يتحصل عليه من فوائد ربوية لا تقف عند حد فيجب أن يتيقن كذلك أن ما جمعه إلى زوال وأن مآله "المحق"كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . فشتان ما بين وجه السماحة وطهارة النفس وسمو الإنسانية، وهو الوجه المقابل للصدقة الذي تكفل الله له النماء والزيادة، والوجه الآخر المقابل لعداء الإنسانية كلها بما لا يعرف للرحمة أو الشفقة طريقا، ذلك الوجه المرذول الممثل للأنانية والحقد والشّحّ وخبث النفس والذي توعده اللّه بالمحق. ولسنا في حاجة بعد ذلك كله لنعت المرابي بأكثر من تلك النعوت التي نعت بها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم لأن مرد ذلك إلى شيء واحد وهو مرض القلب والعياذ باللّه، ومرض القلب معروف النتائج ِ… ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يبين حقيقة المنافقين؛ إنما نعتهم بذلك فقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . وبالاستقراء والاستنتاج نجد أن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه إنما عمل -أول ما عمل في بادئ الأمر- على معالجة القلوب في كثير من الأحيان، ووردت في ذلك أحاديث كثيرة تعالج هذه النواحي النفسية بما لا نستطيع حصرها في مثل هذه المعالجة. ولا بأس بذكر شيء منها على سبيل المثال.. فقد جاء في ذلك من حديث طويل رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخوانا -كما أمركم الله تعالى- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره...." الحديث.
ومعلوم أن كل هذه الأفعال إنما هي من أعمال القلب. وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". إنما يعالج أمراضا نفسية مناطقها القلب. وكذلك الأمر في بيع الرجل على بيع أخيه المنهي عنه في الحديث، لأنه يسبب التباعد والتباغض، والإسلام إنما جاء في الحقيقة ليجمع لا ليفرق، إذا كان الأمر كذلك فما هو موضع- آكل الربا الذي آذنه الله ورسوله بالحرب ولعنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.(1/20)
هذه هي بعض العلاجات لأصحاب القلوب المريضة والأمراض التي حاربها عليه الصلاة والسلام في المجتمع المسلم؛ حتى تسود في الأمة المحبة والألفة والتعاون في الخير بدلا من الاختلاف والفرقة. وإنما سقنا الكلام هنا عن هذه الأمراض كلها لمحل الشاهد: وهو اجتماع هذه الخصال المذمومة في شخص المرابي، فتجده من أعدى الأعداء للّه ولعباد اللّه وأشدهم إنكارا لأنعم الله، فهو حسود حقود كالحيوان المفترس، فكيف يتصور ولاء شخص منعوت بهذه النعوت جميعا، وكيف يرجى منه النفع للمجتمع وهو بؤرة للفساد والهدم والتخريب {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ؛ لذا أراد اللّه تبارك وتعالى أن يطهر المجتمع المسلم من مثل هؤلاء جميعا ليعيش الناس كافة تحت راية العدل والإنصاف. ولا بأس من نقل رأَي لفقيد الإسلام "سيد قطب رحمه الله "في هذا الصدد من تفسير الظلال؛ حيث يقول عن الربا وبشاعته ما نصه: "فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائنة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر. ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع في حياة البشرية أشد مما كانت منكشفة في الجاهلية الأولى، ويدرك من يريد أن يتدبر حكمة اللّه وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام.
يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة وأمامه من واقع العالم- ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا، والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتؤكله تنصب عليها البلايا الساحقة من جراء هذا النظام الربوي في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، وتتلقى- حقا حربا من اللّه تصب عليها النقمة والعذاب أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام- الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد اللّه للمجتمع المسلم أن يقوم عليه ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي، والنظام الربوي؟ وهما لا يلتقيان في تصور ولا يتفقان في أساس ولا يتوافقان في نتيجة؛ لأن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي ونظام الحياة كلَّها على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود، يقيمه على أساس أن اللّه سبحانه هو خالق هذا الكون فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان وهو الذي وهب كل موجود وجوده، وأن اللّه سبحانه هو مالك كل موجود، وبما أنه هو موجده فقد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ومكنه مما ادّخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قول وطاقات على صد منه وشرط، ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه ما شاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة... استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج اللّه- وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف، فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء- لا يقره الله ولا يقره المؤمنون باللّه. فالحاكمية في الأرض كما هي في الكون كلّه لله وحده والناس حاكمهم ومحكومهم إنما يستمدون سلطانهم من تنفيذهم لشريعة اللّه ومنهجه وليس لهم في جملتهم أن يخرجوا عنها؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق. ومن بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين باللّه فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينفقوا وأن ينتفعوا برزق اللّه الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، لا على أساس قاعدة الشيوع المطلق- كما تقول الماركسية، ولكن على أساس الملكية الفردية المفيدة.
فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل، كلّ حسب طاقته واستعداده فيما يسره اللّه له، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر).... أقول: تلك هي طريقة الإسلام في نظامه الاقتصادي واضحة المنهج تقوم على أساس التكافل الاجتماعي في أزهى حلله بعيدة عن الأثرة والشح أو الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل أو بكل وسيلة من شأنها أن تعرقل نمو الحركة الاقتصادية في بلادنا...
نظرة الإسلام للمال(1/21)
لا يعتبر "المال "في نظر الإسلام حقيقيا إلا إذا كان بطرقه الشرعية، فليس كل مال مهما كانت مصادر الحصول عليه يعتبر "مالا" شرعيا يستطيع المرء المسلم أن يتقرب به إلى اللّه من نفقات واجبة وصدقات يبتغى بها وجه اللّه. بل المال مقيد في الإسلام بقيود شرعية وهي تعني طهارة الكسب وأوجه التحصيل، فالأموال المجموعة من أوجه غير شرعية تعتبر أموالا باطلة كأثمان المحرمات "الخمر والميسر وثمن الكلب والخنزير " وما إلى ذلك؛ لأن اللّه إذا حرم شيئا حرَّم ثمنه. كل هذه الأموال لا تعتبر شرعا بالنسبة لمن يدين بالإسلام، وإن كانت معتبرة في حق غيره ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف ينظر الإسلام للمال. إنه ينظر إليه على أنه وسيلة لتبادل المنافع بين العباد ووسيلة للتعايش في الأرض، ولما كان الأمر كذلك أقر الله تبارك وتعالى هذه الخاصية: خاصية حب المادة وحب التملك " للمال"في الناس وهي طبيعة فطرية فطرهم عليها بل وحثَّهم على الطلب والتحصيل من هذه المادة على تفاوت طبقاتهم وسعيهم في طلب الرزق ونهاهم أن ينظروا لغيرهم نظرة حسد وكره لمن فضلوا عليهم في الرزق، وأمرهم أن يسألوه سبحانه وتعالى من فضله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء) فجعل المال فتنة وامتحاناً وميدان سباق للخير والإحسان في نفس الوقت، وجاءت الآيات الكريمة في كلا الوجهين تبين للناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وتنهاهم أيضا أن يجعلوا "المال"وجمعه من أي طريق كلَّ غرضهم في الحياة بما لا يقبل المنافاة بين الآياتِ التي تشجع على الكسب والتحصيل، والآيات التي تهدد وتنذر الذين يكتَنِزون الأموال ولا يؤدون حق الله فيها، فآيات الفتنة والامتحان إنما هي في الحقيقة تنذر أولئك الذين جعلوا المال هدفا لذاته، وغاية كل غاية، فقد سمى اللّه تبارك وتعالى المال مرة "زينة"ومرة "فتنة"فقال جل ثناؤه {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ( الكهف) وقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن).. فهو في الآية الأولى زينة الحياة الدنيا "والزينة تغرى- والزينة تلهي عن اللّه والدار الآخرة إلا من وفقه اللّه"لذا قال تعالى في سورة المنافقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ؛ لأنه يعلم أن بعض العباد تشغلهم الأموال وتلهيهم عن ذكر اللّه، واللهو عن ذكره سبحانه وتعالى خسارة أيما خسارة، فأرشد عباده المؤمنين لتلافي تلك الخسارة الكبرى، ولا يكون ذلك إلا بمراقبة اللّه في السر والعلن، وأداء حقوق الله. وقد علم اللّه تعالى كذلك أن من العباد من تقطع أعناقهم الأموال، التي يجلبها البيع والشراء.. فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فالحكم وإن كان خاصا بالجمعة إلا أنه عام في غيرها، كذلك مع ما في الجمعة من خصائص ومميزات، فالمال فتنة بلا شك يفتن أصحاب القلوب الضعيفة ويقعدهم عما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة كما فتن قارون وفرعون وأشباههم من الأولين والآخرين، والمال كذلك ميدان سباق لأعمال البر والإحسان لأصحاب الهمم العالية حينما يبذلون أموالهم في سبيل اللّه وابتغاء مرضاته كقوله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فهو وسيلة للفداء والتضحية في سبيل اللّه وفي سبيل السعادة الأبدية التي تكفَّل المولى عز وجل بها لعباده المؤمنين. وقد امتدح الله سبحانه وتعالى أصحاب هذه الطبقة في غير موضع من كتابه. وجاءت السنة المطهرة فأيدت ذلك كل التأييد وحثت المسلم على أن يكون له فضل مال يقيم به أوده في الحياة ويتقرب به إلى اللّه، ويترك لورثته من بعده ما يسد عجزهم من الفاقة والسؤال؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص رضي اللّه عنه "إنك إن تذر ورثتك أغنياء- خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وشجع المسلم على الاكتساب من المال الحلال كقوله عليه الصلاة والسلام "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".... بل وعظمت السنة المطهرة شأن المال فجعلته من الكليات التي جاء الإسلام بالمحافظة عليها صيانةً للحقوق المشروعة فيه. فمن قاتل دون ماله وعرضه فقتل فهو شهيد.
هذه نظرة الإسلام إلى المال، نظرة تقدر فيها للعاملين نتيجة كسبهم وكدحهم في الحياة فلا تبخس أحدا ولا تظلم أحدا لمصلحة آخر.
فلا إباحية تبيح للماجنين أن يعيشوا على أَكتاف الآخرين شأن النظرية الماركسية التي تبيح الشيوع وتنادى به، و إنما لكل امرئ نتيجة سعيه لا يعدوه إلى سواه.
ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في المال نصيب مفروض للبائسين والمحرومين يأخذونه من أموال إخوانهم الذين وسع اللّه عليهم في الرزق إما بطيب خاطر ورضى نفس كالصدقات وأعمال البر، وإما على سبيل الوجوب والإلزام كالزكاة وجعلت الشريعة الإسلامية مصارف تصرف فيها الأموال لمستحقيها كما بين اللّه ذلك في مواضع كثيرة من كتابه الكريم.
أوجه صرف المال(1/22)
لما كان -المال- عصب الحياة وشريانها، وكانت المشاكل تحصل بسببه بين الناس ويحصل النزاع والقتال من أجله. جعل اللّه تبارك وتعالى له مصارف عادلة يُصرف فيها لمستحقيها- من المساكين والمحرومين. فعدد اللّه ثمانية أصناف من هذا النوع تعطى لهم الزكاة من أموال الأغنياء، يأخذها ولي أمر المسلمين ويقسمها بينهم كما أمر الله جلت قدرته، ووضح ذلك غاية الإيضاح، فلم يترك ذلك لاختيار أحد، ولم يتركها كذلك للأغنياء أنفسهم يعطون من شاءوا ويحرمون من أرادوا حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وآراؤهم فقال تعالى { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فهؤلاء هم أصحاب الزكاة الذين سماهم اللّه في كتابه فلا تجوز لغيرهم ولا تحل لغني ولا لقوي مكتسب. هذه هي مصارف الزكاة في الإسلام… مصارف عادلة لا ضرر فيها على أحد من الأغنياء، ولا بخس فيها للفقراء والمساكين كذلك، فيشعر الجميع بشعور الأخوة والتعاون على البر والتقوى، فحينما يقدم الغني الميسور لأخيه الفقير المعدم بعض فضله ويفيض عليه من سعته إنما يشعر أن هذا العمل الذي قام به واجب من واجباته وحق من حقوق أخيه يجب أن يؤديه ويقابل ذلك الأخ هذه المعاملة بالرضى والامتنان للّه أولاً- ثم لأخيه ثانيا: فأولاً: لله الذي فرض هذه الفريضة العادلة فكفلته وشملته بعدلها وإنصافها ورحمتها، فلم تتركه للضياع والحيرة ولم تسلمه للفساد والانحراف أو السرقة والنهب والتخريب بعد أن عجز عن العمل تماما، وثانيا: لأخيه من بعد الذي تذكر أن له أَخا في الله له عليه حقٌ، يؤديه له طاعة للّه، وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى، فيعيش الجميع في صفاء ومحبة وألفة يستمتعون جميعا بعدل اللّه رحمته، إخوة متحابين متعاونين كالجسد الواحد.
وفي اعتقادي أن أية أمة من الأمم تطبق هذا المنهج الرباني الخالد في نظام حياتها واقتصادها وشتى شئون الحياة لاشك أنها ستعيش في سعادة كاملة صراحة تامة، لا تعرف معها الفوضى الأخلاقية ولا الحرمان والظلم والجور والأنانية وحقد الطبقات بعضها على بعض كما هو مشاهد اليوم في الدول الاشتراكية بل ولا تشكو من الفائض ولا التضخم المتزايدين اللذين يشكلان الأزمات الاقتصادية لتكدس الثروات بأيدٍ قليلة لها السيطرة التامة على النظام الاقتصادي العام للبلاد.
مزية الاقتصاد الإسلامي
على ضوء ما تقدم نستطيع وضع اللمسات السريعة على مزية الاقتصاد الإسلامي على سائر النظم الاقتصادية الوضعية. السائدة التي لا تقوم ولا تنهض إلا على إنكار الذات الإنسانية ومحاربة الفوارق بين الناس كافة بزعم العدل والمساواة في الطبقات... يقول الأستاذ العقاد رحمه اللّه في كتابه الديمقراطية الإسلامية ما نصه: "والمتأمل في حقيقة الأمر يجد أن الفوارق بين الناس متعددة لا تنحصر في شئون الرزق والثروة فحسب، بل منها ما هو فوارق طبيعية تلازم البشرية كافة ولا تكاد تنفصل عنهم ولا يخلون منها على طول الخط.... إذا كان الناس متفاوتين بطبيعتهم فمن الظلم البين أَن تسوي بينهم، وأن تجعل المتقدم منه كالمتخلف- والعامل كمن لا يعمل. ومن المسخ للطبائع أن تحرم الفاضل ثمرة فضله، وتؤمن الكسلان والبليد على عاقبة كسله وبلادته، فلا إنصاف لذي كفاءة في هذه المساواة، ولا فائدة لعاجز فيها، لأن العاجز لا يسلم من عجزه باختياره، وكل ما نجنيه من هذا الإجحاف تعجيز الأكفاء وتثبيط العاملين".
أقول: وكذلك فعلت النظم الشيوعية والاشتراكية. فالنظام الشيوعي يقوم على أساس إلغاء الفوارق، ويرى عدم استقامة الحياة مع بقاء الفوارق بين الناس في المال، أو شئون الرزق على العموم. والنظام الاشتراكي يقوم على أَساس إلغاء الملكية الفردية وإباحة الشيوع على طول الخط، وأما النظام الرأسمالي فهو يقوم على أساس الملكية المطلقة وبدون حدود. وموضع الخطأ في النظم الأخرى واضح بلا جدال.
ومن هنا تتضح لنا مزية الاقتصاد الإسلامي بين تلك المتناقضات والاضطرابات الفلسفية، فموقف الإسلام وسط وفي غاية الاعتدال، فلا يبيح الشيوع ولا يبيح إطلاق الملكية بلا حدود، وإنما يقيد الملكيات كلها الخاصة والعامة بقيود الشرع، ومن هنا أيضا تبرز مزية النظام الإسلامي في قاعدتين أَساسيتين هما: إنكار قوة الاستغلال والاستبداد، وتقدير حق العمل وتشجيع أصحاب الكفاءات. تلك مزية الاقتصاد الإسلامي في جلاء ووضوح تقدر للعاملين نتيجة عملهم في ميادين الحياة، وتقمع قوى الظلم والجور، وتقرر مبدأ التكافل الاجتماعي في إطار من العدل والرحمة لمن هم في مسيس الحاجة إلى العون والمساعدة، وذلك بتوزيع الثروة كما قررته شريعة الإسلام، وعددت أصحاب الفريضة في الزكاة، وكذلك الحماة والغزاة في سبيل اللّه، وسد الثغور الإسلامية، وسائر من يتولى مصالح الأمة الإسلامية من خليفة المسلمين إلى من يقم الشوارع. وهكذا يقف النظام الرباني شامخا صامدا يتحدى جميع النظم والنظريات وغيرها على مدى الأيام.
تربية
قال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول في الولد ؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، بهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحونك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلا ثقيلاً؛ فيملوا عليك حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك… فقال معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد أرضيتني عمن سخطت عليه من ولدي. ووصلة بعطية عظيمة.
----------
[1] (( إن من الذنوب الخ )) رواه الطبراني وأبو نعيم عن أبي هريرة مرفوعا ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه وفي لفظ (عرق الجبين ) بدل الهموم وللديلمي عن أبي هريرة رفعه:" إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم يعنى في طلب المعيشة"ا هـ كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس- للمفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجرافي
================
نجاح الاقتصاد الإسلامي .. رسالة إلى دعاة الليبرالية !
31-3-2006
بقلم عبدالله الخزمري
"...هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره ؟! ..."
تتناقل وسائل الإعلام هذه الأيام عزم كثيرٍ من البنوك الغربية! فتح نوافذ للتمويل الإسلامي تلبية لرغبات عملائها المتزايدة للتمويل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية
إذاً، لم تعد الحاجة لفتح نوافذ إسلامية للتمويل والمتاجرة مقتصرةًً على البلاد الإسلامية وإنما تجاوزتها لفتح معاملات مصرفية إسلامية في بنوك غربية تعمل في مجتمعات ليبرالية خالصة .
مثل هذه التجربة الثرة والغنية يجب ألا نغفلها وأن نثير النقاش حول دلالاتها وإيحآتها الفكرية والسياسية والاجتماعية .
فكما يعلم الجميع أن عمر المعاملات المصرفية في البنوك وشركات التمويل لا يتجاوز عقدين الى ثلاثة عقود من الزمن . وقد كان الاقتصاديون ينظرون بتحفظ كبير إلى نجاح فكرة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي جهلاً منهم بغزارة البدائل الإسلامية حيناً وانحرافاً فكرياً ومنهجياً أحياناً أخرى .(1/23)
وقد ترتب على هذه النظرة السوداوية قيام البنوك في فترة الستينات والسبعينات في مجملها على نظام المصرفية الرأسمالية المعروفة والتي تعتمد الفائدة "الربا" وسيلة للإقراض أو الاقتراض متجاهلة النصوص الكثيرة والمتوافرة والدالة على حرمة هذه المعاملات وخطرها على الفرد والمجتمع، بل ومتجاهلة رفض المجتمعات الإسلامية لهذه المعاملات وهروبها منها .
استطاعت بعض الشركات والمصارف قراءة الواقع قراءة صحيحة فتلمست تطلع شريحة كبيرة من الناس إلى البديل الإسلامي فقامت بإنشاء مصرفية إسلامية بأسلوب عصري يستفيد من التقدم التكنولوجي والمعطيات الاقتصادية ويتوافق في الجانب الأخر مع الضوابط الإسلامية التي وردت بها النصوص وأجمع عليها علماء الأمة . ولم تكن دهشة المتابعين فقط من كثرة البدائل والحلول الإسلامية بل ومن سرعة نجاح تلك الحلول والبدائل وتفوقها على بدائلها التقليدية .
أما أرباح و نتائج المصارف الإسلامية ونجاحاتها المتتالية في كل برامجها وأفكارها الخلاقة فقد أصبحت حديث كل الاقتصاديين محلياً وعالمياً بالرغم من حداثة التجربة وقلة الموارد . وكنتيجة طبيعية لهذا النجاح بدأ العديد من البنوك والمصارف العربية والخليجية تحديداً فتح نوافذ استثمارية وتمويلية إسلامية ولحق بها بعد ذلك الكثير من المصارف العالمية .
ويجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة في هذا السياق ألا وهي أن الوعي الشرعي والاستثماري المتنامي لدى المجتمعات الإسلامية أصبح يفرق وبشكل واضح بين بنك وأخر حتى ولو كانا يقدمان نفس الخدمات الاستثمارية الشرعية وبدأت مطالبة من نوع جديد وهي أن تقيم البنوك وشركات التمويل هيئات شرعية محترمة من الجمهور ليس لوضع الضوابط الشرعية للمعاملات المختلفة فقط وإنما أيضاً للرقابة الفعلية على مدى جدية البنك في تطبيقه لهذه الضوابط ورصد التجاوزات وتصحيح الأخطاء متى وجدت .
أيها السادة : إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها على النخب الاقتصادية المثقفة والتكتلات الاقتصادية وأجبرت المصارف للتحول ولو تدريجياً إلى المصرفية الإسلامية بما تحمله من تميزٍ ونجاح أثبتته النتائج الرائعة التي ينعم بها كلا الطرفين المصارف ودور التمويل في جانب والمسلم الذي أصبح ينام مرتاح الضمير قرير العين بعيداً عن ظلال الرهبة من الحرب التي كانت تعلنها تلك القلاع على الله في الجانب الأخر .
كانت هذه ليبرالية الاقتصاديين وكيف تحولت مع الوقت إلى مثلبة وعيب تتبرأ منه البنوك يوماً بعد أخر حتى أصبح رؤساء البنوك والمسؤلون فيها يؤكدون أنهم لا يكتفون بتقديم البديل الإسلامي فقط وإنما يعينون هيئات شرعية في بنوكهم لتأخذ على أيديهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا الخطوط الحمراء؛ بل ودفع هذا الضغط الشعبي الكثير من البنوك إلى أن تتحول بكامل معاملاتها إلى البدائل الشرعية لتحضى بجزءٍ من الكعكة التي تقدمها الشعوب لكل من يتوافق عمله مع معتقدات هذه الشعوب وأفكارها وسلوكها .
ويبقى السؤال الآن : هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره ؟!
فإن كانوا يريدون أن يكون لهم موطأ قدم في مجتمعاتنا الإسلامية فليقيموا برامجهم وفق الضوابط الشرعية ومن يدري فقد نحتاج في يومٍ من الأيام لمطالبتهم ليس فقط بأن تكون منطلقاتهم شرعية وإنما ليكون لديهم هيئات للرقابة الشرعية حتى تطمئن قلوبنا إلى أن ما يدعون إليه من برامج إصلاحية مزعومة منسجمة فكراً وسلوكاً مع معتقدات الأمة وثوابتها .
فكم من مدعٍ وصلاً بليلى ولكن ... هل تقر لهم ليلى بذاك ! وإن كانت ليلى لا تستطيع الآن لسبب أو لآخر أن تبدي وجهة نظرها في أدعياء الحب فلا نشك بأنها ستستطيع ذلك
===============
الاقتصاد الإسلامي وعولمة الاقتصاد
1/10/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والعولمة:
يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي بميزتين متناقضتين، الأولى فيما يتعلق بتشريعاته وأحكامه، والثانية فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، أما الأولى: فهي مُنَزّلة من لدن حكيم خبير، ولهذا جاءت تشريعاته الاقتصادية -كشأن سائر تشريعات وأحكام دين الإسلام- وسطاً بين النظام الاقتصادي الاشتراكي الشرقي المجحف، والنظام الرأس مالي الغربي الجشع.
فالإسلام يحث على العمل والكسب وفي الصحيحين: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالة يتكففون الناس) (1)، ولكن جعل للكسب ضوابط تحكمه وفقاً لمصالح عامة وحكم عظيمة، فأحل الله البيع وحرم الربا، ونهى عن معاملات كالاحتكار، وأنواعٍ من البيوع المحرمة، وحض على أخرى كعقود الإرفاق التي تجاوز فيها عن أمور راعاها في عقود المعاوضة، ووضع شروطاً تؤثر في الحكم على العقود وتبين الصحيح من الفاسد.
ثم أوجب في المال المكتسب حقاً معلوماً للسائل والمحروم، وأيضاً ندب إلى إخراج جزء منه كصدقة، كل ذلك وفق ضوابط ومعاير محكمة دقيقة.
ولم يكتف الشارع في النظام الإسلامي بسن القوانين التي تنظم العملية الاقتصادية المجردة، بل سن كذلك التشريعات التي تحكم الأخلاقيات والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتعاملون.
وقد بدأت البنوك العالمية في الاستفادة من نظرية البنك الإسلامي، والذي من صوره ما يعرف بالبنوك التساهمية، التي تقوم على أنواع من المضاربات وقد يتحمل فيها الزبون كلاً من الربح والخسارة مع الخضوع لمتغيرات السوق في تحديد معدلات الفائدة على رؤوس الأموال والودائع.
أما الميزة الثانية فهي عكس الأولى، وذلك فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، فهذه تتميز -في العقود الأخيرة- بالعقم والقصور، على الرغم من وجود الموجهات التشريعية التي تحث على إتقان العمل والإعداد وحسن التفكير والسياسة والتدبير.
وما زال هذا القصور قائماً والتقصير متواصلاً حتى يومنا هذا على الرغم من إمكانية الاستفادة من وسائل التقنية العالمية، وربما كان السبب في هذا التأخر والقصور هو مشاكل الإدارة العامة والخاصة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كافة مؤسساته على اختلاف مستوياتها اللهم إلاّ القليل النادر.
أما نظام العولمة الحالي فهو قائم على تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم، وهو النظام الذي تعطبه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعاً، فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دولٌ الفائض من إنتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه نوازع الشركات متعددة الجنسيات العملاقة أو حتى الشركات المحلية منها.
كما أنه لا مجال فيه لتشريعات سمحة تنظر إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أوتمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها ... إلى غير ذلك.(1/24)
"ومما لا شك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام فأصبحت المؤسسات متعددة الجنسية المائة الكبرى في العالم تتحكم بـ 20% من إجمالي أموال العالم كما أن 51% من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ49% الباقية فقط ويبدو في الإطار نفسه من المقارنة بأن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و(فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي.بي.ام) و(بي.بي) و(جنرال الكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم، كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبرماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها! بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا ... إلخ.
وللوصول إلى هذه المراحل دخلت المؤسسات الضخمة في شراكات مريبة من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى في أبسط حاجات حياته اليومية.
وهذا يسميه بعضهم بـ(الاستملاك الصامت)، أو قل بعبارة أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والناس مقيدين بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها، فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لازدهار المؤسسات المعنية وتوفير البنى الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة وحماية نظام التجارة الحرة في العالم.
وهذا ما سيضطر حكومات الدول النامية في نهاية المطاف للانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي"(2)، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية كالتي أشرنا إليها سابقاً، لايربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة، فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد محوره استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم.
ومن بعض ثمار هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم لبعض المواد الاستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة.
فلا عجب إن أثبتت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية، وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها تحت وطئة تضخم ديونها لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه دول مجتمعة!
وأخيراً وهو من الأهمية بمكان، النظام العالمي الاقتصادي نظام لا يخضع لأي تشريع إلهي، فما قضى به الرأسماليون هو التشريع الماضي سواءً خالف الوحي المنزل أو وافقه، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية والتي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة.
ولا شك أن نظام الإسلام هو النظام الجدير بأن يكون النظام العالمي البناء، والذي تعود مصلحته على جميع الشعوب سواءً أكانوا ضمن القطاع المالك المنتج، أو المستهلك المستخدم، وما يطلب من بني الإسلام ورواده، وخاصة أهل التخصص الاقتصادي والسياسي والإداري هو العمل على إيجاد آليات فعاله وأجهزة ومؤسسات تنفيذية، تتبناه وتبني اقتصاد دولها عليه، ومن ثم تبين محاسنه وتدعو الآخرين إليه، وعندها لن تستطيع الدكتاتوريات الوقوف أمامه إذا أقنعت الأمم به وتحولت الشعوب إليه، ووجدت فيه بديلاً لتلك المؤسسات الضخمة التي تحكمت في كل صغيرة وكبيرة من حياتها وكادت أن تملكها.
--------------
1 صحيح البخاري 1/435، وصحيح مسلم 3/1251.
2 مستفاد من مقال يتحدث عن كتاب المديرة المساعدة لمركز الأعمال الدولية والإدارة التابع لجامعة كمبردج، وهو بعنوان الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، الاستملاك الصامت، وقد نشر في جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 25/1/1423.
===============
دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي
تمهيد :
من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، مبدأ التوجيه الإداري للنشاط الاقتصادي ، وهذا المبدأ مؤسس في أصوله على نظرية التوازن الاجتماعي التي يعتمدها الإسلام أسلوبا وهدفا لتحقيق العدالة الاجتماعية. وبمقتضى هذا النظر يخضع النشاط الاقتصادي في حركته وتوجهه لإرادة الدولة بوصفها الممثل الشرعي للمجتمع غير أن هذا الخضوع مقيد بتحقيق الغاية الكبرى التي يستهدفها الإسلام وهي العدالة الاجتماعية من خلال فكرة التوازن الاجتماعي .
ومتي كانت العدالة الاجتماعية هي الغاية الكبرى التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها فإن كل الأساليب والوسائل التي من شأنها إدراك هذه الغاية تعتبر من قبيل إدراك المصلحة العامة التي يجب على ولي الأمر أو من يمثله العمل على تحقيقها وقد منحت الشريعة الإسلامية لولي الأمر سلطات تقديرية واسعة لتمكينه من إدراك العدالة الاجتماعية على الوجه الذي رسمه الشارع.
وتنقسم السلطات إلى نوعين:
سلطات غير مباشرة تنظيمية ورقابية ، تبيح لولي الأمر التدخل في الحياة الاقتصادية.
سلطات مباشرة إنتاجية وتوجيهية ترمي إلى القيام بمهام الإنتاج في بعض الفروع الإنتاجية ، وتوجيه الإنتاج في فروع إنتاجية أخرى بالصورة التي تتفق ومصلحة المجتمع .
أولا : التدخل غير المباشر للدولة :
مظاهر التدخل غير المباشر عديدة ومتنوعة منها ما هو تنظيمي ورقابي ومن ذلك ما يلي .
تدخل الدولة لتنظيم العمل ومراقبة ومنع الوسطاء الذين يستمدون كسبهم من جهل الجمهور لثمن السلعة فيحققون أرباحا غير مبررة من فروق الأسعار. ويبدو تدخل الدولة أيضا في منع الاحتكار وتسعيرة السلع التي تقوم حاجة جمهور الناس لها ، . وقد تقتضي المصلحة العامة إزالة ملكية عقار أو منقول أو إكراه صاحبه على تقديمه للاستثمار.
وأجهزة التدخل في هذه الميادين التنظيمية والرقابية هي ولاية الحسبة، ولها موظفون يتولون أمرها في كل قطر إسلامي والقضاء الذي له التدخل في العديد من الميادين السابقة وفي حدود اختصاصه
النوع الثاني من التدخل غير المباشر فتبدو أهم مظاهره في السياسة المالية للدولة الإسلامية . والحق أن مالية الدولة الإسلامية احتلت موضعا رئيسيا من الاقتصاد الإسلامي ، وظلت إلى زمن بعيد محركا لهذا الاقتصاد ومصدرا لقوته . فقد شرع الإسلام في تنظيم مالية الدولة أسسا ومبادئ تجاوزت أحدث النظم الوضعية في الجباية والإنفاق إذ اعتمد مبدأ تعدد الضريبة ، ففرض الزكاة كضريبة مستقلة تتناول الأموال جميعا النقدية منها والعينية(1/25)
كما فرض الخراج كضريبة على الأرض الزراعية والعشور كضريبة غير مباشرة على الصادرات والواردات . أما بالنسبة إلى الإنفاق فقد اختطت الشريعة الإسلامية سياسة إنفاقية هادفة اتسمت بالمرونة والعدالة ومكنت من خلال الممارسات في تطوير المجتمع المسلم والارتقاء به.
وبحلتنا لمالية الدولة في الاقتصاد الإسلامي سوف يتناول زاويتين رئيستين : زاوية الجباية وزاوية الإنفاق.
1/ النظام الجبائى الإسلامي :
لعل أهم ما يمتاز به الفكر الإسلامي المالي هو الاستقاء المباشر من الشريعة الإسلامية ، فقد تضمنت أحكاما عامة آمرة تتصل بتنظيم إيرادات الدولة ونفقاتها على نحو لا تعرفه المجتمعات من قبل ونصت منذ البداية على فرض ضريبة مباشرة على الدخل وهي الزكاة يلتزم كل مسلم امتلك قدراً محددا من الدخل المالي بأدائها كما نصت على الجزية التي يؤديها غير المسلم في مقابل ما تبذله الدولة المسلمة لحمايته وأيضا في نظير إعفائه من أداء الزكاة والخدمة العسكرية ، وفي نظير حماية الدولة الإسلامية للبلد.الذي يعيش فيه أما الخراج فقد فرضته الشريعة الإسلامية كضريبة عقارية على الأرض الزراعية في الأقاليم التي فتحها المسلمون .
وفي مجال الضرائب غير المباشرة هناك العشور التي تفرض على الواردات إلى البلاد الإسلامية وإلى جانب هذه الأنواع المختلفة من الضرائب نصت الشريعة الإسلامية على بعض مصادر الإيرادات العامة الأخرى كخمس الغنائم وما يعثر عليه من الركاز والمعادن وتركة من لا ورث له ومال اللقطة والمال الذي لا مالك له ، وأخيرا كل ما صولح عليه المسلمون ويجيز الفقه الإسلامي للأمام أن يفرض من الضرائب الدائمة أو المؤقتة ما تدعو إليه الحاجة وتستقيم به أحوال المسلمين.
2/نفقات الدولة الإسلامية :
تشير الفرائض المالية المتعددة للدولة إلى أهمية موارد الدولة الإسلامية وتنوعها أن هذه الأهمية وهذا التنوع يرتبط بالمهام الجسام التي ألقاها التشريع الإسلامي على عاتق الدولة في العديد من الميادين، وقد استلزمت هذه المهام نفقات كبيرة لتحقيقها . والهدف الأسمى الذي يرمي الإسلام إلى إدراكه من هذه النفقات هو تحقيق العدالة التوزيعية بوجه خاص والعدالة الاجتماعية بوجه عام ومن هنا استهدفت السياسة المالية للدولة التأثير على الإنتاج والتأثير على التوزيع من خلال سياسة إنفاقية هادفة .
فالدولة لا تقتصر وظيفتها على القيام فقط بالأعباء التقليدية كإقامة العدل والسهر على الأمن الداخلي وتهيئة الحماية ضد الاعتداء الخارجي كما كان الشأن في الدول الغربية إلى مطلع القرن العشرين . بل تتعدى مسؤولياتها كل هذه الأعباء لتشمل أعباء جديدة ، إذ تقوم بعدد من الوظائف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة ،وكذلك النفقات الاجتماعية والتعليمية والصحية والضمان الاجتماعي .
ثانيا : التدخل المباشر للدولة :
قبل أن نحدد المجالات التي يجوز للدولة التدخل فيها نقول متي تتدخل الدولة الإسلامية في النشاط الاقتصادي وما هي حدود ذلك التدخل ؟.
تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في عدة حالات :
أ/ تدخل الدولة إذا اثبت أن الأفراد عاجزين عن القيام بالنشاط الاقتصادي أو يقصرون فيه أو معرضون عنه كمد السكك الحديدية أو إقامة الصناعات الثقيلة، وكل ما تتعلق به حاجة الناس من الصناعات والمهن ،فإن للدولة عند الضرورة إجبار من يحسن ذلك عن إن امتنع عن القيام به .
ب/ إذا انحرف النشاط الاقتصادي عن الأصول الشرعية أو أضر بالصالح العام للمجتمع كإنتاج الخمور وإقامة المؤسسات والبنوك الربوية .
ج/ إذا أرادت الدولة أن تحقق قدرا من التنمية الاقتصادية لرفع مستوى المعيشة والرفاه العام لأفراد المجتمع
د/ في الحالات الاستثنائية كالحروب والمجاعات والحوائج .
من هنا نرى تدخل الدولة له مدى ، فلا يطلق للدولة العنان بالتدخل لمجرد شهوة ، فالتدخل ليس مصادرة أو منافسة الأفراد ، وإنما من أجل المصالح العامة دون مساس بحقوق الأفراد الشرعية، إلا إذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة وحتى يكون تدخل الدولة مشروعا فقد وضع الشرع الضمانات الكافية التي تكفل عدم تجاوز التدخل لأهدافه المشروعة ومن أهم هذه الضمانات : شرعية الحاكم وهي عقد البيعة الذي يبرم بين الحاكم والأمة، وعدالة الحكم ، وخضوع الدولة لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا مطلقا لا استثناء فيه .
مجالات تدخل الدولة :
1/ في مجال التصرفات الفردية : فالدولة لا تدخل في التصرفات الفردية إلا إذا انحرفت هذه التصرفات عن الجادة أو عندما تشعر الدولة بأن الفرد لا يحترم الجماعة ، أو أنه يعمل ويتصرف بما يلحق الضرر بالجماعة وفي هذه الحالة تتدخل الدولة لمنع الضرر عن الناس فهناك بعض التصرفات التي تعتبر في نظر الإسلام من الأعمال الضارة بالمجتمع كالربا والغش والاحتكار والإسراف والاستغلال ومجموعة من البيوع المحرمة المنهي عنها.
2/ في مجال العمل : تتدخل الدولة بمنع العمل المحرم شرعا كالبغاء والفجور والقمار وصناعة الخمر ، وأعمال الشعوذة والسحر ، وغير ذلك مما هو محرم في الشريعة الإسلامية . كما تقوم الدولة بمراقبة الأعمال الجائزة شرعا عن طريق ولاية الحسبة التي تهدف إلى مراقبة الأسواق وسير العمل فيها وفق ضوابط الشريعة الإسلامية .
ويجوز للدولة ـ إذا دعت الضرورة إلى ذلك - أن تجبر بعض أهل الصناعات على القيام بما يحتاجه الناس من صناعتهم مقابل أجر المثل .
3/ في مجال الملكية : تمنع الدولة الطرق غير المشروعة في الكسب كالربا والقمار والرشوة والعقود الباطلة المشتملة على الغرر والغبن الفاحش . كما تقوم الدولة بمنع الأعمال الضارة بالمجتمع بشكل عام كالاحتكار ونحوه . ويجوز للدولة ـ عند الحاجة- أن تتدخل في فرض الأسعار وتحديد مقدار الربح ، وذلك عندما تستدعيه الضرورة العامة وحماية مصالح الجماعة .وقد تقتضي المصلحة المحققة إزالة ملكية إنسان في مقابل ثمنها العادل وبصفة عامة يجوز للدولة التدخل في الحياة الاقتصادية واتخاذ ما تحقق به مصالح الناس في أمور معاشهم كتنظيم بعض المهن ووضع اللوائح المنظمة لبعض القطاعات كالزراعة والصناعة ووضع القواعد العامة للتصدير والاستيراد والمراقبة عليها وغير ذلك .
ومع ذلك فإن تدخل الدولة له مدى فلا يطلق للدولة العنان بالتدخل لمجرد شهوة أو نزوة ، فالتدخل ليس مصادرة أو تأميما أو منافسة للأفراد والمؤسسات أو فرض اتجاه معين ، وإنما من أجل الصالح العام دون المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم المشروعة ، فالتدخل له حدود كما أن هناك مجالات لا يجوز للدولة التدخل فيها مثل فرض نظام اقتصادي واجتماعي محرم ،أو المنع مما أحل الله أو الإضرار بمصالح الأمة .
خاتمة
نخلص كل ما سبق أن الإسلام قد وضع إطارا عاماً للسياسة الاقتصادية للدولة الإسلامية يقوم على فلسفة الوسيطة والاستناد إلى مبادئ عامة أخصها مبدأ التوجيه الاقتصادي ومبدأ التوازن الاجتماعي .وخلص البحث إلى قواعد عديدة يمكن أن يبنى عليها بحق نموذج إسلامي رائد في التنمية الاقتصادية .وواقع التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم لا ليدعوا إلى وقفة تأمل ومراجعة يعاد من خلالها النظر في المطبق من نماذج التنمية الاقتصادية في ربوعه .فهذه النماذج في غالبها مستورة منقولة سواء من الشرق الشيوعي أو الغرب الرأسمالي . وبالتالي فقد صيغت مقوماتها على أساس الأوضاع الهيكلية للبلد الأم .(1/26)
ومتى كانت هذه الأوضاع مختلفة متباينة في النوع والدرجة من بلد إلى آخر ، بل ومن إقليم إلى آخر داخل الدولة كان من الطبيعي أن يؤدي نقلها وتطبيقها في بلد آخر أو في إقليم آخر إلى نتائج سلبية ، إذ عاشت هذه النماذج في التطبيق غريبة كل الغرابة عن الواقع الهيكلي للدولة الإسلامية التي أخذت بها لأن النقل لم يتناول في الواقع سوى الجانب المادي من النموذج ( أي تنظيماته ووسائله ) دون الجانب المذهبي ، لأن هذا الجانب الأخير لا يمكن أن يتناوله الاستيراد والنقل .وهكذا انقطعت الصلة العضوية بين النموذج وأصوله الفكرية والمذهبية ، تلك الأصول التي كانت ثمار تطور فكري طويل أسهمت في تكوينه عوامل عديدة من فلسفية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية وغيرها
إن استبعاد الأخذ بنماذج التنمية الاقتصادية المعمول بها في دول الغرب الرأسمالي أو دول الشرق الشيوعي يقوم على مبدأ أساسي أكدته التجارب التاريخية وهو أن حلول مشاكل التخلف الاقتصادي والاجتماعي لايمكن أن تصنع في الخارج . فالتخلف ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية لا بد وأن تجد علاجها في واقع البلد المتخلف ذاته . ومن هنا كانت الأصالة الفكرية شرط ضروري ولازم لانطلاق عجلة التنمية .فصياغة نماذج تنمية جديدة بعيدا عن المؤثرات الإيديولوجية المستوردة تعتبر في يقيننا الواجب الأول الذي يقع على عاتق كل مسؤول عن التنمية في البلد المتخلف وهنا تفرض النظرة الإسلامية سلطانها على اعتبار أن الإسلام تراث فاعل تمتد رؤاه الفلسفية إلى أعماق الواقع الاجتماعي والاقتصادي .
أهم مراجع البحث
1) الاقتصاد الإسلامي ـ مقوماته ومناهجه / د. إبراهيم دسوقي أباظه دار لسان العرب /لبنان / منشورات يوسف خياط
2) مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام / د. سعيد سعد مرطان / مؤسسة الرسالة / بيروت / الطبعة الأولى 1406ه ـ 1986م
3) النظام الاقتصادي في الإسلام / محمود بن إبراهيم الخطيب / مكتبة الحرمين / الرياض / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م
4) النظام الاقتصادي في الإسلام / د. محمد عبد المنعم عبد القادر عفر / دار المجمع العالي / جدة 1399ه ـ 1989م
5) من مبادئ الاقتصاد الإسلامي / محمود بن إبراهيم الخطيب / دار طيبة / الرياض / 1409ه ـ 1989م
6) النظرية الاقتصادية في الإسلام / فكري أحمد نعمان / المكتب الإسلامي بيروت / الطبعة الأولى 1405ه ـ 1985م /دار القلم / دبي
7) النظرية الاقتصادية في منظور إسلامي / د. شوقي أحمد دنيا / مكتبة الخريجي الرياض / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م
8) المذهب الاقتصادي الإسلامي / د. عدنان خالد التركماني / مكتبة السوادي / الطبعة الأولى 1411ه ـ 1990 م
9) أصول الاقتصاد الإسلامي / د. توفيق يونس المصري / دار القلم دمشق / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م / الدار الشامية بيروت
10) الاقتصاد في الإسلام / حمزة الجميعي الدموهي / دار الأنصار / مصر الطبعة الأولى 1399ه ـ 1979م
11) المذهب الاقتصادي في الإسلام / د. محمد شوقي الفنجري / دار الصحوة / القاهرة الطبعة الأولى 1405ه 1985م
12) التفكير الاقتصادي في الإسلام / د. خال عبد الرحمن أحمد / لم يكتب الطابع ولا تاريخ الطبع
13) الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق ( دراسة مقارنة ) أشرف على ترجمته إلى العربية : د. منصور إبراهيم التركي / المكتب المصري الحديث / الإسكندرية
14) النظام الاقتصادي في الإسلام ( مبادئه وأهدافه ) د. محمد أحمد العساد ود. فتحي أحمد عبد الكريم . مكتبة وهبة / القاهرة / الطبعة الثانية 1397ه ـ 1977م /
15) موسوعة الاقتصاد الإسلامي ودراسات مقارنة / د. محمد عبد المنعم الجمال / دار الكتاب المصري / القاهرة الطبعة الأولى 1400/هـ ـ 1980م / دار الكتاب اللبناني / بيروت
16) مبادئي الاقتصاد / د. محسون بهجت جلال / مؤسسة الأنوار / الرياض / الطبعة الأولى 1389ه ـ 1969م
===============
دراسة حديثة عن الاقتصاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم: د. عبد الحليم عويس
عرض وتلخيص: أحمد مصطفى عبد الله
في دراسة مميزة في مجالها حول "الاقتصاد في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم" أكد الدكتور عبد الحليم عويس أستاذ الحضارة الإسلامية بالجامعات المصرية والعربية أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أقام للمدينة المنورة كيانا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا مستقلا لتحقيق هيبتها داخليا وخارجيا.
وشدد الدكتور عويس ـ في دراسته التي تنفرد "الرابطة" بنشرها ـ على أن خبرة الرسول صلى الله عليه وسلم التجارية المستمرة في مكة قد أعانته كثيرا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية، مشيرا إلى أن إنشاءه الأسواق خاصة في المدينة في مواقع متميزة من الأدلة الساطعة على ذلك.
وقد تناولت الدراسة مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتصادية في كل من مكة والمدينة، مشيرة إلى أن علاقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرعي والتجارة بدأت مبكرة تأثرا بالبيئة التي نشأ فيها. كما أن السمعة التجارية الطيبة للرسول ولقبه "الأمين" جعلا السيدة خديجة تختاره للتجارة ثم الزواج.
وأوضحت الدراسة أن الإخاء الإسلامي الذي قدم الأنصار والمهاجرون أروع نماذجه كان تطبيقا لتوجيهات القرآن والسنة.
كما أوضحت الدراسة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في القضاء على نزعة احتقار بعض المهن والحرف والظواهر التجارية المدمرة للمجتمع.
وأبرزت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الديون في صكوك حتى لا تصبح الحركة التجارية عرضة لتقلبات النفوس والأهواء.
وفي السطور التالية نتعرف على أهم ما جاء في الدراسة.
من المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في مكة، المدينة التجارية الكبرى في جزيرة العرب، إلى جانب أنها المدينة المقدسة.. وكانت لقريش رحلتان ثابتتان.. إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ، والثانية بالصيف إلى الشام.
ولما جاء هاشم بن عبد مناف سيد قريش أمر بنوع من التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين قريش كلها غنيها وفقيرها حتى اقترب غنيهم من فقيرهم، وظهر الإسلام وهم على ذلك، وبالتالي فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش.
وفي هذه البيئة ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أمرا طبيعيا أن ينزع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى "الرحلة" بعد أن كان يرعى الغنم في صغره، ومن الوقائع الثابتة أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مع قوافل قريش عندما كان عمره يتراوح بين التاسعة والثانية عشر، وذلك حين تعلق بعمه أبي طالب حين أزمع السفر إلى الشام للتجارة، فأخذه معه في الرحلة التي التقى فيها أبو طالب بالراهب بحيرا الذي تنبأ برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وخشى عليه من اليهود لو عرفوه، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.. وهكذا نرى أن صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعي تارة وبالتجارة تارة أخرى بدأت معه عليه السلام بداية مبكرة تأثرا بالبيئة التي يعيش فيها.(1/27)
لكن الحدث التجاري الفاصل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقع حين لجأت خديجة إلى محمد بن عبد الله تستأجره ليضارب في مالها بعد أن بلغها الكثير من صدق حديثه وأيضا لأمانته وكرم أخلاقه، فلهذا عرضت عليه _كما يقول ابن إسحاق _ أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يسمى ميسرة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وخرج في مالها ومع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، فاشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة الذي حكى عن أمانته وتوفيق الله له ما شاء أن يحكي، ورأت خديجة أيضا أن أرباحها ضوعفت فرغبت فيه زوجا، وكانت أسن منه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على ذلك منها لو قدروا عليه، وكانت له نعم الزوج.
سمعة تجارية طيبة
إننا نستخلص من تحليلنا لسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم التجاري والاقتصادي أنه صلى الله عليه وسلم تعلم التجارة منذ الصغر، وان سمعته التجارية الطيبة ولقبه الأمين جعلا السيدة خديجة تختاره للتجارة أولا، ثم تختاره زوجا ثانيا، فأمانة الإنسان سبيل نجاحه وهي أهم رأس مال يستثمره الإنسان في التجارة، فإذا اجتمع مع الأمانة الصدق _ كما اجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم _ توافرت الأرضية التجارية السليمة، فإذا أضفنا إلى ذلك ذكاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقوته ومهارته، أي جمعه صلى الله عليه وسلم بين القوة والأمانة والصدق، تحقق النموذج المثالي الذي يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ".
ومما نستخلصه من هذا التحليل أيضا: الإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بنفسه على أهمية العمل، وها هو أمامنا قد عمل قبل الرسالة في الرعي والتجارة، وها هو بعد الرسالة يعمل في بناء المساجد، وفي حفر الخندق وفي جمع الحطب، ويعمل في خدمة أهله.
وبما أننا نميل إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له نوع إشراف على تجارة خديجة بعد زواجه منها، وأنه لابد أن يكون له حضوره _ إشرافا وتوجيها ومراقبة _ فلهذا نؤمن بأن خبرة الرسول صلى الله عليه وسلم التجارية المستمرة في مكة قد أعانته كثيرا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية، ونحن نعد إنشاءه الأسواق خاصة في المدينة في مواقع متميزة من الأدلة على ذلك.
كما أننا نعد تنظيمه صلى الله عليه وسلم لأسلوب التكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ _ الذي يضم أصحاب البلد بثرواتهم ووافدين بلا ثروات وليس لهم إلا خبراتهم السابقة _ من أقوى الأدلة على عبقريته الاقتصادية، يضاف إلى ذلك تقديره لقيمة العمل الحرفي واليدوي (الزراعي والصناعي) وفسحه المجال أمام المرأة المسلمة ليكون لها حضورها في بناء الاقتصاد الإسلامي.. إنه الوحي الصادق.. مع العقل الواعي.. ومع الخلق الزكي الراقي!!
خصائص الاقتصاد الإسلامي
إن من خصائص الاقتصاد الإسلامي التي تتفرد بها نظرته هي أن الملك كله والمال كله لله سبحانه وتعالى، وليس للإنسان من الاستخلاف في هذا المال إلا ما يجنيه _ بعمله وسعيه _ من صالح الأعمال المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية.
كما أن من خصائصه وجود حق معلوم في المال لغير مالكه، فالمال في المفهوم الإسلامي هو مال الله، والناس مستخلفون فيه، وعليهم رعاية الفقراء (عيال الله) على أساس انهم مجرد وكلاء لله.
ويضاف إلى هذه الخصائص مشروعية المال وحله، ووضعه في محله المشروع أيضا، فلا يعد في الإسلام ملكا مشروعا إلا إذا كان مصدره حلالا، وينفق في الوجوه المشروعة.
وقد أظهر الرسول اهتمامه بسيادة هذا المفهوم الإسلامي العادل المتوازن منذ استقرت له الأمور في المدينة، فقد روى الطبري عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ"، فأحسنوا الكيل، وذلك أن الرسول كان كثيرا ما يخرج إلى الأسواق ويقرأ هذه الآية وما بعدها على التجار، وهم يزاولون البيع والشراء.
والحق أن للمال والاقتصاد مكانة متميزة في الإسلام غير أن هذه المكانة لا تجعلهما هدفا للحياة ولا مقياسا للرقي _ إذا وقفا وحدهما _ فلهما حد معلوم، ويجب أن يكونا وسيلة لا غاية وأن يؤمن المسلم _ كما رباه الرسول _ بأن القيم والمعاني الأخرى لا تنفصل عن المادة.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غني النفس"، ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم معنى الإفلاس، وأنه تجرد الإنسان من الأخلاق الحسنة.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
وهناك حديث أخر يؤكد أن الغنى في نفسه خير، وأنه لا يأتي بالشر، ولكن الشر مصدره الشر المستكن في النفوس الوضيعة المادية حتى وان كانت تملك أعراضا كثيرة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟، قال: "زهرة الدنيا"، فقال رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم جعل يسمح على جبينه، فقال: "أين السائل"؟ قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدنا حين طلع ذلك، قال: "لا يأتي الخير إلا بالخير".
أسباب الغنى الشامل
من أجمع الأحاديث وأشهرها على ألسنة الناس في باب القناعة والصبر الذي لا يمنع من الأخذ بالأسباب قوله عليه السلام: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وهذا الحديث بالإضافة إلى أنه يقنع النفس بالقليل، هو أيضا يحذر من أن يسأل الإنسان الناس وعنده حظه من الأمن والمعافاة والقوت.
وخشية أن يفهم هذا الحديث وأمثاله على غير حقيقته يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تكثرا، فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر"، ويحدد النبي صلى الله عليه وسلم القدر الذي لا يحل للمرء أن يسأل الناس بعده شيئا : "من سأل الناس وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم"، قالوا وما يغنيه؟، قال: "قدر ما يغذيه ويعشيه".
والنبي صلى الله عليه وسلم يحث أمته على أسباب الغنى الشامل فيقول: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".(1/28)
وفي هذا السياق أيضا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره، فيتصدق منه، ويستغنى به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"، والنبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى الإنفاق في سبيل الحاجة، مصداقا لقول الله تعالى: "وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ"، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه الفقير (أبا ذر) الذي كان يتزعم حركة إصلاحية كبيرة حتى اشتهر بمحامي الفقراء قائلا له: "أبا ذر إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك".
وكذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتصاد، والإبقاء على ما يغني الأهل عن تكفف الناس.. يقول صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
ويمتدح النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه عرفوا بمظهر من مظاهر الاقتصاد والتعاون والتنمية، وهم الاشعريون، حيث يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الاشعريين إذا أرملوا في الغزوة، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم".
تكافل اجتماعي
ومن أروع الأحاديث التي تتصل بموضوع الاقتصاد والتكافل الاجتماعي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأى أصحابه أنه لا حق لأحد منهم في فضل".
ولما كانت التجارة هي أوسع أبواب الرزق، وكان التجار أقرب من الزراع والصناع في مجال الثراء الفاحش، وما يؤدي إليه من ترف وجشع فلهذا خصص الرسول التجارة والتجار بعدد من التوجيهات النبوية الكريمة.
فانطلاقا من الوحي الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم الأوضاع الجاهلية الفاسدة في عالم الاقتصاد.. سواء كانت هذه الأوضاع عادات وتقاليد فاسدة، أم كانت نظما ترسخ وأصبحت قوانين سائدة.
وبينما نجح الرسول الكريم عليه السلام _ بالقول والفعل _ في القضاء على نزعة احتقار الزراعات والمهن والحرف، واحتقار القائمين بها.. كذلك نجح الرسول بالقول والفعل ومن خلال النظم المقررة في دولة المدينة التي كان الرسول قائدها وقاضيها ومعلمها _ في القضاء على الظواهر التجارية المدمرة للمجتمع، التي يلجأ إليها اليهود لامتصاص ثروة المجتمع الإسلامي دون عمل أو كدح أو مغامرة وحتى العباس عم النبي كان (صاحب ربا) في الجاهلية، فوضعه الرسول، وقال: "ألا إن كل ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع هو ربا عمي العباس.. (كما ورد في خطبة الوداع).
كما أن الرسول حث التجار على التسامح في قوله: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى".. وهذا يعني _ ضمنا _ التجاوز عن المعسرين، والإرجاء في الدين إلى ميسرة وإبطال ما كان معروفا عند العرب من أن الدائن يأخذ من المدين عند تعذر قضائه لدينه عبدا، أو ولدا من أولاده، حتى يقضي ما عليه.
وحتى لا تصبح الحركة التجارية عرضة لتقلبات النفوس والأهواء أمر الرسول بكتابة الديون في صكوك.. وكان الرسول يأمر بأن يكتب ما يبيعه ويشتريه.
وكذلك حث الرسول على الصدق في التجارة، وبين أن البركة في هذا الصدق، فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، وقد نهى الرسول عن الغش، فقال: "من غشنا فليس منا"، كما نهى الرسول عن الحلف لترويج السلعة، فقال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وذكر منهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب".
وقد منع الإسلام الاتجار بالأشياء المحرمة كالخنزير أو الخمر فعن أبي سعيد الخدري قال: كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت سورة المائدة سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عنه وقلت إنه ليتيم فقال: "أهريقوه"، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار فقال: "لا يحتكر إلا خاطئ".
وقد نهى الإسلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مخافة أن يقع ظلم على المشتري.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان والشراء منهم حتى يصلوا السوق، فقد ورد عن نافع عن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أنه قال: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به السوق".
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراقب الأسواق ويوجه إلى التخلص من أية سلبيات تظهر فيها، فالرسول _ عمليا _ كان أول محتسب وإمام المحتسبين في تاريخ الإسلام.
تعاون اقتصادي وإنساني
في الفترة المكية لم تكن هناك فرصة أمام المسلمين _ وهم أفراد مبعثرون مضطهدون _ للتفكير في إقامة كيان اقتصادي، وكان حسبهم في تلك الفترة أن يتعاونوا على توفير الحد الأدنى من التكافل الاجتماعي القائم على التعاون الاقتصادي والإنساني، وفي هذه المرحلة قام رجل مثل أبي بكر الصديق بشراء بعض المسلمين من العبيد وتحريرهم، ثم رعايتهم بعد ذلك.
وليس لدينا وثائق تدل على ممارسة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، ولا المسلمين المضطهدين في مكة لأية نشاطات تسمح لهم بأن يشكلوا كيانا اقتصاديا متميزا، بل إننا لنعرف أن أثرياء المسلمين وتجارهم مثل خديجة _ أم المؤمنين _ ومثل أبي بكر الصديق _ رضي الله عنهما _ قد تعرضوا لضغوط اقتصادية كثيرة، ولعل الحصار الذي فرض عليهم في شعب أبي طالب _ والذي كان من بنوده ألا يشتري منهم ولا يباع لهم _ من أقوى الأدلة على وجود روح عامة كانت تفرض عليهم حصارا اقتصاديا طيلة العصر المكي بدرجات متفاوتة.
ولم يقف ظلم قريش عند هذا الحد الذي يتجاهل أبسط حقوق الإنسان، بل إنها أقدمت على خطوة لم تمارسها إلا أبشع النظم الاشتراكية والشيوعية، وهذه الخطوة تقوم على مصادرة أملاك المسلمين وأموالهم التي يعجزون عن الهروب بها فرارا بدينهم، فمن المعروف أن المسلمين كانوا يتركون مكة وطنهم أفرادا مختفين في جنح الظلام، وفي هذه الحالات يصعب حمل أشياء من الأملاك الثقيلة، مكتفين بالحاجات الأساسية التي لابد منها في الطريق.
فلما هاجر معظم المسلمين متجرعين آلام الهجرة لأوطانهم ومساكنهم وبعض ذويهم اتخذ المشركون القرشيون قرارهم بمصادرة أموال المسلمين وأملاكهم، وتقسيمها فيما بينهم وكأن أصحابها هلكوا.
وكان من نتائج هذا القرار الجائز أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة منتصرا بعد الهجرة بثماني سنوات سأله أسامة بن زيد قائلا: يا رسول الله، أين تنزل غدا؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"، (وعقيل هذا هو أكبر أولاد عم الرسول _ أبي طالب _ ومع ذلك فقد عادى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع يده على أملاك الرسول وكأنه هو وارثه).. وعلى هذا تم تقسيم أملاك المهاجرين من مكة.
قيادة حكيمة(1/29)
إن المرحلة المكية كانت بعيدة عن كل ما يتصل بوجود كيان اقتصادي ملموس للمسلمين المهاجرين، وقد هاجروا إلى المدينة وهم لا يملكون شيئا من شأنه أن يقيم حياتهم بطريقة استقلالية، ولولا قيادة الرسول الحكيمة، وإلهام الله له لما أمكن قيام دولة المدينة التي لا يملك جزءا كبيرا منها المقومات المادية الأساسية للحياة، ولكن قاعدة المؤاخاة التي بنى عليها الرسول العلاقة بين المهاجرين الوافدين وبين الأنصار أهل المدينة الأصليين هي التي نجحت في استيعاب هذا الموقف والانتصار عليه بدرجة مذهلة، فقد كان عدد أفراد المهاجرين كبيرا.
وكانت يثرب مدينة صغيرة يعمل أهلها في الزراعة، وكانت سوقها التجارية في يد اليهود، ولم يأت المهاجرون معهم برأس مال يصلح لمنافسة اليهود.. لكن روح المؤاخاة صنعت أواصر أقوى من أخوة النسب وأبعد منها مدى، لدرجة أنهم بهذه المؤاخاة توارثوا لفترة من الزمن، فقد كانت هذه الاخوة قوية لدرجة أن الأنصار قسموا أموالهم قسمين، وأعطوا قسما للمهاجرين، ولعل نموذج التعامل بين عبد الرحمن بن عوف المهاجري، وسعد بين الربيع الأنصاري يدلنا على طبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين المهاجرين والأنصار في واحدة من أرقى صورها، ذلك أن المهاجرين من جانبهم لم يقبلوا أن يكونوا عالة على إخوانهم الأنصار.
لقد قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: إني أكثر الأنصار مالا فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبها إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها.
قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن.
وهذا النموذج الذي قدمه عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع يدل على علاقة اقتصادية واجتماعية بدأت تتشكل في كل مجتمع المدينة، ومجتمع المسلمين الأول.
فالحقيقة أن الإخاء الإسلامي الذي قدم الأنصار والمهاجرون أروع نماذجه كان تطبيقا لتوجيهات القرآن، وكان كذلك تطبيقا لتوجيهات الرسول الذي يقول: "ما آمن بي رجل بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم..".
وهذا الإخاء _ في هذا المستوى الأعلى الذي قدمه مجتمع المدينة _ ظل يعمل عمله في الحضارة الإسلامية، بتأثير التوجيه النبوي، الذي جعله فريدا في بابه.
إحياء الأرض الزراعية
إن المهاجرين عندما وفدوا إلى المدينة استقبلهم إخوانهم الأنصار ـ انطلاقا من قاعدة المؤاخاة ـ بحب وإيثار لم يعرف تاريخ البشرية مثلهما، لدرجة أن الأنصار استحقوا أن يقول الله فيهم في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكان مما عرضوا عليهم أن يقسموا بينهم أموالهم وأرضهم ودورهم.. لكن المهاجرين شكروا لهم كرمهم، وحملوا في شتى مناشط الحياة مع إخوانهم الأنصار.. وكان الأنصار أصحاب مزارع فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال: لا.. فقالوا تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
وقد بدأت عملية مزارعة كبرى في المدينة أعقبتها حركة إحياء للأرض الزراعية المهملة.. وفقا للقاعدة الشرعية التي وضعها الرسول عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا مواتا فهي له".
وقد أقطع الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب عيونا بينبع اشتهرت فيما بعد بكثرة إنتاجها، وعمل فيها علي رضي الله عنه بنفسه.
كما أقطع الزبير بن العوام أرضا بالمدينة استثمرها في الزراعة في حياة الرسول.
وقد اشتهرت الكثير من الأودية التي انتشرت الزراعة بها في عصر الرسول، منها وادي العقيق الذي هو أهم أودية المدينة وفيه أموال أهل المدينة ومزارعهم، وكذلك من الأودية المهمة التي استخدمت للزراعة في المدينة وادي بطحان، وكانت به مزارع بني النضير وأموالهم، وكذلك وادي مهزوز كانت به أموال قريظة، ووادي قناة وهو ثالث أودية المدينة، ووادي رانونا.
وكذلك من الأودية التي استفيد من أرضها بالزراعة وادي القرى، وكذلك عرف في الطائف الكثير من الأودية التي استفيد منها بالزراعة أهمها وادي "وج" ويقع غرب الطائف وفيه الكثير من المزارع والبساتين وترفده بعض الأودية الأخرى، كذلك وادي "ليه" ويقع شرق الطائف وبالقرب منها.
ولم يكن المهاجرون والأنصار وحدهم الذين أقاموا النهضة الزراعية في المدينة المنورة، بل كان ضمن العاملين بالزراعة في المدينة وغيرها من مدن الحجاز شباب آخرون من الأجانب الذي اسلموا والتحقوا بالمدينة، سوريين أو مصريين أو رومانيين أو عراقيين.
ومما يدل على كثرة الموالي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما حاصر الطائف وأعلن عتق من ينزل إليه من الموالي نزل إليه ثلاثة وعشرون عبدا من الطائف.. وكانت هناك مجموعة كبيرة من الموالي الأحباش يعملون في المدينة في حقول الأنصار، ويدل على وجودهم الملموس انهم حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الهجرة خرج هؤلاء الأحباش واجتمعوا ولعبوا بحرابهم فرحا بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يكون للمدينة كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستقل، اعتمادا عل التشابك القائم بين مجموعة النظم في إقامة كيان الدولة وتحقيق هيبتها الداخلية والخارجية.
وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وأقام سبعة أشهر في بيت أيوب الأنصاري، قام الأنصار بالتنازل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل فضل كان في خططهم.. حتى يتمكن من تنظيم المدينة تنظيما يسمح بكفالة إخوانهم المهاجرين، بل إنهم _ رضي الله عنهم _ قالوا للرسول: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا.. فشكر الرسول لهم قولهم.
مجتمع السواسية
من هذه المسيرة العملية يستخلص الاقتصاديون المعاصرون بعض القواعد الاقتصادية النظرية التي يستند إليها النظام الاقتصادي الإسلامي الذي أقامه الرسول في عقول المسلمين وفي حركة الحياة، مشيرين إلى أن هذا الأساس النظري الاقتصادي الإسلامي يتضمن أكثر من نظرية علمية منبثقة من آيات القرآن الكريم، والحديث الشريف.
ويرى هؤلاء الاقتصاديون أن المبادئ الأساسية من البناء الاقتصادي العلمي الذي أقامه الرسول يتلخص في المبادئ التالية:
< أولا: نظرية دورة الإنفاق الخيرة، وهي تطبق في أوقات الرخاء والكساد معا (فلا جمود ولا توقف ولا اكتناز ولا احتكار ولا ربا).
< ثانيا: الحد من أرباح الوساطة، وتحريم الربا والاستغلال بصفة عامة.
< ثالثا: الملكية الخاصة وظيفة اجتماعية وليست حقا مقدسا، ولا يجوز أن تنفصل عن العمل لتصبح أداة لاستغلال عمل الغير.
< رابعا: إقامة مجتمع السواسية والمقاسمة المقنعة والطوعية في الأموال والخبرات، وهكذا أقام الرسول مجتمعا مؤمنا ملتزما له فكره الاقتصادي المربوط بقواعد الإيمان، والقائم على الاقتناع الداخلي الذي يصل حد الكفاية والزهد والاستعلاء، ويقدم أروع صور التكافل الاجتماعي القائم على الحب والإخاء والإيثار.(1/30)
ولم يكتف الرسول بهذا البناء الاقتصادي القائم على التكافل، بل عمل على بناء الإنسان جسدا كما بناه عقلا وروحا وفكرا.. ولهذا أمر بالرياضة ولا سيما الرمي، وحث على القوة، وفضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف، ووجه إلى علمى الوقاية والعلاج، وعلم المسلمين أن لكل داء دواء إلا الهرم، فعليهم أن يعملوا على الحفاظ على صحتهم والعلاج إذا مرضوا.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وابن ماجة رحمهما الله: "ما أنزل الله داء إلا أنزل به شفاء"، ومعنى هذا التوجيه أنه ليس هناك من مرض إلا ود خلق الله تعالى له دواء وشفاء، وليس هناك أي قول آخر يشجع على تحصيل العلم في ميدان الطب مثل هذا القول الوجيز الجامع والشامل، فقوله هذا _ عليه الصلاة والسلام _ يعني أنه ما من داء إلا وله دواء، أي يمكن العثور على أدوية لكل الأمراض الموجودة إلا الشيخوخة وذلك بعد توفيق الله وعنايته.
وفي رواية أخرى: "لكل داء دواء"، وفي حديث آخر: "تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم".
ورسول الله بهذه الأحاديث وبأحاديث أخرى مشابهة يدعو أهل العلم جميعا، وجميع من آتاهم الله موهبة وفضلا، وجميع الباحثين إلى تكثيف جهودهم وبذل مساعيهم لاكتشاف الأدوية ووسائل العلاج.
وهناك أحاديث أخرى مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في علم الصحة،ولا سيما فيما يتعلق بـ "الطب الوقائي" الذي يشكل جزءا مهما من علم الطب، وهذا شيء طبيعي، ذلك لأن علاج المرض ليس هو المهم، بل الأهم منه هو حفظ صحة الإنسان، وحمايته من المرض.
فبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بإصلاح أمراض القلوب والنفوس، كان يقوم أيضا بحماية المؤمنين من الأمراض الجسدية، أي أنه كان يقوم بحفظ أتباعه وصيانتهم من الأمراض النفسية والقلبية والجسدية كلها، وذلك انطلاقا من أن الإنسان كائن مركب، وأنه إذا فسد منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وانطلاقا من أن العقل السليم والروح السليمة يحتاجان لجسد سليم، فالإنسان كل لا يتجزأ.
================
خصائص الاقتصاد الإسلامي
الحمد لله الذي أحل البيع وحرم الربا ، والصلاة والسلام على النبي القائل ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ) و ( من عصاني فقد أبى ) وبعد : فقد ألقيت مجموعة محاضرات في دورة عن أحكام البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ، نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مشكورة ، وحضرها مجموعة من طلبة العلم ، تخرج منهم خمسون طالبا ، ووزعت الجمعية التعاونية جزى الله القائمين عليها كل خير ، جوائز على المتفوقين فيها ، وقد ألحوا علي أن أراجعها وأطبعها وأنشرها ليعم النفع ، فتعذرت بكثرة الأشغال ، فما زادهم ذلك إلا إلحاحا وإصرارا ، فاستجبت لهم ، وراجعتها ، وأعددتها للطباعة ، وها هي تنشر على شبكة ( الإنترنت ) أولا ، ريثما تنتهي من المطبعة بتوفيق الله تعالى . وقد تضمنت المحاضرات : أولا : مقدمة عن خصائص الاقتصاد الإسلامي . ثانيا : أسباب تحريم البيوع في الشريعة . ثالثا : شروط البيع . رابعا : الشروط في البيع . خامسا : الخيار . سادسا : الربا . سابعا : الشركات . ثامنا : البنوك الإسلامية . تاسعا : أحكام بعض العقود والبيوع المعاصرة . كل ذلك بأسلوب سهل ميسر ، مقرب إلى الفهم ، ولهذا أسميت هذه الرسالة الصغيرة ، تيسير بعض أحكام البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ، والله تعالى أسأل أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، لينفعني يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم آمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . حامد بن عبد الله العلي ،السادس من ربيع الأول 1423هـ أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي أولاً - الانطلاق من العقيدة : وهذه أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي ، ولو نزعت منه هذه الخاصية لم ينجح ، وننوه هنا إلى أن الإيمان هو الاسم الوارد في الكتاب و السنة ، بدل كلمة العقيدة ، وذلك لدلالته على الهدف الأسمى من الإيمان وهو الأمن ، فلفظ الإيمان يطوي تحته هذا المعنى العظيم ، كما قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ، ولهذا فاستعمال هذا اللفظ بدل العقيدة ، أولى وأفضل ، فالإيمان كلمة خفيفة على النفس وحروفها سهلة ، وتشعر النفس بانجذاب نحوها ، كما أنها تدل أيضا على الانقياد ، بمعنى أن الله تعالى يريد بالإيمان التصديق الذي يتبعه انقياد ، وكلمة الإيمان تدل على هذا المعنى ، ذلك أن معناها ليس التصديق ، وإنما تصديق مع انقياد . ومما يدل على ارتباط الاقتصاد بالإيمان : قوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } . ففي هذه الآية الكريمة ، بيان أن الإيمان والتقوى أهم أسباب الازدهار في الاقتصاد الإسلامي ، وهما سبب للبركات والرفاه ، كما يقول الاقتصاديون ، أن هدف الاقتصاد هو تحقيق مجتمع الرفاهية . فالله تعالى يقول في هذه الآية ، إذا أردتم اقتصادا سليما ، يحقق الرفاهية ، فعليكم بتقوى الله عز وجل والإيمان .
*** كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في العمر إلا البر ولا يرد القدر إلا الدعاء وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) [رواه ابن ماجه] ، وفي هذا تأكيد للعلاقة بين الإيمان والاقتصاد الإسلامي .
*** ومن الأمثلة على ذلك أيضا ، أعني تأثير تقوى الله تعالى في الاقتصاد ، قوله صلى الله عليه وسلم : ( من باع دارا ، ثم لم يجعل ثمنها في مثلها ، لم يبارَك له فيها ) [رواه الضياء المقدسي والطيالسي والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه ] . فهذا ـ كما هو واضح ـ لا علاقة له بالأمور المادية ، ولكن علاقته بالأمور الإيمانية ، ومن أمثلة ذلك ما نسمعه عن الذين دخلوا البورصة بأثمان بيعهم لبيوتهم ، ثم خسروا وانكسروا ، فهذا البعد ، بعد إيماني غيبي لم ينبه عليه إلا في الاقتصاد الإسلامي ، ولا يعترف به الاقتصاد الملحد الذي لا يبني الاقتصاد على الإيمان بالله تعالى ، الممحوق البركة ، الذي ملأ العالم جشعاً وفسادا .(1/31)
***ومن الأمثلة أيضا : قوله صلى الله عليه وسم (ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) [رواه مسلم من حديث أبي هريرة] ، فهذا المعيار خاص في الاقتصاد الإسلامي ، وفيه يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الزيادة والنقصان للمال ، تؤثر فيهما الصدقة على الفقراء ابتغاء وجه الله تعالى ، وذلك من جهتين : أحدهما : أن الله تعالى يدفع عن المسلم من البلاء والمصائب ، بسبب الصدقة ، بما لو لم يتصدق لاجتاحت ماله وهو لا يدري . الثانية : أن الله تعالى يجعل في المال القليل نفعا أكثر من المال الكثير . ثانيا : أن الاقتصاد الإسلامي ، اقتصاد مستقل قائم على الوحي ، فليس هو حصيلة أفكار مرقعة شرقية وغربية ، ولا مصدره من بشر قد يبدلون ، ويغيرون أفكارهم فهم معرضون للصواب والخطأ . وهذه أهم خصائص الإسلام بشكل عام ، فإنه لا يعتمد إلا على الوحي ، فهو نظام مستقل قائم بذاته مصدره الوحي الإلهي . وفي الإسلام ، كل النظريات الأخرى في الاقتصاد وغيره ، إنما تقاس على الوحي ، فما عارض الوحي منها ردّ ، فالمعيار المطلق هو موافقة الوحي فحسب ، والواقع هو موضع الحكم ، وليس مصدر الحكم . بينما في الاقتصاد الرأسمالي مثلا ، المعيار هو النفعية ، كما أن الواقع هو موضع الحكم وليس مصدره . ذلك أن العلمانية هي وعاء الاقتصاد الرأسمالي ، وهي مبينة على أساس أن الواقع القائم على الفائدة النفعية هو مصدر الحكم . وأسس العلمانية الثلاث التي تقوم عليها هي : المادة والنفعية واللذة ، يقابلها عندنا الإيمان بالله تعالى والرسول والسعادة الأخروية . كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه : " الأصول الثلاثة التي اتفق عليها الرسل هي الإيمان بالله والرسل والمعاد " . ومن هنا فنحن ننبه إلى أن بعض البنوك الإسلامية بدأت تتأثر بالرأسمالية ، من حيث لا تشعر ، وذلك من جهة الحرص على المنفعة وجعلها مصدر الحكم أحيانا ، تحت غطاء من حيل . *** ومن الأمثلة أن الفكرة في أرباح البنك الإسلامي مبنية على المضاربة ، حيث يدخل السوق ويوفر فرص العمل وينوع السلع وينافس بالأسعار ويحرك الاقتصاد ويضخ إلى السوق النقد والبضائع ، ويحرك الدورة الاقتصادية ، فيأخذ أموال الجماعة ويوظفها في مصلحة الجماعة ، وهذا يحتاج إلى إيمان وصبر ، وبه يتحقق الخير العام للمجتمع . ولكن للأسف ، فقد استبطأت بعض البنوك الإسلامية هذه العملية ، ولهذا لجأت إلى حيل توفر عليها الجهد ، وتعجل الفائدة ، مثل توسيع الأمر في نظام المرابحة ، وقد وسعت بعض البنوك الإسلامية أرباحها من هذا المصدر ، لأنها وجدته أسهل وأسرع في تحصيل الربح المضمون ، ذلك أنها جعلت نظام البيع بالمرابحة ، ما هو إلا جعل البنك الإسلامي نفسه وسيطا بين البائع أو التاجر والعميل ، فهو لا يحتاج إلا إلى أوراق وطاولة وموظف ، يعرف الزبون أن يوقع على الوعد بالشراء ، ثم يتصل البنك الإسلامي بالشركة التي تبيع السلعة ، وبالهاتف يقول للبائع هناك اشترينا منك السلعة الفلانية ، قل : بعت ، فيقول البائع هناك بعت ، ثم يوقع الزبون عند البنك الإسلامي ، على عقد البيع ، ويعطي البنك الإسلامي ثمن السلعة نقدا ، ويقاسط الزبون بالفوائد ، هكذا دون أي عناء ، سوى توقيع واتصال هاتفي فقط ، ويسمون هذا بيعا شرعيا ، ومضاربة شرعية للأسف . وأنت إذا تأملت في هذه العملية وجدت أن البنك الإسلامي ، لم ينفع أحدا إلا نفسه ، ولم يزد شيئا في السوق ،
ولم يقم بأي دور في الاقتصاد العام للمجتمع ، وإنما حمل الزبون دينا مع زيادة الفوائد ، وهي نفس فكرة المرابي الذي يقول : أنا لا أريد أن أعمل ، إنما أجلس وأعطي نقودا ، وآخذ نقودا زيادة ، فلا أدخل السوق ولا أوفر فرصا للعمل ، وهو أسلوب سهل لكسب المال دون تعب ، ولكنه يؤدي إلى تكديس الأموال بيد المرابي ، وتكديس الديون على الناس . والمرابحة بالطريقة توسعوا فيها ، قد ظهرت صورتها النهائية ، نفس صورة العملية الربوية ، ونتائجها هي نفس نتائجها ، وهي جعل المجتمع مدينا ، وجعل البنك هو الدائن العام لأفراد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله . ثالثا : الاقتصاد الإسلامي ، يعتمد على القاعدة الفقهية التي تقول : إن الأصل في المعاملات الإباحة ، انطلاقا من القاعدة الشرعية " أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج " فكل ما لم يرد نص في تحريمه فهو مباح ، يقول تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } . رابعا : كما أن الاقتصاد الإسلامي ، لا يحرم ولا يبيح إلا درءا لمفسدة أو جلبا لمصلحة عامة أو خاصة .
جمع العلماء أسباب تحريم عقود البيوع في الاقتصاد الإسلامي ، فأرجعوها إلى ما يلي :
السبب الأول :
كون المعقود عليه محرما أو نجسا ، و القاعدة العامة هنا أن كل أمر حرمه الله تعالى ، فقد حرم ثمنه ، ومن الأمثلة على ذلك تحريم بيع الكلب والدم والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن ، وعن جابر رضي الله عنه : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ) [رواه الجماعة ].
وعن أبي جحيفة قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب ، وكسب البغي ، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ولعن المصورين ) [متفق عليه] .
و يدخل في هذا أيضا تحريم بيع [ المعزة الشامية ] وهي عادة انتشرت عندنا مؤخرا في الخليج ، يفعلها أهل الترف والتبذير والإسراف ، وهي نوع من ولع النفس بالباطل ، مثل اللعب في الحمام ، وقد يصل أحيانا سعر التيس إلى مليون ريال ، فمثل هذا سفه وإسراف محرم ، والرجل إذا كان يشتري بهيمة بمثل هذا المبلغ الكبير لمجرد التباهي والتفاخر فهو سفيه يجب الحجر عليه .
السبب الثاني :
أن يكون العقد ذريعة للوقوع في الحرام ، مثل البيع وقت صلاة الجمعة ، وبيع السلاح زمن الفتنة ، وبيع الخمر لمن يتخذه خمرا ، ... إلى آخره .
السبب الثالث :
أن يكون العقد يشتمل على غرر مثل القمار والميسر .
***ومن الأمثلة المعاصرة عقد التأمين ، ومن هذا بيع مالا يقدر البائع على تسليمه مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء .
***ويدخل في هذا بيع الملامسة ، الذي ورد النهي عنه ، وهو أن يتبايعان الثوب باللمس من الظاهر دون نشره ومعرفة ما فيه .
***وبيع المنابذة الذي ورد النهي عنه أيضا ، وهو أن يقول ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي ويكون بيعا .
***وبيع المحاقلة وهو بيع الطعام في سنبله .
***وبيع حبل الحبلة وهو أن يبيع لحم الجزور بثمن مؤجل إلى أن يلد ولد الناقة.
***وبيع المخاضرة ، وهو أن يبيع الثمار وهي مخضرة لم يتبين صلاحها بعد.
***وبيع المعاومة بيع الشجر أعواما كثيرة .
وقد حرمت هذه الأنواع ، وورد النهي عنها كلها ، لما فيها من الغرر والجهالة ، فعاقبتها مجهولة ، ومن أجل ذلك حرمتها الشريعة .
***ومن الأمثلة المعاصرة أيضا لدينا ، بيع اللؤلؤ في المحار ، وصورته أن يشتري الرجل كيسا كبيرا مليئا بالمحار ، راجيا أن يصيب اللؤلؤ فيه ، فإن لم يجد شيئا خسر ماله ، وقد يجد محارة فيها لؤلؤة ، قيمتها أضعاف عشرة أكياس.
السبب الرابع :(1/32)
أن يكون العقد مشتملا على الضرر ، ومن الأمثلة : الاحتكار ، الغش ، بيع المسلم على بيع أخيه ، النجش ، بيع حاضر لباد ، تلقي الركبان ... إلى آخره .
ومعنى النجش أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع من يريد ، ويكون ذلك في بيع المزاد .
وأما بيع حاضر لباد فقد ورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ) [ رواه البخاري ومسلم ]
ومعناه أن يأتي من يسكن البادية إلى المدينة يريد أن يبيع السلعة بسعر الوقت ، فيقول له الحاضر ، دعها عندي وأبيعها لك على التدريج بأغلى ، فيكون في ذلك ضرر على الناس .
وأما تلقي الركبان ، وورد أيضا " تلقي الجلب " أو " تلقي البيوع" فقد ورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاتلقوا الركبان ) [متفق عليه ].
ومعناه النهي عن تلقي من يجلب البضائع إلى البلد من خارجها ، بل يترك حتى يهبط السوق ، ويعرف الأسعار فينتفع هو ، وينفع الناس ، ولا يجوز أن يتدخل بعض التجار ، فيتلقون الجالبين للسلع ، خارج البلدة ، ثم يشترون منهم ، فيضرونهم من جهة أن الجالبين لا يعرفون سعر السوق ، ويضرون الناس من جهة أنهم يتدخلون في السعر ، فيرفعونه لصالحهم .
السبب الخامس :
أن يشتمل العقد على ما يجب بذله ولا يجوز للمسلم المعاوضة عليه ، مثل بيع الماء حيث يشترك الناس فيه ، والكلأ ، والنار كذلك ، وعسب الفحل أي إعارة الفحل للتلقيح مقابل عرض ، وكل ما ورد النهي عن بيعه لأنه يجب بذله ، فلا يجوز أن يعقد عليه عقد البيع .
ومن الأمثلة على هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سئل عن قوم ينقلون النحل من بلد إلى بلد ، فهل يحل لأهل البلد أن يأخذوا منهم أجرة ما جنته النحل عندهم ؟؟
فأجاب : (( الحمد لله ، لاحق على أهل النحل لأهل الأرض التي يجنى منها ، فإن ذلك لا ينقص من ملكهم شيئا ، ولكن العسل من الطلول التي هي من المباحات ... وهذه الطلول هي أحق بالبذل من الكلأ ، فإن هذه الطلول لايمكن أن يجمعها إلا النحل ، ولكن إذا كان لصاحب الأرض فنحله أحق بالجناء في أرضه ، فإذا كان جنى تلك النحل تضربه ، فله المنع من ذلك ، والله أعلم )) [مجموع الفتاوى 29/220]
السبب السادس :
أن يشتمل البيع على مالا يملكه الإنسان ، مثل بيع سلعة عند غيره ، وبيع الأعضاء البشرية ، ونحو ذلك ، ولكن يجوز التبرع بالأعضاء البشرية بشرط أن يكون المتبرع له مضطرا تتوقف حياته على زرع العضو ، وأن لا يعرض المتبرع حياته للخطر بسبب التبرع فإن الله تعالى قال { ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ، فإن كان المأخوذ منه العضو ميتا ، فإنه يشترط أن تتوقف حياة المريض على أخذ العضو من الميت .
السبب السابع :
أن يشتمل البيع على الربا وهذا سنفصله لاحقا .
السبب الثامن :
أن يشتمل البيع على حيلة على الربا ، أو ذرائع إلى الربا ، مثل بيع العِينة ، وهي أن يبيع السلعة إلى أجل ثم يعود فيشتريها بسعر أقل حاضرا ممن باعه .
السبب التاسع :
وزاد بعض العلماء أن يشتمل البيع على مالا نفع فيه ، ومثلوا له ببيع السنور ( القط ) لأنه صح النهي عن بيعه في صحيح مسلم ، وقيل إن هذا القسم يمكن أن يدخل فيما يجب بذله .(1/33)
يرك ، إلا بعد أن تعرضها عليه ، أو اشتريت سلعة بشرط إن نفقت وإلا رددتها على البائع ، فالأصل إباحة هذه الشروط وتلزم بالعقد ، وكذلك إذا شرط المشتري على البائع أكثر من شرط ولكنها مباحة في الأصل ، كل ذلك جائز وصحيح ولازم ، لأنه لم يرد نص في تحريمها . وقد أورد العلماء القائلون بأن الأصل في الشروط التحريم عدة أدلة : 1– منها حديث ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) [متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها ]. 2– حديث (نهى عن بيع وشرط ) . 3 – حديث ( نهى عن بيع وسلف وعن شرطين في بيع). ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيميه بما يلي : قال رحمه الله " القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط : الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وبطلانه ، نصا أو قياسا ، عند من يقول به ، وأصول أحمد المنصوصة عنه : أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه ، ولكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .... هذا القول هو الصحيح : بدلالة الكتاب والسنة ، والإجماع ، والاعتبار مع الاستصحاب ، وعدم الدليل المنافي . أما الكتاب فقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } والعقود هي العهود ، وقال تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } وقال تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } فقد أمر الله بالوفاء بالعقود ، وهذا عام ، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد ، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه ، بدليل قوله تعالى { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه ، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد ، كالنذر والبيع ، إنما أمر بالوفاء به ، وهذا قرنه الصدق في قوله { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } ...وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به ، علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره ، وحصل به مقصوده ، ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهد ، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة " وأجاب على الاحتجاج بحديث ( ليس في كتاب الله ) بقوله : " وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ) فالشرط يراد به المصدر تارة ، والمفعول أخرى ، وكذلك الوعد والخلف ، ومنه قولهم درهم ضرب الأمير ، والمراد به هنا ـ والله أعلم ـ المشروط ، لا نفس المتكلم ، ولهذا قال : ( وإن كان مائة شرط ) أي : وإن كان مائة مشروط ، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط ، وإنما المراد تعديد المشروط ، والدليل على ذلك قوله : ( كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق) ، أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط ، وشرط الله أوثق منه ، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى ، وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله تعالى ، فلم يخالف كتاب الله وشرطه ...... فمضمون الحديث : أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة ، أو يقال : ليس في كتاب الله : أي ليس في كتاب الله نفيه ، كما قال ( سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ) أي : بما تعرفون خلافه ، وإلا فما لا يعرف كثير " [مجموع الفتاوى 29/ 132ـ161] ومعنى كلامه أن مقصود حديث ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) أي كل مشروط حرمته الشريعة ، فهو باطل ، وليس مقصوده أن كل شرط زائد على العقد محرم إلا ما كان منصوصا عليه . أما الحديث الثاني : وهو حديث ( نهى عن بيع وشرط ) فهو حديث لا أصل له فلا يحتج به . أما الحديث الثالث : وهو حديث ( نهى عن شرطين في بيع ) قال ابن القيم : إن الصحيح أن الشرطين في البيع هما البيعتان في البيعة ، وهو بيع العينة ، وهو أن يحتاج الشخص للنقد ، فيأتي شخصا آخر ، ويقول له : أبيعك سيارتي بثلاثة آلاف نقدا وأشتريها منك بخمسة مقسطة . قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على معالم السنن بعد ذكر الأقوال في تفسير حديث ( نهى عن شرطين في بيع ) : "فإذا تبين هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض . فنفسر كلامه بكلامه . فنقول : نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة , وعن بيعتين في بيعة . فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة ) . وفي السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من باع بيعتين في بيعه فله أوكسهما , أو الربا ) . وقد فسرت البيعتان في البيعة بأن يقول ( أبيعك بعشرة نقدا , أو بعشرين ونسيئة) هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين . أحدهما : أنه لا يدخل الربا في هذا العقد . الثاني : أن هذا ليس بصفقتين , إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين . وقد ردده بين الأوليين أو الربا . ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا . فليس هذا معنى الحديث . وفسر بأن يقول " خذ هذه السلعة بعشرة نقدا وآخذها منك بعشرين نسيئة وهي مسألة العينة بعينها . وهذا هو المعنى المطابق للحديث . فإنه إذا كان مقصودة الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله , وهو أوكس الثمنين فإن أخذه أخذ أوكسهما , وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا . فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا . ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى وهذا هو بعينه الشرطان في بيع . فإن الشرط يطلق على العقد نفسه . لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط , والشرط يطلق على المشروط كثيرا , كالضرب يطلق على المضروب , والحلق على المحلوق والنسخ على المنسوخ . فالشرطان كالصفقتين سواء . فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة : وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة , وعن سلف وبيع . رواه أحمد . ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع وعن سلف في بيع فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع , ومع البيعتين في البيعة . وسر ذلك : أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا , وهو ذريعة إليه . أما البيعتان في بيعة : فظاهر , فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرطه له , كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة . ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة . وأما السلف والبيع : فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة , ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة : فقد جعل ذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل , ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك . فظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع , ولا شرطان في بيع ) وقول ابن عمر " نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع " واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سلما إلى الربا . ومن نظر في الواقع وأحاط به علما فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه , ونزله عليه . وعلم أنه كلام من جمعت له الحكمة , وأوتي جوامع الكلم , فصلوات الله وسلامه عليه , وجزاه أفضل ما جزى نبيا عن أمته " انتهى. *** واليوم يحدث هذا البيع ـ أعني شرطين في بيع أو بيعتين في بيعة ـ بطريق الحيلة ، فيذهب اثنان إلى البنك الإسلامي ، يقول أحدهما أريد أن أبيع سيارتي على فلان تظاهرا فقط ، ثم ترد السيارة على صاحبها بعد انتهاء المعاملة ، الهدف أن(1/34)
يأخذ من البنك الإسلام المال نقدا ، والبنك يقسط عليه السعر الجديد ، وهذه تسمى العينة الثلاثية ، لأنهما أدخلا طرفا ثالثا هو البنك الإسلامي ، وهذا البيع هو المقصود بالنهي عن شرطين في بيع ، أي بيع العينة ، أو بيعتين في بيعة كلها بمعنى واحد . *** والخلاصة : أن حديث المؤمنون على شروطهم ، عام يدل على إباحة الشروط ما لم يرد نص على تحريم شرط بعينه ، وأن كل شرط غير محرم فهو ملزم والله اعلم ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح ، وإن كان فيه منع من غيره" [مجموع الفتاوى 29/169] من حكمة الشريعة أنها جعلت للمتعاقدين الخيار بعد العقد ، حتى يكون لهما فرصة لمراجعة هذا العقد ، فقد يطرأ سبب لتغير رأي أحد المتبايعين ، أو يجد أحدهم في الصفقة ، غير ما اتفقا عليه في العقد ، فلهذا أوجدت الشريعة الحكيمة فرصة للنظر ، وذلك من خلال باب الخيار ، وقد عد العلماء أنواعه فبلغت سبعة أنواع : 1 - خيار المجلس : ومعنى خيار المجلس ، أنه إذا بيعت سلعة ، فإن للبائع والمشتري حق فسخ العقد ماداما في المجلس ، حتى يفترقا ، فكأن العقد مفتوح ، حتى يخرج أحدهما من المجلس ويتفرقا بالأجساد عن بعضهما ، مثال ذلك : اشتريت سيارة ، وأنت والبائع في مجلس واحد ، فإنه يجوز لك التراجع مادمتما في المجلس لم تتفرقا بأبدانكما . فإن أراد المتبايعان أن يمضيا العقد على الفور ، فهناك طريقتان لإنهاء خيار المجلس : الأولى : أن يفترقا بالأجساد عن بعضهما فيخرج أحدهما من المجلس . والثانية : إسقاط شرط الخيار في العقد ، فيقول أحدهما تبايعنا ولا خيار ، فإن رضي الآخر سقط الخيار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ، مالم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) متفق عليه ، وهذا يعني أنهما إن اتفقا على إسقاط خيار المجلس سقط . وهل يجوز للبائع تعمد مفارقة المجلس لإسقاط الخيار دون اتفاق مع الآخر ؟ الجواب : لا يحل له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ... ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله ) روه الخمسة إلا ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وترك المجلس ينضبط بالعرف ، فإن كانا في طائرة أو سفينة فينتهي الخيار بترك المكان الذي عقدا فيه العقد ، وإن كانا على شبكة الإنترنت فينتهي الخيار بترك المجلس على الشبكة ، فيخرج أحدهما من الغرفة في برنامج البال توك مثلا أو غيره ، وعلى أية حال فهذه المسألة بحاجة إلى بحث وهو من النوازل ، فالشبكة ـ الإنترنت ـ تجمع الناس رغم التباعد في مجلس واحد ، فهل يعد هذا مجلسا أم لا ، تحتاج هذه المسألة إلى بحث . 2 – خيار الشرط : هو أن يقول أحدهما : أريد خيارا ثلاثة أيام مثلا لإتمام الصفقة لهذه السلعة ، فإن غيرت رأيي انحل العقد ، وقد يطلب هذا الشرط البائع ، وقد يطلبه المشتري ، أو كلاهما ، وهو خيار مشروع غير محدد ، فيكون بحسب اتفاقهما شهرا أو أسبوعا أو غير ذلك ، ويجب أن يكون اشتراط هذا الشرط ، في صلب العقد ، أو في مدة خيار المجلس ، ولا يصح بعد لزوم العقد ، كما يشترط أن يكون إلى أجل معلوم محدد ، كشهر مثلا .
3 – خيار الغبن :
وهو يتعلق بالسعر ، فلو اكتشف البائع أو المشتري أن أحدهما قد غبن ، بأن يشتري المشتري بأعلى من سعر السوق ، أو البائع بأدنى منه ، فوق العادة ، فلكل واحد منهما الخيار ، فيأتي بالبينة على أنه غبن ، ويفسخ العقد أو يمسك إن شاء ، والضابط هو سعر السوق .
4 – خيار التدليس :
فإن اكتشف المشتري أو البائع وضع شيء في السلعة يزيدها جمالا ، كعمل تلميع للسيارة مثلا ، فتظهر بمظهر غير مظهرها الحقيقي ، فيزيد ذلك في سعرها بما لا تستحقه ، ويثبت هذا الخيار بما يزيد به الثمن ، أما ما لا يتأثر به الثمن فلا يثبت به هذا الخيار ، مثل التغيير المتعارف عليه ، كأن يغسل السيارة لتبدو جميلة وجديدة .
فإن ثبت خيار التدليس فله خيار الفسخ ، وقد ورد في السنة ما يسمى التصرية ، وهو ترك الناقة فلا تحلب أياما ، ثم تباع وضرعها مملوء على أنها حلوب ، وعندما يحلبها المشتري أول مرة ثم الثانية يفاجأ بأنها كانت مصراة ، فهذا تدليس وغش يفسخ به العقد ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لاتصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر ) [متفق عليه ] .
5 – خيار العيب :
إن ظهر في السلعة عيب ينقص قيمة المبيع ـ وليس كل عيب ـ أخفاه البائع بعلم أو بدون علم ، ولكن تم العقد على عدم وجود هذا العيب ، فله الحق في خيار العيب بفسخ العقد أو أخذ التعويض وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب.
*** وهنا شيء نسمعه كثيرا في حراج السيارات بقول البائع : أبيعك حديد سكراب ! فهل تبرأ الذمة هنا ؟
في ذلك تفصيل : فالواجب أن يعرّف البائع المشتري عن العيوب فلا يسقط خيار العيب إن علمها ، أما إن لم يعلم فالمؤمنون على شروطهم ، فله أن يقول أبيع حديدا ( سكراب ) : " ... فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما " .
وبعض الناس يسأل : هل يجب علي أن أذكر كل عيوب السلعة ؟ فضابط ذلك أن تجعل نفسك في مكان المشتري ، فما أحببت أن تعرفه عن السلعة فأخبر أخاك عنه كما صح في الحديث : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه ، وقد يشق ذلك على النفس لأنك تريد أعلى سعر ، فتذكر حينئذ الحديث ( ... فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ) فلا تغش أخاك المسلم ، وتذكر بركة الصدق وأن الغش لن ينفعك في الحقيقية ، وإن كان نفعا عاجلا فهو ممحقة للبركة.
6 – خيار الخلف بقدر الثمن .
فإن اختلفا بقدر الثمن فقال الأول : بعتك بمائة ، وقال الآخر : بل بتسعين ، ولا بينة أو شهود أو دليل ، فلهما الفسخ ، بعد أن يحلف البائع أولا ، ثم المشتري ، ثم لكل واحد منهما الفسخ إن لم يرض أحدهما بقول الآخر .
7 – خيار الخلف في الصفة
على سبيل المثال ، بقول المشتري : اشتريت هذا الأثاث ، وقول البائع : بل غيره ، أو وجد السلعة قد تغيرت عما وصف له ، أو عما رآه ، وكان الفارق بين الرؤية والتسليم وقت قصير ، أو مثل قول مشتر : اشتريت سيارة كاملة المواصفات ، وقول بائع ليست كذلك ، ولا بينة بينهما ، تحالفا ثم الفسخ .
وهو مبحث مهم للغاية ، ذلك أن الله تعالى قد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) رواه مسلم ، فتناول اللعن كل من له صلة أو علاقة بالربا ، و قال تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } ، فهذا يدل على أن الربا خطره عظيم ، وضرره جسيم .
هذا وينقسم الربا إلى قسمين : ربا الديون وربا البيوع .
ربا الديون :
وهو الذي تمارسه البنوك الربوية ، وهو القرض الذي يجر منفعة ، وتقوم عليه البنوك الكبرى ، والقاعدة العامة في الشريعة " كل قرض جر نفعا فهو ربا " ، والقرض يجب أن لا يكون معه أي نفع بل بذل مجاني ، ومحض إحسان ، حتى لو كان النفع بعقد ثان مقرون بعقد القرض ، فإنه ربا ، ومثاله :
*** نبيعك الأرض بالدين بشرط أن نكون نحن الذين نبنيها لك ، وهذا لا يجوز لأنه جر نفعا .(1/35)
*** ومن الأمثلة المعاصرة المثيرة للجدل ، بطاقة الائتمان التي فيها سحب على المكشوف بمعنى أنه لا يكون ثمة رصيد عندك ، فهم يدينونك من مال البنك ، إذا سحبت في حال لم يكن رصيدك فيه شيء ـ أو يكون لديك رصيد ولكن السحب لا يكون من رصيدك فورا وإنما من شركة الفيزا بالتعاون مع البنك ـ ثم إذا نزل راتبك ، أو لاحقا ، سحبوا منه ما أقرضوك ، وأخذوا زيادة وقالوا هذه عمولة .
