الجامعة الإسلامية ـ غزة
الدراسات العليا
كية الشريعة قسم الفقه المقارن
الحَوالَة والسَّفتَجَة بينَ الدِّراسةِ والتَطبِيق
إعداد
الطالب / بَسَّام حَسَن العَف
إشراف
الدكتور: ماهر أحمد السوسي
قُدِّمت هذه الرسالة استكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير
في الفقه المقارن من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بغزة
العام الجامعي
1420هـ 1999م
إهداء
إلى الذي رباني على الفضيلة، والدي أمد الله في عمره.
إلى روح والدتي الطاهرة، تغمدها الله برحمة واسعة.
إلى الذين ضحّوا وبذلوا وأدّوا فما بخلوا، أشقائي وشقيقاتي، وزوجتي.
إلى كل من يحب أن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم، تأكيداً لعظمة الإسلام.
إلى كلّ يد تبني، وكلّ مجاهد يرفع راية الإسلام، وكل سجين خلف القضبان …
إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا العمل المتواضع ؛ وفاءً وتقديراً.
مقدمة البحث
أولاً: توطئة حول أهمية الموضوع:
الحمد لله الذي بنعمته وفضله تتم الصالحات، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمي، الذي بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الأكرمين، الذين كانوا نجوم الشرع، ومصابيح الهدى، وبعد … …(1/1)
لا شك أن باب المعاملات في الفقه الإسلامي، من أكثر ما يهتم الناس بالتعرف على أحكامه، فغاية المسلم أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، لذا، فإنه يتطلع إلى معرفة أحكام هذه المعاملات، حتى يكون تصرفه على هدى من الشرع الحنيف.
والشريعة الإسلامية حريصة على رعاية مصالح الناس، إذ تبيح لهم ما ينفعهم ويصلحهم، وترفع عنهم الضيق والحرج.
والإنسان في تعاملاته التجارية، وغير التجارية، معرض لأن يستدين من بعض الناس، ويدين آخرين، فيكون في نفس الوقت دائناً ومديناً.
وقد يحتاج إلى من يبرئ ذمته من دَين غريمه، ويستوفي دينه من المدين، فلو منعت الشريعة أن لا يوفّى الحق إلا من المدين الأصلي، لكان في ذلك ضيق وحرج ؛ إذ يلزم الشخص أن يستوفي الحق من مدينه بنفسه، ثم يقوم بإيفائه إلى دائنه، وفي ذلك ضيق يظهر واضحاً إذا بعُدت المسافة، واتسعت أعمال الشخص، فرفعاً لهذا الضيق والحرج، وتيسيراً على الدائن والمدين، أباحت الشريعة الإسلامية للشخص أن يحيل دائنه على مدينه، ومن هنا جاءت أهمية الحَوالة.(1/2)
وكذلك ؛ فالإنسان كثيراً ما يحتاج في معاملاته التجارية وغير التجارية إلى نقل ماله من بلد إلى آخر، وقد يكون نقل هذا المال غير متيسر ؛ إما لبعد المسافة، أو لكون الطريق غير مأمون، أو لأن في حمله ونقله مشقة، فكانت إباحة السفتجة(1) توفيراً لهذا الجهد والعناء، ورفعاً للضيق، فلولاها لاضُطر المدين إلى نقل مال الوفاء إلى بلد الدائن، واضُطر الدائن إلى نقل المال إلى بلد المدين، وهذه تكاليف إضافية، الأصل توفيرها، ومن هنا جاءت أهمية البحث في السفتجة.
__________
(1) انظر معنى السفتجة ص124 من هذه الرسالة.(1/3)
والحوالة والسفتجة كما كانتا بالغتي الأهمية كباب من أبواب الوفاء بالديون في عصور قد خلت، وأزمان سلفت، فإنهما تُعدَّان في العصر الحاضر ذواتي كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي، وفي نشاطات المصارف ؛ وذلك لترامي أطراف البلاد، وسرعة التنقل، وإقبال الناس على تنمية أموالهم، وتطوير اقتصادهم، ولم تعد التجارة محلية، بل أصبحت دولية، فظهرت كلٌ من الحوالة والسفتجة بصور معاصرة، وبمسميات جديدة ؛ من مثل التحويلات المصرفية والبريدية، والكمبيالة، وأصبحت تُستخدم فيها وسائل الاتصال المبتكرة الحديثة.
ولكن مع تطورات التعاملات التجارية، وتطور وسائل المواصلات، وظهور البنوك التجارية التي تسعى إلى الربح بأي شكل من الأشكال، دون مراعاة لشرائع السماء، ووازع الدين، ومنطق الخُلُق والمثل العليا، لكل ذلك، فإن هذه المعاملات قد تأثرت بأطماع الطامعين، وتلونت بألوان أهوائهم وشهواتهم وأمزجتهم، فشابها ما شابها مما أخرجها عن كونها عقود إرفاق وتبرع، إلى أن صارت أدوات يُستباح بها الربا، ويُستغل بها المحتاجون(1/4)
ولمّا كان للحوالة والسفتجة تلك الفوائد العظيمة، كان لابد من دراستهما قديماً، ودراسة تطبيقاتهما حديثاً، ومحاولة الحكم على صورهما المستجدة، وإزالة ما خالطهما من شوائب الربا والظلم.
ثانياً: أسباب اختيار الموضوع:
إن السفتجة تلتقي مع الحوالة في كثير من صورها، وقد تعامل الناس بها قديماً وتكلّم الفقهاء عن حكمها، وهي الآن مع الحوالة واقع معاصر يحتاج إلى تكييف فقهي.
ظهور الحاجة إلى التحويلات المصرفية، كالحوالات التي يجريها العاملون في الخارج إلى حساباتهم الجارية في بلدانهم، أو إلى ذويهم أو أقاربهم، وكالحوالات التي يقوم بها أولياء الطلاب إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، وغالباً في مثل هذه الحوالات ما يجتمع عقد صرف وحوالة، مما يلزم معه معرفة الحلول الشرعية لذلك.
وجود البنوك الإسلامية كبديل عن المصارف الربوية، يقتضيها معرفة حدود ما يجوز لها من ألوان الحوالات المعاصرة، كالتحويلات المصرفية، وغيرها.(1/5)
نتيجة لازدياد حركة النشاط التجاري، فقد نظمت القوانين التجارية أحكام الأوراق التجارية والمالية ؛ كالكمبيالة، والشيك، والسند الإذني(1)، وهذه الأوراق تقوم بعدة مهام، كالصرف، والوفاء، والائتمان، ويرجع أصل هذه الأوراق إلى الحوالة والسفتجة.
يقول المستشرق يوسف شخت(2) " إن الحوالة والسفتجة المعروفتين في الفقه الإسلامي قد استعملتا كأوراق تجارية في القرون الوسطى، مما فتح باب النشاط المصرفي الحقيقي أمام التجار المسلمين والصيارفة اليهود، وأن الأصل التاريخي للكمبيالة المعروفة حالياً في الغرب يرجع إلى الحوالة والسفتجة المعروفتين في الشريعة الإسلامية
__________
(1) انظر معنى السند الإذني ص203 من هذه الرسالة.
(2) يوسف شخت، مستشرق هولاندي، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، ولد في مدينة راتيبوا بألمانيا سنة 1320هـ، درس اللغات الشرقية، وتخصص بالعربية، ونال الدكتوراه في الفلسفة الشرقية بجامعة فرايبورغ، عُيّن أستاذاً لتدريس اللغات الشرقية في الجامعة المصرية، توفي سنة 1390هـ، من تصانيفه، تصحيح كتب للخصاف، ولمحمد بن الحسن الشيباني، وللقزويني. انظر الأعلام: الزركلي، 8/234.(1/6)
"(1).
فهذا كله يحتم علينا أن نبيّن الأسس الفقهية لهذه المعاملات، حتى يكون التاجر المسلم على بصيرة من أمرها.
تسهيل مهمة الباحثين في المعاملات الشرعية من طلاب علم، واقتصاديين في معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بموضوع الحوالة والسفتجة، حيث لم أقف في المكتبة العربية على بحث شافٍ في هذا الموضوع.
ثالثاً: الجهود السابقة:
1 ـ جهود القدماء:
إن كلاً من الحوالة والسفتجة معاملتان معلومتان لدى الفقهاء القدامى، حيث إنهم عرضوا لأحكام الحوالة بالتفصيل في فقه المعاملات في باب مستقل، فلا تكاد تمرّ على كتاب فقه مذهبي أو مقارن، يتكلم عن أبواب الفقه عامة، أو عن المعاملات خاصة، إلا وفيه عرض لأحكام الحوالة.
أما بالنسبة للسفتجة فقد عرضوا لها بإيجاز، أثناء الكلام عن القرض الذي يجر نفعاً، أو في آخر كتاب الحوالة، باعتبارها حوالة على التحقيق عندهم، وبعضهم تكلم عنها في عقب كتاب الضمان ؛ باعتبارها وثيقة يُضمن الدين بها.
2 ـ جهود المحدَثين.
__________
(1) ذكرته الطبعة التمهيدية للموسوعة الكويتية نقلاً عن كتاب مدخل إلى الشريعة الإسلامية لشخت، ص 30.(1/7)
أما عن جهود العلماء المحدثين فهي كالتالي:
الطبعة التمهيدية للموسوعة الفقهية الكويتية: حيث تكلمت عن الحوالة، من حيث التعريف بها، وطبيعتها، ومشروعيتها، وأقسامها، وأركانها، وآثارها، وانتهاؤها
ثم تكلمت في الخاتمة عن السفتجة عن طريق نقول للفقهاء، ثم أفردت الكلام عن المعاملات المعاصرة للحوالة والسفتجة في ملحق صغير، وكانت في أثناء الكلام عن بعض المباحث المعاصرة، تشير إلى أنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة، واعتبرت هذا الملحق من الآراء الشخصية التي تحتاج إلى دراسة.
الموسوعة الفقهية الكويتية الطبعة النهائية المنقحة: وقد أفردت الكلام عن الحوالة بالمفهوم الفقهي القديم بطريق المقارنة في الجزء الثامن عشر، ثمّ تكلمت عن السفتجة بالمفهوم القديم فيما لا يزيد عن أربع صفحات، في الجزء الخامس والعشرين.
بحث الحوالة في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد زكي عبد البر: وقد عالج فيه موضوع الحوالة في بابين:
الباب الأول: تكلم فيه عن الحوالة عند الحنفية، وهذا الباب منشور في حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، في العدد الرابع سنة 1405هـ.(1/8)
أما الباب الثاني: فتكلم فيه عن الحوالة عند المذاهب الثلاثة الأخرى، وهو منشور في العدد السادس من نفس الحولية سنة 1408هـ.
مجلة مجمع الفقه الإسلامي في الدورة التاسعة، المنعقدة في أبي ظبي سنة 1995م: وقد ناقشت موضوع الحلول الشرعية لاجتماع الصرف مع التحويلات المصرفية.
التحويلات المصرفية في البنوك التجارية، وموقف الشريعة الإسلامية منها: رسالة ماجستير من جامعة الأزهر ـ القاهرة ـ: وهي لرضوان عبد العال، وقد تناول الباحث فيها خدمة التحويل من الناحية القانونية باستقصاء، مقارناً ذلك بأحكام الشريعة الإسلامية.
ضمانات الوفاء بالكمبيالة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: رسالة ماجستير من جامعة الأزهر، القاهرة، وهي لعمر محمد مختار القاضي، تناول الباحث فيها الكمبيالة في القوانين التجارية، وتكلم عن صلتها بكل من الحوالة والسفتجة والكفالة في الفقه الإسلامي، مقارناً ذلك بحوالة الحق، وحوالة الدين في الفقه الوضعي.(1/9)
الكتب التي تكلمت عن البنوك الإسلامية كبديل عن البنوك الربوية ؛ مثل كتاب البنك اللاربوي في الإسلام، للأستاذ محمد باقر الصدر، والربا والمعاملات المصرفية، للدكتور عمر المترك، حيث إنها تعطي حلولاً جزئية للتحويلات المصرفية والأوراق التجارية.
فهذه هي خلاصة ما كُتب في الموضوع ـ فيما أعلم ـ وكما هو واضح فإن الموضوع يحتاج إلى مزيد من المعالجة والبحث والتنقيح، وبالأخص في المعاملات المعاصرة، التي تقوم على أسس كل من الحوالة والسفتجة، بحيث تتم معالجة جيدة لها في كتاب مستقل.
رابعاً: منهج البحث:
لقد انتهجت في إعداد هذا البحث منهجاً سهلاً وواضحاً وهو:
1 ـ بيّنت معنى المصطلحات الفقهية، وغيرها من الناحيتين اللغوية والاصطلاحية من مصادرها الأصلية.(1/10)
2 ـ تتبعت المسائل الخلافية وغيرها الخاصة بالموضوع، وكنت أبدأ بتدوين صورة المسألة، ثم أذكر أقوال الفقهاء فيها، مركزاً على الأئمة الأربعة، مبتدأ بالحنفية، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنابلة، ثم ما تيسر من المذاهب الأخرى، ولم أنسب لمذهب قولاً إلا بعد الرجوع إلى مصادره، وكنت أحياناً أذكر أسماء الصحابة والتابعين تبركاً بآثارهم ؛ ولأن أقوالهم ـ في ظني ـ أقرب إلى روح الشريعة، وأسلم في الاجتهاد.
فإن كانت المسألة غير خلافية، أذكر دليل عدم الخلاف إن وجد، وإن كانت المسألة خلافية كنت أسير على الترتيب التالي:
أذكر الأقوال المختلفة في المسألة، منسوبة إلى أصحابها، إلا في المسائل الخلافية بين المحدثين فلا أذكر أصحابها، اكتفاء بذكر مصدرها في حواشي البحث.
ثم أذكر سبب الخلاف كثيراً، وأحياناً أذكر ثمرة الخلاف.
عرض الأدلة لكل قول إذا وُجدت، وترتيبها، سواء من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، أو المعقول، وبيان وجه الدلالة فيها.(1/11)
مناقشة الأدلة بما ورد عليها من اعتراضات في أكثر الأحيان، وقد أورد بعض الاعتراضات التي قد تظهر لي من خلال النظر في الأدلة، وأسوق ذلك بعبارة (ويمكن أن يُجاب …).
ترجيح القول الذي اعتقدت رجحانه، لقوة دليله، أو مراعاة لمقاصد الشريعة، أو المصالح العامة، متوخياً في ذلك أسباب الترجيح.
هذا، ولم أخالف هذا المنهج بالنسبة لعرض الأقوال وأدلتها ومناقشتها وبيان الراجح فيها، إلا في المسائل ذات الأقوال التي تحمل دليلاً واحداً أو دليلين، فكنت أذكر القول ثم أتبعه دليلَه، ثم أرجّح أحد الأقوال.
3 ـ وبما أن هذه الرسالة دراسة وتطبيق بين الحوالة والسفتجة في الفقه الإسلامي من جهة، وبين صورهما المستجدة من جهة أخرى، فقد قمت بدراسة الحوالة والسفتجة دراسة فقهية كاملة، وأما من الناحية التطبيقية فقد انتهجت الخطوات التالية:
اقتصرت على المعاملات ذات الصلة القريبة بموضوع الحوالة والسفتجة، وأضربت صفحاً عن المعاملات بعيدة الصلة، أو التي لا تَمُتُّ له بصلة أصلاً.(1/12)
نظراً لأن الصور الجديدة للحوالة والسفتجة قد نظمتها نصوص القانون الوضعي، فهي ذات طبيعة قانونية خاصة، لذا اتخذت من القوانين نماذج في تفسير الطبيعة القانونية لهذه المعاملات، للحكم عليها، باعتبار أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره
إبراز العلاقة بينها وبين الدراسة السابقة في الحوالة والسفتجة، عن طريق عقد مقارنة، وبيان نقاط التلاقي ونقاط الخلاف، ثم مناقشة نقاط الخلاف ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ثم الوصول إلى التكييف الفقهي المناسب لها.
رجعت إلى المؤلفات الحديثة والبحوث المعاصرة، وتتبعت مؤتمرات المجامع الفقهية المعاصرة وأبحاثها، ودرست ما تمَّ بحثه حول التحويلات المصرفية، والكمبيالة، وحاولت الإفادة منها في التكييف الفقهي لهذه المعاملات، وربطها بالحوالة والسفتجة
كما استعنت في هذه المعاملات بنقل بعض النصوص الفقهية التي دعتني الحاجة إلى ذكرها والاستئناس بها، مع تحاشي الوقوع في الحشو.(1/13)
4 ـ لم أوثق المصادر والمراجع توثيقاً كاملاً في حاشية البحث ؛ حتى أتحاشى الحشو والإطالة، اكتفاء بتوثيقها في فهرس المصادر، ولكن كنت أكتفي بذكر اسم الكتاب، ثم المؤلف، ثم الجزء والصفحة، أو الصفحة فقط.
5 ـ أشرت إلى مواضع الآيات الكريمة بأرقامها في السور التي وردت فيها، وهو ما يعرف بالعزو.
6 ـ خرَّجت جميع الأحاديث والآثار الموجودة في الرسالة، معتمداً على الأصول المحققة والمرقمة على النحو التالي:
إذا وُجد الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما، اكتفيت بتخريجه منهما، أو من أحدهما، مشيراً إلى الكتاب والباب ورقمه ورقم الحديث والجزء والصفحة التي ورد فيها الحديث.
إذا لم يكن الحديث موجوداً في الصحيحين أو أحدهما، انتقلت إلى غيرهما من كتب الحديث المعتمدة، فأخرجه منه، مع بيان أقوال أهل الدراية والفن بعلم الحديث في الحكم عليه من حيث الصحة والضعف، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
إذا لم أعثر على الحديث أو الأثر في كتب الحديث، وإنما وُجد في كتب الفقه أشرت إلى ذلك.(1/14)
قمت بترجمة موجزة للأعلام الموجودين في الرسالة، ما عدا ذوي الشهرة العريضة منهم بحسب تقديري، ظناً مني أن الترجمة الموجزة لا تزيدهم وضوحاً.
7 ـ لمّا كانت الكمبيالة في القوانين الوضعية ذات مصطلحات غريبة على دارسي الفقه، رأيت أن أضع في أول الفصل الخاص بها جدولاً لتلك المصطلحات يبيّن معانيها الدالة عليها.
8 ـ وذيلت الرسالة بخمسة فهارس:
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الآيات القرآنية الكريمة.
فهرس الأحاديث النبوية الشريفة والآثار.
فهرس الأعلام الذين ترجمت لهم.
فهرس الموضوعات.
خامساً: الصعوبات التي واجهتني في البحث والدراسة:
لقد واجهتني صعوبات وعوائق أثناء البحث ؛ منها:
1 ـ إن موضوع الحوالة ذو طبيعة خاصة، تتمثل في الخلاف الجذري بين أئمة المذاهب، بل في داخل المذهب الواحد، حول عدة أمور جوهرية فيها، وقد أورث ذلك تشعباً في الموضوع، وكثرة في مسائله وتفريعاته، وتعقيداً في البحث فيه، وصعوبة في عرض الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، والأدلة التي يستند إليها كل قول، مما دفعني إلى التجاوز عن المسائل والتفريعات التي لا تعنينا في هذا البحث بصورة أساسية.(1/15)
2 ـ قلة المراجع التي تتعلق بالتطبيقات المعاصرة للحوالة والسفتجة في هذه المنطقة المغلقة من العالم، مما دفعني إلى القيام بالسفر إلى جمهورية مصر العربية مرتين، والتجول في مكتباتها، حتى عثرت على عدد من المراجع التي تفي بمتطلبات البحث، كما أنني قمت بعدة مراسلات بريدية لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، للحصول على بحوث ذات صلة بالموضوع، وتم بحمد الله تعالى الحصول عليها.
3 ـ قلة زادي، وقصر باعي في الموضوع، مما دفعني للسؤال والاستفسار.
ورغم ذلك فقد بدأت العمل، وعانيت فيه معاناة كبيرة، وبذلت فيه جهداً كبيراً، ووقتاً طويلاً، ولولا توفيق الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعونه، لما تمَّ هذا العمل على هذه الصورة، بل مرّت عليَّ أيام كنت أفكر فيها بالعدول عن الكتابة فيه، لِمَا وجدتُ من الصعوبة، وطول الطريق، ولكن تشجيع مشرفي الفاضل، وتشجيع بعض الناصحين، وطمعي في أن أقدم مساهمة في إثراء المكتبة الفقهية، خدمة للعلم وأهله، دفعني إلى المضيّ في هذا العمل الذي يقدر صعوبته حق قدرها مَن سبر غوره وخاض بحره.(1/16)
ومع ذلك، فلا أدّعي الكمال ولا مقاربته، بل أعترف بالتقصير، فإن التقصير من سمات البشر، والكمال لله تعالى وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً، أضع هذا الجهد المتواضع بين يدي أساتذتي الأفاضل ليقوِّموا الخلل، ويبينوا الزلل، فإن رأوا أني أصبت، فذلك بعون الله ـ تعالى ـ، ثم بفضل أساتذتي، وإن رأوا أني أخطأت، فذلك من نفسي وتقصيري، وأستغفر الله أولاً وأخيراً.
سادساً: خطة البحث:
وقد قسّمت ـ بعون الله ـ هذه الرسالة إلى أربعة فصول وخاتمة.
الفصل الأول: الحوالة، وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحوالة، وتمييزها عن العقود المتداخلة فيها.
المبحث الثاني: طبيعة الحوالة.
المبحث الثالث: مشروعية الحوالة، وحكم قبول المحال لها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مشروعية الحوالة.
المطلب الثاني: حكم قبول المحال للحوالة.
المبحث الرابع: أقسام الحوالة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحوالة المقيدة.
المطلب الثاني: الحوالة المطلقة.
المبحث الخامس: أركان الحوالة وشرط صحتها، وفيه ثلاثة مطالب:(1/17)
المطلب الأول: الصيغة: ويتألف من ثلاثة فروع:
الفرع الأول: الرضا.
الفرع الثاني: دليل الرضا.
الفرع الثالث: اقتران الحوالة بالشروط
المطلب الثاني: أطراف الحوالة: ويتألف من ثلاثة فروع:
الفرع الأول: المحيل.
الفرع الثاني: المحال.
الفرع الثالث: المحال عليه.
المطلب الثالث: محل الحوالة.
المبحث السادس: آثار الحوالة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال.
المطلب الثاني: أثر الحوالة في علاقة المحال بالمحال عليه.
المطلب الثالث: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال عليه.
المبحث السابع: انتهاء الحوالة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: انتهاء الحوالة بالتنفيذ.
المطلب الثاني: انتهاء الحوالة بغير التنفيذ، ويتألف من فرعين:
الفرع الأول: الانتهاء الرضائي للحوالة.
الفرع الثاني: انتهاء الحوالة باستحالة التنفيذ.
الفصل الثاني: السفتجة، وفيه ستة مباحث كذلك:
المبحث الأول: تعريف السفتجة وصورها.
المبحث الثاني: تكييف السفتجة.
المبحث الثالث: حكم السفتجة.
المبحث الرابع: ضابط اعتبار السفتجة.(1/18)
المبحث الخامس: وفاء السفتجة بنقد آخر.
المبحث السادس: هل يُلزِم المكتوب إليه (المحال عليه) بأداء مال السفتجة؟
الفصل الثالث: التحويلات المصرفية والبريدية، وقد تضمن مبحثين:
المبحث الأول: حقيقة التحويلات المصرفية والبريدية.
المبحث الثاني: التحويلات المصرفية والبريدية من وجهة النظر الإسلامية.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تكييف عملية التحويل المصرفي والبريدي على أساس
الحوالة.
المطلب الثاني: تكييف عملية التحويل على أساس السفتجة.
الفصل الرابع: الكمبيالة وتكييفها الفقهي، وقد تضمن مبحثين:
المبحث الأول: حقيقة الكمبيالة، وأحكامها القانونية، وفيه تمهيد، وثمانية مطالب:
التمهيد: نشأة الكمبيالة ووظائفها.
المطلب الأول: تعريف الكمبيالة.
المطلب الثاني: البيانات الواجب إثباتها في الكمبيالة.
المطلب الثالث: مقارنة الكمبيالة بالشيك والسند الإذني.
المطلب الرابع: تداول الكمبيالة.
المطلب الخامس: مقابل الوفاء في الكمبيالة.
المطلب السادس: قبول الكمبيالة.
المطلب السابع: التضامن في الكمبيالة.
المطلب الثامن: الضمان الاحتياطي.(1/19)
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للكمبيالة: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مقارنة الكمبيالة بالسفتجة في الفقه الإسلامي.
المطلب الثاني: مقارنة الكمبيالة بالحوالة في الفقه الإسلامي.
الخاتمة.
وهي عبارة عن أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث بعون الله تعالى.
إقراراً بالفضل، وتمسكاً بقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس "(1).
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، 12 باب في شكر المعروف، ح4811، 4/255، واللفظ له، سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، 35 باب ماجاء في الشكر لمن أحسن إليك، ح1961، 3/383، قال هذا حديث حسن صحيح.(1/20)
أرى لزاماً عليّ بين يدي بحثي هذا أن أبادر بتسجيل خالص شكري وعظيم تقديري وامتناني إلى فضيلة الدكتور ماهر أحمد السوسي لتفضله بقبول الإشراف على هذه الرسالة، حيث فتح لي قلبه، وبيته، وجاد عليّ بإرشاداته السديدة، وتوجيهاته المفيدة، ولم يبخل عليّ بنصح أو توجيه، وقد منحني الكثير الكثير من وقته الثمين، رغم كثرة مشاغله، كما منحني من علمه ما يعجز مثلي عن مكافأته، ولقد كان لخلقه العظيم، وصبره الجميل، الأثر الكبير في خروج هذه الرسالة بهذه الصورة المشرِّفة، أسأل الله تعالى أن يبارك له في علمه ورزقه وذريته، إنه مجيب الدعاء.
كما أتوجه بخالص الشكر والعرفان إلى أستاذيّ الفاضلين المربيين عضوي لجنة المناقشة:
فضيلة الدكتور / يونس محيي الدين الأسطل.
فضيلة الدكتور / لطفي عليّان شبير.
على تفضلهما بطيب نفس ورحابة صدر بقبول مناقشة هذه الرسالة، وإثرائها بالتوجيهات النافعة، والإرشادات الصائبة، والملاحظات القيّمة، فلهم مني دوام الدعاء بالبركة في علمهم، ورزقهم وذريتهم، ممزوجاً بالمحبة والعرفان بالجميل.(1/21)
كما أتوجه بالشكر والعرفان إلى جميع الأساتذة في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، الذين تتلمذت على أيديهم.
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر والعرفان والتقدير إلى كل من مدّ يد العون والمساعدة، وكلأني بعين الرعاية، وأسدى لي نصحاً أو عوناً أو توجيهاً أو إرشاداً، حتى تمكنت من إنجاز عملي على هذه الصورة.(1/22)
الحوالة
المبحث الأول: تعريف الحوالة، وتمييزها عن العقود المداخلة فيها
أولاً: في اللغة:
أصل اشتقاقها من مادة (حَوَلَ) قال ابن فارس " الحاء والواو واللام من أصل واحد، وهو تحرّك في دور، فالحَول: العام، وذلك أنه يحول، أي: يدور، وحال الشخص يحول إذا تحرك، وكذا كل متحول عن حاله "(1).
وتأتي بمعنى النقل المطلق: يُقال: حوَّلته تحويلاً، أي: نقلته من موضع إلى موضع، وحوّلت الرداء: أي نقلت كل طرف إلى موضع الطرف الآخر.
والحِوالة مأخوذة من هذا، يُقال: أحلته بدَينه: نقلته من ذمة إلى أخرى(2)، وفي اللسان ومختار الصحاح: " احتالَ وأحالَ عليه بالدين، من الحِوالة(3).
ثانياً: عند الفقهاء:
1 ـ عند الحنفية: اختلف الحنفية في تعريف الحوالة تبعاً لاختلافهم في الأثر المترتب عليها.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس 2/121.
(2) المصباح المنير: الفيومي ص84.
(3) لسان العرب: ابن منظور 2/1060، مختار الصّحاح: أبو بكر الرازي ص163.(2/1)
فمن قال بأنها توجب براءة ذمة المحيل من الدين والمطالبة معاً، عرّفها بأنها (نقل الدين من ذمة إلى ذمة) ؛ أي من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وهذا هو القول الصحيح في المذهب، وهو منسوب إلى أبي يوسف(1).
ومن قال بأنها لا توجب براءة ذمة المحيل إلا من المطالبة فقط مع بقاء الدين في ذمته، عرّفها بأنها (نقل المطالبة من ذمة المديون إلى ذمة الملتزم)(2)، وهذا القول منسوب إلى محمد بن الحسن(3)، وسيأتي أثناء الحديث عن آثار الحوالة في علاقة المحيل بالمحال تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى(4).
__________
(1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: داماد أفندي 2/146، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: الزيلعي 4/171، البحر الرائق شرح كنز الدقائق: ابن نجيم 6/266.
(2) شرح فتح القدير: الكمال بن الهمام 7/238.
(3) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172، البحر الرائق: ابن نجيم 6/267، مجمع الأنهر: داماد أفندي 2/146.
(4) انظر ص84 من هذه الرسالة.(2/2)
وبالنظر إلى ما سبق يتبين اتفاق مذهب الحنفية على أصل النقل، ولكن اختلفوا هل هذا النقل للدين والمطالبة أم للمطالبة فقط(1)؟
__________
(1) وتظهر ثمرة هذا الخلاف في مسألتين:
الأولى: ما إذا أبرأ المحال بعد الحوالة المحيل فلا يصح في قول أبي يوسف ؛ لأنه برئ أساساً، ويصح على القول الثاني.
الثانية: إذا أحال الراهن المرتهن على أحدٍ، فعند أبي يوسف يسترد الرهن، وليس له استرداده عند الإمام محمد. انظر: البحر الرائق: ابن نجيم 6/267، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172.(2/3)
2 ـ عند المالكية: هي نقل الدين من ذمة بمثله إلى أخرى تبرأ بها الأولى(1)، وعند ابن عرفة هي: طرح الدين عن ذمة بمثله(2)، وقيل هي (صرف دين عن ذمة المدين بمثله إلى أخرى تبرأ بها الأولى) والصرف هنا بمعنى طرح الدين ونقله(3).
3 ـ عند الشافعية:هي عقد يقتضي نقل الدين من ذمة إلى ذمة، وتطلق على انتقاله من ذمة إلى أخرى(4).
__________
(1) حاشية الدسوقي 3/225.
(2) مواهب الجليل شرح مختصر خليل: الحطاب 5/90.
(3) 1 الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك: الدردير 4/554، وقد عرّفها الإباضية بما يقرب من تعريف المالكية، حيث قالوا في تعريفها (هي نقل الدين من ذمة إلى ذمة نقلاً تبرأ به الأولى)، وقيل (طرح الدين من ذمته بمثله في أخرى) شرح النيل وشفاء العليل: محمد بن يوسف اطفيش 9/379.
(4) 1 شرح روض الطالب من أسنى المطالب: أبو زكريا الأنصاري 3/230، مغني المحتاج: الشربيني 2/192(2/4)
4 ـ عند الحنابلة:هي نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه(1)، أو هي انتقال مال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، بحيث لا رجوع على المحيل بحال، أو هي تحويل الحق من ذمة إلى ذمة(2).
ثالثاً: مقارنة بين التعريفات السابقة:
من خلال العرض السابق لتعريف الحوالة عند الفقهاء تبيّن التالي:
إن هناك اتفاقاً على أن الحوالة نقل للدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، باستثناء بعض الحنفية القائلين بأنها تنقل المطالبة فقط.
__________
(1) الكافي: ابن قدامة المقدسي 2/218.
(2) شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/256، شرح الزركشي على مختصر الخرقي: الزركشي 4/109.(2/5)
الصرف والطرح والنقل عند المالكية كلها معانٍ متقاربة، وإضافة الطرح أو النقل إلى الدين حتى يكون التعريف مانعاً لا ينتظم غير الدين، لكن اعتُرض عليه أنه غير جامع؛ لأنه لا يشمل حوالة الواهب والمتصدق، وهي حوالة صحيحة، لأن الدين لا يطلق على الهبة والصدقة عرفاً، ولا ترد عليه المقاصّة(1)، إذ ليست طرحاً بمثله في أخرى، لامتناع تعلق الدين بذمة من هو له(2).
إن الشافعية عبروا في تعريفهم بأن الحوالة عقد يقتضي …الخ، وهذا يدل على أن النقل والانتقال للدين هنا أمر حكمي، يترتب على سبب شرعي، وهو عقد الحوالة نفسه، إذ لا يتصور النقل الحسي للدين.
__________
(1) المقاصّة: لغة المساواة، وشرعاً: سقوط أحد الدينين بمثله جنساً وصفة. راجع المصباح المنير: ص261، أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية 1/321.
(2) منح الجليل على مختصر خليل: محمد عليش 6/178، البهجة في شرح التحفة: علي بن عبد السلام التسولي 2/55.(2/6)
قيّد المالكية التعريف بكلمة (مثله)، وهذا ينبئ أولاً عن وجوب التماثل بين الدينين،، وثانياً مديونية المحال عليه للمحيل، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى أثناء الكلام عن أركان الحوالة وشروط صحتها(1).
إضافة عبارة (تبرأ بها الأولى) عند بعض المالكية، أو عبارة (بحيث لا رجوع على المحيل بحال) عند الحنابلة، يفيد أن عقد الحوالة عقد لازم، تبرأ به ذمة المحيل مؤبداً، وهو رأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، أما على مذهب الحنفية فالبراءة مقيدة بشرط مقدر، وهو سلامة حق المحال، وذلك باعتبارات معينة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله(2).
رابعاً: التعريف المختار وشرحه:
يمكن اختيار تعريف جامع للحوالة، وهو أنها (عقد يقتضي انتقال الدين من ذمة إلى أخرى، تبرأ به الأولى) وهاك بيانه:
__________
(1) انظر ص59، ص75 من هذه الرسالة.
(2) انظر ص83، 84 من هذه الرسالة.(2/7)
(عقد): العقد في اللغة بمعنى الربط(1)، وفي الشرع (ربط إجراء التصرف بالإيجاب والقبول)(2)، وهو جنس في التعريف يشمل كل عقد.
(يقتضي انتقال): قيد في التعريف تخرج به الكفالة ؛ لأنها ضم ذمة إلى ذمة لا انتقال فيها، والتعبير بالانتقال أدقّ من التعبير بالنقل من وجهين كالتالي:
الوجه الأول: إن الانتقال يناسب أصل الكلمة، وهو التحرك في دور، حيث إن التحوّل للدين قد لا يكون بنقل واحد، بل باستمرار الانتقال عند تداول الحوالة من يد لأخرى، كما إذا أحيل بدينه على رجل، ثم إن المحال عليه أحال بذلك على ثالث، وأحاله الثالث على رابع، وكذلك لو أحيل بدينه على رجل، ثم أحال المحال بذلك غيره، وأحال هذا الثالث على رابع …. وهكذا(3).
الوجه الثاني: إن الانتقال هو الذي يبقى، وتتوارد عليه الأحكام من فسخ وانفساخ وما إليهما، وذلك لأن الانتقال أثر لازم للنقل(4).
__________
(1) تاج العروس: الزبيدي 2/426، المصباح المنير: الفيومي ص218.
(2) القاموس الفقهي: سعدي أبو جيب ص255.
(3) 2 الحاوي: الماوردي 8/104.
(4) 2 حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4/421.(2/8)
(الدين): إضافة الانتقال إلى الدين أفاد أن الانتقال هنا حكمي، أي اعتباري لا حسي كالعين، إذ لا يتصور فيها إلا النقل الحسي، فعلى ذلك لا بد أن يكون محل الحوالة ديناً.
(من ذمة): الذمة في اللغة تطلق على الضمان والكفالة(1).
واصطلاحاً: وصف شرعي يفترض الشارع وجوده في الإنسان، يصير به أهلاً للإلزام والالتزام(2)، والمقصود هنا ذمة المحيل أي: المدين الأصلي.
(إلى ذمة): أي: ذمة المحال عليه، وهو المكلف بدفع الدين الذي انتقل إلى ذمته بالحوالة.
(تبرأ بها الأولى): أي تبرأ بهذا النقل ذمة المحيل (المدين الأصلي) براءة مؤبدة على مذهب الجمهور، ولا يرجع عليه المحال (وهو الدائن صاحب الحق) إلا في أحوال، سأذكرها عند الحديث عن أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال إن شاء الله(3)
ويتضح من خلال هذا التعريف الأمور التالية:
إنه لا بد في الحوالة من الآتي:
__________
(1) مختار الصحاح: الرازي ص223، القاموس المحيط: الفيروزآبادي 4/110.
(2) شرح التلويح على التوضيح: سعد الدين التفتازاني 2/163.
(3) انظر ص94 من هذه الرسالة.(2/9)
صيغة تفصح عن رغبة أطرافها في إنشائها، وتعبر بجلاء عن الاتفاق الذي تم بينهم على تكوينها، وهي تُفهم من التعبير بكلمة (عقد).
أطراف ثلاثة وهم: المحيل: وهو المدين الأصلي، والمعبر عنه في التعريف بالذمة الأولى، والمحال أو المحتال: وهو الشخص الدائن للمحيل، والمستفيد من الحوالة، وهو يُفهم ضمناً من التعريف، والمحال عليه أو المحتال عليه: وهو الشخص المكلف بأداء الدين للمحال، وهو المعبر عنه في التعريف بالذمة الثانية.
محل الحوالة: وهو: دين للمحال عند المحيل: وهو المعبر عنه في التعريف صراحة، ويُسمى الدين المحال به، ويتحتم وجوده لصحة الحوالة.
ودين للمحيل عند المحال عليه، ويُسمى الدين المحال عليه، ويتحتم وجوده عند الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، خلافاً للحنفية.
إن هذا التعريف يتناسب مع التعريف اللغوي، وإن كان التعريف اللغوي أعمّ منه، لكونه يشمل بالإضافة إلى انتقال الدين، انتقال العين، كانتقال الزجاجة من مكان إلى مكان.
خامساً: تمييز عقد الحوالة عمّا يختلط به من العقود:(2/10)
يتبين مما سبق، أن الحوالة تصرف شرعي، يتم فيه انتقال الدين من ذمة إلى ذمة، تبرأ به الأولى، وبناء على ذلك ؛ فإن الحوالة تتميز عن غيرها من العقود، وهذا بيان ذلك
1 ــ تمييز الحوالة عن الوكالة:
الوكالة في اللغة الحفظ (1) كما في قوله ـ تعالى ـ (لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً(2) أي
حفيظاً، وتطلق ويراد بها التفويض(3) كما في قوله ـ تعالى ـ (وعلى الله فليتوكل المتوكلون(4) ويقال توكّل بالأمر، إذا ضمن القيام به.
وفي الشرع تُطلق على إقامة الشخص غيرَه مقام نفسه في تصرف جائز معلوم(5)،
أو هي: تفويض شخص شيئاً له فعله ممّا يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته(6).
__________
(1) المصباح المنير:الفيومي ص345.
(2) سورة المزمل، الآية 9.
(3) المصباح المنير: الفيومي ص 345.
(4) سورة إبراهيم، الآية 12.
(5) الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين 8/241.
(6) 3 حاشية الباجوري 1/655.(2/11)
والفرق بين الوكالة والحوالة: أن الوكيل في الوكالة ليس دائناً للموكِّل، ولا يقبض لحساب نفسه، بل لحساب الموكِّل، في حين أن المحال في الحوالة دائن للمحيل، ويقبض من المحال عليه لحساب نفسه ؛ اقتضاء لحقه، لأنه دائن، وبالرغم من هذا التمايز بين الحوالة والوكالة، إلا أنه في بعض صور الحوالة تتداخل معها الوكالة، فتصير محل اختلاف للفقهاء، ومن ذلك:
إذا لم يكن للمحال على المحيل دين، فتنعقد وكالة عند جماهير الفقهاء ؛ لأن لفظ الحوالة قد يُستعمل في الوكالة لما بينهما من المشاركة في المعنى(1)، وعلى رأي بعض الشافعية تبطل باعتبار اللفظ، وسيأتي الخلاف إن شاء الله أثناء الكلام عن شرط مديونية المحيل للمحال(2).
إذا لم يكن للمحيل عند المحال عليه دين، فيرى الحنابلة أنها وكالة في اقتراض، ويرى الحنفية أنها حوالة مطلقة، وسيأتي الخلاف كذلك إن شاء الله أثناء الحديث عن مديونية المحال عليه للمحيل(3)
2 ــ تمييز الحوالة عن الكفالة:
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/59.
(2) انظر ص51 من هذه الرسالة.
(3) انظر ص59، 61 من هذه الرسالة.(2/12)
الكفالة في اللغة: الالتزام(1)، وفي الشرع: تُطلق على ضمّ ذمة الكفيل إلى ذمة
الأصيل بالتزام الدين، فيثبت في ذمتهما معاً(2)، وتُطلق عند جمهور الحنفية على ضمِّ ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة فقط(3).
والفرق بين الكفالة والحوالة: أن الدين في الكفالة يبقى في ذمة الأصيل بالإضافة إلى ذمة الكفيل، فالدائن فيها يطالب كلاً من الكفيل والمكفول، في حين أن الدين في الحوالة ينتقل إلى ذمة المحال عليه بصورة توجب براءة الأصيل ؛ أي (المحيل) من الدين، وبالتالي ينحصر حق المحال في مطالبة المحال عليه، الذي يصبح بالحوالة مكلفاً بأداء الدين.
وعلى الرغم من هذا التمايز، إلا أنه قد تتداخل الكفالة في بعض صور الحوالة فتصير محل خلاف بين الفقهاء، ومن ذلك:
__________
(1) المصباح المنير:الفيومي ص276 ـ277.
(2) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 7/553، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/229.
(3) البدائع: الكاساني 4/2، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/163.(2/13)
ما قرره فقهاء الحنفية من أن الحوالة بشرط عدم براءة المحيل تصح كفالة، كما أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة عملاً بالمعنى المقصود(1).
إذا لم يكن للمحيل دين عند المحال عليه، ومع ذلك أحال عليه آخر، فقد أجراها بعض الشافعية والمالكية مجرى الكفالة، فلا تبرأ بها ذمة المحيل، في حين اعتبرها الحنفية حوالة مطلقة، وسيأتي الخلاف إن شاء الله أثناء الحديث عن الحوالة المطلقة(2)
3 ــ تمييز الحوالة عن الإبراء:
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/271، الفتاوى الهندية 3/305، الاختيار لتعليل المختار: ابن مودود الحنفي 2/169.
(2) انظر ص22 من هذه الرسالة.(2/14)
الإبراء في اللغة: التنزيه والتخليص(1)، وفي الشرع: إسقاط الشخص حقاً له في ذمة آخر(2)، ومعنى ذلك أن الإبراء إسقاط، من حيث إن المُبرِئ يسقط حقه عن آخر، وهو تمليك من جانب أنه يملك المدين ما له عليه(3).
وعلى هذا فالإبراء إسقاط للحق، في حين أن الحوالة تنقل الحق.
4 ــ تمييز الحوالة عن القرض:
القرض في اللغة: القطع(4)، وفي الشرع: هو تمليك الشيء على أن يردّ بدله(5)، وعلى هذا، فالقرض عقد يتم فيه إنشاء حق جديد للمقرض على المستقرض، في حين أن الحوالة عقد يتم فيه انتقال دين ـ وقد يكون ناشئاً عن قرض ـ من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وذلك بقصد استيفاء الدين بمثله، فهي وسيلة لاستيفاء الدين، وليس لإنشاء دين جديد.
__________
(1) المصباح المنير: الفيومي ص 30.
(2) 4 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 7/381، قليوبي وعميرة 2/326.
(3) 4 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 7/381، قليوبي وعميرة 2/326، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد ص21.
(4) المصباح المنير: الفيومي ص 276، تاج العروس: الزبيدي 5/75.
(5) قليوبي وعميرة 2/257.(2/15)
5 ــ تمييز الحوالة عن الرهن:
الرهن في اللغة: الثبوت والدوام والحبس(1)، وفي الشرع: جعل عين مالية وثيقةً بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه(2)، وعلى هذا فالرهن وسيلة لتوثيق الدين، بخلاف الحوالة فهي في الغالب وسيلة لاستيفائه.
المبحث الثاني: طبيعة الحوالة
أولاً: أقوال الفقهاء في تكييف الحوالة:
اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة الحوالة على ثلاثة أقوال ؛ كالتالي:
__________
(1) المصباح المنير: الفيومي ص 127.
(2) قليوبي وعميرة على المنهاج2/261.(2/16)
القول الأول: يرى أنها من قبيل البيع، وهو قول بعض الحنفية(1)، وأكثر المالكية، والأصح عند الشافعية، وبعض الحنابلة(2)، ثم اختلف أصحاب هذا القول: هل هي بيع عين بعين، أو عين بدين، أو دين بدين؟ وأصحها الأخير(3)، وقد جازت على سبيل الاستثناء لحاجة الناس إليها مسامحة من الشارع، وإرفاقاً بالدائن والمدين(4)
__________
(1) يقول في الحاوي الزاهدي " لأنها تمليك الدين لغير من هو عليه، وهو غير جائز إلا أنها جوزت للحاجة " حاشية ابن عابدين على البحر 6/274.
(2) الذخيرة: القرافي 9/242، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، المغني: ابن قدامة 7/56، وهو أيضاً مذهب الإباضية، انظر شرح النيل وشفاء العليل: اطفيش 9/379.
(3) الأشباه والنظائر: السيوطي ص461، الذخيرة: القرافي 9/242.
(4) يرى ابن تيمية، وابن القيم أن الحوالة موافقة للقياس، وإن كان فيها بيع دين بدين، يقول ابن تيمية " إن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع، إنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض، بالمؤخر الذي لم يقبض، وهذا كما لو أسلم شيئاً في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر " انظر مجموع الفتاوى: ابن تيمية 20/512، إعلام الموقعين: ابن القيّم 2/8.(2/17)
.
القول الثاني: يرى أنها من قبيل استيفاء الدين، وليست بيعاً، وهو قول بعض المالكية والشافعية والحنابلة(1).
القول الثالث: يرى أنها عقد مستقل بنفسه، شُرع لغاية معينة يحتاج إليه التعامل، وهو ليس محمولاً على غيره من التصرفات والعقود، وهو قول أكثر الحنفية(2) والحنابلة وبعض المالكية(3).
ثانياً: منشأ الخلاف: وسبب الخلاف في هذه المسألة هو: أن الحوالة تشبه المعاوضة من حيث كونها مبادلة دين بدين، وتشبه الاستيفاء من حيث إنها تبرئُ ذمة المحيل، ونظراً لوجود هذا التردد ألحقها بعضهم بالمعاوضة، وألحقها بعضهم بالاستيفاء(4).
__________
(1) 5 المنتقى على الموطأ: الباجي 5/66، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، مجموع الفتاوى: ابن تيمية 20/512.
(2) 5 يفهم من كلامهم إذ يقولون (الحوالة ما وضعت للتمليك، وإنما وضعت للنقل) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/14.
(3) المغني: ابن قدامة 7/56، الذخيرة: القرافي 9/242.
(4) الإنصاف: المرداوي 5/222، شرح منتهى الإرادات:البهوتي 3/256، كشاف القناع: البهوتي 3/371.(2/18)
ثالثاً: ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف فيما يترتب على الحوالة من أحكام، ولذلك اختلفت أحكامها من مذهب لآخر، طبقاً لاختلافهم في طبيعتها، كشرط الخيار، وشرط الرهن والضمان، وكشرط مديونية المحال عليه للمحيل، وغيرها مما سيأتي الحديث عنه(1).
رابعاً: الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأنها من قبيل البيع بالمعقول كالتالي:
إن الحوالة تتضمن استبدال مال بمال ؛ لأن كلاً من المحيل والمحال عليه ملك بها ما لم يملكه قبلها، فإن المحال يبذل ماله في ذمة المحيل بما للمحيل في ذمة المحال عليه، والمحيل يبذل ماله في ذمة المحال عليه بما عليه من ذلك للمحال، وهذه هي حقيقة البيع، والأصل فيه الحظر، ومن هنا جاءت مشروعيتها على خلاف القياس(2).
أدلة القول الثاني:
واستدل القائلون بأن الحوالة استيفاء بالسنة والمعقول، وذلك كالتالي:
__________
(1) انظر ص45، 47، 59 من هذه الرسالة.
(2) المهذب: الشيرازي1/337، مغني المحتاج: الشربيني2/193، الإنصاف: المرداوي5/222، المغني: ابن قدامة 7/56.(2/19)
أ ـ السنة: ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ(1) فليتبع"(2)
وجه الدلالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحوالة في معرض الوفاء، فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبيّن أنه ظالم إذا مَطَل، وأمر الدائن بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء(3).
__________
(1) مليّ، ومليء بمعنى الغني، وهو في الأصل مهموز، قال ابن حجر في فتح الباري: " ومن رواه بتركها فقد سهله " فتح الباري شرح صحيح البخاري 38 كتاب الحوالة، (1) باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة،ح2287، 4/465.
(2) صحيح مسلم 22 كتاب المساقاة، 7 باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة،ح1564، 3/1197.
(3) مجموع الفتاوى: ابن تيمية 20/512، 513، إعلام الموقعين: ابن القيم 2/10.(2/20)
ب ـ المعقول: لو كانت الحوالة بيعاً لجازت بالشيء على أكثر منه، أو أقل منه، إذا لم يكن الشيء ربوياً (طعامين أو نقدين مثلاً)، ولكن ذلك لا يجوز، ولَما جاز التفرق قبل القبض في الربوي، ولكن ذلك يجوز اتفاقاً، لذلك فهي قبض واقتراض، فكأنه قبض من المحيل، ودفعه إلى المحال عليه قرضاً(1).
أدلة القول الثالث:
واستدل القائلون بأن الحوالة عقد منفرد بنفسه، بدليلين:
إن لفظها يشعر بالتحول والنقل، ولا يشعر بالبيع، فهي تختص باسم خاص(2).
إنها ليست بيعاً، ولا بمعنى البيع ؛ لكونها لم تُبنَ على المغابنة(3)، ولعدم الغبن فيها(4).
خامساً: المناقشة:
1 ـ نوقشت أدلة القائلين بأنها بيع من ثلاثة وجوه:
__________
(1) قليوبي وعميرة على المنهاج 2/319.