ثم هم فوق ذلك ينتفعون أيضا من جهة أخرى ، حيث تبقى أموالك عندهم يستثمرونها فلو لم تكن أموالك عندهم لم يعطوك هذا الدين ، فهم إذن إنما أعطوك مقابل نفع لهم ، وهناك نوع آخر من النفع ، وهو الاشتراك السنوي لهذه الفيزا ، فلو فرضنا أن مائة ألف شخص ، دفعوا ستين دينارا ، فالمجموع هو ستة ملايين دينارا سنويا !
وهو مبلغ كبير انتفع به البنك وأعطاك بطاقة يمكن أن تستدين بها ، فهل هذا كله ، من باب النفع الذي يأتي به الدين ، وبالتالي تكون بطاقة الائتمان التي تمكن العميل من السحب على المكشوف محرمة أم هي عمولة مقابل تسهيل الوصول إلى المال في هذا العالم المعقد ، هذه مسألة نازلة اختلف فيها العلماء ، وهي بحاجة إلى بحث .
*** وعلى أية حال ، هذا هو ربا الديون ، والبنوك الربوية إنما تقوم على ربا الديون ، يودع الزبائن الأموال في صورة دين ويأخذون عليه فائدة سنوية ، وإذا أرادوا قرضا يعطيهم البنك ويأخذ فوائد فاحشة .
ومن الناس من يقول نحن نضع أموالنا عندهم ، وبعد سنة يعطوننا زيادة على أموالنا خمسة بالمائة مثلا ، فلا يوجد استغلال كما يوجد في الربا ، وإنما هي الفائدة والمصلحة ، فلماذا تحرمون التعامل مع البنك الربوي ؟؟
*** والجواب أن البنك الربوي له وجهان :
1. وجه قبيح شيطاني .
2. وآخر جميل في الصورة الظاهرة فقط
ولكل وجه نافذة يستقبل بها العملاء ، فالوجه الحسن يستقبل به من يضعون أموالهم يبتغون بذلك الفائدة ، وفي النافذة الأخرى الوجه القبيح الذي يدين به المحتاجين إلى القروض .
فمن يريد سيارة فاخرة ـ مثلا ـ أو بيتا واسعا أو يختا ، على سبيل المثال يعطيه البنك قرضا ، ويأخذ منهم فوائد عالية تصل إلى ثمانين بالمائة ! ثم يعيد يزيد الفوائد كلما تأخر السداد ، ثم يعيد الجدولة إن طلب العميل ذلك ، ويضاعف الفوائد أضعافا مضاعفة ، ولو تخلف في الدفع ذهب إلى السجن !
بينما يعطي البنك المودعين خمسة بالمائة كل سنة فقط ، فيعتقد هؤلاء أن البنك لا يصنع إلا المعروف .
وواقع الحال أن البنك الربوي إنما يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، من جهة ، ويعطي النزر اليسير منه من جهة أخرى .
ثم هو أيضا يضع أموال المودعين ، في بنوك ربوية عالمية ويأخذ عليها ، فوائد بمقدار خمسة عشر بالمائة مثلا ، ثم يعطي المودعين خمسة ويأخذ عشرة ، فالبنك الربي كالشخص الجشع ، الذي يمتص دماء الناس ، ويكون ثروة بالديون بفائدة فقط ، دون أن يسهم في توفير فرص عمل أو مشاريع .
وبتتبع التاريخ علم أن الذين أتوا بفكرة البنك الربوي ، هم اليهود وهم أهل الربا ، قال تعالى : { وأكلهم الربا وقد نهوا عنه } ، وقال : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، فغذاء عقولهم الكذب وغذاء قلوبهم السحت .
ويقال أن الفكرة بدأت في ألمانيا ، حين فكر اليهود هناك ، بأن التجار والمزارعين لديهم أموال يضعونها في البيوت ، فلو جمعناها في مكان واحد عندنا ( المصرف ) وحفظناها لهم ونعطيهم عليها فوائد قليلة آخر السنة ، واستفدنا من بقاءها لدينا بأن ندين المحتاجين بفائدة أعلى ونأخذ الفرق لنا .
ثم أعلنوا للناس أن لدينا أموالا للقروض ، فمن أراد أن يفتح مشروعا ويستدين فليأتنا ونضع عليه فائدة ، ثم جاء الناس يأخذون الديون ، ويرهنون البيوت وكلما تأخروا زادوا عليهم بجشع اليهود ، فإذا جاء آخر العام جاء من وضع أمواله لديهم من التجار ، فقالوا له إن مالك قد زاد زيادة خمسة بالمائة ، فيفرح بذلك ، ويبقى ماله لديهم ، وهم إنما استفادوا من ماله ، بإقراض المحتاجين بفائدة ، وجعلوها لهم ، وهكذا أصبحوا أثرياء بطريق الربا ، ثم انتشرت هذه الفكرة حتى صار الربا جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي وجعلوه مبنيا على الربا .
وهتلر الطاغوت ، في كتابه كفاحي ذكر هذه الحقيقة ، فقال أن اليهود دمروا ألمانيا بالربا والدعارة ، وهذا من باب شهد شاهد من أهلها ، فملة الكفر واحدة.
وربا الديون قد يمارس بشكل واضح ، وقد يمارس بالحيل .
وثمة حيل عديدة على الربا :
فمثلا رجل عنده شيك مؤجل بسبعين ألفا ، فتأتي شركة وتعمل كوسيط ، وتقول نحن نعطيك ستين ألفا وحول علينا الشيك الذي هو مستحق لك على الغير ، ولا تنتظر مدة التأجيل ، وهي حيلة على الربا ، فكأنهم يعطونه ستين ألفا ، ويستردوها سبعين ألفا ، وهذا هو الذي يسمى خصم الأوراق التجارية ، وهو ربا ، ولذلك لا تفعله البنوك الإسلامية .
وكذلك المداينة وهي تشبه العينة – والعينة أن يبيع شخص لآخر بأجل ثم يشتري السلعة منه حالا بسعر أقل – ففي المداينة يدخل طرف ثالث ، فيشتري الأول من الثاني مؤجلا ، ثم يبيعه لثالث حالا بثمن أقل .
ومن ذلك العينة الثلاثية ، وهي منتشرة بين الناس ، مثل أن يذهب اثنان للبنك فيتظاهرا بأن أحدهما باع الآخر سيارة ، ثم ترد لصاحبها ، ويأخذ قيمة الشيك ممن تظاهر أنه باع السيارة على البنك الإسلامي ، ويبقى على المشتري الأقساط التي هي أكثر من النقد الذي استلمه .
وثمة حيل أخرى منها أن يبيعك شيئا مع الدين ، فيداينك مبلغا ، ويبيعك مع الدين قلما بمائة دينار والثمن مؤجل ، والقلم لا يساوي دينارا ! ويقول هذا دين وبيع وهو في الحقيقة حيلة على الربا .
ومن الحيل الأخرى شركة هبتكو ، وتدعي أنها تعمل بالألبان فتأخذ أموالك وتعمل فيها وتعطيك 8% من رأس مالك الذي أعطيتهم ، إن أردت استرجاع مالك بعد الشهر الأول ، و25% في الثاني و60% في الثالث و100% بعد ثمانية أشهر .
وهذا شيء غير معقول ، ولابد أن في الأمر سرا ما ، والذي أشكل على الناس أنهم يمنحونك نسبة ، فظنوا أن هذا جائز ، وهم إنما يمنحونك نسبة من رأس المال لا من الربح فهو كالدين بفائدة ، بالإضافة أنهم يجعلون أموالهم في بنوك أوروبية تمنحهم أرباحا عالية بعد أشهر ، ومن غرائب شأنهم ، أنهم يشترطون أن لا يكون التحاكم إلا في مصر أو الكويت حيث القانون يصير من بعض الوجوه في صالح من يعلن إفلاسه ، وقد قيل أن لهم نشاطا في غسيل الأموال أيضا ، والحقيقة أنها شركة ربوية ، وأما ادعاؤها أنها تستثمر أموال المشتركين في التجارة ، فهو غطاء فقط.
ربا البيوع :
وينقسم إلى قسمين : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
ولابد أن نقدم هذه المقدمة حتى نفهم ربا البيوع بقسميه .
ربا البيوع : هو ربا يجري عند التبايع بين أصناف محددة من الأموال ، تسمى الأموال الربوية ، وليس معنى الأموال الربوية هنا ، أي المحرمة لأنها كسب ربوي ، بل المعنى أن ربا البيوع يجري فيها إن تم التبايع فيما بينها بطريقة غير شرعية ، وحتى نعرف الطرق الشرعية للتبايع بين هذه السلع التي هي الأموال الربوية ، أولا نقسم الأموال إلى قسمين :
أحدهما : الأموال الربوية : وهي التي يجري فيها ربا البيوع .
الثاني : الأموال غير الربوية : وهي التي لا يجري فيها ربا البيوع ، وهي كل ما عدا الأموال الربوية .
وتنقسم الأموال الربوية إلى مجموعتين .
فلنسم المجموعة الأولى مجموعة ( أ )
أ – وهي تضم ما يلي :(1/36)
الذهب ، الفضة ، الأوراق النقدية ، والعلة التي جمعت بين هذه الأصناف هي الثمنية أي كونها أثمانا للسلع ، ولهذا فكل عملة هي صنف مستقل ، فهذه المجموعة كبيرة العدد.
والقاعدة التي يجب أن تتبع هنا هي :
**** أنه إذا كان البيع بين نفس الصنف ( ذهب بذهب ، فضة بفضة ) وجب أن يكون الطرفان ، متماثلين بالوزن ، ووجب أيضا التقابض يدا بيد أيضا .
*** فإن عدم شرط التماثل ، سمى البيع ربا الفضل .
*** وأما إذا كان البيع بين صنفين مختلفين لكنهما من داخل المجموعة ( ذهب بفضة ، دينار بجنيه ، ذهب بدينار ، فضة بجنيه ) وجب التقابض يدا بيد ، ولا يشترط التماثل
*** وإن عدم شرط التقابض سمي البيع ربا النسيئة .
ولنسم المجموعة الثانية مجموعة ( ب )
وهي تضم :
الملح ، التمر ، البر ، الشعير ( والعلة هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم ، فكل ما تنبته الأرض مما يكون فيه هذه العلة فهو داخل في هذه المجموعة )
وتجري هنا القاعدتان السابقتان في التبايع داخل هذه المجموعة أيضا .
**** أما عند التبايع بين أصناف المجموعتين ، أي صنف من المجموعة ( أ) وصنف من المجموعة (ب) فلا يشترط التماثل في الوزن ، ولا يشترط التقابض في المجلس .
***فإن قال قائل : إذا أردت أن تشتري تمرا من نوع "خلاص" مثلا بتمر رديء ، فلابد أن يختلف الوزن أو الكيل في هذه الحالة ، فنقول : بع الأول بالأوراق النقدية ، ثم ابتع الصنف الثاني بالثمن الذي قبضته من بيع الصنف الأول الجيد حتى تخرج من الربا .
*** وقد يقول قائل عندي ذهب قديم وأريد جديدا ، فنقول لا يصح التبايع بين الذهب والذهب إلا بالتساوي ، أو تبيع القديم بنقد ثم تشتري بالنقد الجديد ، ولو شرط البائع أن لا تشتري إلا من عنده لم يصح أيضا .
*** وهنا مسألة مشهورة : وهي هل يجوز شراء الذهب بالفيزا إذا كانت القيمة تخصم فورا من حساب المشتري ، فنقول : نعم إذا كان يخصم فورا ، فكأنه تقابض .
وكذلك ترد مسألة الحوالات للعملات بين الدول ، فمن يريد تحويل الدينار إلى جنيه في مصر ، وتصل إلى مصر بعد يومين أو أكثر ، فهل يصح ذلك مع أننا نعلم أنه يشترط التقابض في المجلس ؟ لأنهما مشتركان في علة الربا فكلاهما من نفس المجموعة التي علتها الثمنية ؟
قال بعض العلماء أن الحوالة لا تصح ، ولكن الحاجة ملحة ، وهي حاجة عامة ، فتنزل منزلة الضرورة .
ولا ريب أن هذا صحيح ، ذلك أن بعض الدول يقوم اقتصادها على تحويل العملة من الخارج .
وقال بعض العلماء أن هذه العملية وهي الحوالة ، تتضمن صرفا أي تبايعا بين عملتين ، وتوكيلا من أحد الطرفين للطرف الآخر ، أو استئجارا له ، بالقيام بإرسال العملة التي اشتراها ، إلى بلد أخر مقابل عمولة ، فهي عملية جائزة لا إشكال فيها ، من يأخذ منك الدينار ثم يحوله إلى جنيه فكأنك قبضت الجنيه ، ثم وكلته عنك في توصيل هذا المال إلى بلدك ، وهذا تخريج صحيح ويرفع الحرج خاصة في هذا الزمان ، إن شاء الله تعالى .
*** ومثال آخر : لديك بطاقة ائتمان ( فيزا ) وسافرت وانقطع بك السبيل ، فيمكنك أن تسحب على بطاقتك على المكشوف من عملة ثانية ، فيعطونك بالدولار ثم يأخذون من رصيدك بالدينار مع فارق العملة ويعتبرونه بيعا ، فهل حصل التقابض هنا ، ومن أهل العلم من قال إن هذه العملية ، مركبة من أن المصرف يداينك الدنانير ثم يقوم بالصرف مع البنك الذي سحبت منه بالفيزا ، ويتوكل عنك في هذا البيع ، وتستلم أنت العملة الأخرى ، ثم يأتي فيما بعد ، ويقبض دينه ، ويأخذ أجر وكالته ، فأجازوه من هذا الباب .
* كما أثيرت هنا مسألة شراء الذهب بالشيك ، ولكن الشيك لا يفي بشرط التقابض ، فإنه لو كان بغير رصيد لا يستفيد منه ، وإنما يحب التقابض بالمال والشيك ليس مالا بل ورقة تأخذ بموجبها المال ، ولذا فشراء الذهب بالشيكات لا يجوز .
*** لكن بعض الناس يقول : يمكن لصاحب محل الذهب أن يتصل بالبنك ، ويتأكد من وجود رصيد للشيك ، ويحجز المبلغ من رصيد العميل لصالحه ، بالاتفاق مع البنك على طريقة يتم بها ذلك ، ففي هذه الحالة نقول يجوز ، ويكون بمثابة التقابض.
**** وأما التبايع بين الأموال الربوية وغير الربوية فلا يشترط أيضا التماثل في الوزن ولا الكيل ولا التقابض في المجلس ، مثلا تشتري سيارات بأوراق نقدية ، أو تشتري ثياب بذهب ، وأكثر التبايع إنما يكون في هذه الدائرة التي لايجري فيها ربا البيوع .
**** وكذلك داخل الأموال غير الربوية : وهي كل الأموال غير الأموال الربوية ، كالخام والطابوق والسيارات والفاكهة وغيرها ، كلها لا يشترط بينها ، التماثل ولا التقابض .
* ويرد سؤال : هل هناك أموال نضيفها على الأموال الربوية أم هي مقصورة على هذه الأصناف الستة ؟
هناك أقوال عدة لأهل العلم :
1- مذهب الظاهرية أنها الأصناف الستة فقط ( الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح ).
2- قال بعض العلماء كل ما يجري فيه الكيل يضاف إلى الأصناف الأربعة البر الشعير والتمر والملح ، وقال بعضهم ما يجري فيه الوزن ، وقال غيرهم كل مطعوم .
3- وبعضهم كالأحناف زاد فقال كل خارج من الأرض .
4- ومنهم من قال مجموع الكيل أو الوزن مع كونها مطعومة ، فيدخل هنا في المجموعة ب : الأرز والفول والعدس والذرة والسكر والعسل والحليب ، فهي مكيلة أو موزونة مطعومة .
أما علة جريان الربا في المجموعة ( أ ) فهي الثمنية ، فكون الذهب والفضة أثمانا للأشياء أجرى فيها الربا ، ولذا قيل إن الأوراق النقدية أيضا أثمان فيجري فيها الربا ، وهذا هو الصحيح ، وقد اتفق عامة فقهاء العصر على أن الأوراق النقدية ، تقاس على الذهب والفضة ، وتجري عليها أحكامها في الزكاة والربا ، وهذا هو الصحيح الذي لا يستقيم سواه .
وأحكام ربا البيوع ، مأخوذة من حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى ) وفي رواية ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) ، رواه البخاري هذا مع اشتراكهم في علة الربا في نفس المجموعة والله أعلم .
*****
وهنا قاعدة مهمة جدا في باب الربا وهي : أن الجهل بالتماثل بمنزلة العلم بالتفاضل .
وهذا يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... مثلا بمثل سواء بسواء ) في البيع بين أفراد الصنف الواحد ، أن جهلنا بكونهما متساويين ، هو كعلمنا بتفاضلهما .
ونذكر بعض الأمثلة :
المثال الأول : بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه لا يجوز .
المثال الثاني : بيع الرطب باليابس من جنسه ( المزابنة ) لا يجوز .
ومثاله بيع التمر بالرطب ، والزبيب بالعنب ، فلا يجوز حتى عند التماثل ، لأنهما في الحقيقة تماثل في الظاهر ، ولكنهما غير متماثلين ، فأحدهما معه من غير جنسه عندما يكون رطبا ، فإن معه الماء .
المثال الثالث : بيع اللحم باللحم بعظمه لا يجوز ، وقد ورد النهي عن بيع الحيوان باللحم لهذا السبب.
ذلك أن وجود العظم يؤدي إلى عدم العلم بالتماثل ، وكذا الرطب باليابس ، فلا يعلم تساويها ، فهو كعلمنا بتفاضلهما ، وحتى لو قلنا نزيد العنب قليلا فلا سبيل لمعرفة التماثل بالضبط .(1/37)
ولكن هنا استثناء مهم ، وهو استثناء بيع التمر بالرطب فقط ، حيث كان التمر هو القوت الأساسي في زمن النبوة ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ؛ ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله نار .قلت :يا خالة ! فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقيناه ) [ متفق عليه ] ، وتأملوا يا أخواني أولئك الرجال الذين كان أكثر طعامهم التمر والماء ، كما ورد في الأثر : ( كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ، فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا ، قال حميد : فقال أبو هريرة : اذهب إلى أمي وقل لها : إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص من شعير وشيئاً من زيت وملح في صحفة، فوضعتها على رأسي، فحملتها إليهم، فلما وضعته بين أيديهم، كبر أبو هريرة وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودان؛ التمر والماء، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً ! فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي! أحسن إلى غنمك ، وامسح الرغام عنها، واطلب مراحها، وصل في ناحيتها؟ فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان ، تكون الثلة من الغنم، أحب إلى صاحبها من دار مروان ) [رواه البخاري في الأدب المفرد] ، كيف أن أولئك الرجال الذين كان هذا طعامهم فتحوا الدنيا وملؤها نورا وعلما وهدى .
والمقصود أن الرطب أحسن من التمر ، ومن الناس من لديه التمر ويريد الرطب وليس لديه نقود ، فهنا حاجة ماسة للحصول على الرطب وهي حاجة عامة .
فرخصت الشريعة ببيع التمر بالرطب في ما يطلق عليه (العرايا ) ، وهي أن يشترى التمر بالرطب على النخل ، يخرص فيجعل مقابل وزنه تمرا ، بشرطين :
الأول : الحاجة فلا تباع لغني ولكن لم يحتاج إلى أكلها رطبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بها لأهل الحاجة ، الثاني : أن يكون أقل من خمسة أوسق ، ولا يجوز التفرق قبل القبض أيضا .
وفي ذلك ورد حديث سهل بن أبي حثمة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا ) [ متفق عليه ].
وعن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) [ متفق عليه ]
وهنا مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وهي مسألة ( مد عجوة ودرهم ) ويطلق عليها الفقهاء ( بيع ربوي بجنسه ، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ).
ومثاله : يبع مد تمر مثلا " والمد مقدار من كيل " ودرهم ، مقابل درهمين
يقول العلماء : لم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ، ولا ما يقابل المد ، وإنما الجملة مقابل الجملة ، فلاتحصل المماثلة بين الجنسين ، بما يقابل كل جنس من جنسه .
وكذلك يجري هذا الإشكال في : بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ؟ أو كيلو من التمر ودينار ذهب بمثلهما ؟
قال أهل العلم يحرم هذا لأنه يدخل في قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، وحسما لمادة الربا ، فهو يفتح باب التحايل .
وقد ورد في ذلك حديث فضالة ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب ، وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير ، أو سبعة ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، حتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما ) [ رواه أبو داود ] ، ولمسلم ( أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع حده ، ثم قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن ) .
ولكن يوجد رواية عن الإمام احمد ـ وقد اختارها شيخ الإسلام ـ أن المفرد إذا كان أكثر من الذي معه غيره ، فإن ذلك جائز ، وكذلك إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقد سئل شيخ الإسلام عن بيع الاكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية ، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ، بل فضة هذه الدراهم أكثر ، هل يجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟
فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء ، والجواز فيه له مأخذان : بل ثلاثة :
أحدهما : إن هذه الفضة معها نحاس ، وتلك فضة خالصة ، والفضة المقرونة بالنحاس أقل ، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين ، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة ( مد عجوة ) كما مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين .
ثم ذكر حديث القلادة الآنف الذكر و قال :
وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ، بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لاتباع حتى تفصل ) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود ببيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت " [مجموع الفتاوى 29/454]
لعل من أهم مظاهر الاقتصاد العالمي المعاصر هو الشركات ، وللعولمة علاقة وطيدة بالشركات ، ذلك أن العولمة ـ كما يقال ـ ما هي إلا مائة شركة أمريكية وغربية عملاقة ، تريد أن توحد السوق العالمي ، وتدخل أسواق العالم ، بعد أن تحطم العوائق المحلية ، تحت قانون دولي يسمى منظمة التجارة الدولية ، ولهذا فإن العولمة ، ما هي إلا استيلاء الشركات الكبرى على أسواق العالم ، وضمان بقاء الشمال الغني ثريا ، وبقاء الجنوب الفقير فقيرا ، ولهذا تقوم المظاهرات الكثيرة ضد العولمة في العالم الغربي .
والذي يهمنا هنا ، هو الشركات في الاقتصاد الإسلامي ، وهي تنقسم إلى خمسة أقسام :
1 – العنان 2 – المضاربة 3 – الوجوه 4 – الأبدان 5 – المفاوضة .
ومن الممكن أن تجتمع هذه الأنواع كلها في شركة واحدة ، كحال الشركات العملاقة .
أولا : شركة العنان
حيث يضع كل من الطرفين مالهما والعمل يكون أيضا بينهما ، فهي شراكة كاملة ، مثل أن يضع أحد الشريكين ، ألف دينار ، والآخر مثله ، والعمل عليهما معا .
ولها شروط هي :
1 – أن يكون رأس المال عند الحنابلة من النقدين ، وفي قول لا يشترط هذا وهو الصحيح ، فإن كان لدي عين وغيري لديه مثلها صح أن نجعلها رأس مال ونشترك في العمل معا.
2 – أن يكون كل من المالين معلوما فلا تصح بمجهول .
3 – أن يكون حاضرا لا بالذمة أو الدين .
4 – أن يكون الربح بينهما بنسبة معلومة من الربح لا من رأس المال .
فلو قال أحدهما أريد 100 دينار شهريا مثلا لم يصح ، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على أنه لا يصح أن يشترط أحدهما دراهم معلومة .
ثانياً: شركة المضاربة :
ويعرفونها بأنها دفع نقد معلوم لمن يتجر به بجزء مشاع معلوم من ربحه ، وهذا يعني أن رأس المال من طرف ، والعمل من طرف آخر ، ويكون الربح بينهما وفق ما يتفقان عليه .(1/38)
والفرق بين البنك الإسلامي والبنك الربوي أن البنك الإسلامي قائم على أساس شركة المضاربة ، بينما يقوم البنك الربوي على أساس ربا الديون .
وشروط شركة المضاربة ( حيث المال من طرف والعمل من الآخر ) :
1 – أن يكون رأس المال من النقدين ( والصحيح أنه لا يشترط ) .
2ـ وأن يكون رأس المال معلوما .
3 – أن يكون الربح معلوما بينهما بالنسبة بحسب الاتفاق ، كأن يكون 20% من الربح للعامل ، و80% لصاحب رأس المال على سبيل المثال... وما اتفقا عليه من النسبة من الربح ، يلزمهما.
والبنك الإسلامي قائم على أن المساهمين في حساب التوفير شركاء معه في شركة المضاربة ، عليه العمل ، وعليهم المال ، ثم في نهاية العام ينقسم الربح بينهما ، وفق ما اتفقا ، وكل بحسب ما شارك به .
فالبنك الإسلامي مضارب يعطي النسبة من الربح ، لا من رأس المال كالبنك الربوي ، فإن لم يربح ، فإنه لا يوزع شيئا على المساهمين .
وهكذا التجارة لا تخلو من مخاطر ، فإن قيل : فكيف يتقي البنك الإسلامي خطر الخسائر ، وفقدان العملاء ، والجواب : أنه كما أنك إذا أردت أن تختار موظفا لديك ، تختاره نشيطا ذكيا لديه خبرة وعلم ، فكذلك تختار البنك الإسلامي ، الذي لديه مشاريع كثيرة فإن خسر في أحدها عوض من الآخر ، ولهذا فمن النادر جدا خسارة البنك صاحب الرأسمال الكبير ، إلا بحدوث كارثة عامة كالغزو الخارجي ، أو الزلزال ، وهنا يخسر الجميع سواء البنك الربوي أو الإسلامي .
ولنضرب مثلا يفرق بين تقاسم الربح منسوبا إلى رأس المال كما تفعل البنوك الربوية ، وتقاسمه منسوبا إلى الأرباح ، فشركة هبتكو مثلا ، كتب في العقد أنهم يعطون نسبة من رأس المال ، وهذا حرام مجمع عليه ، ولكن قد خدع بعض الناس بكونهم يعطون نسبة ، وقالوا أن النسبة تجوز ، ولكن النسبة هنا إنما هي من رأس المال ، فهي مبالغ محددة .
وقد يقول قائل إن المضارب قد يكذب علي في قدر الربح فينقص ربحي ، بينما إذا اتفقت معه على مبلغ معين من المال ضمنت حقي ، فنقول : أنت بنيت هذا الاحتمال على كسلك وخمولك ، فتريد مالا بدون عمل ، أما أحكام الشريعة ، فهي : إما أن تثق بالمضارب ، أو تتابعه وتتأكد من صحة ربحك .
أو تعطي العمال أجرة شهرية فهم في هذه الحالة أجراء عندك ، والأموال كلها لك ، أو تأخذ نسبة من أموال المضاربة ، وغير هذا لا يجوز .
فإن قال قائل : فأنا أريد أن أؤجر المحل للعمال بأجرة فهذا على احتمالين :
الأول : أن عقد الإجارة يقع على الرخصة وهذا لا يجوز ، لأن الرخصة كفالة ، وتأجير الكفالة لا يجوز .
الثاني : أن تشتري لهم معدات وتؤجرها عليهم بسعر السوق ، ففي هذه الحالة ، لا توجد حيلة ، ولا يجوز أن يوضع في الاعتبار حين الاتفاق على عقد الإجارة ، وجود الرخصة التجارية ، وهذا هو المخرج الشرعي .
مثال : أن أشتري حافلة "باص" ، وأقول للسائق : أؤاجرك هذا الباص بمائتي دينار ، واعمل عليه كما شئت ، فهنا أصبح الباص عينا مؤجرة ، والعقد عقد إجارة لا مضاربة ، بشرط ألا تكون ثمة حيلة ، فتكون أجرة الباص في السوق 50 دينارا مثلا ، وأنت أجرت عليه بمائة وخمسين ، وباقي المبلغ مقابل الكفالة أو الإقامة ، فهذا لا يجوز ، فالشرط أن تكون أجرته مماثلة لمثله في السوق ، فإما أن تجعل العمال أجراء عندك ، أو تجعلها شركة مضاربة إذا وثقت فيهم .
ثالثاً : شركة الوجوه :
ويعرف العلماء هذا النوع بأن يشترك اثنان لا مال لهما في ربح ما يشتريان من الناس بذممهما ، أي بجاههما وثقة التجار فيهما ، من غير أن يكون لهما رأس مال ، إذن هذه شركة لمن ليس لديهم مال حاضر ، ولكن لهم مكانة ووجاهة وثقة بين الناس ، فهم يستطيعون أن يشتروا بوجوههم بالأجل بثقة الناس بهم ، فيشترون بضاعة إلى أجل سويا ثم يبيعونها سويا ، ويردون الدين إلى أصحابه ، ويصبح الربح لهم .
رابعاً : شركة الأبدان :
ويعرفها العلماء بأن يشتركا فيما يتملكان بأبدانها من المباح ، كالحشيش ، والاحتطاب ، والاصطياد ، وهذا النوع من الشركات ليس فيه رأس مال ، فكلاهما يعمل من كسب يده ، كصيادي سمك على سبيل المثال ، يذهبان سويا وما يصيدانه يضعانه سويا ، ثم يقسمانه فيما بينهما أو يبيعانه ويقتسمان الثمن.
خامساً: شركة المفاوضة :
وهي أن يفوض كل من الشريكين الآخر بأن يبيع ويشتري ويتصرف في سائر المعاوضات في رأس المال ، وتقبل ما يرى من الأعمال ، وهي يمكن أن تسري أيضا في الشركات كلها .
فشركة العنان قد يكون فيها مفاوضة ، وكذلك سائر الشركات السابقة .
والأصل أن أنواع الشركات أربع ( مضاربة ، وجوه ، عنان ، أبدان ) وقد يكون بين الشريكين عدة أنواع من الشركات فلا إشكال في ذلك ، فقد يكون بينهما عنان ومضاربة ، بأن يضع أحدهم ألفي دينار ، ويضع الآخر ألفان وعليه العمل ، وقد أصبحا شريكين بالعنان والمضاربة ، وهذا جائز لا إشكال فيه .
وقد تجتمع الأنواع الأربعة في شركة واحدة عملاقة ، ويمكن ضبط كل المعاملات بالحاسوب ، والمقصود أنها مهما اختلطت ومهما تداخلت ، فلا إشكال فيها ، فما لم تتضمن عقودا وشروطا تخالف الشرع فهي مباحة ، والأصل في المعاملات الإباحة.
الاقتصاد الإسلامي في عامته حديث عن البنوك الإسلامية ، عن أهدافها ومصادر الأموال فيها ، وعن الخدمات التي تقدمها والأحكام الشرعية المتعلقة بذلك .
وأصل فكرة البنوك مستوردة من غير المسلمين ، ولا آتي بجديد إن قلت إنك لو فتحت المصادر الفقهية كالمغني وروضة الطالبين والهداية والمدونة ، فلن تجد حديثا عن المصارف أو البنوك.
غير أن المسلمين حين رأوا غيرهم ، قد أسسوا مصارف وأنها تؤدي أعمالا وخدمات ضرورية للناس ، أدركوا أن وجود بديل إسلامي للمصارف ، ضرورة لابد منها ، وذلك بأن نأخذ هذه الفكرة التي أحدثها غير المسلمين ، ونجعل منها صورة إسلامية .
فإن قال قائل : ألا يكون هذا من قبيل التشبه بالكفار ، فالجواب أن اتخاذ وسائل التعامل وتنظيم الحياة ، إن لم يكن لها علاقة بالعقيدة ولا كانت شعارا للكفار يميزهم عن غيرهم ، بحيث من فعله ، يكون متشبها بهم ، بل كانت شأنا عاماً ينظم الحياة ، ويدير شؤون الناس ، عند الكفار وغيرهم ، فإن فعله ليس من قبيل التشبه بالكفار ، والنبي صلى الله عليه وأصحابه ، سلكوا وسائل كثيرة كانت تستعمل عند غير المسلمين ، سلكوها لتحقيق أهداف الإسلام ، فلاحرج في ذلك ، لأنه ليس من قبيل التشبه بالكفار المحرم في شريعتنا .
ولنبدأ بالحديث عن أهداف البنوك الإسلامية :
أهداف البنوك الإسلامية ليست تقديم الخدمات فقط ، بل أعمق من ذلك بكثير ، وبعضها مرتبط بالعقيدة ، وأهم أهدافها هدفان :
أحدهما : التخلص من التبعية الاقتصادية لغير المسلمين .
وهذا الهدف هدف أسمى للاقتصاد الإسلامي ، ذلك أن المعاملات المصرفية ، ونظام النقد ، إذا صارت مقاليده بيد غير المسلمين ، أدى ذلك إلى استعباد الأمة .
ذلك أن الاقتصاد في هذا العصر قد يدمر الدول والمجتمعات ، ويهدد الأمن والاستقرار ، وقد يؤدي إلى سحب رؤوس الأموال من بنوك الدولة فتنهار ، وقد يؤدي بالدولة إلى أن تصبح مقاليدها السياسية ليست بيدها ، وتخضع تشريعاتها بل عقيدتها لمن يسيطر على اقتصادها ، من هنا لابد من إيجاد بنوك إسلامية عملاقة ، تدير الاقتصاد في بلاد المسلمين ، وتخلصنا من التبعية .
هذه هي الفكرة الأساسية لهذا الهدف ، ويتفرع منه ثلاثة فروع :
أولا : في المعاملات المصرفية .(1/39)
من المهم إنشاء بنوك في الدول الإسلامية ، تقوم بالمعاملات المصرفية فيما بين المسلمين ، وتؤدي الخدمات التي تحتاجها الشعوب الإسلامية ، مثل إرسال أموال للخارج أو استقبال أموال ، أو فتح اعتمادات للتجار ، وأحيانا تكون صفقات كبيرة ، فإن لم يكن هناك بنوك إسلامية فسوف يضطر المسلمون إلى أن يفتح غير المسلمين فروعا عندهم ، وحينها يصبح النظام المصرفي كله مقيدا بمعاملات غير المسلمين المصرفية ، وهذا خطر يجب تجنبه .
ثانيا : في شؤون النقد :
لا يخفى أن كثيرا منا يتساءل كيف أصبح الدولار أقوى عملة في العالم ، والجواب : أن ذلك بسبب تبعيتنا نحن في نظام النقد العالمي ، وإلا فالواجب أن يسعى المسلمون لتكون ثمة عملة إسلامية عالمية أقوى من الدولار ، أو تنافسه على الأقل .
ثالثا : رؤوس الأموال .
من أهداف البنك الإسلامي توجيه رؤوس الأموال الإسلامية إلى داخل البلاد الإسلامية واستثمارها فيها ، وإدارتها بأيد إسلامية .
الثاني من أهداف البنوك الإسلامية : جمع و استثمار رؤوس الأموال .
وذلك من خلال هذه القنوات :
أ - الحث على الادخار ، فالبنك الإسلامي يدعو أصحاب الأموال ، للاستثمار في المشاريع طويلة الأجل ، لينتفع بها اقتصاد الدول الإسلامية .
ب – الحد من التضخم ، ويحدث التضخم عندما تضعف العملة ، أي أن العملة لا توازي القيمة الشرائية داخل البلد ، فالبنوك الإسلامية ، لا تلجأ إلى خلق نقود دون مقابل ، لأنها إنما تقوم على استثمار ما لديها من الودائع دون إثراء غير مشروع ، بينما تقوم البنوك التجارية بفتح اعتمادات يسحبون عليها ، ويستفيد البنك الربوي من أضعاف المبالغ المودعة لديه ، وهذا الإنفاق الذي لا يقابله إنتاج يزيد حجم المتداول من النقد دون مقابل من السلع أو الخدمات ، ونتيجة هذا هو ارتفاع الأسعار ، ويحصل التضخم النقدي ، فالبنوك الإسلامي من أهدافها القضاء على هذه المظاهر .
ج – تشجيع المعاملات التجارية المباشرة بين الدول الإسلامية ، وبذلك لا تتدخل فيها بنوك عالمية غير إسلامية ، وتتحرر التجارة ويسهل التبادل ، ونقول مع الأسف الشديد إن هذه الهدف قد بدأ في أوروبا والغرب ، لا في الدول الإسلامية .
د – التمويل الاستثماري ، يعني أن التاجر الذي يريد مالا يفتح به مشاريع استثمارية بطرق شرعية ، يوفر له البنك هذا المال كي لا يتوجه للبنوك الربوية ويقع في الربا .
هـ - جمع الزكاة وتوزيعها ، ويستفيد من الزكاة التي يجمعها فيستثمر ويستفيد في هذا الجزء المهم من الاقتصاد الإسلامي .
هذه هي مجمل أهداف البنوك الإسلامية ، وإذا لم تحقق هذه الأهداف تكون قد فشلت فشلا ذريعا وتحولت إلى ظاهرة شكلية تؤدي دورا ثانويا خاليا من المضمون .
مصادر الأموال الإسلامية في البنوك الإسلامية :
تنقسم مصادر الأموال في البنوك الإسلامي إلى قسمين :
1 – مصادر داخلية :
وهي رأس مال البنك ، والفرق بين البنك الإسلامي ، أن أصحاب رأس المال شركاء وليسوا دائنين للبنك في حالة البنك الإسلامي ، بينما هم دائنون للبنك في حالة البنك الربوي .
والمصدر الداخلي الثاني هو : الأموال المحتجزة من الأرباح [الاحتياطات] .
وذلك أنه يحق للبنك أن يحجز الأرباح ليحمي رأس المال ، فلو كان ثمة أرباح وحصلت خسارة فيما بعد ، فإن الخسارة تغطى بالأرباح ، وهذا يكون باتفاق منذ البداية بين البنك والعميل ، ولدينا في الفقه الإسلامي في شركة المضاربة ، لا يأخذ المضارب الربح حتى يأذن رب المال لأنه قد يجعل الربح في ضمان رأس المال بسبب الخسارة التي قد تحدث .
2 – مصادر خارجية : وتحتها :
أولا ـ الودائع .
أكبر مصدر خارجي هو الودائع ، فالبنك الإسلامي ، عامة أمواله ودائع للناس ، وهناك أنواع منها :
o الوديعة الاستثمارية : وهي حساب التوفير .
o الوديعة تحت الطلب : وهي الحساب الجاري .
o الوديعة الادخارية : وهي أن تضع أموالك عندهم لفترة زمنية طويلة ، فتدخرها وتأخذ عليها أرباحا .
o وديعة المستندات : تضع عندهم مستندات ويأخذون عليك أجرة .
و لعل أكثر أموال البنك من الودائع التي وضعها الناس عنده ويتاجر بها في السوق .
ثانيا ـ الهبات والتبرعات .
*******
الخدمات التي يقدمها البنك الإسلامي وأحكامها الشرعية :
عامة المعاملات التي تؤديها البنوك الإسلامية ، تدور حول هذه العقود : الإجارة ، الشركة ، القرض ، الضمان ، الوكالة ، الوديعة ، والحوالة .
وبعض المعاملات تتركب من اثنتين أو ثلاث أو أربع من هذه العقود .
ووظيفة الهيئة الشرعية في البنك أن تخرج الخدمات والمعاملات التي يقدمها البنك الإسلامي تخريجا شرعيا ضمن هذه العقود السبعة ،وربما غيرها أيضا ، بشرط أن لا يكون فيها تحايل ، ولهذا أبدى بعض العلماء رأيا وجيها هو ضرورة أن تستقل الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية عن إدارة البنك حتى لا تلجأ إلى الحيل لإباحة ما هو محرم .
وهذه أحكام بعض المعاملات التي تؤديها البنوك الإسلامية :
1 – حفظ الودائع ، فالبنك الإسلامي يحفظ أموال المشتركين كودائع ويعطيهم أرباحا عليها إن كانت ودائع استثمارية ، وله أن يأخذ أيضا أجرة على حفظ الأموال إن كان المقصود منها الإيداع لمجرد حفظها .
ولكن لا يجوز للبنك أن يعطي فوائد ثابتة على الوديعة ، ولكن يأخذ أجرة على ما يقوم به من خدمات مصرفية .
2 – المعاملات المصرفية ، ومن أهم ما يسأل عنها الناس هذه الأيام :
( ( بطاقة الائتمان )
وهي بطاقة تسديد المدفوعات ، ويوجد 200 بنك في العالم في أكثر من 163 دول تصدر بطاقة الائتمان .
والإشكال الذي في هذه البطاقة أن البنك يأخذ من التاجر حسما من الفاتورة عند شراء العميل من التاجر ، وهذا الحسم ظاهره أنه فائدة ربوية مقابل إقراض البنك العميل لحامل البطاقة ، وهذا الإقراض ربا ، والبنوك الربوية تأخذ فوق هذا رسوم تأخير فيما لو تأخر استرداد القرض من العميل مع الفوائد طبعا .
وهذا الإقراض معجل بمعنى أن البنك يأخذ الفائدة من التاجر فورا ، ثم يسترد دينه من العميل بعد ذلك .
ويقول بعض العلماء لسان حال البنك أنه يقول للتاجر " لا تكن أيها التاجر شريكا في البيع على حاملي البطاقة إلا بشرط أن تدفع عنه فائدة القرض " ، ولسان حال حاملها يقول للتاجر : " أنا أشتري منك وأحيلك بالثمن على البنك ، بشرط أن تدفع فائدة القرض للبنك " .
والإشكال الثاني أنك عندما تسحب من حسابك نقدا من بنك آخر ، فإنه يخصم عليك فائدة قدرها 4% وهي فائدة على القرض .
فإن قيل فكيف يصدر البنك الإسلامي هذه البطاقة ، وكيف يسمح باستعمالها ، فالجواب أنهم يقولون إننا لا نسمح له بالسحب من بنكنا نقدا ، وأما حسم التاجر فهو عمولة مقابل منفعة تسهيل المعاملات بواسطة هذه البطاقة .
فأما البنوك الربوية فبطاقة الائتمان محرمة لأنها ربا صريح ، وأما البنك الإسلامي فلا يخلو الأمر من شبهة والله اعلم .
( بيع الأسهم والسندات .
ما هو الفرق بين الأسهم والسندات ؟
السهم هو حصة في رأس مال الشركة أي تشتري جزءا من الشركة ، فتملك منها على قدر ما تملك من الأسهم ، فإن كان مصنعا ملكت جزءا من المصنع .
أما السندات فهي دين لك على الشركة ، وهو صك يتضمن تعهدا من البنك لحامله بسداد مبلغ في تاريخ معين بفائدة غالبا .
ولتوضيح ذلك نذكر هذا المثال :(1/40)
& قد تحتاج شركة إلى مبلغ من المال لتمويل مشاريعها ، ونظرا لأنها لا تملك رصيدا من المال فإنها تلجأ إلى حيلة ، فتصدر سندات بالمبلغ الذي تحتاج إليه ، وتعرض هذه السندات على الجمهور لشرائها ، ويكون لكل سند فائدة ، فإذا مضت المدة ردت إليه قيمة سنداته ، واستفادت الحصول على المال .
وبيع الأسهم جائز بثلاثة شروط :
أ - أن تكون الأسهم في شركة حقيقية لا وهمية ، ومعلومة .
ب - أن لا تشتمل معاملات الشركة على غرر أو تدليس أو غش أو جهالة .
ج - أن لا يكون نشاطها في تجارة محرمة كالبنوك الربوية أو معامل الخمر أو شركات السينما .
والبنوك الربوية تتعامل ببيع السندات لكن البنوك الإسلامية حظرت ذلك ، فإصدارها من أول الأمر عمل غير شرعي ، والتبايع فيها لا يجوز أيضا ، ولا يصح لحامل السند بيعه .
( خطابات الضمان :
وهو أن يتعهد البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد [ صاحب البضاعة الذي يريد أن يبيعها من بلد آخر مثلا ] نيابة عن طالب الضمان [ التاجر في البلد الذي يريد استيراد البضاعة ويطلب من البنك خطاب ضمان لكي يطمئن ذلك التاجر المصدر إلى التعامل معه ] ، وهو نوع من التأمين النقدي ، وضمان جدية كل طرف .
والسؤال هو : عندما يمنح البنك الإسلامي خطابا لتاجر على أن البنك يضمنه ، فهل يجوز للبنك أخذ مقابل لهذا ؟ من العلماء من قال يجوز لأنه يقدم خدمة للعميل فيأخذ عمولة عليها ، ولكن الحقيقة أن خطاب الضمان هو محض إحسان لا يجوز أخذ الأجرة عليه .
هذا إذا كان خطاب الضمان غير مغطى ، بمعنى أن طالب الضمان لم يضع في البنك رصيدا يغطي المبلغ الذي طلب الضمان عليه ، أما إذا وضع ذلك ، وأخذ البنك مبلغا مقابل خدماته فقط ، فهذا يجوز ، لأن البنك لم يأخذ مقابل قرض أعطاه لطالب الضمان .
( فتح الاعتمادات المستندية :
والاعتماد المستندي هو أن يقوم البنك بدفع مبالغ نقدية لمصدر البضاعة بناء على طلب العميل ، فهو إذن وسيلة لتنفيذ الوفاء بالثمن بين البائع والمشتري .
فإن كان البنك يدفع من ماله كأنه يقرض العميل ، ثم يأخذ منه بعد ذلك ويزيد فائدة فهذا هو الربا بعينه ، وإن كان يأخذ مقابل ما قام به من خدمات من الاتصال بين الطرفين وتسهيل وصول البضاعة ، فأخذ الأجرة على ذلك جائز ، ولكن الإشكال فيما لو كان المبلغ الذي يعطيه البنك للتاجر في الخارج ( مثلا ) نيابة عن العميل ، غير مغطى من العميل ، بمعنى أن العميل لم يضع عند البنك رصيدا ، ثم يقول البنك أنه أخذ عمولة أتعاب ، ولكنه في الحقيقة يجعل دفع العمولة حيلة على أخذ فائدة على الربا ، ونقول الضابط هنا هو : اعتبار ذلك بأجره المثل ، فإذا كانت تلك الأتعاب و الخدمات ، أجرة مثلها تلك العمولة التي يأخذها البنك كان بها وإلا فلا يجوز والله أعلم .
( بيع العملات :
إذا تعامل البنك الإسلامي بالعملات ، يجب عليه أن يراعي شرط التقابض عند التبايع بين العملتين حتى لا يقع في ربا النسيئة .
( التحويلات :
ويجوز للبنك الإسلامي أن يأخذ عمولة على التحويلات وذلك مقابل الخدمات ، التي يقدمها ، ويستفيد كذلك ربح التجارة في العملة عند التحويل إلى الخارج بعملة مختلفة .
( الشيكات والكمبيالات والسند الإذني :
الشيك ، هو أمر من العميل إلى المصرف ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري .
أما الكمبيالة فهي مثل الشيك ولكن الكمبيالة قد لا يكون السحب من بنك ، بل من غيره ، كما أن الشيك أمر بالدفع في الحال ، أما الكمبيالة ففي وقت معين.
أم السند الإذني فهو يكون بين اثنين يكتب فيه أن عليه دين لفلان ويتعهد بدفع مبلغ وقدره كذا في تاريخ معين ، فالسند الإذني هو بين اثنين ولا يوجد بنك هنا .
ويتفق السند الإذني مع الكمبيالة في أن السداد في تاريخ معين ، ولكن السند الإذني لا يوجد بنك ، والكمبيالة يوجد .
ويتفق الشيك والكمبيالة في وجود طرف ثالث يصرف ، ولكن في الكمبيالة قد يكون البنك وقد يكون غيره ، وفرق آخر أن الشيك يصرف فورا .
ومثاله أن يأتي البنك الربوي ويقول لمن عنده شيك ب 60 ألف مثلا ، خذ 50 ألفا معجلة ، وأنا أحصل الشيك ويكون الباقي لي ، وقد يقول البنك الإسلامي لماذا لا أمارس عملية خصم الأوراق التجارية كالكمبيالات والسندات الإذنية والشيكات ، وهذا لا يجوز للبنك الإسلامي التعامل فيه، لأنه ليس سوى حيلة على أكل الربا .
ولكن لو فرضنا أن الشيك أو السندات التجارية على البنك الإسلامي نفسه ، فهل يجوز له أن يعجل السداد مقابل أن يسقط العميل بعض الدين ، والأصح أن هذا جائز ، لأنه من الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ، أو [ ضع وتعجل ] .
وأما إن كان على غير البنك ، فلا يجوز للبنك أن يمارس عملية خصم الأوراق التجارية ، لأن ذلك من الربا .
ويجوز للبنك أن يأخذ عمولة على تحصيل الأوراق التجارية ، بمعنى أن يقوم نيابة عن العملاء الذين يريدون تحصيل أموالهم ، بأتعاب المتابعة وإرسال الإخطارات والإشعارات بالسداد .. إلى آخره ، ويجب أن تكون هذه العمولة تناسب الجهد المبذول ، بمعنى أن تكون بأجرة المثل
-==============
خصائص الاقتصاد الإسلامي
أولاً : ربانية المصدر :
الخصيصة الأولى للاقتصاد الإسلامي أنه رباني المصدر , فليس هو الإقتصاد الذي قال به أفلاطون أو أرسطو , و ليس هو اقتصاد التجاريين أو الطبيعيين , أو الكلاسيكيين أو الماركسيين و إنما هو جزء من الإسلام , فمصدره إلهي , مستمد من بيان الله .
فالمصدر الأول هو القرآن الكريم , و قد حفظ كما أُنزل و سيحفظ إلى يوم القيامة لأن الله - عز و جل - تعهد بحفظه
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر , { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (41) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) سورة فصلت
و القرآن الكريم فصل فيما لا يتغير تبعا للمكان و الزمان , كالميراث مثلا , و أجمل في غيره كنظام الحكم .
و جاءت السنة المطهرة لتبين القرآن الكريم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل
غير أننا لا نتعبد بتلاوتها و السنة وحي كالقرآن , و من تمام تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة ما دامت المبينة الشارحة , و قد حفظت السنة بما لم يحفظ به أي علم في تاريخ البشر
الإجماع حجة :
وبعد الكتاب و السنة يأتي الإجماع , فكيف يكون متصلا بالوحي وهو إجماع بشر غير معصومين ؟؟!!!
تحدث شيخ الإسلام بن تيمية عن حجية الإجماع فقال : الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء
و ذكر الأراء المختلفة حول دلالة الآية الكريمة ثم قال رحمه الله "-
" و من شاقه فقد اتبع غير سبيلهم و هذا ظاهر , و من اتبع غير سبيلهم فقد شاقه ايضا , فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد , فدل على أنه وصف مؤثر في الذم فمن خرج عن اجماعهم اتبع غير سبيلهم قطعا , و الآية توجب ذم ذلك .(1/41)
و إذا قيل إنها ذمته مع مشاقة الرسول , قلنا لأنهما متلازمتان , و ذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول - صلى الله عليه و سلم - فالمخالف لهم مخالف للرسول , كما أن المخالف للرسول مخالف لله , لكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول , وهذا هو الصواب "
فلا توجد أبداً مسألة مجمع عليها إلا و فيها بيان من الرسول و لكن قد يخفى ذلك عن بعض الناس و يعلم الإجماع فيستدل به , كما أنه قد يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثانٍ مع النص , كالأمثال المضروبة في القرآن و كذلك الإجماع دليل أخر كما يقال , قد دل على ذلك الكتاب و السنة و الإجماع ,
و كل من هذه الأصول يدل على الحق من تلازمها فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب و السنة و ما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ , فالكتاب و السنة كلاهما مأخوذ عنه و لا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا و فيها نص .
و قد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة و ليس كذلك
ثم قال رحمه الله " استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة , و كثير من العلماء لم يعلم النص و قد وافق الجماعة , كما أنه قد يحتج بقياس و فيها اجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع (1)
القياس و غيره من المصادر :
و إذا جئنا إلى باقي المصادر بعد النص و الإجماع وجدنا القياس , و غيره من المصادر التي يلجأ غليها المجتهدون , و الإجتهاد إنما يقبل ما دام في ضوء النصوص و مقاصد التشريع الإسلامي , فالمجتهد يحاول أن يصل إلى الحكم الشرعي في ضوء الوحي , و ليس بلهوى و التشهي .
نعم قد بخطئ المجتهد لكنه لا يترك الوحي فلا اجتهاد مع النص ,و إنما يأتي الخطأ من غير عمد فيما يجد من الأمور الإقتصادية التي يرى المجتهد أنها حلال أو حرام بحسب الأدلة الشرعية التي يستند إليها و ليس التحريم و التحليل من عند نفسه .
و معنى هذا أن الاقتصاد الإسلامي في جملته مصدره الوحي , أو الاجتهاد في ضوئه . و هذه الخصيصة لا توجد في اي مذهب اقتصادي أخر , فكل المذاهب الأخرى من وضع البشر .
اقتصاد أهل الكتاب ... هل هو رباني المصدر ؟
ماذا عند اليهود ؟
و إذا كان هذا واضحا بالنسبة للاقتصاد الذي ينسب للأفراد , و لم يدعوا هم أنفسهم أنهم استمدوا من الوحي , فقد يقال بربانية المصدر للفكر الإقتصادي عند اليهود أو المسيحيين .
و نحن نعرف أن الديانات السابقة للإسلام كانت مؤقتة , فهي تمثل مرحلة انتقالية إلى أن يأتي الدين الخاتم , لذلك لم يكن هناك منهج اقتصادي كامل . ولذلك أيضا لم يتعهد الله تعالى بحفظ كتبهم كما تعهد بحفظ القرآن الكريم , فحرفت و بدلت .
و قد أشار القرآن الكريم إلى بعض تعاملات عند اليهود حيث قال الله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا} {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (160) (161) سورة النساء
و في التوراة المحرفة التي يسير عليها اليهود نجد غباحة الربا ما دام الإقراض لغير يهودي " " لا تقرض أخاك بربا , ربا فضة أو ربا طعام , أو ربا شئ مما يقرض بربا . للأجنبي تقرض بربا , و لكن لأخيك لا تقرض بربا كي يباركك الرب "
و مثل هذا لا يمكن أن يحله " رب الناس . ملك الناس . إله الناس " فهو سبحانه و تعالى ليس ربا لليهود دون سواهم
و عند النصارى ؟
و إذا نظرنا إلى الفكر الاقتصادي عند المسيحيين و جدنا أن الاقتصاد ارتبط بالكنيسة في العصور الوسطى قبل أن يظهر مذهب التجاريين , و اتفقت بعض الأمور الاقتصادية مع الوحي , و لكنا وجدنا تعاون الكنيسة مع الإقطاع نفسه , حيث ملكت في بعض البلاد ثلث الأرض , و اشتركوا في الظلم الذي ساد القرون الوسطى , و كان لسوء أعمال رجال الكنيسة أثر في قيام الثورات , و الدعوة لفصل الدين عن الدولة , و هذه القرون المظلمة عندهم كانت عصور النور عندنا حيث أُرسل الرحمة المهداه - صلى الله عليه و سلم - ووجدت خير أمة أخرجت للناس .
و إذا وجدنا في فكرهم الإقتصادي ما يتفق مع الوحي كتحريم الربا , فإنا وجدنا أيضا - إلى جانب الظلم و الاستبداد - ما لا يتفق مع الوحي كتحليل بعض أنواع الربا , أو التقليل من شأن التجارة .
و على سبيل المثال نجد أن توماس الأكويني الذي عرف باعتداله في أفكاره الاقتصادية و ميله غلى الارتباط بالدين , رأيناه يقف في تحريم الربا عند القروض الاستهلاكية ,و يحل ربا التجارة
و الربا الذي حرم بالكتاب و السنة و كان شائعا في الجاهلية كان جله في التجارة , أما القروض الاستهلاكية فكانت نادرة .
و نخلص من هذا أن الاقتصاد الإسلامي وحده رباني المصدر , لذا وجب الإيمان بأنه هو الصالح للناس , فيجب الأخذ به و تطبيقه فهو اقتصاد معصوم في أوامره و نواهيه و مبادئه الكلية و اقرب غلى الصواب من الأمور التي تكون بالاجتهاد .
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
النهي عن الربا في القرآن الكريم
مثل الذين يأكلون الربا
قال تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) [البقرة/278-280] } [البقرة/275، 280] }
قال الجصاص (2):
بَابُ الرِّبَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصْلُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ لِزِيَادَتِهَا عَلَى مَا حَوَالَيْهَا مِنْ الْأَرْضِ ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ مِنْ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُرْتَفِعَةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ ( أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ ) إذَا زَادَ عَلَيْهِ .
__________
(1) - (1) انظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية 19/192-196
المصدر كتاب مسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 170)(1/42)
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى النَّسَاءَ رِبًا فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَالَ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : ( إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ ) يَعْنِي الْحَيَوَانَ .
وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا : ( إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا ، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ ) ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّبَا قَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَمَا خَفِيَ عَلَى عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَسْمَاءِ اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً رِبًا وَهُوَ رِبًا فِي الشَّرْعِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُجْمَلَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْبَيَانِ ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمَنْقُولَةُ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ لَمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ ، نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ إلَّا فِيمَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ .
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ مُرَادِ اللَّهِ بِالْآيَةِ نَصًّا وَتَوْقِيفًا .
وَمِنْهُ مَا بَيَّنَهُ دَلِيلًا ، فَلَمْ يَخْلُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفهُ وَتَفْعَلُهُ إنَّمَا كَانَ فَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اُسْتُقْرِضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ مُتَفَاضِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ .
هَذَا كَانَ الْمُتَعَارَفَ الْمَشْهُورَ بَيْنَهُمْ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ إنَّمَا كَانَتْ رِبًا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْمُقْرِضِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } إخْبَارًا عَنْ الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ مِنْ شَرْطِ الزِّيَادَةِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَأَبْطَلَ ضُرُوبًا أُخَرَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَسَمَاهَا رِبًا ، فَانْتَظَمَ قَوْله تَعَالَى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا لِشُمُولِ الِاسْمِ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَعَامُلُهُمْ بِالرِّبَا إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَرْضِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ مَعَ شَرْطِ الزِّيَادَةِ .
وَاسْمُ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَالثَّانِي : التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعْتَبِرُ مَعَ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا ، وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الْأَكْلَ مَعَ الْجِنْسِ ؛ فَصَارَ الْجِنْسُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ انْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
وَالثَّالِثُ : النَّسَاءُ ، وَهُوَ عَلَى ضُرُوبٍ : مِنْهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسَاءً سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ مِنْ الْمَوْزُونِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا بَيْعُ ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ نَسَاءً لِوُجُودِ الْجِنْسِ ؛ وَمِنْهَا : وُجُودُ الْمَعْنَى الْمَضْمُومِ إلَيْهِ الْجِنْسُ فِي شَرْطِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، فَلَوْ بَاعَ حِنْطَةً بِجِصٍّ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ الْكَيْلِ ، وَلَوْ بَاعَ حَدِيدًا بِصُفْرٍ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ الْوَزْنِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الشَّرْعِيِّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ قَالَ عُمَرُ : ( إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ ) وَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ رِبًا ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا .
فَجُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ النَّسَاءُ وَالتَّفَاضُلُ عَلَى شَرَائِطَ قَدْ تَقَرَّرَ مَعْرِفَتُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا ، وَالشَّعِيرُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا } وَذَكَرَ التَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَسَمَّى الْفَضْلَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رِبًا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسٍ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : { لَا رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ يَقَعُ عَلَى التَّفَاضُلِ تَارَةً وَعَلَى النَّسَاءِ أُخْرَى .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : ( لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا ) وَيَذْهَبُ فِيهِ إلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ؛ ثُمَّ لَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ .
قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ : رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَعَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ .(1/43)
وَإِنَّمَا مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ النَّسَاءُ فِي الْجِنْسَيْنِ ، كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدِ } وَذَكَرَ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : { بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } فَمَنَعَ النَّسَاءَ فِي الْجِنْسَيْنِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَأَبَاحَ التَّفَاضُلَ ؛ فَحَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا .
وَمِنْ الرِّبَا الْمُرَادِ بِالْآيَةِ شِرَى مَا يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبًا حَدِيثُ يُونُسُ بْنَ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ : إنِّي بِعْت زَيْدَ بْنَ أَرَقْمَ جَارِيَةً لِي إلَى عَطَائِهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ ؟ فَقَالَتْ : بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت أَبْلَغِي زِيدَ بْنَ أَرَقْمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ .
فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ فَقَالَتْ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } فَدَلَّتْ تِلَاوَتُهَا لَآيَةِ الرِّبَا عِنْدَ قَوْلِهَا ( أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ) أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا مِنْ الرِّبَا ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَكَمِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : سَأَلْته عَنْ رَجُلٍ بَاعَ طَعَامًا مِنْ رَجُلٍ إلَى أَجَلٍ فَأَرَادَ الَّذِي اشْتَرَى الطَّعَامَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَقْدٍ مِنْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : هُوَ رِبًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ شِرَاءَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ شِرَاءَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَائِزٌ ، فَسَمَّى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ذَلِكَ رِبًا .
وَقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِي آخَرِينَ : ( إنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ لَمْ يَشْتَرِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ ) .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَبْضَ الثَّمَنِ ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ .
فَدَلَّ قَوْلُ عَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ رِبًا ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يُسَمِّيَاهُ رِبًا إلَّا تَوْقِيفًا ؛ إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَلَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ، وَأَسْمَاءُ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : { عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ } وَهُمَا سَوَاءٌ .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } إلَّا أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِمِقْدَارِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ ، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جَائِزٌ وَهُمَا دَيْنَانِ ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ .
وَمِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا الَّذِي تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَهُ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَيُصَالِحُهُ مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ فَلَا يَجُوزُ .
وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ : يَكُونُ لِي عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ فَأَقُولُ عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك ؟ فَقَالَ : ( هُوَ رِبًا ) .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : ( لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ) .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ إنَّمَا كَانَ قَرْضًا مُؤَجَّلًا بِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ بَدَلًا مِنْ الْأَجَلِ ، فَأَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَرَّمَهُ وَقَالَ : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } حَظَرَ أَنْ يُؤْخَذَ لِلْأَجَلِ عِوَضٌ ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٌ فَوَضَعَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهُ فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ ، فَكَانَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا الَّذِي نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ فَقَالَ لَهُ : أَجِّلْنِي وَأَزِيدُك فِيهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ عِوَضٌ مِنْ الْأَجَلِ ، كَذَلِكَ الْحَطُّ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ ؛ إذْ جَعَلَهُ عِوَضًا مِنْ الْأَجَلِ .
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَنْ الْآجَالِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ : ( إنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ بَاطِلٌ فَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَطَّ بِحِذَاءِ الْأَجَلِ ، وَالْعَمَلِ فِي الْوَقْتَيْنِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ ) فَلَمْ يُجِزْهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْأَجَلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .(1/44)
وَمَنْ أَجَازَ مِنْ السَّلَفِ إذَا قَالَ " عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْك " فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَجَازُوهُ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ عَنْهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَيُعَجِّلَ الْآخَرُ الْبَاقِيَ بِغَيْرِ شَرْطٍ ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ قَدْ يَكُونُ رِبًا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، وَأَنَّ النَّسَاءَ قَدْ يَكُونُ رِبًا فِي الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ قَدْ يَكُونُ رِبًا بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَقَوْلِهِ : { إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } وَتَسْمِيَةُ عُمَرَ إيَّاهُ رِبًا وَشِرًى مَا بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَشَرْطُ التَّعْجِيلِ مَعَ الْحَطِّ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَهُوَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ .
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا فِي أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا النَّصِّ مَعْنِيٌّ بِهِ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِنْسِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَأَنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا : إنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا التَّوْقِيفُ دُونَ تَحْرِيمِ غَيْرِهَا .
وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ دَلَائِلُ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فَحَوَى الْخَبَرِ قَوْلُهُ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ } فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ بِالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ وَبِالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي التَّحْرِيمِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ مَضْمُومًا إلَى الْجِنْسِ وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ الْآيَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَكْلِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
وقَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } فَأَطْلَقَ اسْمَ الرِّبَا عَلَى الْمَأْكُولِ ؛ قَالُوا : فَهَذَا عُمُومٌ فِي إثْبَاتِ الرِّبَا فِي الْمَأْكُولِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا : مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَالِ لَفْظِ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ وَافْتِقَارِهِ إلَى الْبَيَانِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ ، إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَثْبُتَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ رِبًا حَتَّى يُحَرِّمَهُ بِالْآيَةِ وَلَا يَأْكُلَهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ إثْبَاتُ الرِّبَا فِي مَأْكُولٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ الْمَأْكُولَاتِ فِيهَا رِبًا ، وَنَحْنُ قَدْ أَثْبَتْنَا الرِّبَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ ، وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْآيَةِ .
وَلَمَا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ كَمَا بَطَلَ بَيْعُ أَلْفٍ بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ ، فَجَرَى الْأَجَلُ الْمَشْرُوطُ مَجْرَى النُّقْصَانِ فِي الْمَالِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ كَمَا لَا يَجُوزُ قَرْضُ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ؛ إذْ كَانَ نُقْصَانُ الْأَجَلِ كَنُقْصَانِ الْوَزْنِ ، وَكَانَ الرِّبَا تَارَةً مِنْ جِهَةِ نُقْصَانِ الْوَزْنِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ نُقْصَانِ الْأَجَلِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ الْقَرْضُ فِي ذَلِكَ كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُفَارَقَتُهُ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي بَيْعِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَكُونُ الْأَجَلُ نُقْصَانًا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَإِنَّ تَرْكَ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا بَطَلَ الْبَيْعُ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ نُقْصَانِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ الصِّنْفَانِ وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي وُجُوبِ التَّقَايُضِ فِي الْمَجْلِسِ أَعْنِي الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ مَعَ جَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِقَبْضِهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَرْكَ الْقَبْضِ مُوجِبٌ لِلنُّقْصَانِ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ سِنِينَ جَازَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ حَالَّةٍ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ يُوجِبُ نَقْصًا فِي الثَّمَنِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ الْوَزْنِ فِي الْحُكْمِ ؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّشْبِيهُ بَيْنَ الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا صَحِيحٌ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالُ .
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّأْجِيلِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ ، فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَرْضَ لَمَّا كَانَ تَبَرُّعًا لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا ، أَشْبَهَ الْهِبَةَ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْهِبَةِ .
وَقَدْ أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْجِيلَ فِيهَا بِقَوْلِهِ : { مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ } فَأَبْطَلَ التَّأْجِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْمِلْكِ .(1/45)
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّتُهَا وَعَارِيَّتُهَا قَرْضُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ ؛ إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : " إذَا أَعَارَهُ دَرَاهِمَ فَإِنَّ ذَلِكَ قَرْضٌ " وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا اسْتِئْجَارَ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهَا قَرْضٌ ، فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا ؛ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْأَجَلُ فِي الْعَارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَرْضِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّةٌ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ الْهِجْرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَدْرُونَ أَيُّ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : خَيْرُ الصَّدَقَةِ الْمِنْحَةُ أَنْ تَمْنَحَ أَخَاك الدَّرَاهِمَ ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ ، أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ } وَالْمِنْحَةُ هِيَ الْعَارِيَّةُ ؛ فَجَعَلَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ عَارِيَّتَهَا ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ } ؟ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فِي الْعَارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَرْضِ .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ التَّأْجِيلَ فِي الْقَرْضِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَمِنْهُ الْإِعَانَةُ .
بَابُ الْبَيْعِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } عُمُومٌ فِي إبَاحَةِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِمَالٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ فِي مَفْهُومِ اللِّسَانِ ؛ ثُمَّ مِنْهُ جَائِزٌ وَمِنْهُ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي جَوَازِ بَيْعٍ أَوْ فَسَادِهِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنْ الْبِيَاعَاتِ ، نَحْوُ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجَاهِيلِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ ؛ وَقَدْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ يُوجِبُ جَوَازَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ مِنْهَا بِدَلَائِلَ ، إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَهَا غَيْرُ مَانِعٍ اعْتِبَارَ عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ فِيمَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ .
وَجَائِزٌ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَالْبَيْعُ اسْمٌ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِهِ لِلْعَاقِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمَعْقُودَ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَمْ يُوجِبْ مِلْكًا ؟ وَهُوَ بَيْعٌ وَالْوَكِيلَانِ يَتَعَاقَدَانِ الْبَيْعَ وَلَا يَمْلِكَانِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } حُكْمُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْوَقْفِ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ ، فَمِنْ الرِّبَا مَا هُوَ بَيْعٌ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِبَيْعٍ وَهُوَ رِبَا أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ الْقَرْضُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْأَجَلُ وَزِيَادَةُ مَالٍ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ .
وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا أَوْجَبَ تَخْصِيصَ مَا هُوَ رِبًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا أَنَّهُ يُوجِبُ إجْمَالَ لَفْظِ الْبَيْعِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ مَا لَا يُسَمَّى رِبًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ فَحُكْمُ الْعُمُومِ جَارٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوُقُوفُ فِيمَا شَكَكْنَا أَنَّهُ رِبًا أَوْ لَيْسَ بِرِبًا ، فَأَمَّا مَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } حِكَايَةً عَنْ الْمُعْتَقِدِينَ لِإِبَاحَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى وَجْهِ الرِّبَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَرْبَاحِ الْمُكْتَسَبَةِ بِضُرُوبِ الْبِيَاعَاتِ ، وَجَهِلُوا مَا وَضَعَ اللَّهُ أَمْرَ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى جَهْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ .
قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } يُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي ، وَيُحْتَجُّ فِيمَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا مُتَسَاوِيَةً أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ وُرُودِ اللَّفْظِ لُزُومُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَحُقُوقِهِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْمِلْكِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ بَقَاءَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ تَرْكِ التَّقَايُضِ ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْمُرَادُ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ .
وَيُحْتَجُّ أَيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : مَا اقْتَضَاهُ مِنْ إبَاحَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَالْآخَرِ إبَاحَةِ أَكْلِهِ لِمُشْتَرِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الْآخَرِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ .(1/46)
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ انْزَجَرَ بَعْدَ النَّهْي فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنْ الْمَقْبُوضِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ حَظْرَ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ وَإِبْطَالَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَبْطَلَ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مِنْهُ مَقْبُوضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَبْطَلَ مِنْهُ مَا بَقِيَ مِمَّا لَمْ يُقْبَضْ ، وَلَمْ يُبْطِلْ الْمَقْبُوضَ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِإِبْطَالِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُ وَأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ وَلَا زِيَادَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ وَقَالَ جَابِرٌ بِعَرَفَاتٍ { إنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } فَكَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاطِئًا لِمَعْنَى الْآيَةِ فِي إبْطَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِمْضَائِهِ مَا كَانَ مَقْبُوضًا .
وَفِيمَا رُوِيَ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ : أَحَدُهَا : أَنَّ كُلَّ مَا طَرَأَ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ كَالْمَوْجُودِ فِي حَالِ وُقُوعِهِ ، وَمَا طَرَأَ بَعْدَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْعَقْدِ لَمْ يُوجِبْ فَسْخَهُ وَذَلِكَ نَحْوُ النَّصْرَانِيِّينَ إذَا تَبَايَعَا عَبْدًا بِخَمْرٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ بَطَلَ الْعَقْدُ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مُسْلِمٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، كَمَا أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يُقْبَضْ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ مَقْبُوضَةً ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحْرَمَا لَمْ يُبْطِلْ الْبَيْعَ كَمَا لَمْ يُبْطِلْ اللَّهُ الرِّبَا الْمَقْبُوضَ حِين أَنْزَلَ التَّحْرِيمَ ؛ فَهَذَا جَائِزٌ فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يُبْطِلَ الْبَيْعَ ، وَلِلْمُشْتَرِي اتِّبَاعُ الْجَانِي مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَبِيعِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَبِيعُ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فَحَسْبُ .
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسُقُوطَ الْقَبْضِ فِيهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ : ( لَا يَبْطُلُ وَالثَّمَنُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ ) .
وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ تَمَامِ الْبَيْعِ وَأَنَّ سُقُوطَ الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَسْقَطَ قَبْضَ الرِّبَا أَبْطَلَ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَاهُ وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مَتَى طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ مَا يُسْقِطُهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ بُطْلَانَهُ .
وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى فَسَادٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَيْنَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَوَضْعِهِ الرِّبَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عُقُودٌ مِنْ عُقُودِ الرِّبَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهَا بِالْفَسْخِ وَلَمْ يُمَيِّزْ مَا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّا كَانَ مِنْهَا بَعْدَ نُزُولِهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُفْسَخُ مِنْهَا مَا كَانَ مَقْبُوضًا ؛ وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ مَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } : مِنْ ذُنُوبِهِ ؛ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا لَهُ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ : { وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } يَعْنِي فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابٍ أَوْ ثَوَابٍ ؛ فَلَمْ يُعْلِمْنَا حُكْمَهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَمْ يَنْتِفْ بِهِ مَا ذَكَرْنَا ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لَاحْتِمَالِهِ لَهُمَا ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَيَكُونُ لَهُ الْمَقْبُوضُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِيَاعَاتِ أَهْلِ الْحَرْبِ كُلَّهَا مَاضِيَةٌ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ التَّقَابُضِ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } .(1/47)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ ، أَحَدَهُمَا : إنْ لَمْ تَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَنْقَادُوا لَهُ ، وَالثَّانِيَ : إنْ لَمْ تَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا بَعْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ اعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَنْ أَرْبَى ( أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَتِيبُهُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلَهُ ) وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ إذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ .
وقَوْله تَعَالَى : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لَا يُوجِبُ إكْفَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي ؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ : { إنَّ عُمَرَ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيَك ؟ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ } .
فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ .
وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ تَلْحَقُهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ قَطْعَ الطَّرِيقِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ وَفَعَلَهَا مُجَاهِرًا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْكُفْرِ .
وقَوْله تَعَالَى : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إخْبَارٌ مِنْهُ بِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُحَارَبَةَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَكَانَ مُمْتَنِعًا عَلَى الْإِمَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عَاقَبَهُ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالرَّدْعِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِقَابَ إذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَجَاهَرَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا حُورِبَ عَلَيْهَا هُوَ وَمُتَّبِعُوهُ وَقُوتِلُوا حَتَّى يَنْتَهُوا ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ عَاقَبَهُمْ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ الْعُقُوبَةِ .
وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ مِنْ الْمُتَسَلِّطِينَ الظَّلَمَةِ وَآخِذِي الضَّرَائِبِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ آكِلِي الرِّبَا لِانْتِهَاكِهِمْ حُرْمَةَ النَّهْيِ وَحُرْمَةَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا .
وَآكِلُ الرِّبَا إنَّمَا انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ الرِّبَا وَلَمْ يَنْتَهِكْ لِمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ حُرْمَةً ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ .
وَآخِذُو الضَّرَائِبِ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُنْتَهِكِينَ لِحُرْمَةِ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ جَبْرًا وَقَهْرًا لَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ ، فَجَائِزٌ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إصْرَارَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الضَّرِيبَةِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ كَيْفَ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُمْ ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ وَأَعْوَانُهُمْ الَّذِينَ بِهِمْ يَقُومُونَ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ .
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ عَلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْكُفْرُ ، وَالْآخَرُ : مَنْعُ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ وَمِنْ أَدَائِهَا ، فَانْتَظَمُوا بِهِ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَالْآخَرُ : الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَى الْإِمَامِ فَكَانَ قِتَالُهُ إيَّاهُمْ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ : ( لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ) وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : ( عِنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلَتْهُمْ عَلَيْهِ ) .
فَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِينَ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ ، وَهَذِهِ السِّمَةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَكَانُوا سَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ لَمَا سَارَ فِيهِمْ هَذِهِ السِّيرَةَ وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ .
الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَعْنِي فِي أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَهْلَ رِدَّةٍ .
فَالْمُقِيمُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِجَمَاعَةٍ تُعَضِّدُهُ سَارَ فِيهِمْ الْإِمَامُ بِسِيرَتِهِ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ إنْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِتَحْرِيمِهِ وَفَعَلُوهُ غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ إنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَتُوبُوا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ رَدَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يَنْتَهُوا .(1/48)
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا ذِمَّةً نَصَارَى : إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَيُّوبُ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ ، عَنْ أَبِي مَلِيحٍ الْهُذَلِيِّ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا فِي آخِرِهِ : عَلَى أَنْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ } .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } عَقِيبَ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ عَلَى حَالِهِ وَمِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ قَبُولِ الْأَمْرِ .
فَمَنْ رَدَّ الْأَمْرَ قُوتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَمَنْ قَبِلَ الْأَمْرَ وَفَعَلَهُ مُحَرِّمًا لَهُ قُوتِلَ عَلَى تَرْكِهِ إنْ كَانَ مُمْتَنِعًا وَلَا يَكُونُ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عُزِّرَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ .
وقَوْله تَعَالَى : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إعْلَامٌ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَفِي ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِمِقْدَارِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ السِّمَةَ ، وَهِيَ أَنْ يُسَمُّوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَهَذِهِ السِّمَةُ يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : الْكُفْرُ إذَا كَانَ مُسْتَحِلًّا ، وَالْآخَرُ : الْإِقَامَةُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ إعْلَامٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُحَارَبَتِهِمْ ، وَيَكُونُ إيذَانًا لَهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى لَا يُؤْتُوا عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْخِطَابُ بِذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِمْ إذَا كَانُوا ذَوِي مَنْعَةٍ ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلِي ذَلِكَ فِي الْخِطَابِ وَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهِ ، فَهُوَ أَوْلَى .
قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ ، وَالثَّانِي : عَلَى أَنَّ ( كَانَ ) الْمُكْتَفِيَةَ بِاسْمِهَا عَلَى مَعْنَى : ( وَإِنْ وَقَعَ ذُو عُسْرَةٍ أَوْ إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ ) كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : فِدًى لِبَنِي شَيْبَانَ رَحْلِي وَنَاقَتِي إذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ مَعْنَاهُ : إذَا وُجِدَ يَوْمٌ كَذَلِكَ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ( أَنَّهُ فِي الرِّبَا خَاصَّةً ) وَكَانَ شُرَيْحٌ يَحْبِسُ الْمُعْسِرَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ .
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَالضَّحَّاكِ ( أَنَّهُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ ) ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : ( إنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي الرِّبَا ، وَسَائِرِ الدُّيُونِ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ ) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الِاحْتِمَالِ ، وَلِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوهُ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَا يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى الرِّبَا إلَّا بِدَلَالَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ لَفْظِ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } غَيْرَ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَكَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَا قَبْلَهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ .
قِيلَ : هُوَ كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ لِمَا فِي فَحْوَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِعْسَارِ وَالْإِنْظَارِ قَدْ دَلَّ عَلَى دَيْنٍ تَجِبُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَالْإِنْظَارُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَقٍّ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ وَصَحَّتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا ، فَإِذَا كَانَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حُكْمِ الْإِنْظَارِ إذَا كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ، كَانَ اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَجِبْ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ .
وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّبَا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبْطَلَهُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُنْظَرًا بِهِ ؟ قَالَ : فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي سَائِرِ الدُّيُونِ .
وَهَذَا الْحَجَّاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبْطَلَ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَشْرُوطَةُ وَلَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } وَالرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يَعْنِي سَائِرَ الدُّيُونِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَحَدُهَا ؛ وَإِبْطَالُ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا لَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ الْمَالِ ، بَلْ هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَجِبُ أَدَاؤُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْإِنْظَارُ مَأْمُورًا بِهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ ، فَهُوَ وَسَائِرُ الدُّيُونِ سَوَاءٌ .(1/49)
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَا شَمِلَهُ الْعُمُومُ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِ الرِّبَا فَلَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ لِلْمَعْنَى ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ وَرَدِّهِ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا ؛ وَلَيْسَ الْكَلَامُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْخَصْمِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفْتُمَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ وَرَدِّ غَيْرِ الْمَذْكُورِ إلَى الْمَذْكُورِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى .
وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } قَدْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدِينِ وَجَوَازَ أَخْذِ رَأْسِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اقْتِضَاءَهُ وَمُطَالَبَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ رِضَى الْمَطْلُوبِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَطَالَبَهُ بِهِ فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ شَاءَ أَمْ أَبَى ؛ وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَتْ لَهُ هِنْدٌ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي ، فَقَالَ : { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَأَبَاحَ لَهَا أَخْذَ مَا اسْتَحَقَّتْهُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ مِنْ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَى أَبِي سُفْيَانَ .
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغَرِيمَ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْإِمْكَانِ كَانَ ظَالِمًا ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } فَجَعَلَ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقَضَائِهِ وَتَرْكِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهِ ، فَإِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْهُ كَانَ لَهُ ظَالِمًا وَلِاسْمِ الظُّلْمِ مُسْتَحِقًّا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْحَبْسُ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ : قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ : { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : لَا تَظْلِمُونَ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِالنُّقْصَانِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ .
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالضَّرْبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَبْسًا ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ سَاقِطٌ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ وَبْرِ بْنِ أَبِي دُلَيْلَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : يُحِلُّ عِرْضَهُ : يُغَلِّظُ لَهُ ، وَعُقُوبَتَهُ : يُحْبَسُ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَطْلُ الْغَنِيُّ ظُلْمٌ ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } فَجَعَلَ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمًا ، وَالظَّالِمُ لَا مَحَالَةَ مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْحَبْسُ ، لَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ .
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا هِرْمَاسُ بْنُ حَبِيبٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَرِيمٍ لِي ، فَقَالَ لِي : الْزَمْهُ ثُمَّ قَالَ : يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك ؟ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَبْسَ الْغَرِيمِ لِأَنَّ الْأَسِيرَ يُحْبَسُ ؛ فَلَمَّا سَمَّاهُ أَسِيرًا لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَبْسَهُ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وَالْمُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا الْحَبْسُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوجِبُ غَيْرَهُ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْحَبْسَ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدُّيُونِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ ثَبَتَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَرَكَهُ فِي الْحَبْسِ أَبَدًا حَتَّى يَقْضِيَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا قَالَ إنِّي مُعْسِرٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ قَالَ : فَسَلْ عَنِّي ، فَلَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا ، وَحَبَسَهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْعُسْرِ ، فَلَا يَحْبِسَهُ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : كَانَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ ، يَقُولُونَ : ( إنَّ كُلَّ دَيْنٍ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ مَالٍ وَقَعَ فِي يَدَيْ الْمَدِينِ كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ وَالْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا ، فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِهِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مِنْ مَالٍ وَقَعَ فِي يَدِهِ مِثْلَ الْمَهْرِ وَالْجُعْلِ مِنْ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ ، لَمْ يَحْبِسْهُ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُهُ وَمَلَاؤُهُ ) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : ( يَحْبِسُهُ فِي الدُّيُونِ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا ) .
وَقَالَ مَالِكٌ : ( لَا يُحْبَسُ الْحُرُّ وَلَا الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُسْتَبْرَأُ أَمْرُهُ ، فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ قَدْ خَبَّأَ مَالًا حَبَسَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَيْئًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَخَلَّاهُ ) .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ : ( إذَا كَانَ مُوسِرًا حُبِسَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُحْبَسْ ) .(1/50)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ( إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِيعَ مَا ظَهَرَ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَأَحْلَفَهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَمَنَعَ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ ) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا ( إنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي دَيْنُهُ ) لِمَا دَلَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْأَثَرِ عَلَى كَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَالْوَاجِبُ بَقَاءُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهَا عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ ظَالِمًا إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَذُمُّهُ عَلَى مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُودَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وَإِذَا كَانَ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وُجُودَ الْمَالِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْهُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ حَبْسُهُ وَعُقُوبَتُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ وَاجِدٌ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ؛ وَلَيْسَ ثُبُوتُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عَلَمًا لِإِمْكَانِ أَدَائِهِ عَلَى الدَّوَامِ ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَحْدُثَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي حَصَلَتْ أَبْدَالُهَا فِي يَدِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا يَسَارَهُ بِأَدَائِهَا يَقِينًا وَلَمْ نَعْلَمْ إعْسَارَهُ بِهَا ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْيَسَارِ وَالْوُجُودِ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِعْسَارُ .
وَأَمَّا مَا كَانَ لَزِمَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْهُ ، فَإِنَّ دُخُولَهُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِلُزُومِ أَدَائِهِ ، وَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِقَضَائِهِ ، وَدَعْوَاهُ الْإِعْسَارِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى التَّأْجِيلِ لِلْمُوسِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ ؛ وَلِذَلِكَ سَوَّى أَصْحَابُنَا بَيْنَ الدُّيُونِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَبْدَالِهَا فِي يَدِهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ ؛ إذْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ الْمُوجِبِ عَلَيْهِ الدَّيْنَ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِلُزُومِ الْأَدَاءِ وَثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُطَالِبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مُتَعَاقِدَيْنِ دَخَلَا فِي عَقْدٍ فَدُخُولُهُمَا فِيهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا بِلُزُومِ مُوجِبِ الْعَقْدِ مِنْ الْحُقُوقِ ، وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ بَعْدَ الْعَقْدِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ مُوجِبِهِ ؛ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اعْتِرَافًا مِنْهُمَا بِصِحَّتِهِ ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ مُضَمِّنًا لِلُزُومِ حُقُوقِهِ ، وَفِي تَصْدِيقِهِ عَلَى فَسَادِهِ نَفْيُ مَا لَزِمَهُ بِظَاهِرِ الْعَقْدِ ؛ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مُدَّعِيَ الْفَسَادِ مِنْهُمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَصِحَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْهُمَا ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ دَيْنًا بِعَقْدٍ عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِهِ وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى الْإِعْسَارِ الْمُسْقِطِ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ ، كَمَا لَا يُصَدَّقُ عَلَى التَّأْجِيلِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ حَالًّا .
وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا ( إنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَرْفَعُهُ إلَى الْقَاضِي إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الطَّالِبُ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ ) مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَائِهِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِالْيَسَارِ فِي قَضَائِهِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ بَدِيًّا ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ قَدْ خَبَّأَهُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، فَلَا يُوقَفُ بِذَلِكَ عَلَى إعْسَارِهِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ ، يَحْبِسَهُ اسْتِظْهَارًا لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ ؛ إذْ كَانَ فِي الْأَغْلَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَضْجَرَهُ الْحَبْسُ وَأَلْجَأَهُ إلَى إخْرَاجِهِ فَإِذَا حَبَسَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَقَدْ اسْتَظْهَرَ فِي الْغَالِبِ فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَعْلَمُ يَسَارَهُ سِرًّا فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسَارُهُ خَلَّاهُ مِنْ الْحَبْسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الْمُعْسِرَ فِي غَيْرِ الرِّبَا مِنْ الدُّيُونِ ، فَقَالَ لَهُ مُعْسِرٌ قَدْ حَبَسَهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَقَالَ شُرَيْحٌ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } مَقْصُورٌ عَلَى الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْحَبْسِ فِيهَا الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ .
وَيُشْتَبَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ الْإِعْسَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يُظْهِرَ الْإِعْسَارَ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِ الْيَسَارُ ، فَاقْتَصَرَ الْإِنْظَارُ عَلَى رَأْسِ مَالِ الرِّبَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ وَحُمِلَ مَا عَدَاهُ عَلَى مُوجِبِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ وَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى عُمُومِ اللَّفْظِ لِسَائِرِ الدُّيُونِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ نَصُّ التَّنْزِيلِ وَارِدًا فِي الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ لَكَانَ سَائِرُ الدُّيُونِ بِمَنْزِلَتِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَالِ الْيَسَارِ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ لُزُومِ الْمُطَالَبَةِ بِهِمَا وَوُجُوبِ أَدَائِهِمَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي حَالِ الْأَدَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَبْسِ فِيهَا دُونَهُ .(1/51)
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَاحْتِجَاجُ شُرَيْحٍ بِهِ فِي حَبْسِ الْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمَضْمُونَةُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهَا مُعَلَّقَةٌ بِإِمْكَانِ أَدَائِهَا ، فَمَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا فِي إمْكَانِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِأَدَائِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الدَّيْنَ مِنْ الْأَمَانَاتِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الدَّيْنَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } قِيلَ لَهُ : إنْ كَانَ الدَّيْنُ مُرَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلَى شَرِيطَةِ الْإِمْكَانِ ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ ، وَهُوَ مَحْكُومٌ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ إعْسَارِهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَدَائِهِ .
وَلَمْ يَكُنْ شُرَيْحٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، بَلْ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ وُجُودَ ذَلِكَ ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ مَعَ ظُهُورِ إعْسَارِهِ ، فَلِذَلِكَ حَبَسَهُ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَاكِمِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسَارُهُ وَأَطْلَقَهُ مِنْ الْحَبْسِ ، هَلْ يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : ( لِلطَّالِبِ أَنْ يُلْزِمَهُ ) .
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : ( وَالْمَلْزُومُ فِي الدَّيْنِ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ مَنْزِلِهِ لِلْغِذَاءِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْغِذَاءَ وَمَوْضِعَ الْخَلَاءِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إتْيَانِ مَنْزِلِهِ ) .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : ( لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ ) .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : ( يُؤَاجِرُ الْحُرُّ الْمُعْسِرَ فَيَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ ) ؛ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ إلَّا الزُّهْرِيُّ ، فَإِنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : ( يُؤَاجَرُ الْمُعْسِرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ الْإِعْسَارِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ وَالِاقْتِضَاءَ ، حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ ، فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ جَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ ، فَقَالَ : جِئْتنَا وَمَا عِنْدَنَا شَيْءٌ ، وَلَكِنْ أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ : وَاغَدْرَاه فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الِاقْتِضَاءَ ، وَقَالَ ( إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ بِالدَّيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ اقْتِضَاءَهُ وَلُزُومَهُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ إنَّمَا اشْتَرَى الْبَعِيرَ لِلصَّدَقَةِ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِيَقْضِيَهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ مَا اشْتَرَى ، وَأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ دُونَ الْمُشْتَرَى لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُ اقْتِضَاءَهُ وَمُطَالَبَتَهُ بِهِ .
وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا ثُمَّ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ كَانَ دَيْنًا عَلَى مَالِ الصَّدَقَةِ .
وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ } رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَقَالَ : { فِي الْيَدِ اللُّزُومُ وَفِي اللِّسَانِ الِاقْتِضَاءُ } .
وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عُمَرَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، فَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي شَيْءٌ أَقْضِيكَهُ الْيَوْمَ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقُك حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ يَتَحَمَّلُ عَنْك قَالَ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي قَضَاءٌ وَلَا أَجِدُ مَنْ يَحْتَمِلُ عَنِّي قَالَ : فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا لَزِمَنِي فَاسْتَنْظَرْته شَهْرًا وَاحِدًا فَأَبَى حَتَّى أَقْضِيَهُ أَوْ آتِيَهُ بِحَمِيلٍ ، فَقُلْت : وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ حَمِيلًا وَلَا عِنْدِي قَضَاءٌ الْيَوْمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تُنْظِرُهُ شَهْرًا وَاحِدًا ؟ قَالَ : لَا قَالَ : أَنَا أَحْمِلُ بِهَا فَتَحَمَّلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَتَاهُ بِقَدْرِ مَا وَعَدَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيْنَ أَصَبْت هَذَا الذَّهَبَ ؟ قَالَ : مِنْ مَعْدِنٍ ، قَالَ : اذْهَبْ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ فَقَضَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .(1/52)
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ لُزُومِهِ مَعَ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ مَا عِنْدَهُ قَضَاءٌ .
وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ قَالَ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ تَمْرًا كَانَ عَلَيْهِ ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى قَالَ لَهُ : أُحَرِّجُ عَلَيْك إلَّا قَضَيْتنِي فَانْتَهَرَهُ الصَّحَابَةُ ، فَقَالُوا لَهُ : وَيْحَك أَتَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ ؟ فَقَالَ لَهُمْ : إنِّي طَالِبُ حَقٍّ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا : إنْ كَانَ عِنْدَك تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَك فَقَالَتْ : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّيِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْرَضَتْهُ ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ : أَوْفَيْتنَا أَوْفَى اللَّهُ لَك فَقَالَ : أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ ، إنَّهَا لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ مِنْهَا حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ } .
فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْضِيَهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ مُطَالَبَتَهُ وَاقْتِضَاءَهُ بِذَلِكَ ، بَلْ أَنْكَرَ عَلَى الصَّحَابَةِ انْتِهَارَهُمْ إيَّاهُ وَقَالَ : ( هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ) .
وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ دُونَ أَنْ يُنْظِرَهُ الطَّالِبُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُك تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ ثُمَّ سَمِعْتُك تَقُولُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ؟ قَالَ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَلَهُ صَدَقَةٌ ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ } .
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ السَّرَّاجِ قَالَ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بْنُ حُجْنَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي عِبَادَةَ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عِبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْيُسْرِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ } .
فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ) يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ دُونَ إنْظَارِ الطَّالِبِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْظَرًا بِغَيْرِ إنْظَارِهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ إلَّا عَلَى فِعْلِهِ ، فَأَمَّا مَنْ قَدْ صَارَ مُنْظَرًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِالْإِنْظَارِ .
وَحَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِإِنْظَارِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الْإِنْظَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَطَّ لَا يَقَعُ إلَّا بِفِعْلِهِ ، فَكَذَلِكَ الْإِنْظَارُ .
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } يَنْصَرِفُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْإِنْظَارِ هُوَ تَخْلِيَتُهُ مِنْ الْحَبْسِ وَتَرْكُ عُقُوبَتِهِ ؛ إذْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَعَلَ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمًا ؛ فَإِذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ فَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ بِتَرْكِ الْقَضَاءِ ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِنْظَارِهِ مِنْ الْحَبْسِ ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ لُزُومِهِ .
أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّدْبَ وَالْإِرْشَادَ إلَى إنْظَارِهِ بِتَرْكِ لُزُومِهِ وَمُطَالَبَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُنْظَرًا إلَّا بِنَظِرَةِ الطَّالِبِ ، بِدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : اللُّزُومُ بِمَنْزِلَةِ الْحَبْسِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ لَا يَمْنَعُهُ التَّصَرُّفَ ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ مَنْ يُرَاعِي أَمْرَهُ فِي كَسْبِهِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ ، فَيَتْرُكُ لَهُ مِقْدَارَ الْقُوتِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِي قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إيجَابُ حَبْسٍ وَلَا عُقُوبَةٍ .
وَرَوَى مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ : مَا عَمِلْت ؟ قَالَ : مَا عَمِلْت لَك كَثِيرَ عَمَلٍ أَرْجُوَك بِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ ، غَيْرَ أَنَّك كُنْت أَعْطَيْتنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ فَكُنْت أُخَالِطُ النَّاسَ فَأُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ .
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْك ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي فَغَفَرَ لَهُ } فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِنْظَارَ لَا يَقَعُ بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُوسِرِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ .(1/53)
وَاحْتَجَّ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُزُومِهِ إذَا أَعْسَرَ وَجَعْلَهُ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الْإِعْسَارِ ، بِمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ بُكَيْر ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : { أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ، فَكَثُرَ دَيْنُهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ } .
فَاحْتَجَّ الْقَائِلُ بِمَا وَصَفْنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ ) وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ اللُّزُومِ .
فَيُقَالُ لَهُ : مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ سُقُوطَ دُيُونِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ كَانَ الْغُرَمَاءُ أَحَقَّ بِمَا فَضُلَ عَنْ قُوتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ بَقَاءَ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ لُزُومِهِمْ لَهُ لِيَسْتَوْفُوا دُيُونَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُهُ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ ؛ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى اللُّزُومِ ؛ لِأَنَّا لَا نَخْتَلِفُ فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِيمَا يَكْسِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ حَقِّ اللُّزُومِ لَهُمْ وَلَمْ يَنْتِفْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ ) كَمَا لَمْ يَنْتِفْ بَقَاءُ حُقُوقِهِمْ فِيمَا يَسْتَفِيدُهُ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ إنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَرْغِيبِ الطَّالِبِ فِي إنْظَارِهِ ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ التَّأْجِيلَ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ الْوَاجِبَةِ عَنْ الْغُصُوبِ وَالْبُيُوعِ .
وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَالًّا فِي الْأَصْلِ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآثَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا لِأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ تَأْجِيلِهِ ؛ وَبَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِيمَنْ أَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَمَا حَلَّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدُهُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ سَمْعَانَ ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَ : هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَ : هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ؟ إنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكُمْ إلَّا خَيْرًا ، إنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ فَلَقَدْ رَأَيْته أَدَّى عَنْهُ حَتَّى مَا أَحَدٌ يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ } .
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ النَّهْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا وَهْبٌ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهَا : أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً } .
وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ وَاللُّزُومَ لَا يَسْقُطَانِ عَنْ الْمُعْسِرِ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يَدَعْ لَهُ وَفَاءً فَإِنْ قِيلَ : لَا يَخْلُو .
هَذَا الرَّجُلُ الْمَدِينُ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ غَيْرَ مُفَرِّطٍ ؛ فَإِنْ كَانَ مُفَرِّطًا فَإِنَّمَا هُوَ مُطَالَبٌ عِنْدَ اللَّهِ بِتَفْرِيطِهِ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْ تَفْرِيطِهِ حَتَّى مَاتَ مُفْلِسًا ، فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ ؛ وَهَذَا حُكْمُ الْمُعْسِرِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ تَوْبَتَهُ مِنْ تَفْرِيطِهِ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُفَرِّطِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ الْمُصِرِّ عَلَى تَفْرِيطِهِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ أَصْلًا أَوْ فَرَّطَ ثُمَّ تَابَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فَتُوجِبُونَ لَهُ لُزُومَ مَنْ فَرَّطَ وَلَمْ يَتُبْ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ أَوْ فَرَّطَ ثُمَّ تَابَ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ وَقَفْنَا عَلَى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي قَضَائِهِ لَخَالَفْنَا بَيْنَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ مَنْ ظَهَرَ تَفْرِيطُهُ فِي بَابِ اللُّزُومِ كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ مَخْبُوءٌ وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِعْسَارَ ، وَكَذَلِكَ الْمُظْهِرُ لِتَوْبَتِهِ مِنْ تَفْرِيطِهِ مَعَ ظُهُورِ عُسْرَتِهِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِأَدَاءِ دَيْنِهِ وَلَا تَكُونُ لِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ اللُّزُومِ وَالْمُطَالَبَةِ قَائِمٌ عَلَيْهِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِهِ .(1/54)
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَأُتِيَ بِمَيِّتٍ فَقَالَ : أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، دِينَارَانِ ، فَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ : هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ } فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمُطَالَبَةُ قَائِمَةً عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا كَانَ لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ .
وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِغَرِيمِهِ قَالَ : هَاتِ بَيِّنَةً عَلَى مَالٍ أَحْبِسُهُ فَإِنْ قَالَ : فَإِنِّي إذَا أُلْزِمُهُ ، قَالَ : مَا أَمْنَعَك مِنْ لُزُومِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي إجَازَتِهِمَا الْحَدِّ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أُجْرَتِهِ ، فَخِلَافُ الْآيَةِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلَمْ يَقُلْ فَلْيُؤَاجَرْ بِمَا عَلَيْهِ ، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إجَارَتُهُ وَإِنَّمَا فِيهَا لُزُومُهُ أَوْ تَرْكُهُ ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( لَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ ) حِينَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ غَيْرَ مَا أَخَذُوا .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُعْسِرِ خَيْرٌ مِنْ إنْظَارِهِ بِهِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَرْضِ لِأَنَّ الْقَرْضَ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَالِ وَتَأْخِيرُ اسْتِرْجَاعِهِ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { قَرْضٌ مَرَّتَيْنِ كَصَدَقَةٍ مَرَّةً } .
وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { السَّلَفُ يُجْرَى مُجْرَى شَطْرِ الصَّدَقَةِ } وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قَالَا : ( بِرَأْسِ الْمَالِ ) .
وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْإِبْرَاءَ مِنْ الدَّيْنِ صَدَقَةً اقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ سَمَّى الزَّكَاةَ صَدَقَةً وَهِيَ عَلَى ذِي عُسْرَةٍ ، فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرُ كَانَ وَاجِبًا جَوَازُهُ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا : إنَّمَا سَقَطَ زَكَاةَ الْمُبَرَّأَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا هُوَ حَقٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ ، وَالْحُقُوقُ لَا تُجْرَى مُجْرَى الزَّكَاةِ ، مِثْلُ سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهَا ، وَتَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ بِالصَّدَقَةِ لَا تُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْبَرَاءَةَ مِنْ الْقِصَاصِ صَدَقَةً فِي قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ ؛ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُجْزِئٍ فِي الْكَفَّارَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } وَهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ وَلَا يَمْنَعَهُمْ الْكَيْلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنِعُوا بَدِيًّا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا : فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ، وَهُوَ مَا اشْتَرَوْهُ بِبِضَاعَتِهِمْ ؟ فَإِذَا كَانَ وُقُوعُ اسْمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَهُ عَنْ الزَّكَاةِ ، لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُ اسْمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الدَّيْنِ عِلَّةً لِجَوَازِهِ عَنْ الزَّكَاةِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
----------------
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَفِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ذَكَرَ مَنْ فَسَّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا قَالَتْ ثَقِيفٌ : وَكَيْف نَنْتَهِي عَنْ الرِّبَا ، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } كِنَايَةٌ عَنْ اسْتِجَابَةٍ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِهِ بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُرْبِي قَصْدًا لِمَا يَأْكُلُهُ ، فَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْهُ ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 483)(1/55)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ، وَلَا بُدَّ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ بِهِ ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ رِبًا ، أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ لَهَا إلَّا مِنْ غَيْرِهَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَرْبُونَ ، وَكَانَ الرِّبَا عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا ، يُبَايِعُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إلَى أَجَلٍ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ يَعْنِي أَمْ تَزِيدُنِي عَلَى مَالِي عَلَيْك وَأَصْبِرُ أَجَلًا آخَرَ .
فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَمَا قُلْنَا لَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى مَزِيدٍ عَلَيْهِ ، وَمَتَى قَابَلَ الشَّيْءُ غَيْرَ جِنْسِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ ، وَإِذَا قَابَلَ جِنْسَهُ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ أَيْضًا إلَّا بِإِظْهَارِ الشَّرْعِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ مُشْكِلَةً عَلَى الْأَكْثَرِ ، مَعْلُومَةً لِمَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّورِ الْأَظْهَرِ .
وَقَدْ فَاوَضْت فِيهَا عُلَمَاءَ ، وَبَاحَثْت رُفَعَاءَ ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَعْطَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى انْتَظَمَ فِيهَا سِلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِدُرَرِهِ وَجَوْهَرَتِهِ الْعُلْيَا .
إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ فَلَمْ يَفْهَمْ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْمٍ هُوَ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِمْ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ تَيْسِيرًا مِنْهُ بِلِسَانِهِ وَلِسَانِهِمْ ؛ وَقَدْ كَانَتْ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيهِمَا وَيَعْقِدُونَهُمَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، هُوَ الَّذِي لَا يُفِيدُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي صُورَةِ الْعِوَضِ .
وَالتِّجَارَةُ هِيَ مُقَابَلَةُ الْأَمْوَالِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، وَهُوَ الْبَيْعُ ؛ وَأَنْوَاعُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ بِالْمَالِ كَالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْمَالِ كَالْمَنَافِعِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : عَيْنٌ بِعَيْنٍ ، وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ ؛ أَوْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَهُوَ السَّلَمُ ، أَوْ حَالٌّ وَهُوَ يَكُونُ فِي التَّمْرِ أَوْ عَلَى رَسْمِ الِاسْتِصْنَاعِ ، أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِمَنْفَعَةٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ .
وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ كُلُّ زِيَادَةٍ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ ؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهَا ، بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ حَرَامًا مَا صَحَّ أَنْ يُقَابِلَهَا عِوَضٌ ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا عَقْدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا .
وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْعِوَضُ عَلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ ، وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْبَاطِلِ " .
وَقَدْ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَتَزِيدُ زِيَادَةً لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ ، وَكَانَتْ تَقُولُ : إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ : إنَّمَا الزِّيَادَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ آخِرًا مِثْلُ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ ، وَحَرَّمَ مَا اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا عَلَيْهِمْ ، وَأُوضِحَ أَنَّ الْأَجَلَ إذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي أُنْظِرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَخْفِيفًا ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ ، وَهُوَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ ، فَلَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ .
وَأَمَّا الَّذِي وَكَّلَهُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ مَالِيَّةِ الْعِوَضَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ بِإِجْمَاعٍ .
وَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ ؛ وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ ، فَأَمْضَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَدُّوهُ مِنْ فَنِّ التِّجَارَةِ ، وَرَدَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِبَغْدَادَ وَنُظَرَائِهَا وَحَدُّوا الْمَرْدُودَ بِالثُّلُثِ .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ مَاضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَإِنْ وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْآخَرَ بِالْخِيَارِ ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا بَايَعْت فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ } .
زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ : { وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا } ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَهَذَا أَصْلُ عِلْمِ هَذَا الْبَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنْكَرْتُمْ الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ ، وَمَا أَوْرَدْتُمُوهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالشُّرُوطِ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مُبَيَّنًا ، وَلَا يُوجَدُ عَنْهَا مِنْ الْقَوْلِ ظَاهِرًا .(1/56)
قُلْنَا : هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ ، وَلَا أَلْقَى إلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، وَقَدْ تَوَضَّحَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ فِيهِ بِلِسَانِهِمْ ، فَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمْ حِلَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ وَيَعْلَمُونَهُ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَعْلَمُونَهُ وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إلَيْهِمْ زِيَادَةً فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عَقْدٍ أَوْ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَائِزًا ، فَأَلْقَى إلَيْهِمْ وُجُوهَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَةِ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ ، وَثَمَنُ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْجِنْسِ مُتَفَاضِلًا ، وَأَلْحَقَ بِهِ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ ، وَالْبَيْعَ وَالسَّلَفَ ، وَبَيَّنَ وُجُوهَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ كُلِّهِ أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا فِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَبَيْعِ الْغِشِّ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانٌ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي الْبَابِ ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى الْجَوَازِ ؛ إلَّا أَنَّهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لَا يَصِحُّ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى نَهَى عَنْهَا } .
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي : ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ : بَيْعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ مُتَفَاضِلًا ، أَوْ جِنْسًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ نَسِيئَةً ، أَوْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، أَوْ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ ، أَوْ بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، أَوْ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الرِّبَا ، وَهُوَ مِمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ .
الثَّامِنُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ .
التَّاسِعُ بَيْعُ الْغَرَرِ ، وَرَدُّ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ ، وَبَيْعُ الثُّنْيَا ، وَبَيْعُ الْعُرْبَانِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَك ، وَالْمَضَامِينِ ، وَالْمَلَاقِيحِ ، وَحَبَلُ حَبَلَةٍ .
وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَجْهٍ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَبَيْعُ السُّنْبُلِ حَتَّى يَشْتَدَّ ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ ، وَهُوَ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَبَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَبَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ ، وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَشُحُومِهَا ، وَثَمَنِ الدَّمِ ، وَبَيْعُ الْأَصْنَامِ ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ ، وَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ ، وَكَسْبِ الْحَجَّامِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ، وَبَيْعُ الْمُضْطَرِّ ، وَبَيْعُ الْوَلَاءِ ، وَبَيْعُ الْوَلَدِ أَوْ الْأُمِّ فَرْدَيْنِ ، أَوْ الْأَخِ وَالْأَخِ فَرْدَيْنِ ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّجَشِ ، وَبَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَخِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ، وَحَاضِرٌ لِبَادٍ ، وَتَلَقِّي السِّلَعِ وَالْقَيْنَاتِ .
فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى حَضَرَتْ الْخَاطِرَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ أَوْرَدْنَاهَا حَسَبَ نَسَقِهَا فِي الذِّكْرِ .
وَهِيَ تَرْجِعُ فِي التَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ إلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ : مَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْعَقْدِ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْعِوَضَيْنِ ، وَإِلَى حَالِ الْعَقْدِ ، وَالسَّابِعُ وَقْتُ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّلَاةِ .
وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ؛ وَهِيَ الرِّبَا ، وَالْبَاطِلُ ، وَالْغَرَرُ .
وَيَرْجِعُ الْغَرَرُ بِالتَّحْقِيقِ إلَى الْبَاطِلِ فَيَكُونُ قِسْمَيْنِ عَلَى الْآيَتَيْنِ ، وَهَذِهِ الْمَنَاهِي تَتَدَاخَلُ وَيَفْصِلُهَا الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا أَيْضًا مَا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا وَالتِّجَارَةِ ظَاهِرًا ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَنْهَا ظَاهِرًا ؛ وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ فِيهَا بِاحْتِمَالٍ ، وَمِنْهَا مَا يُنْهَى عَنْهَا مَصْلَحَةً لِلْخَلْقِ وَتَأَلُّفًا بَيْنَهُمْ لِمَا فِي التَّدَابُرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا عَلَى قِسْمَيْنِ : زِيَادَةٌ فِي الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ وَالْأَثْمَانِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي سَائِرِهَا ؛ وَذَكَرْنَا حُدُودَهَا ؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا فِيمَا جُعِلَ التَّقْدِيرُ فِيهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ جَائِزٌ بِعِلْمِهِمَا ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الرِّبَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ ، حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا " ؛ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَمْنُوعِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ انْتَهَى الْقَوْلُ فِي هَذَا الْغَرَضِ هَاهُنَا وَشَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَمِنْهُ مَا تَيَسَّرَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ : وَهِيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } ذَهَبَ بَعْضُ الْغُلَاةِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَرَعِ إلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ إذَا خَالَطَهُ حَرَامٌ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزْ ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِهِ لَمْ يَحِلَّ ، وَلَمْ يَطِبْ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُخْرِجَ هُوَ الْحَلَالُ ، وَاَلَّذِي بَقِيَ هُوَ الْحَرَامُ ، وَهُوَ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ ، وَلَوْ تَلِفَ لَقَامَ الْمِثْلُ مَقَامَهُ ، وَالِاخْتِلَاطُ إتْلَافٌ لِتَمَيُّزِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِهْلَاكَ إتْلَافٌ لِعَيْنِهِ ، وَالْمِثْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الذَّاهِبِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ حِسًّا بَيِّنٌ مَعْنًى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/57)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرِّبَا عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهَا : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا رِبَا الدَّيْنِ خَاصَّةً ، وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْظَارُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُتَأَخِّرُو عُلَمَائِنَا : هُوَ نَصٌّ فِي دَيْنِ الرِّبَا ، وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي دَيْنِ الرِّبَا فَضَعِيفٌ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا خَاصًّا ، فَإِنَّ آخِرَهَا عَامٌّ ، وَخُصُوصُ أَوَّلِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ آخِرِهَا ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَامُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ نَصٌّ فِي الرِّبَا ، وَغَيْرُهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ : { لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قُلْنَا : سَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : وَبِمَ تُعْلَمُ الْعُسْرَةُ ؟ قُلْنَا : بِأَنْ لَا نَجِدَ لَهُ مَالًا ؛ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : خَبَّأَ مَالًا .
قُلْنَا لِلْمَطْلُوبِ : أَثْبِتْ عَدَمَك ظَاهِرًا وَيَحْلِفُ بَاطِنًا ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَا الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ ؟ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
تَحْرِيرُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا : أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةُ لِبَاسِهِ وَرُقَادِهِ ، وَلَا تُبَاعُ ثِيَابُ جُمُعَتِهِ ، وَيُبَاعُ خَاتَمُهُ ، وَتَفْصِيلُ الْفُرُوعِ فِي الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ قُرْبَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ إنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، قَالُوا : عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : كُنْت آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ : كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ } ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ .
------------------
وقال ابن كثير(1) :
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات -شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرًا. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق. رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
وحكي عن عبد الله بن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } يعني: لا يقومون يوم القيامة. وكذا قال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، والضحاك، وابن زيد.
وروى ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه كان يقرأ: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقرأ: { لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال: وذلك حين يقوم من قبره.
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء، كما هو مذكور في سورة سبحان: أنه، عليه السلام (1) مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولا.
وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا".
ورواه الإمام أحمد، عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به (2) . وفي إسناده ضعف.
وقد روى البخاري، عن سَمُرَة (3) بن جندب في حديث المنام الطويل: "فأتينا على نهر-حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم -وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، [ما يسبح] (4) ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه (5) حجرًا" وذكر في تفسيره: أنه آكل الربا (6) .
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } أي: إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون (7) بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا!
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 708)(1/58)
وقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام (8) ردًا عليهم، أي: قالوا: ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل؛ ولهذا قال: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } أي: من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه. فله ما سلف من المعاملة، لقوله: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } [المائدة : 95] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس" (9) ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف، كما قال
__________
(1) في جـ: "أنه عليه الصلاة والسلام".
(2) سنن ابن ماجة برقم (2273) والمسند (2/353).
(3) في جـ، أ: "عن سلمة".
(4) زيادة من صحيح البخاري (7047).
(5) في جـ: "فألقمه".
(6) صحيح البخاري برقم (7047).
(7) في جـ: "لا يعرفون".
(8) في جـ: "يحتمل أن يكون من كلام الله".
(9) قال الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، في عمدة التفسير (2/189): "وهم الحافظ ابن كثير، رحمه الله، فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة، بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفه". قلت: جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الأحوص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع. . . " فذكر الحديث،
تعالى: { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ }
قال سعيد بن جبير والسدي: { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فإنه (1) ما كان أكل من الربا قبل التحريم.
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس -يعني امرأته العالية بنت أيفع -أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة (2) أم ولد لزيد بن أرقم-: يا أم المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة. فقالت: بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب قالت: فقلت: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم، { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (3) .
وهذا الأثر مشهور، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: { وَمَنْ عَادَ } أي: إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة؛ ولهذا قال: { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما نزلت: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يذر المخابرة، فليأذن بحرب من الله ورسوله" (4) .
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن خثيم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه (5) (6) .
وإنما حرمت المخابرة وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي: اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض -إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها، حسمًا لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت (7) نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد (8) إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا (9) ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل
__________
(1) في جـ، و: "فله".
(2) في أ: و: "أم محنة".
(3) في هـ: "من" والمثبت من ج، أ هو الصواب.
(4) سنن أبي داود برقم (3406).
(5) في جـ، أ، و: "ولم يخرجاه".
(6) المستدرك (2/286) ووقع فيه: "ولم يخرجاه".
(7) في أ: "وتقارب".
(8) في جـ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد".
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (5588) ومسلم في صحيحه برقم (3032).
حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (1) " (2) .
وفي السنن عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (3) . وفي الحديث الآخر: "الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وفي رواية: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (4) .
وقال الثوري: عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. رواه [البخاري] (5) عن قبيصة، عنه (6) .
وقال أحمد، عن (7) يحيى، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا (8) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
رواه (9) ابن ماجه (10) وابن مردويه.
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة (11) عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وقد قال ابن ماجة: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن زبيد، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله -هو ابن مسعود -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا" (12) .
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عمرو بن علي الفلاس، بإسناد مثله، وزاد: "أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (13) .
__________
(1) في و: "يوشك أن يخالط الحمى".
(2) صحيح البخاري برقم (52) وصحيح مسلم برقم (1599).(1/59)
(3) سنن الترمذي برقم (2518) وسنن النسائي (8/327) وقد أطنب في الكلام عليه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/278) ط. الرسالة.
(4) رواه أحمد في المسند (4/228) من طريق الزبير بن عبد السلام، عن أيوب، عن وابصة، رضي الله عنه.
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (4544).
(7) في جـ: "حدثنا".
(8) في أ: "آخر ما أنزل الله الربا".
(9) في جـ: "ورواه".
(10) المسند (1/36) وسنن ابن ماجة برقم (2276) وقال البوصيري في الزوائد (2/198): "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
(11) في جـ، أ: "عن أبي بصرة".
(12) سنن ابن ماجة برقم (2275) وقال البوصيري في الزوائد (2/198): "هذا إسناد صحيح".
(13) المستدرك (2/37).
وقال ابن ماجة: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي خَيرة (2) حدثنا الحسن -منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة -عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: "من لم يأكله منهم ناله من غباره" وكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من غير وجه، عن سعيد بن أبي خيرة (3) عن الحسن، به (4) .
ومن هذا القبيل، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهُن، فحرم التجارة في الخمر.
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي، من طرق، عن الأعمش به (5) وهكذا لفظ رواية البخاري، عند تفسير الآية: فحرم التجارة، وفي لفظ له، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال، عليه السلام (6) في الحديث المتفق عليه: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (7) .
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما، عند لعن المحلل في تفسير قوله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } [البقرة : 230] قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه". قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (8) .
وقد صنف الإمام، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في "إبطال التحليل" (9) تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى، فرحمه الله ورضي عنه.
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (2274) وقال البوصيري في الزوائد (2/197): "هذا إسناد ضعيف".
(2) في أ: "عن سعيد بن جبير".
(3) في أ: "سعيد بن أبي جرة".
(4) المسند (2/494) وسنن أبي داود برقم (1331) وسنن النسائي (7/243) وسنن ابن ماجة برقم (2278).
(5) المسند (6/46) وصحيح البخاري برقم (4540 ، 4541) وصحيح مسلم برقم (1580) وسنن أبي داود برقم (3490) وسنن النسائي الكبرى برقم (11055) وسنن ابن ماجة برقم (3382).
(6) في و: "صلى الله عليه وسلم".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (2223) ومسلم في صحيحه برقم (1582) من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
(8) صحيح مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(9) وهو كتاب متين طبع حديثا طبعة محققة.
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. كما قال تعالى: { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة : 100] ، وقال تعالى: { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم } [الأنفال : 37] ، وقال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [الآية] (1) [الروم : 39] .
وقال ابن جرير: في قوله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "الربا وإن كثر فإلى قُلّ".
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج [قال] (2) حدثنا شريك عن الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] (3) عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" (4) وقد رواه ابن ماجة، عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة" (5) .
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو (6) سعيد مولى بني هاشم، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري، حدثني أبو يحيى -رجل (7) من أهل مكة -عن فروخ مولى عثمان: أن عمر -وهو يومئذ أمير المؤمنين -خرج إلى المسجد، فرأى طعاما منثورًا. فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين، إنه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا يا أمير المؤمنين، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين (8) طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام (9) ". فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا. وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع، به (10) . ولفظه: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس".
وقوله: { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف، من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه"
__________
(1) زيادة من جـ، أ، و.
(2) زيادة من جـ، أ، و.
(3) زيادة من جـ.
(4) المسند (1/395).
(5) سنن ابن ماجة برقم (2289) وقال البوصيري في الزوائد (2/199): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(6) في أ: "حدثنا ابن".
(7) في جـ: "رجل خرج".
(8) في أ: "على الناس".
(9) في جـ: "والجذام".
(10) المسند (1/21) وسنن ابن ماجة برقم (2155).(1/60)
أي: كثّره ونماه ينميه. وقرئ: "ويُرَبِّي" بالضم والتشديد، من التربية، كما قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله ليقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل".
كذا رواه في كتاب الزكاة. وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، فذكر بإسناده، نحوه (1) .
وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن خالد بن مخلد، فذكره (2) . قال البخاري: ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم: فقد تفرد البخاري بذكرها، وأما طريق زيد بن أسلم: فرواها مسلم في صحيحه، عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، به (3) . وأما حديث سهيل فرواه مسلم، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، به (4) . والله أعلم.
قال البخاري: وقال ورقاء عن ابن دينار، عن سعيد بن يسار (5) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) .
وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن العباس المروزي (7) عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري -عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار (8) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل أحد" (9) .
وهكذا روى هذا الحديث مسلم، والترمذي، والنسائي جميعًا، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري. وأخرجه النسائي -من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري -ومن طريق يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره (10) .
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1410) وبرقم (7430).
(2) صحيح مسلم برقم (1014).
(3) صحيح مسلم برقم (1014).
(4) صحيح مسلم برقم (1014).
(5) في أ: "بن بشار".
(6) صحيح البخاري برقم (1410 ، 7430).
(7) في أ، و: "الدوري".
(8) في أ: "بن بشار".
(9) السنن الكبرى للبيهقي (4/176).
(10) صحيح مسلم برقم (1014) وسنن الترمذي برقم (661) وسنن النسائي الكبرى برقم (7735).
حدثنا وَكِيع، عن عباد بن منصور، حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره -أو فلوه -حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد". وتصديق ذلك في كتاب الله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
وكذا رواه أحمد، عن وكيع، وهو في تفسير وكيع. ورواه الترمذي، عن أبي كُرَيْب، عن وكيع، به (1) وقال: حسن صحيح، وكذا رواه الثوري عن عباد (2) بن منصور، به. ورواه أحمد أيضا، عن خلف بن الوليد، عن ابن المبارك، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة، عن القاسم، به (3) .
وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق (4) عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا تصدق من طيب، يقبلها الله منه، فيأخذها بيمينه، ويُرَبِّيها كما يربي أحدكم مُهْره أو فصيله (5) وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله -أو قال: في كف الله -حتى تكون مثل أحد، فتصدقوا" (6) .
وهكذا رواه أحمد، عن عبد الرزاق (7) . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب، والمحفوظ ما تقدم. وروي عن عائشة أم المؤمنين، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد". تفرد به أحمد من هذا الوجه (8) .
وقال البزار: حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا إسماعيل، حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها، كما يربي أحدكم فلوه -أو وَصيفه -أو قال: فصيله" ثم قال: لا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبو أويس (9) .
وقوله: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
__________
(1) المسند (2/471) وسنن الترمذي برقم (662).
(2) في جـ، أ: "عن حماد".
(3) المسند (2/404).
(4) في أ، و: "عن محمد بن عبد الملك زنجويه".
(5) في جـ، أ: "أو فلوه".
(6) تفسير الطبري (6/19).
(7) المسند (2/268).
(8) المسند (6/251).
(9) مسند البزار برقم (931) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر: "أبو أويس لين، وقد ذكر البزار أنه تفرد به".
تنبيه: لم يقع في كشف الأستار: "عن الضحاك، عن أبي هريرة"؛ وذلك لأنه مخرج في الصحيحين فليس من الزوائد.
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي: خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي: اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بما شرع الله لكم من تحليل البيع، وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جُرَيج ، ومقاتل بن حيان، والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا (1) وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.(1/61)
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج: قال ابن عباس: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم قرأ: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق (2) على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح. وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجا أينما أتوا (3) ، فإياكم وما خالط هذه البيوع
__________
(1) في جـ، أ، و: "فتشاجروا".
(2) في أ: "يحق".
(3) في جـ، أ، و: "أينما ثقفوا".
من الربا؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير.
وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة، مولاة زيد بن أرقم، في مسألة العينة: أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل، إلا أن يتوب، فخصت الجهاد؛ لأنه ضد قوله: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال: وهذا المعنى ذكره كثير (1) . قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } أي: بأخذ الزيادة (2) { وَلا تُظْلَمُونَ } أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص (3) منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن شبيب بن غرقدة البارقي، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله" كذا وجدته: سليمان بن الأحوص.
وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا مسدد، أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (4) .
وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حُرَّة (5) الرقاشي، عن عمرو -هو ابن خارجة -فذكره.
وقوله: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة } [أي]: (6) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.
ثم يندب (7) إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك:
فالحديث الأول: عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب]، (8) قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني (9) حدثنا يحيى بن حكيم المقوم، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثني عاصم بن عبيد الله، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه" (10) .
حديث آخر (11) : عن بريدة، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد
__________
(1) في جـ، أ، و: "ذكره ابن بطال".
(2) في جـ، أ: "بأخذ الربا".
(3) في جـ، أ: "ولا نقصان".
(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (3334) عن مسدد به، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3055) من طريق أبي الأحوص به.
(5) في جـ: "عن أبي حمزة".
(6) زيادة من جـ، أ، و.
(7) في جـ: "ثم ندب".
(8) زيادة من جـ، أ، و.
(9) في جـ، أ، و: "المرجاني".
(10) المعجم الكبير (1/304) وقال الهيثمي في المجمع (4/134): "عاصم ضعيف ولم يدرك أسعد بن زرارة".
(11) في جـ، أ: "الحديث الثاني".
بن جحادة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة ". قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة". قلت: سمعتك -يا رسول الله -تقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول: "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة"؟! قال: "له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة" (1) .
حديث آخر (2) : عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، قال [الإمام] (3) أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ (4) منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي. قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه (5) .
حديث آخر (6) : عن حذيفة بن اليمان، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الأخنس أحمد بن عمران (7) حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن رِبْعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها، قالها ثلاث مرات، قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك أعطيتني فضل مال، وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. قال: فيقول الله، عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة".
وقد أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه -من طرق -عن ربعي بن حراش، عن حذيفة. زاد مسلم: وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (8) بنحوه. ولفظ البخاري.
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الزهري، عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".(1/62)
حديث آخر (9) : عن سهل بن حنيف، قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا عمرو بن ثابت، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن سهل بن حنيف، أن سهلا حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غازيا، أو غارما في عسرته، أو مكاتبًا في
__________
(1) المسند (5/360).
(2) في جـ، أ: "الحديث الثالث".
(3) زيادة من جـ، أ، و.
(4) في جـ، أ: "فيختفي".
(5) المسند (5/308) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة، والله أعلم.
(6) في جـ، أ: "الحديث الرابع".
(7) هو أحمد بن عمران الأخنسى، والأخنسى نسبة انظر: الجرح والتعديل (2/64).
(8) صحيح البخاري برقم (2391 ، 2707 ، 3451) وصحيح مسلم برقم (1560).
(9) في جـ، أ: "الحديث الخامس".
رقبته، أظله الله (1) يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (2) .
حديث آخر (3) : عن عبد الله بن عمر، قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، عن يوسف بن صهيب، عن زيد العمي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر"، انفرد به أحمد (4) .
حديث آخر (5) : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، أن رجلا أتى به الله عز وجل، فقال: ماذا عملت في الدنيا؟ فقال له الرجل: ما عملت مثقال ذرة من خير أرجوك بها، فقالها له ثلاثا، وقال في الثالثة: أي رب كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا، فكنت أبايع الناس، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى (6) نحن أولى بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي. فغفر له. قال أبو مسعود: هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به (7) .
حديث آخر (8) : عن عمران بن حصين، قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي داود، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له على رجل حق فأخره (9) كان له بكل يوم صدقة" (10) .
غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.
حديث آخر (11) : عن أبي اليسر كعب بن عمرو، قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، قال: حدثني أبو اليسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله، عز وجل، في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (12) .
وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر، من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سفعة من غضب؟ قال أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي (13) مال، فأتيت أهله فسلمت، فقلت: أثم هو؟ قالوا: لا فخرج علي ابن له جفر فقلت: أين أبوك؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت؟ فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك؛ خشيت (14) -والله -أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت
__________
(1) في جـ، أ، و: "أظله الله في ظله".
(2) المستدرك (2/217)، وتعقبه الذهبي في التلخيص. قلت: "بل فيه عمرو بن ثابت وهو رافضي متروك".
(3) في جـ، أ: "الحديث السادس".
(4) المسند (2/23).
(5) في جـ، أ: "الحديث السابع".
(6) في جـ: "فقال تعالى وتبارك".
(7) المسند (4/118) وصحيح مسلم برقم (1560).
(8) في جـ، أ: "الحديث الثامن".
(9) في جـ: "حق فمن أخره".
(10) المسند (4/442).
(11) في ج، أ: "الحديث التاسع".
(12) المسند (3/427).
(13) في أ: "الحراني"، وفي و: "الحزامي".
(14) في جـ: "خفت".
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت -الله -معسرًا قال: قلت: آلله؟ قال: قلتُ: آلله، قال: اللهِ. قلتُ: آلله؟ قال: الله. قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني، وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيني -ووضع أصبعيه على عينيه -وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط (1) قلبه -رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من أنظر معسرًا، أو وضع عنه أظله الله في ظله". وذكر تمام الحديث (2) .
حديث آخر (3) : عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، قال عبد الله بن الإمام أحمد [في مسند أبيه] (4) حدثني (5) أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم، حدثنا الحسن بن بشر بن سلم الكوفي، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري، عن هشام بن زياد القرشي، عن أبيه، عن محجن مولى عثمان، عن عثمان، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "أظل الله عينا في ظله، يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرًا، أو ترك لغارم" (6) .
حديث آخر (7) : عن ابن عباس، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وهو يقول بيده هكذا -وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض-: "من أنظر معسرًا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد (8) .
طريق أخرى: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من ديار ربيعة، حدثنا الحُسَين بن علي الصُّدَائي، حدثنا الحكم بن الجارود، حدثنا ابن أبي المتئد -خال ابن عيينة -عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته" (9) .
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان (10) الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "إلى نياط".
(2) صحيح مسلم برقم (306).
(3) في جـ، أ: "الحديث العاشر".
(4) زيادة من جـ، أ، و.
(5) في جـ: "حدثنا".
(6) زوائد المسند (1/73).
(7) في جـ، أ: "الحديث الحادي عشر".
(8) المسند (1/327).
(9) المعجم الكبير (11/151)، وقال الهيثمي في المجمع (4/135): "وفيه الحكم بن جارود ضعفه الأزدي، وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما".
(10) في جـ، أ: "وإيثار".
------------------
وقال القرطبي (1):
الآيات الثلاث تضمنت أحكام الربا وجواز عقود المبايعات ، والوعيد لمن استحل الربا وأصرّ على فعله . وفي ذلك ثمان وثلاثون مسألة :
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 865)(1/63)
الأُولى قوله تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ الربا } يأكلون يأخذون ، فعبر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأخذ إنما يراد للأكل . الربا في اللغة الزيادة مطلقاً؛ يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الحديث : « فلا والله ما أخذنا من لقمة إلاّ رَبَا من تحتها » يعني الطعام الذي دعا فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة؛ خرّج الحديث مسلم رحمه الله . وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوّله ، وقد كتبوه في القرآن بالواو . ثم إن الشرع قد تصرّف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده؛ فمرّة أطلقه على كسب الحرام؛ كما قال الله تعالى في اليهود : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] . ولم يرد به الرّبا الشرعيّ الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام؛ كما قال تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [ المائدة : 42 ] يعني به المال الحرام من الرّشا ، وما استحلوه من أموال الأُمِّيِّين حيث قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] . وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأيّ وجه اكتُسب . والربا الذي عليه عُرف الشرع شيئان : تحريم النَّسَاء ، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبيّنه . وغالبه ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أُم تُرْبِي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه . وهذا كله محرّم باتفاق الأُمة .
الثانية أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادةٍ إمّا في عين مال ، وإمّا في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه . ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة؛ كبيع الثمرة قبل بُدُوّ صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة؛ فإن قيل لفاعلها؛ آكل الربا فتجوُّز وتشبيه .
الثالثة روى الأئمة واللفظ لمُسْلم عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربَى الآخذ والمعطي فيه سواء » وفي حديث عُبادة بن الصّامت : « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبِيعُوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » وروى أبو داود عن عُبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب تِبْرُها وعَيْنها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبُرُّ بالبرّ مُدْيٌ بمُدْيٍ والشعير بالشعير مدْي بمُدْي والتمر بالتمر مُدْيٌ بمُدْيٍ والملحُ بالملح مُدْيٌ بمُدْيٍ فمن زاد أو ازداد فقد أرْبَى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرهما يداً بيد وأما نَسِيئة فلا ولا بأس ببيع البرِّ بالشعير والشعيرُ أكثرهما يداً بيد وأما نسِيئة فلا »
وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السُّنّة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البُرّ والشعير فإن مالكاً جعلهما صنفاً واحداً ، فلا يجوز منهما اثنان بواحد ، وهو قول الليث والأُوزاعيّ ومعظم علماء المدينة والشام ، وأضاف مالك إليهما السُّلْت . وقال الليث : السلت والدُّخن والذرة صنف واحد؛ وقاله ابن وهب .
قلت : وإذا ثبتت السُّنّة فلا قول معها . وقال عليه السلام : " «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» . وقوله : «البُرُّ بالبُرِّ والشعير بالشعير» " دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البُرّ للتمر؛ ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة ، ولا اعتبار بالمنبِت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع ، بل فصل وبيّن؛ وهذا مذهب الشافعيّ وأبي حنيفة والثّوريّ وأصحاب الحديث .
الرابعة كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدِّينار المضروب والدرهم المضروب لا في التِّبر من الذهب والفضة بالمضروب ، ولا في المَصُوغ بالمضروب . وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة ، حتى وقع له مع عُبَادة ما خرّجه مسلم وغيره ، قال : غَزَوْنا وعلى الناس معاويةُ فغِنمنا غنائمَ كثيرةً ، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلاً ببيعها في أَعْطِيّات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادةَ بن الصامت ذلك فقام فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواءً بسواء عَيْناً بعَيْن من زاد أو ازداد فقد أرْبَى؛ فردّ الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : ألاَ ما بالُ رجالٍ يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثَ قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه! فقام عُبَادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاويةُ أو قال وإن رَغِم ما أُبالي ألاّ أصحبَه في جُنْدِه في ليلةٍ سَوْداء . قال حمّادٌ هذا أو نحوَه . قال ابن عبد البرّ : وقد رُوي أن هذه القِصة إنما كانت لأبي الدّرداء مع معاوية . ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه ، ولكن الحديث في العُرْف محفوظ لعُبَادة ، وهو الأصل الذي عوّل عليه العلماء في باب «الربا» . ولم يختلفوا أنّ فعل معاوية في ذلك غير جائز ، وغير نَكِير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعُبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم ، وقد خفِي على أبي بكر وعمر ما وُجد عند غيرهم ممن هو دونهم ، فمعاويةُ أحرى . ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس ، فقد كان وهو بحرٌ في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأساً حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد .
وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر . قال قَبيصة بن ذُؤيب : إن عُبادة أنكر شيئاً على معاوية فقال : لا أُساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة . فقال له عمر : ما أقدمك؟ فأخبره . فقال : ارجع إلى مكانك ، فقبّح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية «لا إمارة لك عليه» .
الخامسة روى الأئمة واللفظ للدّارَقُطْنِيّ عن عليّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فَضْلَ بينهما من كانت له حاجة بورقِ فلْيَصرِفْها بذهب وإن كانت له حاجةٌ بذهب فليصرفها بوَرِق هَاءَ وهَاء " قال العلماء فقوله عليه السلام : " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما " إشارةٌ إلى جنس الأصل المضروب؛ بدليل قوله : " الفضة بالفضة والذهب بالذهب " الحديث . والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مِثْلا بِمثل سواء بسواء على كل حال؛ على هذا جماعة أهل العلم على ما بيّنا . واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمناً للأشياء ، ومنع من إلحاقها مرّة من حيث إنها ليست ثمناً في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد .(1/64)
السادسة لا اعتبار بما قد رُوي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفِزه الخروج وبه حاجة إلى دراهمَ مضروبةٍ أو دنانيرَ مضروبةٍ ، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضرّاب؛ خذ فضّتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إليّ دنانير مضروبةً في ذهبي أو دراهمَ مضروبةً في فضّتِي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه ، أن ذلك جائز للضرورة ، وأنه قد عمل به بعض الناس . وحكاه ابن العربيّ في قبسه عن مالك في غير التاجر ، وأن مالكاً خفّف في ذلك؛ فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا . والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له : اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأُجرة ، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أُجرتها؛ فالذي فعل مالك أوّلاً هو الذي يكون آخراً ، ومالك إنما نظر إلى المال فركّب عليه حكم الحال ، وأباه سائر الفقهاء . قال ابن العربيّ : والحجة فيه لمالك بيِّنة . قال أبو عمر رحمه الله : وهذا هو عين الرِّبا الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " من زاد أو ازداد فقد أرْبَى " وقد ردّ ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها . وزعم الأَبْهَرِيّ أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق ، وليس الربا إلا على من أراد أن يُرْبِي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه .
ونسي الأبهرِيّ أصله في قطع الذرائع ، وقوله فيمن باع ثوباً بنسِيئة وهو لا نيّة له في شرائه ثم يجده في السوق يباع : إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه؛ ومثله كثير ، ولو لم يكن الربا إلا على مَن قصده ما حُرّم إلا على الفقهاء . وقد قال عمر : لا يتّجر في سوقنا إلا من فَقُه وإلاّ أكل الربا . وهذا بيّن لمن رُزق الإنصاف وألْهِم رشده .
قلت : وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهَّم كالمتحقق ، فمنع ديناراً ودرهماً بدينار ودرهم سَدّاً للذَّريعة وحَسْماً للتَوهُّمات؛ إذ لولا توهَّم الزيادة لما تبادلا . وقد عُلّل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع؛ فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب . وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنويّ ، وذلك أنه منع ديناراً من الذهب العالي وديناراً من الذهب الدّون في مقابلة العالي وألغى الدون ، وهذا من دقيق نظره رحمه الله؛ فدل أن تلك الرواية عنه مُنْكَرة ولا تصح . والله أعلم .
السابعة قال الخطّابيّ : التِّبْر قِطَع الذهب والفضة قبل أن تُضرَب وتُطبع دراهم أو دنانير ، واحدتها تِبْرة . والعَيْن : المضروب من الدراهم أو الدنانير . وقد حَرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عَيْنٍ بمثقالٍ وشيء من تِبْرٍ غيرِ مضروب . وكذلك حَرّم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها ، وذلك معنى قوله : «تِبْرُها وعَيْنُها سواء» .
الثامنة أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مِثْلاً بِمثْل . واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين ، والحبة الواحدة من القمح بحبّتين؛ فمنعه الشافعيّ وأحمد وإسحاق والثّوريّ ، وهو قياس قولِ مالك وهو الصحيح؛ لأن ما جرى الرِّبَا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياساً ونَظَراً . احتجّ من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لا تجب عليه القيمة ، قال : لأنه لا مَكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل .
التاسعة اعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة ، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في عِلّة الربا؛ فقال أبو حنيفة : علة ذلك كونه مكيلاً أو موزوناً جنساً ، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد ، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلاً أو نَسِيئاً لا يجوز؛ فمنع بَيْع التراب بعضه ببعض متفاضلاً؛ لأنه يدخله الكيل ، وأجاز الخبزَ قُرْصاً بقرصين؛ لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله ، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه . وقال الشافعيّ : العِلّة كونه مطعوماً جنْساً . هذا قوله في الجديد؛ فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلاً ولا نسيئا ، وسواء أكان الخبز خميراً أو فَطيراً
ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين ، ولا رُمّانة برمانتين ، ولا بطيخة ببطيختين لا يداً بِيَد ولا نسيئة؛ لأن ذلك كله طعام مأكول . وقال في القديم : كونه مكيلاً أو موزوناً . واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك؛ وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتاً مدّخراً للعيش غالباً جنساً؛ كالحنطة والشعير والتّمْر والملح المنصوص عليها ، وما في معناها كالأرز والذرة والدّخْن والسِّمْسِم ، والقَطَانِيّ كالفول والعَدَس واللُّوبْياء والحِمّص ، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت ، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون ، واختُلف في التين ، ويلحق بها العسل والسكر . فهذا كله يدخله الربا من جهة النَّسَاء . وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام : " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفّاح والبطّيخ والرُّمان والكُمِّثْرى والقِثّاء والخيار والباذَنْجان وغير ذلك من الخضروات . قال مالك : لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلاً؛ لأنه مما يدّخر ، ويجوز عنده مِثْلاً بمثْل . وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : جائزٌ بيضة ببيضتين وأكثر؛ لأنه مما لا يدّخر ، وهو قول الأُوزاعيّ .
العاشرة اختلف النّحاة في لفظ «الرِّبا» فقال البصريون : هو من ذوات الواو؛ لأنك تقول في تثنيته : رِبَوان؛ قاله سيبويه . وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته بالياء؛ لأجل الكسرة التي في أوّله . قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع! لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يُخطئوا في التثنية وهم يقرءون { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس } [ الروم : 39 ] قال محمد بن يزيد : كُتب «الربا» في المصحف بالواو فرقاً بينه وبين الزنا ، وكان الربا أولى منه بالواو؛ لأنه من ربا يربو .
الحادية عشرة قوله تعالى : { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } الجملة خبر الابتداء وهو «الَّذِينَ» . والمعنى من قبورهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وقَتادة والربيع والضّحاك والسُّدِّي وابن زيد . وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه . وقالوا كلهم : يُبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقِيتاً عند جميع أهل المَحْشَر . ويُقوِّي هذا التأويل المُجْمَع عليه أن في قراءة ابن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم» . قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بِحرْص وجَشَع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفِزّه حتى تضطرب أعضاؤه؛ وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما مِن فزع أو غيره : قد جُنّ هذا! وقد شبّه الأَعْشَى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
وتُصبِح عن غِبّ السُّرَى وكأنّما ... أَلَمَّ بها من طائِف الجِنّ أوْلَقُ
وقال آخر :
لَعَمْرُك بي من حُبِّ أسماءَ أَوْلَقُ ... لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعّف هذا التأويل .(1/65)
و «يَتَخَبَّطُهُ» يتفعّله من خَبَط يخبِط؛ كما تقول : تملّكه وتعبّده . فجعل الله هذه العلامة لأكَلَة الربا؛ وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم ، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون . ويقال : إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحُبَالَى ، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم . وقال بعض العلماء : إنما ذلك شِعارٌ لهم يُعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك؛ كما أن الغَالَّ يجيء بما غَلَّ يوم القيامة بشهرة يشهّر بها ثم العذاب من وراء ذلك . وقال تعالى : «يَأْكُلُونَ» والمراد يكسبون الربا ويفعلونه . وإنما خَصّ الأكل بالذِّكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال؛ ولأنه دالّ عى الجشع وهو أشدّ الحرص؛ يقال : رجل جَشِع بيّن الجَشَع وقوم جَشِعون؛ قاله في المُجْمَل . فأُقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كلّه؛ فاللباس والسكنى والادّخار والإنفاق على العيال داخل في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ } .
الثانية عشرة في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصَّرْع من جهة الجِنّ ، وزعم أنه من فِعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مَسٌّ ، وقد مضى الردّ عليهم فيما تقدّم من هذا الكتاب . وقد روى النسائيّ عن أبي اليَسَر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللّهم إني أعوذ بك من التّرَدِّي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخَبّطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مُدْبِراً وأعوذ بك أن أموت لَدِيغا " ورُوي من حديث محمد بن المُثَنَّى حدّثنا أبو داود حدّثنا همّام عن قَتادة عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " اللَّهم إني أعوذ بك من الجنون والجُذام والبَرَص وسَيِّء الأسقام " والمس : الجنون؛ يقال : مُسَّ الرّجلُ وأَلِسَ؛ فهو ممسوس ومألُوس إذا كان مجنوناً؛ وذلك علامة الربا في الآخرة . " وروي في حديث الإسراء : «فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضَّخْم متصدين على سابلة آلِ فرعون وَآلُ فرعون يُعرضون على النار بُكْرَةً وَعَشِيّاً فيُقْبِلون مثل الإبل المَهْيُومة يتخبّطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون بَرَاحاً حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البَرْزَخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تُقِمِ الساعة أبداً؛ فإن الله تعالى يقول : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال : «هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ» " والمسّ الجنون وكذلك الأَوْلَق والأُلْس والرّود .
الثالثة عشرة قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } معناه عند جميع المتأوّلين في الكفار ، ولهم قيل : «فَلَهُ مَا سَلَفَ» ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلاً؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : " مَن عمل عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ " لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية .
الرابعة عشرة قوله تعالى : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخراً كمثل أصل الثمن في أوّل العقد ، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك؛ فكانت إذا حلّ ديْنها قالت للغريم : إما أن تَقْضِي وإما أن تُرْبِي ، أي تزيد في الدَّين . فحرم الله سبحانه ذلك وردّ عليهم قولهم بقوله الحق : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } وأوضح أن الأجل إذا حلّ ولم يكن عنده ما يؤدّي أُنْظِر إلى المَيْسرة . وهذا الربا هو الذي نسخه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لمّا قال : " ألا إن كل رباً موضوع وإن أوّل رِبا أضعه رِبانا رِبَا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله " فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمِّه وأخص الناس به . وهذا من سنن العدل للإمام أن يُفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس .
الخامسة عشرة قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } هذا من عموم القرآن ، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدّم بيع مذكور يُرجع إليه؛ كما قال تعالى : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } ثم استثنى { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ] . وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصّص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نُهي عنه ومنع العقد عليه؛ كالخمر والميتة وحبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السُّنُّة وإجماع الأُمة النَّهيُ عنه . ونظيره «اقتلوا الْمُشْرِكِينَ» وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص ، وهذا مذهب أكثر الفقهاء . وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسّر بالمحلّل من البيع وبالمحرّم فلا يمكن أن يُستعمَل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيانٌ من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن دلّ على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل . هذا فرق ما بين العموم والمُجْمَل . فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخصّ بدليل . والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان . والأوّل أصح . والله أعلم .
السادسة عشرة البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا ، أي دفع عِوضاً وأخذ مُعَوَّضاً . وهو يقتضي بائعاً وهو المالك أو من ينَزّل منزلته ، ومُبتاعاً وهو الذي يبذل الثمن ، ومَبيعاً وهو المثمون وهو الذي يُبْذَل في مقابلته الثمن .
وعلى هذا فأركان البيع أربعة : البائع والمبتاع والثمن والمُثَمَّن . ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه؛ فإن كان أحد المعوّضين في مقابلة الرَّقبة سُمّي بيعاً ، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بُضع سُمّيَ نكاحاً ، وإن كانت منفعة غيرها سُمّيَ إجارة ، وإن كان عَيْناً بعين فهو بيع النقد وهو الصرف ، وإن كان بديْن مُؤَجّل فهو السَّلَم ، وسيأتي بيانه في آية الدَّين . وقد مضى حكم الصَّرْف ، ويأتي حكم الإجارة في «القصص» وحكم المهر في النكاح في «النساء» كلّ في موضعه إن شاء الله تعالى .
السابعة عشرة البيع قبولٌ وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي؛ فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية ، ويقع بالصّريح والكناية المفهوم منها نقل المِلك . فسواء قال : بعتك هذه السِّلعة بعشرة فقال : اشتريتها ، أو قال المشتري : اشتريتها وقال البائع : بعْتُكَها ، أو قال البائع : أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري : أنا أشتري أو قد اشتريت ، وكذلك لو قال : خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بُورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك وهما يريدان البيع فذلك كلّه بيع لازم . ولو قال البائع : بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال : ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو ردّه؛ لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها ، وقد قال ذلك له؛ لأن العقد لم يتم عليه . ولو قال البائع : كنت لاعباً ، فقد اختلفت الرواية عنه؛ فقال مرّة : يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله . وقال مرّة : ينظر إلى قيمة السلعة .
فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم ، وإن كان متفاوتاً كعبد بدرهم ودار بدينار ، عُلم أنه لم يُرد به البيع ، وإنما كان هازلاً فلم يلزمه .(1/66)
الثامنة عشرة قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الربا } الألف واللام هنا للعهد ، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيّناه ، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهيّ عنها .
التاسعة عشرة عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال؛ لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال : " جاء بلال بتمر بَرْنِيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أين هذا»؟ فقال بلال : من تمرٍ كان عندنا رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لمَطْعَم النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : «أَوْهِ عَيْنُ الرِّبَا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتريَ التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به» " وفي رواية " هذا الرِّبا فردّوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا " قال علماؤنا : فقوله؛ «أوهِ عين الربا» أي هو الربا المحرّم نفسه لا ما يشبهه .
وقوله : «فردّوه» يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه؛ وهو قول الجمهور؛ خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول : إنّ بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع ، ممنوع بوصفه من حيث هو رِباً ، فيسقط الربا ويصح البيع . ولو كان على ما ذُكر لما فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة ، ولأمره بردّ الزيادة على الصاع ولصحّح الصفقة في مقابلة الصاع .
الموفية عشرين كل ما كان من حرام بيّن ففُسخ فعلى المبتاع ردّ السلعة بعينها . فإن تلفت بيده ردّ القيمة فيما له القيمة ، وذلك كالعقار والعُروض والحيوان ، والمِثْل فيما له مِثل من موزون أو مكيل من طعام أو عَرَض . قال مالك : يُردّ الحرام البيّن فات أو لم يفت ، وما كان مما كره الناس رُدّ إلاّ أن يفوت فيترك .
الحادية والعشرون قوله تعالى : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } قال جعفر بن محمد الصّادق رحمهما الله : حرّم الله الربا ليتقارض الناس . وعن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " قَرْضُ مرّتين يعدل صدقة مرّة " أخرجه البزّار ، وقد تقدّم هذا المعنى مستوفًى . وقال بعض الناس : حرمه الله لأنه مَتْلَفة للأموال مَهْلَكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى : «فَمَنْ جَاءَهُ» لأن تأنيث «الموعظة» غير حقيقي وهو بمعنى وعظ . وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة .
هذه الآية تلتها عائشة لمّا أخبرت بفعل زيد بن أَرْقَم . روى الدَّارَقُطْنِي عن العالية بنت أنفع قالت : خرجت أنا وأُم مُحِبّة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها ، فقالت لنا : ممن أنتن؟ قلنا من أهل الكوفة ، قالت : فكأنها أعرضت عنا ، فقالت لها أُم مُحِبّة : يا أُمّ المؤمنين! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد ابن أرقم الأنصاريّ بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً . قالت : فأقبلت علينا فقالت : بئسما شريتِ وما اشتريت! فأبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟ قالت : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ } . العالية هي زوج أبي إسحاق الهَمْدانيّ الكوفي السَّبيعيّ أم يونس بن أبي إسحاق . وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال ، فإن كان منها ما يؤدّي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعاً جائزاً . وخالف مالكاً في هذا الأصل جمهورُ الفقهاء وقالوا : الأحكام مبنيّة على الظاهر لا على الظنون . ودليلنا القول بسدّ الذرائع؛ فإن سلِّم وإلا استدللنا على صحته . وقد تقدّم . وهذا الحديث نصٌّ؛ ولا تقول عائشة «أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب» إلا بتوقيف؛ إذْ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدّم .
وفي صحيح مسلم عن النُّعْمان بن بَشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلالَ بيّن والحرامَ بيّن وبينهما أُمورٌ مشتبهات لا يعلمهنّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرْضِه ومن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحِمى يُوشِك أن يوقع فيه ألاَ وإن لكل مَلِكٍ حِمىً ألاَ وإن حِمَى الله مَحَارِمه " وجهُ دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرّمات وذلك سدٌّ للذريعة . وقال صلى الله عليه وسلم : " «إن من الكبائر شتْمَ الرجل والديه» قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال : «يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبُّ أُمَّه فيسب أُمه» " فجعل التعريض لسبّ الآباء كسب الآباء . ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذ أكلوا ثمن ما نُهُوا عن أكله . وقال أبو بكر في كتابه : لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة . ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة . واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف ، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يُسْكر ، وعلى تحريم الخَلْوة بالأجنبية وإن كان عِنِّيناً ، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابّة إلى غير ذلك مما يكثُر ويُعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع؛ لأنها ذرائع المحرّمات . والربا أحق ما حُمِيَتْ مراتعه وسُدّت طرائقه ، ومن أباح هذه الأسباب فليُبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات ، وذلك لا يقوله أحد . وأيضاً فقد اتّفقنا على منع من باع بالعِينة إذا عُرِف بذلك وكانت عادته ، وهي في معنى هذا الباب . والله الموفق للصواب .
الثانية والعشرون روى أبو داود عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقر ورَضِيتم بالزَّرْع وتركتم الجهادَ سلّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم " في إسناده أبو عبد الرحمن الخُرَاسانيّ . ليس بمشهور . وفسر أبو عُبَيْد الهَرَوِيّ العِينةَ فقال : هي أن يبيع من رجل سِلعةً بثمن معلوم إلى أجلٍ مسمّى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به . قال : فإن اشترى بحضرة طالب العِينة سِلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العِينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ، ثم باعها المشتري من البائع الأوّل بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضاً عِينةٌ ، وهي أهون من الأُولى ، وهو جائز عند بعضهم . وسمِّيت عينةً لحضور النقد لصاحب العِينة ، وذلك أن العَيْن هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره .
الثالثة والعشرون قال علماؤنا : فَمنْ باع سلعةً بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به ، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد ، أو إلى أجلٍ دون الأجل الذي باعها إليه ، أو إلى أبعد منه ، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر؛ فهذه ثلاث مسائل : وأما الأُولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز ، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة؛ لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو ، وهذا هو الربا بعينه . وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل ، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه ، ولا يجوز بأكثر؛ فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر . ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة ، ومدارها على ما ذكرناه ، فاعلم .(1/67)
الرابعة والعشرون قوله تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي من أمر الربا لا تِباعةً عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة؛ قاله السُّدّي وغيره . وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثَقِيف ومن كان يتّجر هنالك . وسلف : معناه تقدّم في الزمن وانقضى .
الخامسة والعشرون قوله تعالى : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } فيه أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد إلى الربا ، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك . والآخر أن يكون الضمير عائداً على «ما سلف» أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التَّبِعة فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا ، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . واختار هذا القول النحاس ، قال : وهذا قول حسن بيِّن ، أي وأمرُه إلى الله في المستقبل إن شاء ثبّته على التحريم وإن شاء أباحه . والرابع أن يعود الضمير على المنتهى؛ ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير؛ كما تقول : وأمره إلى طاعة وخير ، وكما تقول : وأمره في نموّ وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته .
السادسة والعشرون قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ } يعني إلى فعل الربا حتى يموت؛ قاله سفيان . وقال غيره : مَنْ عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر . قال ابن عطية : إن قدّرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : مُلْكٌ خالد ، عبارةً عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي :
السابعة والعشرون قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيراً . روى ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الرِّبَا وإن كَثُر فعاقبتُه إلى قُلّ " وقيل : { يَمْحَقُ الله الربا } يعني في الآخرة .
وعن ابن عباس في قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } قال : لا يقبل منه صدقةً ولا حجّاً ولا جهاداً ولا صلةً . والمَحْقُ : النقص والذهاب؛ ومنه مُحَاق القمر وهو انتقاصه . { وَيُرْبِي الصدقات } أي يُنَمِّيها في الدنيا بالبركة ويُكثر ثوابَها بالتضعيف في الآخرة . وفي صحيح مسلم : " إن صدقة أحدِكم لتقع في يد الله فَيَربِّيها له كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه حتى يجيء يوم القيامة وإن اللّقمة لعلى قدر أحُد " وقرأ ابن الزبير «يُمَحِّق» بضم الياء وكسر الحاء مشدّدة «يُرَبِّي» بفتح الراء وتشديد الباء ، ورُويت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك .
الثامنة والعشرون قوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } ووصف كَفّار بأثيم مبالغة ، مِن حيث اختلف اللفظان . وقيل : لإزالة الاشتراك في كَفّار؛ إذْ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض : قاله ابن فَوْرَك .
وقد تقدّم القول في قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة } . وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمّنها عمل الصالحات تشريفاً لهما وتنبيهاً على قدرهما إذْ هما رأس الأعمال؛ الصلاة في أعمال البدن ، والزكاة في أعمال المال .
التاسعة والعشرون قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً وإن كان معقوداً قبل نزول آية التحريم ، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضاً . وقد قيل : إن الآية نزلت بسبب ثقِيف ، وكانوا عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم ، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم ، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء ، وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف ، وكانت على بني المغيرة المخزوميّين . فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئاً فإن الربا قد رُفِع . ورفعوا أمرهم إلى عَتَّاب بن أَسِيد ، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتَّاب؛ فعلمت بها ثقيف فكفَّتْ . هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما رَوى ابن إسحاق وابن جريج والسُّدِّي وغيرهم . والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقايةً بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه .
المُوفِية ثلاثين قوله تعالى : { كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } شرطٌ محض في ثَقِيف على بابه؛ لأنه كان في أوّل دخولهم في الإسلام . وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرّر إيمانه فهو شرط مجازيّ على جهة المبالغة؛ كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وحكى النَّقاش عن مُقَاتل بن سليمان أنه قال : إنّ «إنْ» في هذه الآية بمعنى «إذ» . قال ابن عطيّة : وهذا مردود لا يعرف في اللغة .
وقال ابن فَوْرَك : يحتمل أن يريد { ياأيها الذين آمَنُواْ } بمن قبل محمد عليه السلام من الأنبياء { ذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بمحمد صلى الله عليه وسلم ! إذْ لا ينفع الأوّل إلا بهذا . وهذا مردود بما روي في سبب الآية .
الحادية والثلاثون قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } هذا وعيد إن لم يَذَروا الربا ، والحرب داعية القتل . وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا : خُذْ سلاحك للحرب . وقال ابن عبّاس أيضاً : مَنْ كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحقّ على إمام المسلمين أن يستثيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه . وقال قتادة : أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بَهْرَجاً أينما ثُقِفُوا . وقيل : المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حربٌ لله ولرسوله ، أي أعداء . وقال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتَدِّين ، والحكم فيه كالحكم في أهل الردّة ، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتُهم؛ ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] . وقرأ أبو بكر عن عاصم «فآذِنُوا» ، على معنى فأعلموا غيرَكم أنكم على حربهم .
الثانية والثلاثون ذكر ابن بكير قال : جاء رجل إلى مالك بن أنَس فقال : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رجلاً سكراناً يتعاقر يريد أن يأخذ القمر؛ فقلت : امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر . فقال : ارجعْ حتى أنظر في مسألتك . فأتاه من الغد فقال له : ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له : امرأتك طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنّة نبيه فلم أر شيئاً أشرّ من الربا؛ لأن الله أذِن فيه بالحرب .(1/68)
الثالثة والثلاثون دلّت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ، ولا خلاف في ذلك على ما نبيّنه . ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غُبَاره " وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لَدرهُم رباً أشدُّ عند الله تعالى من ست وثلاثين زَنْيَة في الخطيئة " وروي عنه عليه السلام أنه قال : " الربا تسعةٌ وتسعون بابا أدناها كإتيان الرجل بأُمِّه " يعني الزنا بأُمه . وقال ابن مسعود : آكل الربا وموكِّله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم . وروى البخاريّ عن أبي جُحَيْفَة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبِقات . . . وفيها وآكل الربا " وفي مصنف أبي داود عن ابن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده .
الرابعة والثلاثون قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } الآية . روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حَجّة الوداع : " ألا إن كلَّ رَباً من ربا الجاهليّة موضوعٌ لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون " وذكر الحديث . فردّهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم : «لاَ تَظْلِمُونَ» في أخذ الربا «وَلاَ تُظْلَمُونَ» في أن يُتَمسّك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم . ويحتمل أن يكون «لا تُظْلَمُونَ» في مطل؛ لأن مطل الغنيّ ظلم؛ فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا ، وهكذا سُنَّة الصلح ، وهذا أشبه شيء بالصلح . " ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دَيْن ابن أبي حَدْرَد بوضع الشطر فقال كعب : نعم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر : «قُمْ فاقضه» " فتلقّى العلماء أمره بالقضاء سنّةً في المصالحات . وسيأتي في «النساء» بيان الصلح وما يجوز منه وما لا يجوز ، إن شاء الله تعالى .
الخامسة والثلاثون قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } تأكيد لإبطال ما لم يُقْبَض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه . فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كلّ ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد؛ كما إذا اشترى مسلم صيداً ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بَطل البيع؛ لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد؛ كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض ، ولو كان مقبوضاً لم يؤثر . هذا مذهب أبي حنيفة ، وهو قول لأصحاب الشافعيّ . ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافاً لبعض السلف؛ ويروى هذا الخلاف عن أحمد . وهذا إنما يتمشّى على قول من يقول : إن العقد في الربا كان في الأصل منعقداً ، وإنما بطل بالإسلام الطارىء قبل القبض . وأمّا من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحاً؛ وذلك أن الربا كان محرماً في الأديان ، والذي فعلوه في الجاهليّة كان عادة المشركين ، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب فلا يتعرّض له . فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل . واشتمالُ شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى؛ كما حكى عن اليهود في قوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] . وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا : { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [ هود : 62 ] { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به . نعم ، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد .
السادسة والثلاثون ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميّز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحلّ ولم يطب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أُخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام . قال ابن العربي : وهذا غلوٌّ في الدين؛ فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليّته لا عينه ، ولو تلِف لقام المِثْل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه؛ كما أن الإهلاك إتلاف لعينه ، والمِثْل قائم مقام الذاهب ، وهذا بَيِّنٌ حِسًّا بيِّن معنى . والله أعلم .
قلت : قال علماؤنا إنّ سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردّها على من أرْبَى عليه ، ويطلبه إن لم يكن حاضراً ، فإن أَيِس من وجوده فليتصدّق بذلك عنه . وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه . فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده ، فإنه يتحرّى قدر ما بيده مما يجب عليه ردّه ، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيردّه من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه . فإن أيس من وجوده تصدّق به عنه . فإن أحاطت المظالم بذمّته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يُطيق أداءَه أبداً لكثرته فتوبته أن يُزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين ، حتى لا يبقى في يده إلا أقلّ ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سُرّته إلى ركبتيه ، وقوتُ يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه؛ وإن كره ذلك من يأخذه منه . وفارق هاهنا المفلس في قول أكثر العلماء ، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه ، فيُتْرك له ما يُواريه وما هو هيئة لباسه . وأبو عُبَيْد وغيره يرى ألاّ يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سُرّته إلى ركبته ، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا ، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدّى ما عليه .
السابعة والثلاثون هذا الوعيد الذي وعد الله به في الربا من المحاربة ، وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثُله في المخابرة .(1/69)
وروى أبو داود قال : أخبرنا يحيى بن مَعين قال أخبرنا ابن رجاء قال ابن خيثم حدّثني عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ لم يَذَرِ المخابرة فلُيؤْذنُ بحرب من الله ورسوله » وهذا دليل على منع المخابرة وهي أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع ، ويسمّى المزارعة . وأجمع أصحاب مالك كلهم والشافعيّ وأبو حنيفة وأتباعهم وداود ، على أنه لا يجوز دفع الأرض على الثُّلث الرُّبع ، ولا على جزء مما تُخرج : لأنه مجهول؛ إلاَّ أن الشافعي وأصحابه وأبا حنيفة قالوا بجواز كراء الأرض بالطعام إذا كان معلوماً؛ لقوله عليه السَّلام : « فأمّا شيء معلوم مضمون فلا بأسَ به » خرّجه مسلم . وإليه ذهب محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ومنعه مالك وأصحابه؛ لما رواه مسلم أيضاً عن رافع بن خَدِيج قال : كنا نُحَاقِل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَنُكرِيَها بالثلث والربع والطعام والمسمّى ، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ كان لنا نافعاً ، وطواعِيُةُ الله ورسوله أنفع لنا ، نهانا أن نُحَاقِلَ بالأرض فنكتريها على الثلث والربع والطعام المسمَّى ، وأمر ربَّ الأرض أن يزرعها أو يُزَارعها . وكرِه كِراءَها وما سوى ذلك . قالوا : فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام مأكولاً كان أو مشروباً على حال؛ لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئاً . وكذلك لا يجوز عندهم كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاماً مأكولاً ولا مشروباً ، سوى الخشب والقصب والحطب؛ لأنه عندهم في معنى المُزَابنة . هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه . وقد ذكر ابن سُحْنون عن المغيرة ابن عبد الرّحمن المخزوميّ المدنيّ أنه قال : لا بأس باكراء الأرض بطعام لا يخرج منها . وروى يحيى بن عمر عن المغيرة أن ذلك لا يجوز؛ كقول سائر أصحاب مالك . وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول : لا تكرى الأرض بشيء إذا أُعيد فيها نبت ، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل خرج منها أو لم يخرج منها؛ وبه قال يحيى بن يحيى ، وقال : إنه من قول مالك . قال : وكان ابن نافع يقول : لا بأس أن تُكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره خرج منها أولم يخرج ، ما عدا الحِنْطة وأخواتها فإنها المحاقلة المنهى عنها . وقال مالك في الموطّأ : فأما الذي يعطي أرضه البيضاء بالثلث والربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغَرَر؛ لأن الزرع يقل مَرّة ويكثر أخرى ، وربما هلك رأساً فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوماً؛ وإنما مثل ذلك مثل رجل استأجر أجيراً لسفر بشيء معلوم ، ثم قال الذي استأجر للأجير : هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري هذا إجارةً لك .
فهذا لا يحلّ ولا ينبغي . قال مالك : ولا ينبغي لرجل أن يؤاجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته ولا دابّته إلاَّ بشيء معلوم لا يزول . وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما . وقال أحمد بن حنبل والليث والثوريّ والأوزاعيّ والحسن بن حيّ وأبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع؛ وهو قول ابن عمر وطاوس . واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطرِ ما تخرجه أرضهم وثمارهم . قال أحمد : حديث رافع بن خَدِيج في النهى عن كِراء المَزارع مضطربُ الألفاظِ ولا يصح ، والقول بقصة خيبْرَ أولى وهو حديث صحيح . وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يُعطي الرجل سفينتَه ودابّته ، كما يُعطي أرضه بجزء مما يرزقه الله في العِلاج بها . وجعلوا أصلهم في ذلك القِراض المجْمَع عليه على ما يأتي بيانه في «المزَّمِّل» إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله } [ المزمل : 20 ] وقال الشافعي في قول ابن عمر : كنا نُخَابِر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع ابن خَدِيج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ، أي كنا نكرِي الأرض ببعض ما يخرج منها . قال : وفي ذلك نسخٌ لسُنّة خيبر .
قلت : ومما يصحح قول الشافعيّ في النسخ ما رواه الأئمّة واللفظ للدّارقُنِيّ عن جابر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المُحاقَلَة والمُزَابَنَة والمُخَابَرَة وعن الثُّنْيَا إلاَّ أن تُعلم . صحيح . وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُخَابَرَة . قلت : وما المخابرة؟ قال : أن تأخذ الأرض بِنِصْف أو ثُلُث أو رُبُع .
الثامنة والثلاثون في القراءات . قرأ الجمهور «مَا بَقِيَ» بتحريك الياء ، وسكنها الحسن؛ ومثله قول جرير :
هو الخليفةُ فارّضَوْا ما رَضِي لَكُمُ ... ماضِي الْعزُيمةِ ما في حُكْمِه جَنَف
وقال عمر بن أبي ربعية :
كم قد ذَكرتُك لَوْ أُجْزَى بذكرِكُم ... يا أشْبَهَ الناسِ كُلَّ الناسِ بالقَمْرِ
إنّي لأجْذَلُ أن أُمْسِي مُقابِلَهُ ... حُبّاً لرؤية مَن أشْبَهْت في الصُّوَرِ
أصله «ما رِضيَ» و «أن أمسِيَ» فأسكنها وهو في الشعر كثير . ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء . ومن هذه اللغة أحِبّ أن أدْعُوك ، وأشتهي أن أقْضِيكَ ، بإسكان الواو والياء . وقرأ الحسن «ما بَقَى» بالألف ، وهي لغة طي ، يقولون للجارية : جاراة ، وللناصية : ناصاة؛ وقال الشاعر : لعمركَ لا أخْشى التّصَعْلُكَ ما بَقَي ... على الأرض قَيْسِيّ يسوق الأباعرا
وقرأ أبو السّمّال من بين جميع القُراء «مِن الرِّبُوْ» بكسر الراء المشدّدة وضم الباء وسكون الواو . وقال أبو الفتح عثمان بن جِني : شذّ هذا الحرف من أمرين ، أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم ، والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم . وقال المهدوِيّ : وجهها أنه فَخّم الألف فانْتَحَى بها نحو الواو التي الألف منها؛ ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه؛ إذْ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة . وأمَالَ الكِسائيّ وحمزة «الربا» لمكان الكسرة الراء . الباقون بالتفخيم لفتحة الباء . وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فَآذِنُوا على معنى «فآذِنوا» غيركم ، فحذف المفعول . وقرأ الباقون «فَأْذَنُوا» أي كونوا على إذن؛ من قولك : إني على علم؛ حكاه أبو عبيد عن الأصمعيّ . وحكى أهل اللغة أنه يُقال : أذْنِت به إذْناً ، أي علمت به ، وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : معنى «فَأْذَنُوا» فاستيقنوا الحرب من الله تعالى ، وهو بمعنى الإذْن . ورجح أبو عليّ وغيره قراءة المدّ قال : لأنهم إذا أُمِروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علمِوا هم لا محالة . قال : ففي إعْلامهم عِلمُهم وليس في علمهم إعلامهم . ورجح الطبريّ قراءة القصر؛ لأنها تختَصَ بهم . وإنما أُمِروا على قراءة المد بإعلام غيرهم ، وقرأ جميع القُراء «لاَ تَظْلِمُونَ» بفتح التاء «وَلاَ تُظْلَمُونَ» بضمها . وروى المفضَّل عن عاصم «لاَ تُظْلَمُونَ» «وَلاَ تَظْلِمُونَ» بضم التاء في الأُولى وفتحها في الثانية على العكس . وقال أبو عليّ : تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : «وَإنْ تُبْتُمْ» في إسناد الفعلين إلى الفاعل؛ فيجيء «تَظْلِمُون» بفتح التاء أشْكَلَ بما قبله .
فيه تسع مسائل :(1/70)
الأولى قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } لما حكم جلّ وعزّ لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال ، حكم في ذي العسرة بالنّظِرَة إلى حال المْيَسرة؛ وذلك أن ثقيفاً لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغِيرة شكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا : ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم؛ فنزلت هذه الآية : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } .
الثانية قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } مع قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الديْن على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه . ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الديْن مع الإمكان كان ظالماً؛ فإن الله تعالى يقول : { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } [ البقرة : 279 ] فجعل له المطالبة برأس ماله . فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه .
الثالثة قال المهدوِيّ وقال بعض العلماء : هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعْسَر . وحكى مكيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام . قال ابن عطية : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نَسْخٌ وإلاَّ فليس بنسخ . قال الطحاويّ : كان الحر يُباع في الديْن أوّل الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جلّ وعزّ : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . واحتجوا بحديث رواه الدّارقطنيّ من حديث مسلم بن خالد الزنجيّ أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البَيْلَمَانِيّ عن سُرَّق قال : كان لرجل عليّ مالٌ أو قال ديْنٌ فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يِصب لي مالاً فباعني منه ، أو باعني له . أخرجه البَزّار بهذا الإسناد أطول منه . ومسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما . وقال جماعة من أهل العلم : قوله تعالى : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } عامّةٌ في جميع الناس ، فكل من أعسر أنْظِر؛ وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء . قال النحاس : وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم . قال : هي لِكل مُعْسِرٍ يُنْظَر في الرّبا والديْن كله . فهذا قول يجمع الأقوال؛ لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه ، ولأنّ القراءة بالرفع بمعنًى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين . ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه ، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة . وقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصةً؛ فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نَظِرَةٌ بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يُوفِّيَه؛ وهو قول إبراهيم .
واحتجوا بقول الله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] الآية . قال ابن عطية : فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقرٌ مُدْقِع ، وأما مع العُدْم والفقر الصرِيح فالحكم هو النظِرة ضرورة .
الرابعة من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته . روى ابن نافع عن مالك أنه لايترك له إلاَّ ما يُوارِيه . والمشهور أنه يترك له كسوته المعتاد ما لم يكن فيها فضل ، ولا يُنْزَع منه رداؤه إن كان ذلك مُزْرياً به . وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالماً خلاف . ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقلّ قيمتها؛ وعند هذا يحرمُ حَبْسُه . والأصل في هذا قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . روى الأئمّة واللفظ لمسلم " عن أبي سعيد الخدرِيّ قال : أُصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينْه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تصدقوا عليه» فتصدّق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه : «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاَّ ذلك» " وفي مصنف أبي داود : فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءَه على أن خلع لهم مالَه . وهذا نَصٌّ؛ فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل ، وهو معاذ بن جبل كما قال شُرَيْح ، ولا بملازمته ، خلافاً لأبي حنيفة فإنه قال : يلازم لإمكان أن يظهر له مال ، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا . وبالله توفيقنا .
الخامسة ويحبس المفلس في قول مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبيّن عُدْمُه . ولا يحبس عند مالك إن لم يُتّهم أنه غيّب مالَه ولم يتبيّن لَدَدُه . وكذلك لا يحبس إن صحّ عُسْره على ما ذكرنا .
السادسة فإن جُمِع مال المفلس ثم تلِف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع ، فعلى المفلس ضمانُه ، وديْن الغرماء ثابت في ذمته . فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلِف الثمن قبل قبض الغرماء له ، كان عليهم ضمانه وقد برىء المفلس منه . وقال محمد بن عبد الحكم : ضمانه من المفلس أبداً حتى يصل إلى الغرماء .
السابعة العُسْرَة ضيق الحال من جهة عدم المال؛ ومنه جيش العسرة . والنّظِرَة التأخير . والمَيْسَرَة مصدر بمعنى اليسر . وارتفع «ذو» بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث؛ هذا قول سيبويه وأبي عليّ وغيرهما . وأنشد سيبويه :
فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبان ناقتي ... إذا كان يومٌ ذو كواكب أشْهَبُ
ويجوز النصب . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وَإنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة .
وقرأ الأعمش «وإن كان مُعْسِراً فنظرة» . قال أبو عمرو الدّانِيّ عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب . قال النحاس ومكيّ والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الرِّبا ، وعلى من قرأ «ذو» فهي عامة في جميع من عليه دين ، وقد تقدّم . وحكى المهدَوِيّ أن في مصحف عثمان «فإن كان بالفاء ذو عسرة» . وروى المعتمِر عن حجاج الورّاق قال : في مصحف عثمان «وإن كان ذا عسرةٍ» ذكره النحاس . وقراءة الجماعة «نَظِرَةٌ» بكسر الظاء . وقرأ مجاهد وأبو رَجاء والحسن «فَنَظْرَةٌ» بسكون الظاء ، وهي لغة تميميّة وهم الذين يقولون : ( في ) كَرْم زيدٍ بمعنى كَرَم زيدٍ ، ويقولون كبْد في كبِد . وقرأ نافع وحده «مَيْسُرَةٍ» بضم السين ، والجمهور بفتحها . وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء «فناظِرْهُ على الأمر إلى مَيْسُرِ» هِي بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج . وقرىء «فَنَاظِرَةٌ» قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة ، إنما ذلك في «النمل» لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها ، من نظرت تنظر فهي ناظرة؛ وما في «البقرة» فمن التأخير ، من قولك : أنظرتك بالديْن ، أي أخّرتك به . ومنه قوله : { فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] . وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال : هي من أسماء المصادر؛ كقوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] . وكقوله تعالى : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] وك { خَآئِنَةَ الأعين } [ غافر : 19 ] وغيره .
الثامنة قوله تعالى : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } ابتداء ، وخبره { خَيْرٌ } . ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعُسِر وجعل ذلك خيراً من إنْظاره؛ قاله السدي وابن زيد والضحاك . وقال الطبريّ : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدّقوا على الغنِيّ والفقير خير لكم . والصحيح الأوّل ، وليس في الآية مَدْخل للغنِيّ .(1/71)
التاسعة روى أبو جعفر الطحاوي عن بُريْدة بن الحُصَيْب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة» ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة؛ قال فقال «بكل يوم صدقة مالم يحِل الدّيْن فإذا أنْظَره بعد الحِل فله بكل يوم مثله صدقة» " وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حوسِب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلاَّ أنه كان يخالط الناس وكان موسِراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسِر قال قال الله عزّ وجلّ نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه " وروي عن أبي قتادة أنه طلب غِريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسِر . فقال : آلله؟ قال : أللَّهِ . قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سره أن ينجِيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسِرٍ أو يضع عنه " ، وفي حديث أبي اليَسَر الطويلِ واسمه كعب بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أنظر معسِراً أو وضع عنه أظلَّه الله في ظِلِّه " ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها . وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علِم عسرة ( غريمه ) أو ظنها حرمتّ عليه مطالبتُه ، وإن لم تثبت عُسْرته عند الحاكم . وإنْظار المعسِر تأخيره إلى أن يُوسِر . والوضع عند إسقاط الدين عن ذمته . وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له : إن وجدت قضاء فاقضِ وإلاَّ فأنت في حِل .
قيل : إن هذه الآية نزلت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء؛ قاله ابن جُريج . وقال ابن جبير ومقاتل : بسبع ليال . وروي بثلاث ليال . وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه عليه السَّلام قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الديْن " وحكى مكّي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية " . قلت : وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل : «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» إلى آخر الآية . والقول الأوّل أعرف وأكثر وأصح وأشهر . ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فقال جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة» . ذكره أبو بكر الأنباريّ في «كتاب الردّ» له؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنهاآخر ما نزل ، وأنه عليه السَّلام عاش بعدها أحداً وعشرين يوماً ، على ما يأتي بيانه في آخر سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] إن شاء الله تعالى . والآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان . و «يَوْماً» منصوب على المفعول لا على الظرف . «تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ» من نعته . وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم؛ مثل { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] واعتباراً بقراءة أبيّ «يوماً تصِيرون فيه إلى الله» . والباقون بضم التاء وفتح الجيم؛ مثل { ثُمَّ ردوا إلى الله } [ الأنعام : 28 ] . { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي } [ الكهف : 36 ] واعتباراً بقراءة عبد الله «يوماً تردون فِيهِ إلى اللَّهِ» وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء ، على معنى يرجع جميع الناس . قال ابن جِني : كأنّ الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة ، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم : «وَاتَّقُوا يَوْماً» ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رِفْقاً بهم . وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذّر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية . وقال قوم : هو يوم الموت . قال ابن عطية : والأوّل أصح بحكم الألفاظ في الآية . وفي قوله «إلَى اللَّهِ» مضاف محذوف ، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه . «وَهُمْ» ردّ على معنى «كُلُّ» لا على اللفظ ، إلاَّ على قراءة الحسن «يرجعون» فقوله «وهم» ردّعلى ضمير الجماعة في «يرجعون» . وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال ، وهو رد على الجَبْرِيَّة ، وقد تقدَّم .
-------------------
وقال الشنقيطي (1):
قوله تعالى : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ } الآية .
معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي : ترك المعاملة بالربا . خوفاً من الله تعالى وامتثالاً لأمره { فَلَهُ مَا سَلَفَ } [ البقرة : 275 ] أي : ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه ، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر ، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } [ المائدة : 93 ] الآية .
وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] أي : لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 23 ] .
وقال في الصيد قبل التحريم : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } [ المائدة : 95 ] الآية
وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ .
ومن أصرح الأجلة في هذا المعنى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم } [ التوبة : 113 ] وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [ التوبة : 115 ] فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه .
قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } .
صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي : يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره ، وما ذكر هنا من محق الربا أشار إليه في مواضع أخر كقوله : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله } [ الروم : 39 ] وقوله : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] الآية . وقوله : { وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } [ الأنفال : 37 ] كما أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآية .
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 1 / ص 188)(1/72)
واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله : { وَحَرَّمَ الربا } [ البقرة : 275 ] وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 278-279 ] .
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي : من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } [ البقرة : 275 ] والأحاديث في ذلك كثيرة جداً .
واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية ، وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدين وربا النساء بين الذهب والذهب ، والفضة والفضة ، وبين الذهب والفضة ، وبين البر والبر ، وبين الشعير والشعير ، وبين التمر والتمر ، وبين الملح والملح وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض .
وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل ، بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب ، ولا بين الفضة والفضة ، ولا بين البر والبر ، ولا بين الشعير والشعير ، ولا بين التمر والتمرن ولا بين الملح و الملح ، ولو يداً بيد .
والحق - الذي لا شك فيه - منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة ، فإن قيل : ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ربا إلا في النسيئة » وثبت في الصحيح عن أبي المنهال أنه قال : سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم عن الصَّرف فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة ، والبراء ، وزيد ، إنما هو في جنسين مختلفين ، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل ، وأنه في الجنس الواحد ممنوع .
واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى ، فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا ىنفاً عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، ما نصه : رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم ، دون ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه من حديث حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، مع ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن حاتم بن ميمون عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لى ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فذكره وبمعناه رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان ، وكذلك رواه أحمد بن روح ، عن سفيان وروى عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل .
عندي أن هذا خطأ ، والصحيح ما رواه علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج ، فيكون الخبر وارداً في بيع الجنسين ، أحدهما بالآخر ، فقال : ما كان منه يداً بيد فلا بأس ، وما كان منه نسيئة فلا ، وهو المراد بحديث أسامة والله أعلم .
والذي يدل على ذلك أيضاً ما أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد : أنا أبو سهل بن زياد القطان ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا شعبة ، أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت ، قال سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب ديناً ، رواه البخاري في الصحيح عن أبي عمر حفص بن عمر وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة اه من البيهقي بلفظه ، وهو واضح جداً فيما ذكرنا . من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد ، وفي تكملة المجموع بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه : ولا حجة لمتعلق فيهما . لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين ، إما أن يكون المراد بيع دراهم بشيء ليس ربوياً ، ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج ، فإنه غير محرر ولا سيما على ما كانت العرب تفعل .
والثاني : أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال . قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً ، رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه . وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب ديناً ، فهو يبين أن المراد صرف الجنس بجنس آخر .
وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال ، والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي ، واللتان في الصحيح وكلها أسانيدها في غاية الجودة .
ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور ، وكل من الحميدي وعلي بن المديني في غاية الثبت . ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور له ، وشهادة ابن جريج لروايته ، وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه ، ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه الله : إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده اه منه بلفظه .
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وقال الطبري معنى حديث أسامة « لا ربا إلا في النسيئة » إذا اختلفت أنواع البيع اه محل الغرض منه بلفظه ، وهو موافق لما ذكر . وقال في فتح الباري أيضاً ما نصه .
تنبيه : وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله : يعني البخاري ، سمعت سليمان بن حرب يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، هذا عندنا في الذهب بالورق ، والحنطة بالشعير ، متفاضلاً ولا بأس به يداً بيد ، ولا خير فيه نسيئة . قلت : وهذا موافق اه منه بلفظه .
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله وهذا موافق بياضاً بالأصل ، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم : أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شيء . لأنه قد ثبت في الصحيح عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال ، والروايات يفسر بعضها بعضاً ، فإن قيل : هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ . إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة ، فإن منها ما أطلق فيه الصلاف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم ، فيحمل المطلق على المقيد ، جميعاً بين الروايتين . فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى ، ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثاً آخر وارداً في الجنسين ، وتحريم النساء فيهما ، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض .(1/73)
فالجواب على تسليم هذا بأمرين : أحدهما أن إباحة ربا الفضل منسوخة . والثاني : أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته . ومما يدل على النسخ ما ثبت في الصحيح عن أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فجاء إليَّ فأَخبرني فقلت هذا أَمر لا يصح ، قال قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك عليَّ أحد ، فأتيت الراء بن عازب فسألته فقال قدم النَّبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع ، فقال « ما كان يداً بيدٍ فلا بأس به ، وما كان نسيئة فهو رباً » ، وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني ، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً .
وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريمه في يوم خيبر ، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضاً ، فقد ثبت في الصحيح من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذَّهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب وزناً بوزن » هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وفي لفظ له في صحيحه أيضاً عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « لا تباع حتى تفصل » وفي لفظ له في صحيحه أيضاً عن فضالة رضي الله عنه قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا وزناً بوزن « وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تفعلوا ، ولكن مثلاً بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان « هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أكل تمر خيبر هكذا « ؟ قال : لا والله يا رسول الله . إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً « والأحاديث بمثله كثيرة ، وهي نص صريح في تصريحه صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد فتح خير . فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في الصحيح : أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً ، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده ، فتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها ، يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر ، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، وأيضاً فالبراء وزيد رضي الله عنهما كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل ، فإنهم بالغون وقت التحمل .
ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي : للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغاً وسن البراء وزيد وقت قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة ، نحو عشر سنينز لما ذكره ابن عبد البر عن منصور بن سلمة الخزاعي : أنه روى بغسناده إلى زيد بن جارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغره يوم أحد ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأبا سعيد الخدري ، وسعد بن حبته ، وعبد الله بن عمر . وعن الواقدي أو أول غزوة شهداها الخندق ، وممن قال : بأن حديث البراء وزيد منسوخ ، راويه الحميدي . وناهيك به علماً واطلاعاً . وقول راوي الحديث : إنه منسوخ ، في كونه يكفي في النسخ . خلاف معروف عند أهل الأصول ، وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم . فإن قيل : ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعاً بعد إباحته ، يدل على النسخ في حديث البراء وزيد ، لعلم التاريخ فيهما ، وأن حديث التحريم هو المتأخر ، ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أسامة؟ ومولد أسامة مقارب لمولد البراء وزيد . لأن سن أسامة وقت وفاته صلى الله عليه وسلم عشرون سنة ، وقيل : ثمان عشرة ، وسن البراء وزيد وقت وفاته صلى الله عليه وسلم نحو العشرين ، كما قدمنا ما يدل عليه .
فالجواب : أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه ، والمتأخر يقضي على المتقدم .
الجواب الثاني : عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد ، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ناطقة بمنع ربا الفضل منهم أبو سعيد ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأبو هريرة وهشام بن عامر ، وفضالة بن عبيد ، وأبو بكرة ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وبلال ، وعبادة بن الصامت ، ومعمر بن عبد الله وغيرهم وروايات جل من ذكرنا ثابتة في الصحيح ، كرواية أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وفضالة بن عبيد ، وعمر بن الخطاب ، وأبي بكرة ، وعبادة بن الصامت ، ومعمر بن عبد الله ، وغيرهم . وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ ، من رواية الواحد .
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات ، وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في مراقي السعود ، في مبحث الترجيح ، باعتبار حال المروي بقوله :
وكثرة الدليل والرواية ... مرجح لدى ذوي الدرايه
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف ، وقد ذكر سليم الداري أن : الشافعي أومأ إليه ، وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية .
الجواب الثالث : عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل ، وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات ، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة .
لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، وقد قدمناه عن صاحب المراقي ، وهو الحق خلافاً للغزالي ، وعيسى بن ابان وأبي هاشم وجماعة من المتكلمين حيث قالوا : هما سواء .(1/74)
الجواب الرابع : عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين ، وأحاديث الجماعة أخص منه . لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس ، وبالجواز مع اختلاف الجنس ، والأخص مقدم على الأعم . لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول . ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ . فإن في رواته أبا هريرة ، وأبا سعيد ، وغيرهما ، ممن هو مشهور بالحفظ . ومنها غير ذلك . وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : واتفق العلماء على صحة حديث أسامة ، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد ، فقيل : منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وقيل : المعنى في قوله لا ربا الربا الأغلظ الشديد التحريم ، المتوعد عليه بالعقاب الشديد ، كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيد ، مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضاً فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم . فيقدم عليه حديث أبي سعيد . لأن دلالته بالمنطوق . ويحمل حديث اسامة على الربا الأكبر كما تقدم ، والله أعلم اه منه .
وقوله النسخ لا يثبت بالاحتمال مردود بما قدمنا من الروايات المصرحة بأن التحريم بعد الإباحة ومعرفة المتأخر كافية في الدلالة على النسخ ، وقد روى عن ابن عباس وابن عمر أنهما رجعا عن القول بإباحة ربا الفضل ، قال البيهقي في السنن الكبرى ما نصه : « باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه » أخبرنا ابو عبد الله الحافظ : أنا أبو الفضل بن إبراهيم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى حدثنا داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال : سالت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به باساً ، وإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف ، فقال ما زاد فهو رباً ، فأنكرت ذلك لقولهما ، فقال : لا احدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب ، وكان تمر النَّبي صلى الله عليه وسلم هو الدون ، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم « إنى لك هذا » قال انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع . فإن سعر هذا بالسوق كذا ، وسعر هذا بالسوق كذا .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أربيت؟ إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت » فقال أبو سعيد ، فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا ، أم الفضة بالفضة؟ قال فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ، ولم آت ابن عباس قال : فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس فكرهه ، رواه مسلم في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم . وقال : وكان تمر النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون .
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين أبو علي الماسرجسي ، حدثنا جدي أبو العباس أحمد بن محمد ، وهو ابن بنت الحسن بن عيسى ، حدثنا جدي الحسن بن عيسى ، أنا ابن المبارك ، أنا يعقوب بن أبي القعقاع ، عن معروف بن سعد ، أنه سمع أبا الجوزاء يقول : كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاء رجل فسأله عن درهم بدرهمين ، فصاح ابن عباس وقال : إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا ، فقال ناس حوله إن كنا لنعمل هذا بفتياك ، فقال ابن عباس قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فأنا أنهاكم عنه . وفي نسختنا من سنن البيهقي في هذا الإسناد ابن المبارك ، والظاهر : أن الأصل أبو المبارك كما يأتي . أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن سعد بن إياس ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رجلاً من بني شمخ بن فزارة ، سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته ، فطلق امرأته . ليتزوج أمها ، قال لا باس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال ، وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ، ويأخذ القليل ، حتى قم المدينة . فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا يحل لهذا الرجل هذه المرأة ، ولا تصح الفضة إلا وزناً بوزن . فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ، ووجد قومه فقال إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل فقالوا : إنها قد نثرت له بطنها ، قال وإن كان . وأتى الصيارفة فقال يا معشر الصيارفة : إن الذي كنت أبايعكم ، لا يحل ، لا تحل الفضة بالفضة ، إلا وزناً بوزن اه من البيهقي بلفظه ، وفيه التصريح برجوع ابن عمر وابن عباس وابن مسعود عن القول بإباحة ربا الفضل ، وقال ابن حجر في الكلام على حديث أسامة المذكور ما نصه ، وخالف فيه . يعني : منع ربا الفضل ابن عمر ثم رجع ، وابن عباس ، واختلف في رجوعه ، وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية ، سألت أبا مجلز عن الصرف فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأساً زماناً من عمره ، ما كان منه عيناً بعين ، يداً بيد ، وكان يقول : إنما الربا في النسيئة ، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث ، وفيه التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يداً بيد ، مثلاً بمثل ، فما زاد فهو ربا ، فقال ابن عباس .
أستغفر الله وأتوب إليه ، فكان ينهى عنه أشد النهي . اه من فتح الباري بلفظه . وفي تملة المجموع لتقي الدين السبكي بعد أن ساق حديث حيان هذا ما نصه : رواه الحاكم في المستدرك ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وفي حكمه عليه بالصحة نظر . فإن حيان بن عبيد الله المذكور ، قال ابن عدي : عامة ما يرويه إفرادات يتفرد بها ، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه ، ثم قال وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس ، تفرد به حيان . قال البيهقي وحيان : تكلموا فيه . واعلم : أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره ، وتبيين صحته من سقمه . لأمر غير ما نحن فيه : وهو قوله : وكذلك ما يكال ويوزن ، وقد تكلم فيه بنوعين من الكلام أحدهما تضعيف الحديث جملة ، وإليه أشار البيهقي ، وممن ذهب غلى ذلك ابن حزم ، أعله بشيء أنبه عليه ، لئلا يغتر به : وهو أنه أعله بثلاثة أشياء :
أحدها : أنه منقطع . لأن ابا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس .
والثاني : لذكره أن ابن عباس رجع ، واعتقاد ابن حزم : أن ذلك باطل . لمخالفة سعيد بن جبير .(1/75)
والثالث : أن حيان بن عبيد الله مجهول ، فأما قوله : إنه منقطع فغير مقبول . لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس وسمع منه ، وأدرك أبا سعيد . ومتى ثبت ذلك لا تسمع دعوى عدم السماع إلا بثبت ، وأما مخلفة سعيد بن جبير فسنتكلم عليها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وأما قوله إن حيان بن عبيد الله مجهول ، فإن أراد مجهول العين فليس بصحيح بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا محمد بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ، ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ، وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي ، بصري سمع أبا مجلز لاحق بن حميدو ، والضحاك وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري وابن أبي حاتم ترجمة ، فذكر كل منهما بعض ما ذكرته ، وله ترجمة في كتاب ابن عدي أيضاً . كما أشرت إليه . فزال عنه جهالة العين ، وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه ، فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث ، نشأ ف يالحديث عارف به ، مصنف متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي المشهود له فتقبل شهادته له ، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق .(1/76)
وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا . وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روى عنهم ، وقال : إنه سأل أباه عنه فقال صدوق ، ثم قال وعن سليمان بن علي الربعي ، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي ، قال سمعته بأمر بالصرف يعني ابن عباس ، وتحدث ذلك عنه ، ثم بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة ، فقلت إنه بلغني أنك رجعت قال : نعم ، إنما كان ذلك رأياً مني ، وهذا أبو سعيد حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصرف ، رويناه في سنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد ، بإسناد رجاله على شرط الصحيحين ، إلى سليمان بن علي ، وسليمان بن علي روى له مسلم . وقال ابن حزم : إنه مجهول لا يدري من هو؟ وهو غير مقبول منه . لما تبين . ثم قال : وعن أبي الجوزاء قال : كنت أخدم ابن عباس رضي الله عنهما تسع سنين ثم ساق حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس ، الذي قدمنا عن البيهقي ، ثم قال رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد فيه أبو المبارك ، وهو مجهول . ثم قال : وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم بضم النون وإسكان العين ، أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، مثلاً بمثل . فمن زاد فقد أربى » فقال ابن عباس : أتوب إلى الله مما كنت أفتي به ، ثم رجع . رواه الطبراني بإسناد صحيح ، وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ، ثقة متفق عليه ، معروف بالرواية عن أبي سعيد ، وابن عمر ، وغيرهما من الصحابة ، وعن أبي الجوزاء قال : سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين ، يداً بيد ، فقال لا أرى فيما كان يداً بيد بأساً ، ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه ، رواه الطبراني بإسناد حسن . وعن أبي الشعثاء قال : سمعت ابن عباس يقول : اللهم إني أتوب إليك من الصرف . إنما هذا من رأيي ، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني ورجاله ثقاة ، مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم . وعن عطية العوفي بإسكان الواو وبالفاء قال : قال أبو سعيد لابن عباس تب إلى الله تعالى ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، قال : ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، وقال « إني أخاف عليكم الربا » ، قال فضيل بن مرزوق : قلت لعطية ما الربا؟ قال الزيادة والفضل بينهما ، رواه الطبراني بسند صحيح ، إلى عطية . وعطية من رجال السنن . قال يحيى بن معين صالح وضعفه غيره ، فالإسناد بسببه ليس بالقوي ، وعن بكر بن عبد الله المزني أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنه لا بأس بالصرف ، ما كان منه يداً بيد إنما الربا في النسيئة ، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري وقال له : يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته؟ قال أو فعلت؟ قال : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الذهب بالذهب ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل : تبره وعينه . فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى » حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي ، وإني أستغفر الله تعالى منه ، وأتوب إليه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الذهب بالذهب ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، تبره وعينه ، فمن زاد واستزاد فقد أربى » وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة رواه الطبراني بسند فيه مجهول ، و إنما ذكرناه متابعة لما تقدم . وهكذا وقع في روايتنا . فمن زاد واستزاد بالواو لا بأو والله أعلم . وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب معاني الآثار بإسناد حسن إلى أبي سعيد قال : قلت لابن عبّاس أرأيت الذي يقول الدينار بالدينار؟ وذكر الحديث ثم قال : قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس وروى الطحاوي أيضاً عن نصر بن مرزوق بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء أن ابن عباس . نزل عن الصرف وهذا أصرح من رواية مسلم ، وروى الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن إلى عبد الله بن حسين أن رجلاً من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر : إن ابن عباس قال وهو علينا أمير : من أعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثاً إلى أن قال فقيل لابن عباس ما قال ابن عمر قال فاستغفر ربه وقال إنما هو رأي مني وعن أبي هاشم الواسطي وسمه يحيى بن دينار عن زياد قال : كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوماً ذكره ابن عبد البر في الاستذكار وذكر أيضاً عن أبي حرة قال : سال رجل ابن سيرين عن شيء فقال : لا علم لي به . فقال الرجل : أن يكون فيه برأيك . فقال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأياً ثم رجع ، وذكر أيضاً عن ابن سيرين عن الهذيل بالذال المعجمة ابن أخت محمد بن سيرين قال : سألت ابن عباس عن الصرف فرجع عنه فقلت : إن الناس يقولون . فقال : الناس يقولون ما شاءوا اه من تكملة المجموع ، ثم قال : بعد هذا فهذه عدة روايات صحيحة وحسنة من جهة خلق من أصحاب ابن عباس تدل على رجوعه ، وقد روي في رجوعه أيضاً غير ذلك ، وفيما ذكرته غنية إن شاء الله تعالى ، وفي تكملة المجموع أيضاً قبل هذا ما نصه وروى عن أبي الزبير المكي وسمه محمد بن تدرس بفتح التاء ودال ساكنة وراء مضمومة وسين مهملة . قال : سمعت أبا أسيد الساعدي وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين فقال له أبو أسيد الساعدي وأغلظ له قال فقال ابن عباس ما كنت أظن أن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا يا ابا أسيد فقال أبو أسيد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الدينار بالدينار ، وصاع حنطة بصاع حنطة ، وصاع شعير بصاع شعير ، وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بينهما في شيء من ذلك » .
فقال ابن عباس إنما هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم اسمع فيه بشيء رواه الحاكم في المستدرك ، وقال إنه صحيح على شرط مسلم رحمه الله وفي سنده عتيق بن يعقوب الزبيري قال الحاكم : إنه شيخ قرشي من أهل المدينة وأبو أسيد بضم الهمزة .(1/77)
وروينا في معجم الطبراني من حديث أبي صالح ذكوان أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال : هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يداً بيد قال ابو صالح فسألت أبا سعيد بما قال ابن عباس وأخبرت ابن عباس بما قال ابو سعيد والتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري فقال : يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو بزيادة يداً بيد؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان : سمعنا النَّبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني بإسناد حسن وقد قدمنا رجوع ابن عمر وابن مسعود عن ذلك وقد قدمنا الجواب عما روي عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وثبت عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع وهي شهادة على نفي مطلق ، والمثبت مقدم على النافي : لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه النافي ، وقال ابن عبد البر : رجع ابن عباس أو لم يرجع ، في السنة كفاية عن قول كل واحد ، ومن خالفها رد إليها ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردوا الجهالات إلى السنة اه وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار ، ما نصه وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يداً بيد كما تقدم ، فليس ذلك مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقة ، ولو كان مرفوعاً ، لما رجع ابن عباس واستغفر ، لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم ، وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل ، وقال حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ ، وروى عنه الحازمي أيضاً أنه قال كان ذلك برأيي . وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب . لأنها أخص منه مطلقاً اه منه بلفظه ، وقد ذكر غير واحد أن الإجماع انقعد بعد هذا الخلاف على منع ربا الفضل .
قال : في تكملة المجموع ما نصه : الفصل الثالث في بيان انقراض الخلاف في ذلك ودعوى الإجماع فيه ، قال ابن المنذر : أجمع علماء الأمصار مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق ، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام ، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر : والشافعي وأصحابه ، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد بن علي ، أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ، ولا فضة بفضة ، ولا بر ببر ، ولا شعير بشعير ، ولا تمر بتمر ، ولا ملح بملح ، متفاضلاً يداً بيد ، ولا نسيئة ، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ اه محل الغرض منه بلفظه .
ونقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة قال : وهذا يدل على نسخه ، وقد استدل ابن عبد البر على صحة تأويله لحديث أسامة بإجماع الناس ، ما عدا ابن عباس عليه اه ، وعلى فرض أن ابن عباس لم يرجع عن ذلك ، فهل ينعقد الإجماع مع مخالفته؟ فيه خلاف معروف في الأصول ، هل يلغى الواحد والاثنان أو لا بد من اتفاق كل وهو المشهور ، وهل إذا مات وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعاً وهو الظاهر ، أو لا يكون إجماعاً . لأن المخالف الميت لا يسقط قوله بموته ، خلاف معروف في الأصول أيضاً .
وإذا عرفت أن من قال بإباحة ربا الفضل رجع عنها ، وعلمت أن الأحاديث الصحيحة ، المتفق عليها مصرحة بكثرة بمنعه ، علمت أن الحق الذي لا شك فيه تحريم ربا الفضل ، بين كل جنس واحد من الستة مع نفسه ، وجواز الفضل بين الجنسين المختلفين يداً بيد ، ومنع النساء بين الذهب والفضة مطلقاً ، وبين التمر والبر ، والشعير والملح مطلقاً ، ولا يمنع طعام بنقد نسيئة كالعكس ، وحكى بعض العلماء على ذلك الإجماع ، ويبقى غير هذه الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث . فجماهير العلماء على أن الربا لا يختص بالستة المذكورة .
والتحقيق أن علة الربا في النقدين كونهما جوهرين نفيسين . هما ثمن الأشياء غالباً في جميع أقطار الدنيا ، وهو قول مالك والشافعي ، والعلة فيهما قاصرة عليهما عندهما ، وأشهر الروايات عن أحمد أن العلة فيهما كون كل منهما موزون جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأما البر والشعير والتمر والملح فعلة الربا فيها عند مالك الاقتيات والادخار ، وقيل وغلبة العيش فلا يمنع ربا الفضل عند مالك وعامة أصحابه إلا في الذهب بالذهب والفضة بالفضة والطعام المقتات المدخر بالطعام المقتات المدخر ، وقيل يشترط مع الاقتيات والادخار غلبة العيش ، وإنما جعل مالك العلة ما ذكر . لأنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين وهما :
رباء نسا في النقد حرم ومثله ... جعام ، وإن جنساهما قد تعددا
وخص ربا فضل بنقد ومثله ... طعام الربا ، إن جنس كل توحدا
وقد كنت حررت على مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة في نظم لي طويل في فروع مالك بقولي :
وكل ما يذاق من طعام ... ربا النسا فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ... ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن يكن يطعم للدواء ... مجرداً فامنع ذو انتفاء
ولربا الفضل شروط يحرم ... بها ، وبانعدامها ينعدم
هي اتحاد الجنس فيما ذكرا ... مع اقتياته وأن يدخرا
وما لحد الادخار مده ... والتادلى بستة قد حده
والخلف في اشتراط كونه اتخذ ... للعيش عرفاً ، وبالإسقاط اخذ
تظهر فائدته في أربع ... غلبة العيش بها لم تقع
والأربع التي حوى ذا البيت ... بيض وتين وجراد زيت
في البيض والزيت والربا قد انحظر ... رعياً لكون شرطها لم يعتبر
وقد رعى اشتراطها في المختصر ... في التين وحده ففيه ما حظر
ورعى خلف في الجراد باد ... لذكره الخلاف في الجراد
وحبة بحبتين تحرم ... إذا الربا قليله محرم
ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض بقولي :
وقول إن البيض ما فيه الربا ... إلى ابن شعبان الإمام نسبا
وأصح الروايات عن الشافعي أن علة الربا في الأربعة الطعم فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات ، والإدام ، والحلاوات ، والفواكه والدوية . واستدل على أن العلة الطعم بما رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « الطعام بالطعام مثلاً بمثل » الحديث . والطعام اسم لكل ما يؤكل قال تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 93 ] الآية وقال تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً } [ عبس : 24-28 ] الآية وقال تعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] والمراد ذبائحهم .
وقالت عائشة رضي الله عنها مكثنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء . وعن أبي ذر رضي الله عنه في حديثه الطويل ، في قصة إسلامه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فمن كان يطعمك؟ » قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى كسرت عكن بطني ، قال : « إنها مباركة إنها طعام طعم » رواه مسلم وقال لبيد :(1/78)
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب ما يمن طعامها
يعني بطعامها الفريسة ، قالوا : والنَّبي صلى الله عليه وسلم علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام ، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته ، كالقطع في السرقة في قوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] الآية قالوا : ولأن الحب ما دام مطعوماً يحرم فيه الربا . فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوماً لم يحرم فيه الربا ، فإذا انعقد الحب وصار مطعوماً حرم فيه الربا ، فدل على أن العلة فيه كونه مطعوماً ، ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية . لأن الله تعالى قال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] ولقول عائشة المتقدم ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر ، ولقول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
والنقاخ الماء البارد ، هذا هو حجة الشافعية في أن علة الربا في الأربعة الطعم فألحقوا بها كل مطعوم للعلة الجامعة بينهما .
قال : مقيده - عفا الله عنه - الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر ، و الله تعالى أعلم . لأن معمراً المذكور لما قال : قد كنت أسمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الطعام بالطعام مثلاً بمثل » قال عقبة : وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير ، وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام ، وعقده في مراقي السعود بقوله : في مبحث المخصص المنفصل عاطفاً على ما يخصص العموم :
والعرف حيث قارن الخطابا ... ودع ضمير البعض والأسبابا
وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الربا في الأربعة كونها مكيلة جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه يحرم الربا في كل مكيل ، ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان . واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عبادة وأنس بن مالك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعاً واحداً وما كيل فمثل ذلك ، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به » قال العلامة الشوكاني : في نيل الأوطار حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقة أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضاً ، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولاً وغيره من الأحاديث اه منه بلفظه .
واستدلوا أيضاً بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : « أكل تمر خيبر هكذا » قال : إنا لنأخذ الصّاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً ، وقال : في الميزان مثل ذلك ، ووجه الدلالة منه ، أن قوله في الميزان ، يعني في الموزون . لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا ، واستدلوا أيضاً بحديث أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله ، فإن فيه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يداً بيد ، عيناً بعين ، مثلاً بمثل ، فمن زاد فهو رباً » ثم قال : « وكذلك ما يكال أو يوزن أيضاً » وأجيب من جهة المانعين ، بأن حديث الدارقطني لم يثبت ، وكذلك حديث الحاكم ، وقد بينا سابقاً ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور ، وقد ذكرنا آنفاً كلام الشوكاني في أن حديث الدارقطني أخرجه البزار أيضاً وأنه يشهد لصحته حديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث ، وأن الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقال : فيه ابن حجر في التقريب صدوق سيء الحفظ ، وكان عابداً مجاهداً ، ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور ، هو ما أخرجه عنه مسلم والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داود . أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم » اه فإن قوله صلى الله عليه وسلم : « سواء بسواء ، مثلاً بمثل » يدل على الضبط بالكيل والوزن ، وهذا القول أظهرها دليلاً .
وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة الأول : جواب البيهقي قال : وقد قيل : إن قوله وكذلك الميزان من كلام أبي سعيد الخدري موقوف عليه .
الثاني : جواب القاضي أبي الطيب وآخرين ، أن ظاهر الحديث غير مراد : لأن الميزان نفسه لا ربا فيه وأضمرتم فيه الموزون ، ودعوى العموم في المضمرات لا تصح ، الثالث : حمل الموزون على الذهب والفضة جمعاً بين الأدلة والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض . لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر ، وقصد ما يوزن بقوله وكذلك الميزان لا لبس فيه ، وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر والله تعالى أعلم .
وفي علة الربا في الأربعة مذاهب أخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن وافقهم الأول : مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلاً في غير الستة ، ويروى هذا القول عن طاوس ومسروق والشعبي وقتادة وعثمان البني . الثاني : مذهب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم أن العلة فيها كونها منتفعاً بها ، حكاه عنه القاضي حسين . الثالث : مذهب ابن سيرين . وأبي بكر الآودني من الشافعية أن العلة الجنسية . فيحرم الربا في كل شيء بيع بجنسه كالتراب متفاضلاً والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين . الرابع : مذهب الحسن البصري أن العلة المنفعة في الجنس ، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران . الخامس : مذهب سعيد بن جبير أن العلة تقارب المنفعة في الجنس فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير والباقلي بالحمص ، والدخن بالذرة مثلاً . السادس : مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن العلة كونه جنساً تجب فيه الزكاة . فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي ، والزرع وغيرها . السابع : مذهب سعيد بن المسيب وقول الشافعي في القديم : إن العلة كونه مطعوماً يكال أو يوزن ونفاه عما سواه ، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب ، أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن ، كالسفرجل والبطيخ وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملة .
فروع
الفرع الأول : الشك في المماثلة كتحقق المفاضلة ، فهو حرام في كل ما يحرم فيه ربا الفضل . ودليل ذلك : ما أخرجه مسلم والنسائي عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر - لا يعلم كيلها - بالكيل المسمى من التمر .
الفرع الثاني : لا يجوز التراخي في قبض ما يحرم فيه ربا النساء ، ودليل ذلك : ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن أوس رضي الله عنه . قال : أقبلت أقول من يصطرف الدراهم ، فقال طلحة : أرنا الذهب حتى يأتي الخازن ثم تعال فخذ ورقك ، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كلا والذي نفسي بيده لتردن إليه ذهبه ، أو لتنقدنه ورقه ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الذهب بالورق رباً إلا ها وها ، والبر بالبر رباً إلا ها وها ، والشعير بالشعير رباً إلا ها وها ، والتمر بالتمر رباً إلا ها وها » .(1/79)
الفرع الثالث : لا يجوز أن يباع ربوي بربوي كذهب بذهب ، ومع أحدهما شيء آخر . ودليل ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر عن ابن وهب من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « الذهب بالذهب وزناً بوزن » .
وروى مسلم نحوه أيضاً عن أبي بكر بن شيبة وقتيبة بن سعيد من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ونحوه . أخرجه النسائي ، وأبو داود والترمذي وصححه .
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار عند ذكر صاحب المنتقى لحديث فضالة بن عبيد المذكور ما نصه الحديث .
قال في التلخيص : له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جداً في بعضها قلادة فيها خرز وذهب ، وفي بعضها ذهب وجوهر ، وفي بعضها خرز معلقة بذهب ، وفي بعضها باثني عشر ديناراً ، وفي بعضها بتسعة دنانير ، وفي أخرى بسبعة دنانير . وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعاً شهدها فضالة .
قال الحافظ : والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب .
وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقاة فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة ، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود اه منه بلفظه . وقد قدمنا بعض روايات مسلم .
الفرع الرابع : لا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه بأكثر من وزنه ، ودليل ذلك : ما صح عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريم بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، وأن من زاد أو استزاد فقد أربى .
وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن مجاهد أنه قال : كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه ، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي فيه ، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك ، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها .
ثم قال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم .
ثم قال البيهقي : وقد مضى حديث معاوية حيث باع سقاية ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فنهاه أبو الدرداء وما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النهي عن ذلك .
روى البيهقي أيضاً عن أبي رافع أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب إني أصوغ الذهب فأبيعه بوزنه وآخذ لعمالة يدي أجراً قال : لا تبع الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن ولا الفضة بالفضة إلا وزناً بوزن ولا تأخذ فضلاً اه منه .
وما ذكره البيهقي - رحمه الله - أنه ما قدمه من نهي أبي الدرداء وعمر لمعاوية هو قوله أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن وغيرهما قالوا حدثنا أبو العباس الأصم أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي أنا مالك . وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عبد الله يعني القعني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل . فقال معاوية ما أرى بهذا بأساً . فقال له أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك . فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلاً بمثل ووزناً بوزن ، ولم يذكر الربيع عن الشافعي في هذا قدوم أبي الدرداء على عمر وقد ذكره الشافعي في رواية المزني اه منه بلفظه .
ونحو هذا أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه من رواية أبي الأشعث قال : غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى . فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية ، أو قال وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء .
قال حماد هذا أو نحوه اه .
هذا لفظ مسلم في صحيحه وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها ، ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا . وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه . وأجاز مالك بن أنس رحمه الله تعالى للمسافر أن يعطي دار الضرب نقداً وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حلياً قدر وزن النقد بدون الأجرة . لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن غسحاق في مختصره بقوله : بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته .
قال مقيده - عفا الله عنه - الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز . لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد ، وإليه الإشارة بقول صاحب المختصر : والأظهر خلافه يعني : ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة ، كما قرره شراح المختصر .
الفرع الخامس : اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظراً إلى أنها سند ، وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها بالفضة ولو يداً بيد مثلاً بمثل ، ويمنع بيعها بالذهب أيضاً المناجزة . بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شيء من ذلك . نظراً إلى أنها بمثابة عروض التجارة فذهب كثير من المتاخرين إلى أنها كعروض التجارة ، فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب النوازل ، وشرح مختصر خليل ، وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري علماء المالكية .
قال مقيده - عفا الله عنه - الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أنها ليست كعروض التجارة ، وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها . ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك ، وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يداً بيد . لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها . لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلاً . فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد . لأن كلاًّ منهما ليس متمولاً في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه :(1/80)
الأول : أنا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلاً ، وأن حقيقتها سند بفضة ، فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد ، والنصوص صريحة في منعه بين النقدين ، وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم .
وما ورد عن بعض العلماء مما يدل على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد ، فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى : { وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها ، ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلاً ، لما قالوا بالجواز : لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند . ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في الصحيح وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق .
الثاني : أن هناك فرقاً بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديماً وحديثاً إلا في المحقرات فلا يشترى بها شيء له بال بخلاف الأوراق ، فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس .
الثالث : أنا لو فرضنا أن كلاً من الأمرين محتمل فالنَّبي يقول : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ويقول : « فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه » ويقول : « والإثم ما حاك في النفس » الحديث وقال الناظم :
وذو احتياط في أمور الدين ... من فرض شك إلى يقين
وقد قدمنا مراراً أن ما دل على التحريم مقدم على ما دل على الإباحة . لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، ولا سيما تحريم الربا الذي صرح الله تعالى بأن مرتكبه محارب الله . وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه . ومن أنواع الربا ما اختلف العلماء في منعه كما إذا كان البيع ظاهره الحلية ، ولكنه يمكن أن يكون مقصوداً به التوصل إلى الربا الحرام ، عن طريق الصورة المباحة في الظاهر كما لو باع سلعة بثمن إلى أجل ثم اشترى تلك السلعة بعينها بثمن أقل من الأول نقداً ، أو لأقرب من الأجل الأول ، أو بأكثر لأبعد فظاهر العقدين الإباحة . لأنه بيع سلعة بدراهم إلى أجل في كل منهما وهذا لا مانع منه ، ولكنه يجوز أن يكون مقصود المتعاقدين دفع دراهم وأخذ دراهم أكثر منها لأجل أن السلعة الخارجة من اليد العاشدة إليها ملغاة فيؤول الأمر إلى أنه دفع دراهم وأخذ أكثر منها لأجل ، وهو عين الربا الحرام ومثل هذا ممنوع عند مالك ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة والحسن بن صالح ، وروي عن الشعبي والحكم وحماد كما في الاستذكار وأجازه الشافعي .
واستدل المانعون بما رواه البيهقي والدارقطني عن عائشة أنها أنكرت ذلك على زيد بن أرقم ، وقالت : أبلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب .
وقال الشافعي : إن زيد بن أرقم مخالف لعائشة ، وإذا اختلف صحابيان في شيء رجحنا منهما من يوافقه القياس والقياس هنا موافق لزيد . لأنهما عقدان كل منهما صحيح في نفسه .
وقال الشافعي أيضاً : لو كان هذا ثابتاً عن عائشة فإنها إنما عابت التأجيل بالعطاء . لأنه أجل غير معلوم والبيع إليه لا يجوز . واعترضه بعض العلماء بأن الحديث ثابت عن عائشة ، وبأن ابن أبي شيبة ذكر في مصنفه أن أمهات المؤمنين كن يشترين إلى العطاء والله تعالى أعلم . وبأن عائشة لا تدعي بطلان الجهاد بمخالفة رأيها ، وإنما تدعيه بأمر علمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا البيع الذي ذكرنا تحريمه هو المراد عند العلماء ببيع العينة ويسميه المالكية بيوع الآجال ، وقد نظمت ضابطه في نظمي الطويل في فروع مالك بقولي :
بيوع الآجال إذا كان الأجل ... أو ثمن كأخويهما تحل
وإن يك الثمن غير الأول ... وخالف الأجل وقت الأجل
فانظر إلى السابق بالإعطاء هل ... عاد له أكثر أو عاد أقل
فإن يكن أكثر مما دفعه ... فإن ذاك سلف بمنفعة
وإن يكن كشيئه أو قلا ... عن شيئه المدفوع قبل حلا
قوله تعالى : { وَيُرْبِي الصدقات } الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى يربي الصدقات وبين في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر ، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى وهو قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] .
---------------
وقال السعدي (1):
يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 116)(1/81)
ثم قال تعالى: { يمحق الله الربا } أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار { ويربي الصدقات } أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده { والله لا يحب كل كفار } لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله { أثيم } أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته.
لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر { وإن تبتم } عن الربا { فلكم رءوس أموالكم } أي: أنزلوا عليها { لا تظلمون } من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا { ولا تظلمون } بنقص رءوس أموالكم.
{ وإن كان } المدين { ذو عسرة } لا يجد وفاء { فنظرة إلى ميسرة } وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } إما بإسقاطها أو بعضها.
{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل [ ص 118 ] الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك.
---------------------
وقال الرازي (1):
إعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد ، وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال بسبب أمر الله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه ، فكانا متضادين ، ولهذا قال الله تعالى : { يَمْحَقُ الله الرباا وَيُرْبِى الصدقات } فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة ، لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا .
أما قوله { الذين يَأْكُلُونَ الرباا } فالمراد الذين يعاملون به ، وخص الأكل لأنه معظم الأمر ، كما قال : { الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل } [ البقرة : 188 ] وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل ، إنما يصرف في المأكول فيؤكل ، والمراد التصرف فيه ، فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد ، وأيضاً فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم : " لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له " فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل ، وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس ، أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا ، وأما الربا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال : ربا الشيء يربو ومنه قوله { اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] أي زادت ، وأربى الرجل إذا عامل في الربا ، ومنه الحديث " من أجبى فقد أربى " أي عامل بالربا ، والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه ، هذا معنى الربا في اللغة .
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي { الربا } بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء ، وهي في المصاحف مكتوبة بالواو ، وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء ، قال صاحب «الكشاف» : الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع .
المسألة الثالثة : إعلم أن الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل .
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به .
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك .
إذا عرفت هذا فنقول : المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، وكان يجوز بالنقد ، فقال له أبو سعيد الخدري : شهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين : كنا في بيت ومعنا عكرمة ، فقال رجل : يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس ، فقال : إنما كنت استحللت التصرف برأيي ، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه ، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله ، وحجة ابن عباس أن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً ، وقوله { وَحَرَّمَ الرباا } لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة ، وليست كل زيادة محرمة ، بل قوله { وَحَرَّمَ الرباا } إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا . وذلك هو ربا النسيئة ، فكان قوله { وَحَرَّمَ الرباا } مخصوصاً بالنسيئة ، فثبت أن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول ربا النقد ، وقوله { وَحَرَّمَ الرباا } لا يتناوله ، فوجب أن يبقى على الحل ، ولا يمكن أن يقال : إنما يحرمه بالحديث ، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز ، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا؟
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أما القسم الأول فبالقرآن ، وأما ربا النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء : حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة ، بل ثابتة في غيرها ، وقال نفاة القياس : بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه :
الحجة الأولى : أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة ، فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال : لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً ، أو قال : لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً ، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً ، وأكثرر فائدة ، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة ، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 4 / ص 25)(1/82)
الحجة الثانية : أنا بينا في قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع } يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها ، فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد ، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد ، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن ، فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى ، وأنه غير جائز .
الحجة الثالثة : أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص ، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص ، وذلك غير جائز ، أما أولاً : فلأنه يقتضي تعليل حكم الله ، وذلك محال على ما ثبت في الأصول ، وأما ثانياً : فلأن الحكم في مورد النص معلوم ، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز ، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل هي ثابتة في غيرها ، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب .
فالقول الأول : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس ، وفي الذهب والفضة النقدية .
والقول الثاني : قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا ، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن ، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس .
والقول الثالث : قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت ، وهو الملح .
والقول الرابع : وهو قول عبد الملك بن الماجشون : أن كل ما ينتفع به ففيه الربا ، فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا ، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير .
المسألة الرابعة : ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً أحدها : الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة ، قال صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال الإنسان كحرمة دمه » فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد ، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله .
قلنا : إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن ، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها : قال بعضهم : الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة ، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة ، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها : قيل : السبب في تحريم عقد الربا ، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين ، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها : هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالاً زائداً ، وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها : أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق ، فوجب القطع بحرمة عقد الربا ، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه .
أما قوله تعالى : { لاَ يَقُومُونَ } فأكثر المفسرين قالوا : المراد منه القيام يوم القيامة ، وقال بعضهم : المراد منه القيام من القبر ، واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين ، فوجب حمل اللفظ عليهما .
أما قوله تعالى : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التخبط معناه الضرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير للأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش ، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ، ويقال : به خبطة من جنون ، والمس الجنون ، يقال : مس الرجل فهو ممسوس وبه مس ، وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، ثم سمي الجنون مساً ، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ثم فيه سؤالان :
السؤال الأول : التخبط تفعل ، فكيف يكون متعدياً؟ .
الجواب : تفعل بمعنى فعل كثير ، نحو تقسمه بمعنى قسمه ، وتقطعه بمعنى قطعه .
السؤال الثاني : بم تعلق قوله { مِنَ المس } .
قلنا : فيه وجهان أحدهما : بقوله { لاَ يَقُومُونَ } والتقدير : لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني : أنه متعلق بقوله { يقوم } والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس .
المسألة الثانية : قال الجبائي : الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل ، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى حكاية عن الشيطان { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } [ إبراهيم : 22 ] وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني : الشيطان إما أن يقال : إنه كثيف الجسم ، أو يقال : إنه من الأجسام اللطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد ، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها ، وذلك جهالة عظيمة ، ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان ، وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء ، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة ، فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث : لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ، ولم لا يغصب أموالهم ، ويفسد أحوالهم ، ويفشي أسرارهم ، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد ، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول : ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات .(1/83)
والجواب عنه : أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني : أن هذه الآية وهي قوله { يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه .
والجواب عنه : أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع ، وهو كقول أيوب عليه السلام { أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع ، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة ، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين ، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب ، وذكر القفال فيه وجه آخر ، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا ، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين } [ الصافات : 65 ] .
المسألة الثالثة : للمفسرين في الآية أقوال الأول : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا ، فعلى هذا معنى الآية : أنهم يقومون مجانين ، كمن أصابه الشيطان بجنون .
والقول الثاني : قال ابن منبه : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون ، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا ، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ، ويسقطون ، ويريدون الإسراع ، ولا يقدرون ، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن ، وهذا ليس من الجنون في شيء ، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : { الذين يَأْكُلُونَ الرباا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } .
والقول الثالث : أنه مأخوذ من قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مس الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى ، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى ، فحدثت هناك حركات مضطربة ، وأفعال مختلفة ، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى ، فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة ، وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا .
أما قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة ، وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال ، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال ، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين ، فهذا في ربا النقد ، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً ، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر ، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين ، وذلك لأنه إنما جاز هناك ، لأنه حصل التراضي من الجانبين ، فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً ، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة ، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة ، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة ، والمديون يرده عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة ، فهذا هو شبهة القوم ، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد ، وهو قوله { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس ، وهو من عمل إبليس ، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم عارض النص بالقياس ، فقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] [ ص : 76 ] واعلم أن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف ، فقالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة ، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس ، وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض ، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل ، لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة ، فظهر الفرق بين الصورتين .
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه ، وأكله مع التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر .
فإن قيل : مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا .
قلنا : إن قوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط ، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية ، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل ، وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل ، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته ، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال ، يقال : فلان يأكل مال الله قضماً خصماً ، أي يستحل التصرف فيه ، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال ، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها ، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية ، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا ، لا على وعيد من يستحل هذا العقد .
المسألة الثالثة : في الآية سؤال ، وهو أنه لم لم يقل : إنما الربا مثل البيع ، وذلك لأن حل البيع متفق عليه ، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، فكان نظم الآية أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية ، فقال : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } .(1/84)
والجواب : أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز .
أما قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار ، والمعنى أنهم قالوا : البيع مثل الربا ، ثم إنكم تقولون { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } فكيف يعقل هذا؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين ، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله { أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد ، وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } وأما قوله { أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا ، والحجة على صحة هذا القول وجوه :
الحجة الأولى : أن قول من قال : هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل ، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار ، فكان ذلك أولى .
الحجة الثانية : أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار ، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به ، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية .
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا } فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ، ولو لم يكن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } لائقاً بهذا الموضع .
المسألة الثانية : مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، وهذا هو المختار عندي ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة ، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة .
والوجه الثاني : وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق ، فثبت أن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ، ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال ، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب ، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز .
الوجه الثالث : ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا ، ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات .
الوجه الرابع : أن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله { وَحَرَّمَ الرباا } يقتضي أن يكون كل ربا حراماً ، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرم الجميع ، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية ، فكانت مجملة ، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم .
أما قوله { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ ، وقرأ أبي والحسن { فَمَنْ جَاءتْهُ مَّوْعِظَةٌ } ثم قال : { فانتهى } أي فامتنع ، ثم قال : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في التأويل وجهان الأول : قال الزجاج : أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية ، وهو كقوله { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً ، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب ، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني : قال السدي : له ما سلف أي له ما أكل من الربا ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله { وإِن تبتم فلكم رؤوؤس أموالكم } [ البقرة : 279 ] .
المسألة الثانية : قال الواحدي : السلف المتقدم ، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ، ومنه الأمة السالفة ، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو ، والسلفة ما يقدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر صفوتها ، لأنه أول ما يخرج من عصيرها .
أما قوله تعالى : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } ففيه وجوه للمفسرين ، إلا أن الذي أقوله : إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها .
أما مقدمة الآية فلأن قوله { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فانتهى } ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق ، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، فكان قوله { فانتهى } عائداً إليه ، فكان المعنى : فانتهى عن هذا القول .
وأما مؤخرة الآية فقوله { وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } ومعناه : عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا { فأمره إِلَى الله } ثم هذا الإنسان إما أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا ، أو ليس كذلك ، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله ، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام ، لكن قوله { فأمره إِلَى الله } ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو .
أما قوله { وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } فالمعنى : ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً .(1/85)
واعلم أن قوله { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله { أُوْلَئِكَ أصحاب النار } يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله { هُمْ فِيهَا خالدون } يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار ، وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه ، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع ، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ، ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل يخرجه منها ، والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله { فأمره إِلَى الله } على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه .
ثم قوله { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان ، وهذا بيان شريف وتفسير حسن .
إعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده ، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال ، إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة ، إلا أنها زيادة في المعنى ، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف ، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه الله فانمحق وامتحق ، ويقال : هجير ماحق إذا نقص في كل شيء بحرارته .
المسألة الثانية : إعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة ، أما في الدنيا فنقول : محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أنه تؤول عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عن ماله ، قال صلى الله عليه وسلم : « الربا وإن كثر فإلى قُلّ » وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم ، والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها : أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه ، وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها : أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إليه الأطماع ، وقصده كل ظالم ومارق وطماع ، ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده ، وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صلة رحم وثانيها : إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى التبعة والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها : أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك ، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون ، فذلك هو المحق والنقصان .
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا ، وأن يكون المراد في الآخرة .
أما في الدنيا فمن وجوه أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا ، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم
« اللّهم يسر لكل منفق خلفاً ولممسك تلفاً » وثانيها : أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها : الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء ، فكل أحد يحترز عن منازعته ، وكل ظالم ، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله ، اللّهم إلا نادراً ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا .
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد » وتصديق ذلك بين في كتاب الله { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] { يَمْحَقُ الله الرباا وَيُرْبِى الصدقات } [ البقرة : 276 ] قال القفال رحمه الله تعالى : ونظير قوله { يَمْحَقُ الله الرباا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ، ونظير قوله { وَيُرْبِى الصدقات } المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .
أما قوله { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ، ومعناه من كان ذلك منه عادة ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا ، فتقول : فلان فعال للخير أمار به ، والأثيم فعيل بمعنى فاعل ، وهو الآثم ، وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل ، والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم ، فتكون الآية جامعة للفريقين .
إعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً ، فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد ، وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة } مع أنه لا نزاع في أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت { وَعَمِلُواْ الصالحات } فكذا فيما ذكرتم ، وأيضاً قال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ محمد : 34 ] وقال : { الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا } [ البقرة : 239 ] .
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر ، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل .
المسألة الثانية : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أقوى من قوله : على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد ، فذاك النقد هناك حاضر ، متى شاء البائع أخذه ، وقوله : أجرهم على ربهم . يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ، ولا شك أن الأول أفضل .(1/86)
المسألة الثالثة : اختلفوا في قوله { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فقال ابن عباس : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة ، وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة ، وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ، ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء ، لأنه لا منافسة في الآخرة ، ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة .
المسألة الرابعة : في قوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ، ثم عند انقطاع حيضها ماتت ، أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات ، فهما بالاتفاق من أهل الثواب ، فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال ، وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال ، وإذا كان كذلك ، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ .
الجواب : أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا ، بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب ، كما قال في ضد هذا { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ومعلوم أن من ادعى مع الله إلها آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ، ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلها لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : إعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم ، فقال تعالى في هذه الآية { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا } وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض ، فالزيادة تحرم ، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم ، وإنما شدد تعالى في ذلك ، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم ، فقال : { اتقوا الله } واتقاؤه ما نهى عنه { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا } يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه ، أو لم تقبضوا بعضه ، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان ، أو بعضاً ، فإنه محرم قبضه .
وإعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا ، وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ، ولا يفسخ ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب ، وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى ، هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه .
فإن قيل : كيف قال : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا } ثم قال في آخره { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
الجواب : من وجوه الأول : أن هذا مثل ما يقال : إن كنت أخاً فأكرمني ، معناه : إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني : قيل : معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث : إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع : يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
المسألة الثانية : في سبب نزول الآية روايات :
الرواية الأولى : أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة .
والرواية الثانية : قال مقاتل : إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف : مسعود ، وعبد يا ليل ، وحبيب ، وربيعة ، بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم الأخوة ، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
والرواية الثالثة : نزلت في العباس ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قبضا بعضاً ، وزاد في الباقي فنزلت الآية ، وهذا قول عطاء وعكرمة .
الرواية الرابعة : نزلت في العباس وخالد بن الوليد ، وكانا يسلفان في الربا ، وهو قول السدي .
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر .
والجواب : لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل .
ثم قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة { فَآذَنُواْ } مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال { فَآمِنُواْ } والباقون { فأذَنُواْ } بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك { فَآذَنُواْ } ممدودة ، أي فاعلموا من قوله تعالى : { فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ على سَوَاء } [ الأنبياء : 109 ] ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية ، والتقدير : فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم ، فهذه القراءة في البلاغة آكد ، وقال أحمد بن يحيى : قراءة العامة من الاذن ، أي كونوا على علم وإذن ، وقرأ الحسن { فأيقنوا } وهو دليل لقراءة العامة .(1/87)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الخطاب بقوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله } خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا ، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا ، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا ، قال القاضي : والاحتمال الأول أولى ، لأن قوله { فَأْذَنُواْ } خطاب مع قوم تقدم ذكرهم ، وهم المخاطبون بقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا } وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين .
فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل ، كما جاء في الخبر « من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله » وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله .
إذا عرفت هذا فنقول : في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول : المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني : المراد نفس الحرب وفيه تفصيل ، فنقول : الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة ، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة ، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه .
والقول الثاني : في هذه الآية أن قوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ } [ البقرة : 279 ] خطاب للكفار ، وأن معنى الآية { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] معترفين بتحريم الربا { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } ومن ذهب إلى هذا القول قال : إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً ، كما لو كفر بجميع شرائعه .
ثم قال تعالى : { وَإِن تُبتُمْ } والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا ، وعلى القول الثاني من استحلال الربا { فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال .
ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال النحويون { كَانَ } كلمة تستعمل على وجوه أحدها : أن تكون بمنزلة حدث ووقع ، وذلك في قوله : قد كان الأمر ، أي وجد ، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني : أن يخلع منه معنى الحدث ، فتبقى الكلمة مجردة للزمان ، وحينئذ يحتاج إلى الخبر ، وذلك كقوله : كان زيد ذاهباً .
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم ، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء ، أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت : إنكم تقولون إن { كَانَ } إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال ، لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان ، فقولك { كَانَ } يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك ، فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد ، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها : أن يكون المعنى : وجد وحدث الشيء كقولك : وجد الجوهر وحدث العرض والثاني : أن يكون المعنى : وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم ، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة ، وفي الحقيقة فالمفهوم من { كَانَ } في الموضعين هو الحدوث والوقوع ، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه ، فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً ، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث ، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي ، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا : إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر ، وجميع خواص الأفعال ، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية .
المفهوم الثالث : لكان يكون بمعنى صار ، وأنشدوا :
بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه ، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع ، إلا أنه حدوث مخصوص ، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .
المفهوم الرابع : أن تكون زائدة وأنشدوا :
سراة بني أبي بكر تسامى ... على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول : في { كَانَ } في هذه الآية وجهان الأول : أنها بمعنى وقع وحدث ، والمعنى : وإن وجد ذو عسرة ، ونظيره قوله { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً } بالرفع على معنى : وإن وقعت تجارة حاضرة ، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل : وإن كان ذا عسرة لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة ، فتكون النظرة مقصورة عليه ، وليس الأمر كذلك ، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني : أنها ناقصة على حذف الخبر ، تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم ، وقرأ عثمان { ذَا عُسْرَةٍ } والتقدير : إن كان الغريم ذا عسرة ، وقريء ( وَمَن كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ) .
/المسألة الثانية : العسرة اسم من الأعسار ، وهو تعذر الموجود من المال؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .
ثم قال تعالى : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف ، والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة ، أو فالذي تعاملونه نظرة .
المسألة الثانية : نظرة أي تأخير ، والنظرة الاسم من الإنظار ، وهو الإمهال ، تقول : بعته الشيء بنظرة وبانظار ، قال تعالى : { قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 36 ، 37 ، 38 ] .
المسألة الثالثة : قرىء { فَنَظِرَةٌ } بسكون الظاء ، وقرأ عطاء ( فناظره ) أي فصاحب الحق أي منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريق النسب ، كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل ، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة .(1/88)
المسألة الرابعة : الميسرة مفعلة من اليسر واليسار ، الذي هو ضد الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ، ومنه يقال : أيسر الرجل فهو موسر ، أي صار إلى اليسر ، فالميسرة واليسر والميسور الغنى .
المسألة الخامسة : قرأ نافع { إلى مَيْسَرَةٍ } بضم السين والباقون بفتحها ، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة ، والمشرفة ، والمشربة ، والمسربة ، والفتح أشهر اللغتين ، لأنه جاء في كلامهم كثيراً .
المسألة السادسة : اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل ، فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
القول الثاني : وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين : إنها عامة في كل دين ، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } ولم يقل : وإن كان ذا عسرة ، ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين ، قال القاضي : والقول الأول أرجح ، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } من غير بخس ولا نقص ، ثم قال في هذه الآية : وإن كان من عليه المال معسراً وجب إنظاره إلى وقت القدرة ، لأن النظرة يراد بها التأخر ، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر ، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى ، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم .
المسألة السابعة : اعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار ، فنقول : الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه ، فلهذا قلنا : من وحد داراً وثياباً لا يعد في ذوي العسرة ، إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم ، واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره ، فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله ، وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضاً إذا كان معسراً ، وقد بذل غيره ما يؤديه ، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك ، فأما من له بضاعة كسدت عليه ، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ، ويؤديه في الدين .
المسألة الثامنة : إذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار ، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار ، واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم ، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض ، أو لا يكون كذلك ، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض ، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان ، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر .
ثم قال تعالى : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم { تَصَدَّقُواْ } بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها ، والأصل فيه : أن تتصدقوا بتاءين ، فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى .
المسألة الثانية : في التصدق قولان الأول : معناه : وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره ، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به ، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما ، وهو كقوله { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] والثاني : أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام « لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة » وهذا القول ضعيف ، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ، ولأن قوله { خَيْرٌ لَّكُمْ } لا يليق بالواجب بل بالمندوب .
المسألة الثالثة : المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة .
ثم قال : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } وفيه وجوه الأول : معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه ، فجعل العمل من لوازم العلم ، وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث : إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم .
-------------------
وفي الظلال(1) :
إنها الحملة المفزعة , والتصوير المرعب:
(لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) . .
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة . . صورة الممسوسالمصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس , لاستجاشة مشاعر المرابين , وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ; ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة , هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي . وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ; وتصورات أهل الجاهلية عنها . .
إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان:ربا النسيئة . وربا الفضل .
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة:" إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى , فإذا حل الأجل , ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه " .
وقال مجاهد " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين , فيقول:لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه " .
وقال أبو بكر الجصاص:" إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة . فكانت الزيادة بدلا من الأجل . فأبطله الله تعالى " . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 46)(1/89)
وقال الإمام الرازي في تفسيره:" إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية . لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل , على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا , ورأس المال باق بحاله . فإذا حل طالبه برأس ماله . فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل " .
وقد ورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا ربا إلا في النسيئة " . .
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة . كبيع الذهب بالذهب . والدراهم بالدراهم . والقمح بالقمح . والشعير بالشعير . . وهكذا . . وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ; ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا . . وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة !
عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح . . مثلا بمثل . . يدا بيد . . فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " . .
وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال:جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا ? " قال:كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع . فقال:" أوه ! عين الربا . عين الربا . لا تفعل . ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر , ثم اشتر به " .
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان , إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية . وهي:الزيادة على أصل المال . والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة . وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد . أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا . .
وأما النوع الثاني , فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة . وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد . . ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية , إذ يلد التمر التمر ! فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا . ونهى عنه . وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد . ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا . إبعادا لشبح الربا من العملية تماما !
وكذلك شرط القبض:"يدا بيد" . . كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل , ولو من غير زيادة , فيه شبح من الربا , وعنصر من عناصره !
إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم بشبح الربا في أية عملية . وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة , وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية . وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام ! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية !
ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية . . فالإسلام ليس نظام شكليات . إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل . فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة . إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ; ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته . وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا !
ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة . ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية , أو تتسم بسمة العقلية الربوية . . وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة . وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث . شعور الحصول على الربح بأية وسيلة !
فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا . ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي .
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) . .
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال:لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله , وشاهديه وكاتبه , وقال:" هم سواء " . .
وكان هذا في العمليات الربوية الفردية . فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون . معرضون لحرب الله . مطرودون من رحمته بلا جدال .
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة . . وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية , فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا . .
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ; والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه , وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية , والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . . ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة , وحرب الأعصاب , والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !
إنها الشقوة البائسة المنكودة , التي لا تزيلها الحضارة المادية , ولا الرخاء المادي , ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ?
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا , وفي السويد , وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي "التقاليع" الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ?
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . من الاطمئنان إلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله , وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .(1/90)
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين , القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف , يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ; ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بهاالجميع ; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ; والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين , وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !
وصدق الله العظيم: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) . . وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم !
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الربا . اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية:
(ذلك بأنهم قالوا:إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا) . .
وكانت الشبهة التي ركنوا إليها , هي أن البيع يحقق فائدة وربحا , كما أن الربا يحقق فائدة وربحا . . وهي شبهة واهية . فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة . والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة . أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة . وهذا هو الفارق الرئيسي . وهذا هو مناط التحريم والتحليل . .
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده . . ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة !
(وأحل الله البيع وحرم الربا) . . .
لانتفاء هذا العنصر من البيع ; ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية ; وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية . .
وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ; دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية:
(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله) . .
لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه . فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله , يحكم فيه بما يراه . . وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ; فيظل يتوجس من الأمر ; حتى يقول لنفسه:كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء , ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت . فلا أضف إليه جديدا بعد ! . . وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد .
(ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . .
وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه , ويعمقه في القلوب ;
ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد , وجهل الموعد , فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا , ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ; ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين:
(يمحق الله الربا , ويربي الصدقات , والله لا يحب كل كفار أثيم) . .
وصدق وعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة , ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ; وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ; كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة , والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه , والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم , وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية , هم الذين لا يريدون أن يروا , لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ; فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
(والله لا يحب كل كفار أثيم) . .
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين , الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم , ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة:لا إله إلا الله . محمد رسول الله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ; إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ; وإنكار جزء منه كإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ; وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله .
وفي الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم , والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه , يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح , وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب , وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر - نظام الزكاة - المقابل لنظام الربا:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . .
والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر "الزكاة " . عنصر البذل بلا عوض ولا رد . والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن . ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن .
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن ; الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته .
وقد بهتت صورة "الزكاة " في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع ; ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية , فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة , ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية . ويجعل "الزكاة " قاعدة هذا النظام , في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية . ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي , أو التعاون البريء من الربا !(1/91)
بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية . إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي , القائم على الأساس الربوي . وشهدت الكزازة والشح , والتكالب والتطاحن , والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس . فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة ! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات , ما لم يكن لهم رصيد من المال ; أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية ! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به , ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية ! فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام ; وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس !
بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحسانا فرديا هزيلا , لا ينهض على أساسه نظام عصري ! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة , وهي تتناول اثنين ونصفا في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها ? يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة , ويربيهم تربية خاصة , بالتوجيهات والتشريعات , وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه ! وتحصلها الدولة المسلمة , حقا مفروضا , لا إحسانا فرديا . وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة ; حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة ; وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان دينا تجاريا أو غير تجاري , من حصيلة الزكاة .
وليس المهم هو شكلية النظام . إنما المهم هو روحه . فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه , متناسق مع شكل النظام وإجراءاته , متكامل مع التشريعات والتوجيهات , ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة . وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى . ولكنها حقيقة نعرفها نحن - أهل الإسلام - ونتذوقها بذوقنا الإيماني . فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم - وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها - فليكن هذا نصيبهم ! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به: الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة . . ليحرموا من الطمأنينة والرضى , فوق حرمانهم من الأجر والثواب . فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون !
إن الله - سبحانه - يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون , أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده . ويعدهم بالأمن فلا يخافون . وبالسعادة فلا يحزنون:
(لهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . .
في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق , وبالتخبط والضلال , وبالقلق والخوف .
وشهدت البشرية ذلك واقعا في المجتمع المسلم ; وتشهد اليوم هذا واقعا كذلك في المجتمع الربوي ! ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزا عنيفا حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة ; ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع . . لوكنا نملك لفعلنا . . ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة ; لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها . . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . والهدى هدى الله . .
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة , التي تنبذ الربا من حياتها , فتنبذ الكفر والإثم , وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة . . في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت ; وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله , بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله , وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله . وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) . .
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا . فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا . ليسوا بمؤمنين ولو اعلنوا أنهم مؤمنون . فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به . والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر . ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان , بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله , ولا ينفذه في حياته , ولا يحكمه في معاملاته . فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين . مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون !
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . إن كنتم مؤمنين) . .
لقد ترك لهم ما سلف من الربا - لم يقرر استرداده منهم , ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها . . إذ لا تحريم بغير نص . . ولا حكم بغير تشريع . . والتشريع ينفذ وينشىء آثاره بعد صدوره . . فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون . وبذلك تجنب الإسلام أحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا . وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا ! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية , ويسيرها , ويطهرها , ويطلقها تنمو وترتفع معا . . وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به . واستجاش في قلوبهم - مع هذا - شعور التقوى لله . وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه , ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس , فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته . فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية ! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية , حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان .
فهذه صفحة الترغيب . . وإلى جوارها صفحة الترهيب . . الترهيب الذي يزلزل القلوب:
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) . .
يا للهول ! حرب من الله ورسوله . . حرب تواجهها النفس البشرية . . حرب رهيبة معروفة المصير , مقررة العاقبة . . فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة ?!
ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي . وقد أمر صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية - وأوله ربا عمه العباس - عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة , حتى نضج المجتمع المسلم , واستقرت قواعده , وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة . وقال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة:
"وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين . وأول ربا أضع ربا العباس " . . ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية .
فالإمام مكلف - حين يقوم المجتمع الإسلامي - أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي , ويعتون عن أمر الله , ولو اعلنوا أنهم مسلمون . كما حارب أبو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة , مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وإقامتهم للصلاة . فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله , ولا ينفذها في واقع الحياة !(1/92)
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام . فهذه الحرب معلنة - كما قال أصدق القائلين - على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي . هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة . وهي حرب على الأعصاب والقلوب . وحرب على البركة والرخاء . وحرب على السعادة والطمأنينة . . حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض . حرب المطاردة والمشاكسة . حرب الغبن والظلم . حرب القلق والخوف . . وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول . الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت . فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر . وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات . ثم تقع فيها الشعوب والحكومات . ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب ! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب ! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم , فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين , فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب ! وأيسر ما يقع - إن لم يقع هذا كله - هو خراب النفوس , وانهيار الأخلاق , وانطلاق سعار الشهوات , وتحطم الكيان البشري من أساسه , وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة !
إنها الحرب المشبوبة دائما . وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن ; تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ; وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ; ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية , ويسحقها سحقا ; في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين , لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون !
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى , ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف , وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء:
(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون) . .
فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان , ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشىء آثارها في الحياة البشرية كلها , وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين , إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي !
واسترداد رأس المال مجردا , عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه , ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب , وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر , وتجنب المورد العفن النتن الآسن !
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار . . فليس السبيل هو ربا النسيئة:بالتأجيل مقابل الزيادة . . ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة . والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم . . إن كنتم تعلمون) . .
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية . إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار . إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع !
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما "معقولا" في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة ! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد ! - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان , فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء ; فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش . فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها . تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة ! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية . فكلهم سواء . غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة ; ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية , والمؤلفات العلمية , والأساتذة والمعاهد والجامعات , والتشريعات والقوانين , والشرطة والمحاكم والجيوش . . كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها , وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون . . !!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب . . ولكنا نعرف أنها الحق . ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) .)
إن المعسر - في الإسلام - لا يطارد من صاحب الدين , أو من القانون والمحاكم . إنما ينظر حتى يوسر . . ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين . فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه - إن تطوع بهذا الخير . وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين . وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة . لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر !
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين , ويضيق عليه الخناق . وهو معسر لا يملك السداد . فهنا كان الأمر - في صورة شرط وجواب - بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء . وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار .
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة , ليؤدي دينه , وييسر حياته: إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . . والغارمين . . . وهم أصحاب الديون . الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم . إنما أنفقوها في الطيب النظيف . ثم قعدت بهم الظروف !
-----------------
وفي التفسير الوسيط (1):
قوله - تعالى - : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . } استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا ، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها .
ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد ، لأن الصدقة - كما يقول الفخر الرازي - عبارة عن تنقيص المال - في الظاهر - بسبب أمرالله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 510)(1/93)
والأكل في الحقيقة : ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا . وعبر عن التعامل بالربا بالأكل ، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل .
والربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . . } أي : زادت .
وهو في الشرع : - كما قال الآلوسي - عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .
وقوله : { يَتَخَبَّطُهُ } : من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق . يقال : خبطته أخبطه أي ضربته ضرباً متوالبياً على أنحاء مختلفة . ويقالِ : تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء . قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
رأيت المناي خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطى يعمر فيهرم
والمس : الخبل والجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون . وأصل المس اللمس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الإِنسان فيجنه .
والمعنى : { الذين يَأْكُلُونَ } أي يتعاملون به أخذا وإعطاء { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة للقاء الله إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك لأنه قياماً منكراً مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه .
فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة ، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا .
وهنا نحب أن نوضح أمرين :
أما الأمر الأول : فهو أن جمهو المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك .
قال الآلوسي : وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا فمن أكل الربا فبعثيوم القيامة مجنوناً يتخبط " ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله - تعالى - جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له .
. . ثم قال . وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " .
والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا في قلق مستمر ، وانزعاج دائم ، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم . . . ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم . أما في الآخرة فقد توعدهم الله - تعالى - بالعقاب الشديد ، والعذاب الأليم .
وقد رجح الإِمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً . . . وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجاباً بينه وبين الله - تعالى - ، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدينا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره " .
وأما الأمر الثاني : فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضاً أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة ، بمعنى أن الآية تشبه حال بحال المجنون الذي مسه الشيطان ، لأن الشسيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون .
ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك ، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك ، فقد قال الزمخشري في تفسيره : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإِنسان فيصرع . المس والجنون ، ورجل ممسوس - أي مجنون - وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجني يممسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " .
ومن العلماء الذين تصدون للرد على الزمخشري ومن تابعه الإِمام القرطبي فقد قال : " وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من إنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإِنسان ولا يكون منه مس . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً " .
وقال الشيخ أحمد بن المنير : ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب ، أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك . وهذا القول من تخبط - الشيسطان بالقدرية - أي المعتزلة - في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع ، ثم قال : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها ، والقدرية ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . . من ذلك السحر ، وخبطة الشيطان ، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم ، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق ، لأن الشيطان قد يمس الإِنسان فيصيبه بالجنون ، ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه .
وقوله : { مِنَ المس } متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما المصروع من جنونه .
وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا ، ورد عليه بما يهدمه .
واسم الإِشارة " ذلك " سيعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم . والمعنى : ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا ، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط ، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " هلا قيل إنما الربا لا في البيع ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشتري الرجل الشيء الذي لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شهبوا به البيع " .
وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } جملة مستأنفة ، وهي رد من الله - تعالى - عليهم ، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع .(1/94)
قال الآلوسي : وحاصل هذا الرد من الله - تعالى - عليهم : أن ما ذكرتم - " من أن الربا مثل البيع - قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان ، على أن بين البابين فرقاً ، وهو أن من باع ثوباً يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب . وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض ، ولا يمكن جعل الإِمهال عوضا إذا الإِمهال ليس بمال في مقابلة المال " .
وقوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } . .
تفريع على الوعيد السابق في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا . . . } إلخ .
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، والموعظة : ما يعظ الله - تعالى - به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره .
أي : فمن بلغه نهي الله - تعالى - عن الربا ، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه ، { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم يقبضه . . لأن الله - تعالى - يقول بعد ذلك { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ . . } .
وقوله : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي أمر هذا المرابي الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده ، أمره مفوض إلى الله - تعالى - فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه .
قال ابن كثير : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } . . إلخ أي ما بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي خاتين وأول ربا أضع ربا عمي العباس " ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال - تعالى - : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي ففله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم .
و " من " في قوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } شرطية وهو الظاهر ، ويحتمل أن تكون موصولة وعلى التقديريرن فهي في محل رفع بالابتداء ، وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الجزاء أو الخبر ، و ( موعظة ) فاعل جاء ، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر .
وقوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } جار ومجرور متعلق بجاءه ، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة .
وفي قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } تفخيم لشأن الموعظة ، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله - تعالى - المربى لعباده .
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده ، لأنه - سبحانه - لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهي ، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل ، إذ الإِسلام يجب ما قبله . فما أكله المرابي قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له ، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم ، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا .
ولقد توعد الله - تعالى - من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله - تعالى - فقال { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
أي ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن هى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها ، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه .
وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها : التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله ، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير ، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة ، وبكلمة { خَالِدُونَ } التي تدل على طول المكث .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المرابين ، وحسن عاقبة المتصدقين فقال : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } .
والمحق : النقصان والإِزالة للشيء حالا بعد حال ، ومنه محاق القمر ، أي انتقاصه في الرؤية شيئاً فشيئاً حتى لا يرى ، فكأنه زال وذهب ولم يبق منه شيء .
أي : أن المال الذي يدخله الربا يمحقه الله ، ويذهب بركته ، أما المال الذي يبذل منه صاحبه في سبيل الله فإنه - سبحانه - يباركه وينميه ويزيده لصاحبه .
قال الإِمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : اعلم أنه لما كان الداعي إلى التعامل بالربا تحصيل المزيد من الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان المال ، لما كان الأمر كذلك بين - سبحانه - أن الربا ، وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ، واللائق بالعقال أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس والدواعي والصوارف ، بل يعول على ما أمر به الشرع .
ثم قال : واعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة . أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :
أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عنه ، ففي الحديث : الربا وإن كثر فإلى قل .
وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة .
وثالثها : إن الفقراء يلعنونه ويبغضونه بسبب أخذه لأموالهم . . .
ورابعها : أن الأطماع تتوجه إليه من كل ظالم وطماع بسبب اشتهاره أنه قد جمع ماله من الربا ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده .
وأما أن الربا مسبب للمحق في الآخرة فلوجوه منها أن الله - تعالى - لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا صلة رحم - كما قال ابن عباس - ، ومنها أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت بل الباقي هو العقاب وذلك هو الخسران الأكبر .
وأما إرباء الصدقات في الدنيا فمن وجوه : منها : أن من كان لله كان الله له ، ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه وزاده من فضله ، ومنها أن يزداد كل يوم في ذكره الجميل وميل القلوب إليه ، ومنها أن الفقراء يدعون له بالدعوات الصالحة وتنقطع عنه الأطماع .
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله - تعالى - يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره ، أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " .
ففي هذه الجملة الكريمة بشارة عظيمة للمتصدقين ، وتهديد شديد للمرابين ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .
و { كَفَّارٍ } فعيل بمعنى فاعل فهي صيغة مبالغة من آثم ، والأثيم هو المكثر من ارتكاب الآثام المبطئ عن فعل الخيرات .
أي : أن الله - تعالى - لا يرضى عن كل من كأن شأنه الستر لنعمه والجحود لها ، والتمادي في ارتكاب المنكرات ، والابتعاد عن فعل الخيرات .
وقد جمع - سبحانه - بين الوصفين للإِشارة إلى أن الإِيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه وهم كفار إن استحلوه ، وهم في الحالتين آثمون معاقبون ، يعيدون عن محبة الله ورضاه . وسيعاقب - سبحانه - الناقصين في إيمانهم ، والكافرين به بما يستحقون من عقوبات .
فالجملة الكريمة لمن استحلوا الربا ، أو فعلوه مع عدم استحلالهم له .(1/95)
وبعد هذا التهديد الشديد للمتعاملين بالربا ، ساق - سبحانه - آية فيها أحسن البشارات للمؤمنين الصادقين فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ } أي إيماناً كاملا بكل ما أمر الله به { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي الأعمال الصالحة التي تصلح بها نفوسهم والتي من جملتها الإِحسان إلى المحتاجين ، والابتعاد عن الربا والمرابين { وَأَقَامُواْ الصلاة } بالطريقة التي أمر الله بها ، بأن يؤدوهها في أوقاتها بخشوع واطمئنان { وَآتَوُاْ الزكاة } أي أعطوها لمستحقيها بإخلاص وطيب نفس .
هؤلاء الذين اتصفوا بكل هذه الصفات الفاضلة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي لهم ثوابهم والكامل عند خالقهم ورازقهم ومربيهم .
{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يوم الفزع الاكبر { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لأي سبب من الأسباب ، لأن ما هم فيه من أمان واطمئنان ورضوان من الله - تعالى - يجعلهم في فرح دائم ، وفي سرور مقيم .
ثم ينتقل القرآن إلى أسلوب الخطاب المباشر للمؤمنين فيأمرهم بتقوى الله ، وينهاهم عن التعامل بالربا فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أي اخشوه وصونوا أنفسكم عن الأعمال والأقوال التي تفضي بكم إلى عقابه .
وقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي : اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ولا تأخذوا منهم إلا رءوس أموالكم فحسب ، فهذا مقابل لقوله - تعالى - قبل ذلك : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما سلف قبضه من الربا قبل نزول الآية فهو لكم ، وما لم تقبضوه فأنتم مأمورن بتركه .
وقوله : { مِنَ الربا } متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل { بَقِيَ } أي اتركوا الذي بقي حال كونه بعض الربا ، ومن للتعيض . أو متعلق ببقى .
و { وَذَرُواْ } فعل أمر - بوزن علوا - مبني على حذف النون والواو فاعل ، وأصله " وذروا " فحذفت فاؤه ، والماضي منه " وذر " .
وقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على ترك الربا أي إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان فامتثلوا أمر الله وذروا ما بقي من الربا مما زاد على رءوس أموالكم .
قال ابن كثير : " نزل هذا السياق في بني عمرو بن عمير بن ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخهذه منهم فتشاوروا . وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي في الإِسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه . فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقى من الربا فتركوه كلهم . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لكل ما استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار " ثم هدد الله - تعالى كل من يتعامل بالربا تهديداً عنيفاً فقال : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } .
أي : فإن لم تتركوا الربا وأخذتم منه شيئاً بعد نهيكم عن ذلك ، فكونوا على علم ويقين بحرب كائنة من الله - تعالى - ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا
وقوله : ( فأذنوا ) من أذن بالشيء يأذن إذا علمه . وقرئ ( فآذنوا ) من آذنهن الأمر وآذنه به : أعلمه إياه : أي اعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله .
وتنكير " حرب " للتهويل والتعظيم أي فكونوا على علم ويقين من أن حربا عظيمة ستنزل عليكم من الله وروسله .
قال بعضهم : والمراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب . وقال آخرون : المراد نفس الحرب بمعننى أن الإِصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر عليه الإِمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من الحبس والتعزير إلى أن تظهر منه التوبة . وإن وقع ممن يكون له عسر وشوكة ، حاربه الإِمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر الصديق ما نعى الزكاة وقال ابن عباس : من تعامل بالربا يستتاب فإن تاب فبها وإلا ضرب عنقه .
ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم عند توبتهم عن التعامل بالربا فقال : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } .
أي : وإن تبتم عن التعامل بالربا الذي يوجب الحرب عليكم من الله ورسوله ، فلكم رءوس أموالكم أي أصولها بأن تأخوذها ولا تأخذوا سواها ، وبذل كلا تكونون ظالمين لغرمائكم ولا يكونون ظالمين لكم ، لأن من أخذ رأس ماله بدون كان مقسطاً ومتفضلا ، ومن دفع ما عليه بدون إنقاص منه كان صادقا في معاملته .
ثم أمر الله - تعالى - الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
والعسرة : اسم من الإِعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال : أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .
والنظرة : اسم من الإِنظار بمعنى الإمهال . يقال : نظرة وانتظره وتنظره ، تأنى عليه وأمهله في الطلب .
والميسرة : مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإِعسار . يقال : أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله .
والمعنى : وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت سالذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديون ، ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له : إما أن تقضي وإما أن تربي أي تدفع زيادة على أصل الدين .
و ( كان ) هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث ، فتكتفى بفاعلها كسائر الأفعال . وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين وإن لم يذكر وذلك على قراءة ( ذا عسرة ) بالنصب وقوله : ( فنظرة ) الفاء جواب الشرط . ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر أو فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أي فعليكم نظرة .
ثم حبب - سبحانه - إلى عباده التصدق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين المعسرين فقال - تعالى - : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
أي : وأن تتركوا للمعسر كل أو بعض ما لكم عليه من ديون وتتصدقوا بها عليه ، فإن فعلكم هذا يكون أكثر ثواباً لكم من الأنظار .
وجواب الشرط في قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف . أي إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤا في فعله ، بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله - تعالى - .
وقد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر ، والتجاوز عما عليه من ديون .
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " .
وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فليسير مع معسر أو ليضع عنه " .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " .
ثم ساق - سبحانه - في ختام حديثه على الربا آية كريمة ذكر الناس فيها بزوال الدنيا وفناء ما فيها من أموال ، وبالاستعداد للآخرة وما فيها من حساب فقال - تعالى - : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون } .(1/96)
أي : واحذروا أيها المؤمنون يوما عظيما في أهواله وشدائده ، وهو يوم القيامة الذي تعودون فيه إلى خالقكم فيحاسبكم على أعمالكم ، ثم يجازي - سبحانه كل نفس بما كسبت من خير أو شر بمقتضى عدله وفضله ، ولا يظلم ربك أحدا .
فالآية الكريمة تعقيب حكيم يتناسب كل التناسب مع جو المعاملات والأخذ والعطاء ، حتى يبتعد الناس عن كل معاملة لم يأذن بها الله - تعالى - .
قال الآلوسي : أخرج غير واحد عن ابن عباس أن هذه الآية هي آخر ما " نزل على رسول صلى الله عليه وسلم من القرآن : واختلف في مدة بقائه بعدها . فقيل : تسع ليال . وقيل : سبعة أيام . وقيل : واحد وعشرين يوماً . وروى أنه قال : اجعلوها بين آيات الربا وآية الدين " .
هذا ، والمتدبر في هذه الآيات التي وردت في موضع الربا ، يراها قد نفرت منه تنفيراً شديداً ، وتوعدت متعاطية بأشد العقوبات ، وشبهت الذين يأكلونه بتشبيهت تفزع منها النفوس ، وتشمئز منها القلوب ، وحضت المؤمنين على أن يلتزموا في معاملاتهم ما شرعه الله لهم ، وأن يتسامحوا مع المعسرين ويتصدقوا عليهم بما يستطيعون التصدق به .
وقد تكلم الفقهاء وبعض المفسرين عن الربا وأقسامه وحكمه تحريمه كلاما مستفيضا ، قال بعضهم : الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل .
فربا النسيئة : هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية ، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوه في موعد معين ، فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا ، فإن تعذر الأداء زادوا في الحق وفي الأجل .
وكان ابن عباس في أول الأمر لا يحرم إلا ربا النسيئة وكان يجوز ربا الفضل اعتماداً على ما روى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الربا في النسيئة " ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد " رجع عن قوله . لأن قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الربا في النسيئة " محمول على اختلاف الجنس فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير . تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل .
ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين : أما ربا النسيئة فقد ثبت تحريمه بالقرآن كما في قوله - تعالى - : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } .
وأما ربا الفضل فقد ثبت تحريمه بالحديث الصحيح الذي رواه عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير والتمر بالتمر . والملح بالملح . مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد " .
وقد اشتهرت رواية هذا الحديث حتى صارت مسلمة عند الجميع . وجمهور العلماء على " أن الحرمة ليست مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل تتعداها إلى غيرها مما يتحد معها في العلة وقد فسر بعضهم هذه العلة باتحاد الجنس والقدر . . " .
ومن الحكم التي ذكرت في أسباب تحريم الربا : أنه يقتضي أخذ مال الغير بدون عوض ، ويؤدي إلى امتناع أصحاب الأموال عن تحمل المشاق في الكسب والتجارة والصناعة ، وإلى استغلال حاجة المحتاج أسوأ استغلال وكل ذلك يفضي إلى إشاعة روح التباغض والتخاصم والتحاسد بين أفراد المجتمع - كما سبق أن أشرنا - .
ومن الأحاديث الشريفة التي وردت في التحذير من تعاطي الربا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبيد الله قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " .
0000000000000000000000
وقال الطاهر بن عاشور :
نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في سِلك هاته الآيات . فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي . وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء . والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك . وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب " .
وجملة { الذين يأكلون الربوا } استئناف ، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله : { لا يقومون } إلى آخره .
والأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] { ألا تأكلوا أموالكم } [ الصافات : 91 ، 92 ] ، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن { فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] .
والربا : اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر ، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في «الصحاح» وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى : { فلا يربو عند الله } [ الروم : 39 ] ، وقال : { اهتَزّتْ ورَبَتْ } [ الحج : 5 ] ، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ . وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون { وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ } [ الروم : 39 ] بفتحة على الواو { في أموال الناس } [ الروم : 39 ] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة .
وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفاً ، فقال صاحب «الكشاف» : كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف .
وقال المبرّد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } [ الإسراء : 32 ] . وقال الفراء : إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع .(1/97)
والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء . وقال صاحب «الكشاف» : وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع . وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو .
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم . أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } في سورة آل عمران ( 130 ) ، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا .
وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا ، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم ( 39 ) : وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه : الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } .
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم ، وتعريضاً بتخويف المسلمين ، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر . وقد قال ابن عباس : كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال الله تعالى : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ البقرة : 275 ] وقال تعالى : { والله لا يحب كلّ كفّار أثيم } [ البقرة : 276 ] .
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } [ البقرة : 278 ] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا . فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه .
والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل .
وقوله : { لا يقومون } حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك قامت السوق ، وقامت الحرب . فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم ، قاله ابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً . فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، وهي على المعنى المجازي تشنيع ، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .
والتخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له ، أي تحرّك تحرّكاً شديداً ، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق ، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق . ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا : اضطَرّه إلى كذا . فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً ، أي متحرّكاً على غير اتّساق .
والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع . فيضطرب به اضطرابات ، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها ، وقد عُرِف ذلك عندهم . قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلاً كاملاً
: ... وتُصبح عن غِب السري وكأنّها
ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ ... والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها : «المَسُّ مَس أرنب» ، وهو إذا أطلق معرّفاً بدون عهدِ مسَ معروف دل عندهم على مسّ الجن ، فيقولون : رجل ممسوس أي مجنون ، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة .
و ( مِن ) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة .
وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي مثل قوله : «طَلْعُها كأنّه رُؤوس الشياطين» ، وقول امرىء القيس
: ... ومسنونةٌ زُرقٌ كأنياببِ أغوال
إلاّ أنّ هذا أثره مشاهد وعلته مُتخيَّلة والآخران متخيَّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة . وعندنا هو أيضاً مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المِرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين ، إلاّ أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية ، فإنّ عوالم المجرّدات كالأرواح لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد .
وقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } الإشارة إلى { كما يقوم } لأنّ ما مصدرية ، والباء سببية .
والمحكيّ عنهم بقوله : { قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، إن كان قولاً لسانياً فالمراد به قول بعضهم أو قول دُعاتهم وهم المنافقون بالمدينة ، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حيننِ تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة . ويجوز أن يكون { قالوا } مجازاً لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه ، وهو الاعتقاد به .(1/98)
وقولهم : { إنما البيع مثل الربوا } قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه .
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله .
وقوله : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفراً ونفاقاً فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام .
وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذاك ، وما ذلك إلاّ لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومىء إلى كشف الشبهة .
واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين { إنما البيع مثل الربوا } أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .
وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال : «من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض . ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة» . ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة .
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً ، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح ، وأما الذي دفع درهماً لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه ، ولا يقال : إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول ، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير .
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصدِّيهِ للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها .
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل . وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال .
فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغِنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات . فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً ، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف . فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف . وكفى بهذا تفرقة بين الحالين .
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة :
أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه .
الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة .
الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .
الرابع أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً ، وفي المستقرض أن يكون فقيراً ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف .
وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } من سورة آل عمران ( 130 ) .
هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه .
و ( أل ) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمّى بيعاً والآخر يسمّى ربا . أولهما مباح معتبر كونه حاجياً للأمة ، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة . وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليلُ سائر أفراده ، وأنّه حرم الربا بجنسه كذلك . ولما كان معنى أحل الله البيع } أذِنَ فيه كان في قوة قضية موجَبة ، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة ، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامَها في نحو الحمدُ لله ، فبقي محتملاً شمول الحِلّ لسائر أفراد البيع . ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه ، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية .
أما معنى قوله : { وحرم الربوا } فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع ، فكان مقتضياً استغراق جنس الربا بالصيغة؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالاً .
ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع .(1/99)
فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد» ، يعني أنّه حمل { أحل الله البيع } على عمومه .
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل ، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال : «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا ، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد : ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا ، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها . وقال ابن العربي : بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً .
والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير ، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير . وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان . وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعمومَيْها : عموم البيععِ وعموممِ الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام . والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث :
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري : «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْللٍ يداً بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء» .
الثاني حديث عبادة بن الصامت : «الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد ، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود ، فسمّاه في هذين الحديثين ربا .
الثالث حديث أبي سعيد : أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ ، فقال له : من أين هذا فقال بلال : تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّهْ عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا .
الرابع حديث «الموطأ» و«البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا " فقال : «يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تَفْعَلْ ، بع الجمعْ بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا " .
الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري» : قالت " لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر " فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد .
السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة : «بئسما شَرَيْتتِ وما اشتريتتِ ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب» ، قالت : فقلت لها : «أرأيتتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي» قالت : «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية .
فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع :
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير .
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت .
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً . وزاد المالكية نوعاً رابعاً : وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية . ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي .
وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين ، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد .
ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع .
وفي «تفسير القرطبي» : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب ، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال : «سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين ، من زاد وازداد فقد أربَى» فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت : «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية» .
والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى .
وقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } الآية تفريع على الوعيد في قوله : { الذين يأكلون الربوا } .(1/100)
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، أي من علم هذا الوعيد ، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه ، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران .
والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق ، وكأنّه مشتق من النُّهَى بضم النون وهو العقل . ومعنى «فله ما سلف» ، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض ، بقرينة قوله الآتي { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } [ البقرة : 279 ] .
وقوله : { وأمره إلى الله } فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى «من جاءه» وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف ، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود ، وأنّ معنى { وأمره إلى الله } أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم . فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله : { إنما البيع مثل الربوا } ، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته . وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } والخلود طول المكث كقول لبيد
: ... فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا
صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها ... ومنه : خلَّد الله مُلك فلان .
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها . وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر . ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة .
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة ، فهو استئناف بياني لتوقُّع سؤاللِ من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله . v وقوله : { ويربى الصدقات } استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضاً ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما ، فهذا وعد ووعيد دنيويان .
والمَحْق هو كالمَحْو : بمعنى إزالة الشيء ، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار . ومعنى { يمحق الله الربا } أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا ، { ويربي الصدقات } أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلاّ بمعنى زيادة ثوابها ، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث : " مَن تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيباً تلقاها الرحمان بيمينه وكِلْتَا يديه يمين فيُرْبيها له كما يُرْبِي أحدُكم فُلُوّه " . ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك .
وجملة : { والله لا يحب كل كفار أثيم } معترضة بين أحكام الربا . ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر ، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك .
ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ ( كل ) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً . فإذا أضيفت ( كل ) إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على ( كل ) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو ، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب ، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه ، أو لم أدخل كلّ دار ، أو كلّ دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار ، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم
: ... قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي
عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع ... كما قال سيبويه : إنّه لو نصب لكان أولى؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان . ولا تخرج ( كل ) عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ( كل ) صريحاً أو تقديراً ، كأنْ يقول أحد : كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع ، فتقول له : ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل : «ما كل بيضاء شَحْمة» ، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي : ... وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً
وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ( كل ) إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع ( كل ) ونصبه في قوله «كلّه لم أصنع» . وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي ، وأنّه قد تخلّف في مواضع . وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي «الإيجاز على دلائل الإعجاز» أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا .
قوله : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا } إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه . فإن كان قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } [ البقرة : 275 ] من كلام الذين قالوا : { إنما البيع مثل الربوا } [ البقرة : 275 ] فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم .
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها . فهو كالأمرِ بطريق برهاني .
ومعنى { وذروا ما بقي من الربوا } الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله : «فله ما سلف» ، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه .
قيل نزلت هذه الآية خطاباً لثقيف أهل الطائف إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسَيْد الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش ، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، وقبل منه رسول الله شَرْطَهم ، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطاباً لهم وكانوا حديثي عهد بإسلام فقالوا : لا يَدَيْ لنا بحرب الله ورسوله .
فقوله : { إن كنتم مؤمنين } معناه إن كنتم مؤمنين حقاً ، فلا ينافي قوله : { يأيها الذين آمنوا } إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان ، واندفعت أشكالات عرضت .(1/101)
وقوله : { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء» . وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر . فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة ، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى : { وذروا ما بقى من الربوا } ؛ فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة ، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين ، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم ، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه .
ودلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض ، ولذلك جاء قبلها «فله ما سلف» وجاء هنا { وذروا ما بقي من الربوا } إلى قوله { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } .
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها ، وانتقالَ الضمان بالقبض ، والفواتَ بانتقال الملك ، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت ، لأنّ القيمة بدل من رأس المال .
ورؤوس الأموال أصولها ، فهو من إطلاق الرأس على الأصل ، وفي الحديث " رأس الأمر الإسلام " .
ومعنى { لا تظلِمون ولا تظلَمون } لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم .
وقرأ الجمهور { فاذَنوا } بهمزة وصل وفتح الذاللِ أمراً من أذِنَ ، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف { فآذِنوا } بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم .
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
عطف على قوله : { فلكم رؤوس أموالكم } لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة ، إذ العقود قد فسخت . فعطف عليه حالة أخرى ، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب ، والأصل حصول المشروط عند الشرط . والمعنى وإن حصل ذو عسرة ، أي غريم معسر .
وفي الآية حجة على أنّ ( ذُو ) تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً .
والنظِرة بكسر الظاء الانتظار .
والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة ، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم .
وجملة فنظرة جواب الشرط ، والخبر محذوف ، أي فنظرة له .
والصيغة طلب ، وهي محتملة للوجوب والندب . فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب ، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء . وقد قيل : إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين ، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] . وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين ، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا ، وروي أنّه كان في صدر الإسلام ، ولم يثبت . وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب ، وقد قال به بعض الفقهاء ، ويحتمل الندب ، وهو قول مالك والجمهور ، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه ، والإنظار معروف والمعروف لا يجب . غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع ، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ .
ومورد الآية على ديون معاملات الربا ، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً ، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه . وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها .
وقوله : { وأن تصدقوا خير لكم } أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل ، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف .
وقرأ الجمهور من العشرة { تصدقوا } بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد ، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف .
===================
النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) [آل عمران/130-132] }
وقال الجصاص (1):
وقَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } قِيلَ فِي مَعْنَى { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمُضَاعَفَةُ بِالتَّأْجِيلِ أَجَلًا بَعْدَ أَجَلٍ وَلِكُلِّ أَجَلٍ قِسْطٌ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَالِ .
وَالثَّانِي : مَا يُضَاعِفُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ .
وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ، فَلَمَّا كَانَ الرِّبَا مَحْظُورًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَبِعَدَمِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } إذْ لَمْ يَبْقَ لَهَا حُكْمٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ
-----------------
وقال ابن كثير (2):
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حَلّ أجل الدين: إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر، وهكذا كلّ عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا.
وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
---------------------
وقال القرطبي (3):
قوله تعالى : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قِصة أحدُ . قال ابن عطية : ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا .
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 480)
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 117)
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1112)(1/102)
قلت : قال مجاهد كانوا يبيعون البيع إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل زادوا في الّثَمن على أن يؤخرّوا؛ فأنزل الله عز وجل { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } . ( قلت ) وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] والحرب يؤذِن بالقتل؛ فكأنه يقول : إِن لم تتقوا الربا هُزِمتم وقُتلتم . فأمرهم بترك الربا؛ لأنه كان معمولاً به عندهم ، والله أعلم . و { أَضْعَافاً } نصب على الحال و { مُّضَاعَفَةً } نعته . وقرىء «مُضَعّفَةً» ومعناه : الربا الذي كانت العرب تُضْعف فيه الدِينْ ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تُرْبي؟ كما تقدم في «البقرة» و { مُّضَاعَفَةً } إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عامٍ كما كانوا يصنعون؛ فدلت هذه العبارة المؤكدة على شُنعة فعلهم وقُبحه؛ ولذلك ذُكرت حالة التضعيف خاصة .
قوله تعالى : { واتقوا الله } أي في أموال الربا فلا تأكلوها . ثم خوفهم فقال : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } قال كثير من المفسرين : وهذا وعيد لمن استحل الربا ، ومن استحل الربا فإنه يكْفُر ( ويُكَفّر ) . وقيل : معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار؛ لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويخاف عليه؛ من ذلك عقوق الوالدين . وقد جاء في ذلك أثر : أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له عَلْقَمَة؛ فقيل له عند الموت : قل لا إله إلا الله ، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه . ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة . وذكر أبو بكر الورّاق عن أبي حنيفة أنه قال : أكثر ما ينزع الإيمان من العبد عند الموت . ثم قال أبو بكر : فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئاً أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد . وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة رداً على الجَهْمِية؛ لأن المعدوم لا يكون مُعَداً . ثم قال : { وَأَطِيعُواْ الله } ( يعني أطيعوا الله ) في الفرائض { والرسول } في السنن : وقيل : «أطيعُوا اللَّهَ» في تحريم الربا «والرسول» فيما بلّغكم من التحريم . { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي كي يرحمكم الله . وقد تقدّم .
------------------
وقال السعدي (1):
تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي [ ص 148 ] في نفسه وفي غيره، وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه -أولا- أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد، واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره، بحسب قدرته وإمكانه، وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه، وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي، وهذه الآيات الكريمات قد اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير، أمر الله [بها] وحث على فعلها، وأخبر عن جزاء أهلها، وعلى نواهي حث على تركها.
ولعل الحكمة -والله أعلم- في إدخال هذه الآيات أثناء قصة "أحد" أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين، أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم، وخذل الأعداء عنهم، كما في قوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } .
ثم قال: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } الآيات.
فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى، التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ "التقوى" في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة مطلقة وهي قوله: { أعدت للمتقين } ومرتين مقيدتين، فقال: { واتقوا الله } { واتقوا النار } فقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } كل ما في القرآن من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر، واجتناب ذلك النهي؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين، على المعسر ولم يحصل منه شيء، قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، ويزيد ما في ذمتك، فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك، اغتناما لراحته الحاضرة، ، فيزداد -بذلك- ما في ذمته أضعافا مضاعفة، من غير نفع وانتفاع.
ففي قوله: { أضعافًا مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.
وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه، لأن تركه من موجبات التقوى.
والفلاح متوقف على التقوى، فلهذا قال: { واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بترك ما يوجب دخولها، من الكفر والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصا المعاصي الكبار- تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة، ولهذا قال: { وأطيعوا الله والرسول } بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون } .
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات.
-----------------
وفي الظلال (2):
لقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص , ويتداروا به , ليقولوا:إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع , وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد: (وذروا ما بقي من الربا) . . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف , لنقول:إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة , والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت , أيا كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية , ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 147)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 66)(1/103)
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها , وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية , كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب:
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله , ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية , وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ; وهناك النار التي أعدت للكافرين ! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله , وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين , ليس عبثا ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى , ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . . ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية , وويلاته البشعة في حياة الإنسانية . فلنرجع إلى هذا البيان هناك , لندرك معنى الفلاح هنا , واقترانه بترك النظام الربوي المقيت !
ثم يجيء التوكيد الأخير:(وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) . .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول , وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره . وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول , بوصفها وسيلة الفلاح , وموضع الرجاء فيه . .
ثم لقد سبق في سورة البقرة - في الجزء الثالث - أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا , والحديث عن الصدقة . بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم:النظام الربوي . والنظام التعاوني . . فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء . .
----------------
وقال الألوسي(1) :
ابتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميماً لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد ، ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه ، وقدمه على الأمر اعتناءاً به وليجىء ذلك الأمر بعد سدّ ما يخدشه ، وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلاً بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعياً للمسلمين إلى الإقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضاً ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم ، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفاً بهم ، وقيل : إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب وهو الربا وخصه بالنهي لأنه كان شائعاً إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولاً وبالذات إيذاناً بشدة الحظر . والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع ، وقد تقدم الكلام في الربا .
{ أضعافا مضاعفة } حال من الربا والأضعاف جمع ضعف وضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافه أمثاله ، وقال بعض المحققين : الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثنى اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف على ما نقله الراغب بمعنى ضعفته ، وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر ، والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ، ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل : هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار ، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناءاً على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله ، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور . وهذا مغزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي كما قال الأزهري .
ومن هنا ظهر أنه لو قال : له عليَّ الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان ، ثم قال والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأنه المتيقن ، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذاً معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف ، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع ، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند ( محل ) كل أجل فيستغرق بالشيء الطفيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية ، وقرىء مضعفة بلا ألف مع تشديد العين .
{ واتقوا الله } أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح ، فالجملة حينئذٍ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى حضائر القدس .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 3 / ص 211)(1/104)
{ واتقوا النار } أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطي ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار { التى أُعِدَّتْ } أي هيئت { للكافرين } وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها دون ذلك ، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة ، ويحتمل أن يقال : إن النار مطلقاً مخلوقة للكافرين معدّة لهم أوّلاً وبالذات ، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص ، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء ، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول : إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص .
{ وَأَطِيعُواْ الله } في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر بالتقوى السابق { والرسول } أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى . { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أو راجين رحمته ، وعقب الوعيد بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة ، قال محمد بن إسحق : هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز .
------------------
وقال الرازي (1):
اعلم أن من الناس من قال : انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا } وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها ، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله : { أضعافا مضاعفة } مسألتان :
المسألة الأولى : كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ، ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله : { أضعافا مضاعفة } .
المسألة الثانية : انتصب { أَضْعَافًا } على الحال .
ثم قال تعالى : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب ، وأن الفلاح يتوقف عليه ، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله : { لَعَلَّكُمْ } تقدم في سورة البقرة في قوله : { اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة .
ثم قال : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } وفيه سؤالات : الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيف قال : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } .
والجواب : تقدير الآية : اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين .
السؤال الثاني : ظاهر قوله : { أُعِدَّتْ للكافرين } يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين ، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات .
والجواب من وجوه : الأول : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله : { النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين ، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين . الثاني : أن كون النار معدة للكافرين ، لا يمنع دخول المؤمنين ، فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال : انها معدة لهم ، كما أن الرجل يقول : لدابة ركبها لحاجة من الحوائح ، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين ، فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا .
الوجه الثالث : في الجواب : أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف ، ومثاله قوله تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [ الملك : 8 ] وليس لجميع الكفار يقال ذلك ، وأيضا قال تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } [ الشعرا : 94 ] الى قوله : { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين } [ الشعرا : 98 ] وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور ، كانت كالمذكورة ههنا ، فكذا فيما ذكرناه والله أعلم .
الوجه الرابع : ان قوله : { أُعِدَّتْ للكافرين } اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله : في الجنة { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين .
الوجه الخامس : أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر ، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي اذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار ، كان انزجارهم عن المعاصي أتم ، وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا .
السؤال الثالث : هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا؟
الجواب : نعم لأن قوله : { أُعِدَّتْ } إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود .
ثم قال تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن ، وقال : محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد .
-----------------
وفي التفسير الوسيط (2):
قال الإمام الرازى ما ملخصه : اعلم أن من الناس من قال : إن الله - تعالى - لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم فى أمر الدين وفى أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل فى الأمر والنهى والترغيب والترهيب فقال : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
وقال القفال : يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما قبلها من جهة أن المشركين فى غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربان ولعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على المعسكر ، ويتمكنوا من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 4 / ص 384)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 737)(1/105)
وكان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم - مثلا - إلى أجل ، فإذا حل الأجل ولم يكن المدين واجدا لذلك المال قال : زدنى فى المال حتى أزيد فى الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
وقد ابتدأ - سبحانه - الآية بالنداء بقوله { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } لبيان أن أكل الربا ليس من شأن المؤمنين ، وإنما هو من سمات الكافرين والفاسقين .
وإذا كان الكافرون يستكثرون من تعاطى الربا فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذا الفعل القبيح ، وأن يتحروا الحلال فى كل أمورهم .
وخصه بالنهى لأنه كان شائعاً فى ذلك الوقت ، ولأنه - كما يقول القرطبى - هو الذى أذن فيه بالحرب فى قوله - تعالى - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } والحرب يؤذن بالقتل ، فكأنه يقول لهم : إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم .
والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بهن ولشيوعه فى المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع .
والربا معناه الزيادة ، والمراد بها هنا تلك الزيادة التى كانت تضاف على الدين .
قال الإمام ابن جرير : عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بنى المغيرة فى الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون .
وقال ابن زيد : كان أبى - زيد بن ثابت - يقول : إنما كان ربا الجاهلية فى التضعيف . يكون للرجل على الرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : " تقضينيى أو تزيدنى " .
وقوله { أَضْعَافاً } حال من الربا ، وقوله { مُّضَاعَفَةً } صفة له .
والأضعاف جمع ضعف . وضعف الشىء مثلاه ، وأضعافه أمثاله .
وهذا القيد وهو قوله " أضعافا مضاعفة " ليس لتقييد النهى به ، أى ليس النهى عن أكل الربا فى هذه الحالة وإباحته فى غيرها ، بل هذا القيد لمراعاة الواقع ، ولبيان ما كانوا عليه فى الجاهلية من التعامل الفاسد المؤدى إلى استئصال المال ، ولتوبيخ من كان يتعاطى الربا بتلك الصورة البشعة .
وقد حرم الله - تعالى - أصل الربا ومضاعفته ، ونفر منه تنفيراً شديداً ، فقال - تعالى - { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } وهذا النوع من الربا الذى نهى الله - تعالى - عنه هنا بقوله : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هو الذى يسمى عند الصحابة والفقهاء بربا النسيئة ، أو ربا الجاهلية وقد حرمه الإسلام تحريماً قاطعا . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع : " ألا إن الجاهلية موضوع - أي مهدر - وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب " .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : إن ربا النسيئة يكفر من يجحد تحريمه .
ويقابل هذا النوع من الربا ، ربا البيوع وهو الذى ورد فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى يقول فيه : " البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا يد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثلا يدا بيد ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .
وقد اتفق العلماء على أن بيع هذه الأصناف لا بد أن يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح ، ولا بد من قبضها . وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جازت الزيادة ، ولا بد من القبض فى المجلس ، والتأخير يسمى ربا النساء ، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل .
وللفقهاء فى هذا الموضوع مباحث طويلة فليرجع إليها من شاء فى مظانها . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بأمر المؤمنين بخشيته وتقواه فقال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
أى : واتقوا الله بأن تجعلوا بينكم وبين محارمه ساترا ووقاية ، لعلكم بذلك تنالون الفلاح فى الدنيا والآخرة .
ثم حذرهم - سبحانه - من الأعمال التى تفضى بهم إلى النار فقال : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } يقول : هى أخوف آية فى القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه " .
---------------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
لولا أن الكلام على يوم أحد لم يكمل، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ..} [آل عمران: 171] الآية لقلنا إن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا} اقتضاب تشريع، ولكنه متعين لأن نعتبره استطرادا في خلال الحديث عن يوم أحد، ثم لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء. قال ابن عطية: ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا. وقال الفخر: من الناس من قال: لما أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا} فلا تعلق لها بما قبلها.
وقال الفقهاء: لما أتفق المشركون على جيوشهم أموالا جمعوها من الربا، خيف أن يدعو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الربا. وهذه مناسبة مستبعدة. وقال أبن عرفة: لما ذكر اله وعيد الكفار عقبه ببيان أن الوعيد لا يخصهم بل يتناول العصاة، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا. وهو في ضعف ما قبله، وعندي مبادئ ذي بدء أن لا حاجة إلى اطراد المناسبة، فإن مدة نزول السورة قابلة لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة، كما بيناه في المقدمة الثامنة، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قلها فكتبت هنا ولا تكون بينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقا بالكلام.
ويتجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى مما في هذه السورة، فالجواب: أن الظاهر أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيدا لتلك، ولم يكن النهي فيها بالغا ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حرم الله الربا وأن ثقيفا قالوا: كيف ننهى عن الربا، وهو مثل البيع، ويكون وصف الربا {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} بمضاعفة نهيا عن الربا الفاحش وسكت عما دون ذلك مما لا يبلغ مبلغ الأضعاف، ثم نزلت الآية التي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضا بالمراباة عقب غزوة أحد فنزل تحريم الربا في مدة نزول قصة تلك الغزوة. وتقدم الكلام على معنى أكل الربا، وعلى معنى الربا، ووجه تحريمه، في سورة البقرة.
وقوله: {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} حال من {الربا} والأضعاف جمع ضعف بكسر الضاد وهو معادل في المقدار إذا كان الشيء ومماثلة متلازمين، لا تقول: عندي ضعف درهمك، إذ ليس الأصل عندك، بل يحسن أن تقول: عندي درهمان، وإنما تقول: عندي درهم وضعفه، إذا كان أصل الدرهم عندك، وتقول: لك درهم وضعفه إذا فعلت كذا.
والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرف بأل نحو ضعفه، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجمع كما هنا، وإذا عرف الضعف بأل صح اعتبار العهد واعتبار الجنس، كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ37] فإن الجزاء أضعاف، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 3 / ص 216)(1/106)
وقوله: {مضاعفة} صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التضعيف، وذلك أنهم كانوا إذا داينوا أحد إلى أجل داينوه بزيادة، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة، فيصير الضعف ضعفا، ويزيد، وهكذا، فيصدق بصورة أن يجمعوا الدين مضاعفا بمثله إلى الأجل، وإذا ازداد ثانيا زاد مثل جميع ذلك، فالأضعاف من أول التداين للأجل الأول، ومضاعفتها في الآجال الموالية، ويصدق بأن يداينوا بمراباة دون الدين ثم تزيد بزيادة الآجال، حتى يصير الدين أضعافا، وتصير الأضعاف أضعافا، فإن كان الأول فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوما: لأن شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع، وإن كان الثاني فالحال وارد لقصد التشنيع وإرادة هذه العاقبة الفاسدة. وإذ قد كان غالب المدينين تستمر حاجتهم آجالا طويلة، كان الوقوع في هذه العاقبة مطردا، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوما كذلك إذ ليس القصد منها التقييد بل التشنيع، فلا يقتصر التحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة، حتى يقول قائل: إذا كان الربا أقل من ضعف رأس المال فليس بمحرم. فليس هذا الحال هو مصب النهي عن أكل الربا حتى يتوهم متوهم أنه إنه كان دون الضعف لم يكن حراما. ويظهر أنها أول آية نزلت في تحريم التشريع، وصيغة آية البقرة تدل على أن الحكم قد تقرر، ولذلك ذكر في تلك الآية عذاب المستمر على أكل الربا. وذكر غرور من ظن الربا مثل البيع، وقيل فيها {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] الآية، كما ذكرناه آنفا، فمفهوم القيد معطل على كل حال.
وحكمة تحريم الربا هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غنيها محتاجها احتياجا عارضا موقتا بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف، فإن انتدب لها المكلف حرم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كله، وذلك أن العبادة الماضية في الأمم، وخاصة العرب، أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته، فلذلك كان حق الأمة مواساته. والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القدرين عليها، فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين: للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين، إلا أن الشرع ميز هاته المواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين. فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف، ولو كان المستلف غير محتاج، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الذي أستلفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودين السلم، ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا، تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الربا، ولو كان قليلا، مع تجويز الربح من التجارة والشركات، ولو كان كثيرا، تحقيقا لهذاالمقصد.
ولقد قضى المسلمون قرونا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالربا، ولم تكن ثروتهم أيامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم، أزمان كانت سيادة العالم بيده، أو أزمان كانوا مستقلين بإدارة شؤونهم، فلما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثروة العالمية على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين، دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرمه الله مبيح. ولا مخلص من هذا إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمال. وحوالات الديون ومقاصتها وبيعها. وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كل فرقة كما أمر الله تعالى.
وقد تقدم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآيات الخمس من سورة البقرة [275].
وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} تحذير وتنفير من النار وما يوقع فيها، بأنها معدودة للكافرين. وإعدادها للكافرين عدل من الله تعالى وحكمته لأن ترتيب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة، ومن أشركوا بالله مخلوقاته، فقد استحقوا الحرمان من رحماته، والمسلمون لا يرضون بمشاركة الكافرين لأن الإسلام الحق يوجب كراهية ما ينشأ عن التفكير. وذلك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.
===================
استحلال اليهود أكل الربا
قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) [النساء/160-162] }
قال ابن كثير (1):
يخبر، تعالى، أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو، وقال: قرأ ابن عباس: "طيبات كانت أحلت لهم".
وهذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى: أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى: أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [آل عمران: 93] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد: أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام: 146] أي: إنما حرمنا عليهم ذلك؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه. ولهذا قال: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أي: صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء، وكذَبوا عيسى ومحمدًا، صلوات الله وسلامه عليهما.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 467)(1/107)
وقوله: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } أي: أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل. قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
-------------------
وقال القرطبي (1):
فيه مسألتان :
الأولى قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ } قال الزجاج : هذا بدل من «فبما نَقْضِهِم» . والطيبات ما نصّه في قوله تعالى { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] وقدّم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم . { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله } أي وبصدّهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل } كله تفسير للظلم الذي تعاطوه ، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده؛ وقد مضى في «آل عمران» أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها .
الثانية قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بيّن الله في هذه الآيه أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبراً عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدّلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أنّ معاملتهم لا تجوز؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد . والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرّم الله سبحانه عليهم؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة؛ قال الله تعالى { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] وهذا نصٌ؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودِرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله . والحاسم لداء الشك والخِلاف اتفاق الأمّة على جواز التجارة مع أهل الحرب؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجراً ، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم . فإن قيل : كان ذلك قبل النبوّة؛ قلنا : إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام ثبت ذلك تواتراً ولا اعتذر عنه إذ بُعِث ، ولا منع منه إذْ نبِّىء ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب ، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره؛ وقد يجب وقد يكون ندباً؛ فأمّا السفر إليهم لمجرّد التجارة فمباح .
------------------
وفي الظلال (2):
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . وبصدهم عن سبيل الله كثيرا . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه . وأكلهم أموال الناس بالباطل . وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليمًا . .
فيضيف إلى ما سبق من مناكرهم هذه المنكرات الجديدة:الظلم . والصد الكثير عن سبيل الله . فهم ممعنون فيه ودائبون عليه . وأخذهم الربا - لا عن جهل ولا عن قلة تنبيه - فقد نهوا عنه فأصروا عليه ! وأكلهم أموال الناس بالباطل . بالربا وبغيره من الوسائل .
بسبب من هذه المنكرات , ومما أسلفه السياق منها . . حرمت عليهم طيبات كانت حلالا لهم . وأعد الله للكافرين منهم عذابا أليمًا .
وهكذا تتكشف هذه الحملة عن كشف طبيعة اليهود وتاريخهم ; وفضح تعلاتهم وعدم الاستجابة للرسول وتعنتهم ; ودمغهم بالتعنت مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم ; ويسر ارتكابهم للمنكر وجهرهم بالسوء في حق الأنبياء والصالحين . بل قتلهم والتبجح بقتلهم ! وتسقط بذلك وتتهاوى دسائس اليهود في الصف المسلم وكيدهم ومكرهم وحبائلهم . وتعرف الجماعة المسلمة - ما ينبغي أن تعرفه الأمة المسلمة في كل حين - عن طبيعة اليهود وجبلتهم , ووسائلهم وطرائقهم ; ومدى وقوفهم للحق في ذاته سواء جاء من غيرهم أو نبع فيهم . فهم أعداء للحق وأهله , وللهدى وحملته . في كل أجيالهم وفي كل أزمانهم . مع أصدقائهم ومع أعدائهم . . لأن جبلتهم عدوة للحق في ذاته ; جاسية قلوبهم , غليظة أكبادهم لا يحنون رؤوسهم إلا للمطرقة ! ولا يسلمون للحق إلا وسيف القوة مصلت على رقابهم . .
وما كان هذا التعريف بهذا الصنف من الخلق , ليقصر على الجماعة المسلمة الأولى في المدينة . فالقرآن هو كتاب هذه الأمة ما عاشت , فإذا استفتته عن أعدائها أفتاها , وإذا استنصحته في أمرهم نصح لها ; وإذا استرشدت به أرشدها . وقد أفتاها ونصح لها وأرشدها في شأن يهود , فدانت لها رقابهم . . ثم لما اتخذته مهجورا دانت هي لليهود , كما رأيناها تتجمع فتغلبها منهم الشر ذمة الصغيرة , وهي غافلة عن كتابها . . القرآن . . شاردة عن هدية , ملقية به وراءها ظهريا ! متبعة قول فلان وفلان !! وستبقى كذلك غارقة في كيد يهود وقهر يهود , حتى تثوب إلى القرآن . .
----------------
وفي التفسير الوسيط (3):
ثم عدد - سبحانه - ألونا أخرى من جرائمهم التى عقابهم عليها شديدا فقال - تعالى - : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
والفاء فى قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } للتفريع على ما تقدم من قوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والباء للسببية ، وما هنا مزيدة لتأكيد نقضهم للميثاق . والجر والمجرور متعلق بمحذف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب فى التهويل والتشنيع على هؤلاء الناقصين لعهودهم مع الله - تعالى - فيكون المعنى :
فسببب نقض هؤلاء لعهودهم وبسبب كفرهم بآياتنا ، وبسبب قتلهم لأنبيائنا ، وبسبب أقوالهم الكاذبة . بسبب كل ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من أنواع العقوبات الشديدة ، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من ظلم ومهانة وصغار ومسخ . . . الخ .
ويرى بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى - بعد ذلك { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } . . .
أى : فسبب نقضهم للميثاق . وكفرهم بآيات الله حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .
قال الفخر الرازى : واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان :
أحدهما : أن الكلام طويل جداً من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلى قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } .
الثانى : أن تلك الجنايات المذكورة بعد قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } عظيمة جدا . لأن كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، وإنكارهم للتكليف بقولهم : قلوبنا غلف ، أعظم الذنوب ، وذكر الذنوب العظيمة ، إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة ، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا حسن تعليقه بتلك الجنايات الكبيرة .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1571)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 113)
(3) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1123)(1/108)
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد لعن بنى إسرائيل كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } ومسخهم قردة وخنازير كما جاء فى قوله - تعالى { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وكما فى قوله - تعالى - { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت } وتلك العقوبات كلها إنما كانت بسبب الجنايات والمنكرات التي سجلتها عليهم الآيات القرآنية؛ والتى من أجمعها هذه الآيات التى معنا .