(2) 6 كشاف القناع: البهوتي3/270، المغني: ابن قدامة 7/56.
(3) 6 المغابنة: من الغبن، وهو في اللغة بمعنى النقص، وفي الشرع: النقص في أحد العوضين ؛ بأن يكون أحدهما غير متعادل مع الآخر، بأن يكون أقل منه، أو أكثر، معجم المصطلحات الاقتصادية: نزيه حماد ص210.
(4) المرجعان السابقان.(2/21)
إنها لو كانت بيعاً لما جازت، لكونها بيع كالئ بكالئ، وهو منهي عنه(1)، وعلى فرض دخولها في البيع واستثنائها منه، ففي ذلك مخالفة للأصل، ولا داعي لارتكابها(2).
إنها لا تصح بلفظ البيع، ولا بغير جنس الحق، ويجوز فيها التفرق قبل القبض في الربوي، ولو كانت بيعاً لما ثبتت هذه الأحكام فيها(3).
أما القول بأنها بيع عين بعين أو بيع عين بدين، فهذا تقدير وافتراض مخالف للواقع
2 ـ ونوقشت أدلة القائلين بأنها استيفاء دين من ثلاثة وجوه أيضاً:
__________
(1) سنن الدارقطني 3/71، 72 من حديث (ابن عمر)، شرح معاني الآثار: الطحاوي 4/20، قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/254، 255 عن هذا الحديث: " صححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة الربذي، كما قال الدار قطني وابن عدي: وقد قال فيه أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره، وقال ليس في هذا أيضاً حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، وقال الشافعي أهل الحديث يوهِّنون هذا الحديث.
(2) كشاف القناع: البهوتي 3/370، الذخيرة: القرافي 9/242.
(3) المرجعان السابقان.(2/22)
إنها لو كانت استيفاء لوجبت على المحال بدون رضاه، ولاستغنت عن الإيجاب والقبول، ولكن ذلك كالمطروح عند جماهير الفقهاء(1).
إن ما ذكروه من القبض والإقراض إنما هو تقدير مخالف للواقع، وإنما الذي حصل حقيقة هو التحويل، وانتقال الدين من ذمة إلى ذمة، وليس أدلّ على ذلك من أن المشتري لو أحال البائع بالثمن، ثم ردّ المبيع بعيب بعد الحوالة ـ أي وُجد سبب سقط به الدين المحال به عن المحيل (المشتري) بعد الحوالة، فإن الحوالة تبطل، ولو كانت قرضاً لما بطلت، بالقياس على ما لو قبض الثمن وأقرضه، ثم ردّ عليه بعيب فلا تبطل(2).
أما عدم جواز الزيادة والنقصان، وجواز التفرق قبل القبض، فهذا لأن الحوالة عقد إرفاق ؛ كالقرض وغيره.
سادساً: القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول الثالث القاضي بأن الحوالة عقد مستقل بنفسه، لدليلين:
إن الأصل في العقود أن تجري على معانيها، ومعنى الحوالة من التحول والانتقال.
__________
(1) الموسوعة الفقهية، ط. التمهيدية، نموذج (3)ص49.
(2) قليوبي وعميرة على المنهاج 2/319.(2/23)
إن الحوالة تشبه البيع، وليست ببيع، وتشبه الكفالة وليست بكفالة، وتشبه الوكالة وليست بوكالة، وقد أخذت الحوالة أحكاماً متنوعة، تتناسب مع تلك المتشابهات العديدة، فأصبحت عقداً خاصاً له موضوعه الخاص، الذي يختلف عن موضوع ما سواه من العقود.
المبحث الثالث: مشروعية الحوالة، وحكم قبول المحال لها
أتحدث في هذا المبحث عن مشروعية الحوالة وحكم قبول المحال لها في مطلبين على النحو التالي:
المطلب الأول: مشروعية الحوالة
عقد الحوالة مشروع بالقرآن والسنة، والإجماع، والقياس، والمعقول كما يأتي:
أولاً: القرآن:
قال ـ تعالى ـ (وتعاونوا على البر والتقوى (1)، والحوالة بِر. وقال سبحانه (افعلوا الخير(2)، وهي خير(3).
ثانياً: السنة:
أخرج البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مُطلُ الغنيِّ ظلمٌ، فإذا أُتبعَ أحدّكم على مليٍّ فليتبع "(4).
__________
(1) سورة المائدة، الآية 2.
(2) سورة الحج، الآية 77.
(3) 7 الذخيرة: القرافي 9/241.
(4) 7 صحيح البخاري، 38 كتاب الحوالة، (1) باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة، ح2287، 3/76.(2/24)
وأخرجه أيضاً عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " ومن أتبع على مليٍّ فليتبع "(1)
__________
(1) المرجع السابق، كتاب الحوالة، (2) باب إذا أحال على مليٍّ فليس له ردّ،ح2288، 3/76. وأخرجه مسلم في صحيحه، 22 كتاب المساقاة، 7 باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة، ح1564 5/493، كما أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب في المطل،ح3145، 3/245، والنسائي في سننه، كتاب البيوع، 101 باب الحوالة، ح4700، 7/338، والترمذي في سننه، كتاب البيوع، 68 باب ما جاء في مطل الغني إنه ظلم، ح1312، 3/53 وللحديث أيضاً عند الترمذي شاهد عن ابن عمر، والشريد بن سويد الثقفي، وابن ماجة في سننه، 15 كتاب الصدقات، 8 باب الحوالة،ح2403، 2/803، ومالك في موطئه، 31 كتاب البيوع، 48 باب جامع الدين والحول،ح84، 2/674، والدارمي في سننه، كتاب البيوع 48، باب في مطل الغني ظلم، ح2582، 2/179، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحوالة، (1) باب من أحيل على مليء فليتبع، ح11387، 6/16، جميعهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج، بلفظ " وإذا أُتبع على مليٍّ "
وأخرجه الحميدي في مسنده ح1062، 2/228، بلفظ " فإذا أتبع.. " مثل البخاري، وفي لفظ أحمد " ومن أحيل على مليٍّ فليحتل " مسند الإمام أحمد، ح9986، 2/610. وأخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ " ومن أحيل على مليء فليتبع " ح8582، 8/308.(2/25)
.
ووجه الدلالة:
أمر صلى الله عليه وسلم المحال الطالب للدين باتباع من أحاله عليه مدينه، والأمر دليل الجواز(1).
ثالثاً: الإجماع:
وقد انعقد الإجماع على مشروعية الحوالة في الجملة وإن اختُلف في فروعها، لحاجة الناس إليها، ودفع الضرر عن المدين، ومستند الإجماع الحديث السالف الذكر(2).
رابعاً: القياس: وهو من وجهين:
الوجه الأول: القياس على الكفالة بجامع المعروف في كلٍ(3).
__________
(1) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171، البحر الرائق: ابن نجيم 6/269.
(2) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171، الذخيرة: القرافي 9/241، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، المغني: ابن قدامة 7/156، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي: سعدي أبو جيب 2/353.
(3) الذخيرة: القرافي 9/241، وقد سبق تعريف الكفالة ص 7 وهي مشروعة بالكتاب كما في قوله تعالى (وأنا به زعيم (سورة يوسف الآية 72، وكذلك ثبتت مشروعيتها بالسنة، كما سيأتي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " الزعيم غارم "، وهي ثابتة أيضاً بالإجماع، المبسوط: السرخسي 19/161.(2/26)
الوجه الثاني: قياس المجموع على آحاده، حيث إن كلاً من الحوالة المقيدة والحوالة المطلقة(1) تتضمن تبرعاً من المحال عليه بالالتزام والإيفاء، وتوكيلاً للمحال بقبض الدين أو العين من المحال عليه، وأمر المحال عليه بتسليم ما عنده من الدين أو العين، وهذه الأمور كلها جائزة عند الانفراد، فكذلك تكون مشروعة عند الاجتماع، بجامع عدم الفرق، وهذا هو قياس الحنفية(2).
خامساً: المعقول:
إن المحال عليه التزم ما يقدر على تسليمه، فوجب القول بصحة التزامه دفعاً للحاجة(3).
المطلب الثاني: حكم قبول المحال للحوالة
أولاً: أقوال الفقهاء:
بعد اتفاق الفقهاء على مشروعية الحوالة، اختلفوا في حكم قبولها من جهة المحال، هل يجب عليه أن يقبلها، أم أن ذلك مندوب، أم هو مباح؟ وذلك على ثلاثة أقوال:
__________
(1) انظر الفرق بين نوعي الحوالة ص20 فما بعد من هذه الرسالة.
(2) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/174.
(3) المرجع السابق 4/171.(2/27)
القول الأول: يجب على المحال قبول الحوالة إذا أحيل على مليء: وهو قول أكثر الحنابلة، وقول الظاهرية(1).
القول الثاني: يُندب للمحال قبول الحوالة إذا أحيل على مليء: وهو قول أكثر الحنفية والمالكية والشافعية(2)، حيث الندب عند الشافعية مشروط بالملاءة، والوفاء، وعدم الشبهة في ماله، فإن تحقق المحال بأن مال المحال عليه حرام، حرمت الحوالة، وإن شك في ذلك كرهت(3).
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/62، المحلى: ابن حزم 8/110، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ابن دقيق العيد 3/139.
(2) 8 البحر الرائق: ابن نجيم 6/269، الذخيرة: القرافي 9/249، حاشية الشرقاوي على التحرير 2/68، وهو قول الزيدية أيضاً، البحر الزخار: ابن المرتضى 6/67.
(3) 8 حاشية الشرقاوي 2/68، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، أسنى المطالب شرح روض الطالب: الأنصاري 2/230.(2/28)
القول الثالث: إن قبول الحوالة في حق المحال مباح: وهو قول بعض الحنفية، والمالكية، والشافعية(1).
ثانياً: منشأ الخلاف: وقد نشأ الخلاف في هذه المسألة من وجهين:
اختلافهم في الأمر الوارد في الحديث: هل هو باقٍ على أصله من الوجوب، أم هناك صارف له؟
تردد الحوالة بين أن تكون بيعاً، أو عقداً مستقلاً، أو استيفاء.
ثالثاً: الأدلة:
1 ـ أدلة القول الأول:
استدل القائلون بوجوب قبول المحال للحوالة إذا أحيل على مليء بالسنة والمعقول:
السنة: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " مطل الغني ظلم، فإذا أُتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع "(2)
وجه الدلالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المحال بالاتباع إذا أحيل على مليء، فيجب عليه قبول الحوالة بنص الحديث، ولا صارف لهذا الأمر عن الوجوب، وعليه فهو باقٍ على أصله(3).
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/369، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/339، الذخيرة: القرافي 9/249، الحاوي: الماوردي 8/91، وهو قول الإباضية، شرح النيل وشفاء العليل: اطفيش 9/381.
(2) سبق تخريجه ص 14.
(3) كشاف القناع: البهوتي 3/374، المحلى: ابن حزم 8/110.(2/29)
المعقول: إن المحيل إما أن يوفّيَ ما عليه من الدين بنفسه، أو بوكيله، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في القبض، كما لو وكل المدين رجلاً في إيفاء الدين(1).
2 ـ أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن قبول الحوالة على المليء مندوب بما يلي:
بما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مطل الغني ظلم، فإذا أُتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع ".
وجه الدلالة: إن الأمر هنا مصروف من الوجوب إلى الندب، والصارف له من وجوه:
حديث " لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه "(2) حيث إن مال الدائن هو الذي في ذمة المحيل، وليس المال الذي يراد إحالته عليه(3).
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/257.
(2) مسند الإمام أحمد ح20722، 5/88، واللفظ له، السنن الكبرى: البيهقي، كتاب قتال أهل البغي، 29 باب أهل البغي إذا فاؤوا لم يُتبع مدبرهم.. ولم يستمتع بشيء من أموالهم، ح16756 8/316، سنن الدار قطني 3/26، وأورده الألباني في إرواء الغليل ح1459، 5/279 وقال صحيح.
(3) مغني المحتاج: الشربيني 2/193.(2/30)
قياس الحوالة على سائر المعاوضات ؛ لأنها لا تخلو عن شوب معاوضة(1).
إن الحوالة معروف ومكرمة من المحال ؛ كالكفالة والقرض وغيرهما، فتكون مندوبة(2)
3 ـ أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بإباحة قبول المحال للحوالة بما يلي:
إن أهل الملاءة قد يكون فيهم اللدد في الخصومة، والمطل في الحقوق، وهو ضرر لا يأمر الشارع بتحمله، بل بالتباعد عنه، واجتنابه، ومَن عُلم منه الملاءة وحسن القضاء، فلا شك أن اتباعه مستحب ؛ لما فيه من التخفيف عن المديون، والتيسير عليه، ومن لا يُعلم حاله فمباح اتباعه(3).
__________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) الذخيرة: القرافي 9/249.
(3) 9 شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/339.(2/31)
إن الحوالة واردة بعد حظر، وهو نهيه عن بيع الدين بالدين(1)، وما جاء بعد الحظر فمباح(2).
رابعاً: المناقشة:
1 ـ نوقشت أدلة القائلين بوجوب قبول المحال إذا أحيل على مليء بالتالي:
إن المقصود من الحوالة إنما هو الاستيفاء، ووجوب قبولها على المحال قد يحول دون الاستيفاء ؛ لأن المحيل قد يحيله على من يؤذيه، ولا يقدر على الاستيفاء منه، ثم إن المحال عليه قد يحيله على آخر كذلك … وهكذا(3).
2 ـ ونوقشت أدلة القائلين بإباحة قبول المحال للحوالة إذا أحيل على مليء بالتالي:
__________
(1) 9 اختلف الأصوليون في الأمر الوارد بعد الحظر: فمنهم من أجراه على الوجوب، ومنهم من أجراه على الإباحة، ومنهم من أجراه على الندب، وقد رجّح الأسنوي الإباحة، ورجّح القاضي البيضاوي الوجوب، وعلى فرض التسليم به، فإنه لا يتعارض مع ما يراه الجمهور من عدم وجوب قبوله، لأنه يصرفه عن الوجوب الوجوه التي ذكرها الجمهور … انظر نهاية السول للأسنوي ومعه بشرح البدخشي 2/34،35، المحصول: الرازي 2/159 ـ 162.
(2) الحاوي: الماوردي 8/91، الذخيرة: القرافي 9/249.
(3) الذخيرة: القرافي 9/249.(2/32)
إن حمل الأمر الوارد في الحديث على الإباحة شاذ مخالف لظاهره الذي يأمر المحال بالإحسان إلى المحيل ؛ وذلك بقبوله الحوالة على غيره، وترك تكليفه التحصيل بالطلب(1).
خامساً: القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو قول الجمهور القاضي بأن قبول الحوالة على مليء مندوب إليه في حق المحال، بالشروط التي ذكرها الشافعية ؛ لما يلي:
إن الأمر الوارد في الحديث الذي ينص على اتباع المليء مصروف عن الوجوب إلى الندب بالوجوه التي ذكرها الجمهور.
إن حمل الأمر على الإباحة مبني على أن الحوالة مستثناة من بيع الدين بالدين، كما أن حمل الأمر على الوجوب مبني على أنها عقد استيفاء، وقد رجحت القول بأنها عقد مستقل.
لأنه يتفق ومقاصد الشريعة من رفع الحرج.
والله أعلم.
المبحث الرابع: أقسام الحوالة
تنقسم الحوالة إلى قسمين: حوالة مقيدة، وحوالة مطلقة، والكلام عنها في مطلبين:
المطلب الأول: الحوالة المقيدة وأنواعها
هي التي قيد الوفاء فيها من مال المحيل الذي في ذمة المحال عليه، وهي على ثلاثة أنواع:
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ابن دقيق العيد 3/199.(2/33)
الحوالة المقيدة بعين هي أمانة: كالوديعة، والعارية، والعين الموهوبة، كأن يقول شخص لآخر: أحلتُ فلاناً عليك بالألف التي له عليّ، على أن تؤديها إليه من الدنانير التي أودعتكها.
الحوالة المقيدة بعين هي مضمونة: كالمغصوب، وبدل الخلع وغيرهما، وهي التي تُضمن بمثلها إن كانت مثلية، أو بقيمتها إن كانت قيمية، كأن يقول شخص لآخر: أحلت فلاناً بالألف التي له عليَّ، على أن تؤديها إليه من الدنانير التي اغتصبتَها مني(1)
الحوالة المقيدة بدين: كأن يقول شخص لآخر أحلت فلاناً عليك بالألف التي له عليّ، على أن تؤديها إليه من الألف التي في ذمتك، أو يقول شخص لآخر أحلتك على فلان لتأخذ دينك عليَ من ديني الذي عليه لي.
__________
(1) حاشية الشرقاوي 2/68، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، أسنى المطالب شرح روض الطالب: الأنصاري 2/230.(2/34)
هذا عند الحنفية(1) ؛ أما عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، فهم لا ينازعون في جواز الحوالة المقيدة بدين ؛ إذ الحوالة عندهم هي التي لابد فيها من وجود دينين: دين للمحال عند المحيل، ويسمى الدين المحال به، ودين للمحيل عند المحال عليه، ويسمى الدين المحال عليه، على أنهم يشترطون ـ كما سيأتي(2) إن شاء الله ـ أن يكون الدين الذي على المحال عليه مساوياً للدين الذي على المحيل في الصفة والجنس والقدر وحلول الأجل ؛ لأنهما إذا اختلفا في أيٍ منها لا يكون حوالة أصلاً(3).
__________
(1) شرح العناية على الهداية: البابرتي بهامش شرح فتح القدير 7/284، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/249، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضي خان 3/74.
(2) انظر ص 75 من هذه الرسالة.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/325، أسنى المطالب: الأنصاري 2/231، شرح منتهى الإرادات: البهوتي، 2/256.(2/35)
أما الحوالة المقيدة بعين، فهي غير جائزة عندهم، سواء كانت أمانة، أو مضمونة، فلو أحال على وديعة، أو مضاربة، أو شركة، أو تركة لا تصح ؛ لأنه لم يحل على دين(1)
رأي الباحث:
إنه لا يوجد خلاف بين الفقهاء في صحة الحوالة على العين في الحقيقة، فإن الحنفية الذين قالوا بجواز تقييد الحوالة بعين لا يعتبرونها في الواقع حوالة، وإنما يعتبرونها توكيلاً من المحيل للمحال بقبض دينه مما له من مال عند المحال عليه، وتوكيلاً أيضاً للمحال عليه بالأداء(2).
وقال الجمهور بجواز أن يقوم مالك العين بتوكيل الدائن في قبضها ممن هي عنده، ثم تسليطه ـ أي الدائن ـ على مِلكها بعد قبضها(3)
ولكن ينبغي الانتباه إلى وجود فرق دقيق بين الحنفية والجمهور في صحة الحوالة على العين، خلاصته:
__________
(1) كشاف القناع: البهوتي 3/372، حاشية الشرقاوي 2/69.
(2) 10 المبسوط: السرخسي 20/53، 54، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173.
(3) 10 حاشية البجيرمي على المنهج 3/51.(2/36)
إن المحال لو قبض العين فتلفت من غير تعدٍ ولا تقصير قبل الوصول إلى المحيل، فإنها تتلف على حسابه عند الحنفية، وتتلف على حساب المحيل عند الجمهور ؛ لأنه مجرد وكيل، ما لم يقُم المحيل بتسليطه على تلك العين.
المطلب الثاني: الحوالة المطلقة
والكلام عن الحوالة المطلقة ضمن فرعين:
الفرع الأول: مفهوم الحوالة المطلقة وخلاف الفقهاء فيها
هي التي يكون الوفاء فيها من مال المحال عليه نفسه، سواء كان للمحيل عين عنده أو دين عليه أم لا، فهي التزام يتعلق بذمة المحال عليه فقط، دون ربط ذلك بشيء آخر، وعلى ذلك فالحوالة المطلقة تكون في صورتين:
إذا لم يكن للمحيل عند المحال عليه دين أو عين ؛ كأن يقول المحيل للدائن: أحلتك بالألف التي لك عندي على فلان، وليس للمحيل عند فلان دين أو عين.(2/37)
إذا كان للمحيل عند المحال عليه دين أو عين، ولكن لم تقيد به: بأن يرسلها إرسالاً كأن يقول للدائن: أحلتك بالألف التي لك عندي على فلان، دون أن يقول له: ليؤديها من الدين الذي لي عليه، أو من العين التي لي عنده، إن كان المحال عليه مديناً للمحيل، أو عنده عين له أمانة أو مضمونة(1).
وهذا نوع من الحوالة قال به فقهاء الحنفية، واستدلوا عليه بأنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع " ولم يفصَل بين ما إذا كان المحال عليه مديناً أم لا، وبين ما إذا كانت مطلقة أم مقيدة(2).
__________
(1) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/247، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173،174، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/74.
(2) البدائع: الكاساني 6/16.(2/38)
أما جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، فهم يمنعون هذا النوع من الحوالة، إذ إنهم يشترطون مديونية المحال عليه للمحيل، وأكثر من ذلك فهم يشترطون تماثل الدينين ؛ دين المحال عليه، ودين المحيل، في الجنس، والصفة والمقدار، والأجل، واستدلوا: بأن الحوالة عقد معاوضة، يتم بين المحيل والمحال، فإذا لم يكن عليه دين للمحيل فلا يكون هناك معاوضة(1).
ثم إن حصلت حوالة على غير مدين برضاه: فقد اختلف المالكية في هذا التصرف، فيرى ابن الماجشون(2) أنه حوالة صحيحة، تترتب عليه أحكامها، بشرط أن يقع بلفظ الحوالة، والذي رجحه المالكية أن هذا
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/59.
(2) ابن الماجشون: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي سلمة الماجشون التيمي بالولاء، أصله من فارس، الماجشون لقب جده أبي سلمة، ومعنى الماجشون المُوّرد ؛ أي ما خالط حمرته بياض، لقب بذلك لحمرة في وجهه، كان عبد الملك فقيهاً مالكياً فصيحاً، دارت عليه الفتيا في زمانه بالمدينة، وعلى أبيه قبله، عميَ آخر عمره، توفي سنة 212هـ. وفيات الأعيان: ابن خلّكان، 3/377، الأعلام: الزركلي، 4/160.(2/39)
التصرف من قبيل الحمالة، وليس من قبيل الحوالة، ولو وقع بلفظها(1).
وعند الشافعية قولان:
القول الأول: يرى عدم صحة الحوالة على غير مدين، وهو الأصح في المذهب، بناء على أن الحوالة بيع ؛ لأن الحوالة من تحول الحق، فلا بد أن يكون الحق واجباً على المحال عليه، كما كان واجباً للمحال(2)، فإن تطوع المحال عليه بالأداء فهو قضاء لدين غيره(3).
القول الثاني: وهو صحة الحوالة على غير مدين، بناء على أن الحوالة استيفاء، وهنا في تكييف هذا التصرف وجهان عندهم:
الأول: إنه حوالة صحيحة تترتب عليه أحكامها، وفي مقدمتها براءة المحيل.
الثاني: إنها ليست من قبيل الحوالة، بل هي من قبيل الضمان ؛ لأن المحيل لا دين له بذمة المحال عليه، وقد تحمل المحال عليه قضاء دينه(4).
ويرى الحنابلة أن هذا التصرف وكالة في اقتراض(5).
القول الراجح:
__________
(1) المنتقى على الموطأ: الباجي5/68، الشرح الصغير: الدردير 4/556.
(2) الحاوي: الماوردي 8/93.
(3) روضة الطالبين: النووي 4/228.
(4) المرجع السابق.
(5) 11 المغني: ابن قدامة 7/59.(2/40)
القول بجواز الحوالة المطلقة كما يرى الحنفية ؛ لما يلي:
إن جمهور الفقهاء الذين منعوا الحوالة المطلقة بنوا رأيهم على أن الحوالة من قبيل البيع، وقد سبق ترجيح القول بأنها عقد مستقل(1).
إن الحديث يأمر باتباع المليء بدون تفصيل بين ما إذا كان المحال عليه مديناً أم لا.
وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل عن ذلك أثناء الحديث عن شرط مديونية المحال عليه للمحيل(2).
الفرع الثاني: أنواع الحوالة المطلقة
تنقسم الحوالة المطلقة عند الحنفية إلى نوعين: حوالة حالّة، وحوالة مؤجلة:
__________
(1) 11 انظر ص13 من هذه الرسالة.
(2) انظر ص 59 من هذه الرسالة.(2/41)
الحوالة الحالّة: وهي أن يكون الدين الذي على المحيل حالاً، فيكون على المحال عليه كذلك ؛ لأن الدين في الحوالة يتحول بالصفة التي كان عليها عند المحيل، كما في الكفالة(1)، وهذا النوع من الحوالة لا ينازع فيه جمهور الفقهاء غير الحنفية(2).
الحوالة المؤجلة: وهي التي يكون الدين الذي على المحيل مؤجلاً، فيحيل على المحال عليه كذلك بذلك الأجل، أو أنه يشترط الأجل في عقد الحوالة(3)، ويشترط أن يكون الأجل معلوماً، وتغتفر فيه الجهالة القريبة ؛ كيوم قبض الراتب مثلاً، قال في البزازية: " لو قبلها بشرط الإعطاء عند الحصاد لا يجبر على الأداء قبل الأجل "(4)، فأفاد صحة الحوالة مع الجهالة اليسيرة.
__________
(1) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/247.
(2) الشرح الصغير: الدردير 5/558، قليوبي وعميرة 2/321، مغني المحتاج: الشربيني 2/195، كشاف القناع: البهوتي 3/375، شرح منتهى الإرادات: البهوتي2/256.
(3) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/174، شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/247.
(4) الفتاوى البزازية بهامش الجزء السادس من الفتاوى الهندية: ابن البزاز الكردي 3/27.(2/42)
وليس للمحال أن يطالب المحال عليه قبل حلول الأجل، أو سقوطه عن المحال عليه بموت أو إسقاط ؛ لأنه رضي بالحوالة بهذا الوصف، على أنه يجوز للمحال عليه أن يُسقط الأجل لتصح حوالة حالّة ؛ لأن الأجل من حق المحال عليه، فيسقط بإسقاطه(1).
المبحث الرابع: أركان الحوالة، وشروط صحتها
لكل عقد من العقود أركان يقوم عليها، وشروط يتوقف ثبوت أحكامه على توافرها، ومن ذلك عقد الحوالة، فله أركان لا ينشأ بدونها، وشروط يتوقف وجوده الشرعي عليها، وقد ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن أركان الحوالة ثلاثة:
الصيغة (الإيجاب والقبول).
الأطراف: المحيل، والمحال، والمحال عليه.
المحل (وهو المال المحال به، والمال المحال عليه).
__________
(1) المبسوط: السرخسي 20/71.(2/43)
وذكروا أن لكل ركن شرائطه التي لا بد منها لصحة الحوالة، وترتب أحكامها عليه(1)، وخالفهم في تلك الأركان الحنفية، إذ إن ركن الحوالة عندهم هو الصيغة، وما سواها فشروط لازمة للركن، وليست أركاناً(2)، جرياً على مذهبهم في العقود(3)
__________
(1) حاشية الدسوقي 2/325، البهجة شرح التحفة 2/55، روضة الطالبين: النووي 4/228، مغني المحتاج: الشربيني: 2/193 المبدع في شرح المقنع: ابن مفلح 4/370.
(2) البدائع: الكاساني 6/15.
(3) 12 ومنشأ الخلاف بينهم هو أن جمهور الفقهاء يرون أن كل ما يقوم به الشيء فهو ركن، سوءا كان داخلاً في الماهية أم خارجاً عنها، والأمور الثلاثة: الصيغة والأطراف والمحل، لا يتصور قيام العقد، ولا ترتب أحكامه إلا بتوافرها، ولهذا كانت أركاناً عندهم.
في حين يرى الحنفية أن ركن الشيء هو ما يتوقف عليه وجوده، بحيث يكون د\خلاً في ماهيته، بخلاف الشرط، فإنه مع توقف الوجود عليه يكون خارجاً عن الحقيقة والماهية، ومن أجل ذلك اعتبروا الإيجاب والقبول ركن العقد فقط، لتوقف الوجود عليه مع دخوله في الماهية.
أما العاقدان والمحل فجعلوهما شرطين للركن لا ركنين ؛ لأنهما أمران خارجان عن الماهية، وعلى ذلك فالخلاف لفظي والحقيقة واحدة، ولا مشاحة في الاصطلاح. التعريفات: الجرجاني ص149، شرح التلويح على التوضيح: التفتازاني 2/131، الفقه الإسلامي وأدلته: وهبة الزحيلي 4/92.(2/44)
وقد آثرت في هذا المبحث السير على منهج الجمهور ؛ لكونه أكثر ملاءمة لغرض تنسيق مسائله، وترتيب جزئياته، وتنظيم عرض أفكاره، وذلك على ثلاثة مطالب ؛ كالتالي
المطلب الأول: الصيغة
ركن الصيغة هو أهم أركان الحوالة، وتحقيق الكلام عنه في ثلاثة فروع كالتالي:
الفرع الأول: الرضا.
الفرع الثاني: دليل الرضا (الإيجاب والقبول).
الفرع الثالث: اقتران الحوالة بالشروط.
الفرع الأول: الرضا
الرضا في اللغة: ضد السخط(1).
وهو في الاصطلاح: قصد الشيء دون أن يشوبه إكراه، والقصد: هو العزم على إنشاء التزام(2).
وإذا كانت الحوالة عقداً لا يتم إلا بوجود أطراف ثلاثة، فهل تتوقف صحتها على توافر رضا هذه الأطراف؟ وإذا كان لا بد من توافر رضا الأطراف، فما هو تأثير إكراه أحد الأطراف عليها؟ تحقيق الأحكام في ذلك كالتالي:
الحكم الأول: رضا المحيل:
أولاً: أقوال الفقهاء:
__________
(1) 12 لسان العرب: ابن منظور 2/1663.
(2) مبدأ الرضا في العقود: علي محيي الدين القره داغي 1/194 وما بعدها، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد ص140.(2/45)
اختلف الفقهاء في اشتراط رضا المحيل بالحوالة على قولين:
القول الأول: يرى أن رضا المحيل شرط لصحة الحوالة: وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، وقول بعض الحنفية في رواية القدوري(1)، وقد نقل ابن قدامة عدم
المخالفة في ذلك(2).
__________
(1) القدوري: أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر، الفقيه البغدادي، المعروف بالقدوري، فقيه حنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، من تصانيفه: المختصر في فقه الحنفية، والتجريد، وهو يشتمل على الخلاف بين الشافعية والحنفية، وُلد في العراق، وتوفي فيها سنة 428 هـ. انظر: الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية: عبد القادر أبي الوفاء القرشي الحنفي 1/247، وفيات الأعيان: ابن خلّكان 1/78، 79، الأعلام: الزركلي 1/212.
(2) الشرح الصغير: الدردير 5/555، قليوبي وعميرة 2/319، الإنصاف: المرداوي 5/227، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/240، المغني: ابن قدامة 7/56.(2/46)
القول الثاني: يرى أن رضا المحيل ليس شرطاً لصحة الحوالة: وهو معتمد الحنفية في رواية محمد بن الحسن في الزيادات(1).
ثانياً: الأدلة:
أ ــ أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن رضا المحيل شرط لصحة الحوالة بما يلي:
إن الدين قد لزم المحيل، فالواجب عليه أن يؤديه لا أن ينقله، ولا يكون نقل إلا برضاه(2).
إن الحق ثابت في ذمته مرسلاً، فهو مخير في جهات القضاء، إن شاء أدّاه بنفسه، وإن شاء أدّاه بواسطة المحال عليه، فلا يتعين عليه قضاؤه من محل بعينة(3).
إن ذوي المروءات قد يأنفون أن يتحمل غيرهم دينهم، فلا يقبلون من أحد مِنّة عليهم، لذا كان لابد من رضا المحيل(4).
ب ــ أدلة القول الثاني:
__________
(1) شرح فتح القدير: ابن الهمام، وشرح العناية على الهداية: البابرتي 7/240، والزيادات هو كتاب في فروع الحنفية للإمام محمد بن الحسن الشيباني، المتوفى سنة 189هـ.
(2) الحاوي: الماوردي 8/91.
(3) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/240، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، كشاف القناع: البهوتي 3/274
(4) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/240.(2/47)
واستدل القائلون بأن رضا المحيل ليس شرطاً بالآتي:
إن قضاء دين الحوالة التزام من المحال عليه، يعتبر تصرفاً في حق نفسه، ولا يترتب عليه ضرر للمحيل ؛ بل فيه نفع له ؛ لأن ذمته تبرأ بذلك من الدين، ولا يرجع عليه المحال عليه بعد الأداء ما لم تكن بأمره، ولا يسقط دينه إن كان له دين عند المحال عليه(1).
مناقشة رأي ابن قدامة:
وقد عقب ابن الهمام على ابن قدامة في نقله عدم الخلاف في اشتراط رضا المحيل بأنه غير صحيح، فقد تصح الحوالة بدون رضاه، وصورتها: " أن يقول رجل لصاحب الدين لك على فلان بن فلان ألف فاحتل بها عليَّ، فرضي الطالب وأجاز "(2).
ثالثاً: القول الراجح:
والذي أره راجحاً أنه لا بد من اشتراط رضى المحيل ؛ لدليلين:
__________
(1) المرجع السابق، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/240.
(2) 13 شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/240.(2/48)
إن الدين الثابت في ذمة المحيل لا سلطة توجد عليه لغيره وصاحب الحق، فلا بد من رضاه، أما الصورة التي ذكرها ابن الهمام وهو يعقب على ابن قدامة فهي ما صحت حوالة إلا بمحيل وهو القائل: (احتل بها عليَّ) بدليل أن المحال لا بد أن يقول: (قبلت)، وعلى فرض التسليم بأنه لا محيل بناء على أن المراد بالمحيل من يكون عليه دين، فهي ليست بحوالة، وإنما تكون حمالة.
لإمكان الجمع بين الرواية التي تقضي باشتراط رضاه والأخرى التي تقضي بعدم اشتراط رضاه، بأن الحوالة إن كان ابتداؤها من المحيل ـ بأن يتم الاتفاق بين المحيل والمحال ـ فهي فعل اختياري، فلا يتصور بدون رضاه، وهو مَحمل رواية القدوري وإن لم يكن ابتداؤها من المحيل ـ بأن يتم الاتفاق فيها بين المحال والمحال عليه ـ تكون احتيالاً يتم بدون إرادة المحيل، وبإرادة المحال عليه، ورضاه، وهو مَحمل رواية الزيادات
قال الزيلعي: " إنما يشترط رضاه ـ المحيل ـ للرجوع عليه أو ليسقط دينه "(1)
الحكم الثاني: رضا المحال:
أولاً: أقوال الفقهاء:
__________
(1) 13 تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171، شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/240.(2/49)
اختلف الفقهاء في اشتراط رضا المحال في الحوالة على قولين:
القول الأول: يرى أنه لا بد من اشتراط رضا المحال، سواء أحيل على مليء، أم على غيره، وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأحمد في راوية(1).
القول الثاني: يرى أن رضا المحال ليس شرطاً في صحة الحوالة إذا أحيل على مليء، بل يجب عليه قبولها: وهو قول الحنابلة، والظاهرية، ولكن إذا أحيل على غير مليء فالحنابلة يشترطون رضاه، ولا يقولون ببطلان الحوالة، والظاهرية يخالفونهم في ذلك، ويقولون ببطلان الحوالة في هذه الحالة(2).
ثانياً: منشأ الخلاف:
محل الخلاف في هذه المسألة هو: هل الحوالة نقل للدين، أم إنها تقبيض؟ فمن قال إنها نقل لا يعتبر قبول المحال، ومن قال إنها تقبيض اشترط القبض بالقول، وهو قبول المحال(3).
__________
(1) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171، الذخيرة: القرافي 9/243، مغني المحتاج: الشربيني 2/193، الإنصاف: المرداوي 5/227.
(2) كشاف القناع: البهوتي 3/274، الإنصاف: المرداوي 5/227، المحلى: ابن حزم 10/108، نيل الأوطار: الشوكاني 5/356.
(3) الإنصاف: المرداوي 5/228.(2/50)
ثالثاً: الأدلة:
أ ــ أدلة القول الأول:
استدل القائلون باشتراط رضا المحال بالسنة والمعقول:
السُّنة:
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: " إن لصاحب الحق يداً ومقالاً "(1).
وجه الدلالة:
إنه نصٌّ في أن صاحب الحق يعتبر قوله، والمحال هنا هو صاحب الحق، فيعتبر قوله ورضاه(2).
__________
(1) لم أجد فيما اطلعت عليه حديثاً بهذا اللفظ " إن لصاحب الحق يداً ومقالاً "، ولكن الذي وجدته بلفظ " إن لصاحب الحق مقالاً "، وهو ضمن حديث طويل، رواه البخاري، ومسلم، ونصه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً، ثم قال: أعطوه سناً مثل سنّه، قالوا يا رسول الله: لا نجد إلاّ أمثل من سنّه؟ فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء " صحيح البخاري، كتاب الوكالة، 6 باب الوكالة في قضاء الديون، ح2306، 3/85، صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 22 باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه،ح 1601، 3/1224.
(2) الحاوي: الماوردي 8/91.(2/51)
قوله صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤدّي "(1).
وجه الدلالة: يدل هذا النص على ثبوت الحق في ذمة المدين حتى يؤديه، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضا صاحبه، وهو هنا المحال(2).
المعقول: وهو من وجهين:
الأول: إن المحال هو صاحب الحق، وتختلف عليه الذمم باختلاف الناس في الإيفاء، فمنهم من يماطل مع القدرة، ومنهم من يوفّي ناقصاً، ومنهم من هو بالعكس، فتتأثر بذلك قيمة الدين، فلا سبيل لإلزامه بتحمل ضرر لم يلتزمه، فلا بد من رضاه(3).
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في تضمين العارية، 3/294، ح3561، سنن الترمذي، كتاب البيوع، 39، باب ما جاء أن العارية مؤداة، ح 1270، 3/34، وقال هذا حديث حسن صحيح.
(2) إعلاء السنن: التهانوي 7/514.
(3) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171، درر الحكام: علي حيدر 2/23.(2/52)
الثاني: إن حق المحال قد تعلق بذمة المحيل، فلا يملك أحد نقله إلى ذمة غيره إلا برضاه، بالقياس على ما لو تعلق حقه بعين، وأراد المدين نقله إلى عين مثلها، فإنه لا يجبر على ذلك، فكذلك هنا من باب أولى ؛ لأنه إذا أعطاه عيناً بدل حقه، فقد أوفاه الحق بدون أن يقف على شيء آخر، وإذا أحاله فما أوفاه، لأنه لم يتوصل إلى حقه بعد، فإذا كان لا يجبر في الموضع الذي يكون فيه إيفاء الحق، فأولى أن لا يجبر في الموضع الذي لا يكون فيه إيفاء الحق(1).
ب ــ أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن رضا المحال ليس شرطاً إذا أحيل على مليء بالسنة والمعقول:
السنة: قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع "(2)
وجه الدلالة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المحال بالاتباع إذا أحيل على مليء، فيجب عليه أن يقبل الحوالة بنص الحديث الشريف، ولا صارف لهذا الأمر عن الوجوب، فيكون رضاه غير معتبر(3). صلى الله عليه وسلم
المعقول:
__________
(1) 14 الحاوي: الماوردي 8/91.
(2) 14 سبق تخريجه ص 11 من هذه الرسالة.
(3) كشاف القناع: البهوتي 3/274، شرح الزركشي على مختصر الخرقي 4/113، المحلى: ابن حزم 8/108.(2/53)
إن للمحيل أن يوفي ما عليه من الحق بنفسه، أو بمن يقوم مقامه (بوكيله)، وقد أقام المحال عليه مقامه في إيفاء الحق، وإقباضه للمحال، فصار كما لو وكّل المدين رجلاً في إيفاء الحق له(1).
رابعاً: المناقشة:
1 ـ نوقشت أدلة القائلين باشتراط رضا المحال بالحوالة بالتالي:
بالنسبة لدليل المعقول الثاني، وهو قياس الرضا في الحوالة على الرضا بنقل الحق إلى العين، فإنه قياس مع الفارق ؛ لأنه في هذه الحالة بعينها إذا أراد أن يعطيه عرَضاً فإنه سيعطيه غير الواجب له، لذلك اشتُرِطَ رضاه، في حين أن الدائن في الحوالة سيحصل على مثل حقه، فلا يشترط رضاه(2).
2 ـ نوقشت أدلة القائلين بأن رضا المحال ليس بشرط من وجهين:
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/63، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/257.
(2) المرجعان السابقان.(2/54)
بالنسبة لدليل السنة: فإن الأمر الوارد فيه ليس على ظاهره من الوجوب، بل هو مصروف إلى الندب أو الإباحة، والدليل على ذلك رواية البخاري وغيره الواردة (بالفاء) " فإذا أُتبع "، والتي تفيد بأن الأمر في قبول الحوالة للملاءة، حتى يحترز عن الظلم والغرر، وفي ذلك يقول ابن الهمام في شرح فتح القدير:
" وقد يروى فإذا أحيل بالفاء، فيفيد أن الأمر بالاتباع للملاءة ؛ على معنى أنه إن كان مطل الغني ظلماً ؛ فإذا أحيل على مليء فليتبع ؛ لأنه لا يقع في الظلم "(1) حيث إنه قد يكون المحال عليه أشد تقتيراً، ومماطلة من المحيل، فيكون إلزام المحال بقبول الحوالة ضرراً، وشريعة الله ـ تعالى ـ لا تأمر به(2).
بالنسبة لقياسهم المحال على الوكيل بالقبض: فهو قياس مع الفارق ؛ لأن المحال إذا قبل الحوالة فقد أصبحت لازمة عليه، ولا يرجع على المحيل، بخلاف الوكيل(3).
خامساً: القول الراجح:
__________
(1) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/239.
(2) شرح الزرقاني على موطأ مالك 3/412
(3) الذخيرة: القرافي 9/243.(2/55)
يبدو لي أن الراجح هو القول الأول الذي يشترط رضا المحال حتى تصح الحوالة؛ وذلك لقوة أدلة القائلين به، ولأنه صاحب الحق فلا بد من رضاه حتى لا يقع الضرر عليه، والله تعالى أعلم.
الحكم الثالث: رضا المحال عليه:
أولاً: أقوال الفقهاء:
المحال عليه قد يكون مديناً للمحيل أو لا يكون كذلك، فإن كان المحال عليه غير مدين للمحيل فقد اشترط الحنفية رضاه لصحة الحوالة عليه ؛ لأنه بالحوالة يلتزم بأداء دين، ولا يكون هناك التزام أو لزوم بدون رضاه، وهذا الشرط موجود عند كل من يصحح الحوالة على غير مدين(1).
أما إذا كان المحال عليه مديناً للمحيل، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط رضاه على قولين:
__________
(1) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/240، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/5، روضة الطالبين: النووي 4/228، الشرح الصغير: الدردير 4/556، الإنصاف: المرداوي 5/227.(2/56)
القول الأول: يرى أن رضا المحال عليه ليس شرطاً في صحة الحوالة: وهو قول الحنابلة، والأصح عند الشافعية(1)، والمشهور عند المالكية، إلا أنهم قيدوا قولهم بما إذا لم يكن بينه وبين المحال عداوة سابقة، فعندئذٍ لا بد من رضاه، وإن حدثت العداوة بين المحال والمحال عليه بعد الحوالة، فيمتنع المحال من اقتضاء الدين من المحال عليه بنفسه، بل يوكل من يقبضه عنه(2).
القول الثاني: يرى أن رضا المحال عليه شرط في صحة الحوالة: وهو قول الحنفية
__________
(1) كشاف القناع: البهوتي 3/274، المهذب: الشيرازي 1/338، الحاوي: الماوردي 8/91، 92، مغني المحتاج: الشربيني 2/194.
(2) 15 الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/325.(2/57)
ما عدا الجرجاني(1)، وبعض المالكية، وبعض الشافعية(2).
ثانياً: منشأ الخلاف:
وسبب الخلاف هنا هو: تردد الحوالة بين أن تكون عقد بيع أو عقداً مستقلاً أو استيفاء.
ثالثاً: الأدلة:
أ ــ أدلة القول الأول:
استدل القائلون بعدم اشتراط رضا المحال عليه بالسنة، والمعقول كالتالي:
السنة: قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع "(3).
وجه الدلالة: إن الأمر في الحديث موجه إلى المحال بالاتباع بدينه على المحال عليه، ولم ينص على رضا المحال عليه، فدل على عدم اشتراط رضاه(4).
__________
(1) 15 علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، من كبار علماء العربية، ولد في تاكو قرب استراباد، ودرس في شيراز، وأقام بها إلى أن توفي سنة 816هـ، وله نحو خمسين مصنفاً، منها التعريفات، وشرح المواقف للإيجي. الأعلام: الزركلي 5/7.
(2) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/240، درر الحكام: علي حيدر 2/22، حاشية الخرشي، 6/16 الحاوي: الماوردي 8/91
(3) سبق تخريجه ص 11 من هذه الرسالة.
(4) الذخيرة: القرافي 9/243، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5/395.(2/58)
المعقول: وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: إنها تصرف في مملوك، فلا يعتبر رضا المملوك عليه، بالقياس على التصرف في الرهن، أو بالقياس على التصرف في رق العبد بالبيع وغيره، في عدم اعتبار رضاه(1).
الثاني: لأن المحيل إما أن يستوفي حقه من المحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه، فلزم المحال عليه أن يدفع له، بالقياس على ما لو وكّل شخصاً غيره باستيفاء الدين فيلزم الدفع إليه(2).
الثالث: قياس الحوالة على الإبراء ؛ بجامع أن كلاً منهما تصرف تبرأ به ذمة المدين، فلما لم يكن رضا المبرأ معتبراً في صحة البراءة، كذلك لم يكن رضا المحال عليه معتبراً في صحة الحوالة(3).
ب ــ أدلة القول الثاني:
استدل القائلون باشتراط رضا المحال عليه لصحة الحوالة بالمعقول من ثلاثة أوجه:
__________
(1) الذخيرة: القرافي، 9/243، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5/395، الحاوي: الماوردي 8/92.
(2) المراجع السابقة، كشاف القناع، البهوتي 3/274.
(3) الحاوي: الماوردي 8/92.(2/59)
الأول: إن المحال عليه هو أحد من تتم بهم الحوالة، فاشترط رضاه كما اشترط رضا المحيل والمحال ؛ لأن من كان وجوده في الحوالة شرطاً كان رضاه كذلك(1).
الثاني: إن في الحوالة إلزاماً للمحال عليه بدفع الدين للمحال، والناس بطبيعة الحال متفاوتون في المعاملة بين صعب وسهل، فقد يكون المحال سيئ الخلق، صعباً في الاقتضاء، وقد يكون بالعكس، فلا بد من توقف الحوالة على رضا المحال عليه ؛ كي لا يقع عليه ضرر(2).
الثالث: إن الدين قد تعلق بالذمة أصلاً، وبالرهن فرعاً، فلما لم يكن لصاحب الدين أن يولي الرهن إلى غيره، فمن باب أولى ألا يكون له أن يولي الدين إلى غيره(3).
رابعاً: المناقشة:
1 ـ نوقشت أدلة القائلين بعدم اشتراط رضا المحال عليه من ثلاثة وجوه:
__________
(1) المهذب: الشيرازي 1/338، الحاوي: الماوردي 8/91.
(2) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/171.
(3) 16 الحاوي: الماوردي 8/91.(2/60)
بالنسبة لاستدلالهم بقياس التصرف بدين الحوالة على التصرف في رق العبد: فيمكن الاعتراض عليه بأنه قياس مع الفارق ؛ لأنه يترتب على التصرف بالدين بالحوالة إلزام المحال عليه بالأداء إلى المحال، بخلاف التصرف في العبد فلا يترتب عليه إلزام العبد بشيء.
بالنسبة لاستدلالهم بقياس الحوالة على الوكالة بالقبض: فهو لا يستقيم ؛ لأن التوكيل بالقبض ليس تصرفاً بنقل الدين إلى الوكيل ابتداءً، إنما هو تصرف بأداء الدين إلى الوكيل، فلا يشترط رضاه، بخلاف التحويل فإنه تصرف بنقل الدين إليه ـ أي: المحال عليه ـ فيشترط رضاه(1).
بالنسبة لاستدلالهم بقياس الحوالة على البراءة: فيمكن الاعتراض عليه بأنه قياس بعيد؛ لأن الإبراء كما بينت سابقاً إسقاط للدين، فلا يشترط فيه رضا المُبزَأ، بخلاف الحوالة فإنها تصرف بنقل الحق إلى المحال عليه، فيشترط رضاه(2).
2 ـ نوقشت أدلة القائلين باشتراط رضا المحال عليه من ثلاثة وجوه:
__________
(1) 16 البدائع: الكاساني 6/15، 16.
(2) انظر ص 8 من هذه الرسالة.(2/61)
إن قياس المحال عليه على كلٍ من المحال والمحيل: قياس مع الفارق ؛ لأن المحيل في عقد الحوالة مالك، والمحال مالك أيضاً، في حين أن المحال عليه ليس بمالك ؛ بل ذمته مملوكة للمحيل، فلذا كان رضاهما معتبراً، ورضاه غير معتبر(1).
أما قولهم بأن الحوالة إلزام له بدفع الدين للمحال، وقد يكون المحال سيئ الخلق، فيقع الضرر على المحال عليه: فلا اعتبار له، قياساً على الوكيل، فإذا وكل المحيل شخصاً ليقبض له الدين من مدينه، فإنه لا يشترط رضا المدين بهذا التوكيل(2).
أما قولهم بأن الدين قد تعلق بالذمة أصلاً وبالرهن فرعاً: فيُعترض عليه بأن المرتهن لما لم يملك الرهن فليس له أن يتصرف فيه بالحوالة، بخلاف المحيل فإنه لما ملك الدين الذي عند المحال عليه، جاز له أن يتصرف فيه بالحوالة(3).
خامساً: القول الراجح:
الذي أراه راجحاً هو القول الثاني، وهو اشتراط رضا المحال عليه لصحة الحوالة، وذلك لدليلين:
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/91.
(2) الحاوي: الماوردي 8/92.
(3) المرجع السابق.(2/62)
الدليل الأول: إنه ربما يكون صاحب الدين (المحيل) أسهل اقتضاءً، وأيسر معاملة، وأسمح قبضاً، فلا يرضى مَن عليه الدين بمعاملة غيره ؛ لأنه بخلاف معاملته.