فالآيات التى معنا تسجل عليهم نقضهم للمواثيق ، ثم تسجل عليهم - ثانيا - كفرهم بآيات الله .
وقد عطف - سبحانه - كفرهم بآياته على نقضهم للميثاق الذى أخذه عليهم مع أن ذلك الكفر من ثمرات النقض ، للإِشعار بأن النقض فى ذاته إثم عظيم والكفر فى ذاته إثم عظيم - أيضا - من غير التفات إلى أن له سبباً أو ليس له سبب .
وسجل عليهم - ثالثا - قتلهم الأنبياء غير حق . فقد قتلوا زكريا وحيى وغيرهما من رسل الله - تعالى - .
ولا شك أن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يدل على شناعة جريمة من قتلهم وعلى تولغه فى الجحود والعناد والفجور إلى درجة تعجز العبادات عن وصفها ، لأنه بقتله للدعاة إلىالحق ، لا يريد للحق أن يظهر ولا للفضيلة أن تنتشر ، ولا للخير أن يسود ، وإنما يريد أن تكون الأباطيل والرذائل والشرور هى السائدة فى الأرض .
وقوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } ليس قيدا؛ لأن تقل النبيين لا يكون بحق أبداً ، وإنما المراد من قوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } بيان أن هؤلاء القاتلين قد بلغوا النهاية فى الظلم والفجور والتعدى . لأنهم قد قتلوا أنبياء الله بدون أى مسوغ يوسغ ذلك ، وبدون أية شبهة تحملهم على ارتكاب ما ارتكبوا ، وإنما فعلوا ما فعلوا لمجرد إرضاء أحقادهم وشهواتهم وأهوائهم . .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى قوله : فإن قلت : وقتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت . معناه أنهم قتلوهم بغير حق عندهم - ولا عند غيرهم - ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا . وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم . فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل .
ثم سجل عليهم - رابعا - قولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } .
وقوله : { غُلْفٌ } جمع أغلف - كحمر جمع أحمر - والشئ الأغلف هو الذى جعل عليه شى يمنع وصول شئ آخر إليه .
والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين قد قالوا عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحق إن قلوبنا قد خلقها الله مغطاة بأغطية غليظة ، وهذه الأغطية جعلتنا لا نعى شيئا مما تقوله يا محمد ، ولا نفقة شيئا مما تدعونا إليه ، فهم بهذا الكلام الذى حكاه القرآن عنهم ، يريدون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن كفرهم ، لأنهم يزعمون أن قلوبهم قد خلقها الله بهذه الطريقة التى حالت بينهم وبين فهم ما يراد منهم .
وقريب من هذا قوله - تعالى - حكاية عن المشركين : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } وقيل : إن قوله : وغلف : جمع غلاف - ككتب وكتاب - وعليه يكون المعنى : أنهم قالوا إن قلوبنا غلف أى أوعية للعلم شأنها فى ذلك شأن الكتب ، فلا حاجة بنا يا محمد إلى ما تدعونا إليه ، لأننا عندنا ما يكفينا .
والذى يبدو لنا أن التأويل الأول أولى ، لأن أقرب إلى سياق الآية ، فقد رد الله عليهم بقوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . والطبع معناه . إحكام الغلق على الشئ وختمه بحيث لا ينفذ إليه شئ آخر .
والمعنى : أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون ، وتخليهم عن مسئولية الكفر ليس صحيحا . لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق - كما يزعمون - بل الحق أن الله - تعالى - ختم عليها ، وطمس معالم الحق فيها ، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة . فهو - سبحانه - قد خلق القلوب على الفطرة ، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر ، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرشوا عن الخير إلى الشر ، واختاروا الكفر على الإِيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم . فالله - تعالى - طبع على قلوبهم بسبب إيثارهم سبيل الغى على سبيل الرشد ، فصاروا لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا قيمة له عند الله - تعالى - .
فقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف أى إلا إيماناً قليلا . كإيمانهم بنبوة موسى - عليه السلام - وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله ، لأن الإِيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم ، يعتبره الإِسلام كفرا بالكل كما سبق أن بينا فى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } ومنهم من جعل قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } صفة لزمان محذوف أى : فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا . ومنهم من جعل الاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } أى : فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأشباهه . والجملة الكريمة وهى قوله : { طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } معترضة بين الجمل المتعاطفة . وقد جئ بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة ، وأقاربهم الباطلة
------------------
وقال الجصاص (1):
قَوْله تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } قَالَ قَتَادَةُ : " عُوقِبُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ عَلَيْهِمْ " وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ بِالتَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ وَاَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفْرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } .
وَقَوْلُهُ : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ مُكَلَّفُونَ بِهَا مُسْتَحَقُّونَ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ .
-------------------
وقال ابن العربي(2) :
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 173)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 3 / ص 5)(1/109)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ ، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ ، وَالْقَوْمُ قَدْ أَفْسَدُوا أَمْوَالَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ لَا ؟ فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَا تَجُوزُ ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ رِبَاهُمْ وَاقْتِحَامِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنًا وَسُنَّةً : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، { وَقَدْ عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ ، وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِعِيَالِهِ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَخَذَ ثَمَنَ الْخَمْرِ فِي الْجِزْيَةِ وَالتِّجَارَةِ ، فَقَالَ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ عُشْرَ أَثْمَانِهَا ؛ وَالْحَاسِمُ لِدَاءِ الشَّكِّ وَالْخِلَافِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ تَاجِرًا ، وَهِيَ :الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَذَلِكَ مِنْ سَفَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ إلَيْهِمْ وَالتِّجَارَةِ مَعَهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ ذَلِكَ قَبْل النُّبُوَّةِ .
قُلْنَا : إنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ قَبْل النُّبُوَّة بِحَرَامٍ ، ثَبَتَ ذَلِكَ تَوَاتُرًا ، وَلَا اعْتَذَرَ عَنْهُ إذْ بُعِثَ ، وَلَا مَنَعَ مِنْهُ إذْ نُبِّئَ ، وَلَا قَطَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ فَقَدْ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي فَكِّ الْأَسْرَى ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ ؛ وَفِي الصُّلْحِ كَمَا أَرْسَلَ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ ، وَقَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَكُون نَدْبًا ، فَأَمَّا السَّفَرُ إلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ التِّجَارَةِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، كَيْف يَجُوزُ مُبَايَعَتُهُمْ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ ؟ قُلْنَا : سَامَحَ الشَّرْعُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَفِي طَعَامِهِمْ رِفْقًا بِنَا ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إلَّا وَنَفَاهُ ، وَلَا كَانَتْ فِي الْعُقُوبَةِ شِدَّةٌ إلَّا وَأَثْبَتَهَا عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَعَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ الشَّرْعَ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحْكَامَ فَقَدْ بَدَّلُوا وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً الْتَزَمُوهَا ، فَأَجْرَى الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ وَطَعَامٍ حَتَّى فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي أَوْلَادِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ ، سَوَاءٌ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ بِشِرْعَتِهِمْ أَوْ بِعَصَبِيَّتِهِمْ ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ ؛ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي الصُّلْحِ أَبْنَاؤُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ إذَا كَانَ الصُّلْحُ لِلْعَامَيْنِ وَنَحْوَهُمَا ؟ لِأَنَّهُمَا مُهَادَنَةٌ ، وَلَوْ كَانَ دَائِمًا أَوْ لِمُدَّةٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الصُّلْحِ مِثْلُ مَا لِآبَائِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ فَرَاعَى مَالِكٌ اعْتِقَادَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ ، كَمَا رَاعَى اعْتِقَادَهُمْ فِي الطَّعَامِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا مَعَ بَطَارِقَتِهِمْ يَعْنِي بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ جَازَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ عَامَلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِرِبًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالَهُ حَلَالٌ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أُخِذَ جَازَ
قُلْنَا : إنَّ مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ بِوَجْهٍ جَائِزٍ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَلَّةٍ وَسَرِقَةٍ فِي سَرِيَّةٍ ، فَأَمَّا إذَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَ وَدَخَلَ دَارَهُمْ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفِيَ بِأَلَّا يَخُونَ عَهْدَهُمْ ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِمَالِهِمْ ، وَلَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِهِمْ ؛ فَإِنْ جَوَّزَ الْقَوْمُ الرِّبَا فَالشَّرْعُ لَا يُجَوِّزُهُ .
فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ : إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُسْلِمُ مُخَاطَبٌ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ لَمَّا قَالَ : إنَّ مَنْ زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَرْبِيَّةٍ لَمْ يَحُدَّ أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ
وَهُوَ جَهْلٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
وَمَأْخَذِ الْأَدِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؛ فَلَا يُبَاحُ الْوَطْءُ إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا حَدَّ فِيهَا ، نَازَعَ بِذَلِكَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مَعَهُ ؛ فَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَا تستنزلنكم الْغَفْلَةُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .
------------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 4 / ص 310)(1/110)
إن كان متعلق قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155] محذوفا على أحد الوجهين المتقدمين كان قوله {فبظلم} مفرعا على مجموع جرائمهم السالفة. فيكون المراد بظلمهم ظلما آخر غير ما عدد من قبل، وإن كان قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155] متعلقا بقوله {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} فقوله {فبظلم} الخ بدل مطابق من جملة {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل. وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلقه بقوله {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} إذ بعد ما بينه وبين متعلقه، وهو قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] ليقوى ارتباط الكلام. وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه: لأن نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتانا، وقولهم قتلنا عيسى: كل ذلك ظلم. فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدم، كأنه قيل: فبذلك كله حرمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنه أحسن تفننا، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة. وقد مر بيان ذلك قريبا عند قوله تعالى {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155]. ويجوز أن يكون ظلما آخر أجمله القرآن.
وتنكير ظلم للتعظيم، والعدول عن أن يقول فبظلمهم، حتى تأتي الضمائر متتابعة من قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ} إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو {الَّذِينَ هَادُوا} لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها: وهي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155]. ولأن في الموصول وصلته ما يقتضي التنزه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا إنا هدنا إليك؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محل استغراب.
والآية اقتضت: أن تحريم ما حرم عليهم إنما كان عقابا لهم، وأن تلك المحرمات ليس فيها من المفاسد ما يقتضي تحريم تناولها، وإلا لحرمت عليهم من أول مجيء الشريعة. وقد قيل: إن المراد بهذه الطيبات هو ما ذكر في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} إلى قوله {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} في سورة الأنعام [146]، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.
نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبار أنه قال نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأن التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر: والجواب أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم.
وهذا الجواب مصادرة على أن مما يقوي الإشكال أن العقوبة حقها أن تخص بالمجرمين ثم تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب: إما أن يكون سبب تحريم تلك الطيبات أن ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوة صار ذلك طبعا في أمزجتهم فاقتضى أن يلطف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لما جاءهم عيسى أحل الله لهم بعض ما حرم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإما أن يكون تحريم ما حرم عليهم عقابا للذين ظلموا وبغوا ثم بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذكرى ويكون للأولين سوء ذكر من باب قوله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" . ذلك لأنه أول من سن القتل. وإما لأن هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نية الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النية في الترك.
وصدهم عن سبيل الله: إن كان مصدر صد القاصر الذي مضارعه يصد بكسر الصاد فالمعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدي الذي قياس مضارعه بضم الصاد، فلعلهم كانوا يصدون الناس عن التقوى، ويقولون: سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرم عليهم بعض الطيبات. أما بعد موسى فقد صدوا الناس كثيرا، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وسولوا لكثير من الناس، جهرا أو نفاقا، البقاء على الجاهلية، كما تقدم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] الآيات. ولذلك وصف ب {كثيرا} حالا منه.
وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائيليين كما في الإصحاح من سفر التثنية لا تقرض أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا.
والربا محرم عليهم بنص التوراة في سفر الخروج في الإصحاح إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا. وأكلهم أموال الناس بالباطل أعم من الربا فيشمل الرشوة المحرمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك.
===================
الربا لا يربو عند الله
قال تعالى : { فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) [الروم/38، 39] }
قال ابن كثير(1) :
قال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } أي: من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم، فهذا لا ثواب له عند الله -بهذا فسره ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والشعبي -وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك، واستدل بقوله: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6] أي: لا تعط العطاء تريد أكثر منه.
وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح يعني: ربا البيع؟ وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها. ثم تلا هذه الآية: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } .
وإنما الثواب عند الله في الزكاة؛ ولهذا قال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء، كما [جاء] في الصحيح: "وما تصدق أحد بِعَدْل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُد" .
-----------------
وقال السعدي (2):
أي: فأعط القريب منك -على حسب قربه وحاجته- حقه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه من النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسلام والإكرام والعفو عن زلته والمسامحة عن هفوته. وكذلك [آت] المسكين الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه وسقيه وكسوته.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 318)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 642)(1/111)
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة، لأنه لا مال معه ولا كسب قد دبر نفسه به [في] سفره، بخلاف الذي في بلده، فإنه وإن لم يكن له مال ولكن لا بد -في الغالب- أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته، ولهذا جعل اللّه في الزكاة حصة للمسكين وابن السبيل. { ذَلِكَ } أي: إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل { خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ } بذلك العمل { وَجْه اللَّهِ } أي: خير غزير وثواب كثير لأنه من أفضل الأعمال الصالحة والنفع المتعدي الذي وافق محله المقرون به الإخلاص.
فإن لم يرد به وجه اللّه لم يكن خيرا لِلْمُعْطِي وإن كان خيرا ونفعا لِلْمُعْطى كما قال تعالى: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } مفهومها أن هذه المثبتات خير لنفعها المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما.
وقوله: { وَأُولَئِكَ } الذين عملوا هذه الأعمال وغيرها لوجه اللّه { هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بثواب اللّه الناجون من عقابه.
ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [من النفقات] ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُو فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي: ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم وقصدكم بذلك أن يربو أي: يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر منها، فهذا العمل لا يربو أجره عند اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو الإخلاص. ومثل ذلك العمل الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله لا يربو عند اللّه.
{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ } أي: مال يطهركم من الأخلاق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد في دفع حاجة الْمُعْطَى. { تُرِيدُونَ } بذلك { وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي: المضاعف لهم الأجر الذين تربو نفقاتهم عند اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا.[ ص 643 ]
ودل قوله: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ } أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى في الذي يمدح: { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة وهو: أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي.
-----------------
وقال الجصاص (1):
قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } هُوَ الرَّجُلُ يَهَبُ الشَّيْءَ يُرِيدُ أَنْ يُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُؤْجَرُ صَاحِبُهُ فِيهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي لِيُثَابَ عَلَيْهِ وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } قَالَ : الرِّبَا ربوان فَرِبَا حَلَالٌ وَرِبًا حَرَامٌ فَأَمَّا الرِّبَا الْحَلَالُ فَهُوَ الَّذِي يُهْدَى يُلْتَمَسُ بِهِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَرَوَى زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُسَافِرُ مَعَ الرَّجُلِ فَيَخِفُّ لَهُ وَيَخْدُمُهُ فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ لِيَجْزِيَهُ بِذَلِكَ .
وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ الضَّحَّاكِ { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } قَالَ هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ الرَّجُلُ يُهْدِي لِيُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قَالَ لَا تُعْطِ لِتَزْدَادَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } لَا تَسْتَكْثِرْ عَمَلَك فَتَمُنَّ بِهِ عَلَى رَبِّك
-------------------
وقال ابن العربي (2):
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَ الشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا ، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا مَنْ يَصِلُ قَرَابَتَهُ لِيَكُونَ غَنِيًّا فَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لِيَتَظَاهَرَ بِهِ دُنْيَا فَلَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ الرَّجُلَ بِخِدْمَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ لِلدُّنْيَا لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْبِي لَيْسَ لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَرْبُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَصَرِيحُ الْآيَةِ فِيمَنْ يَهَبُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُكَافَأَةِ ، وَذَلِكَ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا " .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْهِبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ أَوْ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 8 / ص 268)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 279)(1/112)
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ الْهِبَةَ لَا يَطْلُبُ إلَّا الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا ، وَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوَدَّةُ تَبَعًا لِلْهِبَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَابَ عَلَى لَقْحَةٍ } ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى صَاحِبِهَا حِينَ طَلَبَ الثَّوَابَ ، إنَّمَا أَنْكَرَ سَخَطَهُ لِلثَّوَابِ ، وَكَانَ زَائِدًا عَلَى الْقِيمَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَائِمَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ ، فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ ، أَوْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } أَيْ لَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
---------------------
وفي التفسير الوسيط (1):
الربا : الزايدة مطلقا . يقال : ربا الشئ يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } أى : زادت .
قال الآلوسى ما ملخصه : والظاهر أن المراد بالبر هنا ، الزيادة المعروفة فى المعاملة التى حرمها الشارع . ويشهد لذلك ما روى عن السدى ، من أن الآية نزلت فى ربا ثقيف ، كانوا يرابون ، وكذلك كانت قريش تتعاطى الربا .
وعن ابن عباس وغيره : أن المراد به هنا العطية التى يتوقع بها مزيد مكافأة ، وعليه فتسميتها ربا مجاز ، لأنها سبب للزيادة . ويبدو لنا أن المراد هنا ، الربا الذى حرمه الله - تعالى - بعد ذلك تحريما قاطعا ، وأن المقصود من الآية التنفير منه على سبيل التدرج ، حتى إذا جاء التحريم النهائى له ، تقبلته نفوس الناس بدون مفاجأة لهذا التحريم .
قال صاحب الكشاف : هذه الآية فى معنى قوله - تعالى - { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } سواء بسواء . يريد : وما أعطيتم أكلة الربا { مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي } أموالهم ، أى : ليزيد ويزكو فى أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه .
ثم حض - سبحانه - على التصدق فى سبيله فقال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ } أى من صدقة تتقربون بها إلى الله ، و { تُرِيدُونَ } بأدائها { وَجْهَ الله } أى : رضاه وثوابه . { فأولئك } الذين يفعلون ذلك { هُمُ المضعفون } أى : ذوو الأضعاف المضاعفة من الثواب والعطا الكريم ، فالمضعفون جمع مضعف - بكسر العين - على أنه اسم فاعل من أضعف ، إذا صار ضِعْف - بكسر فسكون - كأقوى وأيسر ، إذا صار ذا قوة ويسار .
وقال - سبحانه - : { فأولئك هُمُ المضعفون } ولم يقل : فأنتم المضعفون ، لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة ، كأنه قال لملائكته : فأولئك الذين يريدون وجهى بصدقاتهم ، هم المضعفون ، فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون .
--------------------
وفي الظلال (2):
إذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه ; وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ; فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح . لا كما يظنون هم , بل كما يهديهم الله:
فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل . ذلك خير للذين يريدون وجه الله ; وأولئك هم المفلحون . وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ; و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون . .
وما دام المال مال الله , أعطاه رزقا لبعض عباده , فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده , يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال . ومن ثم سماها حقا . ويذكر هنا من هذه الفئات (ذا القربى والمسكين وابن السبيل) . ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا . ولكن المبدأ كان قد تقرر . مبدأ أن المال مال الله , بما أنه هو الرازق به , وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي , يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال . . . وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال . وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام . فما دام المال مال الله , فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول , سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته , أو في طريقة إنفاقه . وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء .
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح . وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون) . .
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس , كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) . .
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال:إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ; وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا , وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
-----------------
وقال الطاهر بن عاشور(3) :
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لذوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضى الله تعالى به وكان الربا فاشيا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خلة، وشأن المقرض أنه ذو جدة فمعاملته المقترض منه بالربا افتراص لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {مَا} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجه الله الذين كانوا يقرضون بالربا قبل تحريمه.
ومعنى {آتَيْتُمْ} : آتى بعضكم بعضا لأن الإيتاء يقتضي معطيا وآخذا.
وقوله: {لِترْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} خطاب للفريق الآخذ.
__________
(1) - - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3344)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 372)
(3) - التحرير والتنوير - (ج 21 / ص 60)(1/113)
و {لِترْبُوَ} لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالا على أموالكم. وقوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} {فِي} للظرفية المجازية بمعنى "من" الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحا تحصل لكم من أموال الناس، فحرف {فِي} هنا كالذي في قول سبرة الفقعسي:
نحابي أكفاءنا ونهينها ونشرب في أثمانها ونقامر
أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ رِباً} وقوله: {مِنْ زَكَاةٍ} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة.
وقوله: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} جواب الشرط. ومعنى {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} أنه عمل ناقص عند الله غير ذاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير.
وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276], ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً} في سورة آل عمران [130]. وهذا المعنى مروي عن السدي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى {فِي} من قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
ويجوز أن يكون لفظ {رِباً} في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصد الزيادة في أموالهم تقربا إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والملق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئا وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى: وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة {لِترْبُوَ} توكيدا لفظيا ليعلق به قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} الخ رجوع إلى قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حقه} [الروم: 38] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة.
وجملة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} جواب {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} ، أي فمؤتوه المضعفون، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب. وضمير الفصل جنس المضعفين على هؤلاء، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دنيوي زائل. واسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح. واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة.
وقرأ الجمهور {ءاتَيْتُمْ} بهمزتين، أي أعطيتم. وقرأه ابن كثير {آتَيْتُمْ} بهمزة واحدة، أي قصدتم، أي فعلتم. وقرأ الجمهور {لِيَرْبُوَ} بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو {لِيَرْبُوَ} . وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو الجماعة بالاتفاق، ورسم المصحف سنة، وقرأ نافع {لُتوبوا} بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة.
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
النهي عن الربا في السنة النبوية
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ
قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالَا نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالَا إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ (1)
__________
(1) - صحيح البخاري برقم(1297 )
شرح ابن بطال - (ج 5 / ص 417)
قال بعض العلماء: جهل قوم معنى الفطرة فى هذا الحديث، وقالوا: إنها الإسلام، فتأولوا فى قوله: {فطرت الله التى فطر الناس عليها} [الروم: 30] يعنى دين الإسلام، روى هذا عن أبى هريرة وعكرمة، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والزهرى، وقال جماعة من العلماء وأهل اللغة: الفطرة فى هذا الحديث: الخلقة التى خلق عليها المولود المضطرة إلى الإفداء يريد كأنه قال - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التى لا تصل بخلقتها إلى معرفة، واحتجوا على أن الفطرة: الخلقة بقوله تعالى: {فاطر السموات والأرض} [الأنعام: 14] يعنى خالقهن، وبقوله: {وما لى لا أعبد الذى فطرنى} [يس: 22] أى خلقنى، وقال: المراد بقوله: {فطرت الله التى فطر الناس عليها} [الروم: 30] الخلقة، بدليل قوله: {لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] يعنى لا تبديل لخلقته عما خلقه عليه.
وقد ثبت عن الرسول قال: « لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه، وكلتا يديه يمين، ثم قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح الأخرى، وقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون » ، فلما صح عندنا هذا الحديث مع تصديق الله له بقوله: {وإذ أخذ ربك من بنى آدم} إلى {بلى} [الأعراف: 172] علمنا أن أخذه لهم من ظهر آدم إنما كان للإشهاد عليهم، وكان هذا الأخذ هو الاختراع الأول فى إخراجهم من العدم إلى الوجود، ثم ردهم فى ظهور آبائهم على ما جاء فى الخبر.
فبان أن هذه الفطرة هى الخلقة الأولى التى فطر الناس عليها لا تبديل لها، وقد جاء فى الأخبار أنه حين أشهدهم على أنفسهم أو جميعهم على أنفسهم بالعبودية ولله تعالى بالربوبية، لكنه كان إقرار أصحاب اليمين بألسنتهم، وقلوبهم ليتم علم الله بهم، ومراده فيهم، وإقرار الآخرين بألسنتهم دون قلوبهم خذلانًا من الله ليتم مراده، وعلمه فيهم أنهم من أهل النار.
فإذا صاروا فى بطون أمهاتهم ظهر فيهم بعض علم الله السابق فيسأل الملكُ الله عن خلقه: الأنثى والذكر، والسعادة والشقاوة، والرزق والأجل، فيكتب ذلك فى بطن أمه، فبان أن الفطرة التى يولد عليها هى الخلقة الأولى التى سبقت له، التى لا يجوز تبديلها، فإن كان فى الفطرة الأولى مؤمنًا ولد مؤمنًا، وإن كان فيها كافرًا ولد كافرًا على ما سبق له فى علم الله، يصدق ذلك قوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] لكن لا يظهر عليه شىء من ذلك فى حال ولادته، وإنما يظهر عليه إذا ظهر عمله بالقول والجوارح.
فإن قيل: فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « فأبواه يهودانه، أو ينصرانه... » الحديث، فينبغى أن يكون سالمًا من اليهودية، أو النصرانية حين تلده أمه، ألا ترى قوله: « كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل ترى فيها جدعاء » .
قيل له: فى قوله: « كل مولود يولد على الفطرة » بيان أن الفطرة الإيمان العام، وإنما فيه أنه يولد على تلك الخلقة التى لم يظهر منها إيمان ولا كفر، لكن لما حملهم آباؤهم على دينهم ظهر منهم ما حملوهم عليه من يهودية أو نصرانية، ثم أراد الله إمضاء ما علمه وقدره فى كل واحد منهم بما أجرى له فى بُدِّ الأمر من كفر، أو إيمان، ختم لهم به.
يدل على ذلك حديث ابن مسعود أن النبى، - صلى الله عليه وسلم - ، قال: « إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب الأول فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » . وقال فى أهل النار مثل ذلك.
فبان أن الكتاب الأول هو المعمول عليه الذى لا يجوز تبديله، ولو كانت الفطرة: الإسلام لما جاز أن يكون أحدٌ كافرًا لقوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] لأنه لا يجوز أن يكفر من خلقه الله للإيمان.
وقد اختلف العلماء فى أطفال المشركين، فقال أكثرهم: هم فى المشيئة، وتأولوا فى قوله تعالى: {إلا أصحاب اليمين} [المدثر: 39]، قال: هم أطفال المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الملائكة، وقال آخرون: حكم الأطفال حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، وهم مؤمنون بإيمانهم، وكافرون بكفرهم، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - فى أطفال المشركين يصابون فى الحرب: « هم من آبائهم » .
وقال آخرون: أولاد الكفار يمتحنون فى الآخرة.
وقال آخرون: أولاد المشركين فى الجنة مع أولاد المسلمين، واحتجوا بحديث سمرة ابن جندب، ذكره البخارى فى كتاب التعبير: « وأما الرجل الطويل الذى فى الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال بعض المسلمين: يا رسول الله، فأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين » . وهذه الحجة قاطعة، وهذه الرواية يفسرها ما جاء فى حديث هذا الباب أن الشيخ إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس، لأن هذا اللفظ يقتضى عمومه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار.
فإن قيل: فإذا صح هذا القول فى أطفال المشركين، فما معنى قوله: « الله أعلم بما كانوا عاملين؟ » وهذا يعارض حديث سمرة الذى بيَّن فيه حكمهم، أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين.
قيل: هذا يحتمل وجوهًا من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: « الله أعلم بما كانوا عاملين » ، قيل: أن يعلمه الله أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى.
ويحتمل قوله: « الله أعلم بما كانوا عاملين » أى على أى دين كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، فأما إذ عدم منهم العمل، فهم فى رحمة الله التى ينالها من لا ذنب له.
وقيل: قوله: « الله أعلم بما كانوا عاملين » مجمل يفسره قوله: {وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم} [الأعراف: 172] الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المشركين والمسلمين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر الإقرار أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره، لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، فسقطت المعارضة بين الآثار، فهذه الوجوه المحتملة.
وأما من قال: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] وإنما حكم لهم بحكمهم فى الدنيا لا فى أحكام الآخرة، أى أنهم إن أصيبوا فى التبييت والغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان فى الحرب.
وأما من قال: إنهم يمتحنون فى الآخرة، فهو قول لا يصح، لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآخرة دار جزاء ليست دار عمل وابتلاء.
وقوله: « كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء » مجتمعة الخلق صحيحة « هل تحس فيها من جدعاء » يقول: هل ترى فيها من جدع؟ أى نقصان حين تنتج، وإنما يصيبها الجدع والنقصان بعد ذلك، فكذلك يُهودُ هؤلاء أبناءهم وينصرونهم بعد أن كانوا على الفطرة كما أن المنتوج من الإبل لولا أن هؤلاء قطعوا أذنه لكان صحيحًا، وذلك كله بقدر الله.
وقوله: « بيده كلوب » والكلاب: خشبة فى رأسها عُقَّافَة، وقوله: « تدهده » يقال: دهدهت الحجر، ودهديته إذا دحرجته، أدهدهه وأدهديه دهدهة ودهاهًا ودهدًا.
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 222)
كل الربا من الكبائر، متوعد عليه بمحاربة الله ورسوله، وبما ذكره فى الحديث، وأما شاهداه وكاتبه، فإنما ذكروا مع آكله، لأن كل من أعان على معصية الله - تعالى - فهو شريك فى إثمها بقدر سعيه وعمله إذا علمه، وكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز، والشاهدين ألا يشهدا على جواز ما حرم الله رسوله إذا علموا ذلك، فكل واحد منهما له حظه من الإثم، ألا ترى أن النبى لم يشهد لأبى النعمان بن بشير حين تبين له إيثاره للنعمان وقال: « لا أشهد على جور » وقد روى معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، أن النبى - عليه السلام قال: « لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه » فسوى بينهم فى الإثم، ولهذا الحديث ترجم البخارى بهذه الترجمة.
ومعنى قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا} يعنى فى الدنيا {لا يقومون} فى الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجانين.
والمس: الجنون، وعن مجاهد وقتادة وغيرهم قالوا: يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: {يخرجون من الأجداث سراعًا} إلا أكلة الربا، فإن الربا يربو فى بطونهم، فيقومون ويسقطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون، وقال ابن جبير: يبعث أحدهم حين يبعث ومعه شيطان يخنقه.
والمراد فى هذه الآية بالأكل من أخذ الربا، أكله أم لم يأكله، ودخل فى معناه كل ما شابهه فى البيوع والدين وغير ذلك مما بينته السنة، كقرض جر منفعة وشبهه.(1/114)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا (1)
وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ وَنَهَى عَنْ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ ».(3)
__________
(1) - صحيح البخاري برقم(1943 )
(2) - صحيح البخاري برقم(1944 )
سوى النبى - عليه السلام - بين آكل الربا وموكله فى النهى، تعظيمًا لإثمه كما سوى بين الراشى والمرشى فى الإثم، وموكل الربا هو معطيه، وآكله هو آخذه، وأمر الله عباده بتركه والتوبة منه بقوله: {اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله} وتوعد تعالى من لم يتب منه بمحاربة الله ورسوله وليس فى جميع المعاصى ما عقوبتها محاربة الله ورسوله غير الربا، فحق على كل مؤمن أن يجتنبه، ولا يتعرض لما لا طاقة له به من محاربة الله ورسوله، ألا ترى فهم عائشة هذا المعنى حيث قالت للمرأة التى قالت لها: بعت من زيد من أرقم جارية إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، أبلغى زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب. ولم تقل لها: إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن من جاهد فى سبيل الله فقد حارب عن الله، ومن فعل ذلك ثم استباح الربا، فقد استحق محاربة الله، ومن أربى فقد أبطل حربه عن الله، فكانت عقوبته من جنس ذنبه قال المهلب: هذه الأشياء المنهى عنها فى الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على سبيل التنزه مثل: كسب الحجام، وثمن الكلب، وهو مكروه غير محروم، وإنما كره للضعة والسقوط فى بيعه، ومنها حرام بين مثل الربا، وإنما اشترى أبو جحيفة العبد الحجام، ثم قال: نهى النبى عن ثمن الدم ليحجمه ويخلص من إعطاء الحجام أجر حجامته خشية أن يواقع نهى النبى عن ثمن الدم على ما تأوله فى الحديث، وقد جاء هذا بينا فى باب: ثمن الكلب بعد هذا، قال عون ابن أبى جحيفة: « رأيت أبى اشترى حجامًا، فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك، فقال: « إن رسول الله نهى عن ثمن الدم » وإنما فعل ذلك على سبيل التورع والتنزه، وسيأتى القول فى كسب الحجام بعد هذا - إن شاء الله.
(3) - صحيح مسلم برقم( 272 )
شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 192)
( الْمُوبِقَات ) فَهِيَ الْمُهْلِكَات يُقَال : ( وَبَقَ الرَّجُل ) بِفَتْحِ الْبَاء ( وَيَبِقَ ) بِكَسْرِهَا ، وَ ( وُبِقَ ) بِضَمِّ الْوَاو وَكَسْر الْبَاء ( يُوبِق ) : إِذَا هَلَكَ . وَ ( أَوْبَقَ ) غَيْره أَيْ أَهْلَكَهُ .
وَأَمَّا ( الْمُحْصَنَات الْغَافِلَات ) فَبِكَسْرِ الصَّاد وَفَتْحهَا قِرَاءَتَانِ فِي السَّبْع : قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْكَسْرِ ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ ، وَالْمُرَاد بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْعَفَائِف ، وَبِالْغَافِلَاتِ الْغَافِلَات عَنْ الْفَوَاحِش ، وَمَا قُذِفْنَ بِهِ . وَقَدْ وَرَدَ الْإِحْصَان فِي الشَّرْع عَلَى خَمْسَة أَقْسَام : الْعِفَّة ، وَالْإِسْلَام ، وَالنِّكَاح ، وَالتَّزْوِيج ، وَالْحُرِّيَّة . وَقَدْ بَيَّنْت مَوَاطِنه وَشَرَائِطه وَشَوَاهِده فِي كِتَاب تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَلِّي يَوْم الزَّحْف مِنْ الْكَبَائِر فَدَلِيل صَرِيح لِمَذْهَبِ الْعُلَمَاء كَافَّة فِي كَوْنِهِ كَبِيرَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ هُوَ مِنْ الْكَبَائِر . قَالَ : وَالْآيَة الْكَرِيمَة فِي ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي أَهْل بَدْرٍ خَاصَّةً . وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير أَنَّهُ عَامٌّ بَاقٍ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّحْر مِنْ الْكَبَائِر فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا الصَّحِيح الْمَشْهُور . وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّ السِّحْر حَرَام مِنْ الْكَبَائِر فِعْله وَتَعَلُّمه وَتَعْلِيمه . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّ تَعَلُّمه لَيْسَ بِحَرَامٍ ، بَلْ يَجُوز لِيُعْرَف وَيُرَدّ عَلَى صَاحِبه وَيُمَيَّز عَنْ الْكَرَامَة لِلْأَوْلِيَاءِ : وَهَذَا الْقَائِلُ يُمْكِنهُ أَنْ يَحْمِل الْحَدِيث عَلَى فِعْل السِّحْر . وَاَللَّه أَعْلَم
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 494)
قدم الكلام على أول هذا الحديث وعلى قوله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وذكرنا أن النفوس المحرمة أربعة أنواع المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن وأنه لا يجوز قتل واحد منهم إلا بالحق وتكلمنا أيضا عن العهد بين المسلمين وبين الكفار وبينا أنه جائز إذا دعت الحاجة إليه أو المصلحة وأن العلماء اختلفوا رحمهم الله هل يجوز العهد أكثر من عشر سنوات أو لا وهل يجوز العهد المطلق أو لا وذكرنا أنه أي العهد ثلاثة أقسام: عهد مؤبد وهذا لا يجوز وعهد مطلق وهذا جائز على القول الراجح وعهد مؤقت وهذا جائز ثم اختلف القائلون به هل يجوز أن يزيد على عشر سنوات أو لا والصحيح أنه جائز لأنه للحاجة ثم قال وأكل الربا أكل الربا أيضا من الموبقات قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد ورد من الوعيد على أكل الربا ما لم يرد مثله على أي ذنب سوى الشرك فهو عظيم والعياذ بالله حتى إن الله قال في كتابه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون فبين الله عز وجل أنه إذا لم يترك الإنسان الربا فإنه معلن للحرب على الله ورسوله { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وأنه إذا تاب فإنه يحرم عليه أن يأخذ أكثر من ماله { فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } وقد استحسن بعض الناس بعقولهم استحسانا مخالفا لشرع الله عز وجل فقالوا إن الإنسان إذا أودع بل إذا جعل أمواله عند أهل الربا فإنه يجوز أن يأخذ الربا ثم يتصدق به تخلصا منه وهذا القول مخالف للقرآن الكريم لأن الله عز وجل يقول { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } يقولون في وجه استحسانهم إننا لو تركناه للبنوك لكانوا يستعينون به على بناء الكنائس وإعانة الكفار على قتال المسلمين وما أشبه ذلك من الأقوال التي يصادمون بها النص ونقول لهم أولا إن هذا الربح ليس داخلا في ملكه حتى نقول إنه تبرع للبنك به فهو من الأصل لم يدخل في ملكه ماله الذي أودعه عند البنك ربما يشتري به الحاجات أو يدخل في مشروعات ويخسر فهذه الزيادة ليست نماء ملكه بل هي زيادة محضة يسلمها البنك لمن أعطى هذا المال وثانيا من يقول إنهم يستعينون بها يجعلونها في الكنائس والأسلحة ضد المسلمين من قال هذا وثالثا أننا لو قلنا بذلك فهل إذا أخذنا منهم سوف يمسكون عن قتال المسلمين وعن إضلالهم عن دينهم رابعا إذا قلنا بذلك ثم قلنا خذها وتصدق بها فمعنى ذلك أننا قلنا له تلطخ بالنجاسة ثم حاول أن تغسل يدك منها إذا ما الفائدة أن تأخذها ثم تتصدق بها لا فائدة اتركها من الأصل تسلم منها ثم إننا إذا قلنا بذلك فأخذها الإنسان فهل يضمن لنفسه أن يقوي نفسه على التصدق بها ولا سيما إذا كانت كثيرة قد يأخذها بهذه النية ثم تغلبه نفسه فلا يتصدق بها ويأكلها سواء حصل ذلك في أول مرة أو في ثاني مرة أو في ثالث مرة وأيضا إذا قلنا خذها وتصدق بها فأخذها أمام الناس فمن الذي يعلم الناس أنه تصدق بها الناس لا يدرون وربما اتخذوا من فعله هذا قدوة وفعلوا مثل فعله وأكلوا الربا وأيضا فإننا إذا قلنا بذلك استمرينا الدخول في الربا وسهل علينا وصرنا نأخذه لكن إذا قلنا بالمنع سلمنا من الربا من وجه واضطررنا إلى أن نجد سبيلا إلى معاملات شرعية لا تخالف الدين بإنشاء البنوك الإسلامية التي ليست فيها ربا والمهم أن أول شيء نرد به على هذا القول المستحسن وليس بحسن هو أنه مصادم للنص { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } ولا استحسان للعقول مع وجود النص وكل شيء تستحسنه بعقلك وهو مخالف للنص فهو ليس بحسن بل هو سيئ وعاقبته سيئة ولا تنظر إلى الشيء المستعجل انظر إلى العاقبة والعاقبة في كل ما خالف الشرع لا شك أنها عاقبة سيئة لأن الله يقول { إن العاقبة للمتقين } وهذا يدل على أنه من ليس بمتقي فليس له عاقبة محمودة ولا حسنة ولا يغرنك التحسين المبني على الوهم عليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تتجاوزهما إن شئت البركة والخير وأن ينمو جسدك على طاعة الله عز وجل المهم أن أكل الربا من الموبقات والربا يكون في أصناف ستة بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد وغالب الربا الآن بين الناس النوعان الأولان الذهب والفضة لأن الأطعمة التبادل فيها قليل والربا فيها أيضا قليل لكن الأكثر في الأموال والعلماء رحمهم الله لما ظهرت هذه الأوراق النقدية التي هي بدل عن الذهب والفضة اختلفوا فيها اختلافا عظيما حتى بلغ الخلاف إلى أكثر من ستة أقوال كل يقول برأي وأقرب الأقوال فيها أنه يجوز فيها ربا الفضل ولا يجوز ربا النسيئة بمعنى أنه يجوز فيها ربا الفضل دون ربا النسيئة إذا اختلفت الأجناس وعلى ذلك فيجوز أن أعطيك عشرة ريالات بالورق وأخذ منك تسعة ريالات بالحديد وما أشبه ذلك لأن الصفة مختلفة وقد جاء في الحديث إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم والقيمة وإن كانت متفقة حسب النظام وتقرير الحكومة لكن الكلام على الحقيقة الذاتية نجد أن الحديد يختلف عن القرطاس حتى في القيمة يختلف يعني لو فرضنا أن قطعة من حديد وورقة من الشارع أردت أن تساوي بينهما لم يكن بينهما سواء بل بينهما فرق فالجنس مختلف والقيمة مختلفة ولولا أن الحكومة جعلت هذه بمنزلة هذه في القيمة فما صارت مساوية لها في القيمة وعلى هذا تكون داخلة تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ثم إن الربا أصناف كثيرة بعضها أقبح من بعض أعظمه وأشده هو أن يأكل الربا أضعافا مضاعفة بحيث إذا حل الدين على الفقير وليس عنده مال يقول له أنذرك لمدة سنة وأزيدك أزيد الدين عليك مثل أن يحل دينه وهو عشر آلاف وليس عنده شيء فيقول أنذرك إلى سنة ونجعله أحد عشر ألفا هذا حرام ولا يجوز سواء جعل ذلك صريحا أو بحيلة بأن قال اشتر مني السلعة بأحد عشر ألفا وبعها علي بعشرة آلاف حتى يكون في ذمته إحد عشر ألفا يتحيل على محارم الله والعياذ بالله والحيلة على محارم الله أقبح من إتيان المحرم صريحا ولهذا تجد الذين يتحيلون على الربا ينطبق عليهم قول الله تعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } فإذا هذه الآية فيها للعلماء قولان الأول أنهم يقومون لأكل الربا وأخذه كالمجانين يعني في تصرفهم في الدنيا يتصرف تصرف المجنون الطائش يريد هذا المكسب الحرام نجد هؤلاء الذي يتحيلون على الربا يتصرفون تصرف المجانين بكل لهف وبكل شغف وبكل وسيلة وفي كل يوم لهم حيلة والقول الثاني في الآية أنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة كالذي يقوم مصروعا من الجن نسأل الله العافية أمام العالم وشاهد ومشهود فعلى كل حال الربا محرم سواء كان صريحا أو كان عن طريق المكر والخداع وما كان عن طريق المكر والخداع فهو أشد إثما وأقرب إلى قسوة القلب والعياذ بالله { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ولهذا تجدهم يفعلون هذه الحيل ويرون أنها حلال وأنه لا بأس بها ولا يكادون يقلعون عنها لكن من فعل المحرم على وجهه الصريح خجل من الله وعرف أنه في معصية وربما ييسر الله له الأمر ويمن عليه بالتوبة وأكل مال اليتيم أيضا من الموبقات واليتيم هو الذي مات أبوه قبل بلوغه واليتيم مسكين بمعنى أنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه فيأتي من يسلط على ماله ويأكله هذا أيضا من الموبقات والتولي يوم الزحف يعني القتال مع الكفار إذا تقابل المسلمون والكفار فإن المتولي يكون قد فعل موبقا من موبقات الذنوب والعياذ بالله إلا فيما ذكر الله عز وجل { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات يعني أن يرمي الإنسان المرأة الغافلة المؤمنة بالزنا فيقول إنها زنت هذا أيضا من موبقات الذنوب ومثلها أيضا الرجل المحصن قذفه من كبائر الذنوب والله الموفق(1/115)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ. قَالَ قُلْتُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ قَالَ إِنَّمَا نُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْنَا.(1)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ.(2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(4176 )
عون المعبود - (ج 7 / ص 316)
2895 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( آكِل الرِّبَا )
: أَيْ آخُذهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُل ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ أَعْظَم أَنْوَاع الِانْتِفَاع
( وَمُؤْكِله )
: بِهَمْزٍ وَيُبْدَل أَيْ مُعْطِيه لِمَنْ يَأْخُذهُ
( وَشَاهِده وَكَاتِبه )
: قَالَ النَّوَوِيّ : فِيهِ تَصْرِيح بِتَحْرِيمِ كِتَابَة الْمُتَرَابِيَيْن وَالشَّهَادَة عَلَيْهِمَا ، وَبِتَحْرِيمِ الْإِعَانَة عَلَى الْبَاطِل .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَسَن صَحِيح وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه بِتَمَامِهِ ، وَمِنْ حَدِيث عَلْقَمَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي أَكْل الرِّبَا وَمُوكِله فَقَطْ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَعَنْ ثَمَن الدَّم ، وَنَهَى عَنْ الْوَاشِمَة وَالْمَوْشُومَة ، وَأَكْلِ الرِّبَا وَمُوكِله ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّر .
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 298)
1127 - قَوْلُهُ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا )
أَيْ آخِذَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ إِنَّمَا خُصَّ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } .
( وَمُؤْكِلَهُ )
بِهَمْزٍ وَيُبَدَّلُ أَيْ مُعْطِيهِ لِمَنْ يَأْخُذُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْأَغْلَبُ أَوْ الْأَعْظَمُ كَمَا تَقَدَّمَ
( وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ )
وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ وَزَادَ هُمْ سَوَاءٌ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ كِتَابَةِ الْمُبَايَعَةِ بَيْنَ الْمُتَرَابِيَيْنِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَفِيهِ تَحْرِيمُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاطِلِ اِنْتَهَى . وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ : آكِلُ الرِّبَا ومؤكله وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ )
أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ
( وَعَلِيِّ )
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
( وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ . وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : حَرَّمَ ثَمَنَ الدَّمِ وَثَمَنَ الْكَلْبِ وَكَسْبَ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا ومؤكله إِلَخْ .
قَوْلُهُ : ( حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ .
(2) - صحيح مسلم برقم(4177 )
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 11 / ص 372)
7275 - (لعن اللّه آكل الربا وموكله وكاتبه ومانع الصدقة) أي الزكاة أخرج البيهقي عن سمرة كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم إذا صلى أقبل علينا بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا فقال: رأيت رجلين أتياني فأخذاني فخرجا بي إلى أرض مستوية أو فضاء فانطلقا إلى نهر من دم فيه رجال قيام ورجل قائم على الشط فيقبل أحدهم من النهر فإذا أراد الخروج رماه بحجر فرده فقلت: ما هذا ؟ قال: الذين يأكلون الربا.
شرح بلوغ المرام - (ج 197 / ص 2)
شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء ) رواه مسلم ، و للبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة ].
آكل هنا: اسم فاعل يختص بالذكور، وإذا كانت امرأة تأكل الربا، فهل معفو عنها أو هي داخلة؟ هذا أيضاً من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به المساوي له، فهي داخلة، (وموكله) وكذلك موكلته.
وآكل الربا هو الذي يأخذ الزيادة عن رأس المال، وموكله هو الذي يدفعه، فهو ما أكل، ولكن أطعم غيره، إذاً: عقد الربا فيه آكل وموكل، آخذ ودافع، وكلاهما داخل في هذا الوعيد واللعن.
قد يأتي إنسان ويقول: هناك أشياء اضطرارية، هذا أكل الربا اضطراراً، وهذا أكله بغير اضطرار، فالذنب على الذي أخذ، هذا بحث أشرنا إليه في أكل الرشوة وليس في الربا.
وقد أشرت سابقاً: أنه في مؤتمر ماليزيا الإسلامي عرض على المؤتمر طلب إباحة الربا للضرورة، وكانت قارعة، وأعان الله سبحانه وتعالى بأن قدم: أن الربا لا تدخله الضروريات البتة لا شرعاً ولا عقلاً، وكان النقاش حاداً فعلاً، حتى أعلن رئيس المؤتمر وهو رئيس الوزراء: أن نرجئ هذا القرار إلى مؤتمر آخر.
وكلكم تعلمون أنه مؤتمر عالمي، ستة وثلاثون دولة مسلمة مشتركة فيه، ويقدم قرار في لجنة ويدرس ويأتي إلى لجنة للتصويت، ثم يوقف هذا القرار بمناقشة تبطله، ويعلن رئيس المؤتمر بإرجائه، يعني ما نجح، وقام رجل مغربي رحمه الله إن مات، وجزاه الله خيراً إن كان حياً، وصاح على الجميع: أتريدون أن نحارب الله ورسوله؟! أجئنا من بلادنا لنعلن الحرب مع الله ورسوله في ماليزيا حتى تريدون أن نبيح الربا؟! إلى أمر يطول شرحه.
إذاً: الربا محرم بكل أنوعه وصنوفه، وهناك لفتة عجيبة جداً في (آكل وموكل)، قال الله عن اليهود: { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } [النساء:160-161]، وقال: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } [البقرة:275]، وفي حق اليهود قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا)، ما قال: وأكلهم، مما يدل على أن الربا كان في اليهود مهنة وليس من حاجة؛ لأن الذي يأكل الربا قد يكون محتاجاً، ولكن اليهود يأخذون، والأخذ أعم من مجرد الأكل، فهم يأخذونه كتجارة، يأخذونه كحرفة، وليس عن حاجة، ومن هنا -أيها الإخوة- لا تجد مرابياً فقيراً، الذين يرابون في أموال الناس هم الأغنياء، وما دمت غنياً ومغنيك الله فلماذا تنزلق في هذا الطريق الحرج؟! قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ولم يقل: وأكلهم، إذاً أخذهم للربا كان عن غنى، وليس عن فاقة وحاجة تدعو إلى الأكل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وكاتبه )، الكاتب الذي يكتب السند، كما قال الله: { إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [البقرة:282].
وقوله: ( وشاهديه )؛ لأن اثنين يشهدون على الكتابة كالعادة، كما قال الله: { وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ } [الطلاق:2]، وشاهده اسم جنس يشمل الواحد والاثنين والعشرة، وقيّد العلماء الشاهد والكاتب في اللعن إذا كانا عالمين بأنهما يكتبان ويشهدان على ربا.
أما إذا جاءوا إلى إنسان لا يعلم بذلك، وقالوا: اكتب: هذا له في ذمتي ألف، وما يدري ما سبب الألف، وترتبت على ماذا، فكتب: فلان له في ذمة فلان ألف، وشهد الشهود: نشهد باعتراف فلان بأن في ذمته لفلان ألفاً، فلا شيء عليه، لكن إذا كانوا يعلمون أنه أقرضه ثمانمائة والتزم له بدفع الألف، وكتب الألف على أنه أصل الدَين، وهو يعلم أن الأصل ثمانمائة، والمائتان ربا، فهو شريك.
وكما يقولون: وسامع الذم شريك لقائله إذا جلست في مجلس فيه من يغتاب إنسان وتسمعت، وتتبعت، وتسليت؛ فأنت شريك للمغتاب.
وسامع الذم شريك لقائله ومُطعم المأكول شريك للآكل لو كان طعام موجوداً في محل لزيد فجاء شخص وقال: والله! إني جائع، فإنسان فضولي رأى الأكل موجوداً فقال: خذ.
قال: هل هو حقك؟ قال: لا، ما هو حقي.
فالآكل يعلم أن الذي قدم له الطعام لا يملك هذا الطعام، والذي قدم الطعام يعلم أنه لا يملك هذا الطعام، فجاء صاحب الطعام.
فيغرم قيمة الطعام الذي أكل، والذي أعطاه ومطعم المأكول شريك الآكل؛ لأنه هو الذي سلطه عليه، وإن كان الآكل هو المتلف المباشر، لكن يضم المطعم في الغرامة؛ لأنه عن طريقه وصل إليه.
( وقال: هم سواء ) أي: هم سواء في الإثم، لا نقول: الآكل الذي أخذ الربا هو الآثم وحده، بل نقول: هؤلاء شركاء وسواء في الإثم.
شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم ) رواه ابن ماجة مختصراً، و الحاكم بتمامه وصححه ].
هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب.
إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب.
( وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم )، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة! وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا.
الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [البقرة:275]، وجاء الجواب: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة:275]، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين: إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: ( أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به ) .
وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً! إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.(1/116)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ ». قَالَ ابْنُ عِيسَى « أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ » (1).
سنن أبى داود - (ج 3 / ص 249)
3335 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سِمَاكٌ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ.
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا » (2)
__________
(1) -- سنن أبى داود برقم (3333 ) وفيه انقطاع
عون المعبود - (ج 7 / ص 314)
2893 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا ) : قَالَ الْقَارِيّ بِصِيغَةِ الْفَاعِل أَوْ الْمَاضِي ، وَالْمُسْتَثْنَى صِفَة لِأَحَدٍ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوف ، وَالتَّقْدِير وَلَا يَبْقَى أَحَد مِنْهُمْ لَهُ وَصْف إِلَّا وُصِفَ كَوْنه آكِل الرِّبَا فَهُوَ كِنَايَة عَنْ اِنْتِشَاره فِي النَّاس بِحَيْثُ إنَّهُ يَأْكُلهُ كُلّ أَحَد
( مِنْ بُخَاره ) : أَيْ يَصِل إِلَيْهِ أَثَره بِأَنْ يَكُون شَاهِدًا فِي عَقْد الرِّبَا أَوْ كَاتِبًا أَوْ آكِلًا مِنْ ضِيَافَة آكِلِه أَوْ هَدِيَّته وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدًا سَلِمَ مِنْ حَقِيقَته لَمْ يَسْلَم مِنْ آثَاره وَإِنْ قَلَّتْ جِدًّا . قَالَهُ الْقَارِيّ .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ ، وَالْحَسَن لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِي هُرَيْرَة فَهُوَ مُنْقَطِع .
(2) -- سنن أبى داود برقم( 3543 ) حديث حسن
عون المعبود - (ج 8 / ص 39)
3074 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( فَأَهْدَى ) : أَيْ أَخُوهُ وَالْمُرَاد مِنْ الْأُخُوَّة أُخُوَّة الْإِسْلَام
( لَهُ ) : أَيْ لِمَنْ شَفَعَ
( عَلَيْهَا ) : أَيْ عَلَى الشَّفَاعَة
( فَقَبِلَهَا ) : أَيْ الْهَدِيَّة
( فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا إِلَخْ ) : قَالَ فِي فَتْح الْوَدُود : وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفَاعَة الْحَسَنَة مَنْدُوب إِلَيْهَا ، وَقَدْ تَكُون وَاجِبَة ، فَأَخْذُ الْهَدِيَّة عَلَيْهَا يُضَيِّع أَجْرهَا كَمَا أَنَّ الرِّبَا يُضَيِّع الْحَلَال وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم اِنْتَهَى .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : الْقَاسِم هُوَ اِبْن عَبْد الرَّحْمَن أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْأُمَوِيّ مَوْلَاهُمْ الشَّامِيّ وَفِيهِ مَقَال .
شرح بلوغ المرام - (ج 201 / ص 2)
شرح حديث: (من شفع لأخيه شفاعة ...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا ) رواه أحمد و أبو داود ].
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديثاً فيه التقبيح والتنفير من أخذ الهدايا على خدمة الإنسان وفعل الخير، وخاصة في باب الشفاعة، وأصل الشفاعة من الشفع، والأساس في هذا أن الإنسان واحد فرد، فيأتي بشخص معه فيشفعه فيكونا شفعاً، وكما يقولون: العدد إما فرد وإما شفع، فالشفع ما قبل القسمة على اثنين بدون باق، والفرد: الأعداد الفردية أو الآحاد، وهي التي لا تقبل القسمة، مثل: الثلاثة الخمسة السبعة والإنسان وحده قد لا يستطيع أن يصل إلى حاجته عند من هي عنده، فينظر أقرب الناس إلى ذاك الشخص أو من لهم عليه سلطان أدبي أو اعتباري أو حقيقي، فيأتي إليه ويقول: أريد أن تشفع لي عند فلان، أي: تذهب معي بدلاً من أن أكون وحدي، فأكون أنا وأنت، فتشفع لي عنده في كذا وكذا، والشفاعة فضلها معروف عند الجميع: ( اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء ).
والشفاعة يوم القيامة يعطيها الله للأنبياء وللصلحاء وللعلماء، وقد يشفع الإنسان في جيرانه وأهل بيته، والطفل يشفع في أبويه، وأعطي صلى الله عليه وسلم سبعة أقسام من الشفاعة، وأهمها الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وذلك حينما يشتد الأمر على أهل الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس، فيقول بعضهم لبعض: ( ألا تنظرون من يشفع لنا عند ربنا ليأتي لفصل الخطاب؟ )، فيذهبون لآدم أبي البشر، فيعتذر بقوله: إني أكلت من الشجرة وقد نهيت عنها.
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتذر، والله أعلم بنوع العذر، يقول: كذبت كذبة: { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ } [الأنبياء:63].
ومن اللطائف أن شيخ القراء في المدينة الشيخ حسن الشاعر كان في محفل مجيء المحمل المصري للحج، فقرأ: { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ } [الأنبياء:62-63]، فقام بعض شيوخ القراءات فحمله وقبّله وكان غلاماً، فإنه وقف على قوله تعالى: (( قَالَ بَلْ فَعَلَهُ ))[الأنبياء:63] كأنه تصديق على قولهم: { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء:62] { بَلْ فَعَلَهُ } [الأنبياء:63] يعني: إبراهيم فعله، ثم استأنف كلاماً جديداً: { كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ } [الأنبياء:63] ، ويكون فيه تورية على أن الفاعل فعلاً هو إبراهيم، ولم تكن هناك كذبة، ولكن العلماء يذكرون هذه الكذبة في حديث الشفاعة، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله ويعتذر أيضاً بقوله: إني قتلت نفساً، اذهبوا إلى عيسى، ويعتذر عن الشفاعة، اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: ( أنا لها، أنا لها، أنا لها، ويذهب ويسجد تحت العرش، ويلهمه الله محامد لم يكن يعلمها في الدنيا )، وهي المنوه عنها في الحديث: ( بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك )، فمن تلك الأسماء الحسنى التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده يلهمها رسول الله في ذلك الوقت، فيحمده بها، ويسبحه بها، ويدعوه بها، حتى يستجاب له: ( ارفع رأسك، واشفع تشفع ) ، فيشفع في جميع الخلائق، فيغبطه على تلك الشفاعة الأولون والآخرون.
قوله: ( من شفع لأخيه ) يعني: مشى معه في حاجة إلى إنسان، سواء كان هذا الإنسان حاكماً أو غير حاكم، ومطلق حاجة الإنسان عند آخر لم يستطع أن يظفر بها وحده، فيبحث عن شخص له عنده وجاهة، ولا يرد له طلب، قد يكون بسبب إحسان إليه، وقد يكون مكرهاً، كما لو جاء إنسان يشفع لآخر، والشفيع هذا صاحب سلطة وقوة، والمشفوع عنده يخشاه، فإذا رد شفاعته يخشى أن يتسلط عليه، فيقضيها رغماً عنه، أو يكون الشفيع صديقاً محباً مثل زوجه أو ولده أو أبيه أو صديقه، فيكلمه فيه، ويقضي له حاجته من باب المودة والملاطفة والإحسان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية )، يعني: بعد الشفاعة، وتكون هذه الهدية كأنها مكافأة على شفاعته، فكأنه أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، لماذا؟ يقولون: تلك الشفاعة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون شفاعة في حق، وإما شفاعة في باطل، والشفاعة في الحق حق، ولا ينبغي أن تأخذ على الحق أجراً، فمن حق أخيك عليك أن تساعده، ولك أجر عند الله، وإن كانت الشفاعة في باطل فهي باطل، ولا يجوز لك أن تمشي فيها، فضلاً عن أن تأخذ عليها هدية، ومشابهة الهدية بالربا أن كلاً منهما مالٌ في غير مقابل، وقدمنا أن علماء الاقتصاد يقولون: الحياة تبنى على المعاوضة، فسلعة وثمنها متعادلة، ألف ريال قرضه، وألف ريال سداد؛ متعادلة، لكن ألف ريال قرضه وألف ومائة سداد؛ فالألف مقابل الألف، والمائة مقابل ماذا؟ هي زائدة عن الحق، فكذلك الهدية في شفاعته لأخيه زائدة، لماذا تأخذ هدية مقابل مشيك مع أخيك؟! فهذا تقبيح وتنفير من أخذ شيء على الشفاعة؛ لأن هذا إما حق لأخيك فعليك أن تؤديه إليه، وأجرك على الله، وإما باطل فيجب أن تبتعد عنه، بل وتنهاه عنه، لا أن تسعى معه وتأخذ هدية.(1/117)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ قَالَ يَهُودِىٌّ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِىِّ. فَقَالَ صَاحِبُهُ لاَ تَقُلْ نَبِىٌّ إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. فَقَالَ لَهُمْ « لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِىءٍ إِلَى ذِى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ وَلاَ تَسْحَرُوا وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِى السَّبْتِ ». قَالَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ فَقَالاَ نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِىٌّ. قَالَ « فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِى ». قَالُوا إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لاَ يَزَالَ فِى ذُرِّيَّتِهِ نَبِىٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ.(1)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم( 2952 )صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 39)
2657 - قَوْلُهُ : ( أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ )
هُوَ الْأَوْدِيُّ الْمَعَافِرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ
( وَأَبُو أُسَامَةَ )
هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْقُرَشِيُّ مَوْلَاهُمْ الْكُوفِيُّ
( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ )
بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُرَادِيِّ الْكُوفِيِّ تَنْبِيهٌ : قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ : سَلَمَةُ كُلُّهُ بِفَتْحِ اللَّامِ إِلَّا عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ إِمَامَ قَوْمِهِ وَبَنِي سَلِمَةَ الْقَبِيلَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ فَبِكَسْرِ اللَّامِ ، وَفِي عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ سَلَمَةَ الْوَجْهَانِ اِنْتَهَى .
قُلْت : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلِمَةَ هَذَا أَيْضًا بِكَسْرِ اللَّامِ كَمَا فِي التَّقْرِيبِ وَالْخُلَاصَةِ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ ) أَيْ مِنْ الْيَهُودِ
( اِذْهَبْ بِنَا ) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ التَّعْدِيَةِ
( إِلَى هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَيْ لِنَسْأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ
( فَقَالَ صَاحِبُهُ لَا تَقُلْ ) أَيْ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ
( نَبِيٌّ )أَيْ هُوَ نَبِيٌّ
( إِنَّهُ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اِسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ لِأَنَّهُ
( لَوْ سَمِعَك ) أَيْ سَمِعَ قَوْلَك إِلَى هَذَا النَّبِيِّ
( كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ ) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ ، وَوَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ بِغَيْرِ التَّاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، يَعْنِي : يُسَرُّ بِقَوْلِك هَذَا النَّبِيُّ سُرُورًا يَمُدُّ الْبَاصِرَةَ فَيَزْدَادُ بِهِ نُورًا عَلَى نُورٍ كَذِي عَيْنَيْنِ أَصْبَحَ يُبْصِرُ بِأَرْبَعٍ فَإِنَّ الْفَرَحَ يَمُدُّ الْبَاصِرَةَ ، كَمَا أَنَّ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ يُخِلُّ بِهَا ، وَلِذَا يُقَالُ لِمَنْ أَحَاطَتْ بِهِ الْهُمُومُ أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا
( فَسَأَلَاهُ )
أَيْ اِمْتِحَانًا
( عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ )
أَيْ وَاضِحَاتٍ ، وَالْآيَةُ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ كَعَلَامَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَعْقُولَاتِ كَالْحُكْمِ الْوَاضِحِ وَالْمَسْأَلَةِ الْوَاضِحَةِ فَيُقَالُ لِكُلِّ مَا تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَسَبِ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَالتَّأَمُّلِ وَحَسَبِ مَنَازِلِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ آيَةٌ وَالْمُعْجِزَةُ آيَةٌ ، وَلِكُلِّ جُمْلَةٍ دَالَّةٍ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ آيَةٌ ، وَلِكُلِّ كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ بِفَصْلٍ لَفْظِيٍّ آيَةٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هَاهُنَا . إِمَّا الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقَمْلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالسُّنُونَ وَنَقْصٌ مِنْ الثَّمَرَاتِ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : لَا تُشْرِكُوا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّاوِي الْجَوَابَ اِسْتِغْنَاءً بِمَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي التَّفْسِيرِ : فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ لِلْمِلَلِ الثَّابِتَةِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ وَبَيَانُهَا مَا بَعْدَهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا عَنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَقَوْلُهُ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَابِ وَلِذَا غَيَّرَ السِّيَاقَ
( لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ) أَيْ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ
( شَيْئًا ) مِنْ الْأَشْيَاءِ أَوْ الْإِشْرَاكِ
( وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ ) بِهَمْزَةٍ وَإِدْغَامٍ أَيْ بِمُتَبَرِّئٍ مِنْ الْإِثْمِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ ، أَيْ لَا تَسْعَوْا وَلَا تَتَكَلَّمُوا بِسُوءٍ لَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ
( إِلَى ذِي سُلْطَانٍ ) أَيْ صَاحِبِ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ وَغَلَبَةٍ وَشَوْكَةٍ
( وَلَا تَسْحَرُوا ) بِفَتْحِ الْحَاءِ
( وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ) فَإِنَّهُ سَحْقٌ وَمَحْقٌ
( وَلَا تَقْذِفُوا ) بِكَسْرِ الذَّالِ
( مُحْصَنَةً ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُكْسَرُ أَيْ لَا تَرْمُوا بِالزِّنَا عَفِيفَةً
( وَلَا تُوَلُّوا ) بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ مِنْ وَلِيَ تَوْلِيَةً إِذَا أَدْبَرَ أَيْ وَلَا تُوَلُّوا أَدْبَارَكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ مِنْ التَّوَلِّي وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ أَصْلُهُ تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ
( الْفِرَارَ ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِأَجْلِ الْفِرَارِ
( يَوْمَ الزَّحْفِ ) أَيْ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ
( وَعَلَيْكُمْ ) ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا
( خَاصَّةً ) مُنَوَّنًا حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ وَالْمُسْتَتِرُ فِي الظَّرْفِ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ أَيْ مَخْصُوصِينَ بِهَذِهِ الْعَاشِرَةِ أَوْ حَالُ كَوْنِ الِاعْتِدَاءِ مُخْتَصًّا بِكُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ مِنْ الْمِلَلِ أَوْ تَمْيِيزٌ وَالْخَاصَّةُ ضِدُّ الْعَامَّةِ
( الْيَهُودَ ) نُصِبَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالتَّفْسِيرِ أَيْ أَعْنِي الْيَهُودَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصَّةً بِمَعْنَى خُصُوصًا وَيَكُونَ الْيَهُودُ مَعْمُولًا لِفِعْلِهِ أَيْ أَخُصُّ الْيَهُودَ خُصُوصًا
( أَلَّا تَعْتَدُوا ) بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ الِاعْتِدَاءِ
( فِي السَّبْتِ )
أَيْ لَا تَتَجَاوَزُوا أَمْرَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ السَّبْتِ بِأَنْ لَا تَصِيدُوا السَّمَكَ فِيهِ ، وَقِيلَ عَلَيْكُمْ اِسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذُوا أَوْ أَنْ لَا تَعْتَدُوا مَفْعُولُهُ أَيْ اِلْزَمُوا تَرْكَ الِاعْتِدَاءِ
( قَالَ ) أَيْ صَفْوَانُ
( فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( وَقَالُوا ) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي التَّفْسِيرِ فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَا
( نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ ) إِذْ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ لَكِنْ نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ إِلَى الْعَرَبِ
( أَنْ تَتَّبِعُونِي ) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مِنْ أَنْ تَقْبَلُوا نُبُوَّتِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ وَتَتَّبِعُونِي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ
( قَالَ ) لَمْ يَقَعْ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ
( دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ ) أَيْ بِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ
( مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ ) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ مُسْتَجَابًا فَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَيَتَّبِعُهُ الْيَهُودُ وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُمْ الْغَلَبَةُ وَالشَّوْكَةُ
( وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاك تَقْتُلُنَا الْيَهُودُ ) أَيْ فَإِنْ تَرَكْنَا دِينَهُمْ وَاتَّبَعْنَاك لَقَتَلَنَا الْيَهُودُ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ نَبِيٌّ وَقُوَّةٌ ، وَهَذَا اِفْتِرَاءٌ مَحْضٌ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ الْأَدْيَانُ فَكَيْفَ يَدْعُو بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَلَئِنْ سَلِمَ فَعِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ نَبِيٌّ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، قَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ : اِخْتَلَفُوا فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ فَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ وَأَجَازَهُ آخَرُونَ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ اِبْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ الْغَزْوِ حَيْثُ فَرُّوا قَالُوا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ فَقَالَ بَلْ أَنْتُمْ الْكَرَّارُونَ إِنَّا فِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَقَبَّلْنَا يَدَهُ قَالَ وَقَبَّلَ أَبُو لُبَابَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ صَاحِبَاهُ يَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ ، وَقَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ ، وَقَبَّلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَدَ اِبْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَخَذَ اِبْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ وَإِنَّمَا كَرِهَهَا مَالِكٌ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكَبُّرِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِدِينِهِ أَوْ لِعِلْمِهِ أَوْ لِشَرَفِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ . قَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ : وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ الْحَدِيثَ . وَفِي آخِرِهِ فَقَبَّلَا يَدَهُ وَرِجْلَهُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ . قَالَ الْحَافِظُ : حَدِيثُ اِبْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ الْمُقْرِي ، وَحَدِيثُ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ أَخْرَجَهُ اِبْنُ الْمُقْرِي وَحَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ . أَخْرَجَهُ سُفْيَانُ فِي جَامِعِهِ ، وَحَدِيثُ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي ، وَحَدِيثُ صَفْوَانَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْمُقْرِي جُزْءًا فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ سَمِعْنَاهُ أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَآثَارًا فَمِنْ جَيِّدِهَا حَدِيثُ الزَّارِعِ الْعَبْدِيِّ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ، قَالَ : فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَهُ . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَمِنْ حَدِيثِ فَرِيدَةِ الْعَصْرِ مِثْلُهُ ، وَمِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ : قُمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلْنَا يَدَهُ . وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ : أَنَّ عُمَرَ قَامَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَ يَدَهُ ، وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ وَالشَّجَرَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اِئْذَنْ لِي أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَك وَرِجْلَيْك فَأَذِنَ لَهُ . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ قَالَ أَخْرَجَ لَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ كَفًّا لَهُ ضَخْمَةً كَأَنَّهَا كَفُّ بَعِيرٍ فَقُمْنَا إِلَيْهَا فَقَبَّلْنَاهَا ، وَعَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَبَّلَ يَدَ أَنَسٍ . وَأَخْرَجَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا قَبَّلَ يَدَ الْعَبَّاسِ وَرِجْلَهُ . وَأَخْرَجَهُ اِبْنُ الْمُقْرِي . وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ : قُلْت لِابْنِ أَبِي أَوْفَى نَاوِلْنِي يَدَك الَّتِي بَايَعْت بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاوَلَنِيهَا فَقَبَّلْتهَا . قَالَ النَّوَوِيُّ : تَقْبِيلُ يَدِ الرَّجُلِ لِزُهْدِهِ وَصَلَاحِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ أَوْ صِيَانَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا يُكْرَهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ ، فَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ أَوْ شَوْكَتِهِ أَوْ جَاهِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَمَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْفَتْحِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْبَابِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَابْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ )
أَمَّا حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَأَمَّا حَدِيثُ اِبْنِ عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ . وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّقْبِيلِ . وَأَمَّا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَأَخْرَجَهُ اِبْنُ الْمُقْرِي .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 6 / ص 182)
5889 ـ (وعن صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (انب عسال بفتح المهملة الأولى وتشددي الثانية قال في أسد الغابة: هو من بني الريض بن زاهر بن عامر بن عوثبان بن مراد رضياللّه عنه) سكن الكوفة وغزى مع النبي اثنتي عشرة غزوة، روى عنه ابن مسعود وزر بن حبيش في آخرين اهـ. وتقدمت ترجمته في باب التوبة (قال: قال يهودي) لم أقف على من سماه (لصاحبه) أي ليهودي آخر (ذهب بنا إلى هذا النبي) أي ليتبينوا بعض معجزاته الدالة على نبوته ورسالته (فأتيا رسول اللّه) بقصد السؤال له ولذا قال (فسألاه عن تسع آيات بينات) قال الطيبي: كان عند اليهود عشر كلمات تسع منها مشتركة بينهم وبين المسلمين وواحدة مختصة بهم، فسألوا عن التسع المشتركة وأضمروا ما كان مختصاً بهم، فأجابهم النبي عما سألوه وعما أضمروه ليكون أدلّ على معجزاته (فذكره) أي الحديث ولفظه عند الترمذي «فقال لهم لا تشركوا باللّه شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، ولا تمشوا ببرىء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة أيها اليهود ألا تعدوا في السبت» (إلى قوله) متعلق بمحذوف: أي وانتهى في ذكره إلى قوله (فقبلوا) أي اليهود والحاضرون مع السائلين (يده ورجله) كذا في نسخ «الرياض» بأفراد كل من «يده ورجليه» ووقفت عليه في أصل مصحح من الترمذي بتثنيتهما واللّه أعلم (رواه الترمذي) في الاستئذان والتفسير من «جامعه» (وغيره) فرواه النسائي في السير والمحاربة في «سننه»، ورواه ابن ماجه في الأدب (بأسانيد صحيحة) فرواه الترمذي في الاستئذان عن أبي كريب عن ابن إدريس وأبي أسامة، وفي التفسير عن محمود بن غيلان عن أبي داود ويزيد بن هرون وأبي الوليد خمستهم عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد اللّه بن سلمة عن صفوان، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه النسائي عن كريب وأبي قمامة كلاهما عن ابن إدريس به، وأعاده في المحاربة عن أبي كريب، ورواه ابن ماجه في الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن إدريس وغندر وأبي أسامة ثلاثتهم عن شعبة، وبه يعلم أن مراد المصنف من تعدد الأسانيد باعتبار مبتداه لا باعتبار منتهاه واللّه أعلم.(1/118)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ (1)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وشاَهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إِذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ وَلاَوِى الصَّدَقَةِ وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(2)
__________
(1) - صحيح البخاري برقم(1941)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 12 / ص 620)
مطابقته للترجمة للآية الكريمة التي في موضع الترجمة من حيث إن آكل الربا لا يبالي من أكله الأضعاف المضاعفة هل هي من الحلال أم من الحرام وهذا الحديث بعينه إسنادا ومتنا قد ذكره في باب من لم يبال من حيث كسب المال غير أن في المتن بعض تفاوت يسير يعلم بالنظر فيه وهذا بعيد من عادة البخاري ولا سيما قريب العهد منه على أن في رواية النسفي ليس في الباب سوى هذه الآية وقال بعضهم ولعل البخاري أشار بالترجمة إلى ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا يأتي على الناس زمان يأكلون الربا فمن لم يأكله أصابه غباره قلت سبحان الله هذا عجيب والترجمة هي الآية فكيف يشير بها إلى حديث أبي هريرة والآية في النهي عن أكل الربا والأمر بالتقوى وحديث أبي هريرة يخبر عن فساد الزمان الذي يؤكل فيه الربا قوله بما أخذ القياس حذف الألف من كلمة ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر ولكن ما حذف هنا لوجود عدم الحذف في كلام العرب على وجه القلة
(2) - مسند أحمد برقم( 4171)و مسند أبي يعلى الموصلي - (ج 10 / ص 237)برقم(4851 ) صحيح لغيره
اللاوى : المانع = الوَشْم : أن يُغْرَز الجِلْدُ بإبْرة، ثم يُحْشَى بكُحْل أو نِيلٍ، فيَزرَقّ أثَرُه أو يَخْضَرُّ والواشمة هي التي تقوم بالنقش والرسم، والمتوشمة والمستوشمة التي تطلب رسم الوشم على جلدها
فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 399)
وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وَاطَأَ صَاحِبَ الرِّبَا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ كَتَبَهُ أَوْ شَهِدَ الْقِصَّة لِيَشْهَد بِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِالْحَقِّ فَهَذَا جَمِيلُ الْقَصْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيد الْمَذْكُور ، وَإِنَّمَا يَدْخُل فِيهِ مَنْ أَعَانَ صَاحِبَ الرِّبَا بِكِتَابَتِهِ وَشَهَادَته فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ قَالَ ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) وَأَيْضًا فَقَدْ تَضَمَّنَ حَدِيثُ عَائِشَةَ نُزُولَ آخِر الْبَقَرَة وَمِنْ جُمْلَة مَا فِيهِ قَوْله تَعَالَى ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) وَفِيهِ ( إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) وَفِيهِ ( وَأُشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) فَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَاد فِي الْبَيْع الَّذِي أَحَلَّهُ ، فَأَفْهَمَ النَّهْيُ عَنْ الْكِتَابَة وَالْإِشْهَادِ فِي الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي الْكَاتِب وَالشَّاهِد صَرِيحًا ، فَعِنْد مُسْلِم وَغَيْره مِنْ حَدِيث جَابِر " لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : هُمْ فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ " وَلِأَصْحَابِ السُّنَن وَصَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه اِبْن مَسْعُود عَنْ أَبِيهِ " لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ " وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيِّ بِالتَّثْنِيَةِ ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ اِبْن مَسْعُودٍ " آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 223)
الأول: الواصلة والمستوصلة والثاني: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه والثالث: المصورون وسيأتي إن شاء الله بقية ما ذكره المؤلف رحمه الله ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله من غير منار الأرض أي حدودها وأنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة وأنه قال: لعن الله من لعن والديه:
الشَّرْحُ
هذا الباب عقده النووي رحمه الله في رياض الصالحين يبين به أن اللعن الذي ليس على معين لا بأس به وذكر أمثلة من ذلك سبق منها ثلاثة واليوم نأخذ ثلاثة أيضا منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من غير منار الأرض يعني حدودها مثل أن يكون الإنسان له جار فيأتي الإنسان فيدخل من أرض جاره على أرضه فيوسع أرضه ويضيق أرض جاره فهذا ملعون لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين وإذا كان هذا فيمن غير حدود الأرض يعني المراسيم فكيف بمن أخذ الأرض كلها واجتاحها والعياذ بالله فهو أولى باللعن والطرد عن رحمة الله كما يوجد أناس يعتدون على أراضي غيرهم يأخذونها بالباطل ويدعون أنها لهم وربما يأتون بشهود زور يشهدون لهم فيحكم لهم بذلك فيدخلون في اللعن ويوم القيامة يأتون بها مطوقين بها في أعناقهم نسأل الله العافية أمام عباد الله ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده والسارق هو الذي يأخذ المال بخفية من حرز مثله مثل أن يأتي بالليل أو في غفلة الناس فيفتح الأبواب ويسرق هذا السارق إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ما يساويه من الدراهم أو المتاع فإنها تقطع يده يده اليمنى من مفصل الكف لقول الله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله والله عزيز حكيم ولا فرق بين أن يكون السارق شريفا أو وضيعا أو ذكرا أو أنثى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها فأهم قريشا ذلك وطلبوا من يشفع لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فطلبوا من أسامة بن زيد أن يشفع برفع العقوبة عنها فاختطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها فأقسم عليه الصلاة والسلام أنه لو سرقت ابنته فاطمة أشرف النساء نسبا لقطع يدها ولكن هذا الحديث الذي أشار إليه النووي رحمه الله في رياض الصالحين يقول يسرق البيضة والبيضة لا تبلغ نصاب السرقة لأن نصاب السرقة ربع دينار فكيف قال يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده قال بعض العلماء إن المراد بالبيضة هنا بيضة الرأس الذي يجعلها الإنسان عند القتال على رأسه تقيه السهام وهي مثمنة تساوي ربع دينار أو أكثر والمراد بالحبل حبل السفن الذي تربط به في المرسى حتى لا تأخذها الأمواج وهو أيضا ذو قيمة وقال بعض العلماء المراد بالبيضة بيضة الدجاجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها والبيضة عند الإطلاق لا يفهم منها إلا بيضة الدجاجة والحبل هو الحبل الذي يربط به الحطب وما أشبه ذلك ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يده لأنه إذا اعتاد سرقة الصغير تجرأ على سرقة الغالي والمثمن فقطعت يده وهذا أقرب إلى الصواب أن السارق والعياذ بالله إذا سرق الشيء اليسير تجرأ فسرق الشيء الكبير فتقطع يده الثالث: قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من لعن والديه سواء كانت الأم أو الأب يقول لأبيه لعنة الله عليك أو لأمه ولكن الصحابة قالوا يا رسول الله أيلعن الرجل والديه هذا أمر لا يمكن قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه يعني يتنازع اثنان فيقول أحدهما للآخر لعن الله والديك فيقول الثاني بل أنت لعن الله والديك فلما كان هو السبب في أن يلعن الآخر والديه أعطى حكم من لعن والديه مباشرة فهذان الشخصان لعنهما الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن هل يمكن أن تأتي لشخص معين غير حدود الأرض تقول لعنك الله الجواب لا لا يجوز أن تلعنه وهو معين أو سمعت إنسانا يلعن والديه تقول لعنك الله لا يصح هذا حرام لكن تقول له اتق الله فإن الرسول صلى الله عليه وسلم(1/119)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : " لَا أُقْسِمُ ، لَا أُقْسِمُ ، لَا أُقْسِمُ " ، ثُمَّ نَزَلَ ، فَقَالَ : " أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا ، إِنَّهُ مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَاَجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ " ، قَالَ الْمُطَّلِبُ : سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو : أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُنَّ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ : " عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا "(1)
وعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا :« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِىِّ إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ - قَيْلِ ذِى رُعَيْنٍ وَمُعَافِرَ وَهَمْدَانَ - أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ رَفَعَ رَسُولُكُمْ وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعُشْرِ فِى الْعَقَارِ مَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَكَانَ سَيْحًا أَوْ كَانَ بَعْلاً فَفِيهِ الْعُشْرُ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَمَا سُقِىَ بِالرِّشَاءِ وَالدَّالِيَةِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَفِى كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ سَائِمَةٍ شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ ، فَإِن زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى سِتِّينِ وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ تِسْعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَما زَادَ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ طَرُوقَةَ الْجَمَلِ ، وَفِى كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةً وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلاَثٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلاَثَمِائَةٍ ، فَإِنْ زَادَتْ فَفِى كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ، وَلاَ تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ، وَلاَ عَجْفَاءُ ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ ، وَلاَ تَيْسُ الْغَنَمِ ، وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، وَمَا أُخِذَ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ، وَفِى كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَمَا زَادَ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ شَىْءٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ وَأَنَّ الصَّدَقَة لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لأَهْلِ بَيْتَهِ إِنَّمَا هِىَ الزَّكَاةُ تُزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ ، وَلْفُقُرَاءِ الْمؤمنينَ ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِى رَقِيقٍ وَلاَ مَزْرَعَةٍ وَلاَ عُمَّالِهَا شَىْءٌ إِذَا كَانَتْ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا مِنَ الْعُشْرِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فِى عَبْدٍ مُسْلِمٍ ، وَلاَ فِى فَرَسِهِ شَىْءٌ ». قَالَ يَحْيَى أَفْضَلُ. ثُمَّ قَالَ : كَانَ فِى الْكِتَابِ :« إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ[ يَوْمَ الزَّحْفِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ] ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْىُ الْمُحْصَنَةِ ، وَتَعلُّمُ السَّحَرِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَإِنَّ الْعُمْرَةَ الْحَجُّ الأَصْغَرُ ، وَلاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ ، وَلاَ طَلاَقَ قَبْلَ إِمْلاَكٍ ، وَلاَ عِتَاقَ حَتَّى يَبْتَاعَ ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُمنكُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى مَنْكِبِهِ شَىْءٌ ، وَلاَ يَحْتَبِيَنَّ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَىْءٌ ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَشِقُّهُ بَادِى ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَاقِصٌ شَعَرَهُ ». وَكَانَ فِى الْكِتَابِ :« أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ ، وَإِنَّ فِى النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ ، وَفِى اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِى الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الذَّكَرِ الدِّيَةُ ، وَفِى الصُّلْبِ الدِّيَةُ ، وَفِى الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى كُلِّ أُصْبُعٍ مِنَ الأَصَابِعِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ ».(2)
و عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ (3)
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ برقم( 13485 ) وصحيح الترغيب برقم(1340) والكفاية برقم(266) وهو صحيح لغيره
(2) -السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 89)برقم( 7507) وصحيح ابن حبان برقم(6559 ) وصحيح الترغيب - ( 1341) صحيح لغيره
(3) - صحيح مسلم برقم( 2995 )
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 318)
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب التغليظ في تحريم الربا فيما نقله عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله آكل الربا وموكله آكل الربا يعني الذي يأكله سواء استعمله في أكل أو لباس أو مركوب أو فراش أو مسكن أو غير ذلك المهم أنه أخذ الربا كما قال تعالى عن اليهود وأخذهم الربا وقد نهوا عنه فآكل الربا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني موكله يعني الذي يعطي الربا مع أن معطي الربا مظلوم لأن آخذ الربا ظالم والمأخوذ منه الربا مظلوم ومع ذلك كان ملعونا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعانه على الإثم والعدوان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا المظلوم كيف ننصر الظالم قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه فإذا احتاج الإنسان إلى دراهم وذهب إلى البنك وأخذ منه عشرة آلاف بأحد عشر ألفا صار صاحب البنك ملعونا والآخذ ملعونا على لسان أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وما أقرب الإجابة فيمن لعنه الرسول صلى الله عليه وسلم واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ويكون هذا الملعون مشاركا لإبليس في العقوبة لأن الله قال لإبليس { وإن عليك اللعنة } كذلك آكل الربا عليه اللعنة وموكله عليه اللعنة مطرود مبعد عن رحمة الله ثم هذا الذي يأكله يأكله سحتا وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى به ثم إن هذا الربا الذي يدخل عليك ينزع الله به البركة من مالك وربما يوالي عليه النكبات حتى يلتف قال الله تعالى { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله } وأما الذي أعطى الربا فإن وجه اللعنة في حقه أنه أعان على ذلك فإذا قال قائل هل الإنسان من توبة إذا كان يتعاطى الربا ثم من الله عليه واهتدى نقول نعم له توبة ومن الذي يحول بينه وبين توبة الله ولكن لابد من صدق التوبة وإخلاصها والندم على الذنب والعزم على ألا يعود ثم إن كان صاحب الربا الذي أخذ منه قد استفاد فإن الربا يأخذ من المرابي ويتصدق به أو يوضع في بيت المال وإن كان لم يستفد فإنه يعطي المطلوب لأنه إذا استفاد لا يمكن أن نجمع له بين الحق من الربا وبين انتفاعه نقول أنت حظك الانتفاع ولكن إذا كان لم ينتفع فإنه يعطي ما أخذ من الربا وذكر الترمذي وغيره في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاهدي الربا وكاتبه مع أن الشاهدين والكاتب ليس لهما منفعة لكن أعانوا على تثبيت الربا الشاهدان والكاتب يثبت بهما الربا لأن الشاهدين يثبتان الحق والكاتب يوثقه ولهذا يكون هؤلاء الثلاثة الشاهدان والكاتب قد أعانوا على الإثم والعدوان فنالهم من ذلك نصيب فهؤلاء الخمسة كلهم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله والشاهدين والكاتب خمسة وفي هذا الحديث دليل أن المعين على الإثم مشارك للفاعل وهو كذلك وهذا قد دل عليه القرآن قال الله تبارك وتعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وإما ينسينك الشيطان { وجلست ناسيا } فلا تقعد بعد الذكرى { يعني بعد أن تفطن } مع القوم الظالمين { وقال عز وجل } وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم { فالمشارك لفاعل الإثم ولو بالجلوس يكون له مثل على ما صاحب الإثم } إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا { في هذا دليل على التحذير من الربا ووجوب البعد عنه والمسلمون ما ضرهم الذي ضرهم إلا بهذا الربا تجد الفقير المسكين يهون عليه أن يستدين بالربا لأنه لا يكلفه إلا زيادة الكمية والله أعلم بنيته قد يكون ليس بنيته أن يوفي عند حلول الأجل لكن يستسهل هذا ويستدين فتتراكم عليه الديون بدون ضرورة حتى إن بعض المساكين السفهاء الضعيف الإيمان يستدين من أجل أن يفرش درج العمارة هل هناك ضرورة لا ضرورة ولا حاجة أيضا عاش الناس أزمنة طويلة لا يفرشون الدرج ولم يضرهم ذلك شيئا يستدين من أجل أن أشياء ليست مهمة هل هناك ضرورة لا ضرورة لكن الشيطان يغريه ولم يعلم هذا المسكين أن الذي له الدين لا يرحمه إذا حل الأجل سوف يطالبه بالوفاء أو بالحبس أو بمضاعفة الربا عليه كما هو الواقع عند كثير من الذين لا يمتثلون قول الله } وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ { وغفل هذا المسكين عن كون نفسه إذا مات معلقة بدينه حتى يدفع عنه وغفل هذا المسكين عن كون النبي إذا قدمت إليه الجنازة وخطى يصلي عليها فسأل هل عليه دين قالوا نعم قال عليه وفاء قالوا لا قال صلوا على صاحبكم وترك الصلاة عليه مما يدل على عظم الدين وغفل هذا المسكين عن كون القتل في سبيل الله إذا قتل الإنسان في سبيل الله فالشهادة تكفر كل شيء إلا الدين لا تكفره ومع ذلك يقع في ذلك كثير من سفهائنا يستهين بالدين يكون عنده سيارة تساوي عشرين ألفا وقد مشت حاله كفته يقول لا ما يكفي أنا أشتري سياره بثمانين ألف وتقول ما معك شيء يقول آخذها بالتقسيط أو أتحيل على الربا كما يفعل بعض الناس يأتي المعرض يقول بكم السيارة الفلانية يقول له بكذا وكذا ويذهب إلى التاجر ويقول له اشتريها وبيعها علي أعوذ بالله حيل على رب العالمين مكر خداع } يخادعون الله وهو خادعهم { يعني هذا التاجر ما قصد السيارة قصد الزيادة ولهذا لو قيل للتاجر بعها عليه برأس مالك الذي اشتريتها به فما الفائدة ما أبيعه إلا بالربا بالزيادة يقول بعض الناس الذين يزين لهم الشيطان يقول احتج على الذي يقول هذا ما يجوز فنقول هذا كذب على الله رجل جاء محتاج سيارة هذا بعيد جدا ثم إن المسموع عن هؤلاء أنه إذا هون كتب اسمه في القائمة السوداء ما عاد يعامل مرة أخرى هذا كالإجبار على أن يبقى تحيل على رب العالمين ما يصلح والله لو سألنا هذا التاجر الذي أخذ السيارة من المعرض ثم باعها لهذا ماذا تقصد أتقصد الإحسان لهذا الرجل قال أبدا ولا بيني وبينه معرفة أقصد المائة مائة وعشرة هذا ما أقصده هذا هو الواقع كيف نتحايل على رب العالمين لو جاء هذا الرجل إلى البنك قال أعطني مائة ألف وعشرة وأشتري السيارة أهون من هذا الدين لأن الخداع أشد من الصريح المخادع ارتكب الإثم مع زيادته ماذا الخداع والصريح ارتكب الإثم وهو يعترف أنه إثم ويحاول أن يتوب عنه لأن نفسه لا ترضى عن هذا الشيء لكن المشكلة المخادع يرى أن هذا حلال ويستمرئ هذا الفعل ويقول ما فيه شيء اسأل نفسك لا تسأل أحدا الرسول قال الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك لا تسأل أحدا هل أنت اشتريت السيارة شراء حقيقيا تطلب به الربح كلا أبدا لولا أن هذا جاء ما اشتريتها إذا فالسيارة شراؤها مقصود أو غير مقصود غير مقصود المقصود بيده الدراهم لكن بدل ما يقول هذا بخمسين ألفا بستين ألفا مقسطة يقول اذهب عاينها وأنا أذهب إلى المعرض أشتريها بخمسين ألفا وأبيعها عليك بستين ألفا كل إنسان مجرد من الهوى يعرف أن هذا حرام ولا إشكال فيه وإن سألت الناس وأفتوك الذي يسألك يوم القيامة هو رب العالمين هو الذي يعلم ما في قلبك وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول لو احتجت سلعة من عند إنسان سيارة عند إنسان وأنت لا تجد دراهم وذهبت إلى الذي عنده السيارة تشتريها منه وهي تساوي الآن نقدي خمسين وقلت له بيعها لي بستين إلى سنة ثم أخذتها وبعتها يقول شيخ الإسلام هذا حرام ولا تحل وحيلة وهي من العينة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالحرث وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم وهذه الصلة فيها واضحة أما مسألة التوافر فالسلعة موجودة عند البائع لهذا ولغيره إن جاءه من اشتراه بنقد باعها بخمسين وإن جاءه من يشتريها مؤجلة بستين باعها لكن الإنسان ما له غرض في السلعة نهائيا ليس له إلا الربا ثم يستمرئ هذا الأمر ويقول هذا حلال فكر يوم القيامة ستلاقي ربك وحدك ما معك أحد لا مفتي ولا غير مفتي والله تعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور والحاصل أن الربا يجب الحذر منه ولهذا تبينا على ما قلت لما سهل الأمر عند الفقراء لما سهل عندهم هذا صار ما أسهل أن يقول للتاجر يا فلان أنا أبغي السيارة الفلانية قال اذهب واشتريها من المعرض وأنا أسدد القيمة للمعرض وأبيعها لك بالزيادة سهل الدين على الناس ولكن لو لم يجدوا من يسهل الأمر عليهم امتنعوا بعض الشيء وسلمت ذممهم واستراحوا نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية }(1/120)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ » .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2766 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 19 / ص 290)
قَوْل ( اِجْتَنِبُوا السَّبْع الْمُوبِقَات )
بِمُوَحَّدَةٍ وَقَاف أَيْ الْمُهْلِكَات ، قَالَ الْمُهَلَّب : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا سَبَب لِإِهْلَاكِ مُرْتَكِبهَا . قُلْت : وَالْمُرَاد بِالْمُوبِقَةِ هُنَا الْكَبِيرَة كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِنْ وَجْه آخَر أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَابْن الْمُنْذِر مِنْ طَرِيق عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ " الْكَبَائِر الشِّرْك بِاَللَّهِ وَقَتْل النَّفْس " الْحَدِيث مِثْل رِوَايَة أَبِي الْغَيْث ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بَدَل السِّحْر الِانْتِقَال إِلَى الْأَعْرَابِيَّة بَعْد الْهِجْرَة ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم مِنْ طَرِيق صُهَيْب مَوْلَى الْعَتْوَارِيِّينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد قَالَا : " قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مِنْ عَبْد يُصَلِّي الْخَمْس وَيَجْتَنِب الْكَبَائِر السَّبْع إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الْجَنَّة " الْحَدِيث ، وَلَكِنْ لَمْ يُفَسِّرهَا ، وَالْمُعْتَمَد فِي تَفْسِيرهَا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة سَالِم ، وَقَدْ وَافَقَهُ كِتَاب عَمْرو بْن حَزْم الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن حِبَّان فِي صَحِيحه وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : " كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاب الْفَرَائِض وَالدِّيَات وَالسُّنَن وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرو بْن حَزْم إِلَى الْيَمَن " الْحَدِيث بِطُولِهِ ، وَفِيهِ " وَكَانَ فِي الْكِتَاب : وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِر الشِّرْك " فَذَكَرَ مِثْل حَدِيث سَالِم سَوَاء ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث سَهْل بْن أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ عَلِيّ رَفَعَهُ " اِجْتَنَبَ الْكَبَائِر السَّبْع " فَذَكَرَهَا لَكِنْ ذَكَرَ التَّعَرُّب بَعْد الْهِجْرَة بَدَل السِّحْر ، وَلَهُ فِي الْأَوْسَط مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد مِثْله وَقَالَ : " الرُّجُوع إِلَى الْأَعْرَاب بَعْد الْهِجْرَة " وَلِإِسْمَاعِيل الْقَاضِي مِنْ طَرِيق الْمُطَّلِب بْن عَبْد اللَّه بْن حَنْطَب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : " صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَر ثُمَّ قَالَ أَبْشِرُوا مَنْ صَلَّى الْخَمْس وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِر السَّبْع نُودِيَ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة " فَقِيلَ لَهُ : أَسَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرهُنَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَذَكَرَ مِثْل حَدِيث عَلِيّ سَوَاء وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق " أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْ الْحَسَن قَالَ الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ " فَذَكَرَ حَدِيث الْأُصُول سَوَاء إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : " الْيَمِين الْفَاجِرَة " بَدَل السِّحْر ، وَلِابْنِ عَمْرو فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي " الْأَدَب الْمُفْرَد " وَالطَّبَرِيّ فِي التَّفْسِير وَعَبْد الرَّزَّاق وَالْخَرَائِطِيّ فِي " مَسَاوِئ الْأَخْلَاق " وَإِسْمَاعِيل الْقَاضِي فِي " أَحْكَام الْقُرْآن " مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ : " الْكَبَائِر تِسْع " فَذَكَرَ السَّبْعَة الْمَذْكُورَة وَزَادَ " الْإِلْحَاد فِي الْحَرَم وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ " وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَة عُبَيْد بْن عُمَيْر بْن قَتَادَة اللَّيْثِيّ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ " إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّه الْمُصَلُّونَ وَمَنْ يَجْتَنِب الْكَبَائِر قَالُوا : مَا الْكَبَائِر ؟ قَالَ : هُنَّ تِسْع ، أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ " فَذَكَرَ مِثْل حَدِيث اِبْن عُمَر سَوَاء إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ الْإِلْحَاد فِي الْحَرَم بِاسْتِحْلَالِ الْبَيْت الْحَرَام . وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : " هُنَّ عَشْر " فَذَكَرَ السَّبْعَة الَّتِي فِي الْأَصْل وَزَادَ " وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِين الْغَمُوس وَشُرْب الْخَمْر " وَلِابْنِ أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق مَالِك بْن حُرَيْث عَنْ عَلِيّ قَالَ : " الْكَبَائِر " فَذَكَرَ التِّسْعَة إِلَّا مَال الْيَتِيم وَزَادَ الْعُقُوق وَالتَّغَرُّب بَعْد الْهِجْرَة وَفِرَاق الْجَمَاعَة وَنَكْث الصَّفْقَة ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا الْكَبَائِر فَقَالُوا : الشِّرْك وَمَال الْيَتِيم وَالْفِرَار مِنْ الزَّحْف وَالسِّحْر وَالْعُقُوق وَقَوْل الزُّور وَالْغُلُول وَالزِّنَا . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه ثَمَنًا قَلِيلًا " . قُلْت وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْأَدَب عَدُّ الْيَمِين الْغَمُوس وَكَذَا شَهَادَة الزُّور وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ وَعِنْد عَبْد الرَّزَّاق وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ اِبْن مَسْعُود " أَكْبَرُ الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ وَالْأَمْن مِنْ مَكْر اللَّه وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه وَالْيَأْس مِنْ رَوْح اللَّه " وَهُوَ مَوْقُوف ، وَرَوَى إِسْمَاعِيل بِسَنَدٍ صَحِيح مِنْ طَرِيق اِبْن سِيرِينَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو مِثْل حَدِيث الْأَصْل لَكِنْ قَالَ : " الْبُهْتَان " بَدَل السِّحْر وَالْقَذْف ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : الْبُهْتَان يَجْمَعُ ، وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ النُّعْمَان بْن مُرَّة مُرْسَلًا " الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشُرْب الْخَمْر فَوَاحِش " وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ عِنْد الْبُخَارِيّ فِي " الْأَدَب الْمُفْرَد " وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيّ وَسَنَده حَسَن ، وَتَقَدَّمَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي النَّمِيمَة وَمَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْغِيبَة وَتَرْكِ التَّنَزُّه مِنْ الْبَوْل كُلّ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَة ، وَلِإِسْمَاعِيل الْقَاضِي مِنْ مُرْسَل الْحَسَن ذَكَرَ " الزِّنَا وَالسَّرِقَة " وَلَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاق السَّبِيعِيّ " شَتْم أَبِي بَكْر وَعُمَر " وَهُوَ لِابْنِ أَبِي حَاتِم مِنْ قَوْل مُغِيرَة بْن مِقْسَم ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيح " الْإِضْرَار فِي الْوَصِيَّة مِنْ الْكَبَائِر " وَعَنْهُ " الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْر عُذْر " رَفَعَهُ وَلَهُ شَاهِد أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ عُمَر قَوْله ، وَعِنْد إِسْمَاعِيل مِنْ قَوْل اِبْن عُمَر ذَكَرَ النُّهْبَة ، وَمِنْ حَدِيث بُرَيْدَةَ عِنْد الْبَزَّار مَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ طُرُوقِ الْفَحْلِ ، وَمِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد الْحَاكِم " الصَّلَوَات كَفَّارَات إِلَّا مِنْ ثَلَاث : الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ وَنَكْث الصَّفْقَة وَتَرْك السُّنَّة " ثُمَّ فَسَّرَ نَكْثَ الصَّفْقَةِ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَام وَتَرْك السُّنَّة بِالْخُرُوجِ عَنْ الْجَمَاعَة أَخْرَجَهُ الْحَاكِم ، وَمِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر عِنْد اِبْن مَرْدُوَيْهِ " أَكْبَرُ الْكَبَائِر سُوء الظَّنّ بِاَللَّهِ " وَمِنْ الضَّعِيف فِي ذَلِكَ نِسْيَان الْقُرْآن أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس رَفَعَهُ " نَظَرْت فِي الذُّنُوب فَلَمْ أَرَ أَعْظَمَ مِنْ سُورَة مِنْ الْقُرْآن أُوتِيَهَا رَجُل فَنَسِيَهَا " وَحَدِيث " مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ ، فَهَذَا جَمِيع مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِمَّا وَرَدَ التَّصْرِيح بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِر أَوْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِر صَحِيحًا وَضَعِيفًا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا ، وَقَدْ تَتَبَّعْته غَايَة التَّتَبُّع ، وَفِي بَعْضه مَا وَرَدَ خَاصًّا وَيَدْخُل فِي عُمُوم غَيْره كَالتَّسَبُّبِ فِي لَعْن الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ دَاخِل فِي الْعُقُوق وَقَتْل الْوَلَد وَهُوَ دَاخِل فِي قَتْل النَّفْس وَالزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَار وَهُوَ دَاخِل فِي الزِّنَا وَالنُّهْبَة وَالْغُلُول وَاسْم الْخِيَانَة يَشْمَلهُ وَيَدْخُل الْجَمِيع فِي السَّرِقَة وَتَعَلُّم السِّحْر وَهُوَ دَاخِل فِي السِّحْر وَشَهَادَة الزُّور وَهِيَ دَاخِلَة فِي قَوْل الزُّور وَيَمِين الْغَمُوس وَهِيَ دَاخِلَة فِي الْيَمِين الْفَاجِرَة وَالْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه كَالْيَأْسِ مِنْ رَوْح اللَّه ، وَالْمُعْتَمَد مِنْ كُلّ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ تَدَاخُل مِنْ وَجْه صَحِيح وَهِيَ السَّبْعَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث الْبَاب وَالِانْتِقَال عَنْ الْهِجْرَة وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْعُقُوق وَالْيَمِين الْغَمُوس وَالْإِلْحَاد فِي الْحَرَم وَشُرْب الْخَمْر وَشَهَادَة الزُّور وَالنَّمِيمَة وَتَرْك التَّنَزُّه مِنْ الْبَوْل وَالْغُلُول وَنَكْث الصَّفْقَة وَفِرَاق الْجَمَاعَة ، فَتِلْكَ عِشْرُونَ خَصْلَة وَتَتَفَاوَت مَرَاتِبُهَا ، وَالْمُجْمَع عَلَى عَدِّهِ مِنْ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْمُخْتَلَف فِيهِ إِلَّا مَا عَضَّدَهُ الْقُرْآن أَوْ الْإِجْمَاع فَيَلْتَحِق بِمَا فَوْقه وَيَجْتَمِع مِنْ الْمَرْفُوع وَمِنْ الْمَوْقُوف مَا يُقَارِبهَا ، وَيُحْتَاج عِنْد هَذَا إِلَى الْجَوَاب عَنْ الْحِكْمَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى سَبْع ، وَيُجَاب بِأَنَّ مَفْهُوم الْعَدَد لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَهُوَ جَوَاب ضَعِيف ، وَبِأَنَّهُ أَعْلَمَ أَوَّلًا بِالْمَذْكُورَاتِ ثُمَّ أَعْلَمَ بِمَا زَادَ فَيَجِب الْأَخْذ بِالزَّائِدِ ، أَوْ أَنَّ الِاقْتِصَار وَقَعَ بِحَسَبِ الْمَقَام بِالنِّسْبَةِ لِلسَّائِلِ أَوْ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَة وَنَحْو ذَلِكَ . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَإِسْمَاعِيل الْقَاضِي عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قِيلَ لَهُ الْكَبَائِر سَبْع فَقَالَ : هُنَّ أَكْثَرُ مِنْ سَبْع وَسَبْع ، وَفِي رِوَايَة عَنْهُ هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ ، وَفِي رِوَايَة إِلَى السَّبْعمِائَةِ ، وَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى الْمُبَالَغَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى سَبْع ، وَكَأَنَّ الْمُقْتَصِر عَلَيْهَا اِعْتَمَدَ عَلَى حَدِيث الْبَاب الْمَذْكُور . وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُرِفَ فَسَاد مَنْ عَرَّفَ الْكَبِيرَةَ بِأَنَّهَا مَا وَجَبَ فِيهَا الْحَدُّ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَذْكُورَات لَا يَجِب فِيهَا الْحَدّ ، قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير : الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجِبَة لِلْحَدِّ ، وَقِيلَ مَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِصَاحِبِهِ بِنَصِّ كِتَاب أَوْ سُنَّة ، هَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَد لِلْأَصْحَابِ وَهُمْ إِلَى تَرْجِيح الْأَوَّل أَمْيَلُ ، لَكِنَّ الثَّانِي أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر ، وَقَدْ أَقَرَّهُ فِي الرَّوْضَة ، وَهُوَ يُشْعِر بِأَنَّهُ لَا يُوجَد عَنْ أَحَد مِنْ الشَّافِعِيَّة الْجَمْع بَيْن التَّعْرِيفَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي " : هِيَ مَا يُوجِب الْحَدّ أَوْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْوَعِيد ، وَأَوْ فِي كَلَامه لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ ، وَكَيْف يَقُول عَالِم إِنَّ الْكَبِيرَة مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَدّ مَعَ التَّصْرِيح فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالْعُقُوقِ وَالْيَمِين الْغَمُوس وَشَهَادَة الزُّور وَغَيْر ذَلِكَ ، وَالْأَصْل فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيّ قَوْل الْبَغَوِيِّ فِي " التَّهْذِيب " مَنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَة مِنْ زِنًا أَوْ لِوَاط أَوْ شُرْب خَمْر أَوْ غَصْب أَوْ سَرِقَة أَوْ قَتْل بِغَيْرِ حَقّ تُرَدُّ شَهَادَته وَإِنْ فَعَلَهُ مَرَّة وَاحِدَة ، ثُمَّ قَالَ : فَكُلّ مَا يُوجِب الْحَدّ مِنْ الْمَعَاصِي فَهُوَ كَبِيرَة ، وَقِيلَ مَا يَلْحَق الْوَعِيد بِصَاحِبِهِ بِنَصِّ كِتَاب أَوْ سُنَّة اِنْتَهَى . وَالْكَلَام الْأَوَّل لَا يَقْتَضِي الْحَصْر ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَد . وَقَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام : لَمْ أَقِف عَلَى ضَابِط الْكَبِيرَة يَعْنِي يَسْلَم مِنْ الِاعْتِرَاض ، قَالَ : وَالْأَوْلَى ضَبْطُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا إِشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ، قَالَ وَضَبَطَهَا بَعْضهمْ بِكُلِّ ذَنْب قُرِنَ بِهِ وَعِيد أَوْ لَعْن . قُلْت : وَهَذَا أَشْمَلُ مِنْ غَيْره ، وَلَا يَرِد عَلَيْهِ إِخْلَاله بِمَا فِيهِ حَدّ ، لِأَنَّ كُلّ مَا ثَبَتَ فِيهِ الْحَدّ لَا يَخْلُو مِنْ وُرُود الْوَعِيد عَلَى فِعْله ، وَيَدْخُل فِيهِ تَرْك الْوَاجِبَات الْفَوْرِيَّة مِنْهَا مُطْلَقًا وَالْمُتَرَاخِيَة إِذَا تَضَيَّقَتْ . وَقَالَ اِبْن الصَّلَاح : لَهَا أَمَارَات مِنْهَا إِيجَاب الْحَدّ ، وَمِنْهَا الْإِيعَاد عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوهَا فِي الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة ، وَمِنْهَا وَصْف صَاحِبهَا بِالْفِسْقِ ، وَمِنْهَا اللَّعْن ، قُلْت : وَهَذَا أَوْسَعُ مِمَّا قَبْله . وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي بِسَنَدٍ فِيهِ اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي سَعِيد مَرْفُوعًا " الْكَبَائِر كُلّ ذَنْب أَدْخَلَ صَاحِبه النَّار " وَبِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ قَالَ " كُلّ ذَنْب نَسَبَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى النَّار فَهُوَ كَبِيرَة " وَمِنْ أَحْسَنِ التَّعَارِيفِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم " كُلّ ذَنْب أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتَاب أَوْ سُنَّة أَوْ إِجْمَاع أَنَّهُ كَبِيرَة أَوْ عَظِيم أَوْ أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ الْعِقَاب أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحَدّ أَوْ شُدِّدَ النَّكِير عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَة " وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي تَتَبُّع مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيد أَوْ اللَّعْن أَوْ الْفِسْق مِنْ الْقُرْآن أَوْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالْحَسَنَة وَيُضَمّ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ التَّنْصِيص فِي الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الصِّحَاح وَالْحِسَان عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَة ، فَمَهْمَا بَلَغَ مَجْمُوع ذَلِكَ عُرِفَ مِنْهُ تَحَيُّر عَدِّهَا ، وَقَدْ شَرَعْت فِي جَمْع ذَلِكَ ، وَأَسْأَل اللَّهُ الْإِعَانَةَ عَلَى تَحْرِيره بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ . وَقَالَ الْحَلِيمِيّ فِي " الْمِنْهَاج " مَا مِنْ ذَنْب إِلَّا وَفِيهِ صَغِيرَة وَكَبِيرَة ، وَقَدْ تَنْقَلِب الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمّ إِلَيْهَا ، وَتَنْقَلِب الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً كَذَلِكَ ، إِلَّا الْكُفْر بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ أَفْحَشُ الْكَبَائِر وَلَيْسَ مِنْ نَوْعه صَغِيرَة ، قُلْت : وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى فَاحِش وَأَفْحَشَ . ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلِيمِيّ أَمْثِلَة لِمَا قَالَ فَالثَّانِي كَقَتْلِ النَّفْس بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ كَبِيرَة ، فَإِنْ قَتَلَ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا أَوْ ذَا رَحِمٍ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِالشَّهْرِ الْحَرَام فَهُوَ فَاحِشَة . وَالزِّنَا كَبِيرَةٌ ، فَإِنْ كَانَ بِحَلِيلَةِ الْجَار أَوْ بِذَاتِ رَحِم أَوْ فِي شَهْر رَمَضَان أَوْ فِي الْحَرَم فَهُوَ فَاحِشَة . وَشُرْب الْخَمْر كَبِيرَة ، فَإِنْ كَانَ فِي شَهْر رَمَضَان نَهَارًا أَوْ فِي الْحَرَم أَوْ جَاهَرَ بِهِ فَهُوَ فَاحِشَة . وَالْأَوَّل كَالْمُفَاخَذَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّة صَغِيرَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ اِمْرَأَة الْأَب أَوْ حَلِيلَة الِابْن أَوْ ذَات رَحِم فَكَبِيرَة . وَسَرِقَة مَا دُون النِّصَاب صَغِيرَة ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوق مِنْهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ وَأَفْضَى بِهِ عَدَمُهُ إِلَى الضَّعْف فَهُوَ كَبِيرَة . وَأَطَالَ فِي أَمْثِلَة ذَلِكَ . وَفِي الْكَثِير مِنْهُ مَا يُتَعَقَّب ، لَكِنَّ هَذَا عِنْوَانه ، وَهُوَ مَنْهَج حَسَن لَا بَأْس بِاعْتِبَارِهِ ، وَمَدَاره عَلَى شِدَّة الْمَفْسَدَة وَخِفَّتهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ .
( تَنْبِيه ) :
يَأْتِي الْقَوْل فِي تَعْظِيم قَتْل النَّفْس فِي الْكِتَاب الَّذِي بَعْد هَذَا ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى السِّحْر فِي آخِر كِتَاب الطِّبّ ، وَعَلَى أَكْل مَال الْيَتِيم فِي كِتَاب الْوَصَايَا ، وَعَلَى أَكْل الرِّبَا فِي كِتَاب الْبُيُوع ، وَعَلَى التَّوَلِّي يَوْم الزَّحْف فِي كِتَاب الْجِهَاد ، وَذَكَرَ هُنَا قَذْف الْمُحْصَنَات . وَقَدْ شَرَطَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيد الْهَرَوِيُّ فِي " أَدَب الْقَضَاء " أَنَّ شَرْطَ كَوْنِ غَصْبِ الْمَالِ كَبِيرَةً أَنْ يَبْلُغ نِصَابًا ، وَيَطَّرِد فِي السَّرِقَة وَغَيْرهَا ، وَأَطْلَقَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ ، وَيَطَّرِد فِي أَكْل مَال الْيَتِيم وَجَمِيع أَنْوَاع الْجِنَايَة . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
شرح ابن بطال - (ج 15 / ص 196)
قال المؤلف: أكل مال اليتيم من الكبائر، وقد أخبر الله أن من أكله ظلمًا أنه يأكل النار ويصلى السعير، وهذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأنه عندهم فى مشيئة الله، قال سعيد بن جبير: لما نزلت: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] أمسك الناس فلم يخالطوا اليتامى فى طعامهم حتى نزلت: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220]، قال: وليس فى القرآن: {ويسألونك} إلا ثلاث عشرة مسألة من قلة ما كانوا يسألونه، وسيأتى ما قال العلماء فى الكبائر فى كتاب الأدب.
* * *
21 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]
{لأعْنَتَكُمْ} لأحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ، {وَعَنَتِ} [طه: 111] خَضَعَتْ.
وَقَالَ نَافِعٍ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأشْيَاءِ إِلَيْهِ فِى مَالِ الْيَتِيمِ، أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَيَنْظُرُون الَّذِى هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. قَالَ عَطَاءٌ: فِى يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يُنْفِقُ الْوَلِىُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ.
ذكر أبو عبيد، عن ابن عباس فى قوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} [البقرة: 220]، قال: لما أنزل الله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] الآية كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم فى شىء، وسألوا النبى - صلى الله عليه وسلم - عنه فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم.. ولو شاء الله لأعنتكم} [البقرة: 220]، يعنى لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه يسر ووسع فقال: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]، وروى النخعى، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مال اليتيم عندى، لا أخلط طعامه بطعامى، ولا شرابه بشرابى.
قال أبو عبيد: والذى دار عليه المعنى من هذا أن الله تعالى لما أوجب النار لآكل مال اليتيم أحجم المسلمون عن كل شىء من أمرهم حتى عن مخالطتهم، فنسخ الله ذلك بالإذن فى المخالطة، والإذن فى الإصابة من مالهم بالمعروف إذا كان الولى محتاجًا. قال أبو عبيد: ومخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرز طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحرى، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه.
قال أبو عبيد: وهذا عندى أصل لما يفعله الرفقاء فى الأسفار أنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد لا يتساوون فى كثرة المطعم وقلته، وليس كل من قل طعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا فى أموال اليتامى واسعًا كان فى غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 299)
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تحريم أموال اليتامى اليتامى هم الذين مات آباؤهم قبل البلوغ سواء كانوا ذكورا أو إناثا وهؤلاء أعني اليتامى محل الرفق والعناية والرحمة والشفقة لأنهم كسرت قلوبهم بموت آبائهم وليس لهم عائل إلا الله عز وجل فكانوا محل الرفق والعناية ولهذا أوصى الله بهم في كتابه وحث على الرحمة بهم آيات كثيرة ولا يحل للإنسان أن يأكل أموال اليتامى ظلما لقول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ويوجد بعض الناس والعياذ بالله يموت أخوه ويكون له أولاد صغار فيتولى ماله ويتاخر به لنفسه والعياذ بالله ويتصرف فيه بغير حق وبغير مصلحة للأيتام وهؤلاء يستحقون هذا الوعيد أنهم يأكلون في بطونهم نارا نسأل الله العافية وقال تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } يعني لا تتعاملوا في أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن فإذا كان أمامك مشروعان تريد أن تشغل مال اليتيم في واحد منهما فانظر أيهما أقرب إلى المصلحة والربح والسلامة فافعل ولا يحل لك أن تفعل ما هو أسوأ لحظ نفسك أو لحظ قريب أو أشبه ذلك بل انظر للذي هو أحسن فإن أشكل عليك هل فيه مصلحة لليتيم أم لا فلا تتصرف أمسك الدراهم لأن الله قال { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } فإذا أشكل عليك فلا تفعل ولا يحل لك أن تقرض أحدا من مال اليتامى يعني جاء إنسان يقول سلفني مثلا 10000 ريال أو 100000 ريال وعندك مالا لليتيم لا يحل لك أن تقرضه لأنه قد يعجز عن الوفاء ولا مصلحة لليتيم في قرضة وإذا كان لا يجوز أن تقرضه غيرك فمن باب أولى أن تستقرضه أنت لنفسك وبعض أولياء اليتامى والعياذ بالله يتجرءون يستقرض مال اليتيم لنفسه ويتصرف فيه لنفسه والكسب له والربح له ومال اليتيم لا يستفيد والله بقول { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } فإذا رأيت أن هذا المشروع أحسن وساهمت فيه وقدر الله أن يخسر هذا المشروع فليس عليك شيء لأنك مجتهد والمجتهد لو أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر لكن تتعمد أن تترك ما هو أحسن لما دونه هذا حرام عليك وقال الله تبارك تعالى: { ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوا فإخوانكم } وهذه الآية وردت جوابا عن سؤال أورده الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله نحن عندنا أموال اليتامى والبيت واحد والطعام واحد كيف نعمل إن جعلنا طعام هؤلاء في إناء خاص تعبنا وربما يفسد عليهم ماذا نعمل فقال الله عز وجل { إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم } يعني افعلوا ما هو الأصلح وخالطوهم اجعلوا القدر واحد والإناء واحد وما دمتم تريدون الإصلاح فالله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم وشق عليكم لكنه سبحانه وتعالى رحيم بالمؤمنين ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات السبع الموبقات المهلكات التي تهلك الدين والعياذ بالله قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله وهذا أعظم الموبقات أن تشرك بالله عز وجل وهو خلقك وأنعم عليك في بطن أمك وبعد وضعك وفي حال صباك أنعم الله عليك بنعم كثيرة فتشرك به والعياذ بالله هذا أظلم الظلم أظلم الظلم أن تجعل لله ندا وهو خلقك وهذا أعظم الموبقات الإشراك بالله والإشراك بالله أنواع كثيرة منها أن يعظم الإنسان المخلوق كما يعظم الخالق وهذا موجود عند بعض الخدم الأحرار وغير الأحرار تجده يعظم رئيسه يعظمه ملكه يعظم وزيره أكثر من تعظيم الله والعياذ بالله هذا شرك عظيم تعظم مخلوقا مثلك أعظم من تعظيم الله ويدل لهذا أن أميره أو وزيره أو ملكه أو سيده إذا قال افعل كذا وقت الصلاة ترك الصلاة وفعل حتى لو خرج وقتها لا يبالي معناه أنه جعل تعظيم المخلوق أعظم من تعظيم الخالق ومن ذلك أيضا المحبة أن يحب أحدا من المخلوقين كمحبة الله أو أعظم تجده يداري هذا الإنسان ويطلب محبته أكثر من محبه الله وهذا يوجد والعياذ بالله في المفتونين بالعشق الذين فتنوا بالعشق سواء كان عشق نساء أو مردان تجد قلبه مملوء بمحبة غير الله أكثر من محبة الله وقد قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } ومن ذلك وهو أمر خفي من ذلك الرياء فإنه من الشرك بالله يقوم الإنسان يصلي ويزين صلاته لأن فلانا يراه ينظر إليه يصوم ليقال إنه رجل عابد يصوم يتصدق ليقال إنه رجل كريم يتصدق هذا رياء وقد قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ومن ذلك أيضا من الشرك وهو خفي أيضا أن تأخذ الدنيا لب الإنسان وعقله تجد عقله وفكره وبدنه ونومه ويقظته كلها في الدنيا ماذا كسب اليوم وماذا خسر ولذلك تجده يتحيل على الدنيا بالحلال والحرام والكذب والخديعة لولاة الأمور ولا يبالي لأن الدنيا استعبدته والعياذ بالله والدليل على هذا الشرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار هل تظنون أن هذا يسجد للدينار لا لكن الدينار ملك قلبه تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة يعني الثياب تعس عبد الخميلة يعني الفرش ما همه إلا تجميل ثيابه تجميل فراشه أكبر عنده من الصلاة وغيرها من عبادة الله إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط إن أنعم الله عليه قال هذا الرب الكريم العظيم الجليل الذي يستحق كل شيء وإن لم يعط سخط والعياذ بالله { يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرا اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس خسر انتكس انتكست عليه الأمور وأفسد الله عليه أمره وإذا شيك فلا انتقش يعني معناه أن الله يعسر عليه الأمور حتى الشوكة لا يقدر يطلعها من بدنه إذا شيك أي أصابته الشوكة فلا انتقش ثم قال في مقابل هذا طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله طوبى يعني الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة لهذا العبد لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه انظر الأول عبد خميصة وخميلة أما الثاني ما يبالي بنفسه أهم شيء عنده هو عبادة الله ورضا الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الساقة كان في الساقة يعني معناه أنه لا يبالي أية منزلة ينزلها إذا كانت فيها مصلحة الجهاد فإنه يكون فيها هذا هو الذي ربح الدنيا والآخرة فالحاصل أن من الناس من يشرك بالله وهو لا يعلم وأنت يا أخي إذا رأيت الدنيا قد ملأت قلبك وأنه ليس لك هم إلا هي تنام عليها وتستيقظ عليها فاعلم أن في قلبك شركا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار ويدل لهذا أنه يحرص على الحصول على المال سواء بالحلال أو بالحرام والذي يعبد الله حقا لا يمكن أن يأخذ المال بالحرام إطلاقا لأن الحرام فيه سخط الله والحلال فيه رضا الله عز وجل والإنسان الذي يعبد الله حقا يقول لا يمكن أن أخذ المال إلا بطريقة ولا أصرفه إلا بطريقة فالحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن قال: الشرك بالله وإن شاء الله يأتي بقية الكلام على بقية الحديث والله الموفق(1/121)
وعن عَوْنَ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِى اشْتَرَى حَجَّامًا ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَكَسْبِ الأَمَةِ ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَآكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ .(1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : الرِّبَا ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا ، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ (2)
و عَنْ عَبْدِ اللهِ ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ.(3)
و عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً : آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَكَاتِبَهُ ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ ، وَالْحَالَّ ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "(4)
و عَنْ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهَرٍ يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ ، فَسَأَلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ : هَذَا آكِلُ الرِّبَا "(5)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ ».(6)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2238 )
شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 176)
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم اللَّعْن فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الْإِبْعَاد وَالطَّرْد ، وَفِي الشَّرْع الْإِبْعَاد مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى ؛ فَلَا يَجُوز أَنْ يُبْعَد مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى مَنْ لَا يُعْرَف حَاله وَخَاتِمَة أَمْره مَعْرِفَة قَطْعِيَّة . فَلِهَذَا قَالُوا : لَا يَجُوز لَعْن أَحَد بِعَيْنِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا أَوْ دَابَّة إِلَّا مَنْ عَلِمْنَا بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْر أَوْ يَمُوت عَلَيْهِ كَأَبِي جَهْلٍ ، وَإِبْلِيس . وَأَمَّا اللَّعْنُ بِالْوَصْفِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ كَلَعْنٍ الْوَاصِلَة وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالْوَاشِمَة وَالْمُسْتَوْشِمَة وَآكِل الرِّبَا وَمُوكِله وَالْمُصَوِّرِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكَافِرِينَ وَلَعْن مَنْ غَيَّرَ مَنَار الْأَرْضِ وَمَنْ تَوَلَّى غَيْر مَوَالِيه وَمَنْ اِنْتَسَبَ إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَمَنْ أَحْدَث فِي الْإِسْلَام حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوص الشَّرْعِيَّة بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَوْصَاف لَا عَلَى الْأَعْيَان . وَاَللَّه أَعْلَم .
(2) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 203)برقم(2259)
وقال :هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وهو صحيح
شرح بلوغ المرام - (ج 197 / ص 3)
شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم ) رواه ابن ماجة مختصراً، و الحاكم بتمامه وصححه ].
هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب.
إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب.
( وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم )، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة! وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا.
الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [البقرة:275]، وجاء الجواب: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة:275]، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين: إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: ( أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به ) .
وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً! إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.
(3) - مسند البزار برقم(1935)صحيح موقوف
(4) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم( 5266)حسن لغيره
(5) - الشعب برقم( 5267 ) صحيح
(6) - مسند أحمد برقم(3827) صحيح موقوف
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 8 / ص 333)
4505 - (الربا وإن كثر فإن عاقبته يصير إلى قل) بالضم القلة كالذلة والذل أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلاً يؤول إلى نقص ومحق آجلاً بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك فهو مما يكون هباءاً منثوراً {يمحق اللّه الربا} قال الطيبي: والكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا فيجب أن يقدر مال الربا لأن مال الربا ربا.
- (ك) في باب الربا (عن ابن مسعود) قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ورواه عنه أيضاً البزار.(1/122)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا أَكْثَرَ أَحَدٌ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قُلٍّ " (1)
و عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : " قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا رَبِّ ، مَنْ يَسْكُنُ غَدًا فِي حَظِيرَةِ الْقُدُسِ ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ ؟ قَالَ : يَا مُوسَى ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا تَنْظُرُ أَعْيُنُهُمْ فِي الزِّنَا ، وَلَا يَبْتَغُونَ فِي أَمْوَالِهِمُ الرِّبَا ، وَلَا يَأْخُذُونَ عَلَى أَحْكَامِهِمُ الرِّشَى ، طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا ، وَأَدْنَى فُجْرٍ مِثْلُ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ ، أَوْ مِثْلُ أَنْ يَضْطَجِعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَظُنُّ عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ "
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَالَ : " الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا ، أَدْنَاهَا فَجْرَةً مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَضْطَجِعَ الرَّجُلُ مَعَ أُمِّهِ ، وَأَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ(3)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دِرْهَمُ رِباً يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً ». (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تُطْعِمَ ، وَقَالَ : إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ(5)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ ». قَالَ وَقَالَ « مَا ظَهَرَ فِى قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».(6)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الرِّبَا ، وَالزِّنَا ، وَالْخَمْرُ " .(7)
و عَنْ حَبِيبِ بن عُبَيْدٍ، أَنَّ حَبِيبَ بن مَسْلَمَةَ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَرَبَطَهُ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ فَلَمَّا صَلَّى قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْغُلُولَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، فَقَامَ عَوْفُ بن مَالِكٍ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إِيَّاكُمْ وَمَا لا كَفَّارَةَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُرْبِي، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[آل عمران آية 161] ، وَإِنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ آكِلَ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا مُخَنَّقًا".
وفي رواية عَنْ عَوْفِ بن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِيَّايَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَآكِلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ", ثُمَّ قَرَأَ: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ"[البقرة آية 275] .(8)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهْوٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلاَلِهِمُ الْمَحَارِمَ وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ وَأَكْلِهِمُ الرِّبَا وَلُبْسِهِمُ الْحَرِيرَ ».(9)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ». (10)
__________
(1) - الشعب برقم( 5270) صحيح
(2) - الشعب برقم(5271 ) حسن موقوف
(3) -أخرجهما البيهقي في الشعب برقم( 5272 -5275) وهو صحيح موقوف
(4) - مسند أحمد برقم( 22600) وصحيح الجامع (3375) صحيح
(5) - المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 2 / ص 203) برقم( 2261)
والشعب (5531 و5416) وصحيح الجامع (679) صحيح لغيره
(6) - مسند أحمد برقم( 3886) صحيح لغيره
(7) - المعجم الأوسط للطبراني برقم(7910 ) صحيح
(8) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 12 / ص 428)برقم( 14536 و14537) حسن لغيره
(9) - مسند أحمد برقم( 23483) حسن لغيره
الأشر : الطغيان بالنعمة = البطر : التكبر على الحق فلا يقبله
(10) - سنن أبى داود برقم( 3464 ) صحيح
عون المعبود - (ج 7 / ص 453)
( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ )قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْعِين بِالْكَسْرِ السَّلَف .
وَقَالَ فِي الْقَامُوس : وَعَيَّنَ أَخَذَ بِالْعِينَة بِالْكَسْرِ أَيْ السَّلَف أَوْ أَعْطَى بِهَا . قَالَ وَالتَّاجِر بَاعَ سِلْعَته بِثَمَنٍ إِلَى أَجَل ثُمَّ اِشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَن اِنْتَهَى . قَالَ الرَّافِعِيّ : وَبَيْع الْعِينَة هُوَ أَنْ يَبِيع شَيْئًا مِنْ غَيْره بِثَمَنٍ مُؤَجَّل وَيُسَلِّمهُ إِلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِيه قَبْل قَبْض الثَّمَن بِثَمَنِ نَقْد أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْر اِنْتَهَى .
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَم جَوَاز بَيْع الْعِينَة مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه . كَذَا فِي النَّيْل . وَقَدْ حَقَّقَ الْإِمَام اِبْن الْقَيِّم عَدَم جَوَاز الْعِينَة وَنَقَلَ مَعْنَى كَلَامه الْعَلَّامَة الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْل .
( وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ) حُمِلَ هَذَا عَلَى الِاشْتِغَال بِالزَّرْعِ فِي زَمَن يَتَعَيَّن فِيهِ الْجِهَاد
( وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد ) أَيْ الْمُتَعَيَّن فِعْله
( سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا ) بِضَمِّ الذَّال الْمُعْجَمَة وَكَسْرهَا أَيْ صَغَارًا وَمَسْكَنَة وَمَنْ أَنْوَاع الذُّلّ الْخَرَاج الَّذِي يُسَلِّمُونَهُ كُلّ سَنَة لِمُلَّاكِ الْأَرْض .
وَسَبَب هَذَا الذُّلّ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه الَّذِي فِيهِ عِزّ الْإِسْلَام وَإِظْهَاره عَلَى كُلّ دِين عَامَلَهُمْ اللَّه بِنَقِيضِهِ وَهُوَ إِنْزَال الذِّلَّة بِهِمْ فَصَارُوا يَمْشُونَ خَلْف أَذْنَاب الْبَقَر بَعْد أَنْ كَانُوا يَرْكَبُونَ عَلَى ظُهُور الْخَيْل الَّتِي هِيَ أَعَزّ مَكَان . قَالَهُ فِي النَّيْل .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : وَفِي إِسْنَاده إِسْحَاق بْن أَسِيدٍ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِيّ نَزِيل مِصْر لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ . وَفِيهِ أَيْضًا عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَفِيهِ مَقَال .
تَعْلِيقُ الْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ :
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين ابْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه : وَفِي الْبَاب حَدِيث أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ عَنْ اِمْرَأَته " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة فَدَخَلَتْ مَعَهَا أُمّ وَلَد زَيْد بْن أَرْقَمَ ، فَقَالَتْ : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي بِعْت غُلَامًا مِنْ زَيْد بْن أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم نَسِيئَة ، وَإِنِّي اِبْتَعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة : " بِئْسَمَا اِشْتَرَيْت ، وَبِئْسَمَا شَرَيْت ، أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَطَلَ إِلَى أَنْ يَتُوب " .
هَذَا الْحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيّ ، وَأَعَلَّهُ بِالْجَهَالَةِ بِحَالِ اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق ، وَقَالَ : لَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إِلَى الْعَطَاء ، لِأَنَّهُ أَجَل غَيْر مَعْلُوم .
ثُمَّ قَالَ : وَلَا يَثْبُت مِثْل هَذَا عَنْ عَائِشَة ، وَزَيْد بْن أَرْقَمَ لَا يَبِيع إِلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرَوَاهُ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أُمّه الْعَالِيَة بِنْت أَنْفَع " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة مَعَ أُمّ مُحَمَّد " .
وَقَالَ غَيْره : هَذَا الْحَدِيث حَسَن ، وَيُحْتَجّ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عَنْ الْعَالِيَة ثِقَتَانِ ثَبْتَانِ : أَبُو إِسْحَاق زَوْجهَا ، وَيُونُس اِبْنهَا ، وَلَمْ يُعْلَم فِيهَا جَرْح ، وَالْجَهَالَة تَرْتَفِع عَنْ الرَّاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ : ثُمَّ إِنَّ هَذَا مِمَّا ضُبِطَتْ فِيهِ الْقِصَّة ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَهَا عَلَى عَائِشَة ، وَقَدْ صَدَّقَهَا زَوْجهَا وَابْنهَا وَهُمَا مَنْ هُمَا ، فَالْحَدِيث مَحْفُوظ .
وَقَوْله فِي الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا " هُوَ مُنَزَّل عَلَى الْعِينَة بِعَيْنِهَا ، قَالَهُ شَيْخنَا ، لِأَنَّهُ بَيْعَانِ فِي بَيْع وَاحِد ، فَأَوْكَسهمَا : الثَّمَن الْحَالّ وَإِنْ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمُؤَجَّل - أَخَذَ بِالرِّبَا . فَالْمَعْنَيَانِ لَا يَنْفَكَّانِ مِنْ أَحَد الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْأَخْذ بِأَوْكَس الثَّمَنَيْنِ ، أَوْ الرِّبَا ، وَهَذَا لَا يَتَنَزَّل إِلَّا عَلَى الْعِينَة .
فَصْل -قَالَ الْمُحَرِّمُونَ لِلْعِينَةِ : الدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمهَا مِنْ وُجُوه .
أَحَدهَا : أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا وَالْعِينَة وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْرَب وَسَائِله وَالْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام ، فَهُنَا مَقَامَانِ .
أَحَدهمَا : بَيَان كَوْنهَا وَسِيلَة .
وَالثَّانِي : بَيَان أَنَّ الْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام .
فَأَمَّا الْأَوَّل : فَيَشْهَد لَهُ بِهِ النَّقْل وَالْعُرْف وَالنِّيَّة وَالْقَصْد ، وَحَال الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
فَأَمَّا النَّقْل : فَبِمَا ثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل بَاعَ مِنْ رَجُل حَرِيرَة بِمِائَةٍ ، ثُمَّ اِشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ ؟ فَقَالَ : دَرَاهِم بِدَرَاهِم مُتَفَاضِلَة ، دَخَلَتْ بَيْنهَا حَرِيرَة " .
وَفِي كِتَاب مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْحَافِظ الْمَعْرُوف بِمَعِينٍ ، عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّهُ قَالَ " اِتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَة ، لَا تَبِيعُوا دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَيْنهمَا حَرِيرَة " .
وَفِي كِتَاب أَبِي مُحَمَّد النَّجَشِيّ الْحَافِظ عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة يَعْنِي بَيْع الْحَرِيرَة ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " .
وَفِي كِتَاب الْحَافِظ مَعِين عَنْ أَنَس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة - يَعْنِي بَيْع الْحَرِيرَة - فَقَالَ : إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " .
وَقَوْل الصَّحَابِيّ " حَرَّمَ رَسُول اللَّه كَذَا ، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا ، وَقَضَى بِكَذَا ، وَأَوْجَبَ كَذَا " فِي حُكْم الْمَرْفُوع اِتِّفَاقًا عِنْد أَهْل الْعِلْم ، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا لَا يُعْتَدّ بِهِ ، وَلَا يُؤْبَه لَهُ .
وَشُبْهَة الْمُخَالِف : أَنَّهُ لَعَلَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ، فَظَنَّ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ ، وَلَا تَحْرِيم كَذَلِكَ ، وَهَذَا فَاسِد جِدًّا .
فَإِنَّ الصَّحَابَة أَعْلَم بِمَعَانِي النُّصُوص ، وَقَدْ تَلَقَّوْهَا مِنْ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليع وَسَلَّمَ ، فَلَا يُظَنّ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِم عَلَى قَوْله " أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ حَرَّمَ أَوْ فَرَضَ " إِلَّا بَعْد سَمَاع ذَلِكَ ، وَدَلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ ، وَاحْتِمَال خِلَاف هَذَا كَاحْتِمَالِ الْغَلَط وَالسَّهْو فِي الرِّوَايَة بَلْ دُونه فَإِنْ رُدَّ قَوْله " أَمَرَ " وَنَحْوه بِهَذَا الِاحْتِمَال وَجَبَ رَدّ رِوَايَته لِاحْتِمَالِ السَّهْو وَالْغَلَط وَإِنْ قُبِلَتْ رِوَايَته : وَجَبَ قَبُول الْآخَر . وَأَمَّا شَهَادَة الْعُرْف بِذَلِكَ : فَأَظْهَر مِنْ أَنْ تَحْتَاج إِلَى تَقْرِير ، بَلْ قَدْ عَلِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبَاده مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ ذَلِكَ : قَصْدهمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَا عَلَى السِّلْعَة عَقْدًا يَقْصِدَانِ بِهِ تَمَلُّكهَا وَلَا غَرَض لَهُمَا فِيهَا بِحَالٍ . وَإِنَّمَا الْغَرَض وَالْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الْأَوَّل : مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِدْخَال تَلِك السِّلْعَة فِي الْوَسَط تَلْبِيس وَعَبَث ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْف الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسه ، بَلْ جِيءَ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْره ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تِلْكَ السِّلْعَة تُسَاوِي أَضْعَاف ذَلِكَ الثَّمَن أَوْ تُسَاوِي أَقَلّ جُزْء مِنْ أَجْزَائِهِ لَمْ يُبَالُوا بِجَعْلِهَا مَوْرِدًا لِلْعَقْدِ ، لِأَنَّهُمْ لَا غَرَض لَهُمْ فِيهَا وَأَهْل الْعُرْف لَا يُكَابِرُونَ أَنْفُسهمْ فِي هَذَا .
وَأَمَّا النِّيَّة وَالْقَصْد : فَالْأَجْنَبِيّ الْمُشَاهِد لَهُمَا يَقْطَع بِأَنَّهُ لَا غَرَض لَهُمَا فِي السِّلْعَة وَإِنَّمَا الْقَصْد الْأَوَّل مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَضْلًا عَنْ عِلْم الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنِيَّتهمَا ، وَلِهَذَا يَتَوَاطَأ كَثِير مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَبْل الْعَقْد ، ثُمَّ يَحْضُرَانِ تَلِك السِّلْعَة مُحَلِّلًا لِمَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله .
وَأَمَّا الْمَقَام الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام : فَبَانَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْفِطْرَة وَالْمَعْقُول .
فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه مَسَخَ الْيَهُود قِرَدَة وَخَنَازِير لَمَّا تَوَسَّلُوا إِلَى الصَّيْد الْحَرَام بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي ظَنُّوهَا مُبَاحَة ، وَسَمَّى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ مِثْل ذَلِكَ مُخَادَعَة ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ " يُخَادِعُونَ اللَّه كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَان ، لَوْ أَتَوْا الْأَمْر عَلَى وَجْهه كَانَ أَسْهَل " .
وَالرُّجُوع إِلَى الصَّحَابَة فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظ مُتَعَيَّن ، سَوَاء كَانَتْ لُغَوِيَّة ، أَوْ شَرْعِيَّة ، وَالْخِدَاع حَرَام .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا الْعَقْد يَتَضَمَّن إِظْهَار صُورَة مُبَاحَة ، وَإِضْمَار مَا هُوَ مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر ، فَلَا تَنْقَلِب الْكَبِيرَة مُبَاحَة بِإِخْرَاجِهَا فِي صُورَة الْبَيْع الَّذِي لَمْ يُقْصَد نَقْل الْمِلْك فِيهِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا قَصْده حَقِيقَة الرِّبَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّرِيق مَتَى أَفْضَتْ إِلَى الْحَرَام ، فَإِنَّ الشَّرِيعَة لَا تَأْتِي بِإِبَاحَتِهَا أَصْلًا ، لِأَنَّ إِبَاحَتهَا وَتَحْرِيم الْغَايَة جَمْع بَيْن النَّقِيضَيْنِ ، فَلَا يُتَصَوَّر أَنْ يُبَاح شَيْء وَيُحَرَّم مَا يُفْضِي إِلَيْهِ ، بَلْ لَا بُدّ مِنْ تَحْرِيمهمَا أَوْ إِبَاحَتهمَا ، وَالثَّانِي بَاطِل قَطْعًا فَيَتَعَيَّن الْأَوَّل .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الشَّارِع إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا ، وَجَعَلَهُ مِنْ الْكَبَائِر ، وَتَوَعَّدَ آكِله بِمُحَارَبَةِ اللَّه وَرَسُوله ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَعْظَم الْفَسَاد وَالضَّرَر ، فَكَيْف يتصور مَعَ هَذَا - أَنْ يُبِيح هَذَا الْفَسَاد الْعَظِيم بِأَيْسَر شَيْء يَكُون مِنْ الْحِيَل ؟ فَيَالِلَّه الْعَجَب ، أَتَرَى هَذِهِ الْحِيلَة أَزَالَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَة الْعَظِيمَة ، وَقَلَبَتْهَا مَصْلَحَة ، بَعْد أَنْ كَانَتْ مَفْسَدَة ؟ وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه عَاقَبَ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ أَقْسَمُوا لَيَصْرُمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَكَانَ مَقْصُودهمْ مَنْع حَقّ الْفُقَرَاء مِنْ التَّمْر الْمُتَسَاقِط وَقْت الْحَصَاد ، فَلَمَّا قَصَدُوا مَنْع حَقّهمْ مَنَعَهُمْ اللَّه الثَّمَرَة جُمْلَة .
وَلَا يُقَال : فَالْعُقُوبَة إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى رَدّ الِاسْتِثْنَاء وَحْده لِوَجْهَيْنِ .
أَحَدهمَا : أَنَّ الْعُقُوبَة مِنْ جِنْس الْعَمَل ، وَتَرْك الِاسْتِثْنَاء عُقُوبَته : أَنْ يَعُوق وَيَنْسَى لَا إِهْلَاك مَاله ، بِخِلَافِ عُقُوبَة ذَنْب الْحِرْمَان فَإِنَّهَا حِرْمَان كَالذَّنْبِ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا { أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْم عَلَيْكُمْ مِسْكِين }
وَذَنْب الْعُقُوبَة عَلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَصْف مَدْخَل فِي الْعُقُوبَة لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْعِلَّة التَّامَّة كَانَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّة .
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُل الْمَقْصُود .
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَالْمُتَوَسِّل بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي صُورَتهَا مُبَاحَة إِلَى الْمُحَرَّم إِنَّمَا نِيَّته الْمُحَرَّم ، وَنِيَّته أَوْلَى بِهِ مِنْ ظَاهِر عَمَله " .
وَأَيْضًا : فَقَدْ رَوَى اِبْن بَطَّة وَغَيْره بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا تَرْتَكِبُوا مَا اِرْتَكَبَ الْيَهُود فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِم اللَّه بِأَدْنَى الْحِيَل " وَإِسْنَاده مِمَّا يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَعَنَ اللَّه الْيَهُود حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُوم فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانهَا " وَ " جَمَّلُوهَا " يَعْنِي أَذَابُوهَا وَخَلَطُوهَا ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَزُولَ عَنْهَا اِسْم الشَّحْم ، وَيَحْدُث لَهَا اِسْم آخَر وَهُوَ الْوَدَك ، وَذَلِكَ لَا يُفِيد الْحِلّ ، فَإِنَّ التَّحْرِيم تَابِع لِلْحَقِيقَةِ وَهِيَ لَمْ تَتَبَدَّل بِتَبَدُّلِ الِاسْم
وَهَذَا الرِّبَا تَحْرِيمه تَابِع لِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَته فَلَا يَزُول بِتَبَدُّلِ الِاسْم بِصُورَةِ الْبَيْع كَمَا لَمْ يَزُلْ تَحْرِيم الشَّحْم بِتَبْدِيلِ الِاسْم بِصُورَةِ الْجَمْل وَالْإِذَابَة وَهَذَا وَاضِح بِحَمْدِ اللَّه .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْيَهُود لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْم ، إِنَّمَا اِنْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ ، فَيَلْزَم مَنْ وَقَفَ مَعَ صُوَر الْعُقُود وَالْأَلْفَاظ ، دُون مَقَاصِدهَا وَحَقَائِقهَا أَنْ يُحَرِّم ذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَنُصّ عَلَى تَحْرِيم الثَّمَن وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ نَفْس الشَّحْم وَلَمَّا لَعَنَهُمْ عَلَى اِسْتِحْلَالهمْ الثَّمَن ، وَإِنْ لَمْ يَنُصّ عَلَى تَحْرِيمه دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِب النَّظَر إِلَى الْمَقْصُود وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ الْوَسَائِل إِلَيْهِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِب أَنْ لَا يُقْصَد الِانْتِفَاع بِالْعَيْنِ وَلَا بِبَدَلِهَا .
وَنَظِير هَذَا أَنْ يُقَال : لَا تَقْرَب مَال الْيَتِيم فَتَبِيعهُ وَتَأْكُل عِوَضه ، وَأَنْ يُقَال : لَا تَشْرَب الْخَمْر فَتُغَيِّر اِسْمه وَتَشْرَبهُ ، وَأَنْ يُقَال : لَا تَزْنِ بِهَذِهِ الْمَرْأَة فَتَعْقِد عَلَيْهَا عَقْد إِجَارَة وَتَقُول إِنَّمَا أَسْتَوْفِي مَنَافِعهَا وَأَمْثَال ذَلِكَ .
قَالُوا : وَلِهَذَا الْأَصْل - وَهُوَ تَحْرِيم الْحِيَل الْمُتَضَمِّنَة إِبَاحَة مَا حَرَّمَ اللَّه أَوْ إِسْقَاط مَا أَوْجَبَهُ اللَّه عَلَيْهِ - أَكْثَر مِنْ مِائَة دَلِيل ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ " مَعَ أَنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ عَقْد النِّكَاح الصَّحِيح ، لِمَا كَانَ مَقْصُوده التَّحْلِيل ، لَا حَقِيقَة النِّكَاح .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ زَانِيًا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى صُورَة الْعَقْد .
الدَّلِيل الثَّانِي عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا أَسْوَد بْن عَامِر حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول " إِذَا ضَنَّ النَّاس بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَاب الْبَقَر ، وَتَرَكُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه : أَنْزَلَ اللَّه بِهِمْ بَلَاء ، فَلَا يَرْفَعهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهمْ " .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح إِلَى حَيْوَة بْن شُرَيْح الْمِصْرِيّ عَنْ إِسْحَاق أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِيّ أَنَّ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول - فَذَكَرَهُ ، وَهَذَانِ إِسْنَادَانِ حَسَنَانِ يَشُدّ أَحَدهمَا الْآخَر .
فَأَمَّا رِجَال الْأَوَّل فَأَئِمَّة مَشَاهِير ، وَإِنَّمَا يُخَاف أَنْ لَا يَكُون الْأَعْمَش سَمِعَهُ مِنْ عَطَاء أَوْ أَنَّ عَطَاء لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ اِبْن عُمَر .
وَالْإِسْنَاد الثَّانِي : يُبَيِّن أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ اِبْن عُمَر ، فَإِنَّ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ ثِقَة مَشْهُور وَحَيْوَة كَذَلِكَ . وَأَمَّا إِسْحَاق أَبُو عَبْد الرَّحْمَن فَشَيْخ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّة الْمِصْرِيِّينَ ، مِثْل حَيْوَة وَاللَّيْث وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَغَيْرهمْ .
وَلَهُ طَرِيق ثَالِث : رَوَاهُ السَّرِيّ بْن سَهْل حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن رَشِيد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد عَنْ لَيْث عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ " لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَان وَمَا مِنَّا رَجُل يَرَى أَنَّهُ أَحَقّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمه مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِم ، وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : إِذَا ضَنَّ النَّاس بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَتَرَكُوا الْجِهَاد ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَاب الْبَقَر أَدْخَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى دِينهمْ " وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا وَأَنَّهُ مَحْفُوظ .
الدَّلِيل الثَّالِث : مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيث أَنَس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " ؟ وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظ فِي حُكْم الْمَرْفُوع .
الدَّلِيل الرَّابِع : مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَقَوْله " هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " .
الدَّلِيل الْخَامِس : مَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ جَدَّته الْعَالِيَة ، وَرَوَاهُ حَرْب مِنْ حَدِيث إِسْرَائِيل حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاق عَنْ جَدَّته الْعَالِيَة - يَعْنِي جَدَّة إِسْرَائِيل - فَإِنَّهَا اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق قَالَتْ " دَخَلْت عَلَى عَائِشَة فِي نِسْوَة فَقَالَتْ مَا حَاجَتكُنَّ ؟ فَكَانَ أَوَّل مَنْ سَأَلَهَا أُمّ مَحَبَّة ، فَقَالَتْ يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْد بْن أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ نَعَمْ .
قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْته جَارِيَة لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم إِلَى الْعَطَاء ، وَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَم نَقْدًا . فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى ، فَقَالَتْ : بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اِشْتَرَيْت ، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوب ، وَأَفْحَمَتْ صَاحِبَتنَا فَلَمْ تَتَكَلَّم طَوِيلًا ، ثُمَّ إِنَّهُ سُهِّلَ عَنْهَا فَقَالَتْ : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إِنْ لَمْ آخُذ إِلَّا رَأْس مَالِي ؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَف } " .
فَلَوْلَا أَنَّ عِنْد أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا لَا تَسْتَرِيب فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّم لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُول مِثْل هَذَا بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَل يَحْبَط بِالرِّدَّةِ ، وَأَنَّ اِسْتِحْلَال الرِّبَا أَكْفَر ، وَهَذَا مِنْهُ ، وَلَكِنَّ زَيْدًا مَعْذُور لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَم أَنَّ هَذَا مُحَرَّم ، وَلِهَذَا قَالَتْ " أَبْلِغِيهِ " .
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِر الَّتِي يُقَاوِم إِثْمهَا ثَوَاب الْجِهَاد فَيَصِير بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَة وَسَيِّئَة بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا .
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : لِجَزْمِ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مِنْ مَسَائِل الِاجْتِهَاد وَالنِّزَاع بَيْن الصَّحَابَة لَمْ تُطْلِق عَائِشَة ذَلِكَ عَلَى زَيْد فَإِنَّ الْحَسَنَات لَا تَبْطُل بِمَسَائِل الِاجْتِهَاد .
وَلَا يُقَال : فَزَيْد مِنْ الصَّحَابَة وَقَدْ خَالَفَهَا ، لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُلْ : هَذَا حَلَال بَلْ فَعَلَهُ وَفِعْل الْمُجْتَهِد لَا يَدُلّ عَلَى قَوْله عَلَى الصَّحِيح لِاحْتِمَالِ سَهْو أَوْ غَفْلَة أَوْ تَأْوِيل أَوْ رُجُوع وَنَحْوه وَكَثِيرًا مَا يَفْعَل الرَّجُل الشَّيْء ، وَلَا يَعْلَم مَفْسَدَته ، فَإِذَا بِهِ لَهُ اِنْتَبَهَ وَلَا سِيَّمَا أُمّ وَلَده ، فَإِنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة تَسْتَفْتِيهَا ، وَطَلَبَتْ الرُّجُوع إِلَى رَأْس مَالهَا ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الرُّجُوع عَنْ ذَلِكَ الْعَقْد ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ زَيْد أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّم ثُبُوت الْحَدِيث ، فَإِنَّ أُمّ وَلَد زَيْد مَجْهُولَة .
قُلْنَا : أُمّ وَلَده لَمْ تَرْوِ الْحَدِيث ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ صَاحِبَة الْقِصَّة ، وَأَمَّا الْعَالِيَة فَهِيَ اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ ، وَهِيَ مِنْ التَّابِعِيَّات ، وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة وَرَوَى عَنْهَا أَبُو إِسْحَاق ، وَهُوَ أَعْلَم بِهَا . وَفِي الْحَدِيث قِصَّة وَسِيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظ وَأَنَّ الْعَالِيَة لَمْ تَخْتَلِق هَذِهِ الْقِصَّة وَلَمْ تَضَعهَا ، بَلْ يَغْلِب عَلَى الظَّنّ غَلَبَة قَوِيَّة صِدْقهَا فِيهَا وَحِفْظهَا لَهَا ، وَلِهَذَا رَوَاهَا عَنْهَا زَوْجهَا مَيْمُون وَلَمْ يَنْهَهَا وَلَا سِيَّمَا عِنْد مَنْ يَقُول رِوَايَة الْعَدْل عَنْ غَيْره تَعْدِيل لَهُ ، وَالْكَذِب لَمْ يَكُنْ فَاشِيًا فِي التَّابِعِينَ فُشُوّهُ فِيمَنْ بَعْدهمْ ، وَكَثِير مِنْهُمْ كَانَ يَرْوِي عَنْ أُمّه وَامْرَأَته مَا يُخْبِرهُنَّ بِهِ أَزْوَاج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَحْتَجّ بِهِ .
فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث تُبَيِّن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعِينَة :
حَدِيث اِبْن عُمَر الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظ الْعِينَة .
وَحَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس : أَنَّهَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله .
وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا ، وَالْمُرْسَل مِنْهَا لَهُ مَا يُوَافِقهُ ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْض الصَّحَابَة وَالسَّلَف وَهَذَا حُجَّة بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاء .
الدَّلِيل السَّادِس : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا " .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيره قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَقُول : بِعْتُك بِعُمْرَةٍ نَقْدًا أَوْ عِشْرِينَ نَسِيئَة ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ سِمَاك فَفَسَّرَهُ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود قَالَ " نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة ، قَالَ سِمَاك : الرَّجُل يَبِيع الرَّجُل ، فَيَقُول : هُوَ عَلَيَّ نَسَاء بِكَذَا ، وَبِنَقْدٍ بِكَذَا " .
وَهَذَا التَّفْسِير ضَعِيف ، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِل الرِّبَا فِي هَذِهِ الصُّورَة وَلَا صَفْقَتَيْنِ هُنَا وَإِنَّمَا هِيَ صَفْقَة وَاحِدَة بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ .
وَالتَّفْسِير الثَّانِي : أَنْ يَقُول أَبِيعكهَا بِمِائَةٍ إِلَى سَنَة عَلَى أَنْ أَشْتَرِيهَا مِنْهَا بِثَمَانِينَ حَالَّة وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيث الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ غَيْره ، وَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ " فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا " فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذ الثَّمَن الزَّائِد فَيُرْبِي أَوْ الثَّمَن الْأَوَّل فَيَكُون هُوَ أَوْكَسهمَا ، وَهُوَ مُطَابِق لِصَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة . فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ صَفْقَتَيْ النَّقْد وَالنَّسِيئَة فِي صَفْقَة وَاحِدَة وَمَبِيع وَاحِد ، وَهُوَ قَصْد بَيْع دَرَاهِم عَاجِلَة بِدَرَاهِم مُؤَجَّلَة أَكْثَر مِنْهَا ، وَلَا يَسْتَحِقّ إِلَّا رَأْس مَاله ، وَهُوَ أَوْكَس الصَّفْقَتَيْنِ ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا الْأَكْثَر كَانَ قَدْ أَخَذَ الرِّبَا .
فَتَدَبَّرْ مُطَابَقَة هَذَا التَّفْسِير لِأَلْفَاظِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْطِبَاقه عَلَيْهَا .
وَمِمَّا يَشْهَد لِهَذَا التَّفْسِير : مَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة " و " عَنْ سَلَف وَبَيْع " فَجَمْعه بَيْن هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فِي النَّهْي لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَئُول إِلَى الرِّبَا ، لِأَنَّهُمَا فِي الظَّاهِر بَيْع وَفِي الْحَقِيقَة رِبًا .
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة : حَدِيث اِبْن مَسْعُود يَرْفَعهُ " لَعَنَ اللَّه آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبه وَالْمُحِلّ وَالْمُحَلَّل لَهُ " .
وَمَعْلُوم أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِب إِنَّمَا يَكْتُب وَيَشْهَد عَلَى عَقْد صُورَته جَائِزَة الْكِتَابَة وَالشَّهَادَة لَا يَشْهَد بِمُجَرَّدِ الرِّبَا ، وَلَا يَكْتُبهُ . وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّل لَهُ ، حَيْثُ أَظْهَرَا صُورَة النِّكَاح وَلَا نِكَاح ، كَمَا أَظْهَرَ الْكَاتِب وَالشَّاهِدَانِ صُورَة الْبَيْع وَلَا بَيْع .
وَتَأَمَّلْ كَيْف لَعَنَ فِي الْحَدِيث الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِب وَالْآكِل وَالْمُوَكِّل ؟ فَلَعَنَ الْمَعْقُود لَهُ .
وَالْمُعِين لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْد وَلَعَنَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ، فَالْمُحَلَّل لَهُ : هُوَ الَّذِي يُعْقَد التَّحْلِيل لِأَجْلِهِ وَالْمُحَلِّل : هُوَ الْمُعِين لَهُ بِإِظْهَارِ صُورَة الْعَقْد كَمَا أَنَّ الْمُرَابِي : هُوَ الْمُعَان عَلَى أَكْل الرِّبَا بِإِظْهَارِ صُورَة الْعَقْد الْمَكْتُوب الْمَشْهُود بِهِ .
فَصَلَوَات اللَّه عَلَى مَنْ أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلِم .
الدَّلِيل السَّابِع : مَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ " إِذَا اِسْتَقَمْت بِنَقْدٍ ، فَبِعْت بِنَقْدٍ ، فَلَا بَأْس ، وَإِذَا اِسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْت بِنَسِيئَةٍ فَلَا خَيْر فِيهِ ، تِلْكَ وَوَرِق بِوَرِقٍ " رَوَاهُ سَعِيد وَغَيْره .
وَمَعْنَى كَلَامه : أَنَّك إِذَا قَوَّمْت السِّلْعَة بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا بِنَسِيئَةٍ كَانَ مَقْصُود الْمُشْتَرِي شِرَاء دَرَاهِم مُعَجَّلَة بِدَرَاهِم مُؤَجَّلَة وَإِذَا قَوَّمْتهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا بِهِ فَلَا بَأْس . فَإِنَّ ذَلِكَ بَيْع الْمَقْصُود مِنْهُ السِّلْعَة لَا الرِّبَا .
الدَّلِيل الثَّامِن : مَا رَوَاهُ اِبْن بَطَّة عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ " يَعْنِي الْعِينَة .
وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - فَهُوَ صَالِح لِلِاعْتِضَادِ بِهِ ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَرْفُوع مَا يُؤَكِّدهُ .
وَيَشْهَد لَهُ أَيْضًا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيَشْرَبَنَّ نَاس مِنْ أُمَّتِي الْخَمْر يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اِسْمهَا " .
وَقَوْله أَيْضًا ، فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّل دِينكُمْ نُبُوَّة وَرَحْمَة ، ثُمَّ خِلَافَة وَرَحْمَة ، ثُمَّ مُلْك وَرَحْمَة ، ثُمَّ مُلْك وَجَبْرِيَّة ، ثُمَّ مُلْك عَضُوض يُسْتَحَلّ فِيهِ الْحِر وَالْحَرِير " وَالْحِر - بِكَسْرِ الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء - هُوَ الْفَرْج .
فَهَذَا إِخْبَار عَنْ اِسْتِحْلَال الْمَحَارِم ، وَلَكِنَّهُ بِتَغْيِيرِ أَسْمَائِهَا ، وَإِظْهَارهَا فِي صُوَر تُجْعَل وَسِيلَة إِلَى اِسْتِبَاحَتهَا ، وَهِيَ الرِّبَا وَالْخَمْر وَالزِّنَا ، فَيُسَمَّى كُلّ مِنْهَا بِغَيْرِ اِسْمهَا ، وَيُسْتَبَاح الِاسْم الَّذِي سُمِّيَ بِهِ ، وَقَدْ وَقَعَتْ الثَّلَاثَة .
وَفِي قَوْل عَائِشَة " بِئْسَمَا شَرَيْت ، وَبِئْسَمَا اِشْتَرَيْت " دَلِيل عَلَى بُطْلَان الْعَقْدَيْنِ مَعًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْمَذْهَب ، لِأَنَّ الثَّانِي عَقْد رِبًا وَالْأَوَّل وَسِيلَة إِلَيْهِ .
وَفِيهِ قَوْل آخَر فِي الْمَذْهَب . أَنَّ الْعَقْد الْأَوَّل صَحِيح ، لِأَنَّهُ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطه ، فَطَرَيَان الثَّانِي عَلَيْهِ لَا يُبْطِلهُ وَهَذَا ضَعِيف ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا ، فَهُوَ طَرِيق إِلَى الْمُحَرَّم ، فَكَيْف يُحْكَم بِصِحَّتِهِ ؟ وَهَذَا الْقَوْل لَا يَلِيق بِقَوَاعِد الْمَذْهَب .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَة بِنَقْدٍ ثُمَّ اِشْتَرَاهَا بِأَكْثَر مِنْهُ نَسِيئَة ؟ قُلْنَا : قَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَة حَرْب عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا أَنْ تَتَغَيَّر السِّلْعَة لِأَنَّ هَذَا يُتَّخَذ وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا ، فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ الْعِينَة سَوَاء وَهِيَ عَكْسهَا صُورَة وَفِي الصُّورَتَيْنِ قَدْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّته دَرَاهِم مُؤَجَّلَة بِأَقَلّ مِنْهَا نَقْدًا ، لَكِنْ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ : الْبَائِع هُوَ الَّذِي اُسْتُغِلَّتْ ذِمَّته ، وَفِي الصُّورَة الْأُخْرَى : الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي اُسْتُغِلَّتْ ذِمَّته ، فَلَا فَرْق بَيْنهمَا .
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَحْتَمِل أَنْ تَجُوز الصُّورَة الثَّانِيَة . إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَة وَلَا مُوَاطَأَة بَلْ وَاقِع اِتِّفَاقًا .
وَفَرَّقَ بَيْنهمَا وَبَيْن الصُّورَة الْأُولَى بِفَرْقَيْنِ .
أَحَدهمَا : أَنَّ النَّصّ وَرَدَ فِيهَا فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى أَصْل الْجَوَاز .
وَالثَّانِي : أَنَّ التَّوَسُّل إِلَى الرِّبَا بِتِلْكَ الصُّورَة أَكْثَر مِنْ التَّوَسُّل بِهَذِهِ .
وَالْفَرْقَانِ ضَعِيفَانِ . أَمَّا الْأَوَّل : فَلَيْسَ فِي النَّصّ مَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِصَاص الْعِينَة بِالصُّورَةِ الْأُولَى حَتَّى تَتَقَيَّد بِهِ نُصُوص مُطْلَقَة عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة . وَالْعِينَة فِعْلَة مِنْ الْعَيْن ، قَالَ الشَّاعِر : أَنِدَّانِ أَمْ نَعْتَانِ ، أَمْ يَنْبَرِي لَنَا مِثْل نَصْل السَّيْف مِيزَتْ مَضَارِبه ؟ قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ : أَنَا أَظُنّ أَنَّ الْعِينَة إِنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَة الرَّجُل إِلَى الْعَيْن مِنْ الذَّهَب وَالْوَرِق ، فَيَشْتَرِي السِّلْعَة وَيَبِيعهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي اِحْتَاجَ إِلَيْهَا ، وَلَيْسَتْ بِهِ إِلَى السِّلْعَة حَاجَة .
وَأَمَّا الْفَرْق الثَّانِي . فَكَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَر فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الذَّرِيعَة ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْفَرْق مِنْ الِاتِّفَاق وَالْقَصْد لَزِمَ طَرْد ذَلِكَ فِي الصُّورَة الْأُولَى ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ إِذَا لَمْ تُعَدْ السِّلْعَة إِلَيْهِ بَلْ رَجَعَتْ إِلَى ثَالِث هَلْ تُسَمُّونَ ذَلِكَ عِينَة ؟ قِيلَ : هَذِهِ مَسْأَلَة التَّوَرُّق ، لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا الْوَرِق ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْعِينَة ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اِسْمهَا .
وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي كَرَاهِيَتهَا ، فَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَكْرَههَا ، وَكَانَ يَقُول " التَّوَرُّق أُخَيَّة الرِّبَا " .
وَرَخَّصَ فِيهَا إِيَاس بْن مُعَاوِيَة .
وَعَنْ أَحْمَد فِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ ، وَعَلَّلَ الْكَرَاهَة فِي إِحْدَاهُمَا بِأَنَّهُ بَيْع مُضْطَرّ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيّ " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُضْطَرّ " وَفِي الْمُسْنَد عَنْ عَلِيّ قَالَ " سَيَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان يَعَضّ الْمُؤْمِن عَلَى مَا فِي يَده وَلَمْ يُؤْمَر بِذَلِكَ ، قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ } وَيُبَايِع الْمُضْطَرُّونَ ، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْمُضْطَرّ " وَذَكَرَ الْحَدِيث .
فَأَحْمَد رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعِينَة إِنَّمَا تَقَع مِنْ رَجُل مُضْطَرّ إِلَى نَقْد ، لِأَنَّ الْمُوسِر يَضَنّ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ ، فَيَضْطَرّ إِلَى أَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ سِلْعَة ثُمَّ يَبِيعهَا ، فَإِنْ اِشْتَرَاهَا مِنْهُ بَائِعهَا كَانَتْ عِينَة ، وَإِنْ بَاعَهَا مِنْ غَيْره فَهِيَ التَّوَرُّق . وَمَقْصُوده فِي الْمَوْضِعَيْنِ : الثَّمَن فَقَدْ حَصَلَ فِي ذِمَّته ثَمَن مُؤَجَّل مُقَابِل الثَّمَن حَالّ أَنْقَص مِنْهُ ، وَلَا مَعْنَى لِلرِّبَا إِلَّا هَذَا لَكِنَّهُ رِبًا بِسَلَمٍ ، لَمْ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده إِلَّا بِمَشَقَّةٍ ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدهُ كَانَ رِبًا بِسُهُولَةٍ .
وَلِلْعِينَةِ صُورَة رَابِعَة - وَهِيَ أُخْت صُوَرهَا - وَهِيَ أَنْ يَكُون عِنْد الرَّجُل الْمَتَاع فَلَا يَبِيعهُ إِلَّا نَسِيئَة ، وَنَصَّ أَحْمَد عَلَى كَرَاهَة ذَلِكَ فَقَالَ : الْعِينَة أَنْ يَكُون عِنْده الْمَتَاع فَلَا يَبِيعهُ إِلَّا بِنَسِيئَةٍ ، فَإِنْ بَاعَ بِنَسِيئَةٍ وَنَقْد فَلَا بَأْس .
وَقَالَ أَيْضًا : أَكْرَه لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَكُون لَهُ تِجَارَة غَيْر الْعِينَة فَلَا يَبِيع بِنَقْدٍ .
قَالَ اِبْن عُقَيْل : إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِمُضَارَعَتِهِ الرِّبَا ، فَإِنَّ الْبَائِع بِنَسِيئَةٍ يَقْصِد الزِّيَادَة غَالِبًا .
وَعَلَّلَهُ شَيْخنَا اِبْن تَيْمِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِأَنَّهُ يَدْخُل فِي بَيْع الْمُضْطَرّ ، فَإِنَّ غَالِب مَنْ يَشْتَرِي بِنَسِيئَةٍ إِنَّمَا يَكُون لِتَعَذُّرِ النَّقْد عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُل لَا يَبِيع إِلَّا بِنَسِيئَةٍ كَانَ رِبْحه عَلَى أَهْل الضَّرُورَة وَالْحَاجَة ، وَإِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ وَنَسِيئَة كَانَ تَاجِرًا مِنْ التُّجَّار .
وَلِلْعِينَةِ صُورَة خَامِسَة - وَهِيَ أَقْبَح صُوَرهَا ، وَأَشَدّهَا تَحْرِيمًا - وَهِيَ أَنَّ الْمُتَرَابِيَيْنِ يَتَوَاطَآنِ عَلَى الرِّبَا ، ثُمَّ يَعْمِدَانِ إِلَى رَجُل عِنْده مَتَاع ، فَيَشْتَرِيه مِنْهُ الْمُحْتَاج ، ثُمَّ يَبِيعهُ لِلْمُرْبِي بِثَمَنٍ حَالّ وَيَقْبِضهُ مِنْهُ ، ثُمَّ يَبِيعهُ إِيَّاهُ لِلْمُرْبِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّل ، وَهُوَ مَا اِتَّفَقَا عَلَيْهِ ، ثَمَن يُعِيد الْمَتَاع إِلَى رَبّه ، وَيُعْطِيه شَيْئًا ، وَهَذِهِ تُسَمَّى الثُّلَاثِيَّة لِأَنَّهَا بَيْن ثَلَاثَة ، وَإِذَا كَانَتْ السِّلْعَة بَيْنهمَا خَاصَّة فَهِيَ الثُّنَائِيَّة .
وَفِي الثُّلَاثِيَّة : قَدْ أَدْخَلَا بَيْنهمَا مُحَلِّلًا يَزْعُمَانِ أَنَّهُ يُحَلِّل لَهُمَا مَا حَرَّمَ اللَّه مِنْ الرِّبَا . وَهُوَ كَمُحَلِّلِ النِّكَاح . فَهَذَا مُحَلِّل الرِّبَا ، وَذَلِكَ مُحَلِّل الْفُرُوج ، وَاَللَّه تَعَالَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَة . بَلْ يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُور .
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 2 / ص 255)
514 - (إذا تبايعتم بالعينة) بكسر العين المهملة وسكون المثناة تحت ونون: وهو أن يبيع سلعة بثمن معلوم لأجل ثم [ص 314] يشتريها منه بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وهي مكروهة عند الشافعية والبيع صحيح وحرمها غيرهم تمسكاً بظاهر الخبر، سميت عينة لحصول العين أي النقد فيها (وأخذتم أذناب البقر) كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث (ورضيتم بالزرع) أي بكونه همتكم ونهمتكم (وتركتم الجهاد) أي غزو أعداء الرحمن ومصارعة الهوى والشيطان (سلط الله) أي أرسل بقهره وقوته (عليكم ذلاً) بضم الذال المعمجة وكسرها ضعفاً واستهانة (لا ينزعه) لا يزيله ويكشفه عنكم (حتى ترجعوا إلى دينكم) أي الاشتغال بأمور دينكم، وأظهر ذلك في هذا القالب البديع لمزيد الزجر والتقريع حيث جعل ذلك بمنزلة الردة والخروج عن الدين، وهذا دليل قوي لمن حرم العينة ولذلك اختاره بعض الشافعية وقال أوصانا الشافعي باتباع الحديث إذا صح بخلاف مذهبه.
- (د ه) في البيوع (عن ابن عمر) بن الخطاب قال أتى علينا زمان وما يرى أحدنا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم ثم أصبح الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره، رمز المؤلف لحسنه وفيه أبو عبد الرحمن الخراساني واسمه إسحاق عدّ في الميزان من مناكيره خبر أبو داود هذا ورواه عن ابن عمر باللفظ المزبور أحمد والبزار وأبو يعلى. قال ابن حجر: وسنده ضعيف وله عنه أحمد إسناد آخر أمثل من هذا اهـ. وبه يعرف أن اقتصار المصنف على عزوه لأبي داود من سوء التصرف فإنه من طريق أحمد أمثل كما تقرر عن خاتمة الحفاظ وكان الصواب جمع طرقه فإنها كثيرة عقد لها البيهقي باباً وبين عللها.
شرح بلوغ المرام - (ج 200 / ص 2)
شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) ].
إذا تبايعتم، يعني: حصل البيع من طرفين أو من أكثر تكراراً، وصار البيع بالعينة متداولاً، شائعاً ظاهراً فاشياً، ( واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد ) اتبعتم أذناب البقر فيه تقبيح، وإن كان العمل شريفاً؛ لأنه في مقابل ترك الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فما كان معطلاً لهذا السنام فإنه يقبح، واتباع أذناب البقر كناية عن الاشتغال بالزراعة والحرث، والتعامل مع البقر.
ومن النعم الزراعة، واختلف العلماء أيهما أفضل: الزراعة أم التجارة؟ قيل: إن الله أنزل مائة قيراط من البركة، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في جميع الأعمال، ومع ذلك فالزراعة أفضل من التجارة؛ لأن كسب التجارة للتاجر، وفائدة الزراعة للإنس وللحيوان وللطير، وحتى للجن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتاه وفد الجن ثم قالوا: ( نريد الطعام يا رسول الله! فقال لهم: كل عظم ذكر اسم الله عليه؛ كساه الله لكم لحماً كأوفر ما كان )؛ ولهذا يسن للإنسان إذا ألقى العظام أن يسمي الله ليكون طعاماً لمؤمني الجن لا لكفارهم، قالوا: ( وعلف دوابنا؟ قال: كل روث حيوان يكون علفاً لدوابكم ).
إذاً: الجن إما أن يأكل من الزرع مباشرة، أو بالواسطة، وقد جاء أنه سرق الطعام من هذا المسجد، و أبو هريرة رضي الله عنه كان حارساً عليه، فأمسكه ليلة ثم ثانية ثم ثالثة، وفي كل مرة كان الجني يعتذر ويقول: أنا مسكين، أنا صاحب عيال، ويتركه، وفي المرة الثالثة قال: لأربطنك حتى تصبح بيدي رسول الله، فقال: أقول لك: اتركني هذه المرة، وأعلمك آية تحرس لك كل شيء من جميع الجن، فقال: وما هي؟ قال: آية الكرسي، إذا قرئت على شيء لا يستطيع جني أن يقربه.
فتركه، وهذه فائدة عظيمة، ولما غدا أبو هريرة على رسول الله في الصباح استقبله رسول الله وقال: ( ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة ؟! قال: والله! يا رسول الله! كذا كذا، فقال: أتدري مع من كنت تتعامل في الليالي الثلاث؟ قال: لا، قال: إنه من الجن )، إذاً: الجني يأخذ الطعام ويأكله، فالزراعة يستفيد منها الجن مع الإنس، والزراعة هي أصل الأقوات، والتاجر لا ينبت نبات الأرض، والحبوب والألبان واللحوم كلها ليست إنتاج التاجر الذي في المعرض! بل هي بسبب الزارع الفلاح الذي يكابد الليل والنهار، ومع ذلك يكني صلى الله عليه وسلم عن هذا ويقول: ( واتبعتم أذناب البقر ) لماذا؟ ( وتركتم الجهاد ).
ترك الجهاد مهلكة
ترك الجهاد مهلكة، ذكروا في تفسير قوله سبحانه: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195] قصة رجل من المسلمين، اصطف الفريقان، فبرز من الصف وقاتل واخترق صف الكفار حتى اخترقه إلى الجهة الأخرى، ثم جاء راجعاً أيضاً كاراً يقتل من يلاقيه حتى رجع إلى صف المسلمين.
فقال قائل: هذا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وحده يخترق صفوف العدو! والله يقول: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195]، فقال رجلٌ من الأنصار: لا تقولوا ذلك، والله! لقد نزلت فينا معشر الأنصار، لما أتم الله الدين ونزل على رسوله الكريم: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً } [المائدة:3] وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقلنا: لقد انشغلنا عن أموالنا وبساتيننا ومزارعنا، وقد انتشر الإسلام، لو رجعنا إلى مزارعنا لنصلحها، فنزلت: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195]، فقال: التهلكة بترك الجهاد؛ لأننا إذا تركنا الجهاد جاءنا العدو، وما انتصر الإسلام وانتشر إلا بالاستمرار في الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ).
فضل الجهاد في سبيل الله
وفضل الجهاد ليس في حاجة إلى بيان، وتكفي آية واحدة، فالمولى سبحانه وتعالى هو الممتن على الإنسان بإيجاده، والممتن عليه بما بيديه، ثم يأتي سبحانه ويتلطف مع عباده ويعقد معهم صفقة ويقول: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة:111] اشترى منهم ماذا؟ { أَنفُسَهُمْ } [التوبة:111]، هل ورثوها من آبائهم؟ هل صنعوها؟ هل أنتجوها؟ لا، بل منحهم الله إياها، وكما يقول ابن القيم وغيره من علماء الرقائق: أنفسهم هنا هي أرواحهم، والنفس تطلق ويراد بها الروح، وتطلق ويراد بها الجسم مع الروح معاً، قال الله: { لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } [النساء:84]، وقال: { أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ } [الأنعام:93]، وقال: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي } [الفجر:27-28]، فقد تطلق ويراد بها الروح فقط، وقد يراد بها مجموع الإنسان، فهنا اشترى من المؤمنين أنفسهم، يعني: شخصيتهم روحاً وجسماً (وَأَمْوَالَهُمْ) اشتراها، وما هو الثمن؟ (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) الثمن والله غالٍ، وسلعة الله غالية، (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)، إذاً: يكفي هذا، وقال تعالى عن الشهداء: { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران:169]، فلا حاجة إلى الكلام في هذا، والسكوت عنه أولى؛ لأنه بوضوحه لا يحتاج إلى بيان، فترك الجهاد في سبيل الله مهلكة، ومن يوم أن ترك الناس الجهاد في سبيل الله واشتغلوا بالزراعة وببيع العينة، سلط الله عليهم الذل.
الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا
هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا، وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } [الملك:15]، وقال: ( التاجر البار مع الكرام البررة )، وتقول عائشة : (من بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له)، فالإسلام دين عمل، ودين إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85]، وقال عن الجسم: { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح:17]، تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض.
فإذا نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير.
ونجد النصارى غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد:27]، فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت الأمة المحمدية كما وصفها الله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة:143]، يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران:110] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله في افتتاحية المصحف في الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6].
والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في العبادات وفي المعاملات، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6] هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة:7]، فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا، قصدوا وأخذوا الوسط { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة:143] لماذا؟ { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143] أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، أمة متوسطة بلا إفراط ولا تفريط.
وجاءت النصوص: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا } [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس، واذهبوا إلى أين؟ { أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ } [الأحقاف:31] { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة:9].
والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل النصارى؟ لا، { إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ } [الجمعة:9] هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } [الملك:15]، الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون الأودية، بل على قمم الجبال! { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك:15].
{ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة:10] (ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أيها الإخوة! الإسلام جمع بين المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده.
واسأل اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة، وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول: والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها.
إذاً: ( إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد )، أما إذا لم نترك الجهاد فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله لا يوازي 25% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع، وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا 10% فقط! ويقول أستاذ الاجتماع علي عبد الواحد وافي : لو أن مصر زرعت نصف أرضها الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!! والله! شيء مؤلم يا إخوان!
حرمة بيع العينة
حذر النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من بيع العينة، وقد وقع مصداق ما قال: ( إذا تبايعتم بالعينة )، والعينة عند الفقهاء: اصطلاح لنوع من البيع مخصوص، وهي صورة واحدة عند الجمهور، وعند الحنابلة عكس العينة يأخذ حكم العينة، والعينة: هي من العين، قيل: هي الاشتغال بالنقد عندما تكثر الأموال بأيدي الناس، ومن قبل كانت المعاملات مقايضة بيع الصنف بالصنف.
والآخرون يقولون: لا، العينة هي بيع العين بذاتها بيعتين: تأتي إلى التاجر وتريد منه قرضاً ألف ريال، فيقول لك: والله! أنا ما عندي قرض، أبيع سكراً وشاهياًوأرزاً، ولكن من أجلك أنا أبيعك من السكر مائة كيس بألف ريال.
- أنا ما عندي فلوس.
- لا مانع، لك مهلة.
اشتريت المائة كيس بألف ريال وتدفعها بعد ستة أشهر! وأنت جئت تبغى أكياس سكر أو تبغى ريالات؟! تبغى الريالات، وهو يعرف هذا، وكتب: عليك ألف ريال قيمة مائة كيس سكر، تقول: هات الأكياس! فيقول: نعم، هي موجودة انظرها بعينك لكن قل لي: أين تضعها؟ وما تبغى بالمائة الكيس؟ هل ستفتح محلاً؟! - لا، ما أنا فاتح محل، سأذهب أبيعها، وآخذ ثمنها، وأقضي حاجتي، فالتاجر يقول لك وكأنه يعاملك بالرفق وبالمعروف: لا يا أخي! لا تتعب نفسك، أنا أشتريها منك بالنقد.
- اشترها مني.
- بثمانمائة!! - أنت الآن بعتها لي بألف!! - لا، ذاك مؤجل، لكن هذا أعطيك الثمانمائة الآن.
فأنت تقول: أين أبيعها؟ فتختصر الطريق وتقول له: هات ثمانمائة.
- خذ، فأخذت الثمانمائة في جيبك، ورجعت إلى بيتك، وحقيقة الأمر آلت هذه الزيادة الكريمة لهذا التاجر الرحيم الرفيق إلى الربا، فإنك أخذت ثمانمائة نقداً، وعلى ظهرك ألفٌ مؤجلة، ويبقى الفرق بينهما مائتين، هذه هي العينة، و ابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول: ( .
الربا بينهما حريرة)، كان بعض الناس يجلس في دكانه وعنده أثواب قماش حرير أو قطن أو غير ذلك، فيأتيه رجل فيقول: يا فلان! أبغى ألفين ريال قرضة.
- والله! ما عندي، خذ لك بالدين حريراً، فأخذ حريراً بالمبلغ الذي يريده إلى سنة، فيبغى يأخذه، فيقول له: أين تذهب؟! لماذا تتعب نفسك؟! أنا اشتريه منك بكذا، ويرجع الحرير إلى محله، ففي هذه الصورة تتحقق العينة، ويتحقق الربا.
ولكن يقول الفقهاء: إذا كان التبايع على بابه.
أنت بحثت عمن يقرضك ألفاً فلم تجد، فجئت إلى التاجر واشتريت منه البضاعة ديناً على نية أنك تبيعها، وتأخذ الثمن وتقضي مصلحتك، فاشتريت منه بألف ريال ديناً إلى ستة أشهر، لا ننسى النهي عن بيعتين في بيعة، ولا ننسى زيادة الثمن من أجل الأجل.
فأخذت السكر أو الرز من التاجر، وسجل عليك الثمن إلى نصف سنة، ثم جئت بالسيارة وحملت الرز أو السكر إلى بيتك، ثم أخذت تبيعه على من يأتيك، ولا علاقة للبائع في بيعك بالنقد، فالجمهور على أن هذا جائز، ويسمى التورق.
ولو ذهبت بالبضاعة من عند التاجر إلى السوق، وقلت: يا دلال! حرج لي على هذه المائة كيس من الرز، بخمسمائة بستمائة حتى وقف المزاد على ثمانمائة، من الذي يزايد؟ إذاً: الذي يزايد، ويشتري، بعيد كل البعد عن البائع، فالبيع صحيح ولا شيء فيه، أما إذا كان البائع بالأجل أرسل شخصاً وراء المشتري ليشتري منه البضاعة بنقد بكذا، فهذه عين العينة، أما إذا بيعت على غير بائعها، مؤجلاً أو بأي ثمن كانت نقداً، ولا ترجع إلى صاحبها الأول، ولا إلى من لا تجوز شهادته له من الأقارب أو الشريك أو الوكيل؛ إذا لم ترجع للأول فلا شيء عليه.
إذاً: العينة متى تكون محرمة؟ إذا رجعت السلعة المبيعة بثمن مؤجل إلى بائعها بنقدٍ أقل من ثمن التأجيل.
حرمة الحيلة على الربا
ما هو عكس العينة؟ إنسان احتاج إلى نقد وما وجد أحداً يعطيه، فبحث عمن يبيعه أرزاً إلى آخر السنة بثمن مؤجل فما وجد أحداً يعطيه، هو غير معروف في السوق أو غير مؤتمن أو مماطل، المهم ما أحد بايعه، فذهب إلى البيت وقال لزوجته المسكينة: اعملي معروفاً، هات المصاغ الذي عندك، وأنا أبغى كذا، وأبغى أتصرف، وأفعل لك وأفعل، حيل كثيرة تحصل، فقالت: لا مانع يا ابن الحلال! تفضل، فأخذ المصاغ من المرأة، وذهب إلى الصائغ وقال: أنا عندي هذا الحلي وأريد أن أبيعه، قال: ما عندي مانع، فوزنه وقال: والله! هذا قيمته ألف ريال، فقال: بعت، أعطني الألف، الصائغ أخذ الحلي، والرجل أخذ الألف، ووضعها في جيبه، ثم قال للصائغ: يا شيخ! والله! أنا آسف، هذا حق امرأتي، وأنا قلت لها: سآتي لك به، وأخاف أن تقع مشكلة ونزاع وكذا وكذا، اعمل معي معروفاً، خلصني من هذه المشكلة، قال: ماذا تريد؟ قال: أنا أشتريه منك بثمن مؤجل بألف ومائتين.
قال له: لا مانع، اكتب لي سنداً بألف ومائتين ثمن حلي وزنه كذا، تفضل خذ الحلي، فرجع إلى بيته بحلي المرأة، وبألف ريال، وعلى ظهره للصائغ ألف ومائتان ريال، فهذا حكمه حكم بيع العينة، فالحلي دليل على الطريق، والعملية انتهت على ألف ريال نقداً، بألف ومائتين بعد سنة، وهذا عكس العينة؛ لأن المبيع ملك المشتري، بخلاف الأولى، وكلاهما مآله إلى الربا.
ما موقف العلماء من هذا العقد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ، مالك ، أحمد رحمهم الله على فساد البيع والتحريم.
الشافعي يقول: إن كان البائع والمشتري لأكياس الأرز مثلاً متفقان بنظرات العيون، وبقسمات الوجوه، ويعرفان بحالة الواقع، وكلاهما يعرف ماذا عند صاحبه، فكأنهما متفقان لفظاً، وكما قيل: الموجود عرفاً كالموجود حقيقة، فإذا جاء إلى رجل معروف أنه قعد في دكانه، ولا يبيع أرزاً ولا سكراً، عنده عشرون أو ثلاثون كيساً على طول السنة وهي موجودة، ويبيعها في اليوم عشرين مرة! ويسترجعها، إذاً: الذي يأتي إليه عادة هل يريد أن يشتري أو من أجل العينة؟ من أجل العينة؛ لأنه معروف بهذا، يقول الشافعي رحمه الله: إذا وقع العقد على غير اتفاق بين الطرفين فلا مانع.
والجمهور يقولون: لا يجوز أبداً، ما دامت السلعة سترجع إلى بائعها؛ فسداً للباب تمنع، و مالك خاصة عنده سد الذرائع مقدم، وهو أصل من أصول مذهبه، وسد الذرائع هو: ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.
إذاً: حكم بيع العينة عند الأئمة رحمهم الله أنها ممنوعة وباطلة عند الأئمة الثلاثة، وفيها تفصيل عند الشافعي ، وأجاب عليه الجمهور، وبالله تعالى التوفيق.
معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر)
في قوله صلى الله عليه وسلم: ( واتبعتم أذناب البقر ) بعضهم يصرفه إلى شيء بعيد فيقول: إذا سخر القوي الضعيف، وساقه بذنب البقر، ففي بعض الجهات يتخذ من ذنب البقر سوط، خاصة في حالات الطغيان، وتسخير الناس في مشاريع حفر نهر، أو في بناء جسر، أو في كذا وكذا، ويسخرون المواطنين للعمل بالقوة دونما أجرة، من أجل أن يقيموا تلك المشاريع، ويسوقونهم بسياطٍ من ذنب البقر، وبعضهم يستعمل إحليل البقر سوطاً، ييبسه بالملح ويصبح كالسوط إلى غير ذلك، ولكن التفسير الصحيح هو الأول: اتبعتم أذناب البقر: أي بالزراعة، وتركتم الجهاد من أجلها، ويكون عليه هذا الوعيد: ( سلط الله عليكم ذلاً )؛ لأنكم تركتم الجهاد الذي فيه قتل النفس، وقتل النفس عزة، تطلب إحدى الحسنيين: شهادة أو نصر، والجزاء من جنس العمل، فعوملوا بنقيض قصدهم، هم تركوا الجهاد ليسلموا من القتل فجاءهم الذل، والذل موت معنوي، وانظر إلى الرقيق إذا أعتقه رجل، فله الولاء؛ لأنه بمثابة من أحياه حياة معنوية ( سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم )، هذه المصيبة الكبرى، إذاً: ما يقع في الأمم من كوارث وأحداث ومذلة للأفراد والجماعات، إنما هو بسبب، وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولكن من قضائه إذا تركت الجهاد سلط عليك الذل، فإذا تركتم الجهاد واستعضتم عنه بالدنيا، جاء الذل بسبب ذلك، ولا يرفع هذا الذل الذي لحق بالأمة حتى ترجع إلى إلى { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11]، ولما سألوا في غزوة أحد { أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [آل عمران:165]، لماذا من عند أنفسهم؟! الرسول يؤكد عليكم: ( لا تبرحوا أماكنكم ولو رأيتم الطير تتخطفنا )، فنزلوا إلى الغنيمة، فحصل ما قضا الله وقدره، وما شاء فعل { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [آل عمران:140].