الدليل الثاني: على فرض التسليم بعدم الضرر فربما يضع المحال عليه العراقيل في وجه المحال.
الحكم الرابع: أثر الإكراه(1) على الرضا في الحوالة:
لما كان الرضا لا بد من تحقيقه في أطراف الحوالة على النحو السابق بيانه، كان لابد من وقوعه حراً طليقاً، دون أن يشوبه أيّ إكراه حتى يكون سليماً، فإن انتفى هذا الشرط، وحل الإكراه محله، فقد اختلف الفقهاء في أثر ذلك على الحوالة، وذلك على ثلاثة أقوال كالتالي:
__________
(1) الإكراه في اللغة: حمل الغير على ما يكرهه قهراً، يُقال: أكرهته على الأمر إكراهاً: حملته عليه قهراً. المصباح المنير: الفيومي، ص274، وفي الشرع: حمل الغير على ما لا يرضاه من قول أو فعل، ولا يختار مباشرته لو تُرك ونفسه، ومحل الإكراه هنا إذا كان بغير حق … التقرير والتحبير: ابن أمير الحاج 2/206.(2/63)
القول الأول: إن الإكراه يجعل الحوالة فاسدة(1): وهو قول الحنفية عدا زفر ؛ لأن الحوالة إبراء فيه معنى التمليك، فيفسد بالإكراه ؛ ومعنى ذلك أن الحوالة تنعقد لوجود الصورة والمحل، لكنها فاسدة لعدم تحقق الرضا، وعلى هذا فيمكن تصحيحها بأن يُجيزها المُستَكرَه، ويرضى بها، ومع ذلك فلكلٍ منهما حق الفسخ ؛ لأن العقد الفاسد ضعيف(2).
__________
(1) فرّق الحنفية بين العقد الباطل والعقد الفاسد: فالباطل هو: ما لم يُشرع بأصله ولا بوصفه ؛ بأن كان الخلل بأصل العقد، والفاسد: ما كان أصله مشروعاً، ولكنه امتنع لوصف عارض ؛ بأن كان الخلل فيه بوصف من أوصافه… كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي، لعبد العزيز البخاري 1/258 فما بعد.
(2) البدائع: الكاساني 6/16(2/64)
القول الثاني: إن الإكراه يجعل الحوالة موقوفة على إجازة المُستَكرَه بعد زوال الإكراه: أي أنها غير لازمة، وهو قول زفر، وقول المالكية ؛ لأن الإكراه إنما يُخلّ بحق المُستَكرَه ومصلحته فيكفي جعل العقد موقوف النفاذ على رضاه بعد زوال الإكراه(1).
القول الثالث: إن الإكراه يجعل الحوالة باطلة: وهو قول الشافعية ؛ والحنابلة لأن الرضا عندهم شرط انعقاد، والرضا والاختيار معنيان متلازمان، فلا وجود لأحدهما دون الآخر(2).
القول الراجح:
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3/6، الحوالة في الفقه الإسلامي: محمد زكي عبد البر، حولية كلية الشريعة بجامعة قطر، العدد الرابع، ص 480، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: مصطفى الزرقا 1/372.
(2) 17 هذا الحكم عند كل من الشافعية والحنابلة من الأحكام العامة. انظر مغني المحتاج: الشربيني 2/7، كشاف القناع: البهوتي 3/139.(2/65)
والذي أراه أن الراجح هو قول زفر والمالكية، من أن الإكراه يجعل الحوالة موقوفة في حق المُستَكرَه، بعد زوال الإكراه ؛ لأن المُستَكرَه بعد زوال الإكراه قد يرى أن ما استُكرِهَ عليه لا يتنافى مع مصلحته، بل ربما يكون راغباً ضمناً في إجراء العقد.(2/66)
الفرع الثاني: دليل الرضا (الإيجاب والقبول)
لما كان الرضا ـ الذي هو أساس في عقد الحوالة ـ أمراً خفياً، وضميراً قلبياً، اقتضت الحكمة وجود ضابط يُستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول، الدالان على الرضا(1)
__________
(1) اختلفت نظرة الفقهاء للإيجاب والقبول على قولين:
القول الأول: يرى أن الإيجاب ما صدر أولاً من أحد العاقدين، والقبول ما صدر ثانياً من المتعاقد الثاني، وهو قول الحنفية.
القول الثاني: يرى أن الإيجاب هو: ما صدر ممن يكون منه التمليك، سواء كان أولاً أو ثانياً، أما القبول فهو ما صدر ممن يصير إليه الملك على رضاه بما أوجبه الطرف الآخر، سواء أولاً أو ثانياً، وهو قول جمهور الفقهاء.
القول الراجح: ويبدو لي أن الراجح هو القول الأول الذي يرى أن الإيجاب هو ما صدر أولاً، لدقته، وسهولته في التمييز بين الإيجاب والقبول، وهذا التيسير أولى بالاتباع في معاملات الناس.. انظر مبدأ الرضا في العقود: القره داغي 1/126.(3/1)
، وعلى رغبة كل طرف في الالتزام بالتصرف، سواء كان ذلك باللفظ أو الكتابة، أو الإشارة؛ ذلك لأن النية المجردة لا تستطيع إنشاء العقود، وترتيب الآثار عليها، مادامت كامنة في النفس، لم يُعبر عنها بأي الوسائل الدالة على الرضا.
وتطبيق ذلك في الحوالة يقع في ثلاث مسائل على النحو التالي:
المسألة الأولى: انعقاد الحوالة باللفظ:
أولاً: عند الحنفية:
يرى الحنفية أن الحوالة في الأصل تنعقد بإيجاب وقبول:
الإيجاب من المحيل: وهو أن يقول للمحال: " أحلتك على فلان ".
القبول من المحال والمحال عليه: وهو أن يقول كل واحد منهما: " قبلت، أو رضيت "، أو نحو ذلك مما يدل على الرضا(1). إلا أنه يكفي في انعقادها أن يجري الإيجاب والقبول بين اثنين من أطرافها الثلاثة، مع غياب الطرف الثالث، بدون تحديده، ولكنها قد تنعقد ناجزة أو موقوفة على إجازته على النحو التالي:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/15.(3/2)
إذا جرى الإيجاب والقبول بين المحال والمحال عليه: في هذه الحالة كان الطرف الغائب هو المحيل، فتنعقد الحوالة ناجزة، دون توقف على رضاه أو قبوله، ومثال ذلك: أن يقول المحال للمحال عليه: خذ عليك حوالة ديني البالغ ألف دينار عند فلان فيقبل أو يقول للمحال: لك على فلان ألف دينار، فاحتل بها عليَّ، فيقول: قبلت.
إذا جرى الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال: كان الطرف الغائب هو المحال عليه، فتنعقد الحوالة موقوفة على إجازته، فإن قبلها تكون صحيحة تامة، وإن لم يقبلها، بأن ردّها، أو مات قبل الحصول على قبوله ورضاه، تكون باطلة، ومثال ذلك: أن يقول المحيل للمحال: " أحلتك على فلان " فيقبل، أو يقول المحال للمحيل: " أحلني على فلان " فيقول: " أحلتك ".
إذا جرى الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال عليه: وكان الطرف الغائب هو المحال، كما لو قال المحيل للمحال عليه: " خذ عليك حوالة الدين الذي عليَّ لفلان " فيقبل، أو يقول المحال عليه للمحيل: " أحِل عليَّ فلاناً بدينه عليك " فيقول: " قبلت أو فعلت "، وفي هذه الصورة قولان للحنفية.(3/3)
الأول: يرى أبو يوسف أنها تنعقد موقوفة على إجازة المحال، فإن قبل تكون الحوالة نافذة، وإلا فتنفسخ الحوالة.
الثاني: ويرى أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ـ رحمهما الله ـ أن الحوالة في هذه الحالة لا تنعقد أصلاً ؛ لأن قبول المحال في المجلس شرط انعقاد، وهو المصحح في المذهب(1).
وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية في م 683 برأي أبي يوسف ؛ بأنها تنعقد موقوفة على قبول المحال(2)، وهذا الرأي هو الأرفق بالناس في معاملاتهم والله أعلم.
ثانياً: عند جمهور الفقهاء غير الحنفية:
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/268، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/6، البدائع: الكاساني 6/16.
(2) درر الحكام: علي حيدر 2/22.(3/4)
يرى المالكية والشافعية وبعض الحنابلة أن الإيجاب والقبول لا بد أن يجريا بين المحيل والمحال على التعيّن، دون رضا المحال عليه(1)، وإن اشترط بعض المالكية حضوره وإقراره بالدين في مجلس العقد ؛ لاحتمال أن يبدي مطعناً في البيّنة إذا حضر، أو يثبت براءته من الدين ببينة على الدفع أو على إقراره(2).
ويرى أكثر الحنابلة أنه يكفي الإيجاب (وحده) من المحيل إذا كانت الإحالة على مليء، دون حاجة إلى قبول أو رضا من المحال، أو من المحال عليه(3).
القول الراجح:
والذي أراه راجحاً هنا هو ما يراه الحنفية من أنه يكفي أن يجري الإيجاب والقبول (الاتفاق) بين اثنين من أطرافها لانعقادها ؛ إما ناجزة كما في الصورة الأولى، أو متوقفة على إجازة الثالث كما في الصورتين الأخريين، وذلك لما يلي:
إنه يتفق مع ما سبق ترجيحه من اشتراط رضا الأطراف الثلاثة(4).
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/325، حاشية الباجوري 2/638، الإنصاف: المرداوي 5/227.
(2) الشرح الصغير: الدردير 4/556، حاشية الخرشي 6/16.
(3) شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/256.
(4) انظر ص29، 33، 36 من هذه الرسالة.(3/5)
إن حصر الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال فيه تضييق على الناس، والأصل في مثل هذه المعاملات ـ والتي ما زالت من أهم حاجات الناس في هذا العصر ـ التوسيع على الناس وعدم التضييق.
المسألة الثانية: صحة الحوالة بكل ما يدل عليها:
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول:
يرى صحة انعقاد الحوالة بكل ما يدل على معناها ـ كما في سائر العقود ـ وعدم تعيين الحوالة بألفاظ خاصة، طالما أن العبارة تدل على الحوالة دلالة واضحة، وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وجمهور المالكية ؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني(1)، لذا قالوا: إن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط ألاّ يبرأ الأصيل كفالة(2)، فتنعقد الحوالة بكل ما يدل على معناها: كأحلتك، وأتْبَعتُك، وجعلت ما استحققته على فلان لك بحقك، أو ملكتك الدين الذي عليه بحقك عليّ، أو غير ذلك من الألفاظ التي تدل على
__________
(1) أعلام الموقعين: ابن القيّم 3/107، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: الزرقا 1/320.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/271، الفتاوى الهندية 3/305، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/19.(3/6)
معنى الحوالة(1).
القول الثاني:
يرى أن الحوالة لا تنعقد إلا بلفظها، أو ما اشتُقَّ منها دون بديل: وهو لبعض المالكية(2)، كما يرى الشافعية والحنابلة عدم انعقاد الحوالة بلفظ البيع، وقيل عند الشافعية تنعقد اعتباراً بالمعنى، والقياس على البيع بلفظ السلم(3).
القول الراجح:
والراجح عندي هو أن الحوالة تنعقد بأي لفظ يدل على معناها، طالما أنه لم يرد عن الشارع نص يحدد ألفاظاً يجري بها التعاقد، وإنما الحكم في ذلك للعرف والعادة، لأن العادة محكّمة(4).
المسألة الثالثة: انعقاد الحوالة بالكتابة والإشارة:
__________
(1) 1 البدائع: الكاساني 6/15، البحر الرائق: ابن نجيم 6/268، حاشية الدسوقي 3/226، حاشية الشرقاوي 2/69، الفروع: أبو عبد الله ابن مفلح 4/255.
(2) 1 مواهب الجليل: الحطاب 5/92، حاشية الخرشي 6/17، الشرح الصغير: الدردير 4/555، حاشية الرهوني 5/400.
(3) مغني المحتاج: الشربيني 2/194، نهاية المحتاج: الرملي 4/422، 423، كشاف القناع: البهوتي 3/273
(4) الأشباه والنظائر: السيوطي ص89.(3/7)
يرى المالكية في المعتمد عندهم، أن الحوالة كما تنعقد باللفظ، فإنها تنعقد بالكتابة والإشارة، سواء في ذلك القادر على النطق أو العاجز عنه.
وقال بعضهم: لا تكفي الإشارة والكتابة إلا من الأخرس العاجز عن النطق(1)
القول الراجح:
والذي يبدو لي أن الكتابة الواضحة تعتبر من وسائل التعبير عن الرضا، حتى مع القدرة على النطق ؛ لأن المطلوب في العقد هو الإفصاح عن الرضا، وقد حصل بالكتابة، بالإضافة إلى أن معظم المعاملات المعاصرة تجري بالمكاتبة بين ا لشركات والبنوك والأشخاص، بواسطة وسائل الاتصال الحديثة.
أما الإشارة فأرى أنها لا تكون إلا من العاجز عن اللفظ والكتابة ؛ لأنه لا ضرورة لها مع القدرة على التعبير باللفظ أو الكتابة.
الفرع الثالث: اقتران الحوالة بالشروط
إذا اقترنت صيغة الحوالة بشرط، وتمت الحوالة مستوفية أركانها وشروطها الأصلية، فهل يكون هذا الشرط ملزماً أم لا؟
لبيان ذلك يجب التفرقة بين نوعين من الشروط:
النوع الأول: الشروط الصحيحة.
النوع الثاني: الشروط الفاسدة.
وتفصيل ذلك كالتالي:
__________
(1) الشرح الصغير: الدردير 4/555، حاشية الدسوقي 3/327.(3/8)
أولاً: الشروط الصحيحة:
الشرط الصحيح هو الذي يقتضيه العقد، أو الذي ورد به دليل شرعي، أو الذي جرى به العرف، وكان يحقق مصلحة مشروعة للمتعاقدين أو أحدهما(1).
ومثال ذلك: اشتراط دوام يسار المحال عليه، أو اشتراط الخيار، أو اشتراط الرهن والضمان، أو غير ذلك من الشروط.
أ ـ شرط يسار المحال عليه:
يرى الحنابلة وأكثر المالكية وبعض الشافعية أنه لو شرط المحال على المحيل دوام يسار المحال عليه فله شرطه، ويثبت له الفسخ بفواته(2)، واستدلوا من ثلاثة وجوه:
قوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون عند شروطهم "(3)
وجه الدلالة:
إن شرط يسار المحال عليه فيه مصلحة للعقد، فهو من مقتضياته.
__________
(1) مبدأ الرضا في العقود: علي محيي الدين القرة داغي2/1167، 1168.
(2) مواهب الجليل: الحطاب 5/95، المهذب: الشيرازي 1/338، نهاية المحتاج: الرملي 4/428، المغني: ابن قدامة 7/62.
(3) صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب 14 أجر السمسرة 3/71.(3/9)
إن العاقد شرط ما فيه مصلحة، فيثبت بفواته الفسخ، كما لو اشترط المشتري صفة في المبيع، فإنه يثبت له الفسخ بفواتها، قال ابن قدامة: " وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد ؛ بدليل اشتراط صفة في المبيع "(1).
فوات الشرط من باب التغرير بالمحال، لذا يثبت له الخيار بذلك، كما لو باعه سلعة على أنها سليمة فبانت معيبة(2).
ويرى جمهور الشافعية وبعض المالكية(3) أن هذا الشرط ليس صحيحاً، ولا ملزماً، وبالتالي يسقط الشرط، ويصح العقد، استناداً إلى أن الإعسار نقص لا يستحق الرجوع به، إذا لم يكن المحيل قد غرَّ المحال، وكذلك لا يستحق الرجوع مع وجود الغرر، بخلاف العيب في المبيع ؛ فإنه يرجع به، سواء كان بغرر أو بدونه(4).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول القاضي بصحة اشتراط دوام يسار المحال عليه ؛ للتالي:
إنه شرط فيه مصلحة، بدليل الحديث السابق.
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/62.
(2) المهذب: الشيرازي 1/338.
(3) 2 مواهب الجليل: الحطاب 5/95، المهذب: الشيرازي 1/338.
(4) 2 الحاوي: الماوردي 8/97، المهذب: الشيرازي 1/338.(3/10)
إن الشافعية الذين قالوا بعدم اشتراط صحة ذلك في الحوالة بنوا قولهم على أن الحوالة استيفاء(1)، وسبق ترجيح القول بأن الحوالة عقد مستقل(2).
ب ـ شرط الرهن أو الضمان:
لو اشترط المحال تقديم رهن أو ضمان من المحيل، أو المحال عليه، إلى أن يسقط حقه بالقبض أو غيره، فهل يصح ذلك أم لا؟
اختلف فقهاء الشافعية في صحة هذا الشرط على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يرى صحة هذا الشرط ولزومه: وذلك بناء على أن الحوالة هي بيع عين بدين(3).
القول الثاني: يرى عدم صحة هذا الشرط: وهو المعتمد عند الشافعية، بناء على أن الحوالة بيع دين بدين(4).
__________
(1) الأشباه والنظائر: السيوطي ص171.
(2) انظر ص 13 من هذه الرسالة.
(3) مغني المحتاج: الشربيني 2/195، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232.
(4) الحاوي: الماوردي 8/94، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232، مغني المحتاج: الشربيني 2/195.(3/11)
القول الثالث: يرى التمييز بين ما إذا اشترط الرهن أو الكفيل على المحال عليه، فيصح لاشتغال ذمته، وبين ما إذا اشترط الرهن أو الكفيل على المحيل، فلا يصح لبراءة ذمته بالحوالة(1).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو صحة اشتراط الكفيل أو الرهن من المحيل، أو المحال عليه، لأمرين:
إن خلاف الشافعية في هذه المسألة مبني على اختلافهم في طبيعة الحوالة، هل هي بيع أم استيفاء(2)، وسبق ترجيح أنها عقد مستقل(3).
__________
(1) نهاية المحتاج: الرملي 4/426، مغني المحتاج: الشربيني 2/195.
(2) الأشباه والنظائر: السيوطي ص170.
(3) انظر ص 13 من هذه الرسالة.(3/12)
إن اشتراط مثل هذا الشرط فيه مصلحة، ولا ينافي مقتضى العقد، وقد ندب الشارع إلى شرط الرهن بقوله ـ تعالى ـ (فرهانٌ مقبوضة (1)، وإلى شرط الضمان بقوله ـ تعالى ـ (وأنا به زَعيمٌ (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم " الزعيم غارم "(3) } - - {
ج ـ شرط الخيار: اختلف الفقهاء في قبول الحوالة للخيارات على قولين، كالتالي:
__________
(1) سورة البقرة الآية 283.
(2) 3 سورة يوسف الآية 72.
(3) 3 سنن الترمذي، كتاب البيوع، 39 باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح1269، بلفظ " العارية مؤداة، والزعيم غارم، والدين مقضي " وقال عنه حسن، 3/34، سنن ابن ماجة، 9 كتاب الصدقات، باب الكفالة، ح2405، بلفظ " الزعيم غارم، الدين مقضي " 2/804، ومعنى الزعيم: الكفيل، وغارم: ضامن، والدين مقضي: أي يجب قضاؤه.(3/13)
القول الأول: يرى عدم قبولها لخيار الشرط(1)، وهو قول الشافعية والحنابلة(2) ؛ لأن الحوالة إذا كانت بيعاً، فهي بيع دين بدين، وهو منهي عنه، ولكن جوّزت هنا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يثبت فيها خيار الشرط، وهي كذلك لم تبنَ على المغابنة، فلا يثبت فيها الخيار لذلك، وإذا كانت الحوالة استيفاء ؛ فإن استيفاء الحقوق لا خيار فيه، فلا يثبت فيها خيار الشرط(3).
__________
(1) خيار الشرط هو: ما يثبت (بالاشتراط) لأحد المتعاقدين من الاختيار بين الإمضاء والفسخ … انظر حاشية رد المحتار: ابن عابدين 7/101.
(2) المهذب: الشيرازي 1/338، كشاف القناع: البهوتي 3/270.
(3) المهذب: الشيرازي 1/338.(3/14)
القول الثاني: يرى أن الحوالة تقبل شرط الخيار مطلقاً: وهو قول الحنفية، ومدة خيار الشرط ثلاثة أيام عند الإمام أبي حنيفة، وأية مدة معلومة عند الصاحبين(1)، والخيار عندهم لمن يجب رضاه، وهو على الصحيح المحال، والمحال عليه، والمحيل إن كان طرفاً في العقد(2).
أما قبولها لخيار المجلس(3)
__________
(1) الاختيار: ابن مودود 3/12، 13.
(2) درر الحكّام: علي حيدر 2/14، البحر الرائق: ابن نجيم 6/189، 372. انظر ص41 من هذه الرسالة.
(3) خيار المجلس هو: أن يكون لكل واحد من المتعاقدين الخيار لفسخ العقد، أو إمضائه، ماداما في مجلس العقد، وهو قول أكثر أهل العلم، ويرى الحنفية والمالكية: عدم ثبوت خيار المجلس، واعتبار العقد لازماً بالإيجاب والقبول، ولا خيار لهما، فلا ثبوت لخيار المجلس عندهما.
والراجح هو: ثبوت هذا الخيار للحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار " فقد أثبت الشارع الخيار للمتبايعين، وهما متبايعان بعد تمام الإيجاب والقبول، وهذا يشمل ما فيه شوب معاوضة كالحوالة. انظر المغني والشرح الكبير: ابن قدامة 4/7، مواهب الجليل: الحطاب 4/410، المجموع: النووي 9/316، البدائع: الكاساني 5/228، صحيح البخاري، كتاب البيوع، 44 باب البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح2111، 3/24.(3/15)
ففيه وجهان عند الشافعية:
الوجه الأول: ثبوت خيار المجلس في عقد الحوالة ؛ لأنها بيع، فيثبت فيه خيار المجلس كالصلح.
الوجه الثاني: لا يثبت فيها خيار المجلس لأنها تجري مجرى الإبراء، ولهذا لا تجوز بلفظ البيع، فلا يدخلها خيار المجلس(1).
القول الراجح:
والراجح عندي هو قول الحنفية في أن الحوالة تقبل خيار الشرط وغيره ؛ لما يلي:
إن في اشتراط الخيار مصلحة، إذ فيه صيانة لحقوق العاقد.
إن عقد الحوالة، وإن كان مستقلاً ـ كما سبق ترجيح ذلك ـ إلا أن فيه شائبة معاوضة، فيثبت فيه خيار الشرط وغيره، والأفضل أن تكون مدة خيار الشرط ثلاثة أيام، كما هو عند أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ ؛ لأن إطالة المدة عن ذلك تؤدي إلى إرهاق المتعاقدين بانتظار استقرار العقد.
ثانياُ: الشروط الفاسدة:
__________
(1) المهذب: الشيرازي 1/338.(3/16)
أ ـ معنى الشرط الفاسد: هو الذي يخالف مقتضى العقد، أو يصطدم بنص، أو إجماع، أو قاعدة شرعية متفق عليها، والأصل فيه حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ في شأن قصة بريرة(1) ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال أناس يشترطون شروطاً ليس في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق "(2).
ب ـ أمثلة الشروط الفاسدة:
وقد مثل الفقهاء للشروط الفاسدة في الحوالة ببعض الأمثلة كالتالي:
أن يشترط أحد أطراف الحوالة أن تكون غير لازمة، دون أن يحدد ذلك بمدة معينة.
__________
(1) بريرة من موالي الصحابة، وهي مولاة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومعتقتها. أعلام النساء: عمر رضا كحالة 1/129، تهذيب الكمال: المزي 35/136، الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني 8/29.
(2) 4 صحيح البخاري، كتاب البيوع، 67 باب البيع والشراء مع النساء، ح2155، 3/36.(3/17)
من الشروط الفاسدة عند الحنفية، ما لو قال المحيل: أحلتك على فلان بشرط أن لا ترجع عليّ عند التواء(1).
ج ـ بطلان الشرط الفاسد، وصحة عقد الحوالة:
وهل يبطل عقد الحوالة باشتراط هذه الشروط؟ أو يبطل الشرط، ويصح العقد؟ خلاف بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: يرى بطلان الشرط وصحة العقد: وهو قول الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة(2).
القول الثاني: يرى بطلان عقد الحوالة باشتراط مثل هذه الشروط: وهو قول أكثر الشافعية وبعض الحنابلة(3).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول الأول الذي يرى بطلان الشرط وصحة العقد، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ السابق الذكر، كما أن فيه استقرار للعقود والمعاملات، وهو من مقاصد الشريعة.
المطلب الثاني: أطراف الحوالة
__________
(1) 4 البحر الرائق: ابن نجيم 6/189، وسيأتي الكلام عن التواء أثناء الحديث عن براءة ذمة المحيل وانتهاء الحوالة بالتوى إن شاء الله ص84، 117 من هذه الرسالة.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/189، المجموع: النووي 9/339، الإنصاف: المرداوي 4/338.
(3) المجموع: النووي 9/339، الإنصاف: المرداوي 4/338.(3/18)
تبين مما سبق أن عقد الحوالة لا يتم إلا بين أطراف ثلاثة وهم: المحيل، والمحال، والمحال عليه، وفي هذا المطلب أخصص الكلام عن كل طرف على حدة، وذلك في ثلاثة فروع:
الفرع الأول: المحيل
المحيل هو: المدين الأصلي، الذي أحال الدائن بما عليه من دين على آخر، وقد ذكرت أثناء الحديث عن ركن الصيغة، أن عقد الحوالة قد يتم باتفاق بين المحيل وبين المحال، ولا شك أنه في هذه الحالة يكون أحد طرفي العقد، وبالتالي يُشترط أن يكون أهلاً للتصرفات، وكما يُستفاد من تعريف الحوالة بأنها انتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، أنه يُشترط أن يكون المحيل مديناً للمحال.
وفي خلال كلامي عن المحيل سأعرض بإيجاز لهذين الشرطين إن شاء الله:
الشرط الأول: أهلية التصرف:
يشترط في المحيل أن يكون أهلاً للتصرفات حتى يتحقق رضاه، ولم يختلف العلماء في حوالة المجنون والصبي غير المميز، بينما وقع خلاف في الصبي المميز والمحجور عليه لفلس أو سفه، على النحو التالي:(3/19)
أ ـ المجنون والصبي غير المميز لا تنعقد حوالة أي منهما ـ بأن يكون كل واحد منهما محيلاً ـ لانتفاء أهليتهما لأي تصرف شرعي ؛ نظراً لعدم صحة عبادتهما(1).
ب ـ الصبي المميز: وقد اختلف فيه العلماء على قولين:
1تنعقد حوالة الصبي المميز عند الحنفية موقوفة على إجازة وليه(2).
ولا تنعقد حوالته عند الشافعية ؛ لأن أهلية التصرف تبدأ عندهم بالبلوغ مع الرشد، فتكون حوالة الصبي المميز باطلة، ولو بإذن من الولي أو إجازة لاحقة ؛ لأن المميز عندهم مسلوب العبارة، ليس أهلاً للتصرفات(3)، فإذا كان الصبي محيلاً فإنه يجب على وليه مباشرة العقد بنفسه لمصلحته(4).
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/6، الذخيرة: القرافي 9/243، مغني المحتاج: الشربيني 2/172، الإنصاف: المرداوي 4/267.
(2) البدائع: الكاساني 6/16، درر الحكّام: علي حيدر 2/28.
(3) مغني المحتاج: الشربيني 2/172، حاشية الشبرا ملسي على نهاية المحتاج 4/423.
(4) قليوبي وعميرة على المنهاج 2/319.(3/20)
ج ـ المحجور عليه لفلس أو سفه(1):
قد أجازها الشافعية في حق المفلس المحجور عليه على وجه ضعيف، وبصورة أقوى في حق السفيه(2).
بينما تشدد الحنابلة فلم يجيزوا حتى الحوالة على السفيه(3).
القول الراجح:
أرى أن الراجح هو صحة الحوالة من الصبي المميز، أو من المحجور عليه لسفه أو لفَلَس بإذن الولي ؛ لأن الإجازة اللاحقة في حقهم كإذنه السابق(4)، والله تعالى أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون المحيل مديناً للمحال:
__________
(1) السَّفه لغة: نقص في العقل، وأصله الخفة. وفي الشرع: خِفة تعتري الإنسان فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل والشرع. انظرالمصباح المنير: الفيومي ص146، كشف الأسرار:عبد العزيز البخاري 4/276، شرح التلويح على التوضيح: التفتازاني 2/380، 381.
(2) مغني المحتاج: الشربيني 2/148.
(3) 5 شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/294.
(4) 5 المدخل الفقهي العام: الزرقا 1/553.(3/21)
وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء ؛ لأن الدَّين الذي في ذمة المحيل هو موضوع عقد الحوالة، ولا يتصور حوالة دين لا وجود له أصلاً(1).
وإذا تمّ اتفاق بين المحيل والمحال، ولم يكن المحيل مديناً للمحال، فيرى الحنفية والمالكية، والحنابلة، وبعض الشافعية، أن هذا التصرف لا يكون حوالة، ولكن وكالة بالقبض، أي وكالة للمحال بتخليص الحق من المحال عليه(2)، وإنما جازت وكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما باستحقاق الوكيل مطالبة مّن عليه الدين، كاستحقاق المحال مطالبة المحال عليه، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحال(3)، في حين أن بعض الشافعية يرى بطلان هذا التصرف اعتباراً باللفظ(4).
القول الراجح:
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/7، حاشية الدسوقي 3/325، حاشية الخرشي 6/17، نهاية المحتاج 4/423، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/259.
(2) المراجع السابقة، الفتاوى الهندية 3/305، البهجة شرح التحفة: التسولي 2/58، حاشية البيجرمي 3/21، كشاف القناع: البهوتي 3/372.
(3) المغني: ابن قدامة 7/59.
(4) حاشية البيجرمي 3/21، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4/423.(3/22)
يبدو لي أن الراجح هو انعقاد هذا التصرف وكالة بقبض كما هو رأي الجمهور ؛ اعتباراً بالمعنى، إذ العبرة في العقود والتصرفات بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني(1).
الفرع الثاني: المحال
وهو الدائن الذي يحال بدينه ليستوفيه من غير مدينه، وهو المستفيد من الحوالة، وهو صاحب الحق، وقد سبق القول بترجيح اشتراط رضاه لصحة الحوالة، سواء باشر العقد بنفسه، بأن تمَّ الاتفاق بينه وبين المحيل، أو بينه وبين المحال عليه، أو بإجازته كما لو تمت الحوالة بين المحيل والمحال عليه(2)، وبناء على ذلك، فلا بد من أن يكون متصفاً بالشروط التالية:
الشرط الأول: أن يكون عاقلاً: فلا يصح احتيال الصبي غير المميز والمجنون؛ لعدم صحة عبارتهما، فلا يكونان أهلاً للعقد(3).
الشرط الثاني: أن يكون بالغاً، وقد اختلف الفقهاء في كونه شرط صحة أو شرط نفاذ على قولين:
__________
(1) انظر ص41 من هذه الرسالة ح4.
(2) انظر ص 40 من هذه الرسالة.
(3) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/5، الذخيرة: القرافي 9/243، نهاية المحتاج: الشربيني 4/423، الفقه المنهجي: الخن 3/163.(3/23)
القول الأول: يرى الشافعية أن البلوغ شرط لصحة الحوالة ؛ لأن الصبي المميز مسلوب الإرادة، فلا تعتبر أقواله في المعاملات شرعاً، وبالتالي ليس أهلاً للعقد(1)، إلا أنه يصح للولي عندهم أن يحتال بدين لمحجوره على مليء باذل ؛ لأنهم اشترطوا أن تقتضي الحوالة مصلحة القاصر، عملاً بقوله ـ تعالى ـ (ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير (2) فإذا تبين أن المحال عليه مفلس، فقد قالوا ببطلان الحوالة(3).
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4/423.
(2) 6 سورة البقرة، الآية 220.
(3) 6 حاشية البيجرمي على المنهج 3/21، قليوبي وعميرة 2/219. وقد سئل السيوطي عن رجل له على رجل دين، فمات الدائن وله ورثة، فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدين، وأحالهم على آخر بالباقي، فقبلوا الحوالة، وضمن لهم آخر فمات المحال عليه، فهل لهم الرجوع على المحيل أم لا؟ فأجاب يطالبون الضامن، وتركة المحال عليه، فإن تبين إفلاسهما، بان فساد الحوالة ؛ لأنها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام، فيرجعون على المحيل. انظر: الحاوي للفتاوى: جلال الدين السيوطي 1/107.(3/24)
القول الثاني: ويرى الحنفية أنه شرط نفاذ للحوالة(1)، فينعقد احتيال الصبي موقوفاً على إجازة وليه.
لكن إذا قبل الصبي المميز حوالة، وصار محالاً، وأذن له وليه، فهناك ثلاثة حالات للمحال عليه:
أن يكون أملأ من المحيل: فعندئذٍ يصح الإذن والحوالة عندهم ؛ لأن الحوالة بالنسبة للصبي المميز من العقود المترددة بين النفع والضرر، فإن كان المحال عليه أملأ من المحيل، يكون للمحال نفع فيها، وإن كان المحال عليه فقيراً، يكون للمحال ضرر فيها(2)
أن يكون مساوياً له في الملاءة: ففي هذه الحالة جزم بعضهم بعدم الجواز، وقد استدل صاحب الدّر المختار بأنه اشتغال بما لا يفيد، وقد شُرعت العقود لأجل الفائدة(3).
أن يكون المحال عليه أقل ملاءة من المحيل: فإنه يكون من التصرفات الضارة به، فلا يصح العقد(4).
القول الراجح:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/16، البحر الرائق: ابن نجيم 6/268.
(2) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/5، درر الحكام: علي حيدر 2/27.
(3) الدر المختار: الحصكفي، ومعه حاشية ابن عابدين 8/19.
(4) حاشية ابن عابدين على البحر 6/268.(3/25)
يبدو لي أن الراجح هو رأي الحنفية في أن البلوغ شرط نفاذ، فينعقد احتيال الصبي موقوفاً على إجازة وليّه ؛ لأن الحوالة بالنسبة له من التصرفات المترددة بين النفع والضرر، والإجازة اللاحقة في تصرفات القاصر كالإذن السابق(1).
على أنه يشترط في هذه الإجازة أن يكون المحال عليه أكثر ملاءة من المحيل، ولا تصح الحوالة على محال عليه أقل ملاءة، سواء كان العقد باتفاق بين المحيل والصغير، أو كان باتفاق بين المحيل وولي المحال أو وصيه ؛ لأن تصرفات الولي أو الوصي تُناط بمصلحة القاصر، وليس من مصلحته أن ينتقل من ذمة مدين مليء إلى ذمة مدين أقل ملاءة منه، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: الزرقا 1/553، ف283.(3/26)
الشرط الثالث: كون المحال له ولاية على المال المحال به: بأن يقبل الحوالة بنفسه، أو بمن ينوب عنه(1)، وهو شرط نفاذ عند الحنفية، فقد نصوا على أن احتيال الفضولي موقوف على إجازة من له الولاية(2)
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/7.
(2) الفضولي: في اللغة هو من يشتغل بما لا يعنيه، وفي الشرع: يطلق على من يتصرف في حق الغير بلا إذن شرعي، كالأجنبي ؛ لأن تصرفه صادر عن غير ملك، ولا وكالة ولا ولاية.
حكم تصرفات الفضولي: اختلف الفقهاء في حكم تصرفات الفضولي على قولين كالآتي:
القول الأول: يرى أن تصرفات الفضولي موقوفة على إجازة المالك أو وليه، فإن أجازها نفذت، وإن ردّها بطلت، وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، واستدلوا بما يلي:
بأن عقد الفضولي له مجيز حال وقوعه يتوقف على إجازته.
إنه عقد صدر من ذي أهلية، وهو الحر البالغ العاقل، وأضيف العقد إلى المحل، ولا ضرر في ذلك على المالك ؛ لأنه غير ملزم له، ويحتمل المنفعة.
القول الثاني: يرى أن تصرفات الفضولي باطلة، ولو أجازها المالك أو الولي، وهو قول الشافعي في الجديد، والصحيح عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنها عقد صادر من غير مالك أو ذي ولاية في إبرامه، فيكون باطلاً.
الراجح: ويبدو لي أن الراجح هو القول بانعقاد تصرفات الفضولي موقوفة على إجازة المالك ؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن أو الوكالة السابقة. انظر: المصباح المنير: الفيومي ص246، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4/103، البحر الرائق: ابن نجيم 6/160، الاختيار: ابن مودود 2/17، البهجة شرح التحفة: التسولي 2/68، مغني المحتاج: الشربيني 2/15، الإنصاف: المرداوي 4/283، المدخل الفقهي العام: الزرقا 1/553.(3/27)
.
أما الوكيل فإن كان وكيلاً بالقبض (الثمن مثلاً) فليس له أن يحتال، لأن المقصود من وكالته الاستيفاء لا الإبراء(1).
مسألة: تداول الحوالة من جهة المحال (تراكب الحوالة):
يجوز للمحال أن يحيل دائنه على المحال عليه، فقد صرح الشافعية بجواز تعدد المحتالين مع ثبوت المحال عليه.
قال النووي في الروضة " لو أحلت زيداً على عمرو ثم أحال زيد بكراً على عمرو، ثم أحال بكر آخر على عمرو، جاز التعدد هنا في المحتالين دون المحال عليه"(2).
وكذا يجوز للمحال أن يوكل شخصاً في قبض المال المحال به من المحال عليه، فقد نص كل من الشافعية والحنابلة على صحة التوكيل في الحوالة(3).
الفرع الثالث: المحال عليه
__________
(1) المبسوط:السرخسي 20/71.
(2) 7 روضة الطالبين: النووي 4/238.
(3) 7 قليوبي وعميرة 2/338، كشاف القناع: البهوتي 3/452.(3/28)
وهو الذي يلتزم بأداء الدين للمحال، وهو دائماً طرف ؛ إما بمباشرته لعقد الحوالة، بأن يتم اتفاق بينه وبين المحال، أو بينه وبين المحيل، وإما بإجازته، كما لو كان الاتفاق بين المحيل والمحال، وقد سبق القول بترجيح اشتراط رضاه لصحة الحوالة مديناً كان للمحيل، أو غير مدين(1)، وعليه، فلا بد أن يكون متصفاً بالشروط التالية:
الشرط الأول: أهلية التصرف الكاملة:
__________
(1) انظر هذه الرسالة ص36.(3/29)
اشترط الحنفية في المحال عليه أن يكون ذا أهلية كاملة للتصرفات، بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا يصح من الصبي المميز، قبول الحوالة أصلاً، وإن كان عاقلاً، سواء كان محجوراً عليه، أو مأذوناً له في التجارة، وسواء كانت الحوالة بأمر المحيل، أو بدونه، لكونها مع الأمر تبرعاً ابتداء، فإن الصبي لا يملكه، محجوراً كان أو مأذوناً بالتجارة، وهي بدون أمر المحيل تبرع ابتداء وانتهاء، وعليه، فالمحال عليه ـ الصبي ـ في هذه الحالة لا يملك حق الرجوع على المدين الأصلي (المحيل)، فتكون من التصرفات الضارة ضرراً محضاً بالنسبة للمحال عليه، ولو قبل عنه وليه لا يصح ذلك القبول، لكونها من التصرفات الضارة بالصغير، فلا يملكها الولي.(3/30)
هذا الحكم مقرر في كتب الحنفية(1)، ونصت عليه مجلة الأحكام العدلية في م (2)، دون التفرقة بين الحوالة المطلقة والحوالة المقيدة، إلا أن ابن عابدين في حاشيته على البحر استظهر القول بأنه إذا كان المحال عليه مديناً للمحيل، أو كان عنده للمحيل ما يكفي لسداد دينه، فينبغي ألا يشترط البلوغ لانعقاد الحوالة، بل لنفاذها(3).
هذا عند الحنفية، أما عند غيرهم ممن لا يجيزون الحوالة المطلقة، فإنهم لم يشترطوا في المحال عليه سوى مراعاة مصلحة القاصر، لأن المحال عليه عندهم ليس إلا محل استيفاء الحق، كالدار يكون فيها المتاع، والكيس يكون فيه النقود(4).
القول الراجج:
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/268، بدائع الصنائع: الكاساني 6/16، درر الحكام: علي حيدر 2/27.
(2) درر الحكام: علي حيدر 2/27.
(3) حاشية ابن عابدين على البحر 6/268.
(4) مغني المحتاج: الشربيني 2/194، المهذب: الشيرازي 1/338، الإنصاف: المرداوي 5/228.(3/31)
والذي أراه راجحاً هو أن البلوغ شرط انعقاد، سواء في الحوالة المطلقة أو المقيدة؛ لأن التزام الدين وأداءه فيه معنى التبرع، وغير البالغ العاقل ليس أهلاً للتبرع.
الشرط الثاني: قدرة المحال عليه على الوفاء بما التزم به:
اشترط الحنفية في المحال عليه أن يكون قادراً على الوفاء بما التزم به، والكلام عن هذا الشرط يظهر من خلال المسائل التالية:
لو قبل المحال عليه حوالة مقيدة بالوفاء من ثمن دار المحيل، أو من مال أجنبي، كانت الحوالة فاسدة ؛ لأنه لا يقدر على بيع ما ليس له، فلا يقدر على الوفاء بالمُلتَزَم، ولا تكون الحوالة توكيلاً ببيع الدار(1).
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/269، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/16، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضي خان 3/76.(3/32)
ولو وُجد إذن سابق من المحيل صاحب الدار ببيعها ـ بأن أمره المحيل بالبيع ـ صحت الحوالة ؛ لانتفاء المانع، لكن لا يجبر المحال عليه على الأداء قبل البيع، لعدم وجود سبب الأداء، ولو باع المحال عليه مختاراً فإنه يجبر على الأداء لتحقق سبب وجوبه، وهو بمنزلة ما لو قبل الحوالة بشرط الأداء عند الحصاد، فإنه لا يجبر على الأداء قبل الأجل(1).
ولو قبل المحال عليه الحوالة على أن يبيع مال ذاته، ويؤدي من ثمنه، تصح الحوالة لوجود القدرة على تنفيذ ما التزم به، ولكنه لا يجبر على الأداء حتى يبيع مختاراً، ولا يجوز مطالبته قبل البيع، وبعد البيع يجبر على الأداء، لتحقق سبب وجوبه(2).
__________
(1) حاشية ابن عابدين 8/16.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/69، درر الحكام: علي حيدر 2/50، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3/76.(3/33)
وإذا قبل المحال عليه الحوالة من المحيل بشرط بيع دار المحيل ـ أي أنه: شرط قيامه بهذا البيع في صلب عقد الحوالة ـ فإنه يجبر على البيع لأجل الوفاء ؛ بالقياس على الرهن إذا شرط فيه بيع المرهون عند عدم الوفاء، فإنه شرط ملزم لا يملك الراهن الرجوع فيه(1).
وفي حالة أن يبيع المحال عليه مال نفسه أو دار المحيل، وكان الثمن لا يفي بدين المحال، فلا يكون المحال عليه ضامناً أو مسؤولاً عن الباقي ؛ لأنه إنما التزم الأداء من ذلك الثمن فأدّاه كاملاً بحسب التزامه، فلا يكون عليه شيء(2).
الشرط الثالث: ملاءة المحال عليه:
أفاد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظلم، فإذا أُتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع "(3) بظاهره شريطة ملاءة المحال عليه.
__________
(1) 8 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/16، درر الحكام: علي حيدر 2/50.
(2) 8 الفتاوى الهندية 3/302.
(3) سبق تخريجه ص 14 من هذه الرسالة.(3/34)
وقد أخذ الحنابلة من ذلك اشتراط ملاءة المحال عليه للزوم الحوالة، إذا لم يرضَ المحال بها، على المعتمد عندهم(1)، وكذا إن جهل المحال حال الحوالة في رواية عندهم، وينصون على أن من قبِل الحوالة على مليء بعدما أفلس، كان رضاه معيباً فلا يُعتبر، بل يحق له فسخ الحوالة(2).
وضابط الملاءة عندهم: أن يكون المحال عليه غنياً، قادراً على الوفاء، غير جاحد ولا مماطل، مع إمكان حضوره مجلس الحكم.
فلا تصح عندهم حوالة الولد على والده، إلا برضا الأب ؛ لأنه لا يملك طلب أبيه إلى القضاء، وكذلك لا يُلزم بقبول الحوالة على أبيه، ولا على من هو من غير بلده(3).
فإذا لم يكن المحال عليه مليئاً لم يلزم المحال أن يحتال ؛ ذلك لمفهوم الحديث، ولأنه ضرر عليه، فلا يلزمه، كما لو بذل دون حقه في الصفة، فإن رضي بها مع ذلك صحت، كما لو رضي بدون حقه(4).
__________
(1) الإنصاف: المرداوي 5/227.
(2) المرجع السابق 5/229.
(3) المرجع السابق 5/227، كشاف القناع: البهوتي 3/374، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/257.
(4) المغني: ابن قدامة 7/62، 63.(3/35)
ويرى المالكية أن المحيل إذا كان يعلم بإفلاس المحال عليه أو موته، وجهل المحال بذلك، فإن حق المحال لا يتحول إلى ذمة المحال عليه، ولا تبرأ ذمة المحيل بالحوالة لوجود الغرر(1).
ويرى الظاهرية اشتراط ملاءة المحال عليه لصحة الحوالة، أخذاً من ظاهر الحديث، حيث شرط في المحال عليه ملاءته، وهذا يعني أن الحوالة على غير مليء لا تجوز(2).
أما باقي الفقهاء فلم يشترطوا ملاءة المحال عليه، لا لصحة الحوالة، ولا للزومها، وقالوا إن الحديث ليس فيه تصريح بالاشتراط ؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم اعتبر وصف الملاءة مع جواز الحوالة على المعسر، فلا تأثير للإعسار، وفائدة ذكر الملاءة هنا هي لنفي ضرر المطل عن المحال، ولسقوط سبيل المحال عليه في الرجوع عليه بعدما قبل الحوالة على مَن هو مليء(3).
وسوف يظهر أثناء الحديث عن أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال مدى ارتباط الحوالة بملاءة المحال عليه.
الشرط الرابع: مديونية المحال عليه للمحيل:
__________
(1) منح الجليل: عليش 6/193، 194.
(2) المحلى: ابن حزم 8/109.
(3) الذخيرة: القرافي 9/250، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232، شرح السنة: البغوي 8/211.(3/36)
اختلف الفقهاء في اشتراط مديونية المحال عليه للمحيل لصحة الحوالة على قولين:
القول الأول: اشتراط كون المحال عليه مديناً للمحيل، حتى تكون الحوالة صحيحة: وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة(1).
فإن جرت حوالة على غير مدين برضاه،فقد اختلف فيها هؤلاء الفقهاء على قولين:
1 ـ يرى بعض الشافعية والمالكية صحة هذا التصرف، على أن يجري مجرى الضمان، ولم يطبقوا عليه قواعد الحوالة(2).
2 ـ ونص الحنابلة على أن هذا التصرف وكالة في اقتراض، فلا يلزم المحال عليه الأداء، ولا المحال القبول(3).
وقد استدلوا على اشتراط مديونية المحال عليه للمحيل بما يلي:
إن الحوالة عقد معاوضة يتم بين المحيل والمحال، فإذا لم يكن المحال عليه مديناً للمحيل فلا يكون هناك معاوضة(4).
__________
(1) 9 مواهب الجليل: الحطاب 5/92، الحاوي: الماوردي 8/93، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/259.
(2) 9 المراجع السابقة.
(3) شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/259.
(4) المغني: ابن قدامة 7/59.(3/37)
إن الحوالة مأخوذة من تحول الحق، فلا بد أن يكون هذا الحق واجباً للمحيل على المحال عليه، كما كان واجباً للمحال على المحيل(1).
القول الثاني: صحة الحوالة، ولو كان المحال عليه غير مدين للمحيل، وهو قول الحنفية، لذلك فهم يقسمون الحوالة إلى مطلقة ومقيدة كما سبق، وهو قول لبعض المالكية والشافعية(2)، واستدلوا بما يلي:
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع المليء بدون تفصيل بين أن يكون مديناً أو لا(3).
إن الحوالة تنبئ عن التحويل، وهو إنما يكون في الدين، لأنه وصف شرعي في الذمة، يظهر أثره عند المطالبة، فجاز أن يعتبره الشخص في ذمة آخر بالتزامه إياه(4).
ناقش الحنفية قول الجمهور من وجهين:
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/93.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/269، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/7، المنتقى على الموطأ: الباجي 5/68، روضة الطالبين: النووي 4/228.
(3) البدائع: الكاساني 6/16.
(4) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/239.(3/38)
أن الحوالة على غير مدين ليست حوالة حقيقية، بل هي حمالة أو وكالة في اقتراض: بأنها حوالة لغة، وهو ظاهر، وكذلك هي شرعاً، لأنها نقل للمطالبة أو الدين، من ذمة المدين إلى ذمة أخرى.
قياسها على الكفالة، فكما أن الكفيل لا يشترط كونه مديناً للأصيل، كذلك لا يشترط كون المحال عليه مديناً للمحيل، بجامع التقارب بين أحكام كل من الحوالة والكفالة(1).
القول الراجح:
والراجح هو قول الحنفية ومن معهم في صحة الحوالة على غير مدين، لأمرين:
إن الجمهور الذين قالوا باشتراط مديونية المحال عليه للمحيل، قد بنوا رأيهم على أن الحوالة بيع دين بدين، وسبق القول بأنها عقد مستقل(2).
إن المحيل قد يأمل المساعدة من المحال عليه ؛ بسبب الصداقة، أو القرابة، أوغير ذلك، بحيث ينتظر قيام المحال عليه بالوفاء من باب الهبة أو القرض.
ويتعلق بأحكام المحال عليه مسألتان، أرى من الأفضل التنبيه عليهما:
المسألة الأولى: تضامن المحال عليهم:
__________
(1) إعلاء السنن: التهانوي 14/558، 559.
(2) انظر ص 13 من هذه الرسالة.(3/39)
لو كانت الحوالة على شخصين كل منهما مديناً للمحيل بألف على سبيل التضامن، على أن يطالب المحال كل واحد منهما بخمسمائة، ويبرأ كل واحد منهما عمّا ضمنه، فقد صرح الشافعية والحنابلة بصحة الحوالة(1)، أما لو كانت على أن يطالب أيّهما شاء: فقولان:
القول الأول: عدم صحة الحوالة: وهو للقاضي أبو الطيب من الشافعية، واستدل بأنه يستفيد زيادة في المطالبة، لأنه كان قبل الحوالة يطالب واحداً، فصار اثنين(2)، والزيادة في المطالبة منفعة لا تجوز في القروض.