المهم أن آخر هذا الحديث خطير؛ لأن الأمة الإسلامية إذا أرادت عزتها وأرادت مكانتها التي كانت عليها في القمة، وفي المقدمة؛ فلتجاهد في سبيل الله؛ وبهذا تحصل لها قيادة الأمم، والوسطية الكريمة، والخيرية على الناس، وإنما يحصل هذا بالدين، فإذا شغلت عنه وضيعته، ضيعت مكانتها وأفلت الزمام من يدها، فمتى ترجع إلى دينها، يرد الله عليها ما أخذ منها، وبالله تعالى التوفيق.(1/123)
وفي الزواجر(1) : ( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالسَّبْعُونَ وَالثَّمَانُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّمَانُونَ , وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ الرِّبَا وَإِطْعَامُهُ وَكِتَابَتُهُ وَشَهَادَتُهُ وَالسَّعْيُ فِيهِ وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ )
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } ثُمَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةِ أَكْلِ الرِّبَا , وَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى بَعْضِهَا بِاخْتِصَارٍ , فَالرِّبَا لُغَةً الزِّيَادَةُ وَشَرْعًا عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : رِبَا الْفَضْلِ : وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ عَلَى الْآخَرِ . وَرِبَا الْيَدِ : وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِهِمَا أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا عَنْ التَّفَرُّقِ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ فِيهِ بِشَرْطِ اتِّحَادِهِمَا عِلَّةً بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْعُومًا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَقْدًا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ . وَرِبَا النَّسَاءِ : وَهُوَ الْبَيْعُ لِلْمَطْعُومِينَ أَوْ لِلنَّقْدَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ أَوْ المختلفية لِأَجَلٍ وَلَوْ لَحْظَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ . فَالْأَوَّلُ : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِدُونِ صَاعِ بُرٍّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ دِرْهَمِ فِضَّةٍ بِدُونِ دِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ سَوَاءٌ أَتَقَابَضَا أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ أَجَّلَا أَمْ لَا . وَالثَّانِي : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ , أَوْ دِرْهَمِ ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ ذَهَبٍ , أَوْ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ شَعِيرٍ أَوْ أَكْثَرَ , أَوْ دِرْهَمِ ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ , لَكِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ . الثَّالِثُ : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ أَوْ دِرْهَمِ فِضَّةٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ , لَكِنْ مَعَ تَأْجِيلِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ إلَى لَحْظَةٍ وَإِنْ تَسَاوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ . وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ مَتَى أَسْتَوَى الْعِوَضَانِ جِنْسًا وَعِلَّةً كَبُرٍّ بِبُرٍّ أَوْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ اُشْتُرِطَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : التَّسَاوِي وَعِلْمُهُمَا بِهِ يَقِينًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْحُلُولُ , وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ , وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَاتَّحَدَا عِلَّةً كَبُرٍّ بِشَعِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ اُشْتُرِطَ شَرْطَانِ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ وَجَازَ التَّفَاضُلُ , وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَعِلَّةً كَبُرٍّ بِذَهَبٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ; فَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا إمَّا الطَّعْمُ بِأَنْ يَقْصِدَ الشَّيْءَ لِلِاقْتِيَاتِ أَوْ الْأَدَمِ أَوْ التَّفَكُّهِ أَوْ التَّدَاوِي . وَأَمَّا النَّقْدِيَّةُ : وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً وَغَيْرَهَا فَلَا رِبَا فِي الْفُلُوسِ وَإِنْ رَاجَتْ , وَزَادَ الْمُتَوَلِّي نَوْعًا رَابِعًا وَهُوَ رِبَا الْقَرْضِ , لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ إلَى رِبَا الْفَضْلِ لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ شَرْطٌ يَجُرُّ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ فَكَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ هَذَا الشَّيْءَ بِمِثْلِهِ مَعَ زِيَادَةِ ذَلِكَ النَّفْعِ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ , وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ بِنَصِّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ , وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّبَا مِنْ الْوَعِيدِ شَامِلٌ لِلْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ , نَعَمْ بَعْضُهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا تَعَبُّدِيٌّ , وَرِبَا النَّسِيئَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ لِغَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ بِحَالِهِ , فَإِذَا حَلَّ طَالِبُهُ بِرَأْسِ مَالِهِ , فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادَ فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ , وَتَسْمِيَةُ هَذَا نَسِيئَةً مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ رِبَا الْفَضْلِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّسِيئَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ وَهَذَا النَّوْعُ مَشْهُورٌ الْآنَ بَيْنَ النَّاسِ وَوَاقِعٌ كَثِيرًا . وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَا يُحَرِّمْ إلَّا رِبَا النَّسِيئَةِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ فَيَنْصَرِفُ النَّصُّ إلَيْهِ , لَكِنْ صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ بِتَحْرِيمِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ مَطْعَنٍ وَلَا نِزَاعٍ لِأَحَدٍ فِيهَا , وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أُبَيٌّ أَشَهِدْت مَا لَمْ نَشْهَدْ أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ نَسْمَعْ ثُمَّ رَوَى لَهُ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ فِي تَحْرِيمِ الْكُلِّ ثُمَّ قَالَ لَهُ : لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا فَحِينَئِذٍ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كُنَّا فِي بَيْتِ عِكْرِمَةَ . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : { أَمَا تَذْكُرُ وَنَحْنُ بِبَيْتِ فُلَانٍ وَمَعَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّمَا كُنْت اسْتَحْلَلْت الصَّرْفَ بِرَأْيِي , ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ صلى الله عليه
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 2 / ص 82)(1/124)
وسلم حَرَّمَهُ فَاشْهَدُوا أَنِّي حَرَّمْته وَبَرِئْت إلَى اللَّهِ مِنْهُ } . وَأَبْدَوْا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا أُمُورًا غَيْرَ مَطْرَدَةٍ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهِ , وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِيمَا مَرَّ إنَّ بَعْضَهُ تَعَبُّدِيٌّ : مِنْهَا : أَنَّهُ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَخَذَ فِي الْأَوَّلِ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ , وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَكَذَا فِي الثَّانِي لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْأَخْذِ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ , فَمُقَابَلَةُ هَذَا الِانْتِفَاعِ الْمَوْهُومِ بِدِرْهَمٍ زَائِدٍ فِيهِ ضَرَرٌ أَيُّ ضَرَرٍ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ حَلَّ رِبَا الْفَضْلِ لَبَطَلَتْ الْمَكَاسِبُ وَالتِّجَارَاتُ إذْ مَنْ يُحَصِّلُ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ كَيْفَ يَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ كَسْبٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَبِبُطْلَانِهِمَا تَنْقَطِعُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ , إذْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ الَّذِي فِي الْقَرْضِ إذْ لَوْ حَلَّ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ مَا سَمَحَ أَحَدٌ بِإِعْطَاءِ دِرْهَمٍ بِمِثْلِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْغَالِبَ غِنَى الْمُقْرِضِ وَفَقْرُ الْمُسْتَقْرِضِ , فَلَوْ مُكِّنَ الْغَنِيُّ مِنْ أَخْذِ أَكْثَرَ مِنْ الْمِثْلِ أَضَرَّ بِالْفَقِيرِ وَلَمْ يُلْقَ بِرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .(1/125)
وقوله تعالى : { لَا يَقُومُونَ } إلَخْ : أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ { إلَّا كَمَا يَقُومُ } أَيْ مِثْلُ قِيَامِ { الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } أَيْ يَصْرَعُهُ الشَّيْطَانُ , مِنْ خَبْطِ الْبَعِيرِ بِأَخْفَافِهِ إذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ بِهَا { مِنْ الْمَسِّ } أَيْ مِنْ أَجْلِ مَسِّهِ لَهُ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجُنُونِ , فَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ وَظُهُورِهِمْ , كَمَا أَنَّ الْمَصْرُوعَ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ , وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا هَذَا الْحَرَامَ السُّحْتَ بِوَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَبَا فِي بُطُونِهِمْ وَزَادَ حَتَّى أَثْقَلَهَا , فَلِذَلِكَ عَجَزُوا عَنْ النُّهُوضِ مَعَ النَّاسِ وَصَارُوا كُلَّمَا أَرَادُوا الْإِسْرَاعَ مَعَ النَّاسِ وَنَهَضُوا سَقَطُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْقَبِيحِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ إلَى الْمَوْقِفِ كُلَّمَا سَقَطُوا وَتَخَلَّعُوا أَكَلَتْهُمْ وَزَادَ عَذَابُهُمْ بِهَا , فَجَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَوْقِفِ عَذَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ ذَلِكَ التَّخَبُّطُ وَالسُّقُوطُ فِي ذَهَابِهِمْ , وَلَفْحُ النَّارِ وَأَكْلُهَا لَهُمْ وَسَوْقُهَا إيَّاهُمْ بِعُنْفٍ حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَوْقِفِ فَيَكُونُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ التَّخَبُّطِ لِيَمْتَازُوا وَيَشْتَهِرُوا بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ عَلَمٌ لِأَكَلَةِ الرِّبَا يَعْرِفُهُمْ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ قَدْ مَالَتْ بِهِمْ بُطُونُهُمْ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابِلَةٍ : أَيْ طَرِيقِ - آلِ فِرْعَوْنَ - وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا . قَالَ : فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمُنْهَزِمَةِ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ , فَإِذَا حَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ قَامُوا فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرَحُوا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيُؤْذُونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَذَلِكَ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَمَّا عُرِجَ بِي سَمِعْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَوْقَ رَأْسِي رَعْدًا وَصَوَاعِقَ , وَرَأَيْتُ رِجَالًا بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ تُرَى مِنْ ظَاهِرِ بُطُونِهِمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } . وَسَيَأْتِي هَذَانِ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ حَدِيثِ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ : الْغُلُولُ , فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَكْلُ الرِّبَا , فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا , ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ } . وَخَبَرُ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ثُمَّ قَرَأَهَا أَيْضًا } . وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِطُولِهِ أَوَّلَ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُعَذَّبُ مِنْ حِينَ يَمُوتُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَأَنَّهُ يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ كُلَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا سَبَّحَ بِهِ ثُمَّ عَادَ فَاغِرًا فَاهُ فَيُلْقَمُ حَجَرًا آخَرَ وَهَكَذَا إلَى الْبَعْثِ , وَتِلْكَ الْحِجَارَةُ هِيَ نَظِيرُ الْمَالِ الْحَرَامِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُلْقَمُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ النَّارِيَّةَ وَيُعَذَّبُ بِهَا كَمَا حَازَ ذَلِكَ الْمَالَ الْحَرَامَ وَابْتَلَعَهُ , وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ . وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } إلَخْ أَيْ أَذَاقَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَّمُوا فِيهِ قِيَاسَ عُقُولِهِمْ الْقَاصِرَةِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى النَّصِّ { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } جَاعِلِينَ الرِّبَا هُوَ الْأَصْلَ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مُبَالَغَةً فِي حِلِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي تَخَيَّلُوهُ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَشْرَةٍ ثُمَّ بَيْعُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَجُوزُ بَيْعُ عَشْرَةٍ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا , إذْ لَا فَرْقَ عَقْلًا بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ حُصُولِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ , وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّ لَنَا حُدُودًا , وَنَهَانَا عَنْ مُجَاوَزَتِهَا , فَوَجَبَ عَلَيْنَا امْتِثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَابَلُ بِقَضِيَّةِ رَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ , بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ أَفَهِمْنَا لَهَا مَعْنًى مُنَاسِبًا أَمْ لَا . إذْ هَذَا هُوَ شَأْنُ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ . وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الْقَاصِرُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالرَّأْيِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامُ لِأَوَامِرِ سَيِّدِهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمُنْتَقِمِ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ , وَمَتَى حَكَّمَ عَقْلُهُ , وَعَارَضَ بِهِ أَمْرَ سَيِّدِهِ انْتَقَمَ مِنْهُ وَأَهْلَكَهُ بِعَذَابِهِ الشَّدِيدِ { إنَّ بَطْشَ رَبِّك لَشَدِيدٌ } { إنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصَادِ } . وقوله تعالى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ وَاصِلَةٌ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّهِ { فَانْتَهَى } أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الرِّبَا فَوْرًا عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَيْ سَبَقَ مِمَّا أَخَذَهُ بِالرِّبَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ , لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ , فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذَهُ بِالرِّبَا , وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَبُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَاطَاهُ وَقْتَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالْجَهْلِ(1/126)
الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ صَاحِبُهُ إنَّمَا يُؤْثِرُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ دُونَ الْغَرَامَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ { وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } أَيْ أَمْرُ مَا سَلَفَ , أَوْ الْمُنْتَهِي عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّبَا إلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ وَعَدَمِهِ , أَوْ فِي اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ; ثُمَّ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا : أَيْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَأْتِي آخِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَهُ مَعَ تَعَاطِيهِ لَهُ , وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْأَوَّلِ قوله تعالى { فَانْتَهَى } أَيْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سَابِقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } مِنْ تَحْلِيلِهِ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ عَادَ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ثُمَّ إذَا انْتَهَى عَنْ اسْتِحْلَالِهِ , فَإِمَّا أَنَّهُ انْتَهَى عَنْ أَكْلِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِهِ الْمَدْحُ , أَوْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ أَكْلِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ لِحُرْمَتِهِ , فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } , { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } أَيْ مُعَامَلَةً لِفَاعِلِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ آثَرُوهُ تَحْصِيلًا لِلزِّيَادَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى , فَمَحَقَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بَلْ وَالْمَالَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى صَيَّرَ عَاقِبَتَهُمْ إلَى الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَتَعَاطَاهُ , وَبِفَرْضِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غُرَّةٍ يَمْحَقُهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِي وَرَثَتِهِ فَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَدْنَى زَمَانٍ إلَّا وَقَدْ صَارُوا بِغَايَةِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ } . وَمِنْ الْمُحِقِّ أَيْضًا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ , وَسُقُوطِ الْعَدَالَةِ , وَزَوَالِ الْأَمَانَةِ , وَحُصُولِ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ . وَأَيْضًا فَدُعَاءُ مَنْ ظُلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ عَلَيْهِ بِاللَّعْنَةِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ , إذْ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ : أَيْ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِهَا . وَلِهَذَا وَرَدَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَظْلُومِ إذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } . وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَهَرَ أَنَّهُ جَمَعَ مَالًا مِنْ رِبًا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْمِحَنُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الظَّلَمَةِ وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمْ , زَاعِمِينَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ , هَذَا كُلُّهُ مَحْقُ الدُّنْيَا . وَأَمَّا مَحْقُ الْآخِرَةِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : " لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةٌ وَلَا جِهَادٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا صِلَةٌ " . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ كُلَّهُ وَعَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَتَبَعَتُهُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِهِ . وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ : { مُصِيبَتَانِ لَنْ يُصَابَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِمَا أَنْ تَتْرُكَ مَالَك كُلَّهُ وَتُعَاقَبَ عَلَيْهِ كُلَّهُ } . وَأَيْضًا صَحَّ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ , فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَغْنِيَاءِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ , فَمَا ظَنُّك بِذِي الْمَالِ الْحَرَامِ السُّحْتِ , فَذَلِكَ كُلُّهُ هُوَ الْمَحْقُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يَزِيدُهَا فِي الدُّنْيَا بِسُؤَالِ الْمَلَكِ لَهُ أَنَّ اللَّه يُعْطِيهِ خَلَفًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : { إنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ يُنَادِي : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا } وَبِأَنَّهُ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ جَاهُهُ وَذِكْرُهُ الْجَمِيلُ , وَمَيْلُ الْقُلُوبُ إلَيْهِ , وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَهُ مِنْ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَانْقِطَاعُ الْأَطْمَاعِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَتَى اشْتَهَرَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَرِزُ عَنْ أَذِيَّتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ , وَكُلُّ طَمَّاعٍ وَظَالِمٍ يَتَخَوَّفُ مِنْ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ , وَفِي الْآخِرَةِ بِتَرْبِيَتِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ اللُّقْمَةُ كَالْجَبَلِ , كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوَاخِرَ الزَّكَاةِ { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِثْمِ لِاسْتِمْرَارِ مُسْتَحِلِّ الرِّبَا وَآكِلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَمَادِيهِ فِي ذَلِكَ , ثُمَّ يَصِحُّ رُجُوعُهُمَا مَعًا لِلْمُسْتَحِلِّ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَوْ الْأَوَّلُ لَهُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَلَا إشْكَالَ أَيْضًا . وَيَصِحُّ أَيْضًا رُجُوعُهُمَا مَعًا إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ وَيَكُونُ عَلَى حَدِّ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ الْحَجَّ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ } : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَجِّ , بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ إذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا أَدَّتْ بِهِ إلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ , وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ بَالِغٌ مِنْ الرِّبَا , وَأَنَّهُ يُؤَدِّي بِمُتَعَاطِيهِ إلَى أَنْ يُوقِعَهُ فِي أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَفْظَعِهَا . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلَخْ أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِمَا مَرَّ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ شَفْعِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ وَعَكْسِهِ تَذْكِيرًا بِالْعَوَاقِبِ وَتَمْيِيزًا لِمَقَامِ الْمُطِيعِ مِنْ الْعَاصِي , وَمُبَالَغَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الذَّمِّ لِهَذَا { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } أَيْ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ , وَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَنَّ نُزُولَ تَحْرِيمِ الرِّبَا لَا يُحَرِّمُ مَا سَلَفَ أَخْذُهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ , بِخِلَافِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ(1/127)
فَقَطْ , لِأَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ صَارَ أَخْذُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ . وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ أَوْ بَعْضَ أَهْلِ الطَّائِفِ كَانُوا يُرَابُونَ , فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِهَا تَخَاصَمُوا فِي الرِّبَا الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ , فَنَزَلَتْ آمِرَةً لَهُمْ بِأَخْذِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَقَطْ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ , ثُمَّ قَالَ : وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ , وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ } . وقوله تعالى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ بِأَنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا . ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَرْبُ إمَّا فِي الدُّنْيَا , إذْ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْ شَخْصٍ تَعَاطِيَ الرِّبَا عَزَّرُوهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ إلَّا بِنَصَبِ حَرْبٍ وَقِتَالٍ نَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَالْقِتَالَ , كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ , فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْآيَةِ , فَقِيلَ الْإِيذَانُ بِالْحَرْبِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْتَحِلِّ , وَقِيلَ بَلْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْآيَةِ إذْ قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِتَحْرِيمِهِ { فَأْذَنُوا } إلَخْ , وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ , وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ , إذْ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ ؟ وَهَلْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِهِ { وَإِنْ تُبْتُمْ } أَيْ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } أَيْ الْغَرِيمَ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ { وَلَا تُظْلَمُونَ } أَيْ بِنَقْصِكُمْ عَنْ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ . وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُرَابُونَ بَلْ نَتُوبُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ فَشَكَا الْمَدِينُونَ الْإِعْسَارَ فَأَبَوْا الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } أَيْ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُمْهِلُوهُ إلَى يَسَارِهِ , وَكَذَا يَجِبُ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي كُلِّ دَيْنٍ أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَخَذَ جَمْعٌ بِهِ , هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ . وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } إلَخْ ; فَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَلًا إلَى أَجَلٍ وَأَعْسَرَ الْمَدِينُ قَالَ لَهُ زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ , وَهَكَذَا إلَى آجَالَ كَثِيرَةٍ فَيَأْخُذُ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ أَضْعَافًا , فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَيْ بِتَرْكِ الرِّبَا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أَيْ تَظْفَرُونَ بِبُغْيَتِكُمْ , وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الرِّبَا لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَاحِ , وَسَبَبُهُ مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَارَبَهُ هُوَ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم , وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ لَهُ فَلَاحٌ ؟ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ وَدَوَامِ عُقُوبَتِهِ . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى عَقِبَهَا : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ هُيِّئَتْ لَهُمْ بِطَرِيقِ الذَّاتِ وَلِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ , أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَ دَرَكَاتِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَهَا , فَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ , لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ . { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ , فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ , وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ . فَتَأَمَّلْ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَمَزِيدُ فُحْشِهَا , وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا , سِيَّمَا مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا . وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا(1/128)
لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِانْزِجَارُ عَنْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَمِنْهَا : أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : أَيْ الْمُهْلِكَاتِ , قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَأَكْلُ مَالُ الْيَتِيمِ , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } . وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمَرَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مُطَوَّلًا : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ , فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ , فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ . فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي النَّهَرِ ؟ قَالَ آكِلُ الرِّبَا } . وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ } . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ , وَزَادُوا فِيهِ : { وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ } . وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي شَيْبَةَ , وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَفِرَارٌ يَوْمِ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ } . وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ , وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ } . وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْأَعْوَرُ , وَاخْتُلِفَ فِيهِ كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ , وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ , وَلَاوِي الصَّدَقَةِ , وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم } . وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ . وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا : { أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَآكِلُ الرِّبَا , وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ } . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَالْمَتْنُ بِهَذَا مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَهْمًا وَكَأَنَّهُ دَخَلَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إسْنَادٌ إلَى إسْنَادٍ : { الرِّبَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } . وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ : { الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ } . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا الَّذِي يَقَعُ عَلَى أُمِّهِ } , رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ , وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ قَالَ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الدِّرْهَمُ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا فِي الْإِسْلَامِ } , وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ , وَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ , لِأَنَّ كَوْنَ الدِّرْهَمِ أَعْظَمَ وِزْرًا مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الزِّنَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِوَحْيٍ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم , وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا إثْمًا أَصْغَرُهَا حُوبًا كَمَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ , وَدِرْهَمٌ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً . قَالَ : وَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ بِالْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا آكِلَ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ : " لَأَنْ أَزْنِيَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَمَ رِبًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْته حِينَ أَكَلْته رِبًا " . وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا وَعِظَمِ شَأْنِهِ وَقَالَ : إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيَهَا الرَّجُلُ وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنْ رِبًا فَهُوَ مِثْلُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } . وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ(1/129)
الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ , وَدِرْهَمٌ مِنْ رِبَا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ , وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ وَقَدْ وُثِّقَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } . وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تَعْظُمَ } . وَقَالَ : { إذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } . وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا وَالرِّبَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } . وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ : { مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ , وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ } وَالسَّنَةُ الْعَامُ الْمِقْحَطُ نَزَلَ فِيهِ غَيْثٌ أَمْ لَا . وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ , طَوِيلٍ وَابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَالْأَصْبَهَانِيّ : { رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ , فَنَظَرْت فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبُرُوقٍ وَقَوَاصِفَ , قَالَ : فَأَتَيْت عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ . قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } . وَالْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي إلَى السَّمَاءِ نَظَرْت فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا رِجَالٌ بُطُونُهُمْ كَأَمْثَالِ الْبُيُوتِ الْعِظَامِ قَدْ مَالَتْ بُطُونُهُمْ وَهُمْ مُنَضَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقُوفُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَا تُقِمْ السَّاعَةَ أَبَدًا , قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ , أَكَلَةُ الرِّبَا مِنْ أُمَّتِك لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ : قَوْلُهُ مُنَضَّدُونَ : أَيْ مَطْرُوحُونَ : أَيْ طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَالسَّابِلَةُ الْمَارَّةُ : أَيْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقِ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه فِي سُوقِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا , قَالُوا بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ , بِمَ تُبَشِّرُنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا بِالنَّارِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَكْلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ , ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } . وَالْأَصْبَهَانِيّ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا : أَيْ مَجْنُونًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ , ثُمَّ قَرَأَ : { لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنْ الرِّبَا إلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إلَى قِلَّةٍ } , وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إلَى قُلٍّ } . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهِ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ } . وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْمَحَارِمَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَبِأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ } . وَأَحْمَدُ مُخْتَصَرًا وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ : { يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُونَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِبَيْتِ فُلَانٍ وَخُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلَانٍ , وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ مِنْهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمْ الرَّحِمَ } وَخَصْلَةٌ نَسِيَهَا رَاوِيهِ . الْقَيْنَاتُ جَمْعُ قَيْنَةٍ : وَهِيَ الْمُغَنِّيَةُ . تَنْبِيهٌ : عَدُّ الرِّبَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَبِيرَةً بَلْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا . وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ , قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَالرِّبَا , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ(1/130)
نَفْسِ مُؤْمِنٍ وَأَكْلُ الرِّبَا } الْحَدِيثَ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ : وَفِي سَنَدِهَا مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : { الْكَبَائِرُ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ . وَفِي أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيِّ فِي سَنَدِهَا ابْنُ لَهِيعَةَ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ , وَقَتْلَ النَّفْسِ , وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ , وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلَ الرِّبَا } الْحَدِيثَ . وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سَنَدِهَا ضَعِيفٌ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ , وَبَعَثَ بِهِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رضي الله عنه , وَكَانَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ وَأَكْلُ الرِّبَا , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَيْضًا : أَنَّ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ وَالسَّاعِيَ فِيهِ وَالْمُعِينَ عَلَيْهِ كُلَّهُمْ فَسَقَةٌ , وَأَنَّ كُلَّ مَالِهِ دَخَلَ فِيهِ كَبِيرَةٌ . وَقَدْ صَرَّحَ بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فَلِذَلِكَ عُدَّتْ تِلْكَ كُلُّهَا كَبَائِرَ .
- - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثالث
أحكام الربا في السنة النبوية
عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مِنْ أَيْنَ هَذَا » . قَالَ بِلاَلٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِىٌّ ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ « أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا ، لاَ تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2312 )
البرنى : نوع جيد من التمر وهو من المعرب
فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 157)
قَوْله : ( جَاءَ بِلَال إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرِ بَرْنِيّ )
بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا نُون ثُمَّ تَحْتَانِيَّة مُشَدَّدَة ضَرَبَ مِنْ التَّمْر مَعْرُوف ، قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلّ تَمْرَة تُشْبِه الْبَرْنِيَّة . وَقَدْ وَقَعَ عِنْد أَحْمَد مَرْفُوعًا " خَيْر تَمَرَاتكُمْ الْبَرْنِيّ ، يُذْهِب الدَّاء وَلَا دَاء فِيهِ " .
قَوْله : ( كَانَ عِنْدِي )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " عِنْدنَا " .
قَوْله : ( رَدِيء )
بِالْهَمْزَةِ وَزْن عَظِيم .
قَوْله : ( لِنُطْعِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
بِالنُّونِ الْمَضْمُومَة ، وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْمَفْتُوحَة وَالْعَيْن مَفْتُوحَة أَيْضًا ، وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " لِمَطْعَمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِالْمِيمِ .
قَوْله : ( أَوَّهْ أَوَّهْ ، عَيْن الرِّبَا عَيْن الرِّبَا )
كَذَا فِيهِ بِالتَّكْرَارِ مَرَّتَيْنِ ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِم مَرَّة وَاحِدَة ، وَمُرَاده بِعَيْنِ الرِّبَا نَفْسه ، وَقَوْله " أَوَّهْ " كَلِمَة تُقَال عِنْد التَّوَجُّع وَهِيَ مُشَدَّدَة الْوَاو مَفْتُوحَة ، وَقَدْ تُكْسَر وَالْهَاء سَاكِنَة ، وَرُبَّمَا حَذَفُوهَا ، وَيُقَال بِسُكُونِ الْوَاو وَكَسْر الْهَاء ، وَحَكَى بَعْضهمْ مَدّ الْهَمْزَة بَدَل التَّشْدِيد ، قَالَ اِبْن التِّين إِنَّمَا تَأَوَّهَ لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر ، وَقَالَهُ إِمَّا لِلتَّأَلُّمِ مِنْ هَذَا الْفِعْل وَإِمَّا مِنْ سُوء الْفَهْم .
قَوْله : ( فَبِعْ التَّمْر بِبَيْعٍ آخَر ثُمَّ اِشْتَرِ بِهِ )
فِي رِوَايَة مُسْلِم " وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِي التَّمْر فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَر ثُمَّ اِشْتَرِهِ " وَبَيْنهمَا مُغَايَرَة . لِأَنَّ التَّمْر فِي رِوَايَة الْبَاب الْمُرَاد بِهِ التَّمْر الرَّدِيء وَالضَّمِير فِي بِهِ يَعُود إِلَى التَّمْر أَيْ بِالتَّمْرِ الرَّدِيء وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَيْ اِشْتَرِ بِهِ تَمْرًا جَيِّدًا ، وَأَمَّا رِوَايَة مُسْلِم فَالْمُرَاد بِالتَّمْرِ الْجَيِّد ، وَالضَّمِير فِي قَوْله " ثُمَّ اِشْتَرِهِ " لِلْجَيِّدِ . وَفِي الْحَدِيث الْبَحْث عَمَّا يَسْتَرِيب بِهِ الشَّخْص حَتَّى يَنْكَشِف حَاله . وَفِيهِ النَّصّ عَلَى تَحْرِيم رِبَا الْفَضْل . وَاهْتِمَام الْإِمَام بِأَمْرِ الدِّين وَتَعْلِيمه لِمَنْ لَا يَعْلَمهُ ، وَإِرْشَاده إِلَى التَّوَصُّل إِلَى الْمُبَاحَات وَغَيْرهَا ، وَاهْتِمَام التَّابِع بِأَمْرِ مَتْبُوعه ، وَانْتِقَاء الْجَيِّد لَهُ مِنْ أَنْوَاع الْمَطْعُومَات وَغَيْرهَا . وَفِيهِ أَنَّ صَفْقَة الرِّبَا لَا تَصِحّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعه .
شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 466)
جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جودته وقال: من أين هذا؟
قال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الردي بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه.
فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتأوه، لأن المعصية عنده هي أعظم المصائب.
وقال: عملك هذا، هو عين الربا المحرم ، فلا تفعل ، ولكن إذا أردت استبدال رديء، فبع الرديء بدراهم، ثم اِشتر بالدراهم تمرا جيدا. فهذه طريق مباحة تعملها، لاجتناب الوقوع في المحرم .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم ربا الفضل بالتمر، بأن يباع بعضه ببعض، وأحدهما أكثر من الأخر.
2- استدل بالحديث على جواز [مسألة العينة] وهى أن يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها من المشترى بنقد أقل من ثمنها الأول، ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه إنْ شاء اللّه تعالى.
3- استدل بالحديث على جواز [ مسألة التورق ]، وهى أن يشترى ما يساوى مائة ريال، بمائة وعشرين مؤجلة لا لينتفع به بل ليبيعه وينتفع بثمنه، ويأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.
4- عظم المعصية، كيف بلغت من نفس النبي صلى الله عليه وسلم .
5- لم يذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع. والسكوت عن الرد، لا يدل على عدمه.
وقد ورد في بعض الطرق أنه قال: [ هذا الربا فرِده] وقد قال تعالى: {فإنْ تُبتم فَلَكُم رُؤوس أمْوَاِلكُم لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون } .
6- جواز الترفه في المأكل والمشرب، ما لم يصل إلى حد التبذير، والسرف المنهي عنه، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرمَ زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَيباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا} .
7- فيه بيان شيء من أدب المفتى.
وهو أنه إذا سئل عن مسألة محرمة، ونهى عنها المستفتى، أن يفتح أمامه أبواب الطرق المباحة، التي تغنيه عنها.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم المسألة العينة، التي تقدم شرحها.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد وأتباعهم: إلى تحريمها. وهو مروى عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سنين، والشعبي، والنخعى، وهو مذهب الثوري، والاوزاعى.
لما روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ ، وَأخَذتُمْ أذنابَ البَقَرِ، ورَضيتُمْ بِالزَرعِ ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلطَ الله عَلَيْكُم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حَتى تَرْجِعُوا إلَى دِينكُم " .
وما رواه أحمد أيضاً [ أن أم ولد زيد بن أرقم، أخبرت عائشة: أنها باعت غلاما من زيد، بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب]
والظاهر أنها لا تقول مثل هذا باجتهاد منها، لأن هذا التغليظ لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم .
وأجاز الشافعي بيع العينة، أخذاً بعموم ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، وأبى هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب [ طيب] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكُلَ تَمْرِ خَيبرَ هكَذَا؟ فَقالَ: لا واللّه، إنّا لَنَأخذُ الصَّاعَ مَن هذَا بِالصاعَيْن، وَالصَّاعَيْن بِالثَّلَاثَةِ].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَفْعَلْ، بع الجَمعَ [التمر الرديء ] ثُم ابتعْ بالدراهم جنيباً " .
فعموم هذا الحديث يدل على أنه لا بأس أن يكون الذي اشترى منه التمر الرديء بدراهمه، هو الذي باع عليه التمر الطيب فعادت دراهمه إليه ، لأنه لم يفعل .
وعند الأصوليين [ أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال].
أما [ مسألة التورق ] التي معناها، أن يشتري السلعة نسيئة لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها بثمنها، فالمشهور عند أصحابنا جوازها.
وكان شيخنا " عبد الرحمن السعدي " يجيزها، ويرى عموم هذا الحديث يتناولها بالحل.
وقال في أحد كتبه: "لأن المشترى لم يبعها على البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى لأنه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكل أو شرب، أو استعمال، أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيها تحيل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها، وما دعت إليها الحاجة، وليس فيه محذور شرعي، لم يحرمه الشارع على العباد".
والرواية الثانية عن الإمام أحمد، التحريم، واختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " .
وقال ابن القيم "وكان شيخنا- ابن تيمية- رحمه الله يمنع من مسألة التورق وسئل عنها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها.
وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا، موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بالشراء والبيع والخسارة فيها".
والمانعون من "العينة" جعلوها من باب الذرائع المحرمة، وجعلوا الحديث من باب المطلق الذي يقيد بِصُوَر البيع الصحيح، وليس من باب العام، الذي يشمل كل صورة للبيع، حتى ولو كانت مع البائع.
وهكذا إطلاقات الشارع تدل على ما أذن فيه وأباح.
فإن قوله: "بع الجمع" مطلق، يقيد بالعقود الصحيحة، وليس بعام ليدخل فيه الصورة التي تعقد مع مشترى "الجمع" في هذا الحديث.
وبهذا تبين فساد قول الذين يحاولون الاستدلال على وجود الحيل في الشرع فإن الشارع لما نهاه عن معاملة محرمة، فتح أمامه الباب إلى معاملة غيرها مباحة، لا علاقة بينهما بوجه من الوجوه.
ومن أراد بسط هذا، فعليه ب " إعلام الموقعين " لابن القيم، رحمه لله تعالى.
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - (ج 2 / ص 420)
هُوَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فِي التَّمْرِ ، وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ رِبَا الْفَضْلِ ، وَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ ، وَأَخَذَ قَوْمٌ مِنْ الْحَدِيثِ : تَجْوِيزَ الذَّرَائِعِ ، مِنْ حَيْثُ قَوْلُهُ { بِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ } فَإِنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهُ ، وَالشِّرَاءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ بَاعَهُ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّوَصُّلَ إلَى شِرَاءِ الْأَكْثَرِ أَوْ لَا : وَالْمَانِعُونَ مِنْ الذَّرَائِعِ : يُجِيبُونَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ ، فَيُحْمَلُ عَلَى بَيْعِهِ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَمْنَعُونَهَا .
فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُكْتَفَى فِي الْعَمَلِ بِهِ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ فِعْلًا ، كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِالدُّخُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ ، حَمْلًا عَلَى الْمُقَيَّدِ ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ اللَّفْظُ مِنْ الْإِطْلَاقِ إلَى التَّقْيِيدِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ .
فِي الصِّفَاتِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ .
قَوْلُهُ " بِبَيْعٍ آخَرَ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : بِمَبِيعٍ آخَرَ ، وَيُرَادُ بِهِ : التَّمْرُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ : بَيْعٌ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى ، عَلَى مَعْنَى زِيَادَةِ الْبَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ : بِعْهُ بَيْعًا آخَرَ ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ : قَوْلُهُ " ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ "(1/131)
.
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - آيَةُ الرِّبَا . (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا.فَقَالَ مَرْوَانُ مَا فَعَلْتُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى. قَالَ فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِهَا. قَالَ سُلَيْمَانُ فَنَظَرْتُ إِلَى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَيْدِى النَّاسِ.(2)
و عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ « ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ ». إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِى بَيْعِ الْعَرِيَّةِ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا.(3)
و عن عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ قالَ :سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ جَاءَ بِلاَلٌ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مِنْ أَيْنَ هَذَا ». فَقَالَ بِلاَلٌ تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِىءٌ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ « أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا لاَ تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ »..(4)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 4544 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 12 / ص 397)
قَوْله : ( آخِر آيَة نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَة الرِّبَا )
كَذَا تَرْجَمَ الْمُصَنِّف بِقَوْلِهِ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَع بَيْن قَوْلَيْ اِبْن عَبَّاس فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْه ، وَجَاءَ عَنْهُ مِنْ وَجْه آخَر : آخِر آيَة نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُق عَنْهُ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُق جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ وَزَادَ عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ قَالَ " يَقُولُونَ إِنَّهُ مَكَثَ بَعْدهَا تِسْع لَيَالٍ " وَنَحْوه لِابْنِ أَبِي حَاتِم عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر ، وَرُوِيَ عَنْ غَيْره أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَر فَقِيلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَقِيلَ سَبْعًا ، وَطَرِيق الْجَمْع بَيْن هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة هِيَ خِتَام الْآيَات الْمُنْزَلَة فِي الرِّبَا إِذْ هِيَ مَعْطُوفَة عَلَيْهِنَّ ، وَأَمَّا مَا سَيَأْتِي فِي آخِر سُورَة النِّسَاء مِنْ حَدِيث الْبَرَاء " آخَر سُورَة نَزَلَتْ بَرَاءَة وَآخِر آيَة نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ " فَيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن قَوْل اِبْن عَبَّاس بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا جَمِيعًا ، فَيَصْدُق أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آخِر بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَاهُمَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْآخِرِيَّةُ فِي آيَة النِّسَاء مُقَيَّدَة بِمَا يَتَعَلَّق بِالْمَوَارِيثِ مَثَلًا ، بِخِلَافِ آيَة الْبَقَرَة ، وَيَحْتَمِل عَكْسه ، وَالْأَوَّل أَرْجَح لِمَا فِي آيَة الْبَقَرَة مِنْ الْإِشَارَة إِلَى مَعْنَى الْوَفَاة الْمُسْتَلْزِمَة لِخَاتِمَةِ النُّزُول ، وَحَكَى اِبْن عَبْد السَّلَام أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَعْد نُزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَقِيلَ سَبْعًا ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) أَنَّهَا آخِر سُورَة نَزَلَتْ فَسَأَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّق بِهِ فِي تَفْسِيرهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
( تَنْبِيه )
الْمُرَاد بِالْآخِرِيَّةِ فِي الرِّبَا تَأَخُّر نُزُول الْآيَات الْمُتَعَلِّقَة بِهِ مِنْ سُورَة الْبَقَرَة ، وَأَمَّا حُكْم تَحْرِيم الرِّبَا فَنُزُوله سَابِق لِذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَة عَلَى مَا يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي آلَ عِمْرَان فِي أَثْنَاء قِصَّة أُحُد ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ) الْآيَة .
(2) - صحيح مسلم برقم( 3926 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 333)
الصِّكَاكَ جَمْع صَكّ وَهُوَ الْوَرَقَة الْمَكْتُوبَة بِدَيْنٍ وَيُجْمَع أَيْضًا عَلَى صُكُوك ، وَالْمُرَاد هُنَا الْوَرَقَة الَّتِي تَخْرُج مِنْ وَلِيّ الْأَمْر بِالرِّزْقِ لِمُسْتَحِقِّهِ بِأَنْ يَكْتُب فِيهَا لِلْإِنْسَانِ كَذَا وَكَذَا مِنْ طَعَام أَوْ غَيْره فَيَبِيع صَاحِبهَا ذَلِكَ لِإِنْسَانٍ قَبْل أَنْ يَقْبِضهُ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ ؛ وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ جَوَاز بَيْعهَا ؛ وَالثَّانِي مَنْعهَا فَمَنْ مَنَعَهَا أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة وَبِحُجَّتِهِ وَمَنْ أَجَازَهَا تَأَوَّلَ قَضِيَّة أَبِي هُرَيْرَة عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ خَرَجَ لَهُ الصَّكّ بَاعَهُ لِثَالِثٍ ، قَبْل أَنْ يَقْبِضهُ الْمُشْتَرِي فَكَانَ النَّهْي عَنْ الْبَيْع الثَّانِي لَا عَنْ الْأَوَّل ، لِأَنَّ الَّذِي خَرَجَتْ لَهُ مَالِك لِذَلِكَ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ هُوَ بِمُشْتَرٍ فَلَا يَمْتَنِع بَيْعه قَبْل الْقَبْض ، كَمَا لَا يَمْتَنِع بَيْعه مَا وَرِثَهُ قَبْل قَبْضه ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض بَعْد أَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى نَحْو مَا ذَكَرْته : وَكَانُوا يَتَبَايَعُونَهَا ثُمَّ يَبِيعهَا الْمُشْتَرُونَ قَبْل قَبْضهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : لَا تَبِعْ طَعَامًا اِبْتَعْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيه . اِنْتَهَى هَذَا تَمَام الْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ . وَكَذَا جَاءَ الْحَدِيث مُفَسَّرًا فِي الْمُوَطَّأ أَنَّ صُكُوكًا خَرَجَتْ لِلنَّاسِ فِي زَمَن مَرْوَان بِطَعَامٍ فَتَبَايَعَ النَّاس تِلْكَ الصُّكُوك قَبْل أَنْ يَسْتَوْفُوهَا ، وَفِي الْمُوَطَّأ مَا هُوَ أَبَيْنَ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ حَكِيم بْن حِزَام اِبْتَاعَ طَعَامًا أَمَرَ بِهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَبَاعَ حَكِيم الطَّعَام الَّذِي اِشْتَرَاهُ قَبْل قَبْضه وَاَللَّه أَعْلَم .
(3) - صحيح مسلم برقم( 3968 )
الخرص : قدر ما فيها من الرطب إذا صار تمرا
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 356)
فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز إِذَا سَمِعَ مِنْ جَمَاعَة ثِقَات جَازَ أَنْ يَحْذِف بَعْضهمْ وَيَرْوِي عَنْ بَعْض وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان هَذَا وَتَفْصِيله مَبْسُوطًا فِي الْفُصُول وَاَللَّه أَعْلَم .
(4) - صحيح مسلم برقم( 4167 )
البرنى : نوع جيد من التمر وهو من المعرب
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 460)
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد لِمَنْ اِشْتَرَى صَاعًا بِصَاعَيْنِ : ( هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ )
هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوض بِبَيْعٍ فَاسِد يَجِب رَدّه عَلَى بَائِعه ، وَإِذَا رَدَّهُ اِسْتَرَدَّ الثَّمَن . فَإِنَّ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُر فِي الْحَدِيث السَّابِق أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّهِ ، فَالْجَوَاب : أَنَّ الظَّاهِر أَنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة وَأَمَرَ فِيهَا بِرَدِّهِ فَبَعْض الرُّوَاة حَفِظَ ذَلِكَ ، وَبَعْضهمْ لَمْ يَحْفَظهُ ، فَقَبِلْنَا زِيَادَة الثِّقَة ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحُمِلَتْ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا أَمَرَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغنَا ذَلِكَ ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُر بِهِ مَعَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ جَهِلَ بَائِعه ، وَلَا يُمْكِن مَعْرِفَته ، فَصَارَ مَالًا ضَائِعًا لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْن بِقِيمَتِهِ وَهُوَ التَّمْر الَّذِي قَبَضَهُ عِوَضًا ، فَحَصَلَ أَنَّهُ لَا إِشْكَال فِي الْحَدِيث . وَلِلَّهِ الْحَمْد .(1/132)
و عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِتَمْرٍ فَقَالَ « مَا هَذَا التَّمْرُ مِنْ تَمْرِنَا ». فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِعْنَا تَمْرَنَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا ».(1)
و عَنْ أَبِى نَضْرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. فَأَخْبَرْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقُلْتُ إِنِّى سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. قَالَ أَوَقَالَ ذَلِكَ إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ فَلاَ يُفْتِيكُمُوهُ قَالَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بَعْضُ فِتْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِتَمْرٍ فَأَنْكَرَهُ فَقَالَ « كَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمْرِ أَرْضِنَا ». قَالَ كَانَ فِى تَمْرِ أَرْضِنَا - أَوْ فِى تَمْرِنَا - الْعَامَ بَعْضُ الشَّىْءِ فَأَخَذْتُ هَذَا وَزِدْتُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ. فَقَالَ « أَضْعَفْتَ أَرْبَيْتَ لاَ تَقْرَبَنَّ هَذَا إِذَا رَابَكَ مِنْ تَمْرِكَ شَىْءٌ فَبِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ الَّذِى تُرِيدُ مِنَ التَّمْرِ ».(2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(4168 )
التمهيد - (ج 20 / ص 56)
وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمان بن عوف فذكره بإسناده مثله سواء فاتفق ابن عيينة وسليمان بن بلال والدراوردي فيه على عبد المجيد وكذلك قال جمهور رواة الموطأ عن مالك فيه عبد المجيد وهو الحق الذي لا شك فيه إن شاء الله مالك عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمان بن عوف عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكل تمر خيبر كهذا فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تفعل بع الجمع بالدراهم وابتع بالدراهم جنيبا قال أبو عمر ذكر أبي هريرة في هذا الحديث لا يوجد من غير رواية عبد المجيد بن سهيل هذا وإنما يحفظ هذا الحديث لأبي سعيد الخدري كذلك رواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري من رواية حفاظ أصحاب قتادة هشام الدستوائي وابن أبي عروبة وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعقبة ابن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري وكذلك رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري وروى الدراوردي عن عبد المجيد بن سهيل في هذا الحديث إسنادين أحدهما عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة كما روى مالك وغيره والآخر عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله سواء ولا نعرفه بهذا الإسناد هكذا إلا من حديث الدراوردي وكل من روى حديث عبد المجيد بن سهيل هذا عنه بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره في آخره وكذلك الميزان إلا مالك فإنه لم يذكره في حديثه هذا وهو أمر مجتمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه كل يقول على أصله إن ما داخله الربا في الجنس الواحد من جهة التفاضل والزيادة لم تجز فيه الزيادة والتفاضل لا في كيل ولا في وزن والكيل والوزن عندهم في ذلك سواء إلا أن ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلا وما كان أصله الوزن لا يباع إلا وزنا وما كان أصله الكيل فبيع وزنا فهو عندهم مماثلة وإن كرهوا ذلك وأما ما كان موزونا فلا يجوز أن يباع كيلا عند جميعهم لأن المماثلة لا تدرك بالكيل إلا فيما كان كيلا لا وزنا اتباعا للسنة قال صلى الله عليه و سلم البر بالبر مدي بمدي وقد تدرك المماثلة بالوزن في كل شيء وقد اجمعوا أن الذهب والورق والنحاس وما أشبه ذلك لا يجوز شيء من ذلك كله كيلا بكيل بوجه من الوجوه فكذلك كل موزون لا يباع كيلا بكيل على حال من الأحوال وأجمع العلماء أيضا أن التمر بالتمر لا يجوز بعضه ببعض إلا مثلا بمثل وسواء فيه الطيب والدون وأجناس التمور كلها لا يجوز بيع شيء منها بشيء إلا مثلا بمثل كيلا بكيل والتمر كله على اختلاف أنواعه صنف واحد لا يجوز التفاضل فيه في البيع والمساومة بوجه من الوجوه وكذلك البر والزبيب وكل طعام مكيل من قطنية أو غيرها لا يجوز شيء من ذلك كله بشيء من جنسه إلا مثلا بمثل وقد تقدم في مواضع من كتابنا هذا أصول الربا في المأكولات والمشروبات والمكيلات والموزونات وكيف يجري الربا منها في الجنس الواحد وغيره وما للعلماء في ذلك كله من الاعتلال والمذاهب وما جعله كل واحد منهم أصلا في هذا الباب فلا معنى لإعادة ذلك ههنا وأما الجنيب من التمر فقيل هو الجنس الواحد غير المختلط والجمع المختلط وقيل الجنيب المتخير الذي قد اخرج عنه حشفه ورديئه وبيع التمر الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها من رجل واحد يدخله ما يدخل الصرف في بيع الذهب بدراهم والشراء بتلك الدراهم ذهبا من رجل واحد في وقت واحد والمراعاة في ذلك كله واحدة فمالك يكره ذلك على أصله وكل من قال بالذرائع كذلك وغيره يراعى السلامة في ذلك ولا يفسخ بيعا قد انعقد إلا بيقين وقصد وبالله التوفيق وأما سكوت من سكت من المحدثين في الحديث عن ذكر فسخ البيع الذي باعه العامل على خيبر فلأنه معروف في الأصول أن ما ورد التحريم به لم يجز العقد عليه ولا بد من فسخه وقد جاء الفسخ فيه منصوصا في هذا الحديث ذكر مسلم بن الحجاج قال حدثنا مسلمة بن الحجاج قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا الحسن بن أعين قال حدثنا معقل عن أبي قزعة الباهلي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بتمر فقال ما هذا التمر من تمرنا فقال الرجل يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ولو لم يأت هذا منصوصا احتمل ما ذكرنا واحتمل أن يكون عامل خيبر فعل هذا على أصل الإباحة التي كانوا عليها ثم نزل عليه صلى الله عليه و سلم تحريم الربا بعد عقد صفقته على أصل ما كان عليه كما قال سعيد بن جبير كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا يريد فما لم يؤمروا ولم ينهوا نفذ فعلهم وبالله التوفيق
(2) - صحيح مسلم برقم( 4170 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 461)
2988 - قَوْله : ( سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْف فَقَالَ : أَيَدًا بِيَدٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : لَا بَأْس بِهِ ) وَفِي رِوَايَة : ( سَأَلْت اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا قَالَ : فَسَأَلْت أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ فَقَالَ : مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا فَأَنْكَرْت ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا ، فَذَكَرَ أَبُو سَعِيد حَدِيث نَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، وَذَكَرْت رُجُوع اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ إِبَاحَته إِلَى مَنْعه ) وَفِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْده ( أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَدَّثَنِي أُسَامَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ) ، وَفِي رِوَايَة : ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ) ، وَفِي رِوَايَة : ( لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ )
مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ ، وَدِينَار بِدِينَارَيْنِ ، وَصَاع تَمْر بِصَاعَيْنِ مِنْ التَّمْر ، وَكَذَا الْحِنْطَة وَسَائِر الرِّبَوِيَّات ، كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُم فِي شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَة ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَنْ الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا ، يَعْنِي الصَّرْف مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَانَ مُعْتَمَدهمَا حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ) ثُمَّ رَجَعَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِين بَلَغَهُمَا حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رُجُوعهمَا صَرِيحًا .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَنْ التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة ، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ .
وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة ( لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى نَسْخه .
وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَات :
أَحَدهَا : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى غَيْر الرِّبَوِيَّات ، وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْن بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُون لَهُ عِنْده ثَوْب مَوْصُوف ، فَيَبِيعهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوف مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْأَجْنَاس الْمُخْتَلِفَة ، فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُل ، بَلْ يَجُوز تَفَاضُلهَا يَدًا بِيَدٍ .
الثَّالِث : أَنَّهُ مُجْمَل ، وَحَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْرهمَا مُبَيِّن ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِالْمُبَيِّنِ ، وَتَنْزِيل الْمُجْمَل عَلَيْهِ . هَذَا جَوَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه .(1/133)
و عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4173 )
شرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 26)
كِتَابُ الصَّرْفِ بَابُ الرِّبَا .
حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَحْيَى ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } .
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا الْخَطِيبُ بْنُ نَاصِحٍ ، قَالَ : ثنا حَمَّادٌ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ ، قَالَ : ثنا الْوَلِيدُ ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عَطَاءٍ ، { أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَرَأَيْت أَيْ أَخْبَرَنِي قَوْلَك فِي الصَّرْفِ يَعْنِي الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ ، أَشَيْءٌ سَمِعْته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ شَيْءٌ وَجَدْته فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا أَعْلَمُهُ ، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي .
وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ ، عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَرَأَيْت الَّذِي تَقُولُ ، الدِّينَارَيْنِ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّرْهَمِ ، أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ .
فَقَالَ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ هَذَا ، إنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَنَزَعَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ } .
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا قَيْسٌ ، وَهُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ ، قَالَ : قُلْت لِأَبِي سَعِيدٍ : أَنْتَ تَنْهَى عَنْ الصَّرْفِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهِ .
فَقَالَ : قَدْ لَقِيت ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقُلْت : مَا هَذَا الَّذِي تُفْتِي بِهِ فِي الصَّرْفِ ؟ أَشَيْءٌ وَجَدْته فِي كِتَابِ اللَّهِ ، أَوْ شَيْءٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ .
فَقَالَ : أَنْتُمْ أَقْدَمُ صُحْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي ، وَمَا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا مَا تَقْرَءُونَ ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا رِبَا إلَّا فِي الدَّيْنِ } .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، مِثْلَيْنِ بِمِثْلٍ ، جَائِزٌ ، إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ .
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَلَا الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ .
وَكَانَتْ الْحُجَّةُ لَهُمْ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ الرِّبَا إنَّمَا عَنَى بِهِ رِبَا الْقُرْآنِ ، الَّذِي كَانَ أَصْلُهُ فِي النَّسِيئَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ الدَّيْنُ ، فَيَقُولُ لَهُ : أَجِّلْنِي مِنْهُ إلَى كَذَا وَكَذَا بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَزِيدُكهَا فِي دَيْنِك ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِأَجَلٍ بِمَالٍ ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي التَّفَاضُلِ ، فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ ، الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ ، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِي " بَابِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ " فَكَانَ ذَلِكَ رِبًا حُرِّمَ بِالسُّنَّةِ وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ ، هُوَ غَيْرُ الرِّبَا ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى مَا حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ .
فَلَوْ كَانَ مَا حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مِنْ ذَلِكَ ، فِي الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ أُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ بِهِ إذًا ، لَمَا كَانَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ بِأَوْلَى مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِتَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرِّبَا ، حَتَّى حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَعَلِمَ أَنَّ مَا كَانَ حَدَّثَهُ بِهِ أُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ فِي رِبًا غَيْرِ ذَلِكَ الرِّبَا .
فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد ، قَالَ : ثنا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ، قَالَ : ثنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ مَوْلًى لَهُمْ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَالِكٌ ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ ، عَنْ مُجَاهِدٍ الْمَكِّيِّ ، { أَنَّ صَائِغًا - هُوَ عَامِلُ الْحُلِيِّ - سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ : إنِّي أَصُوغُ ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ ، وَأَسْتَفْضِلُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِي .
فَنَهَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ .
فَجَعَلَ الصَّائِغَ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَيَأْبَاهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، حَتَّى انْتَهَى إلَى دَابَّتِهِ ، أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا ، وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ } .
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : ثنا عَفَّانَ ، قَالَ : ثنا هَمَّامٌ ، قَالَ : ثنا قَتَادَةُ ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ ، { عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةَ عُبَادَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالتَّمْرِ ، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُهُمَا ، يَدًا بِيَدٍ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى } .
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ ، قَالَ : ثنا حُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَمَنْ زَادَ ، أَوْ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى } .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، قَالَ : ثنا الْفَضْلُ بْنُ حَبِيبٍ السَّرَّاجُ ، قَالَ : ثنا حَيَّانُ أَبُو زُهَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَهَى تَمْرًا فَأَرْسَلَ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ، وَلَا أَرَاهَا إلَّا أُمَّ سَلَمَةَ ، بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ فَأَتَوْا بِصَاعٍ مِنْ عَجْوَةٍ .
فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ أَنْكَرَهُ قَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ؟ .
قَالُوا : بَعَثْنَا بِصَاعَيْنِ ، فَأَتَيْنَا بِصَاعٍ ، فَقَالَ رُدُّوهُ ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ } .
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ ، قَالَ : ثنا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ ، قَالَ : ثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ ، قَالَ : { مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، فِي حَدِيثٍ بَلَغَهُ عَنْهُ فِي شَأْنِ الصَّرْفِ ، فَأَتَاهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ رَافِعٌ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَشِفُّوا الدِّينَارَ عَلَى الدِّينَارِ ، وَلَا الدِّرْهَمَ عَلَى الدِّرْهَمِ ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك حَتَّى يَدْخُلَ عَتَبَةَ بَابِهِ } .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا عَارِمٌ ، قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ : انْطَلَقْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ ، غَيْرَ قَوْلِهِ " وَإِنْ اسْتَنْظَرَك " إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ .
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ : ثنا أَسَدُ بْنُ مُوسَى ، قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ : ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ : أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ } حَتَّى ذَكَرَ الْمِلْحَ .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَحَبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ أَخْبَرَهُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ ، إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ } .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ ابْنِ أَبِي دَاوُد ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لَا زِيَادَةَ ، وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَلَا تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا تَبِيعُوا غَيْبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، أَنَّ نَافِعًا ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ، حَدَّثَهُمْ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ مَالِكًا أَخْبَرَهُ ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا ، بِالصَّاعَيْنِ ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَفْعَلْ ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } .
حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ : ثنا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيّ ، قَالَ : ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ ، قَالَ : ثنا أَبُو النَّضْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ، وَهُوَ عَلَيْنَا أَمِيرٌ مَنْ أَعْطَى بِالدِّرْهَمِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَلْيَأْخُذْهَا .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إنْ كُنْت فِي شَكٍّ ، فَسَلْ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ ذَلِكَ .
فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَقَالَ : إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مِنِّي } .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ قَالَ : ثنا مُسَدَّدٌ ، قَالَ ثنا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ أَنْكَرَهُ فَقَالَ أَنَّى لَك هَذَا ؟ قَالَ : اشْتَرَيْته بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ قَالَ أَضْعَفْت أَرْبَيْت ، أَوْ أَرْبَيْت أَضْعَفْت } .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُشَيْشٍ ، قَالَ : ثنا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : ثنا هِشَامٌ قَالَ : ثنا قَتَادَةُ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعِ تَمْرٍ رَيَّانَ ، وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْلًا فَقَالَ أَنَّى لَكُمْ هَذَا .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِعْنَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ ، بِصَاعٍ مِنْ هَذَا ، فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا ، وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَكُمْ ، وَاشْتَرُوا مِنْ هَذَا } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دِينَارٌ بِدِينَارٍ ، وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ ، وَصَاعُ تَمْرٍ بِصَاعِ تَمْرٍ ، وَصَاعُ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ ، وَصَاعُ شَعِيرٍ بِصَاعِ شَعِيرٍ ، لَا فَضْلَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ } .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : ثنا الْوَلِيدُ ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَاعَ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ ، وَلَا حِنْطَةٍ بِصَاعَيْنِ ، وَلَا دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ } .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي إسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ { بِلَالٍ قَالَ : كَانَ عِنْدِي مِنْ تَمْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدْت أَطْيَبَ مِنْهُ صَاعًا بِصَاعَيْنِ ، فَاشْتَرَيْته ، فَأَتَيْت بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا يَا بِلَالُ .
فَقُلْت : اشْتَرَيْته ، صَاعًا بِصَاعَيْنِ فَقَالَ رُدَّهُ ، وَرُدَّ عَلَيْنَا تَمْرَنَا } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى ، وَخَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ حَنَشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّبَائِيِّ ، عَنْ { فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ ، نُبَايِعُ الْيَهُودَ ، أُوقِيَّةَ الذَّهَبِ بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ } .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ : ثنا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عُبَادَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ ، يَعْنِي ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ فِي الْفِضَّةِ ، وَالْفِضَّةَ فِي الذَّهَبِ ، كَيْفَ شِئْنَا } .
حَدَّثَنَا فَهْدٌ ، قَالَ : ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ : أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ النَّجِيبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ حَنَشًا الصَّنْعَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ ، فِي غَزْوَةِ أُنَاسٍ قِبَلَ : الْمَغْرِبِ ، يَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَتَبَايَعُونَ الْمِثْقَالَ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ إلَّا الْمِثْقَالُ بِالْمِثْقَالِ ، وَالْوَزْنُ بِالْوَزْنِ } .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي تَمِيمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشَّارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا } .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا أَبُو عَامِرٍ ، قَالَ : ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي تَمِيمٍ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، مُتَفَاضِلًا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَاتِ ، الَّتِي قَدْ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا .
فَالْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى بِنَا ، مِنْ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ ، الَّذِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ .
ثُمَّ هَذَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ ، قَدْ ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا وَهْبٌ ، قَالَ : ثنا شُعْبَةُ ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُول : خَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ : " لَا يَشْتَرِي أَحَدُكُمْ دِينَارًا بِدِينَارَيْنِ ، وَلَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، وَلَا قَفِيزًا بِقَفِيزَيْنِ ، إنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ وَإِنِّي لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَهُ إلَّا أَوْجَعْته عُقُوبَةً ، فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا وَهْبٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ الْأَشْعَثِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ : " لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ " .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا وَهْبٌ قَالَ : ثنا أَبِي ، قَالَ : سَمِعْت نَافِعًا قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ خَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ : لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا عَارِمٌ ، قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، مِثْلَهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَخْطُبُ بِهَذَا ، عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ ، فَدَلَّ ذَلِكَ ، عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَلِيٍّ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ أَيْضًا .
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، حِينَ قَدِمَ الشَّامَ .
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ قَدْ هَبَطْتُمْ أَرْضَ الرِّبَا ، فَلَا تَتَبَايَعُونَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَلَا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ " قَالَ أَبُو قَيْسٍ : قَرَأْت كِتَابَهُ .
حَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ : ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ ، قَالَ : ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ ، قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَكُونُ عِنْدِي الدَّرَاهِمُ ، فَلَا تُنْفِقْ عَنِّي فِي حَاجَتِي ، فَأَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ تَجُوزُ عَنِّي ، وَأَحْفِمُ فِيهَا .
قَالَ : فَقَالَ عَلِيٌّ : " اشْتَرِ بِدَرَاهِمِك ذَهَبًا ، ثُمَّ اشْتَرِ بِذَهَبِك وَرِقًا ، ثُمَّ أَنْفِقْهَا فِيمَا شِئْت " .
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ : ثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ شُرَيْحٍ ، عَنْ عُمَرَ قَالَ " الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا رِبًا " .
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، عَنْ سُفْيَانَ " الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ " قَالَ حُسَيْنٌ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ، إمَامُ مَسْجِدِ حَمَّادٍ .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، قَالَ : ثنا هَارُونُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ : ثنا عَلِيٌّ بْنُ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، يَنْهَيَانِ عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّرْهَمِ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَيَقُولَانِ " الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ " .
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ قَرَأَ عَلَيَّ شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : مَرَّ بِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَعَهُ وَرِقٌ فَقَالَ " اصْنَعْ لَنَا أَوْضَاحًا لِصَبِيٍّ لَنَا " .
قُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، عِنْدِي أَوْضَاحٌ مَعْمُولَةٌ ، فَإِنْ شِئْت أَخَذْتُ الْوَرِقَ وَأَخَذْتَ الْأَوْضَاحَ .
فَقَالَ عُمَرُ " مِثْلًا بِمِثْلٍ " فَقُلْت " نَعَمْ " فَوَضَعَ الْوَرِقَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ ، وَالْأَوْضَاحَ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ، فَلَمَّا اسْتَوَى الْمِيزَانُ ، أَخَذَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ ، وَأَعْطَى بِالْأُخْرَى .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْقِذٍ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ رَزِينٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ ، وَهُوَ اللَّخْمِيُّ ، قَالَ : كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، فَسَأَلْته عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، فَقَالَ " مِثْلًا بِمِثْلٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ " .
وَمِمَّا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رُجُوعِهِ عَنْ الصَّرْفِ ، مَا قَدْ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا الْخَصِيبُ قَالَ ، ثِنَا حَمَّادٌ ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَعَ عَنْ الصَّرْفِ .
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مِثْلَيْنِ بِمِثْلٍ ، وَأَكْثَرَ - مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ .
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ مَا كَانَ أُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ إنَّمَا هُوَ رِبَا الْقُرْآنِ ، وَعَلِمَ أَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا خَالَفَ حَدِيثَ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ ، حَدِيثُ أُسَامَةَ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ نَقَلَهُ لَهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَامَتْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ - ، فَرَجَعَ إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ ، الَّذِينَ تَقُومُ بِنَقْلِهِمْ الْحُجَّةُ ، وَتَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ الْوَاحِدُ ، الَّذِي قَدْ يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ وَالْغَفْلَةُ .
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا فِي الصَّرْفِ ، قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 6 / ص 25)
2553 - (إنما الربا في النسيئة) أي البيع إلى أجل معلوم يعني بيع الربوي بالتأخير من غير تقابض هو الربا وإن كان بغير زيادة لأن المراد أن الربا إنما هو في النسيئة لا في التفاضل كما وهم ومن ثم قال بعض المحققين الحصر إضافي لا حقيقي من قبيل {إنما اللّه إله واحد} لأن صفاته لا تنحصر في ذلك وإنما قصد به الرد على منكري التوحيد فكذا هنا المقصود الرد على من أنكر ربا النسيئة وفهم الحبر ابن عباس منه الحصر الحقيقي فقصر الربا عليه وخالفه الجمهور فإن فرض أنه حقيقي فمفهومه منسوخ بأدلة أخرى وقد قام الإجماع على ترك العمل بظاهره.
- (حم م ن ه عن أسامة بن زيد) حب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وابن حبه.(1/134)
وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ لَقِىَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ فِى الصَّرْفِ أَشَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمْ شَيْئًا وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَلاَّ لاَ أَقُولُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَلاَ أَعْلَمُهُ وَلَكِنْ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَلاَ إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ ».(1)
و عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ .
فَقُلْتُ لَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ . فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّى ، وَلَكِنَّنِى أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ رِبًا إِلاَّ فِى النَّسِيئَةِ » (2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4175 )
(2) - صحيح البخارى برقم( 2178 و2179)
فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 6)
قَوْله : ( فَقَالَ كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ )
بِنَصْبِ " كُلَّ " ؛ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَظِير قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ " كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " فَالْمَنْفِيّ هُوَ الْمَجْمُوعُ ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِم " فَقَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاء " أَنَّ أَبَا سَعِيد لَقِيَ اِبْن عَبَّاس " فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ " فَقَالَ كُلّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ ، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَلَا أَعْلَمُهُ " أَيْ لَا أَعْلَمُ هَذَا الْحُكْم فِيهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ لِأَبِي سَعِيد " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي " لِكَوْن أَبِي سَعِيد وَأَنْظَارِهِ كَانُوا أَسَنَّ مِنْهُ وَأَكْثَر مُلَازَمَة لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي السِّيَاقِ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيد وَابْن عَبَّاس مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ .
قَوْله : ( لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ )
فِي رِوَايَةِ مُسْلِم " الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن أَبِي يَزِيد وَعَطَاءٍ جَمِيعًا عَنْ اِبْن عَبَّاس " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " زَادَ فِي رِوَايَة عَطَاء " أَلَا إِنَّمَا الرِّبَا " وَزَاد فِي رِوَايَةِ طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس " لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَد " وَرَوَى مُسْلِم مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَة قَالَ " سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ : أَيَدًا بِيَد ؟ قُلْت : نَعَمْ ، قَالَ فَلَا بَأْسَ . فَأَخْبَرْت أَبَا سَعِيد فَقَالَ : أَوَقَالَ ذَلِكَ ؟ إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ " وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي نَضْرَة " سَأَلْت اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا ، فَإِنِّي لَقَاعِدٌ عِنْد أَبِي سَعِيد فَسَأَلْتُهُ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ : مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا ، فَأَنْكَرْت ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا . فَذَكَرَ الْحَدِيث قَالَ " فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ اِبْن عَبَّاس عَنْهُ بِمَكَّةَ فَكَرِهَهُ " . وَالصَّرْفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ : دَفْع ذَهَبٍ وَأَخْذ فِضَّةٍ وَعَكْسُهُ ، وَلَهُ شَرْطَانِ : مَنْع النَّسِيئَة مَعَ اِتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَمَنْع التَّفَاضُل فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَخَالَفَ فِيهِ اِبْن عُمَر ثُمَّ رَجَعَ ، وَابْن عَبَّاس وَاخْتَلَفَ فِي رُجُوعِهِ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيق حَيَّانَ الْعَدَوِيّ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ " سَأَلْت أَبَا مِجْلَز عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ : كَانَ اِبْن عَبَّاس لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْن يَدًا بِيَد ، وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيد " فَذَكَرَ الْقِصَّة وَالْحَدِيث ، وَفِيهِ " التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْل ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا ، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ " . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أُسَامَةَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد فَقِيلَ : مَنْسُوخ ، لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ . وَقِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ " لَا رِبًا " الرِّبَا الْأَغْلَظ الشَّدِيد التَّحْرِيم الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَب لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاء غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَل لَا نَفْيُ الْأَصْلِ ، وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيم رِبَا الْفَضْل مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي سَعِيد لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ ، وَيُحْمَلُ حَدِيث أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّه أَعْلَمُ . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : مَعْنَى حَدِيث أُسَامَة " لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ " إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاع الْبَيْعِ وَالْفَضْل فِيهِ يَدًا بِيَد رِبًا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد .
( تَنْبِيه :
وَقَع فِي نُسْخَة الصَّغَانِيّ هُنَا " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه " يَعْنِي الْبُخَارِيّ " سَمِعْتُ سُلَيْمَان بْن حَرْب يَقُولُ : لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ هَذَا عِنْدَنَا فِي الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَد وَلَا خَيْر فِيهِ نَسِيئَة " قُلْت : وَهَذَا مُوَافِق وَفِي قِصَّة أَبِي سَعِيد مَعَ اِبْن عُمَر وَمَعَ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْعَالِمَ يُنَاظِرُ الْعَالِمَ وَيُوقِفُهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَرُدُّهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ وَفِيهِ إِقْرَارُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ بِفَضْلِ التَّقَدُّمِ .
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 314)
اختلف العلماء فى تأويل قوله عليه السلام فى حديث أسامة: « لا ربا إلا فى النسيئة » فروى عن قوم السلف أنهم أجازوا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد متفاضلة، رواه سعيد بين جبير عن ابن عباس، قال: « ما كان ربًا قط فى هاء و هاء. ورواية عن ابن عمر وهو قول عكرمة وشريح.
واحتجوا بظاهر حديث أسامة بن زيد: « لا ربا إلا فى النسيئة » فدل أن ما كان نقدًا فلا بأس بالتفاضل فيه وخالف جماعة العلماء بعدهم هذا التأويل، وقالوا: قد عارض ذلك حديث أبى سعيد الخدرى وحديث أبى بكرة عن النبى - عليه السلام - أنه حرم التفاضل فى الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، وروى الطبرى من حديث عبد الله بن موسى قال: حدثنا حيان بن عبد الله العدوى قال: سئل أبو مجلز عن الصرف فقال: « كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره إذا كان يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة، فلقيه أبو سعيد فقال: يا ابن عباس، ألا تتق الله ! حتى متى تؤكل الناس الربا؟! إنى سمعت النبى - عليه السلام - يقول: الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير يدًا بيد مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا » .
فهذه السنن الثابتة لا تأويل لأحد معها، فلا معنى لما خالفها، وقد تأول بعض العلماء أن قوله عليه السلام: « لا ربا إلا فى النسيئة » خرج على جواب سائل سأل عن الربا فى الذهب بالورق أو البر بالتمر، ونحو ذلك مما هو جنسان، فقال عليه السلام: « لا ربا إلا فى النسيئة » فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع. وقال الطبرى فى حديث أسامة: المراد به الخصوص، ومعناه: لا ربا إلا فى النسيئة إذا اختلفت أجناس المبيع فإذا اتفقت فلا يصلح بيع شىء منه من نوعه إلا مثلا بمثل، والفضل فيه يدًا بيد ربا، وقد قامت الحجة ببيان الرسول فى الذهب الفضة، والفضة بالذهب، والحنطة بالتمر نساء، أنه لا يجوز متفاضلا، ولا مثل بمثل، فعلمنا أن قوله: « لا ربا إلا فى النسيئة » . فيما اختلفت أنواعه دون ما اتفقت.
قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد وابن عباس من الفقه أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الإجماع.
وفيه: إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم؛ لقول ابن عباس لأبى سعيد: أنتم أعلم برسول الله منى.
والنساء: التأخير، يقال: باع منه نسيئة ونظرة وأخرة ودينًا، كل ذلك بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: {إنما النسىء زيادة فى الكفر} يعنى تأخير الأشهر الحرم التى كانت العرب فى الجاهلية تفعلها من تأخير المحرم إلى صفر، ومنه انتساء فلان عن فلان، أى: تباعده منه، عن الطبرى.
شرح مسند أبي حنيفة - (ج 1 / ص 184)
ففي كتاب الرحمة في اختلاف الأئمة أجمع المسلمون على أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب منفردا والورق بالورق منفردا تبرها ومضروبها وحليها إلا مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد وأنه لا يباع شيء منها غائبا بتأخير واتفقوا على أنه يجوز بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب متماثلين يدا بيد ويحرم نسيئة وكذا سائر أموال الربوية من الموزون والمكيل كالحنطة والتمر والملح
والأحاديث في ذلك كثيرة منها مارواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد مرفوعا : لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء ومنها مارواه البخاري عن أبي بكر بلفظه لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وتبيعوا الذهب بفضة والفضة بالذهب كيف شئتم أي يد بيد كما رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت . هذا وقال الخطابي : حديث أسامة محمول على أن أسامة سمع كلمة من آخر الحديث فحفظها ولم يدرك أوله كان النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن بيع الجنسين متفاضلا فقال صلى الله عليه و سلم : " إنما الربا في النسئة " يعني إذا اختلف الأجناس جاز فيها التفاضل إذا كانت يدا بيد وإنما يدخلها الربا إذا كانت نسيئة(1/135)
.
و عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ فَقَالَ طَلْحَةُ أَنَا حَتَّى يَجِىءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ . قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الَّذِى حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِىِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ . فَقَالَ أَخْبَرَنِى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2134 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 500)
قَوْله : ( أَنَّهُ اِلْتَمَسَ صَرْفًا )
بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِذَهَبٍ كَانَ مَعَهُ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ اللَّيْث فِي رِوَايَتِهِ عَنْ اِبْن شِهَاب وَلَفْظه " عَنْ مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَانِ قَالَ : أَقْبَلْت أَقُولُ مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِم ؟ " .
قَوْله : ( فَتَرَاوَضْنَا )
بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ تَجَارَيْنَا الْكَلَام فِي قَدْر الْعِوَض بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يُرَوِّضُ صَاحِبَهُ وَيُسَهِّلُ خُلُقَهُ ، وَقِيلَ الْمُرَاوَضَة هُنَا الْمُوَاصَفَة بِالسِّلْعَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَصِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا سِلْعَته لِرَفِيقِهِ .
قَوْله : ( فَأَخَذَ الذَّهَب يُقَلِّبُهَا )
أَيْ الذَّهَبَةِ ، وَالذَّهَبُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ ذَهَبٌ وَذَهَبَةٌ . أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ ضَمَّنَ الذَّهَبَ مَعْنَى الْعَدَد الْمَذْكُور وَهُوَ الْمِائَةُ فَأَنَّثَهُ لِذَلِكَ ، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث " فَقَالَ طَلْحَة إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِيك وَرِقَك " وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَة الْخَازِن الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ طَلْحَة .
قَوْله : ( مِنْ الْغَابَةِ )
بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ يَأْتِي شَرْح أَمْرِهَا فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ فِي قِصَّة تَرِكَة الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام ، وَكَأَنَّ طَلْحَة كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ مِنْ نَخْل وَغَيْرِهِ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن عَبْد الْبَرّ .
قَوْله : ( حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ )
أَيْ عِوَض الذَّهَب ، فِي رِوَايَة اللَّيْث " وَاللَّه لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " فَذَكَرَهُ .
قَوْله : ( الذَّهَب بِالْوَرِقِ رِبًا )
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِك فِيهِ وَحَمَلَهُ عَنْهُ الْحُفَّاظ حَتَّى رَوَاهُ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ مَالِك ، وَتَابَعَهُ مَعْمَر وَاللَّيْث وَغَيْرهُمَا ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنْ اِبْن عُيَيْنَة . وَشَذَّ أَبُو نُعَيْم عَنْهُ فَقَالَ " الذَّهَب بِالذَّهَبِ " كَذَلِكَ رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ " الذَّهَب بِالْوَرِقِ " الرَّفْعُ أَيْ بَيْع الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ فَحَذَفَ الْمُضَاف لِلْعِلْمِ بِهِ ، أَوْ الْمَعْنَى الذَّهَب يُبَاعُ بِالذَّهَبِ ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ أَيْ بِيعُوا الذَّهَبَ ، وَالذَّهَبُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَغَيْرِهَا ، وَالْوَرِقِ الْفِضَّة وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِإِسْكَانِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمَضْرُوبَةُ وَبِفَتْحِهَا الْمَالُ ، وَالْمُرَادُ هُنَا جَمِيع أَنْوَاعِ الْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً وَغَيْرَ مَضْرُوبَةٍ .
قَوْله : ( إِلَّا هَاء وَهَاء )
بِالْمَدِّ فِيهِمَا وَفَتْح الْهَمْزَة ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ ، وَقِيلَ بِالسُّكُونِ ، وَحُكِيَ الْقَصْر بِغَيْرِ هَمْز وَخَطَّأَهَا الْخَطَّابِيّ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيّ وَقَالَ : هِيَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ قَلِيلَة وَالْمَعْنَى خُذْ وَهَاتِ ، وَحُكِيَ " هَاك " بِزِيَادَة كَاف مَكْسُورَة وَيُقَالُ " هَاءِ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى هَاتِ وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنَى خُذْ بِغَيْرِ تَنْوِين ، وَقَالَ اِبْن الْأَثِيرِ : هَاء وَهَاء هُوَ أَنْ يَقُولَ كُلّ وَاحِد مِنْ الْبَيِّعَيْنِ هَاء فَيُعْطِيه مَا فِي يَدِهِ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ " إِلَّا يَدًا بِيَد " يَعْنِي مُقَابَضَةً فِي الْمَجْلِسِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ خُذْ وَأَعْطِ ، قَالَ وَغَيْر الْخَطَّابِيِّ يُجِيزُ فِيهَا السُّكُونَ عَلَى حَذْف الْعِوَض وَيَتَنَزَّلُ مَنْزِلَة " هَا " الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ . وَقَالَ اِبْن مَالِك : هَا اِسْم فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْد إِلَّا فَيَجِبُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ قَبْلَهُ يَكُونُ بِهِ مَحْكِيًّا فَكَأَنَّهُ قِيلَ : وَلَا الذَّهَب بِالذَّهَبِ إِلَّا مَقُولًا عِنْدَهُ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ هَاء وَهَاء . وَقَالَ الْخَلِيل : كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُنَاوَلَةِ ، وَالْمَقْصُود مِنْ قَوْلِهِ " هَاء وَهَاء " أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِصَاحِبِهِ هَاء فَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ قَالَ اِبْن مَالِك : حَقُّهَا أَنْ لَا تَقَعَ بَعْدُ إِلَّا كَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا خُذْ ، قَالَ : فَالتَّقْدِيرُ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مَقُولًا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ هَاء وَهَاء . وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَّا عِنْدَ الْإِيجَابِ بِالْكَلَامِ ، وَلَوْ اِنْتَقَلَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى آخَرَ لَمْ يَصِحَّ تَقَابُضهمَا ، وَمَذْهَبه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَرَاخِي الْقَبْض فِي الصَّرْفِ سَوَاء كَانَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ تَفَرَّقَا ، وَحُمِلَ قَوْلُ عُمَرَ " لَا يُفَارِقُهُ " عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الصَّيْرَفِيُّ الْقَبْضَ حَتَّى يَقُومَ إِلَى قَعْوِ دُكَّانِهِ ثُمَّ يَفْتَحَ صُنْدُوقَهُ لَمَا جَازَ .
قَوْله : ( الْبُرّ بِالْبُرِّ )
بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ رَاء مِنْ أَسْمَاء الْحِنْطَة ، وَالشَّعِير بِفَتْح أَوَّلِهِ مَعْرُوف وَحُكِيَ جَوَازُ كَسْرِهِ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ فَقَالُوا هُمَا صِنْف وَاحِد ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَبِيرَ يَلِي الْبَيْع وَالشِّرَاء لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وُكَلَاء وَأَعْوَان يَكْفُونَهُ . وَفِيهِ الْمُمَاكَسَةُ فِي الْبَيْعِ وَالْمُرَاوَضَة وَتَقْلِيب السِّلْعَة ، وَفَائِدَته الْأَمْن مِنْ الْغَبْنِ ، وَأَنَّ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَخْفَى عَلَى الرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْقَدْر حَتَّى يُذَكِّرَهُ غَيْرُهُ ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى شَيْئًا لَا يَجُوزُ يَنْهَى عَنْهُ وَيُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ ، وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى بِحُكْمٍ حَسَنٍ أَنْ يَذْكُرَ دَلِيله ، وَأَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَيَهْتَمَّ بِمَصَالِحِهِمْ .
وَفِيهِ الْيَمِينُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ ، وَفِيهِ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ حَدِيثِ رَسُولِهِ . وَفِيهِ أَنَّ النَّسِيئَةَ لَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا مَعَ تَفَاضُلِهِمَا بِالنَّسِيئَةِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا الْوَرِق بِالْوَرِقِ ، يَعْنِي إِذَا لَمْ تَكُنْ رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق وَمَنْ تَابَعَهُ مَحْفُوظَةً فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَقَدْ نَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره الْإِجْمَاع عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، أَيْ التَّسْوِيَةِ فِي الْمَنْعِ بَيْنَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَبَيْنَ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ فَيُسْتَغْنَى حِينَئِذٍ بِذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ .
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 268)
قال المؤلف: لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا فى ملكك وضمانك من الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلها، لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وروى النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث حكيم بن حزام، ولم يكن إسناده من شرط البخارى، فاستنبط معناه من حديث مالك بن أوس، وذلك أنه يدخل من باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون فى ملكك غائبًا من الذهب والفضة، لا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذلك البر والتمر والشعير لا يباع شىء منها بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، وكذلك ما كان فى معناها من سائر أنواع الطعام، لا يباع منها طعام بطعام إلا يدًا بيد، لقوله عليه السلام: « إلا هاء وهاء » ، يعنى خذ وأعط حياطة من الله - تعالى - لأصول الأموال وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع ما ليس عندك ومن ربح ما لم يضمن وهو السلم، فجوزت فيه بيع ما ليس عندك مما يكون فى الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله - تعالى - لعباده ورفقًا بهم.
قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع.
وقال غيره: ومن بيع ما ليس عندك العينة، وهى ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كأن رجلا سأل رجلا أن يسلفه دراهم بدراهم أكثر منها فقال له: هذا لا يحل، ولكن أبيعك فى الدراهم التى سألتنى سلعة كذا ليست عندى، أبتاعها لك فبكم تشتريها منى؟ فيوافقه على الثمن يبتاعها ويسلمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهى بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فسخ عند مالك فى مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنك إنما أسلفته الثمن الذى ابتاعها به.
وقد روى عن مالك أنه لا يفسخ البيع، لأن المأمور كان ضامنًا للسلعة لو هلكت. قال ابن القاسم: وأحب إلى لو تورع عن أخذ ما ازداده عليه. وقال عيسى بن دينار: بل يفسخ البيع إلا أن تفوت السلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق.
شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 461)
الغريب :
إلا هاء وهاء: فيهما لغات، أشهرها المد وفتح الهمزة فيهما، ومعناه التقابض.
المعنى الإجمالي : يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، كيفية البيع الصحيح بين هذه الأنواع، التي يجرى فيها الربا، وهو أنه من باع ذهبا بفضة أو بالعكس، فلا بد من الحلول والتقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح العقد، لأن هذه مصارفة، يشترط لدوام صحتها التقابض.
كما أن من باع- برا بِبُر، أو شعيرا بشعير، فلابد من التقابض بينهما، في مجلس العقد لما بين هذه الأنواع من علة الربا المفسدة للعقد، إذا حصل التفرق قبل القبض.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الذهب بالفضة أو العكس، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد، وهذه هي المصارفة.
2- تحريم بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير. وفساده، إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد.
3- صحة العقد إذا حصل القبض في المصارفة. أو بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير، في مجلس العقد.
4- يراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء أكانا جالسين، أم ماضيين، أم راكبين. ويراد بالتفرق ما يُعَد تفرقا عرفا، بين الناس.(1/136)
.
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ »(1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَا هَذَا الَّذِى تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِى الصَّرْفِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلاً بِمِثْلٍ » . (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2175 )
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 312)
أجمع أئمة الأمصار أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة تبرهما وعينهما ومصنوعهما إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا يحل التفاضل فى شىء منهما، وعلى هذا مضى السلف والخلف، وبذلك كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروى مثله عن على بن أبى طالب وروى مجاهد عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى - عليه السلام - مثله، وإنما حرم الله الربا حراسة للأموال وحفظًا لها، فلا يجوز واحد باثنين من جنس واحد؛ لاتفاق أغراض الناس فيه، ويجوز واحد باثنين إذا اختلف الصنفان؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، ولذلك قال عليه السلام: « وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم » .
(2) - صحيح البخارى برقم( 2176 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 3)
قَوْله : ( عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيّ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيد مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيد فِي الصَّرْفِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ )
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، هَكَذَا سَاقه وَفِيهِ اِخْتِصَار وَتَقْدِيم وَتَأْخِير ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم شَيْخ شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ بِلَفْظ " إِنَّ أَبَا سَعِيد حَدَّثَهُ حَدِيثًا مِثْلَ حَدِيث عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّرْفِ فَقَالَ أَبُو سَعِيد " فَذَكَرَهُ ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ " مِثْل ذَلِكَ " أَيْ مِثْل حَدِيثِ عُمَرَ ، أَيْ حَدِيث عُمَرَ الْمَاضِي قَرِيبًا فِي قِصَّةِ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه ، وَتَكَلَّفَ الْكَرْمَانِيّ هُنَا فَقَالَ : قَوْلُهُ " مِثْل ذَلِكَ " أَيْ مِثْل حَدِيثِ أَبِي بَكْرَة فِي وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ لَمَا عَدَلَ عَنْهَا . وَقَوْلُهُ " فَلَقِيَهُ عَبْد اللَّه " أَيْ بَعْد أَنْ كَانَ سَمِعَ مِنْهُمْ الْحَدِيث فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَهُ فِيهِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِأَبِي سَعِيد مَعَ اِبْن عُمَر فِي هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّة وَهِيَ هَذِهِ ، وَوَقَعَتْ لَهُ فِيهِ مَعَ اِبْن عَبَّاس قِصَّةٌ أُخْرَى كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ ، فَأَمَّا قِصَّتُهُ مَعَ اِبْن عُمَر فَانْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق سَالِمٍ ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِم مِنْ طَرِيقِ اللَّيْث عَنْ نَافِع وَلَفْظه " إِنَّ اِبْن عُمَر قَالَ لَهُ رَجُل مِنْ بَنِي لَيْث : إِنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ نَافِع : فَذَهَب عَبْد اللَّه وَأَنَا مَعَهُ وَاللَّيْثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ فَقَالَ : إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّك تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْل " الْحَدِيث ، فَأَشَارَ أَبُو سَعِيد بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَقَالَ " أَبَصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْل " الْحَدِيث . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَة فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِابْن عُمَر مَعَ أَبِي سَعِيد " إِنَّ اِبْن عُمَر نَهَى عَنْ ذَلِكَ بَعْد أَنْ كَانَ أَفْتَى بِهِ لَمَّا حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيد بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَمَّا قِصَّة أَبِي سَعِيد مَعَ اِبْن عَبَّاس فَسَأَذْكُرُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيه .
قَوْله فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى
( الذَّهَب بِالذَّهَبِ )
يَجُوزُ فِي الذَّهَبِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ ، وَقَدْ تَقَدَّمُ تَوْجِيهه ، وَيَدْخُلُ فِي الذَّهَبِ جَمِيع أَصْنَافِهِ مِنْ مَضْرُوبٍ وَمَنْقُوشٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمُكَسَّرٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْر وَخَالِص وَمَغْشُوش ، وَنَقَلَ النَّوَوِيّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ .
قَوْله : ( مِثْل بِمِثْل )
كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ ، وَلِغَيْر أَبِي ذَرٍّ " مِثْلًا بِمِثْل " وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ الذَّهَب يُبَاعُ بِالذَّهَبِ مَوْزُونًا بِمَوْزُون ، أَوْ مَصْدَر مُؤَكِّد أَيْ يُوزَنُ وَزْنًا بِوَزْن ، وَزَاد مُسْلِم فِي رِوَايَةِ سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ " إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاء بِسَوَاء " .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 13 / ص 143)
قوله إن أبا سعيد حدثه أي حدث عبد الله بن عمر قوله مثل ذلك قال الكرماني أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة فإن قلت ما وجه فلقيه إذ الكلام يتم بدونه قلت يعني فلقيه بعد ذلك مرة أخرى انتهى وقيل هذا الحديث أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري بلفظ إن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله في الصرف قال أبو سعيد فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله مثل ذلك أي مثل حديث عمر أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله انتهى قلت حديث عمر الذي ذكره مضى في باب ما يذكر في بيع الطعام والذي قاله الكرماني أقرب لأنه مذكور في الباب الذي قبله وليس بينهما باب آخر قوله ما هذا أي ما هذا الذي تحدثه وإنما قال ما هذا لأنه كان يعتقد قبل ذلك جواز المفاضلة قوله في الصرف أي في شأن الصرف وهو بيع الذهب بالفضة وبالعكس قوله الذهب بالذهب يجوز في الذهب الرفع والنصب أما الرفع فعلى أنه مبتدأ خبره محذوف أي الذهب يباع بالذهب أو يكون مرفوعا بإسناد الفعل المبني للمفعول إليه تقديره يباع الذهب وأما النصب فعلى أنه مفعول لفعل مقدر تقديره بيعوا الذهب بالذهب وقوله الذهب يتناول جميع أنواعه من مضروب وغير مضروب وصحيح ومكسور وجيد ورديء وقال بعضهم وخالص ومغشوش قلت قوله ومغشوش ليس على إطلاقه فإنه إذا كان غشه كثيرا غالبا على الذهب يكون حكمه حكم العروض قوله مثلا بمثل بالنصب في رواية الأكثرين وفي رواية أبي ذر بالرفع مثل بمثل فوجهه بإسناد الفعل المبني للمفعول إليه تقديره يباع مثل بمثل وأما وجه النصب فعلى أنه حال تقديره الذهب يباع بالذهب حال كونهما متماثلين يعني متساويين وقال بعضهم هو مصدر في موضع الحال قلت قوله مصدر ليس بصحيح على ما لا يخفى(1/137)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2177 ) ومسلم برقم(4138 )
تشف : تزيد وتفضل = الناجز : الحاضر
فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 4)
قَوْله : ( وَلَا تُشِفُّوا )
بِضَمّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ تُفَضِّلُوا ، وَهُوَ رُبَاعِيّ مَنْ أَشَفَّ ، وَالشِّفُّ بِالْكَسْرِ الزِّيَادَة ، وَتُطْلَقُ عَلَى النَّقْصِ .
قَوْله : ( وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ )
بِنُون وَجِيم وَزَاي مُؤَجَّلًا بِحَالٍّ ، أَيْ وَالْمُرَاد بِالْغَائِبِ أَعَمّ مِنْ الْمُؤَجَّلِ كَالْغَائِبِ عَنْ الْمَجْلِسِ مُطْلَقًا مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا وَالنَّاجِز الْحَاضِر ، قَالَ اِبْن بَطَّال : فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ : مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُل دَرَاهِم وَلِآخَرَ عَلَيْهِ دَنَانِير لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاصَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا لَهُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى بَيْع الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ غَائِب بِنَاجِز فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ غَائِبٌ بِغَائِب ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ " كُنْت أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ : أَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ . فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَلَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْء " فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا ، لِأَنَّ النَّهْيَ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ عَنْ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّأْخِيرِ فِي الصَّرْفِ قَالَهُ ابْن بَطَّالٍ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ " مِثْلًا بِمِثْلٍ " عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِقَاعِدَة مُدّ عَجْوَة وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مُدّ عَجْوَة وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ مِثْلًا ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَنْعِ حَدِيث فَضَالَة بْن عُبَيْد عِنْد مُسْلِم فِي رَدِّ الْبَيْعِ فِي الْقِلَادَةِ الَّتِي فِيهَا خَرَز وَذَهَب حَتَّى تُفْصَلَ أَخْرَجَهُ مُسْلِم ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " فَقُلْت إِنَّمَا أَرَدْت الْحِجَارَةَ ، فَقَالَ : لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا " .
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 444)
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ )
الْمُرَاد بِالنَّاجِزِ الْحَاضِر ، وَبِالْغَائِبِ الْمُؤَجَّل ، وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ مُؤَجَّلًا ، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَيْئَيْنِ اِشْتَرَكَا فِي عِلَّة الرِّبَا ، أَمَّا إِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّة ، ثُمَّ أَخْرَجَ كُلّ وَاحِد الدِّينَار ، أَوْ بَعَثَ مَنْ أَحْضَرَ لَهُ دِينَارًا مِنْ بَيْته وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِس فَيَجُوز بِلَا خِلَاف عِنْد أَصْحَابنَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْط أَنْ أَلَّا يَتَفَرَّقَا بِلَا قَبْض ، وَقَدْ حَصَلَ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ : ( وَلَا تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ )
وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع أَحَدهمَا بِالْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدهمَا مُؤَجَّلًا أَوْ غَابَ عَنْ الْمَجْلِس ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَاز الصُّوَر الَّتِي ذَكَرْتهَا ، وَاَللَّه أَعْلَم .
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 342)
1162 - قَوْلُهُ : ( اِنْطَلَقْت أَنَا وَابْنُ عُمَرَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ )
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ اِبْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ : إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ نَافِعٌ فَانْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَا مَعَهُ وَاللَّيْثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ : إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّك تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ الْحَدِيثَ . فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَقَالَ : أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِلَخْ .
( لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ )
يَدْخُلُ فِي الذَّهَبِ جَمِيعُ أَصْنَافِهِ مِنْ مَضْرُوبٍ وَمَنْقُوشٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمُكَسَّرٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ وَخَالِصٍ وَمَغْشُوشٍ . وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ
( إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ )
أَيْ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَمَاثِلِينَ أَيْ مُتَسَاوِيَيْنِ
( وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ )
الْمُرَادُ بِالْفِضَّةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهَا مَضْرُوبَةً وَغَيْرَ مَضْرُوبَةٍ
( لَا يُشَفُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ )
بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ مِنْ الْإِشْفَافِ وَهُوَ التَّفْضِيلُ يُقَالُ شَفَّ الدِّرْهَمُ يَشِفُّ إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ مِنْ الْأَضْدَادِ . وَأَشَفَّهُ غَيْرُهُ يَشِفُّهُ كَذَا فِي عُمْدَةِ الْقَارِي .
( وَلَا تَبِيعُوا مِنْهُ غَائِبًا )
أَيْ غَيْرَ حَاضِرٍ
( بِنَاجِزٍ )
أَيْ حَاضِرٍ مِنْ النُّجْزِ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالزَّايِ . قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَيْ مُؤَجَّلًا بِحَالٍّ وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ أَعَمُّ مِنْ الْمُؤَجَّلِ كَالْغَائِبِ عَنْ الْمَجْلِسِ مُطْلَقًا ، مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا ، وَالنَّاجِزُ الْحَاضِرُ اِنْتَهَى .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ إِلَخْ )
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السِّتَّةِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْلِمٍ ، وَعَنْ أَنَسٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَعَنْ بِلَالٍ فِي الْبَزَّارِ وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ مَعْلُولٌ اِنْتَهَى . قُلْتُ : وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَزَّارِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَأَمَّا أَحَادِيثُ بَاقِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلْيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهَا ،
قَوْلُهُ : ( حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، قَوْلُهُ :
( وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ إِلَخْ )
اِعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الصَّرْفِ لَهُ شَرْطَانِ ، مَنْعُ النَّسِيئَةِ مَعَ اِتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَمَنْعُ التَّفَاضُلِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَخَالَفَ فِيهِ اِبْنُ عُمَرَ ثُمَّ رَجَعَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ سَأَلْت أَبَا مِجْلَزٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ : كَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ . وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ وَفِيهِ : التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا . فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ . فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ . كَذَا قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي . فَإِنْ قُلْتَ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ " . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : قُلْتُ : اِخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ : إِنَّ حَدِيثَ أُسَامَةَ مَنْسُوخٌ لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : لَا رِبَا ؛ الرِّبَا الْأَغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ . مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَلِ لَا نَفْيُ الْأَصْلِ . وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْبَيْعِ وَالْفَضْلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ رِبَا ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ .
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 395)
1145 - ( ش ) : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنْ التِّبْرِ وَالْمَسْكُوكِ وَالْمَصُوغِ وَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ يَسِيرِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الشُّفُوفَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي يَسِيرِ الزِّيَادَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ فَإِنَّهُ مَنَعَ النَّسَا فِيهَا وَالْعَقْدَ عَلَى غَائِبٍ حِينَ الْعَقْدِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ مَا غَابَ عَنْ الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ وَفَائِدَةُ أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الْعِوَضَيْنِ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مُحَالٌ أَنْ يُشْتَرَطَ حُضُورُهُمَا الْعَقْدَ وَيُؤَخَّرَ قَبْضُهُمَا .
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 313)
قوله: « لا تشفوا بعضها على بعض » يرد ما رواه أهل مكة عن ابن عباس أنه كان يجيز الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة. وستأتى مذاهب العلماء فى هذا الباب بعد هذا - إن شاء الله.
وقوله: « ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز » فالناجز: الحاضر، يقال: نجز المال: إذا حضر، ومنه قوله أنجز فلان ما وعد: إذا وفى له به وأحضره.
وقوله: « ولا تشفوا بعضها على بعض » يقتضى تحريم قليل الزيادة وكثيرها، يقول: لا تبيعوا إحداهما زائدًا على الأخرى.
تقول العرب: قد أشف فلان بعض بنيه على بعض: إذا فضل بعضهم على بعض، ويقال ما أقرب شف ما بنيهما، أى: فضل ما بينهما، وفلان حريص على الشف، يعنى: الربح عن الطبرى.
شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 462)
الغريب:
1- الورق: هو الفضة مضروبة أو غير مضروبة.
2- ولا تُشفُّوا بعضها على بعض: بضم أوله، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء. أي لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو رباعي من " أشف " و " الشف " بالكسر، الزيادة، ويطلق على النقص أيضاً، فهو من الأضداد.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث الشريف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا بنوعيه: الفضل، والنسيئة.
فهو ينهى عن بيع الذهب بالذهب، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين، إلا إذا تماثلا وزناً بوزنْ، وأن يحصل التقابض فيهما، في مجلس العقد، إذ لا يجوز بيع أحدهما حاضراً، والآخر غائبا.
كما نهى عن بيع الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة أم غير مضروبة، إلا أن تكون متماثلة وزناً بوزن، وأن يتقابضا بمجلس العقد.
فلا يجوز زيادة أحدهما عن الآخر، ولا التفرُّق قبل التقابض.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة، أم غير مضروبة، أم مختلفة، ما لم تكن مماثلة بمعيارها الشرعي وهو الوزن، وما لم يحصل التقابض من الطرفين في مجلس العقد.
2- النهى عن ذلك يقتضي تحريمه وفساد العقد.
3- التماثل والتقابض بمجلس العقد، مشروط بين جميع الأموال الربوية، ويأتي بيان ما يجمعها إن شاء الله.
4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير: هذا هو عين الربا الذي أنزل فيه القرآن، وذكر أنه لا يستحق إلا ما أعطاهم أو نظيره أما الزيادة فلا يستحق شيئا منها. أما ما قبضه بتأول فيعفى عنه: وأما ما بقى في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى: { وذروا ما بقى من الربا } .
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم التفاضل والنساء في جنس واحد من الأجناس ، التي نص عليها حديث عبادة بن الصامت قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى " . رواه مسلم.
فهو نص في منع التفاضل في الجنس الواحد من هذه الأعيان المذكورة.
وأما منع النسيئة، فيستفاد من مثل حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً، إلا هاء وهاء".
ويجوز بيع الجنس الواحد من هذه الستة بالجنس الآخر نَساء لبقية حديث عبادة " فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " وكل هذا مجمع عليه عند العلماء، إلا في الشعير مع البر، فقد رأى بعضهم أنَهما جنس واحد، والصحيح أنهما جنسان.
وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الربا لا يتعدى هذه الأجناس الستة لنفيهمُ القياس .
وأما جمهور العلماء فقد عَدّوا الحكم إلى غيرها من الأشياء. واختلفوا في الأشياء الملحقة، تبعاً لاختلافهم في فهم العلة المانعة من التفاضل والنِّساء،
وقد اتفق العلماء على أن العلة في الذهب والفضة، غير العلة في الأربعة الباقية وأن لكل منهما علة واحدة. ثم اختلفوا في العلة.
فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد، في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس وفى الأربعة الباقية، كونها مكيلة جنس، فيلحق بهما ما شابهما في العلة.
وبهذا القول قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق والحنفية. فعلى هذا يجرى الربَا في كل موزون، أو مكيل بيع بجنسه، سواء أكان مطعوماً، كالحبوب، والسكر، والأدهان. أم غير مطعوم، كالحديد، والصفر والنحاس، والأشنان ونحو ذلك. وغير المكيل أو الموزون
لا يجرى فيه، وأن كان مطعوما، كالفواكه المعدودة.
ويستدلون على ثبوت هذا التعليل عندهم، بما رواه أحمد عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين ".
وما رواه الدارقطنى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وُزِنَ مثلا بمثل، نوعاً واحدا. وما كيل ، فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به " . فاعتبر، هنا، الكيل، أو الوزن في الجنس الواحد، لتحقق العلة.
وذهب الشافعي إلى أن العلة، الطعم والجنس، والعلة في الذهب والفضة، كونهما ثمنين للأشياء، فيختص الحكم بهما. والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، عن معمر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل ".
فقد علَّق الحكم باسم الطعام، فدل على العلة واشتقاقها. ووافق الإمام مالك الشافعي في النقدين، أم غيرهما، فالعلة عنده فيه ترجع إلى الجنس والادخار، والاقتيات. وكذلك ما يصلح الطعام من التوابل. ويرون أن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث جاءت للتنبيه على ما في معناها، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار .
فالبر، والشعير، لأنواعْ الحبوب. والتمر لأنواع الحلويات، كالسكر والعسل، والملح، لأنواع التوابل.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد هي مذهب الإمام الشافعي في القديم، وقال بها سعيد بن المسيب. وهى أن العلة في الأربعة المذكورة في الحديث: الطعم، والكيل أو الوزن فلا يجرى الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالرمان والحض، والبطيخ.
كما لا يجرى في مكيل أو موزون لا يطعم. فلابد من اعتبار الأمرين ، لأن الكيل وحده، أو الوزن وحده، لا يقتضي وجوب المماثلة، كما أن الطعم
وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق المماثلة في المعيار الشرعي الذي هو الكيل والوزن.
وبهذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها بالآخر.
وقد اختار هذا القول [ صاحب المغنى] والشارح عبد الرحمن بن أبي عمر، وشيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمهم الله تعالى.
تلخيص:قال في المغنى: فالحاصل إن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا. رواية واحدة كالأرز، والدخن والقطنيات، والدهن.
وهذا قول أكثر أهل العلم وعلماء الأمصار في القديم والحديث. وما يعدم فيه الكيل، والوزن والطعم، واختلف جنسه، فلا ربا فيه رواية واحدة. وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتين والنوى. وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل والوزن من جنس واحد، فيه روايتان.
واختلف أهل العلم فيه، والأولى- إن شاء الله- حِله، إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوى التمسك به، وهى- مع ضعفها- يعارض بعضها بعضا. فوجب إخراجها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحل، الذي يقتضيه الكتاب، والسنة، والاعتبار .
موطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 3 / ص 89)
أي إلاّ حال كونهما متماثِلَيْن أي متساويين وزناً من غير اعتبار الجَوْدة والرداءة.
قوله: ولا تُشِفُّوا، قال الزرقاني: بضم الفوقية وكسر الشين المعجمة وضم الفاء المشددة، من الإِشفاف، أي لا تفضلوا، والشفُّ هو الزيادة، وفيه دليل على أن الزيادة وإن قلّت حرام لأن الشفوف الزيادة القليلة، ومنه شفافة الإِناء لبقية الماء.
قوله: غائباً بناجز، بنون وجيم وزاء معجمة أي مؤجَّلاً بحاضر، بل لا بد من التقابض في المجلس، ولا خلاف في منع الصرف المؤخرّ إلا في دينار في ذمة أحدٍ صرفه الآن، أو في دينار في ذمة وصرفه في ذمة أخرى فيتقاصّان معاً، فذهب مالك إلى جواز الصورتين بشرط حلول ما في الذمة وأن يتناجزا في المجلس، وأجاز أبو حنيفة الصورتين معاً وإن لم يحلّ ما في الذمة فيهما لمراعاة براءة الذمم وأجاز الشافعي الأولى دون الثانية، قاله القاضي عياض قال الموفق: ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر. ويكون صرفاً بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة لأن القبض شرط وقد تخلَّف، ولنا ما روى أبو داود والأثرم عن ابن عمر كنت أبيع الإِبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، الحديث وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وليس بينكما شيء، قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أن يقضيه إياه بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي: إنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، ولنا حديث ابن عمر المذكور، فإن كان المقضيّ الذي في الذِّمة مؤجَّلاً فقد توقف فيه أحمد، وقال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، والآخر الجواز، وهو قول أبي حنيفة لأن الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض. المغني 4/55.
شرح بلوغ المرام - (ج 197 / ص 4)
شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ) ].
عقد البيع فيه مبيع وثمن، الثمن من المشتري، والمبيع من البائع، والأصل أن الذهب قيمة المشتريات، كما يقولون: المال السائل، فهو الوسيط بين صاحب السلعة ومن يحتاجها، وكان قبل الذهب وقبل النقود وقبل العملة؛ كان البيع والشراء بالمقايضة، تأخذ صاع تمر وتبيعه لصاحب البر فيعطيك بالتمر براً، أو تأخذ البر وتبيعه لصاحب السكر، فتقول له: خذ هذا الصاع من البر، وأعطني سكراً، فكانت مقايضة بالأصناف والأعيان، وتأخذ صاع الحب وتذهب للجزار وتقول له: أعطني بهذا لحماً، وإلى الآن في بعض البلدان يتعاملون بالحبوب مقايضة في دكان البقالة، إلى الآن موجود.
ثم جاءت النقود، والمعاملة بها صارت أيسر وميسرة للسفر، وتحديدها معلوم للجميع، فهنا الذهب بالذهب، أيهما ثمن؟ وأيهما مثمن؟ مع أن الذهب في أصله هو قيمة المشتريات وكذلك الفضة، لكن الذهب يخرج عن كونه قيمة المشتريات ويصبح سلعة؛ لأن الذهب له ثلاث حالات: إما تبر، مادة خام، سبيكة.
وإما مضروب، دنانير أنصاف دنانير إلى آخره، وهذه عملة.
وإما مصوغ كما يقال: منقوش، سوار، قرط في الأذن، خاتم في الأصبع، كذا كذا إلى آخره.
فهو عملة وقيمة للمثمنات حينما يضرب، ويجعل وحدة متحدة وزناً وقيمة، والذين يضربون الذهب الآن يجعلونه جنيهات ذهبية، الجنيه الجورج، الجنيه الأمريكي، الجنيه السعودي، وغيرها، وفي حد علمي أن وزن معظم الجنيهات في العالم، وهو الجنيه الصغير ثمانية جرامات، وكأنه وحدة عالمية، وهناك جنيهات تخرج عن هذا، يوجد جنيه إنجليزي أو أمريكي بقدر أربع جنيهات، وفي عهد البرامكة جعلوا الدينار البرمكي أربعة مثاقيل؛ لأنه كان ضخماً يقدم هدية.
والذي يهمنا أن الذهب بالذهب ربا، والذهب أصل قيمة المبيعات، فإذا أصبح الذهب ثمناً ومثمناً، فأين الثمن، وأين المثمن؟ إذا كان الذهب مضروباً نقداً فهذا هو الثمن، وإذا كان الذهب مصوغاً أو تبراً -مادة الخام- فهذا هو المثمن، أي: المشترى.
إذاً: يمكن بيع الذهب بالذهب نقداً بنقد، مثل: بيع الذهب بالذهب تبراً بتبر، بيع الذهب بالذهب مصوغاً بمصوغ، بيع الذهب بالذهب مضروباً نقداً بمصوغ، مضروباً نقداً بتبر، كل هذه المسميات داخلة تحت قوله: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا ...)، حتى قال بعض العلماء: ولو كان أحدهما مغشوشاً والثاني سليماً فلا يجوز أن تبيع ذهباً خالصاً بذهب مغشوش بالنحاس -أو ما يسمى شبه النحاس الراقي الذي يشبه الذهب في لونه- وزناً بوزن، ما يجوز ولو زدت فيه؛ لأننا لا نعلم قدر المغشوش في المغشوش، ولا نستطيع أن نحكم على الذهب الصافي بالذهب الصافي هناك، إذاً مهما كانت صورة الذهب تبراً، نقداً، صافياً، مصوغاً، خالصاً أو مغشوشاً، فجنس ذهب بذهب إذا بيع هذا بهذا لا يمكن أن تكون هناك زيادة، ولا تأخير.