القول الثاني: صحة الحوالة: وهو للحنابلة، والأصح عند الشافعية، واستدلوا بأن المحال مهما استفاد من زيادة المطالبة فلن يأخذ إلا قدر حقه.
القول الراجح:
__________
(1) 10 نهاية المحتاج: الرملي 4/426، الروضة: النووي 1/238، المغني: ابن قدامة 7/70.
(2) 10 روضة الطالبين: النووي 1/238، الحاوي للفتاوى: السيوطي 1/107، المهذب: الشيرازي 1/338.(3/40)
والراجح هو القول بصحة الحوالة ؛ لأن الزيادة الممنوعة هي التي تكون بالقدر أو الصفة، والزيادة هاهنا إنما هي زيادة استيثاق(1)، بالإضافة إلى قياسها على الكفالة، حيث يكون الدائن مخيراً بين مطالة المدين أو الكفيل.
المسألة الثانية: تعدد الحوالة من جهة المحال عليه:
صرح كل من الحنفية والشافعية والحنابلة، بجواز تداول الحوالة من جهة المحال عليه، مع كون المحال واحداً، كما لو أحال زيداً على عمرو، ثم أحال عمرو زيداً على بكر، ثم أحال بكر زيداً على أحمد(2) …… لأنه لما صحت الحوالة من الذمة الأولى إلى الثانية، كذلك تصح من الثانية إلى ذمة أخرى(3).
المطلب الثالث: محل الحوالة
محل عقد الحوالة هو ما يقع عليه الرضا بين طرفي عقدها، سواء كان المال المحال به، أو المال المحال عليه، ويمكن إيجاز أحكام محل الحوالة في البنود التالية:
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/272، الروضة: النووي 1/238، المغني: ابن قدامة 7/63.
(3) المبسوط: السرخسي 20/53.(3/41)
لا خلاف بين الفقهاء في صحة الحوالة إذا كان المال المحال به أو عليه ديناً(1).
أما العين فلا تصح الحوالة بها ؛ لأنها لا يتصور فيها النقل الحكمي(2)، أما الحوالة عليها فقد سبق الكلام عنها أثناء الحديث على أقسام الحوالة(3).
وأما المنفعة فلم يقلْ بصحة الحوالة بها سوى المالكية(4)، وفرعوا على ذلك جواز أن يكري الرجل من رجل داره بدين له حالّ أو مؤجل، على رجل آخر، ويحيله عليه في الوقت نفسه إن شرع في السكنى(5)، فواضح من هذا التفريع أن المال المحال به هو منفعة.
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/7، حاشية الدسوقي 2/69، حاشية الشرقاوي 2/69، كشاف القناع: البهوتي 3/372.
(2) البدائع: الكاساني 6/16، حاشية ابن عابدين 8/7.
(3) انظر ص 21 من هذه الرسالة.
(4) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/55.
(5) مواهب الجليل: الحطاب 5/93.(3/42)
وأما الحق فلا تصح الحوالة به أو عليه ؛ لأن الفقهاء نصوا على أن الحوالة إنما تكون بدين، فإذا وقعت بالحق كانت وكالة، وليس حوالة(1).
شروط محل الحوالة:
وقد ذكر الفقهاء شروطاً للمحل، سواء كان محالاً به أو محالاً عليه:
الشرط الأول: أن يكون المال المحال به لازماً أو آيلاً إلى اللزوم:
والدين اللازم هو الثابت الذي لا يعتريه عارض يمنع ثبوته في ذمة مَن هو عليه، ولا يسقط عن المدين في أي حال ؛ كالثمن بعد قبض المبيع، والمهر بعد الدخول، والآيل إلى اللزوم هو: الذي يعتريه عارض، ويكون هذا العارض مؤقتاً، وبزواله يعود إلى الأصل(2).
وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على قولين:
__________
(1) 11 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/9، الخرشي على مختصر خليل 6/16،حاشية الشرقاوي 2/69، كشاف القناع: البهوتي 3/372.
(2) 11 مغني المحتاج: الشربيني 2/194.(3/43)
القول الأول: يرى اشتراط اللزوم في الدين المحال به، وهو قول الحنفية، والمالكية، وبعض الحنابلة، وأكثر الشافعية، إلا انهم اشترطوا اللزوم أو الأيلولة إليه(1)، وظهر ذلك من خلال كلامهم عن مسألة الثمن في مدة الخيار، هل تجوز الحوالة به أم لا؟ ولهم فيها وجهان:
الوجه الأول: يرى عدم جواز الحوالة به ؛ لأنه دين ليس بلازم.
الوجه الثاني: وهو الأصح، ويفيد جواز الحوالة به ؛ لأنه دين آيل إلى اللزوم، والخيار عارض فيه، فيعطى حكم اللازم، وعلى هذا الوجه يزول الخيار بمجرد قبول الحوالة ؛ لأن تراضيهما بالحوالة إجازة للعقد الذي بنيت عليه ؛ ولأن طبيعة الحوالة اللزوم، وبقاء الخيار ينافيه(2).
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/16، حاشية الدسوقي 3/326، مغني المحتاج: الشربيني 2/194، الإنصاف: المرداوي 5/223.
(2) مغني المحتاج: الشربيني 4/194، روضة الطالبين: النووي 4/229، 230، الحاوي: الماوردي 8/93، أسنى المطالب: الأنصاري 2/231.(3/44)
ومثلوا للدين غير اللازم ولا الآيل إلى اللزوم بالجُعل المشروط للعامل في الجِعالة ؛ لأنه لا يلزم إلا بعد انتهاء العمل، وقد لا يلزم قط، وعلى فرض لزومه، فإنه لا يلزم بنفسه بل بواسطة العمل(1).
واستدل أصحاب هذا القول الذي اشترط أن يكون المال المحال به لازماً أو آيلاً إلى اللزوم بما يلي:
قياس الحوالة على الكفالة بجامع أن كلاً منهما التزام بما على المدين، وقد قال الحنفية بصحة الحوالة فيما تصح به الكفالة(2).
إن الحوالة توجب نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فصار الواجب على المحال عليه هو عين الواجب على المحيل، فلو صحت الحوالة بالدين غير اللازم على وجه اللزوم، لكان الواجب على المحال عليه غير الواجب على المحيل ؛ لاختلافهم في اللزوم، وبالتالي لا يتحقق نقل الدين الذي هو موجب الحوالة(3).
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/93، روضة الطالبين: النووي 4/230.
(2) درر الحكام: علي حيدر 2/31.
(3) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172.(3/45)
واستدل الشافعية على صحة الحوالة بالدين الآيل إلى اللزوم بأنه صائر إلى اللزوم، والمانع عارض، فيعطى حكم اللزوم(1).
كما استدلوا بعدم صحة الحوالة بالجُعل المشروط بأنه لم يكن واجباً قبل الحوالة فلا يصير بالحوالة واجباً(2).
القول الثاني: يرى أنه لا يشترط في الدين المحال به أن يكون لازماً أو آيلاً إلى اللزوم: وهو قول أكثر الحنابلة، فقد نصوا على صحة الحوالة بجميع الديون، سواء كانت لازمة أو آيلة للزوم، أو غير لازمة.
ومما فرعه الحنابلة على ذلك صحة حوالة المشتري البائع بثمن المبيع في مدة الخيار، واستدلوا بأن الحوالة بمنزلة الوفاء، والمدين له أن يوفّي الدين الذي عليه قبل أن يلزم عليه(3).
القول الراجح:
والراجح هنا هو القول باشتراط لزوم الدين المحال به أو الأيلولة إلى اللزوم، لأمرين:
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 4/194.
(2) الحاوي: الماوردي 8/93.
(3) الإنصاف: المرداوي 5/223، 225، المغني: ابن قدامة 7/58، كشاف القناع: البهوتي 3/173، شرح الزركشي على مختصر الخرقي 4/112.(3/46)
إن موضوع عقد الحوالة هو انتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على وجه اللزوم، وهذا يتطلب كون الدين المنتقل لازماً.
إن الدين غير اللازم لا يكون مستقراً، فيمكن أن يزول في أي وقت، ومن ثم لو ورد عليه عقد الحوالة يكون العقد غير مستقر، وهذا يؤدي إلى أمر غير محمود،وهو اختلاف المتعاقدين.
أما صحة الحوالة بالدين الآيل إلى اللزوم ـ كما قال الشافعية ـ كالثمن في زمن الخيار، فلأن العارض فيه مؤقت ويزول بالحوالة.
الشرط الثاني: صحة الاعتياض(1) عن المال المحال به أو عليه:
صرح الشافعية باشتراط كون المال المحال به أو عليه يصح الاعتياض عنه، بمعنى أنه لابد أن يكون دين المحيل، ودين المحال عليه، من الديون التي يصح بيعها، واستبدالها بغيرها، كما في عوض القرض، وبدل المتلف.
__________
(1) 12 الاعتياض من العوض، وهو الخلف، والبدل، والجمع أعواض، تقول: عاض الله عنه عوضاً وعياضاً، وتعوّض أخذ العوض، والاعتياض هو أخذ العوض أو الاستبدال. انظر تاج العروس: الزبيدي 5/59.(3/47)
فلا تصح الحوالة عندهم بما لا يجوز بيعه واستبداله بغيره ؛ كدين السلم، أو الساعي على الزكاة أو المستحق لها(1).
ويتفرع عن هذا الشرط الحديث عن ديون ثار خلاف بين الفقهاء في صحة الحوالة بها أو عليها، منها:
1 ـ الدين المُسْلَم فيه (المبيع الآجل في السلم):
وصورة الحوالة به: كما لو أحال البائع (المُسْلَم إليه) المشتري (المسلِم) سلماً على من له عليه قرض، أو أتلف مال البائع.
وأما الإحالة على المُسلَم فيه: كما إذا أحال المشترى شخصاً آخر على البائع (المسلم إليه) ليأخذ مقدار السلم، فقد اختلف الفقهاء في صحة الحوالة به أو عليه على قولين:
القول الأول: يرى صحة الحوالة بالمسلم فيه: وهو قول الحنفية وبعض الحنابلة(2)، واستدلوا بدليلين:
قياس الحوالة على الكفالة بجامع أن كلاً منهما عقد التزام بما على المدين، فكما أن الكفالة تصح بالمسلم فيه فكذا الحوالة(3).
__________
(1) 12 مغني المحتاج: الشربيني 2/194.
(2) البدائع: الكاساني 5/214، الإنصاف: المرداوي 5/223.
(3) البدائع: الكاساني 5/214.(3/48)
إن المسلم فيه منزل منزلة الموجود لصحة الإبراء منه(1).
القول الثاني: يرى عدم صحة الحوالة بالمسلم فيه أو عليه: وهو قول الشافعية وأكثر الحنابلة.
واستدلوا بأن الحوالة لا تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه(2)، والمسلم فيه لا يجوز أخذ العوض عنه لقوله صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره "(3).
القول الراجح:
والراجح عندي هو صحة الحوالة بالدين المسلم فيه ؛ لأن الحوالة بمنزلة الوفاء.
2 ـ رأس مال السلم (الثمن المعجل):
__________
(1) الإنصاف: المرداوي 5/223، الفروع، أبو عبد الله بن مفلح 4/256.
(2) المغني: ابن قدامة 7/57.
(3) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب السّلف لا يحول، ح3468، 3/276، واللفظ له، سنن ابن ماجة، كتاب التجارات، (60) باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره، 2/766، ح2283، وفيه راوٍ ضعيف، وهو عطية العوفي، ضعفه أحمد، التعليق المغني على الدارقطني: محمد شمس الحق العظيم آبادي 3/45.(3/49)
يرى جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، وأكثر الحنابلة(1)، عدم صحة الحوالة برأس مال السلم، استناداً إلى أن المسلم فيه دين، والافتراق عن غير قبض رأس مال السلم يكون افتراقاً عن دين بدين، وهو ممنوع، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، ويرى بعض الحنابلة صحة الحوالة به بعد فسخه، استناداً إلى أنه دين مستقر(2).
__________
(1) البدائع: الكاساني 5/204، حاشية الباجوري 1/609، الإنصاف: المرداوي 4/225.
(2) الفروع: أبو عبد الله بن مفلح 4/256.(3/50)
وبعد هذا البيان الموجز يتضح أن أكثر الحنابلة يشترطون هذا الشرط، وقد عبر المالكية عنه باشتراطهم أن لا يكون الدينان حاصلين من بيع الطعام، كالحبوب ونحوها، فإذا أسلم زيد إلى بكر عشرين ديناراً في قمح، وأسلم بكر إلى خالد عشرين ديناراً في قمح أيضاً، فهنا لا يجوز لبكر أن يحيل زيداً على خالد ليأخذ منه القمح المسلم فيه، ففي هذه الصورة كان الدينان من بيع سلم فلا تجوز الحوالة، لما يلزم عنه من بيع الطعام قبل قبضه، وهو ممنوع بقوله صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعاماً فلا يبِعه حتى يقبضه، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام "(1).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب البيوع، 8 باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح1525، 3/1195.(3/51)
ومقتضى هذه العلة أن تمنع عندهم الحوالة بدين على دين، وكان أحدهما طعاماً من بيع، والآخر من قرض، وهذا ما قرره ابن رشد، وجرى عليه خليل(1) في البيوع.
__________
(1) 13 خليل: ضياء الدين خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، المعروف بالجندي، فقيه مالكي من أهل مصر، تعلم بالقاهرة، فولي الإفتاء على مذهب مالك، من تصانيفه: المختصر، وهو عمدة المالكية في الفقه، وعليه تدور غالب شروحهم، توفي بالطاعون سنة 776هـ، الأعلام: الزركلي 2/315، معجم المؤلفين: كحالة 1/680.(3/52)
ولكن في الحوالة عليه نص على عدم امتناع هذه الصورة متى كان أحد الدينين حالاّ، كما حُكي عن مالك نفسه، وعليه سائر أصحابه عدا ابن القاسم(1)، فلم يصححها إلا بشرط حلول الدينين، تنزيلاً للحوالة منزلة القبض(2).
القول الراجح:
يبدو لي عدم اشتراط هذا الشرط مطلقاً ؛ لأمرين:
الأول: إن من قال بهذا الشرط بنى رأيه على أن الحوالة من قبيل بيع الدين بالدين، وقد سبق ترجيح القول بأنها عقد مستقل(3).
__________
(1) 13 ابن القاسم: هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري، شيخ حافظ، حجة، فقيه، صحب مالكاً، وتفقه به ونظرائه، لم يروِ أحد الموطأ عن مالك أثبت منه، وروى عن مالك المدونة، وهي من أجل كتب المالكية، توفي بالقاهرة سنة 191هـ. وفيات الأعيان: ابن خلّكان 3/129، الأعلام: الزركلي 3/323، معجم المؤلفين: كحالة 2/106.
(2) حاشية الخرشي 6/19، المقدمات والممهدات: ابن رشد 2/405، البهجة شرح التحفة: التسولي 2/57، التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل: المواق 5/93، 94.
(3) انظر ص 13 من هذه الرسالة.(3/53)
الثاني: إن الحوالة بمنزلة القبض(1).
الشرط الثالث: أن يكون المحال به أو عليه مستقراً:
المال المستقر هو ما لا يتطرق إليه الانفساخ بتلف مقابله، أو فواته، بأي سبب كان، ومثاله: الثمن بعد تسليم المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة.
وغير المستقر هو: الذي يتطرق إليه الفسخ: كالأجرة قبل استيفاء المنفعة أو قبل مضي المدة، والثمن قبل قبض المبيع، فهذه كلها ديون لازمة يصح الاعتياض عنها، ولكنها غير مستقرة، لكونها عرضة للسقوط بفوات مقابلها.
وقد ذكر الحنابلة هذا الشرط، وفرّقوا بين استقرار المال المحال به، والمال المحال عليه:
أما استقرار المال المحال به: فيرى بعضهم اشتراط استقرار المال المحال به، في حين يرى جمهورهم ـ وهو الصحيح ـ أنه لا يشترط استقراره(2)، لأن المدين له أن يسلم الدين إلى الدائن قبل استقراره، والحوالة به تقوم مقام تسليمه(3).
__________
(1) سيأتي إن شاء الله بيان ذلك في ص87 من هذه الرسالة.
(2) الإنصاف: المرداوي 5/223، 224.
(3) كشاف القناع: البهوتي 3/372.(3/54)
وأما استقرار المال المحال عليه: فقد اشترطه جمهورهم، وقطع به كثير منهم(1).
واستند من اشترط استقرار المال المحال به وعليه إلى أن الحوالة تقتضي بطبيعتها إلزام المحال عليه بالدين مطلقاً، وما ليس بمستقر عرضة للسقوط، فلا يتحقق الإلزام(2).
رأي الباحث:
والذي أراه هو اشتراط استقرار المحال به ؛ لأن غير المستقر لا يملكه الدائن، فلا تصح الإحالة به.
كما أرى عدم اشتراط أن يكون المال المحال عليه مستقراً، لأن المحيل إذا أحال دائنه على رجل، وقبل هذا الرجل الحوالة، وأدى إلى المحال ـ ولو كان من مال نفسه إذا لم يكن مديناً للمحيل ـ كان هذا هو المطلوب، وإن الوفاء قد حصل بذلك.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) الإنصاف: المرداوي 5/223، المغني: ابن قدامة 7/57.
(2) كشاف القناع: البهوتي 3/371، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/256.(3/55)
الشرط الرابع: أن يكون محل الحوالة معلوماً: اشترط الفقهاء في محل الحوالة (المال المحال به أو عليه) أن يكون معلوماً(1)، وذلك على النحو التالي:
نصّ الحنفية على اشتراط أن يكون المال المحال به معلوماً، فلو كان مجهولاً لا تصح به الحوالة، فلو قال شخص لآخر: إني قبلت حوالة ما يثبت لك من الدين عند فلان، ورضي ذلك الشخص، فلا تصح الحوالة، ولا يجبر الشخص المذكور على التأدية إذا ثبت لذلك الشخص مطلوب، وذلك بخلاف الكفالة، فإنها تصح بالمال معلوماً ومجهولاً ؛ إذ القاعدة عندهم: أن كل دين تصح به الكفالة تصح به الحوالة ما لم يكن مجهولاً، ولم يشترط الحنفية هذا الشرط في المال المحال عليه(2).
__________
(1) لم يصرح المالكية بهذا الشرط ؛ لأن الحوالة عندهم بيع دين بدين، وهم يشترطون لصحة البيع أن يكون المبيع معلوماً، فاكتُفيَ بالأحكام العامة في عقد البيع.
(2) 14 البحر الرائق: ابن نجيم 6/270، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/7، درر الحكام:علي حيدر 2/31، 32(3/56)
هذا عند الأحناف، أما الشافعية والحنابلة فإنهم اشترطوا أن يكون المحل (المال المحال به أو عليه) معلوماً لدى المتعاقدين (المحيل والمحال عليه) ؛ لأن الحوالة إن كانت بيعاً فلا يصح في المجهول، وإن كانت عقداً مستقلاً أو استيفاء فيعتبر فيها التسليم ليحصل الاستيفاء، والجهالة تمنع منه(1).
وهؤلاء يحددون بوضوح كيف يكون المال معلوماً، حيث إنهم يفرقون بين ما ليس له صفات ضابطة ؛ كالأحجار الثمينة من نحو لؤلؤ وياقوت، وما يتعرض للنار كالخبز، والشواء ؛ لأن كلاً من عمل النار وصفاء الجواهر مؤثر في القيمة، فيكون مجهولاً لا تصح الحوالة به أو عليه(2)، وبين ما له صفات ضابطة، وهو أنواع اختلف الفقهاء فيها كالتالي:
__________
(1) 14 نهاية المحتاج: الرملي 4/425، المهذب: الشيرازي 1/337، كشاف القناع: البهوتي 3/373.
(2) المهذب: الشيرازي 1/297.(3/57)
المال المخصوص بالثمنية كالذهب، والفضة، والأوراق النقدية: فهو من المال المعلوم التي تصح به الحوالة من غير نزاع بين الفقهاء، وقد اقتصر عليه بعض الشافعية، فلم يجوزوا الحوالة بغيره ؛ كالطعام ؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يُستوفى(1).
المال المثلي: والمراد به أن يكون من جنس ما يُكال أو يوزن ؛ كالطعام مثلاُ، ويُضاف إليه كل ما استُحدث في عصرنا من صناعات وأدوات كهربية، كالسيارة والغسالة والثلاجة والتلفزيون والمذياع …… الخ، بشرط أن تكون جديدة، محددة الصفات، حتى تتحقق المثلية ؛ لأن المقصود من الحوالة وصول المحال إلى حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه(2).
ما لا مثل له مما ينضبط بالصفات كالثياب، والحيوان، والعروض التي يصح السّلَم فيها، ففي صحة الحوالة به وعليه قولان:
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 2/194، الإحكام شرح عمدة الأحكام: ابن دقيق العيد 3/199.
(2) تكملة المجموع: المطيعي 13/428، كشاف القناع: البهوتي 3/373.(3/58)
القول الأول: يرى عدم صحة الحوالة به وعليه: وهو قول بعض الشافعية والحنابلة(1)، واستدلوا بدليلين:
إن المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله بالإتلاف.
إنه مال قيمي: والحوالة بالقيمي حوالة بغير معلوم ؛ لأن تمام معلوميته متوقفة على تقويمه، والجهالة في الحوالة ممتنعة.
القول الثاني: يرى أن الحوالة تصح به وعليه: وهو قول أكثر الشافعية والحنابلة(2)، استناداً إلى أنه مال ثابت في الذمة، يجوز بيعه قبل قبضه، فجازت الحوالة به كالمثلي.
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو صحة الحوالة بكل ما ينضبط بالصفات، سواء كان مثلياً أو قيمياً ؛ لأمرين:
إن ما له صفات تضبطه يتنزّل منزلة المثلي.
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 2/195، تكملة المجموع: المطيعي 13/428، شرح الزركشي على مختصر الخرقي 4/112.
(2) مغني المحتاج: الشربيني 2/194، نهاية المحتاج: الرملي 4/424، شرح الزركشي 4/112، كشاف القناع: البهوتي 3/374.(3/59)
إن جواز الحوالة بالنقود والمثليات والمخترعات الحديثة في عصرنا تتيح الفرصة للمحال أن يقبل المال المحال عليه الذي يناسبه، ويحقق مصلحته وهدفه في الحصول على دينه عن طريق الحوالة.
الحاصل: أنه لا نزاع في اشتراط أن يكون المحل معلوماً، لأن الجهالة تفضي إلى الخصومة والمنازعة وتعذر الوفاء.
الشرط الخامس: أن يكون الدين المحال به أو عليه ثابتاً قبل الحوالة:
اختلف العلماء في ضرورة هذا الشرط للحوالة، فشدد فيه المالكية والحنابلة، بينما تساهل فيه الشافعية والحنفية.
أولاً: صرح بهذا الشرط المالكية، فقد اشترطوا وجود الدين قبل الحوالة(1)، وفرعوا على ذلك أنه لو أحال على غير مدين، ثم قام المحيل بإعطاء المحال عليه ما يقضي به دين الحوالة، فأفلس هذا أو مات قبل أن يقضي الدين، يكون للمحال الحق في الرجوع على المحيل بدينه، ثم يرجع المحيل بدوره على المحال عليه(2).
__________
(1) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5/402.
(2) المنتقى على الموطأ: الباجي 5/70.(3/60)
وقد اشترط الحنابلة أيضاً هذا الشرط حتى إنهم قالوا: " لو أحال من لا دين عليه على من عليه دين، فليس بحوالة، بل وكالة ثبتت فيها أحكامها، لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله، ولا حق هنا ينتقل، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى، وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين ؛ كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحال.
" وكذلك لو أحال من عليه دين على من لا دين عليه، فهي ليس بحوالة، نص عليه أحمد، وبالتالي فلا يلزم المحال عليه الأداء، ولا يلزم المحال قبولها، لأن الحوالة معاوضة دين بدين، ولا معاوضة هنا، وإنما هو اقتراض(1).
ثانياً: ويرى الشافعية عدم اشتراط هذا الشرط ؛ حيث إنهم جوزوا الحوالة بالثمن على المشتري في زمن الخيار إذا كان الخيار للبائع، أو لهما، والثمن في زمن الخيار لم ينتقل من ذمة المشتري.
ويمكن تعليل ذلك: بأن البائع إذا أحال فقد أجاز العقد، فوقعت الحوالة مقارنة
للمِلك، وهذا كافٍ(2).
__________
(1) المغني: ابن قدامة 7/58، 59 بتصرف.
(2) 15 مغني المحتاج: الشربيني 4/194.(3/61)
ولم يشترط الحنفية هذا الشرط في المال المحال عليه، يقول صاحب البدائع: " أما وجوب الدين على المحال عليه قبل الحوالة فليس بشرط لصحة الحوالة حتى تصح، سواء كان للمحيل على المحال عليه دين أو لم يكن، وسواء كانت الحوالة مطلقة أو مقيدة "(1).
القول الراجح:
والذي أراه راجحاً هو اشتراط ثبوت الدين المحال به قبل الحوالة لما سبق من أنه لا بد من وجوده لصحة الحوالة، فإذا تخلف تنعقد وكالة(2).