فالذهب بالذهب يحرم فيه الزيادة، ويحرم فيه التأخير، يعني: يحرم فيه ربا الفضل، وربا النسيئة.
وإذا أردت أن أشتري حلياً، وعندي ذهب دنانير جنيه، فالوجه الشرعي أن توضع الحلي في كفة، وتوضع الدنانير المضروبة في كفة حتى تتعادل الكفتان، والتاجر يأخذ الدنانير الذهب، والمشتري يأخذ الحلي.
ولو قال قائل: ما عندي دنانير، لكن عندي ذهب سبائك، وأريد ذهباً مصنعاً، فالوجه الشرعي أن يوضع الحلي المصنوع المزخرف في كفة، ويوضع الذهب الخام السبائك في كفة، فإذا تعادلتا صح البيع، وإذا زاد في وزن السبائك ونقص في المصوغ وقال: من أجل الصياغة؛ بطل هذا البيع، ولا يجوز، وما المخرج من هذا إذاً؟ بع السبيكة بالفضة، واشتري الحلي بالفضة، ويجوز بيع الذهب بالفضة مع الزيادة والنقص، ولا يشترط التماثل في الوزن، الفضة كيلو، وهذا الذهب ربع كيلو، فيوجد فرق في المقدار، لكن يشترط التقابض يداً بيد.
إذاً: الجنس بالجنس من هذه المسميات يشترط فيه التماثل والتقابض، مثل بيع الذهب بالذهب تبراً، مصوغاً، مضروباً، مغشوشاً، صحيحاً، مستعملاً، مكسراً، بأي صفة من الأصناف، ما دام مادة الذال والهاء والباء موجودة، فإن بيع بجنسه وجب أن يكون وزناً بوزن، يداً بيد.
حكم الأوراق النقدية
الفضة الآن غير موجودة نقداً، إنما عندنا الأوراق النقدية، وهي تمثل الريال، والريال فضي، إذاً: هذه الأوراق المتداولة تمثل الفضة، فإذا اشترينا ذهباً بفضة بالنيابة وهو الورق فليس هناك وزن، وليس هناك تقدير بين الثمن والمثمن على ما اتفقا عليه، فيجوز شراء الجرام الذهب بثلاثين ريالاً، بخمسين ريالاً، بمائة ريال، لا يوجد مانع، لكن يداً بيد، يقول مثلاً: أعطني هذه الأسورة، وكان وزنها خمسين جراماً -مثلاً-، فقال: قيمتها ألفان، فأعطاه ألفين إلا خمسين ريالاً نقصت، فيقول له: حطها محلها، ولا يقول له: اذهب أنت مؤتمن، ولو أنت مؤتمن ألف مرة، فإن العقد لا يتم، إلا إذا كان الثمن والمثمن يداً بيد.
وأهل الذهب ربما يعملون حيلة، يقول أحدهم: خذ هذه خمسين ريالاً قرضة حسنة مني إليك، أعطني الخمسين الباقية، وهذه الحيلة على من؟! تبغى تروج بضاعتك بالحيلة على الشرع؟ لا.
وفي الذهب مشاكل كثيرة في الأسواق، إذا بيع بغير جنسه بالدولار، بالربية، بالاسترليني، بأي عملة ما لم تكن ذهبية، بع واشتر ما شئت، ولكن لا تفارق البائع وله عندك فلس واحد.
حكم صرف الذهب بالفضة
ويشترط التقابض في صرف الذهب بالفضة، الصراف يأخذ الذهب ويعطيه الدراهم في نفس المجلس، وينقل بعض العلماء عن مالك لو أن مصطرفاً جاء إلى الصراف، ودفع إليه الدنانير ليعطيه الدراهم، فلا يجوز أن يفارقه ولو قليلاً إلا إذا مد يده بالدنانير ليأخذها، ومد الآخر يده بالدراهم ليدفعها، في نفس المجلس، ويقول: لو أن الصراف أخذ الدنانير، ودخل دكانه ليفتح صندوقه ويأتي بالدراهم فلا يجوز! سمعتم هذا يا جماعة؟! إذا جاء المصطرف بالدنانير، والصراف قاعد عند باب الدكان، وأعطاه مثلاً مائة دينار، فقال: مرحباً، عندي صرف، وأخذ الدنانير من صاحبها، ودخل إلى مكان في آخر دكانه ليفتح الصندوق، ويضع الدنانير ويأتي بالدراهم، مالك قال: لا يجوز؛ لأنه ما حصل يد بيد، والواجب أن يترك الدنانير مع صاحبها، ويذهب يفتح صندوقه، ويأتي بالدراهم إلى صاحب الدنانير، ثم هاء وهاء، خذ وهات.
فـ مالك لا يقبل تأخير الصرف ما بين أن يذهب إلى آخر دكانه ويأتي، فما بالك إذا جاءه فقال: أروح البيت ثم أمر عليك؟! هذه معاملة ممنوعة في الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب.
إذاً: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل )، والمماثلة المعادلة، في الكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، وفي المعدود بالعد، والذهب والفضة موزونان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ ( ولا تشفوا بعضها على بعض ) ].
الشف: الزيادة أو النقص، والعوام يستعملونها، تذهب إلى الجزار وتقول: أبغى لحماً مشفياً، مشفي يعني: منقوص العظم، زائد اللحم ( لا تشفوا بعضها على بعض )، لا تقل: هذا مصنوع ومصوغ ودقة صفتها وصفتها، وهذا قديم ومكسر ويبغى له صياغة من جديد، لا تشفوا الناقص المكسر القديم على وزنه بالجديد أبداً، تبغى ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وما تبغى مثلاً بمثل فبع هذا الذهب بفضة، واشتر ذاك الذهب الثاني بفضة، وتكون الفضة هي الوسيط، وبين الذهب والفضة لا ربا في الزيادة، ولكن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ ( ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ) ].
الورِق والورَق أو الوَرْقُ: هو النقد من الفضة خاصة { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ } [الكهف:19] سبحان الله! يا إخواني! كم استوقفتني كلمة (هذه)، فالورِق هو عملة، فالأصل أن يقولوا: ابعثوا واحداً بالدراهم التي معكم لينظر لكم طعاماً ويشتريه، لكن التنصيص على (هَذِهِ) إعجاز القرآن أي: الموجودة معكم؛ لأنها هي مفتاح السر الذي سيكشف عنهم، فلما ذهب بتلك الورق التي معهم إلى المدينة، فالناس رءوا هذه العملة قديمة جداً، فسألوه: من أين هذه؟! فالعملة (هَذِهِ) هي التي كشفت عن سر أصحاب الكهف لأهل المدينة! إذاً: الورق هو الفضة نقداً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ ( ولا تشفوا بعضها على بعض ) ].
الفضة حكمها حكم الذهب في جميع التفصيلات السابقة، فإن كانت الفضة تبراً، أو مضروبة دراهماً، أو مصوغة حلياً، جديدة، قديمة، مكسرة، مغشوشة، سليمة، كله إذا كان فضة بفضة فهو مثل الذهب، وزناً بوزن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )] ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير، فمنع ربا الفضل في الفضة كما منع في الذهب، ومنع ربا النسيئة في الفضة كما منع في الذهب، فالذهب والفضة بنات خالة أو بنات عم.(1/138)
و عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى لَيْثٍ إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ وَنَافِعٌ مَعَهُ. وَفِى حَدِيثِ ابْنِ رُمْحٍ قَالَ نَافِعٌ فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَا مَعَهُ وَاللَّيْثِىُّ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَقَالَ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِى أَنَّكَ تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَعَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ. فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَقَالَ أَبْصَرَتْ عَيْنَاىَ وَسَمِعَتْ أُذُنَاىَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ ».(1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلاَ الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ » (2).
وعَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ كُنْتُ بِالشَّامِ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ قَالَ قَالُوا أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ. فَجَلَسَ فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ نَعَمْ غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً أَنْ يَبِيعَهَا فِى أَعْطِيَاتِ النَّاسِ فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِى ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ أَلاَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ. فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ - أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَصْحَبَهُ فِى جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ.(3)
و عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ».
وفي رواية عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ ».(4)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4139 )
تشف : تزيد وتفضل = الناجز : الحاضر =الورق : الفضة
(2) - صحيح مسلم برقم( 4141 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 445)
قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع أَنْوَاع الذَّهَب وَالْوَرِق مِنْ جَيِّد وَرَدِيء ، وَصَحِيح وَمَكْسُور ، وَحُلِيّ وَتِبْر ، وَغَيْر ذَلِكَ ، وَسَوَاء الْخَالِص وَالْمَخْلُوط بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا كُلّه مُجْمَع عَلَيْهِ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلِ سَوَاء بِسَوَاءٍ " يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَلْفَاظ تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي الْإِيضَاح .
(3) - صحيح مسلم برقم( 4145 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 447)
2969 - قَوْله : ( فَرَدَّ النَّاس مَا أَخَذُوا ) هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيْع الْمَذْكُور بَاطِل .
قَوْله : ( أَنَّ عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ : لَأُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَة ) قَالَ : ( وَإِنْ رَغِمَ )
يُقَال : رَغِمَ بِكَسْرِ الْغَيْن وَفَتْحهَا ، وَمَعْنَاهُ : ذَلَّ وَصَارَ كَاللَّاصِقِ بِالرُّغَامِ ، وَهُوَ التُّرَاب ، وَفِي هَذَا الِاهْتِمَام بِتَبْلِيغِ السُّنَن وَنَشْر الْعِلْم وَإِنْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ لِمَعْنًى ، وَفِيهِ الْقَوْل بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ الْمَقُول لَهُ كَبِيرًا .
(4) - صحيح مسلم برقم( 4147 و4148 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 448)
2970 - قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاء بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ )
هَذَا دَلِيل ظَاهِر فِي أَنَّ الْبُرّ وَالشَّعِير صِنْفَانِ ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيِّ وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرِينَ ، وَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُعْظَم عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالشَّام مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ : إِنَّهَا صِنْف وَاحِد ، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ عُمَر وَسَعِيد وَغَيْرهمَا مِنْ السَّلَف - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّخَن صِنْف ، وَالذُّرَة صِنْف وَالْأَرُزّ صِنْف إِلَّا اللَّيْث بْن سَعْد وَابْن وَهْب فَقَالَا : هَذِهِ الثَّلَاثَة صِنْف وَاحِد .
2971 - قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَمَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى )
مَعْنَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الرِّبَا الْمُحَرَّم ، فَدَافِع الزِّيَادَة وَآخُذهَا عَاصِيَانِ مُرْبِيَانِ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَدًا بِيَدٍ )
حُجَّة لِلْعُلَمَاءِ كَافَّة فِي وُجُوب التَّقَابُض وَإِنْ اِخْتَلَفَ الْجِنْس وَجَوَّزَ إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة التَّفَرُّق عِنْد اِخْتِلَاف الْجِنْس ، وَهُوَ مَحْجُوج بِالْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاع ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْحَدِيث ، فَلَوْ بَلَغَهُ لَمَا خَالَفَهُ .
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 8 / ص 214)
4355 - (الذهب بالذهب) بالرفع أي بيع الذهب فحذف المضاف للعلم به أو مبتدأ حذف خبره أي الذهب يباع بالذهب أو بإسناد الفعل المبني للمفعول إليه أي يباع الذهب ويجوز نصبه أي بيعوا الذهب بالذهب (والفضة بالفضة والبرّ بالبر والشعير بالشعير) بفتح الشين على المشهور وحكي كسرها (والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل) أي حال كونهما متماثلين أي متساويين في القدر (يداً بيد) أي نقداً غير نسيئة (فمن زاد) على مقدار البيع الآخر من جنسه (أو استزاد) أي طلب الزيادة وأخذها (فقد أربى) أي فعل الربا المحرم (والآخذ والمعطي سواء) في اشتراكهما في الإثم لتعاونهما عليه فإن كلاً منهما آكل وموكل وألحق بهذه الستة ما في معناها المشارك لها في العلة فقال الشافعي: العلة في النقد الثمينة فلا يتعدى بكل موزون وفي البقية الطعم فيتعدى ووافقه مالك في النقد وجعل العلة في الأربعة للادخار وجعل أبو حنيفة العلة في النقد الوزن وفي الباقي الكيل فعداهما.
- (حم م ن) في الربا (عن أبي سعيد) الخدري ولم يخرجه البخاري.
شرح بلوغ المرام - (ج 197 / ص 7)
شرح حديث: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ...)
قال رحمه الله: [ وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير بالشعير والتمر بالتمر )].
قدم المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد في الذهب والفضة؛ لأن أكثر ما يكون الربا، في المعاملات فيهما، ثم جاء بالحديث الثاني وفيه ( البر بالبر )، ما هو البر؟ أظنه معروفاً في العالم كله، ويسمى البر، أو الحنطة، أو القمح، وكل هذه كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: مترادفات على مسمى واحد، كما تقول: الأسد والغضنفر والهزبر و و الخ.
لكن بعض العلماء ينفي توارد الأسماء على مسمى واحد الذي هو الترادف، ويقول ابن تيمية رحمه الله: هناك سر، فإذا وجدت عدة أسماء لمسمى واحد؛ فكل اسم منها يختص بصفة في المسمى، إذا قلت: أسد، فهذا للجنس يشمل الصغير والكبير والمريض والمتعافي، وإذا قلت: هزبر، فمعناه أنه في حالة النشاط والقوة، وإذا قلت: غضنفر، فمعناه أنه ضخم وكبير، وهذا كله راجع لعين واحدة، ولكن روعيت صفاته، فكان لكل صفة اسم تشير إلى المعنى المنطلق منه.
فالحنطة والبر والقمح كلها أسماء لمسمى واحد، ويراعى فيها الجودة والنوعية، وربما أننا نعرف أربعة أو خمسة أصناف موجودة، إذاً: هذا الصنف من الحبوب سمه ما شئت: قمحاً، براً، حنطة، فإذا بيع بجنسه فيجب التماثل والتقابض، صاع بر مديني بصاع بر شامي، تفاوتت صفات كل منهما وخواصه، فيوجد نوع من الحنطة يسمى العرق إذا طحن وعجن صارت العجينة مثل المطاط، ونوع إذا سحبته قليلاً تقطع مثل الذرة، فالذرة ما لها عرق، والقمح له عرق، ويتفاوت، ومهما تفاوت في صنفه، أو في لونه، أو في حجمه، حبة كبيرة وحبة صغيرة، ما دام المسمى بهذه الاسم (حنطة بحنطة)، فلا تباع الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وأما الشعير فأعتقد أن العالم كله يعرف الشعير، ولكن كما يقول أهل الفلاحة: الشعير نوعان: شعير يسميه العامة شعير الحمير، وهو للعلف، وشعير يناسب كبار السن، يجعل لهم منه الخبز، فيكون ليناً سهل الهضم، ولا يكون معه إمساك عند كبار السن، ويدخل في الأدوية، فمهما كان صنفه شعير بشعير، أمريكي فرنسي للعلف أو للأكل، فكله شعير، و مالك رحمه الله يجعل -في الربويات والزكاة- البر والشعير صنفاً واحداً، ففي الزكاة إذا كان عنده ثلاثة أوسق براً، ووسقان شعير، فقال: يكمّل بعضهما بعضاً؛ لأنهما جنسٌ واحد ويزكي.
والجمهور يقولون: لا، ما كمل عنده النصاب، هذا بر ثلاثة أوسق، وليس فيها زكاة، وهذا شعير وسقان وليس فيها زكاة، فلا زكاة عليه فيهما؛ لأن الحديث هنا ذكر الصنفين، ولو كان صنفاً واحداً لاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
إذاً: ( البر بالبر والشعير بالشعير مثلاً بمثل )، لكن لو بعنا البر بالشعير صاع بر بصاعين أو بثلاثة آصع شعير يجوز بشرط أن يكون هاء وهاء، يداً بيد، فإن قال: خذ البر واذهب وأعطني الشعير، لا يجوز، بل يكون كلاهما حاضراً: ( ولا تبع ناجزاً بغائب ).
الربا في التمر
قال عليه الصلاة والسلام: ( والتمر بالتمر )، التمر تتعدد أصنافه، وبعض من كتب عن تمر المدينة قديماً أوصله إلى مائتي صنف، وسمى كل صنف ووصفه، ومن الأسماء المشهورة: الحلوة، والحلية، والبرني، والشلبي، والصفاوي، وما لم يعرف له اسم عند الناس يسمى لونة، أو الجمع المختلط من عدة أشكال، فلو باع صاع تمر صفاوي بصاع تمر حلية فيشترط التماثل والتقابض، وتمر الحلية، تمر صغير، إذا يبس صار مثل الخشب، ولكن إذا لان فهو أقوى أنواع التمر طاقة مع الحلاوة، وأقوى أنواع العلف للحيوانات، وتمر الحلية قيمته ضعف تمر الحلوة، ولا يستوي هذا مع هذا، والآن بعض أنواع التمور الكيلو بمائتين ريال، وبعض منها بعشرة ريالات أو بسبعة ريالات، فلو قال إنسان: كيف أبيع هذا بهذا مثلاً بمثل؟! يا أخي! بع تمرك الجيد بالدراهم، بع الصاع بدراهم، واشتر بقيمة الصاع الواحد عشرين صاعاً من هذا، ولا يوجد مانع، تغاير الثمن عن المثمن فجاز التفاضل.
إذاً: التمر بالتمر قضية عامة، وسيأتي حديث تمر خيبر الجنيب: ( أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا نأخذ الصاع بالصاعين )، وذلك كما يقول ابن عبد البر : كنا نرزق التمر، فنبيع الصاعين بالصاع، فنهينا عن ذلك، وسيأتي له زيادة بيان.
إذاً: التمر بالتمر أياً كان نوعه من المائتي صنف، إذا كان التمر ثمناً ومثمناً فلا بد أن يكون بالكيل سواء بسواء، وما كان يباع بالكيل عرفاً فلا يجوز بيعه بجنسه وزناً، والتمر مكيل أو موزون؟ الأصل فيه أنه مكيل، ويرجع في معرفة المكيل والموزون إلى عرف مكة والمدينة، فما كان مكيلاً في المدينة فعرفه الشرعي الكيل، وما كان موزوناً في مكة فعرفه الشرعي الوزن، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل، وعرف التمر الكيل، فإذا أخذنا أحسن صنف من التمر في صاع ووضعناه في كفة، وأخذنا أردأ أنواع التمر في صاع ووضعناه في كفة أخرى، فهل يكون هناك زيادة في الحجم المكعب بين الصنفين أو يكونان متساويين؟ متساويين مثلاً بمثل، لكن إذا غايرنا العرف فيه، وبعنا كيلو بكيلو، فهل يتفق الحجم المكعب في كيلو تمر الصفاوي مع الشلبي الذي هو خفيف أو الحلية الذي هو أثقل؟ هل يتفق التماثل في الحجم المكعب؟ لا، ما يتفق، إذاً: هل حصلت المثلية؟ لا، والجهل بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ ولهذا لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إن كان مكيلاً إلا بعرفه الكيل، وإن كان موزوناً فبعرفه الوزن، فإذا غايرنا العرف، اختلف المقدار، ودخلنا في الجهالة بالمساواة، والجهالة بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ لأننا نقطع بأن هناك زيادة، إذاً: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وتعرف المثلية فيه بالكيل، ويكون الحجم واحداً، ولكن العرف يختلف، وباختلاف العرف يتفاوت الحجم، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل بالكيل؛ لأن عرفه الكيل.
والذهب يوزن ولا يكال، فلو وضعت ذهباً مكسراً قدر نصف صاع، وقلت: أعطني ذهباً جديداً نصف صاع، هل يتعادل الذهبان؟ لا يتعادل، لو وضعت حلقات وخواتم قدر نصف صاع، ووضعت ذهباً آخر مصوغاً ومكسراً قدر نصف صاع، فهل حصلت مماثلة بالكيل أو لا؟ لا؛ لأن الذهب يتماثل بالوزن.
إذاً: لا يجوز بيع الصنف بالصنف بغير عرفه، فلا يجوز بيع الصنف الربوي المكيل بصنفه موزوناً، ولا الموزون مكيلاً؛ لأن اختلاف عرف التقدير يأتي بالزيادة، ويأتي بالربا.
الربا في الملح
قال عليه الصلاة والسلام: [ ( والملح بالملح ) ].
الملح عظيم القدر، حتى ذكر مع الذهب والفضة، ومع البر والشعير والتمر، ولا غنى لأحد عن الملح، لكن إذا زاد يفسد، والملح قسمان: ملح جبلي، وهو معدني.
وملح بحري.
وما كل بحر يخرج منه الملح، فمياه البحار فيها العديد من الأملاح، وبحيرة لوط خاصة فيها أنواع من الأملاح، وملح الطعام يؤخذ مما يسمونه الملاحة، وهي بقاع من الأرض يتجمع فيها الماء، وغالباً تكون الأرض سبخة مالحة، فإذا طفح الماء من منبعه، وامتلأت الحفرة، ترك الماء يتعرض للشمس، وتبخر الماء وترسب الملح، فيجمع ويكوّم ويجفف ويعبأ في الأكياس وينزل به إلى الأسواق، هذا ملح مائي، وليس معناه أن تذهب إلى البحر الأحمر وتستخرج ملح الطعام مباشرة، لا يوجد، وإن وجد فبمقدار قليل مع أملاح أخرى (صوديوم وفسفور وفسفات)، وكل هذه يمكن استخراجها من المحيطات، ولكن ملح الطعام إما يستخرج من منقع ماء في أرض سبخة وإما من معدن في جبل، وفي أفريقيا بعض الجبال فيها عرق الملح، كما يوجد فيها عرق الذهب، وعرق الفضة، وعرق النحاس، كما يوجد فيها أحجار تحمل كحل الإثمد، تجد حجرة مثل الليمونة أو البرتقالة وفيها كحل العين، لا يكون فيها طين أو تراب، بل يكون فيها كحل من أجود أنواع الإثمد، مطحون وجاهز.
والملح المعدني يدق؛ لأنه حجر مثل الرخام، وكيفية استعماله: أن يكسر منه قطعاً مثل علب الكبريت مثلاً، وتضعها في الماء، وتحركها في الماء حتى يستحلب منها الملح، كما أنه إذا وضع الملح في الماء فإنه يذوب نهائياً، سواء كان ملحاً معدنياً أو ملحاً مائياً.
وهل الملح يكال أو يوزن في العرف؟ يكال، فإذا أردت أن تبيع ملحاً بملح ولو معدني بمائي فالجنس واحد، فيشترط التماثل والتقابض كما في أجناس البر وأجناس التمر، وكذلك الآن الرز أصناف، بل قالوا: فيه رز صناعي ورز نباتي، والذي يدخل في الربا الرز النباتي، لا الصناعي، ويهمنا هنا قوله: ( والملح بالملح مثلاً بمثل )، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا يجوز فيه التأخير.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ ( مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد ) ].
( سواء بسواء ) أي: متعادل (يداً بيد)، وفي بعض الروايات: ( هاء وهاء ) ( ها وها )، ( هاك وهاك )، وهذه اسم فعل كما يقول ابن مالك : بمعنى: خذ، هات.
القاعدة العامة في معرفة الربا
قال عليه الصلاة والسلام: [ ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) ].
هذا هي القاعدة العامة، فإذا اتحدت هذه الأصناف: ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، وكان الثمن والمثمن من جنس واحد، فلا تشفوا بعضها على بعض، مثلاً بمثل، ويداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم.
فإذا كان الثمن جنساً، والمثمن جنساً آخر، مثلاً: باع ذهباً بفضة، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، وهكذا: باع تمراً ببر اختلف، فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأصبح المبيع يغاير الثمن، والثمن يغاير المبيع، وإن كان كلاً منهما ربوي، وإن كان كلاً منهما من الأصناف الستة؛ ( فبيعوا كيف شئتم )، بمعنى: صاع بصاعين، صاع بعشرة، لا يوجد مانع، ولكن بقيد: يداً بيد، ( فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، فإذا كان عندك البر، وعنده التمر، واشتريت التمر ببر، ويمكن التمر يكون أحسن، والصاع فيه بصاعين بر أو بالعكس كما فعل معاوية ، نصف صاع يعادل صاعاً، فهل يجوز أن تبيع البر نصف صاع بصاع تمر إلى بعد يوم؟ لا، ولا يؤخر دقيقة، ولا بد أن يكون الصنفان موجودين، خذ وهات.
إلى هنا إن شاء الله يكون قد اتضح لنا صور بيع الربويات الست بعضها ببعض إذا اختلفت أجناسها، ثم بعد ذلك تبقى عندنا مسألة: هل يقتصر الحكم على هذه الأصناف الستة أو يلحق بها غيرها؟ وإذا كان يلحق بها غيرها، فبأي علة يكون الإلحاق؟ سنتكلم على هذا في الدرس القادم.
وبالله تعالى التوفيق.(1/139)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4152 )
شرح بلوغ المرام - (ج 198 / ص 3)
تقدم الكلام على الربا في الأصناف الستة المتقدمة: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وتبين لنا أصول الربويات، وأن الربا يدور على أصله الحقيقي وهو الزيادة، وموضوعه كما قسمه الفقهاء: ربا الفضل.
وربا النسيئة.
فربا الفضل: هو الزيادة، إذا بيع جنس بجنسه وحصلت زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: تمر بتمر صاع بصاع وزيادة درهم مع أحد الصاعين، فهذا هو ربا الفضل.
والنسيئة: صاع بصاع، لكن يقول: آخذ صاعك اليوم، وأرد إليك صاعي الذي هو الثمن غداً، هذا هو ربا النسيئة.
هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟
نذكر مسألة كثر الخلاف فيها، واختلفت المذاهب في القول بها: هل الربا مقصور على هذه الأصناف الستة أم أنه يدخل في غيرها؟ أو بمعنى علمي: هل يلحق بها غيرها أم لا؟ وإذا كان غيرها يلحق بها فبأي مبدأ؟ وبأي علة؟ لأن القياس عند العلماء: هو إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعلة جامعة، كما أنهم ألحقوا كل مسكوت عنه من المسكرات بالخمر، بجامع علة الإسكار، فالتحريم جاء نصاً في الخمر، ثم ألحق الفقهاء به كل مسكوت عنه، بأي اسم كان، إذا وجدت علة تحريم الخمر في ذاك المسكوت عنه، وعلة الخمر الإسكار، فإذا وجد الإسكار في العسل أو في اللبن أو في أي ثمرة ألحقت بالخمر في التحريم، وهذا أمر متفق عليه.
إذاً: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به يحتاج إلى رابط، ويحتاج إلى قرابة، ويحتاج إلى صلة نسب بين المسكوت عنه والمنطوق به، فهل يلحق بتلك الأصناف غيرها أم لا؟ وإذا كان يلحق بها غيرها فما هي العلة؟ ذهب داود الظاهري إلى أن المنصوص عليه في الربويات لا يلحق به غيره، وأن أي نوع من الحبوب غيرها من المطعوم أو المكيل أو الموزون أو المدخر أو غيره لا يلحق بالربويات، والربا لا يكون عنده إلا في هذه الأصناف الستة المنصوص عليها فقط، وهذا قول انفرد به عن جمهور العلماء، وعامة علماء المسلمين يلحقون غير المنصوص عليه به، وما هي؟ وبأي شيء يكون الإلحاق؟ قالوا: توجد علة يلحق بها المسكوت عنه، وهذه الست الأصناف نماذج، وكأنها تنبيه بالأخص على الأعم.
العلة الربوية في الأصناف الستة
الذهب والفضة هما المصدر بهما نصوص الربا، ما هي العلة في كونهما ربويين؟ وإذا وجدت فيهما علة فهل هي قاصرة عليهما أم تتعدى إلى غير الذهب والفضة؟ الجمهور على أن علة الذهب والفضة في الربا علة قاصرة، أي: لا تتعدى محلها؛ ولهذا لا يقاس على الذهب والفضة موزون من المعادن الأخرى، وما هي العلة القاصرة؟ قالوا: هي ثمن المبيعات، وقيمة المتلفات.
فالذهب والفضة ليسا سلعة، ولكن لها مهمة وهي الثمنية، فلكون الذهب والفضة ثمنية فلا ينبغي أن تدخل في البيع والشراء والزيادة والنقص، هذا على أنها عملة والعلة الثمنية، فلا نتحكم فيها بيعاً وشراء وتكون خالصة من الربا والزيادة.
إذاً: الذهب والفضة عنصران ربويان لا يقاس عليهما.
فإذا كان ذهبٌ ومعدن آخر: نحاس، أو قصدير، أو زنك، أو برونز أو أي نوع من أنواع المعادن، فإذا بيع ذهب بتلك المعادن وزناً بوزن فهل ينبغي فيه المساواة في الوزن؟ قالوا: لا؛ لأن الذهب ليس سلعة بل هو ثمن وقيمة؛ ولذا علة الربا فيه قاصرة عليه.
وهل يجوز أن نبيع الموزونات الأخرى غير الذهب والفضة جنسها بجنسها؟ قالوا: نعم، والعلة في الذهب والفضة هي الثمينة.
وقيل: الوزن، ومن قال بأن العلة هي الوزن قال: كل موزون يدخل فيه الربا، وإذا جعلنا الذهب والفضة علتهما قاصرة عليهما وهي الثمنية فلا ربا في الموزونات.
نأتي إلى الأربعة الأصناف الأخرى المذكورة، ما هي الصفات المشتركة بينها؟ تمر، بر، شعير، ملح، نؤخر الملح، فهذه الثلاثة: تمر، بر، شعير، ما هو الوصف الذي يشترك بينها؟ أولاً: الكيل؛ لأنها كلها تقدر كيلاً، إذاً: الكيل جزء من علة الربا.
ثانياً: الطعم.
وهل الطعم في التمر والبر والشعير كالطعم في التفاح والخوخ؟ ثالثاً: الاقتيات، إذاً: يكون مطعوماً مقتاتاً، فالتمر والبر والشعير موزون مطعوم مقتات، وهل يوجد وصف آخر أم لا؟ الادخار، ممكن أن ندخر التمر والشعير والبر سنة أو سنتين بخلاف التفاح والخوخ، فالفواكه إذا لم تكن في الثلاجة، أو وقف الكهرباء فسدت، فهي لا تدخر.
إذاً: هناك من قال: العلة في الربويات الثلاثة الموجودة مع الذهب والفضة هي الكيل، فقال: كل مكيلٍ بيع بجنسه فهو ربوي، وجماعة زادوا وقالوا: ليست العلة الكيل وحده، بل العلة كونه مكيلاً مقتاتاً، والمقتات يتضمن المطعوم، وجماعة زادوا في العلة الادخار مع الكيل والاقتيات، فاختلف اجتهاد الفقهاء في اعتبار العلة المشتركة بين الأصناف الثلاثة، فما وجدت العلة فيه مما لم يسم ألحق بها قياساً.
فمثلاً: الدخن والذرة غير منصوص عليهما، وهل توجد في الدخن والذرة علّة جامعة مع الثلاثة المذكورة؟ كلاً من الدخن والذرة مكيل وقوت ويدخر، إذاً: لا فرق بينها، فتلحق بالأصناف الستة، فبعضهم ألحق المسكوت عنه بجامع العلة، وبعضهم قال: هناك غير العلة، وهي تقارب المنفعة.
فمثلاً: الزبيب ليس من الستة الأصناف، لكن قال: إن الزبيب يشارك التمر في المعنى، فما الفرق بين التمر والزبيب؟ كلاهما حلو، ويكال، ويقتات، ويدخر، فقال: أنا لا ألحق بالقياس، بل ألحق بالاشتراك في المعنى، وتوسعوا في هذا، وأجروا الربا في اللحم باللحم، مثل: لحم الإبل بلحم الغنم؛ لأنه قريب منه في المنفعة، إذاً: من عمل بالقياس ألحق كل ما لم يذكر بما ذكر إن وجدت فيه العلة، واختلفوا في معرفة العلة ما هي؟
مذهب الأحناف والحنابلة
قال الحنابلة: العلة هي الكيل، حتى أجروا الربا في الأشنان، والأشنان نوع من النبات ينبع على مجاري المياه، كان يغسل به الصوف دون الصابون؛ لأنه يذهب عنه الأوساخ والآكلة، ولا يوهن الصوف، فهو نوع من النبات، لكنه يباع بالكيل.
وألحقوا بالأصناف الستة الحناء، فإنه إذا دق ورق الحناء صار مثل الدقيق، والعرف فيها الكيل، فقالوا: إذا بيع حناء بحناء فالعلة الكيل، فيمنع الربا فيها بجامع الكيل، واستدلوا بما جاء عند ابن حبان : ( كل ما يوزن مثلاً بمثل، وكذلك الكيل ).
وبهذا أخذ الحنابلة والأحناف.
ومن العلماء من قال: العلة هي: الطعم مع الكيل؛ لحديث: ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل )، وكان طعامهم يومئذ الشعير، ولكن اللفظ: ( الطعام بالطعام ) أنتم طعامكم الشعير، وهناك في مكة طعامهم البر، وهناك في أندنوسيا طعامهم الأرز، وهناك في أفريقيا طعامهم اللوبيا، إذاً: الطعام في كل مكان بحسبه، ولفظ الطعام عام، ولا نخصصه بطعامهم يومئذٍ، هذا طعامكم أنتم، لكن طعام غيركم غير هذا.
إذاً: علة الربا، وإلحاق غير المنصوص عليه، اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فمن استقرت عنده علّة الربا، ثم وجدها في غيرها ألحقه بها، فبعضهم عنده العلة الكيل والوزن فقط لحديث ابن حبان : ( كل موزون مثلاً بمثل، وكذلك الكيل ) يعني: وكذلك كل مكيل؛ ولهذا اقتصر الحنابلة على أن العلة الكيل فقط.
مذهب المالكية
المالكية عندهم أن العلة هي أن يكون قوتاً مدخراً، فإذا بيع الجنس بجنسه كيلاً أو وزناً، وكلاهما قوت مدخر فيجري فيهما الربا إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وهناك من يقول: نلحق بالمنطوق به كل ما كان زكوياً، فما هي الحبوب التي تزكى؟ هل التفاح يزكى؟ لا، هل التفاح يكال أو يوزن؟ عرفه العدد، والآن صار الناس يوزنون كل شيء، ذكر العلماء القدماء أن مما لا يكال ولا يقتات الفواكه، و ابن قدامة يقول: التفاح والفرسك والخوخ والمشمش والكمثرى والخيار ليست مكيلة، وليست مدخرة، هي مطعومة ولكن ليست مدخرة.
قيل: إن العلة هي الكيل والوزن كما جاء التنصيص عليها في بعض النصوص، وهي موجودة بالفعل في هذه المسميات الست، و مالك ألحق بالمطعوم ما يصلح المطعوم وهو الملح، فالملح ليس قوتاً لكنه مدخر ومكيل، اجتمعت فيه العلتان.
إذاً: لا تبع مكيلاً بمكيل مدخراً بمدخر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، والملح ولو لم يكن قوتاً فبه صلاح القوت.
الحنابلة يردون -كما يذكر ابن قدامة في المغني- على مالك في قوله: بإصلاح القوت، ويعترضون عليه بالحطب، فالإدام يصلحونه بالحطب والنار، لكن هذا ليس لإصلاح ذات الطعام، بل لإنضاجه، لكن الملح في الطعام يكون جزءاً منه، وألحقوا به التوابل التي تدخل في الطعام، إذاً: قضية الربويات فيما عدا المنصوص عليه بحرٌ لا ساحل له.
وكلٌ من الأئمة رحمهم الله ألحق من غير المسميات ما وجدت فيه العلة التي استقرت عنده، والعلة دائرة بين المقدار الذي هو الكيل والوزن، مكيل بمكيل، موزون بموزون، وبين الأوصاف الأخرى الموجودة في المنصوص عليها، أن تكون قوتاً ومدخراً، وعلى هذا فيجري الربا بلا خلاف عند الجمهور في الدخن والذرة والأرز.
والسمسم قوت، ويحكى أن جماعة أضافهم ناس، فقدموا لهم صحن عسل وصحن سمسم، وهم غير عارفين بطبيعة أهل البلد! فرءوا طفلاً صغيراً فقالوا: تعال تعال كل، فجلس الطفل الصغير، وغمس أصبعه في العسل، ثم في السمسم ولحسه، فقالوا: بس! قم، قم، كلم أمك! فهو قوت.
وبذر القطن يعصر ويخرج منه زيت، ولكن ليس قوتاً، وحينما نعصر البذرة، وأصبح عندنا زيت، فالزيت مكيل أو موزون؟ الأصل فيه الكيل، وكذا السمن وجميع السوائل الأصل فيها الكيل، فأصبح عندنا الزيت مكيلاً، وأصبح مدخراً، فيدخل في أنواع الربويات، فلو بيع زيت بذرة قطن بزيت بذرة قطن وجب الحلول والتقابض والتساوي.
وإذا بيع زيت بذرة القطن بزيت الزيتون، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، ( بيعوا كيف شئتم )، فلا يلزم فيه التساوي، ويلزم التقابض؛ لأن كلاً منهما دهن، ويدخلان في علة المقدار التي هي الكيل والادخار.
والتفصيل بالجزئيات في أنواع الربويات لا يمكن حصره، ولكن الإلحاق موجود عند الأئمة الأربعة، وما امتنع من الإلحاق إلا داود الظاهري ؛ لأنه لم يقل بالقياس.
الحكمة من تحريم الربا في المطعومات
الإلحاق يكون بالعلة، كما ألحقنا كل مسكر بالخمر لوجود علة الإسكار فيه، وهنا يقول ابن رشد في البداية: وصف الطعم يدل على اشتقاق العلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( الطعام بالطعام )، فوصفه بكونه طعماً يدل على أن العلة هي الطعم، كما في قوله سبحانه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة:38]، علة القطع هنا هي السرقة؛ لأن الحكم تعلق بوصف وهو السارق، والسارق اسم فاعل يشتق من سرق يسرق فهو سارق.
إذاً: (الطعام بالطعام) دلت كلمة الطعام على علة الربا كما أن كلمة السارق دلت على علة القطع، وكذلك قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [النور:2]، فوصف الزنا في الطرفين هو علة الجلد، إذاً: الطعم علة في الربا لقوله: ( الطعام بالطعام ).
والذين يقولون: ما خرج عن الأصناف الستة يلحق بها بعلة الكيل والجنس، قالوا: أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ولما كانت زيادة الجنس على الجنس غبن، فإذا وجد في المكيل من غير المسميات -مثل الأشنان والحناء- فالعلة واحدة، والأصل حفظ الأموال وعدم الغبن، فيجب أن يكونا متساويين في الفائدة وفي النتيجة، فكيف أعطيك صاع حناء وتعطيني صاعاً إلا ربع؟! لماذا تغبني في ربع الصاع هذا؟ فما دامت متساوية في المنفعة فيجب أن تكون متساوية في المقدار؛ ولذا ذكر ابن رشد قاعدة تبين الربا، وهي أن ما خرج عن قانون الربا مما ليس بربوي، فتكون القيمة بين المبيع والمشترى، لو أن كلاً منهما سلعة بنسبة آحاد هذا الصنف في جنسه مع نسبة آحاد الجنس الثاني في جنسه، ويمثل ويقول: مثلاً: نشتري فرساً بثياب، فالثياب ليست ربوية، والفرس غير ربوي، فيصح أن نشتري الفرس بمائة ثوب، بمائتين ثوب، بعشرين ثوباً، ولكن ما الذي يقدر قيمة الفرس بعدد الثياب؟ قالوا: النسبة، أي: نسبة هذا الثوب الواحد في جنسه كنسبة الفرس الواحد في جنسه، فإذا تحققت النسبة ارتفع الغبن، هذا الفرس في جنسه كم يساوي؟ مثلاً يساوي ألف ريال، وهذا الثوب في جنسه كم يساوي؟ قالوا: عشرة ريال، إذاً: نسبة الفرس في الأفراس ألف ريال، ونسبة الثوب في الثياب عشرة ريال، فكم ثوب نقدر للفرس حتى لا يحصل غبنٌ؟ مائة، إذاً: نأخذ الفرس بمائة ثوب، ولو أخذناه بمائتين يحصل غبن، لو أخذناه بخمسين يحصل غبن، إذاً: النسبة التقديرية بين غير الربويات ترجع إلى المساواة، وترفع الغبن.
إذاً: إذا كان المبيع جنساً واحداً فما الذي يرفع الغبن؟ التساوي، كيل بكيل، وزن بوزن، فلا يحصل غبن، ستقول: هذا جنس جيد، وهذا جنس رديء، إن بعناهما متماثلين وقع الغبن فيما هو فرق بين الجودة والرداءة، فنقول: سد هذا الباب، وبع الجيد بدراهم، واشتر بالدراهم الرديء، أو العكس بع الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم الجيد، وفي تلك البيعتين لا غبن؛ لأنك ستبيع الرديء بنسبته من جنسه بالثمن المتعادل، وتشتري بالدراهم التي عندك الجيد بنسبته من جنسه بالدراهم، وانتفى الغبن في الصفقتين.(1/140)
وعن أبي هَانِئٍ الْخَوْلاَنِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُلَىَّ بْنَ رَبَاحٍ اللَّخْمِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِىَّ يَقُولُ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ وَهِىَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالذَّهَبِ الَّذِى فِى الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4159 )
شرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 39)
بَابُ الْقِلَادَةُ تُبَاعُ بِذَهَبٍ وَفِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد ، قَالَ : ثنا عُمَرُ بْنُ عَوْنٍ الْوَاسِطِيُّ ، قَالَ : ثنا هُشَيْمٌ ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ ، عَنْ { فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : أَصَبْت يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ ، فَأَرَدْت أَنْ أَبِيعَهَا .
فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ افْصِلْ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ ، ثُمَّ بِعْهَا كَيْفَ شِئْت } .
حَدَّثَنَا رَبِيعٌ الْمُؤَذِّنُ ، قَالَ : ثنا أَسَدٌ قَالَ : ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو شُجَاعٍ ، سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْيَرِيُّ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ { فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اشْتَرَيْت يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً .
فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ ، بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا ، فَفَصَلْتهَا فَإِذَا الذَّهَبُ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا .
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُبَاعُ حَتَّى تَفْصِلَهُ } .
حَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ : ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْت خَالِدَ بْنَ أَبِي عِمْرَانَ ، يُحَدِّثُ عَنْ حَنَشٍ ، عَنْ فَضَالَةَ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ ، فِيهَا خَرَزٌ مُعَلَّقَةٌ بِذَهَبٍ ، ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِسَبْعٍ أَوْ بِتِسْعٍ .
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَا ، حَتَّى تُمَيِّزَ مَا بَيْنَهُمَا .
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت الْحِجَارَةَ فَقَالَ لَا ، حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا ، فَرَدَّهُ } .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْقِلَادَةَ إذَا كَانَتْ كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّمَنَ ، وَهُوَ ذَهَبٌ ، يُقْسَمُ عَلَى قِيمَةِ الْخَرَزِ ، وَعَلَى الذَّهَبِ ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا ، بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، كَالْعَرْضَيْنِ يُبَاعَانِ بِذَهَبٍ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ بِمَا أَصَابَ قِيمَتَهُ ، مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ .
قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ مَا يُصِيبُ الذَّهَبُ ، الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ ، إنَّمَا يُصِيبُهُ بِالْخَرَزِ ، وَالظَّنِّ ، وَكَانَ الذَّهَبُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ثَمَنَ الذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ مِثْلُ وَزْنِهِ مِنْ الذَّهَبِ ، الَّذِي اُشْتُرِيَتْ بِهِ الْقِلَادَةُ .
وَلَا يَعْلَمُ بِقِسْمَةِ الثَّمَنِ ، إنَّمَا يَعْلَمُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى حِدَةٍ ، بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى وَزْنِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْصَلَ مِنْ الْقِلَادَةِ .
قَالُوا : فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْقِلَادَةِ بِالذَّهَبِ ، إلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْصَلَ ذَهَبَهَا مِنْهَا ، لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِمَا احْتَجَجْنَا بِهِ مِنْ النَّظَرِ .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا : إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِلَادَةُ ، لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ ذَهَبِهَا ، أَهُوَ مِثْلُ وَزْنِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ، أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ أَكْثَرُ ، إلَّا أَنْ تُفْصَلَ الْقِلَادَةُ ، فَيُوزَنُ ذَلِكَ الذَّهَبُ الَّذِي فِيهَا ، فَيُوقَفُ عَلَى زِنَتِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِذَهَبٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْصَلَ ذَهَبُهَا مِنْهَا ، فَيُعْلَمَ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْقِلَادَةُ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِوَزْنِ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ ، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الذَّهَبِ الَّذِي بِيعَتْ بِهِ أَوْ لَا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِوَزْنِهِ إلَّا أَنَّهُ يَعْلَم - فِي الْحَقِيقَةِ - أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي بِيعَتْ بِهِ الْقِلَادَةُ ، وَهُوَ ذَهَبٌ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ ذَهَبُهَا ، بِمِثْلِ وَزْنِهِ مِنْ الذَّهَبِ الثَّمَنَ ، وَيَكُونُ مَا فِيهَا مِنْ الْخَرَزِ ، بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ بِالثَّمَنِ الْوَاحِدِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، أَنَّا رَأَيْنَا الذَّهَبَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِذَهَبٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَرَأَيْنَاهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي دِينَارَيْنِ ، أَحَدُهُمَا فِي الْجَوْدَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ ، بِيعَا ، صَفْقَةً وَاحِدَةً ، بِدِينَارَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْجَوْدَةِ ، أَوْ بِذَهَبٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ جَيِّدٍ ، أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ .
فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى حُكْمِ الْقِيمَةِ ، كَمَا تُرَدُّ الْعُرُوض مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، إذَا بِيعَتْ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ ، إذًا لَفَسَدَ الْبَيْعُ ، لِأَنَّ الدِّينَارَ الرَّدِيءَ ، يُصِيبُهُ أَقَلُّ مِنْ وَزْنِهِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الدِّينَارِ الْآخَرِ .
فَلَمَّا أُجْمِعَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبَيْعِ ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ ثَبَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنَّ الذَّهَبَ ، تِبْرَهُ وَعَيْنَهُ سَوَاءٌ ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الذَّهَبِ فِي الْبَيْعِ إذَا كَانَ بِذَهَبٍ عَلَى غَيْرِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْقِيَمِ ، وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ ، دُونَ حُكْمِ سَائِرِ الْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَزْنُهُ ، لَا مَا يُصِيبُ قِيمَتَهُ .
فَهَذَا هُوَ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ النَّظَرِ .
وَقَدْ اضْطَرَبَ عَلَيْنَا حَدِيثُ فَضَالَةَ ، الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَرَوَاهُ قَوْمٌ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي ، أَبُو هَانِئٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ رَبَاحٍ اللَّخْمِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ : { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ ، وَهِيَ مِنْ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ .
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ ، فَنُزِعَ وَحْدَهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ } .
حَدَّثَنَا رَبِيعٌ الْمُؤَذِّنُ قَالَ : ثنا أَسَدٌ قَالَ : ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ ، قَالَ : ثنا حُمَيْدُ بْنُ هَانِئٍ ، عَنْ فَضَالَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ " بِخَيْبَرَ " .
حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ إدْرِيسَ قَالَ : ثنا الْمُقْرِئُ قَالَ : ثنا حَيْوَةُ عَنْ أَبِي هَانِئٍ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ، غَيْرُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ .
فِي هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَزَعَ الذَّهَبَ ، فَجَعَلَهُ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ قَالَ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ } لِيَعْلَمَ النَّاسُ كَيْفَ حُكْمُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ .
فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَ الذَّهَبَ لِأَنَّ صَلَاحَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِي ذَلِكَ ، فَفَعَلَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، لَا لِأَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ قَبْلَ أَنْ يُنْزَعَ ، مَعَ غَيْرِهِ ، فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، غَيْرُ جَائِزٍ .
وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَى مَنْ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ } .
وَقَدْ رَوَاهُ آخَرُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ أَيْضًا .
فَحَدَّثَنَا رَبِيعٌ الْمُؤَذِّنُ قَالَ : ثنا أَسَدٌ قَالَ : ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ : ثنا خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي { حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيُّ ، أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَحْرِ ، مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ حَنَشٌ : فَاشْتَرَيْت قِلَادَةً فِيهَا تِبْرٌ وَيَاقُوتٌ ، وَزَبَرْجَدٌ فَأَتَيْت فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ ، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا تَأْخُذْ التِّبْرَ بِالتِّبْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَإِنِّي كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ ، فَاشْتَرَيْت قِلَادَةً بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ ، فِيهَا تِبْرٌ وَجَوْهَرٌ ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَأْخُذْ التِّبْرَ بِالذَّهَبِ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ، غَيْرُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ : وَذَلِكَ أَنَّ مَا حَكَى فَضَالَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هُوَ التِّبْرُ بِالذَّهَبِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَسَادَ الْبَيْعِ فِي الْقِلَادَةِ الْمَبِيعَةِ بِذَلِكَ إذْ كَانَ فِيهَا ذَهَبٌ وَغَيْرُهُ .
فَهَذَا خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ .
وَقَدْ رَوَاهُ آخَرُونَ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ يَحْيَى الْمَعَافِرِيَّ أَخْبَرَهُمَا ، عَنْ { حَنَشٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوَةٍ ، فَصَارَتْ لِي وَلِأَصْحَابِي ، قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ ، وَوَرِقٌ ، وَجَوْهَرٌ فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهَا .
فَسَأَلْت فَضَالَةَ ، فَقَالَ : انْزِعْ ذَهَبَهَا ، وَاجْعَلْهُ فِي الْكِفَّةِ ، وَاجْعَلْ ذَهَبًا فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ لَا تَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا يَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
فَهَذَا خِلَافٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، لِأَنَّ فِيهِ أَمْرَ فَضَالَةَ بِنَزْعِ الذَّهَبِ وَبَيْعِهِ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هُوَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ .
فَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، وَالْأَمْرُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ قَوْلِ فَضَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِذَلِكَ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، الْبَيْعُ فِيهَا ، فِي الذَّهَبِ ، حَتَّى تُفْصَلَ .
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِذَلِكَ ، لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ أَنَّ تِلْكَ قِلَادَةٌ ، لَا يُوصَلُ إلَى عِلْمِ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَا إلَى مِقْدَارِهِ ، إلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْصَلَ مِنْهَا .
فَقَدْ اضْطَرَبَ هَذَا الْحَدِيثُ ، فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ .
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي ، الَّتِي رُوِيَ عَلَيْهَا ، إلَّا احْتَجَّ مُخَالِفُهُ عَلَيْهِ ، بِالْمَعْنَى الْآخَرِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَابِ ، كَيْفَ وَجْهُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الَّذِينَ جَعَلُوا حُكْمَ الذَّهَبِ الْمَبِيعِ مَعَ غَيْرِهِ بِالْمُذَهَّبِ ، لَا عَلَى قَسْمِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيَمِ ، وَلَكِنْ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ مَبِيعٌ بِوَزْنِهِ مِنْ الذَّهَبِ الثَّمَنِ ، وَمَا بَقِيَ مَبِيعٌ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيِّ ، عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيِّ ، قَالَ : اشْتَرَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قِلَادَةً ، فِيهَا تِبْرٌ ، وَزَبَرْجَدٌ ، وَلُؤْلُؤٌ ، وَيَاقُوتٌ بِسِتِّمِائَةِ دِينَارٍ .
فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، حِينَ طَلَعَ مُعَاوِيَةُ الْمِنْبَرَ ، أَوْ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ، فَقَالَ " أَلَا إنَّ مُعَاوِيَةَ ، اشْتَرَى الرِّبَا وَأَكَلَهُ ، أَلَا إنَّهُ فِي النَّارِ إلَى حَلْقِهِ " .
فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقِلَادَةُ ، كَانَ فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ أَكْثَرَ ، مِمَّا اُشْتُرِيَتْ بِهِ ، فَكَانَ مِنْ عُبَادَةَ مَا كَانَ لِذَلِكَ .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِيعَتْ بِنَسِيئَةٍ ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا .
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ ، وَفِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ عُبَادَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ ، مَا أَنْكَرَ .
مَا حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ { أَبِي الْأَشْعَثِ قَالَ : كُنَّا فِي غَزَاةٍ ، عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ ، فَأَصَبْنَا ذَهَبًا وَفِضَّةً ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا النَّاسُ فِي عَطِيَّاتِهِمْ .
قَالَ : فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا ، فَقَامَ عُبَادَةُ ، فَنَهَاهُمْ ، فَرَدُّوهَا ، فَأَتَى الرَّجُلُ مُعَاوِيَةَ فَشَكَا إلَيْهِ .
فَقَامَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبًا فَقَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ ، يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَيْهِ ، لَمْ نَسْمَعْهَا .
فَقَامَ عُبَادَةُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ } .
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ ، عَنْ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : { قَدِمَ نَاسٌ فِي إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ ، يَبِيعُونَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَى الْعَطَاءِ .
فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُذَهَّبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، فَمَنْ زَادَ ، أَوْ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى } .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ إنْكَارِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، وَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، إلَى أَجَلٍ ، لَا غَيْرَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْقِلَادَةُ ، الَّتِي فِيهَا الذَّهَبُ الْمَبِيعَةُ بِالذَّهَبِ ، أَوْ الْقِلَادَةُ الَّتِي فِيهَا الْفِضَّةُ الْمَبِيعَةُ بِالْفِضَّةِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيمَا رَوَيْنَا عَنْهُ ، عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ إذَا بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِ ذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ ، مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ .
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ ، قَالَ : ثنا أَبُو نُعَيْمٍ ، قَالَ ثنا إسْرَائِيلُ ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اشْتَرِ السَّيْفَ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ .
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ أَجَازَ بَيْعَ السَّيْفِ ، الَّذِي حِلْيَتُهُ فِضَّةٌ ، بِفِضَّةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، اخْتِلَافٌ .
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا بْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ وَابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ اشْتِرَاءِ الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ ، بِالذَّهَبِ ، فَقَالَا : لَا يَصْلُحُ اشْتِرَاؤُهُ بِالذَّهَبِ .
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا أَبُو عَامِرٍ ، قَالَ : ثنا سُفْيَانُ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا ، أَنْ يَشْتَرِيَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةً ( بِفِضَّةٍ وَذَهَبٍ ) : حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ مُبَارَكٍ ، عَنْ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا ، أَنْ يُبَاعَ السَّيْفُ الْمُفَضَّضُ بِالدَّرَاهِمِ ، بِأَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ ، تَكُونُ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالسَّيْفُ بِالْفَضْلِ .
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، أَنَّهُ قَالَ فِي بَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى : إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الَّتِي فِيهِ ، أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى ، بِالدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمَائِلَهُ وَجَفْنَهُ وَنَصْلَهُ .
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 407)
( ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يُرَاعَى فِي مُرَاطَلَةِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ الْعَدَدُ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ الْوَزْنُ سَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا مَجْمُوعَةً أَوْ فُرَادَى أَوْ قَائِمَةً أَوْ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مَجْمُوعَةً وَالثَّانِيَةُ فُرَادَى أَوْ قَائِمَةً وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ إنَّمَا هُوَ بِالْوَزْنِ وَإِنَّمَا أُبِيحَ التَّعَامُلُ فِيهِ بِالْعَدَدِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِلْعُرْفِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْوَزْنِ فِيمَا لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّسَاوِي فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُرَاعَى فِيهِ التَّسَاوِي وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْوَزْنُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ اعْتِبَارِهِ وَوَجْهُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَسَقَطَ حُكْمُ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي فَسَادِ عَقْدٍ وَلَا صِحَّتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ تِبْرًا وَالْآخَرُ مَسْكُوكًا أَوْ مَصُوغًا أَوْ تِبْرًا مِثْلَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاحِدٌ فِي اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ بِالْوَزْنِ وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِسِكَّةٍ وَلَا صِيَاغَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاطَلَةِ دُونَ اقْتِضَائِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
( ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِنَّ مَنْ رَاطَلَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ الذَّهَبَيْنِ وَرِقٌ وَلَا عَرَضٌ وَلَا شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إِحْدَى الذَّهَبَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى وَيَكُونُ الْعَرَضُ مِنْ الْعَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مُقَابَلَةِ زِيَادَةِ أَحَدِ الذَّهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ كَانَ الذَّهَبَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ دِينَارَيْنِ بِدِينَارٍ وَيَجْعَلَ مَعَ الدِّينَارِ ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا أَوْ وَرِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّينَارِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَبِيحٌ وَمَمْنُوعٌ لِنَفْسِهِ وَلِفَسَادِ الْعَقْدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الذَّهَبَيْنِ ؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي مَعَ الدِّينَارِ مُقَسَّطَةٌ مَعَ دِينَارِهَا عَلَى الدِّينَارَيْنِ فَيُصِيبُ كُلُّ دِينَارٍ نِصْفَ دِينَارٍ وَنِصْفَ السِّلْعَةِ وَرُبَّمَا كَانَتْ السِّلْعَةُ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ الدِّينَارِ أَوْ أَقَلَّ قِيمَةً فَيُقَابِلُ أَكْثَرَ الدِّينَارَيْنِ أَوْ أَقَلَّهُمَا ، وَيُقَابِلُ الْبَاقِيَ مِنْ الذَّهَبِ الَّتِي مَعَ السِّلْعَةِ أَقَلُّ مِنْ وَزْنِهَا أَوْ أَكْثَرُ وَلِهَذَا مَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالذَّرَائِعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَمْنُوعٌ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الْحَرَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالذَّرَائِعِ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْمِثْقَالِ قِيمَتَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مُفْرَدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ مِرَارًا لِيُجِيزَ الْبَيْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ لِيُجِيزَ الْمَحْظُورَ الْمَمْنُوعَ بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ دِينَارًا رَدِيئًا بِدِينَارَيْنِ جَيِّدَيْنِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ الدِّينَارِ نِصْفَ دِينَارٍ جَيِّدٍ جَعَلَ مَعَ الدِّينَارِ مَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ الدِّينَارِ الْجَيِّدِ مِرَارًا وَجَعَلَهُ ثَمَنًا لِلدِّينَارِ الْجَيِّدِ فَيَكُونُ فِي الظَّاهِرِ قَدْ أَعْطَاهُ دِينَارًا رَدِيئًا بِدِينَارٍ جَيِّدٍ وَأَعْطَاهُ السِّلْعَةَ بِالدِّينَارِ الْآخَرِ الْجَيِّدِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أَعْطَاهُ الدِّينَارَ الرَّدِيءَ بِنِصْفِ دِينَارٍ جَيِّدٍ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ بِدِينَارٍ وَنِصْفٍ مِنْ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُ ذَلِكَ الدِّينَارَ مُفْرَدًا لَمْ يَأْخُذْهُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الدِّينَارَ الرَّدِيءَ الَّذِي مَعَ السِّلْعَةِ لَوْ بَاعَهُ مُفْرَدًا لَمْ يُعْطِهِ بِهِ الدِّينَارَ الْجَيِّدَ مِنْ الدِّينَارَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِ السِّلْعَةَ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَخْذِ بَعْضِ دِينَارٍ جَيِّدٍ بِدِينَارٍ رَدِيءٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ مُدَّيْ عَجْوَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِيمَنْ بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ إِنَّ مَنْ بَاعَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي قِرْطَاسٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ وَيُحْتَسَبُ بِالْقِرْطَاسِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ وَتَكُونُ الْمِائَةُ بَاقِيَةً مِنْ الْمِائَتَيْنِ بِالْمِائَةِ الَّتِي فِي الْقِرْطَاسِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدِ الْأَنْصَارِيِّ يَقُولُ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ وَهِيَ مِنْ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَ بِنَزْعِ الْخَرَزِ وَافِرَادِ الذَّهَبِ لِيُمْكِنَ بَيْعُهُ وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ الْخَرَزِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى وَزْنِهِ ثُمَّ قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ إفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ الْوَزْنُ بِالْوَزْنِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبَيْنِ شَيْءٌ تَسَاوَيَا أَوْ اخْتَلَفَا فَلَا يَجُوزُ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ الدِّينَارَانِ مُتَسَاوِيَانِ وَالدِّرْهَمَانِ كَذَلِكَ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضِ الذَّهَبِ مَا لَيْسَ بِذَهَبٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْمَلَهُمَا بَيْعٌ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِلْعَةٌ .
( ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِنَّ مَنْ رَاطَلَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُ الذَّهَبَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِمِقْدَارِ الْجَيِّدِ مِنْ الرَّدِيءِ لَمْ تَجُزْ الْمُرَاطَلَةُ وَلَا الْمُبَايَعَةُ كُلُّهَا وَإِنْ عَلِمَ مِقْدَارَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ الْمُفْرَدَةِ مُسَاوِيَةً لَهَا فِي الْجَوْدَةِ وَالنَّفَاقِ أَوْ لَا تَكُونُ إحْدَاهُمَا مُسَاوِيَةً لَهَا فَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ الذَّهَبُ الَّتِي مَعَهَا أَفْضَلَ أَوْ أَدْوَنَ وَهَذَا لَا وَجْهَ فِيهِ لِمَنْعِ الذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ مُسَاوَاةَ إِحْدَى الذَّهَبَيْنِ الذَّهَبَ الَّتِي فِي عِوَضِهَا تَنْفِي التُّهْمَةَ الَّتِي تَلْحَقُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيطِ فَمَوْجُودٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ التَّقْسِيطُ عَلَى وَجْهِ الذَّرِيعَةِ وَالتُّهْمَةِ فِي ذَلِكَ فَيَبْعُدُ أَيْضًا وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ رَدَاءَةُ أَحَدِ الذَّهَبَيْنِ مِنْ غِشِّ نُحَاسٍ فِيهَا وَإِنَّمَا هِيَ الرَّدَاءَةُ فِي غِشِّ الذَّهَبِ فَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً بِنُحَاسٍ لَمْ تَجُزْ الْمُرَاطَلَةُ بِهَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَنَّ مَا قَالَ مَالِكٌ فِي الذَّهَبِ الْمُفْرَدَةِ بِالذَّهَبِ الْمُفْرَدَةِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسَاوِيَةٍ لَهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الذَّهَبَانِ أَفْضَلَ أَوْ أَدْنَى مِنْ الذَّهَبِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ يَكُونَ إِحْدَى الذَّهَبَيْنِ أَفْضَلَ مِنْ الْمُفْرَدَةِ وَالثَّانِيَةُ أَدْنَى مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ أَوْ أَدْنَى فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَفْضَلَ وَالْأُخْرَى أَدْنَى فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْسِيطِ الذَّهَبِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى الذَّهَبَيْنِ اللَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَفْضَلُ مِنْهَا وَالْأُخْرَى أَدْنَى مِنْهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ أَوْ يُمْنَعُ ذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ فِي قَصْدِ ذَلِكَ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ هُنَا دُونَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الذَّهَبَيْنِ مُسَاوِيَةً لَهَا وَالْأُخْرَى أَفْضَلَ وَأَدْنَى فَإِنَّ التُّهْمَةَ تَضْعُفُ فِيهِمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُ سُودٌ بِدَرَاهِمَ بِيضٍ دُونَهَا وَمَعَ السُّودِ فِضَّةٌ كَفِضَّةِ الْبِيضِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِنَقْصِ السِّكَّةِ يُرِيدُ أَنَّ نَقْصَ السِّكَّةِ فِي فِضَّةِ الْبِيضِ إنَّمَا سُومِحَ فِيهِ لِفَضْلِ السُّودِ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْبِيضِ فَرَاعَى السِّكَّةَ مَعَ التَّنَاجُزِ وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافُ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/141)
و عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ نُبَايِعُ الْيَهُودَ الْوُقِيَّةَ الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ ».(1)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدْىٌ بِمُدْىٍ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدْىٌ بِمُدْىٍ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْىٌ بِمُدْىٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْىٌ بِمُدْىٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ - وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا - يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ ».(2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 4162 )
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 455)
قَوْله : ( كُنَّا نُبَايِع الْيَهُود الْأُوقِيَّة الذَّهَب بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَبِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ )
يُحْتَمَل أَنَّ مُرَاده كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْأُوقِيَّة مِنْ ذَهَبَ وَخَرَز وَغَيْره بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة ، وَإِلَّا فَالْأُوقِيَّة وَزْن أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَمَعْلُوم أَنَّ أَحَدًا لَا يَبْتَاع هَذَا الْقَدْر مِنْ ذَهَب خَالِص بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة ، وَهَذَا سَبَب مُبَايَعَة الصَّحَابَة عَلَى هَذَا الْوَجْه ظَنُّوا جَوَازه لِاخْتِلَاطِ الذَّهَب بِغَيْرِهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَام حَتَّى يُمَيِّزُوا ، وَيُبَاع الذَّهَب بِوَزْنِهِ ذَهَبًا . وَوَقَعَ هُنَا فِي النُّسَخ ( الْوُقِيَّة الذَّهَب ) وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة وَالْأَشْهُر ( الْأُوقِيَّة ) بِالْهَمْزِ فِي أَوَّله ، وَسَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات .
(2) - سنن أبى داود برقم( 3351 ) صحيح
عون المعبود - (ج 7 / ص 330)
2907 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( تِبْرهَا وَعَيْنهَا ) التِّبْر الذَّهَب الْخَالِص وَالْفِضَّة قَبْل أَنْ يُضْرَبَا دَنَانِير وَدَرَاهِم ، فَإِذَا ضُرِبَا كَانَا عَيْنًا . قَالَهُ فِي الْمَجْمَع . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَالْمَعْنَى كِلَاهُمَا سَوَاء ، فَلَا يَجُوز بَيْع مِثْقَال ذَهَب عَيْنًا بِمِثْقَالٍ وَشَيْء مِنْ تِبْر غَيْر مَضْرُوب ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوز التَّفَاوُت بَيْن الْمَضْرُوب مِنْ الْفِضَّة وَغَيْر الْمَضْرُوب مِنْهَا اِنْتَهَى مُحَصَّلًا
( مُدْيٌ بِمُدْيٍ ) بِضَمِّ الْمِيم وَسُكُون الدَّال مِكْيَال يَسْعَ خَمْسَة عَشَر مَكُّوكًا . كَذَا فِي الْمَجْمَع . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَالْمُدْي مِكْيَال مَعْرُوف بِبِلَادِ الشَّام ، وَبِلَاد مِصْر بِهِ يَتَعَامَلُونَ وَأَحْسَبهُ خَمْسَة عَشَر مَكُّوكًا وَالْمَكُّوك صَاع وَنِصْف اِنْتَهَى ، وَالْمَعْنَى مِكْيَال بِمِكْيَالٍ
( فَمَنْ زَادَ ) أَيْ أَعْطَى الزِّيَادَة
( أَوْ اِزْدَادَ ) أَيْ طَلَبَ الزِّيَادَة
( فَقَدْ أَرْبَى ) أَيْ أَوْقَع نَفْسه فِي الرِّبَا الْمُحَرَّم .
قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ : أَيْ أَتَى الرِّبَا وَتَعَاطَاهُ . وَمَعْنَى اللَّفْظ أَخَذَ أَكْثَر مِمَّا أَعْطَاهُ مِنْ رَبَا الشَّيْء يَرْبُو إِذَا زَادَ
( وَالْفِضَّة أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَة فَلَا ) نَسِيئَة بِوَزْنِ كَرِيمَة وَبِالْإِدْغَامِ نَحْو مَرِيَّة وَبِحَذْفِ الْهَمْزَة وَكَسْر النُّون نَحْو جِلْسَة .
قَالَ الْخَطَّابِيّ : فِيهِ بَيَان أَنَّ التَّقَابُض شَرْط فِي صِحَّة الْبَيْع فِي كُلّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ ذَهَب وَفِضَّة وَغَيْرهمَا مِنْ الْمَطْعُوم وَإِنْ اِخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ ، أَلَا تَرَاهُ يَقُول وَلَا بَأْس بِبَيْعِ الْبُرّ بِالشَّعِيرِ ، وَالشَّعِير أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا النَّسِيئَة فَلَا ، فَنَصَّ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى . وَجَوَّزَ أَهْل الْعِرَاق بَيْع الْبُرّ بِالشَّعِيرِ مِنْ غَيْر تُقَابِض وَصَارُوا إِلَى أَنَّ الْقَبْض إِنَّمَا يَجِب فِي الصَّرْف دُون مَا سِوَاهُ وَقَدْ اِجْتَمَعَتْ بَيْنهمَا النَّسِيئَة فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِيقِ بَيْنهمَا ، وَجُمْلَته أَنَّ الْجِنْس الْوَاحِد مِمَّا فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوز فِيهِ التَّفَاضُل نِسْئًا وَلَا نَقْدًا وَأَنَّ الْجِنْسَيْنِ لَا يَجُوز فِيهِمَا التَّفَاضُل نِسْئًا وَيَجُوز نَقْدًا اِنْتَهَى
( قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيث إِلَخْ )
يَعْنِي أَنَّ سَعِيدًا وَهِشَامًا رَوَيَا هَذَا الْحَدِيث عَنْ قَتَادَة عَنْ مُسْلِم بِلَا وَاسِطَة أَبِي الْخَلِيل .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ ، وَالنَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ وَفِي أَلْفَاظه زِيَادَة وَنَقْص .
( إِذَا كَانَ ) أَيْ لِلْبَيْعِ
( يَدًا بِيَدٍ ) أَيْ حَالًا مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِس قَبْل اِفْتِرَاق أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر .(1/142)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ».قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَبِلاَلٍ وَأَنَسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَقَالَ « بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ». وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ أَبِى الأَشْعَثِ عَنْ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ قَالَ خَالِدٌ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ « بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ » فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ يَرَوْنَ أَنْ يُبَاعَ الْبُرُّ بِالْبُرِّ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَإِذَا اخْتَلَفَ الأَصْنَافُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ مُتَفَاضِلاً إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ الشَّافِعِىُّ وَالْحُجَّةُ فِى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « بِيعُوا الشَّعِيرَ بِالْبُرِّ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ تُبَاعَ الْحِنْطَةُ بِالشَّعِيرِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ.(1)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم( 1285 ) صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 340)
1161 - قَوْلُهُ : ( الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ) بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ يُبَاعُ وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ بِيعُوا
( فَمَنْ زَادَ ) أَيْ أَعْطَى الزِّيَادَةَ
( أَوْ اِزْدَادَ ) أَيْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ
( فَقَدْ أَرْبَى ) أَيْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الرِّبَا ، وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ أَيْ أَتَى الرِّبَا وَتَعَاطَاهُ . وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَخَذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُوا إِذَا زَادَ .
( بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ) أَيْ حَالًا مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ اِفْتِرَاقِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ) مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اِسْتَزَادَ فَقَالَ أَرْبَى " . الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
( وَأَبِي هُرَيْرَةَ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
( وَبِلَالٍ ) أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَا فِي نَصْبِ الرَّايَةِ .
قَوْلُهُ : ( حَدِيثُ عِبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ) أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ) وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ . وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ هُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ
( وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ) وَهُوَ أَنَّ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
( أَصَحُّ ) مِنْ الْقَوْلِ الثَّانِي . لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ " . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : " الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ " . وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَالُوا هُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ اِنْتَهَى .
موطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 3 / ص 8)
4 7 - باب الرجل يشتري الشعير بالحنطة
769 - أخبرنا مالك ، حدَّثنا نافع: أنَّ سليمان بن يسار أخبره: أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فنِيَ عَلَفُ دابَّته فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك فاشترِ به شعيراً ولا تأخذ إلاَّ مثلاً بمثل.
قال محمد: ولسنا نرى بأساً بأن يشتري الرجل قفيزين من شعير بقفيز من حنطة يداً بيد. والحديث المعروف في ذلك عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب مثلاً بمثل. والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل.
ولا بأس بأن يأخذ الذهب بالفضة والفضة أكثر، ولا بأس بأن يأخذ الحنطة بالشعير والشعير أكثر يداً بيد، في ذلك أحاديث كثيرة معروفة. وهو قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
* * *
قوله: أن عبد الرحمن بن الأسود، هو ممن وُلد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ويقال: إنَّ له صحبة وكان أبوه من المستهزئين برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، كذا قال ابن حبان في "كتاب الثقات"، وذكر ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة" عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري: كان ذا قدر كبير بين الناس وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح له رؤية ولا صحبة، روى عنه سليمان بن يسار ومروان وغيرهما.
قوله: فَنِي، بفتح الفاء وكسر النون أي فُقد وعُدم عَلَف دابَّته بفتحتين.
أي بدل ذلك.
قوله: ولا تأخذ إلخ، هكذا أخرجه مالك عن سعد بن أبي وقاص وابن معيقيب أيضاً، ومبناه على أن البُرّ والشعير جنس واحد، وقال مالك: هو الأمر عندنا - أي بالمدينة - أن البُرّ والشعير جنس واحد، لتقارب المنفعة، وبهذا قال أكثر الشاميين، وقد يكون من خبز الشعير ما هو أطيب من خبز الحنطة، وهذا خلاف الجمهور، قال الزرقاني: لم يتفرد به مالك حتى يُشنِّع عليه بعض أهل الظاهر - واللّه حسيبه - ويقول: القِطّ أفقه من مالك، فإنه إذا رُميت له لقمتان: إحداهما شعير، فإنه يذهب عنها ويقبل على لقمة البُرّ شرح الزرقاني 3/293، والمنتقى 5/2.
أي بلا زيادة ولا نقصان. بشرط التقابض في المجلس.
قوله: والحديث المعروف، هذا الحديث رُوي من طرق جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة بعضها مطوَّلة وبعضها مختصرة على ما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" والعيني في شرحها والسيوطي في "الدر المنثور" وغيرهم، فأخرج الستة ومالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي من حديث عمر مرفوعاً: الذهب بالورق رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والبُرّ بالبُرّ رباً إلاَّ هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والتمر بالتمر رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ. وأخرج مسلم والنسائي والبيهقي وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد الخدري: الذهب بالذهب مثل بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثل بمثل يداً بيد، والبُرّ بالبُرّ مثل بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاَّ مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق، إلاَّ مثلاً بمثل. وحديث عبادة أخرجه الجماعة إلاَّ البخاري، وفي الباب عن أبي الدرداء أَخرجه مالك والنسائي، وبلال عند الطبراني والطحاوي، وأبي هريرة عند مسلم، ومعمر بن عبد اللّه عند مسلم، وأبي بكر عند البزار، وعثمان عند مسلم والطحاوي، وهشام بن عامر عند الطبراني، والبراء وزيد بن أرقم عند البخاري ومسلم، وفضالة بن عبيد عند الطحاوي وأبي داود، وابن عمر عند الطحاوي والحاكم، وأبي بكرة عند البخاري ومسلم، وأنس عند الدارقطني.
أي فيما يؤخذ به ذلك الحكم.
قوله: الذهب بالذهب، بالرفع على أن المعنى بيع الذهب بالذهب، أو بالنصب أي بيعوا الذهب. وقد ورد في كثير من الرويات في هذا الحديث ذكر الأشياء الستة الذهب والفضة والملح والتمر والبُرّ والشعير، وهذا الحديث أصل في باب الربا، وقد أغرب الظاهرية حيث لم يحرِّموا الربا إلاَّ في هذه الأشياء الستَّة دون غيرها، وغيرهم من العلماء متفقون على أن الحكم معلول، ومتعدٍّ إلى غيرها حسب تعدِّي العلَّة، واختلفوا في العلَّة، فعند مالك هي الادِّخار والاقتيات والطعم، وعند الشافِعي الطعم والثمنية، وعندنا القدر والجنس، فعندنا إذا اتَّحد القدر - أي الكيل والوزن - والجنس حَرُم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنس حلَّ التفاضل وحرم النسأ. وقد عُرف تفصيل ذلك في كتب الفقه. من ههنا كلام صاحب الكتاب.
الواو حالية.قوله: في ذلك، أي في جواز التفاضل عند اختلاف الجنس أخبار كثير، ففي حديث عبادة عند الأربعة ومسلم في آخره: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وفي رواية الترمذي في آخر حديثه: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البُرّ بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يَرَوْن أن يُباع البُرّ بالبُرّ إلاَّ مِثلاً بمثل، والشعير بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، فإذا اختلف الأصناف فلا بأس أن يُباع متفاضلاً إذا كان يداً بيد، وهذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: الحجة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : بيعوا الشعير بالبُرّ كيف شئتم يداً بيد، وقد كره قوم من اهل العلم أن يباع الحنطة بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، وهو قول مالك بن أنس، والقول الأول أصح في المغني 4/27، البر والشعير جنسان، هذا هو المذهب وبه يقول الشافعي وإسحاق وأهل الرأي وغيرهم، وعن أحمد أنهما جنس واحد، وحكي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وحماد ومالك وغيرهم، قال النووي: قال مالك والأوزعي ومعظم علماء المدينة والشام: إنهما صنف واحد، قال ابن رشد: أما حجة مالك فإنه عَمَل سلفه بالمدينة، وقال الموفق: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : "بيعوا البُرّ بالشعير كيف شئتم يداً بيد"، وهذا صريح صحيح لا يجوز تركه بغير معارض مثله. انتهى. انظر لامع الداري 6/117. انتهى.(1/143)
وعَنْ نَافِعٍ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ إِلَى أَبِى سَعِيدٍ فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ هَاتَانِ يَقُولُ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ لاَ يُشَفُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهُ غَائِبًا بِنَاجِزٍ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ عَامِرٍ وَالْبَرَاءِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَبِى بَكْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَبِلاَلٍ. قَالَ وَحَدِيثُ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الرِّبَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ إِلاَّ مَا رُوِىَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُبَاعَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلاً إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. وَقَالَ إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ. وَكَذَلِكَ رُوِىَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ شَىْءٌ مِنْ هَذَا وَقَدْ رُوِىَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ حِينَ حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-. وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِى الصَّرْفِ اخْتِلاَفٌ.(1)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم( 1286 )صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 342)
1162 - قَوْلُهُ : ( اِنْطَلَقْت أَنَا وَابْنُ عُمَرَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ اِبْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ : إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ نَافِعٌ فَانْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَا مَعَهُ وَاللَّيْثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ : إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّك تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ الْحَدِيثَ . فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَقَالَ : أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِلَخْ .
( لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ) يَدْخُلُ فِي الذَّهَبِ جَمِيعُ أَصْنَافِهِ مِنْ مَضْرُوبٍ وَمَنْقُوشٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمُكَسَّرٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ وَخَالِصٍ وَمَغْشُوشٍ . وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ
( إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ) أَيْ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَمَاثِلِينَ أَيْ مُتَسَاوِيَيْنِ
( وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ) الْمُرَادُ بِالْفِضَّةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهَا مَضْرُوبَةً وَغَيْرَ مَضْرُوبَةٍ
( لَا يُشَفُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ مِنْ الْإِشْفَافِ وَهُوَ التَّفْضِيلُ يُقَالُ شَفَّ الدِّرْهَمُ يَشِفُّ إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ مِنْ الْأَضْدَادِ . وَأَشَفَّهُ غَيْرُهُ يَشِفُّهُ كَذَا فِي عُمْدَةِ الْقَارِي .
( وَلَا تَبِيعُوا مِنْهُ غَائِبًا ) أَيْ غَيْرَ حَاضِرٍ
( بِنَاجِزٍ ) أَيْ حَاضِرٍ مِنْ النُّجْزِ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالزَّايِ . قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَيْ مُؤَجَّلًا بِحَالٍّ وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ أَعَمُّ مِنْ الْمُؤَجَّلِ كَالْغَائِبِ عَنْ الْمَجْلِسِ مُطْلَقًا ، مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا ، وَالنَّاجِزُ الْحَاضِرُ اِنْتَهَى .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ إِلَخْ ) قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السِّتَّةِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْلِمٍ ، وَعَنْ أَنَسٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَعَنْ بِلَالٍ فِي الْبَزَّارِ وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ مَعْلُولٌ اِنْتَهَى . قُلْتُ : وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَزَّارِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَأَمَّا أَحَادِيثُ بَاقِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلْيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهَا ،
قَوْلُهُ : ( حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، قَوْلُهُ :
( وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ إِلَخْ ) اِعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الصَّرْفِ لَهُ شَرْطَانِ ، مَنْعُ النَّسِيئَةِ مَعَ اِتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَمَنْعُ التَّفَاضُلِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَخَالَفَ فِيهِ اِبْنُ عُمَرَ ثُمَّ رَجَعَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ سَأَلْت أَبَا مِجْلَزٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ : كَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ . وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ وَفِيهِ : التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا . فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ . فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ . كَذَا قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي . فَإِنْ قُلْتَ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ " . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : قُلْتُ : اِخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ : إِنَّ حَدِيثَ أُسَامَةَ مَنْسُوخٌ لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : لَا رِبَا ؛ الرِّبَا الْأَغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ . مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَلِ لَا نَفْيُ الْأَصْلِ . وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْبَيْعِ وَالْفَضْلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ رِبَا ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ .(1/144)
وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ حَدَّثَنِى مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ - وَقَدْ كَانَ يُدْعَى ابْنَ هُرْمُزَ - قَالَ جَمَعَ الْمَنْزِلُ بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَهُمْ عُبَادَةُ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ - قَالَ أَحَدُهُمَا وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ - إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ - قَالَ أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ - وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا.(1)
وعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِى مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ قَالاَ جَمَعَ الْمَنْزِلُ بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ عُبَادَةُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَالْبُرَّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ - قَالَ أَحَدُهُمَا وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ وَلَمْ يَقُلِ الآخَرُ - إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ - قَالَ أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلَمْ يَقُلِ الآخَرُ - وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا فَبَلَغَ هَذَا الْحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ فَقَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ صَحِبْنَاهُ وَلَمْ نَسْمَعْهُ مِنْهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَأَعَادَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ رُغِمَ مُعَاوِيَةُ .(2)
و عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ ولا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئاً غَائِباً مِنْهَا بِنَاجِزٍ فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ. وَالرَّمَاءُ الرِّبَا. قَالَ فَحَدَّثَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا تَمَّ مَقَالَتَهُ حَتَّى دَخَلَ بِهِ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ وَأَنَا مَعَهُ فَقَالَ إنَّ هَذَا حَدَّثَنِى عَنْكَ حَدِيثاً يَزْعُمُ أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَفَسَمِعْتَهُ فَقَالَ بَصُرَ عَيْنِى وَسَمِعَ أُذُنِى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلاَ الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ َلاَ تَبِيعُوا شَيْئاً غَائِباً مِنْهَا بِنَاجِزٍ ».(3)
__________
(1) - سنن النسائى برقم( 4578 ) صحيح
(2) - سنن النسائى برقم( 4579 ) صحيح
(3) - مسند أحمد برقم( 11298) صحيح
الرماء : الربا = تشف : تزيد وتفضل =الناجز : الحاضر =الورق : الفضة
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 9 / ص 294)
قال النوري رحمه الله أختلفوا في العلة التى هي سبب تحريم الربا في الستة قال الشافعي رحمه الله العلة في الذهب والفضة كونهما جنسي الأثمان فلا يتعدى الربا إلى غيرهما من الموزونات كالحديد والنحاس وغيرهما لعدم المشاركة في المعني والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة فيتعدي الربا منها إلى كل مطعوم سواء كان قوتا أو تفكها أو تداويا كلإهليج والسقمونيا وما أكل وحده أو مع غيره فيجري الربا في الزعفران على الأصح وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي رحمه الله وفي الأربعة العلة فيها كونها تدخر للقوت فعداه إلى الزبيب لأنه كالتمر وإلى السلت لأنه كالبر والشعير وأما أبو حنيفة فقال العلة في الذهب والفضة الوزن فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما وفي الأربعة الكيل فيتعدى إلى كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما وقال أحمد والشافعي رحمه الله في القديم العلة في الأربعة الطعم والوزن والكيل فعلى هذا لاربا في البطيخ والسفرجل ونحوهما لأن المماثلة أعم من أن تكون في القدر بخلاف المساواة أي حال كونهما متساويين في القدر مقبوضين يدا بيد ويستفاد منه الحلول والتقابض في المجلس وهما من الشروط الثلاثة إذ المراد بالأول المماثلة بالوزن والكيل وبالثاني اتحاد مجلس تقابض العوضين بشرط عدم افتراق الأبدان وبالثالث الحلول لا النسيئة فإذا اختلفت هذه الأصناف قال التوربشتي رحمه الله وجدنا في كثير من نسخ المصابيح قد ضرب على الأصناف وأثبت مكانها الأجناس والحديث أخرجه مسلم ولفظه الأصناف لا غير وأرى ذلك تصرفا من بعض النساخ عن ظن منه أن الصواب هو الأجناس لأن كل واحد من الأشياء على حدته جنس والصنف أخص منه ولم يدر أن الأصناف أقوم في هذا الموضع لأنه أراد بيان الجنس الذي يجري فيه الربا فعد أصنافه مع أن العرب تستعمل بعض الألفاظ المتقاربة في المعنى مكان بعضها ا ه والمعنى أنه إذا بيع شيء منها بما ليس من جنسه لكن يشاركه في العلة كبيع الحنطة بالشعير فيجوز التفاضل فيه وهذا معنى قوله فبيعوا كيف شئتم لكن بشرط وجود الشرطين الآخرين من الشروط المتقدمة لقوله إذا كان أي البيع يدا بيد أي حالا مقبوضا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر رواه مسلم وكذا الأربعة وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيدا قال زين
العرب الربويات المذكورة في هذا الحديث ست لكن لا يختص بها وإنما ذكرت ليقاس عليها غيرها فمن زاد أي أعطى الزيادة وقدمه لأن الأمر باختياره أولى أو استزاد أي طلب الزيادة فقد أربى أي أوقع نفسه في الربا وقال التوربشتي رحمه الله أي أتى الربا وتعاطاه ومعنى اللفظ أخذ أكثر مما أعطاه من ربا الشيء يربو إذا زاد قال الطيبي رحمه الله لعل الوجه أن يقال أتى الفعل المحرم لأن من اشترى الفضة عشرة مثاقيل بمثقال من ذهب فالمشتري أخذ الزيادة وليس بربا الآخذ والمعطي فيه أي في أصل إثم الربا سواء رواه مسلم وعنه أي عن أبى سعيد قال قال رسول الله لا تبيعوا الذهب بالذهب أي مضروبا أو غيره إلا مثلا بمثل أي مستويين في الوزن ولا تنفوا بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد فائه تأكيدا لما قبله أي لا تفضلوا بعضها على بعض قال الطيبي رحمه الله الضمير للذهب الجوهري الذهب معروف وربما أنث ا ه وفي القاموس الذهب التبر ويؤنث واحدته بهاء ا ه والمراد في الحديث بالذهب ما يشمل التبر وغيره والأظهر أن التأنيث للجنس إشعارا بأن أصناف الذهب لا يعتبر شرعا تمييزها أو المعنى لا تزيدوا في البيع بعض العين المبيعة التي هي الذهب على بعض في شرح السنة في الحديث دليل على أنه لو باع حليا من ذهب بذهب لا يجوز إلا متساويين في الوزن ولا يجوز طلب الفضل للصنعة لأنه يكون بيع ذهب بذهب ولا تبيعوا الورق بكسر الراء ويسكن أي الفضة بالورق وهو أعم من أنت يكون تبرا أو غيره إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها أي بعض الورق وأنث بمعنى الفضة على بعض ولا تبيعوا منها أي من كل غائبا أي نسيئة بناجز أي بحاضر ونقد متفق عليه وفي رواية لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق بزيادة لا للتأكيد الاوزنابوزن أي موزونين وزنا مقابلا ومماثلا بوزن وعن معمر بن عبد الله قال كنت أسمع رسول الله يقول
الطعام بالطعام هو اسم يؤكل وقد يطلق على البر فإن أيد به البرقيس عليه غيره عند اتفاق الجنس وإن أريد به ما يطعم يعم المشروب أيضا فيحمل على اتفاق الجنس لقوله مثلا بمثل رواه مسلم وعن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله الذهب بالذهب أي ولو متساويين ربا إلاهاء بالمد والقصر اسم فاعل بمعنى خذوا المد أفصح وأشهر والهمزة مفتوحة ويقال بالكسر ذكره النووي وقال السيوطي رحمه الله أصله هاك أي خذ فحذف الكاف وعوض عنها المد والهمزة ا ه وفيه مسامحة لا تخفى وهاء أي مقبوضين ومأخوذين في المجلس قبل التفرق بأن يقول أحدهما خذ هذا فيقول الآخر مثله وقيل معناهما خذ واعط وفي الحديث دلالة على صحة بيع المعاطاة حتى في النفيس وفي شرح ابن الهمام قال أبو معاذ رحمه الله رأيت سفيان الثوري جاء إلى صاحب الزمان فوضع عنده فلسا وأخذ رمانة ولم يتكلم ومضى والورق بالورق وبا إلاهاء وهاء والبر بالبر وباالاهاء وهاء والشعير بالشعير باإلاهاء وهاء والتمر بالتمر باإلاهاء وهاء في الفائق هاء صوت بمعنى خذ ومنه قوله تعالى هاؤم اقرؤا كتابية الحاقة قال المالكي وحق هاء أن لا يقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذو بعد أن وقع يجب تقدير قول قبله يكون به محكيا فكأنه قيل ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من المتابعين هاء وهاء قال الطيبي رحمه الله فإذا محله النصب على الحال والمستثنى منه مقدر يعني بيع الذهب بالذهب وباقي جميع الحالات إلا حال الحضور والتقابض بهاء وهاء لأنه لازمه متفق عليه وعن أبى سعيد وأبى هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله استعمل رجلا أي جعله عاملا على خيبر فجاءه بتمر جنيب بالإضافة وعدمها وهو الأصح وهو بفتح جيم وكسر نون وسكون تحتية فموحدة نوع جيد من أنواع التمر فقال أي النبي أكل تمر خيبر هكذا أي مثل هذا الجيد قال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين أي من غيره تارة والصاعين بالثلاث أي تارة ويمكن أن يكون الاختلاف باختلاف قلة وجوده وكثرته أو باختلاف أنواعه وأصنافه فقال لا تفعل أي مثل هذا ولم يؤاخذه بما وقع لأنه جهل حرمته والصحابة في زمن حياته لكونهم من أهل إنشاء الشرائع معذورون بما جهلوه من بعض الفروع الخفية كما هنا ويمكن أن يكون الرواي نسيه أو حذفه اقتصارا والمعنى أنك لا تشتر الجنيب بتمر آخر إلا مثلا بمثل وإن كان أحدهما أجود من الآخر بل إذا أردت أن تبيع أحدهما بالآخر متفاضلا بع الجمع وهو كل نوع من التمر لا يعرف اسمه أو تمر رديء أو تمر مختلط من أنواع متفرتة وليس مرغوبا فيه وما يختلط إلا لرداءته بالدراهم أي مثلا والمراد ما لا يكون مالا ربويا ثم ابتع أي اشتر بالدراهم جنيبا وقال أي النبي في الميزان أي فيما يوزن من الربويات إذا احتيج إلى بيع بعضها ببعض مثل ذلك بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر وفي بعض النسخ بالنصب على أنه صفة مصدر محذوف أي قال فيه قولا مثل ذلك الذي قاله في الكيل من أن غير الجيد يباع ثم يشترى بثمنه الجيد ولا يؤخذ جيد برديء مع تفاوتهما في الوزن واتحادهما في الجنس في شرح السنة اتفقوا على أن من أراد أن يبدل شيئا من مال الربا بجنسه ويأخذ فضلا فلا يجوز حتى يغير جنسه ويقبض ما اشتراه ثم يبيعه بأكثر مما دفع إليه قال النووي رحمه الله وهذا الحديث مما يستدل به الحنفية على مذهبهم لأنه في هذا الحديث الكيل والوزن قال الطيبي رحمه الله وتوجيه استدلالهم أن علة الربا في الأصناف المذكورة في حديث عبادة الكيل والوزن لا الطعم والنقد لأن النبي لما بين حكم التمر وهو المكيل الحق به حكمم الميزان ولو كانت العلة النقدية والمطعومية لقال وفي النقد مثل ذلك والجواب أن هذا إرشاد لمن ضل السبيل ووقع في الربا فهداه إلى التخلص منه بطريق العمل والمفهوم فيه مسدود وفاقا ا ه وإذا تأملت هذا الجواب ظهر لك أنه عدول عن سبيل الصواب ثم هذا الحديث أصل يؤسس عليه الفروع قال النووي رحمه الله احتج أصحابنا بهذا الحديث أن الحيلة التي يعملها بعض الناس توسلا إلى مقصود الربا ليس بحرام وذلك أن من أراد أن يعطي صاحبه مائة درهم بمائتين فيبيعه ثوبا ثم يشتريه منه بمائة لأنه قال بع هذا واشتر بثمنه من هذا وهو ليس بحرام عند الشافعي وقال مالك وأحمد رحمهم الله هو حرام ا ه والأول هو مذهب الإمام الأقدم والأعظم وتبعه من علماء الأمم والله تعالى أعلم قال الطيبي رحمه الله وينصر قول مالك وأحمد ما رواه رزين بن أرقم في كتابه عن أم يونس أنها قالت جاءت أم ولد رزين بن أرقم إلى عائشة رضي الله عنها فقالت بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها قبل حلول الأجل بستمائة وكنت شرطت عليه أنك إن بعتها فأنا أشتريها منك فقالت لها عائشة رضي الله عنها بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب منه قالت فما يصنع فقالت عائشة أي فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله أي فلم ينكر أحد على عائشة والصحابة متوفرون في شرح السنة قال الشافعي لو كان هذا ثابتا فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء لأنه أجل غير معلوم ا ه ويمكن أن يكون لجمعة بين البيع والشرط أو لكونه باع ما لم يقبضه والله تعالى أعلم ثم قال الشافعي وزيد صحابي وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس وهو مع زيد قال الطيبي رحمه الله ويمكن أن يمنع تجهيل الأجل فإن العطاء هو ما يخرج من بيت المال في السنة مرة أو مرتين وأكثر ما يكون في أجل مسمى ويدل عليه قولهما في هذا الحديث قبل حلول الأجل قلت ومع هذا لا يخلو عن نوع جهالة كما هو مشاهد في زماننا هذا قال وأما ترجيح فعل زيد بالقياس فمشكل لبعد الجامع مع أن قول عائشة راجح على فعله(1/145)
وعَنْ أَبِى نَضْرَةَ قَالَ قُلْتُ لأَبِى سَعِيدٍ أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ قَالَ سَأُخْبِرُكُمْ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ جَاءَهُ صَاحِبُ تَمْرِهِ بِتَمْرٍ طَيِّبٍ - وَكَانَ تَمْرُ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَالُ لَهُ اللَّوْنُ - قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا التَّمْرُ الطَّيِّبُ ». قَالَ ذَهَبْتُ بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرِنَا وَاشْتَرَيْتُ بِهِ صَاعاً مِنْ هَذَا. قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرْبَيْتَ ». قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَرْبَى أَمِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ. (1)
و عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فِى الصَّرْفِ - قَالَ - فَقَدِمَ أَبُو سَعِيدٍ فَنَزَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ بِيَدِى وَيَدِ الرَّجُلِ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا سَعِيدٍ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا يُحَدِّثُنِى هَذَا عَنْكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ نَعَمْ بَصُرَ عَيْنِى وَسَمِعَ أُذُنِى - وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ - فَمَا نَسِيتُ قَوْلَهُ بِأُصْبُعَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ نَهَى عَنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ « أَلاَ لاَ تَبِيعُوا غَائِباً بِنَاجِزٍ وَلاَ تُشِفُّوا أَحَدَهُمَا عَلَى الآخَرِ ». (2)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِى نَافِعٌ قَالَ بَلَغَ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَأْثُرُ حَدِيثاً عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الصَّرْفِ فَأَخَذَ يَدِى فَذَهَبْتُ أَنَا وَهُوَ وَالرَّجُلُ فَقَالَ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكَ تَأْثُرُهُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الصَّرْفِ فَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ وَوَعَاهُ قَلْبِى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ ».(3)
==================
وفي سبل السلام : بَابُ الرِّبَا (4)
بَابُ الرِّبَا الرِّبَا بِكَسْرِ الرَّاءِ مَقْصُورَةٍ مِنْ رَبَا يَرْبُو وَيُقَالُ الرَّمَاءُ بِالْمِيمِ وَالْمَدِّ بِمَعْنَاهُ ، وَالرُّبْيَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } وَيُطْلَقُ الرِّبَا عَلَى كُلِّ بَيْعٍ مُحَرَّمٍ ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ ، وَالْأَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَذَمِّ فَاعِلِهِ وَمَنْ أَعَانَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَوَرَدَتْ بِلَعْنِهِ وَمِنْهَا .
( 781 ) - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : آكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ ، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ - وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ ( عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ ) أَيْ دَعَا عَلَى الْمَذْكُورِينَ بِالْإِبْعَادِ عَنْ الرَّحْمَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إثْمِ مَنْ ذَكَرَ وَتَحْرِيمِ مَا تَعَاطَوْهُ وَخَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ فِي الِانْتِفَاعِ ، وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ ، وَالْمُرَادُ مِنْ مُوكِلِهِ الَّذِي أَعْطَى الرِّبَا لِأَنَّهُ مَا تَحَصَّلَ الرِّبَا إلَّا مِنْهُ فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْإِثْمِ .
وَإِثْمُ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدَيْنِ لِإِعَانَتِهِمْ عَلَى الْمَحْظُورِ ، وَذَلِكَ إذَا قَصَدَا وَعَرَفَا بِالرِّبَا وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ لَعْنُ الشَّاهِدِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إرَادَةِ الْجِنْسِ .
فَإِنْ قُلْتَ حَدِيثُ { اللَّهُمَّ مَا لَعَنْت مِنْ لَعْنَةٍ فَاجْعَلْهَا رَحْمَةً } أَوْ نَحْوُهُ وَفِي لَفْظٍ " مَا لَعَنْت فَعَلَى مَنْ لَعَنْت " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ اللَّعْنُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ اللَّعْنَ قُلْت : ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ مَنْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ اللَّعْنَ غَيْرَ فَاعِلٍ لِمُحَرَّمٍ مَعْلُومٍ أَوْ كَانَ اللَّعْنُ فِي حَالِ غَضَبٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) - مسند أحمد برقم( 11373) صحيح
(2) - مسند أحمد برقم( 11791) صحيح
تشف : تزيد وتفضل = الناجز : الحاضر =الورق : الفضة
(3) - مسند أحمد برقم( 11805) صحيح
الناجز : الحاضر
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 444)
2964 - قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا تُشِفُّوا بَعْضهَا عَلَى بَعْض )
هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الشِّين الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْفَاء ، أَيْ لَا تُفَضِّلُوا ، وَالشِّفّ بِكَسْرِ الشِّين ، وَيُطْلَق أَيْضًا عَلَى النُّقْصَان ، فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد ، يُقَال : شَفَّ الدِّرْهَم بِفَتْحِ الشِّين يَشِفّ بِكَسْرِهَا إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ ، وَأَشَفَّهُ غَيْره يَشِفّهُ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ )
الْمُرَاد بِالنَّاجِزِ الْحَاضِر ، وَبِالْغَائِبِ الْمُؤَجَّل ، وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ مُؤَجَّلًا ، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَيْئَيْنِ اِشْتَرَكَا فِي عِلَّة الرِّبَا ، أَمَّا إِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّة ، ثُمَّ أَخْرَجَ كُلّ وَاحِد الدِّينَار ، أَوْ بَعَثَ مَنْ أَحْضَرَ لَهُ دِينَارًا مِنْ بَيْته وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِس فَيَجُوز بِلَا خِلَاف عِنْد أَصْحَابنَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْط أَنْ أَلَّا يَتَفَرَّقَا بِلَا قَبْض ، وَقَدْ حَصَلَ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ : ( وَلَا تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ )
وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع أَحَدهمَا بِالْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدهمَا مُؤَجَّلًا أَوْ غَابَ عَنْ الْمَجْلِس ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَاز الصُّوَر الَّتِي ذَكَرْتهَا ، وَاَللَّه أَعْلَم .
(4) - سبل السلام - (ج 4 / ص 162)(1/146)