كما أرى عدم اشتراط أن يكون الدين المحال عليه ثابتاً قبل الحوالة، لما سبق ترجيح القول بعدم اشتراط ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه(3).
الشرط السادس: أن يكون الدين المحال به حالاًّ:
اختلف الفقهاء في اشتراط حلول الدين المحال به أو عليه على قولين:
__________
(1) 15 البدائع: الكاساني 6/16.
(2) انظر ص52 من هذه الرسالة.
(3) انظر ص61 من هذه الرسالة.(3/62)
القول الأول: يرى أن الحوالة لا تصح بدين لم يحلّ أجله ؛ إلا إذا كان الدين المحال عليه قد حلّ، وهو قول المالكية(1).
ويشترط الحنفية حلول المال المحال به في الحوالة بمال القاصر إذا كان ديناً وجب للصغير بإرث، أو إتلاف مال، أمّا إذا وجب المال للصغير بعقد الولي أو الوصي، فيجوز التأجيل عند أبي حنيفة ومحمد، بخلاف أبي يوسف(2).
القول الثاني: يرى عدم اشتراط حلول المال المحال به، وهو قول الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يشترطون تماثل الحقين في الحلول والتأجيل(3).
الأدلة:
أولاً: أدلة القول الأول:
استدل المالكية على اشتراط حلول الدين المحال عليه إذا لم يكن المال المحال به حالاً بما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع "(4)
__________
(1) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/55، مواهب الجليل: الحطاب 5/92، 93، حاشية الخرشي 6/18.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/70، الفتاوى الهندية 3/298.
(3) المهذب: الشيرازي 1/338، الحاوي: الماوردي 8/92، كشاف القناع: البهوتي 3/373.
(4) سبق تخريجه ص 14 من هذه الرسالة.(3/63)
وجه الدلالة: يدل الحديث على أن الحوالة لا تشرع إلا إذا كان الدين قد حلّ ؛ لأن المطل والظلم لا يتصوران إلا فيما حلّ(1).
إن الدين المحال به إذا لم يكن حالاً كان ذلك تعمير ذمة بذمة، وهو ممنوع بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ(2).
إنه يترتب عليه ربا النساء إذا اجتمعت في الدينين علة ربوية(3).
إن الحوالة رخصة مستثناة من بيع الدين بالدين، ولا تجوز إلا فيما رخص فيه، وهي أن تكون بدين حالّ(4).
واستدل الحنفية على اشتراط حلول المال المحال به في الحوالة بمال القاصر: بأن تأجيل الحوالة يترتب عليه إبراء مؤقت، فيقاس ذلك على الإبراء المؤبد، والمعروف أن تصرف ولي القاصر أو وصيه منوط بمصلحته وليس من المصلحة تأجيل الدين(5).
ثانياً: أدلة القول الثاني:
__________
(1) الذخيرة: القرافي 9/241، منح الجليل: عليش 6/187.
(2) منح الجليل:عليش 6/187، مواهب الجليل: الحطاب 5/92، 93، سبق تخريج الحديث ص 12 من هذه الرسالة.
(3) 16 المراجع السابقة، والمقدمات والممهدات: ابن رشد 2/414.
(4) 16 منح الجليل: عليش 6/187.
(5) البحر الرائق: ابن نجيم 6/70.(3/64)
واستدل القائلون بعدم اشتراط حلول المال المحال به، بأن الحوالة نقل للدين، فلا بد أن ينتقل بالصفة التي كان ثابتاً فيها، سواء كان مؤجلاً أم معجلاً(1).
القول الراجح:
وأرجح في هذه المسألة عدم اشتراط هذا الشرط ؛ لأمرين:
إن اشتراطه مبني على أن الحوالة رخصة مستثناة من بيع الدين بالدين، وسبق القول بأن الحوالة عقد مستقل(2).
إنه أيسر للناس في تعاملهم التجاري، وأسهل على المدينين في أداء الدين.
الشرط السابع: تساوي المالين (المحال به، والمحال عليه) في الجنس، والقدر، والصفة:
اشترط جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة تساوى المالين في الجنس والقدر والصفة(3)، وذلك لسببين:
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/92، المغني: ابن قدامة 7/56،57.
(2) انظر ص 13 من هذه الرسالة.
(3) الذخيرة: القرافي 9/244، المهذب: الشيرازي 1/338، كشاف القناع: البهوتي 3/373.(3/65)
الأول: إن الحوالة عقد إرفاق كالقرض ـ حتى عند من يعتبر الحوالة معاوضة(1) ـ المقصود منه الإيفاء والاستيفاء، فإذا دخل فيه الفضل في الجنس، أو القدر، أو الصفة، صار المقصود منه الاسترباح والتجارة، فتخرج بذلك عن موضوعها لتصير بيعاً، وبيع الدين بالدين لا يجوز(2).
الثاني: إن الحوالة كالمقاصة(3) ؛ لأن المحيل يسقط ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، والمقاصّة لا تصح فيما اختلف في الجنس، والصفة، والمقدار، فكذلك الحوالة(4).
ومثال التساوي في الجنس: كذهب بذهب، أو فضة بفضة، فلا تصح الحوالة بالذهب على الفضة أو العكس.
والتساوي في القدر: بأن لا يكون المأخوذ من المحال عليه أكثر من الدين المحال به أو أقل، فلا تصح الحوالة بخمسة على عشرة أو العكس.
والتساوي في الصفة: كجيد بجيد، فلا تصح الحوالة بالرديء على الجيد، ولا العكس.
__________
(1) أسنى المطالب: الأنصاري 2/231.
(2) المراجع السابقة.
(3) انظر معنى المقاصّة ص4 من هذه الرسالة.
(4) تكملة المجموع: المطيعي 13/430، كشاف القناع: البهوتي 3/373 ,(3/66)
ومن الشافعية والحنابلة من يصحح الحوالة مع التفاوت في الصفة إذا كان لمصلحة المحال، كما لو تحول عن الرديء إلى الجيد ؛ لأن المحيل حينئذٍ يكون متبرعاً بالزيادة على سبيل حُسن القضاء(1).
والمالكية يمنعون التحول على الأعلى صفة أو الأكثر قدراً، قولاً واحداً، لأنه سلف في زيادة، وفي التحول على الأدنى صفة، أو الأقل قدراً، ترددٌ عندهم بين الجواز والمنع، وعللوا الجواز بكونه ـ أي الزيادة ـ معروفاً، أما المنع: فإنه ـ أي الزيادة ـ شرطٌ فيه منفعة، فيخرج عن المعروف، لكن لا خلاف عندهم في صحة الحوالة مع التفاوت في القدر إذا وقعت بلفظ الإبراء من الزيادة، والحوالة بالباقي ؛ كما لو قال الدائن بألف للمحيل: أبرأتُكَ من ثلاثمائة، وأحلني بالباقي على فلان(2).
__________
(1) 17 مغني المحتاج: الشربيني 2/195، شرح الزركشي: 4/111.
(2) 17 حاشية الخرشي 6/18.(3/67)
والتساوي في الصفة يشمل عند الشافعية والحنابلة التساوي في الحلول والأجل، وقدر الأجل، فلا تصح الحوالة عندهم بالحالّ على المؤجل، ولا بمؤجل على حالّ، ولا بمؤجل إلى شهر، على مؤجل إلى شهرين(1).
ومن الشافعية مَن قال بصحة الحوالة بالمؤجل على الحالّ، وبأبعد الأجلين على الأقرب ؛ لأن للمحيل أن يعجل ما عليه، بخلاف العكس ؛ لأن تأجيل الحالّ لا يصح(2).
ونصّ الحنابلة على أنه لو حلّ أجل الدينين، واشترط المحيل أو المحال عليه على المحال أن يقبض حقه بعد شهر، لا تصح الحوالة، ويجب القبض حالاًّ ؛ لأن الحالّ لا يتأجل(3)، كما نصوا على أنه متى صحت الحوالة فتراضى كلٌ من المحال والمحال عليه بتعجيله وهو مؤجل، أو بتأجيله وهو حالّ، جاز ؛ لأن ذلك يجوز في القرض، فهنا أولى(4)
__________
(1) قليوبي وعميرة على المنهاج 2/321، مغني المحتاج: الشربيني 2/195.
(2) قليوبي وعميرة على المنهاج 2/321، مغني المحتاج: الشربيني 2/195.
(3) كشاف القناع: البهوتي 3/373.
(4) المرجع السابق 3/375، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/258.(3/68)
ولم يشترط الحنفية هذا الشرط، فتجوز الحوالة عندهم إذا كان العوضان متساويين، أو متفاوتين ؛ لأنهم جوزوا الحوالة على من لا دين عليه، فجازت من باب أولى على من عليه دين.
رأي الباحث:
الذي أراه هو عدم اشتراط هذا الشرط مطلقاً، لما يلي:
إن القائلين بهذا الشرط بنوا رأيهم على أن الحوالة من باب البيع، أو من باب الاستيفاء، وقد سبق ترجيح القول بأن الحوالة عقد مستقل(1).
إن اعتماد هذا الشرط يترتب عليه تحجيم الحوالة، وحصر التعامل بها في دائرة ضيقة، والأصل في مثل هذه المعاملة ـ التي أصبحت عنصراً أساسياً في الحياة التجارية والمدنية على حد سواء ـ التوسعة، وعدم التضييق، مراعاة لمقصد تشريع الحوالة، ومصداقاً لقول الله ـ عز وجل ـ (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر (2).
الشرط الثامن: قبض المال المحال عليه في المجلس إن كان بدل صرف أو رأس مال سلم.
__________
(1) انظر ص 13 من هذه الرسالة.
(2) سورة البقرة، الآية 185.(3/69)
اشترط الفقهاء لصحة الحوالة ببدل الصرف أو برأس مال السلم، قبض المال المحال عليه في مجلس العقد قبل افتراق المتعاقدين، وإلا كانت الحوالة باطلة، وتفصيل الكلام عن ذلك في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: الحوالة ببدل الصرف:
أ ـ أقوال العلماء:
لو تعاقد المتصارفان، وأحال أحدهما صاحبه بما استحق عليه على آخر، فلا خلاف بين الفقهاء(1) في أن المحال عليه إذا لم يدفع إلى المحال في المجلس قبل افتراق المتعاقدين أن الصرف باطل، وكذلك الحوالة، ولا عبرة بافتراق المحال عليه ما دام المتصارفان وهما هنا المحال والمحال عليه لم يفترقا ؛ لأن القبض من حقوق العقد، فيتعلق بالمتعاقدين، وإنما الخلاف فيما لو دفع المحال عليه في مجلس العقد قبل الافتراق، حيث إن للفقهاء في هذه المسألة قولين:
__________
(1) البدائع: الكاساني 5/203، الفتاوى الهندية 3/247، مواهب الجليل: الحطاب 4//308، تكملة المجموع: السبكي 10/89.(3/70)
القول الأول: يرى صحة الحوالة إذا قبض المحال بدل الصرف من المحال عليه قبل افتراق المتعاقدين: وهو قول الحنفية عدا زفر، وقول سحنون(1) من المالكية، وقول بعض الشافعية، وهو قول الزيدية(2).
__________
(1) سحنون هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، قاضي، فقيه، مالكي، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب، كان زاهداً لا يهاب سلطاناً في حق يقوله، أصله حمصي، مولده في القيروان التي ولي القضاء بها، واستمر بها إلى أن مات سنة 240هـ، روى المدونة في فروع المالكية عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. انظر: وفيات الأعيان: ابن خلّكان 3/181، الأعلام: الزركلي 4/5، معجم المؤلفين: كحالة 2/146.
(2) 18 البدائع: الكاساني 5/203، 218، الفتاوى الهندية: 3/247، مواهب الجليل: الحطاب 4/308، الحاوي: الماوردي 6/174، تكملة المجموع: السبكي 10/144، البحر الزخار: ابن المرتضى 4/386.(3/71)
القول الثاني: يرى عدم صحة الحوالة ببدل الصرف حصل القبض في المجلس أم لا وهو قول زفر من الحنفية، ومذهب المالكية وبعض الشافعية، وهو قول الإباضية(1).
ب ـ منشأ الخلاف:
يرجع سبب اختلافهم في ذلك إلى اختلافهم في الحوالة، هل هي بيع؟ وبناء عليه لا تصح ببدل الصرف، وإن حصل القبض في المجلس، أو هي استيفاء، فتصح الحوالة به بحصول القبض في المجلس(2).
ج ـ الأدلة:
أولاً: أدلة القول الأول:
استدل القائلون بصحة الحوالة إن حصل القبض من المحال عليه في المجلس بالمعقول من وجهين:
إن الشرط في الصرف التقابض، وألاّ يفارقه قبل القبض، والحوالة لا تخل بهذا الشرط ؛ بل تحققه ؛ لكونها وسيلة لاستيفاء الحق، فكانت مؤكدة له(3).
قياس الحوالة في الصرف على الوكالة، فكما جازت الوكالة في الصرف، فكذا تجوز الحوالة فيه(4).
__________
(1) 18 البدائع: الكاساني 5/318، مواهب الجليل:الحطاب 4/308، الحاوي:الماوردي 6/174، شرح النيل: اطفيش 8/612.
(2) الحاوي: الماوردي 6/174، تكملة المجموع: السبكي 10/144.
(3) البدائع: الكاساني 5/203.
(4) الحاوي:الماوردي 6/174.(3/72)
ثانياً: أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم صحة الحوالة ببدل الصرف، وإن حصل القبض قبل الافتراق بالمعقول من وجهين:
إن عقد الحوالة مشروع لتوثيق حق يحتمل التأخير عن المجلس، فإذا كان بما يتعجل قبضه ؛ كبدل الصرف، كان عديم الفائدة، فلا يحصل ما شرع له العقد فلا يصح(1).
إن الحوالة لا تكون إلا بما يتأخر قبضه في حين أن الصرف لا يكون إلا بناجز(2).
د ـ المناقشة:
نوقشت أدلة القائلين بمنع صحة الحوالة ببدل الصرف، وإن حصل القبض في المجلس بما يلي:
بالنسبة لقولهم: إن عقد الحوالة يقتضي توثيق حق يحتمل التأخير، فهو غير مسلم ؛ لأن الحوالة تقتضي توثيق الحق، سواء كان القبض في المجلس أو متأخراً عنه، ثم إن جازت الحوالة ؛ فإن قبض المصطرف من المحال عليه أو المحيل، فقد تم العقد بينهما إن كانا في المجلس، سواء بقي المحال عليه، أو افترق بعد أن كان العاقدان في المجلس(3).
__________
(1) البدائع: الكاساني 5/203.
(2) شرح النيل: اطفيش 8/612.
(3) البدائع: الكاساني 5/203.(3/73)
قولهم بالتفريق بين الحوالة ؛ حيث تكون بما يتأخر قبضه، وبين الصرف ؛ حيث لا يكون إلا بناجز، يمكن الاعتراض عليه بأننا نسلم بذلك، لكنا نشترط أن يتم التقابض بين المصطرف والمحال عليه في المجلس قبل الافتراق، فإذا جرى التقابض في المجلس فلا محل للقول بالتأخير.
هـ ـ القول الراجح
يبدو لي أن الراجح هو القول الأول القائل بصحة الحوالة ببدل الصرف إذا تم التقابض في المجلس لأمرين:
إنه أولى بالاعتبار ؛ لتوفر الحكمة التي من أجلها شرعت الحوالة، وهي تيسير معاملات الناس.
إن الحوالة هنا في حقيقتها وكالة في استيفاء بدل الصرف، فكأن المحيل وكل المحال عليه في أداء المال المستحق له في ذمة المحال عليه ثم أذن له في تمليكه.
الفرع الثاني: الحوالة برأس مال السلم:
أ ـ صورة المسألة وأقوال الفقهاء فيها: (3/74)
وصورتها كما لو أحال المُسلِم (صاحب الثمن العاجل) المُسلَم إليه (الملتزم بالمبيع الآجل) برأس مال السلم على رجل حاضر، فيرى جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية والحنابلة(1) أنه إذا لم يدفع المحال عليه في المجلس فالسلم باطل، والحوالة باطلة(2) ؛ استناداً إلى أن رأس مال السلم لا بد أن يكون مقبوضاً ؛ لأن المسلم فيه دين فلو لم يسلم رأس مال السلم لكان العقد كله ديناً في دين، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ(3) كما تقدم(4).
أما لو دفع المحال عليه رأس مال السلم في المجلس قبل الافتراق، فقد اختلف الفقهاء في صحة الحوالة على قولين:
__________
(1) البدائع: الكاساني 5/201، الحاوي:الماوردي 7/22، كشاف القناع: البهوتي 3/293.
(2) يرى الإمام مالك أنه لا بأس إن افترق المسلم والمسلم إليه قبل أن يقبض رأس المال إذا قبضه بعد يوم أو يومين أو نحو ذلك. انظر المدونة الكبرى: الإمام مالك 3/138.
(3) 19 البدائع: الكاساني 5/202.
(4) 19 انظر ح5 من ص 12 من هذه الرسالة.(3/75)
القول الأول: يرى صحة الحوالة إذا سلم المحال عليه المحال (المسلم إليه) في المجلس: وهو قول الحنفية عدا زفر(1).
القول الثاني: عدم صحة الحوالة برأس مال السلم، وإن قبض المسلم إليه (المحال) في المجلس: وهو قول زفر من الحنفية وقول الشافعية(2).
ب ـ الأدلة:
أولاً: أدلة القول الأول
استدل القائلون بصحة الحوالة إذا سلم المحال عليه في المجلس بدليل المعقول الآتي:
إن شرط رأس مال السلم هو أن يكون مقبوضاَ في المجلس، وعقد الحوالة لا يخل بهذا الشرط، بل يحققه لكونه وسيلة إلى استيفاء الحق، فكانت مؤكدة له(3)
ثانياً: أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم صحة الحوالة برأس مال السلم وإن سلم في المجلس، بدليلين من المعقول:
إن عقد الحوالة شرع لتوثيق حق يحتمل التأخير عن المجلس، فإذا كانت الحوالة بما يلزم تعجيله في المجلس فتكون عديمة الفائدة، وبالتالي لا تصح(4).
__________
(1) البدائع: الكاساني 5/203.
(2) المرجع السابق، حاشية الشرقاوي 2/70، حاشية قليوبي وعميرة على المنهاج 2/245.
(3) البدائع: الكاساني 5/203.
(4) المرجع السابق.(3/76)
إن الحوالة ليست قبضاً حقيقياً، فإن المحال عليه يؤديه عن جهة نفسه لا عن جهة المسلم(1).
ج ـ المناقشة والترجيح:
يُقال هنا ما قد قيل من قبل في الفرع الأول وهو الحوالة ببدل الصرف، سواء في المناقشة أو الترجيح.
---
__________
(1) حاشية الباجوري 1/609.(3/77)
المبحث الخامس: آثار الحوالة
في هذا المبحث أتكلم عن آثار الحوالة في ثلاثة مطالب، وذلك بمقتضى علاقات الأطراف الثلاثة بعضها ببعض، وذلك على النحو التالي:
المطلب الأول: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال
المطلب الثاني: أثر الحوالة في علاقة المحال بالمحال عليه.
المطلب الثالث: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال عليه.
المطلب الأول: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال
أولاً: أقوال الفقهاء:
إذا تم عقد الحوالة مستوفياً أركانه وشروطه، فقد اختلف الفقهاء في القول ببراءة ذمة المحيل من الدين، ترتيباً على اختلافهم في طبيعة الحوالة، وذلك بحسب الأقوال التالية:(4/1)
القول الأول: يرى أنه بمجرد انعقاد الحوالة مستوفية الأركان والشروط، ينتقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وتبرأ ذمة المحيل مؤبداً، ولا يعود إليه الحق، ولو تعذر استيفاؤه بمطل أو فلس، أو موت، أو غيرها، وهو قول الإمام علي وأبي ثور(1)، ومذهب الشافعية والمالكية(2)، إلا أن المالكية(3) وأبا العباس بن سريج(4)
__________
(1) أبو ثور: هو إبراهيم بن خالد بن اليمان، الكلبي، البغدادي، الفقيه، مفتي العراق، صاحب الشافعي، صنف الكتب، وفرع على السنن، ومن كتبه: اختلاف مالك والشافعي، ولد سنة 170 هـ، ومات ببغداد سنة 240 هـ.. انظر سير أعلام النبلاء: الذهبي 12/72 ـ 76.
(2) الحاوي:الماوردي 8/94، المهذب: الشيرازي 1/338، الذخيرة: القرافي 9/249، شرح السنة: البغوي 8/210.
(3) منح الجليل: عليش 6/194، مواهب الجليل: الحطاب 5/94.
(4) أبو العباس بن سريج: هو أحمد بن سريج، القاضي أبو العباس البغدادي، حامل لواء الشافعية في زمانه، أخذ عنه الفقه خلق كثير، ولي قضاء شيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي، حتى عن المزني، توفي سنة ست وثلاثمائة عن سبع وخمسين سنة … انظر طبقات الشافعية: ابن قاضي شهبة 1/89 ـ 91.(4/2)
من الشافعية(1)، قالوا إن المحال يرجع على المحيل في حالتين:
الحالة الأولى: إذا شرط المحال الرجوع على المحيل متى أفلس المحال عليه، أو جحد أو مات فله شرطه، وهو موافق لرأي الحنابلة(2)
الحالة الثانية: حالة الغرر، فإذا غرَّ المحيل المحال، كما لو كان المحيل يعلم أن المحال عليه مفلس مع جهل المحال بذلك، ففي هذه الحالة يرجع المحال إلى المحيل، وهو
موافق مذهب الظاهرية(3).
وهو أيضاً مذهب الحنابلة الذين يرون التفرقة بين أمرين.
الأول: أن تتم الحوالة برضا المحال، ففي هذه الحالة لا يرجع المحال على المحيل، إلا إذا اشترط ملاءة المحال عليه، ثم بان مفلساً.
وإذا كان جاهلاً بحال المحال عليه، أو ظنه مليئاً، ثم بان مفلساً، ففي المذهب روايتان:
الأولى: لا يرجع، ويبرأ المحيل من دين المحال، وهذا هو الصحيح في المذهب.
الثانية: يرجع، ولا يبرأ المحيل من دينه.
__________
(1) الحاوي:الماوردي 8/97.
(2) المغني: ابن قدامة 7/62، الإنصاف: المرداوي 5/228.
(3) المحلى: ابن حزم 8/109.(4/3)
الثاني: أن تتم الحوالة دون رضا المحال، ثم يتبين أن المحال عليه مفلس أو متوفىً، فله حق الرجوع على المحيل(1).
القول الثاني: وهو للحنفية ما عدا زفر، حيث يرون براءة ذمة المحيل.
ولكنهم اختلفوا فيما بينهم، هل براءة ذمة المحيل تكون من الدين والمطالبة، أم من المطالبة فقط؟ على روايتين كالتالي:
الأولى: إن براءة ذمة المحيل تكون من المطالبة فقط، وهذه الرواية منسوبة إلى الإمام محمد ابن الحسن.
الثانية: إن ذمة المحيل تبرأ من الدين والمطالبة، وهذه الرواية منسوبة إلى الإمام أبي يوسف، وهي الرواية الصحيحة في المذهب(2).
__________
(1) الإنصاف: المرداوي 5/228 ـ 229.
(2) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172، البدائع: الكاساني 6/17، البحر الرائق: ابن نجيم 6/266.(4/4)
وقد اتفقت الروايتان على أن الدين يعود إلى ذمة المحيل عند التوى(1)، ويتحقق تواء الدين في حالات ثلاث(2):
الموت مفلساً: وهو موت المحال عليه دون أن يترك ما يوفي الدين، أو كفيلاً به.
جحود الحوالة ولا بينة: وهو أن يجحد المحال عليه الحوالة ويحلف، ولا بينة، واتفق الصاحبان مع الإمام على هذين الوجهين، وأضافا وجهاً ثالثاً، وهو:
أن يفلِّس الحاكم المحال عليه بعد حبسه حال حياته.
وعند أبي حنيفة لا يتحقق التوى في هذه الحالة ؛ لاحتمال أن يطرأ له مال(3).
خلاصة هذا القول:
__________
(1) ومعنى التوى في اللغة: التلف والهلاك، وفي الاصطلاح: العجز عن الوصول إلى الحق. انظر: لسان العرب: ابن منظور 1/548، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173.
(2) 1 الفتاوى المهدية: 3/227.
(3) 1 الفتاوى المهدية 3/225، البدائع: الكاساني 6/18، البحر الرائق: ابن نجيم 6/273، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/246، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173، الفتاوى الهندية:3/290.(4/5)
إن المحيل يبرأ من الدين ولا يعود الدين إلى ذمته، إلا في حالة التوى ؛ بمعنى أن المحيل يبرأ من الدين براءة مقيدة بشرط سلامة حق المحال، فإذا تعذر عليه الوصول إلى حقه كان له الرجوع على المحيل بالأسباب السابقة.
القول الثالث: يرى أن ذمة المحيل لا تبرأ من دين المحال في عقد الحوالة كالكفالة ؛ حيث إن كلاً منهما عقد توثيق لا يؤثر في سقوط ما كان للمحال من المطالبة، وفي عقد الكفالة لا تبرأ ذمة الكفيل، وهو مذهب الإمام زفر من الحنفية(1).
ثانياً: منشأ الخلاف:
إن سبب الخلاف في ذلك هو اختلافهم في الحوالة هل هي بيع أو عقد مستقل بنفسه؟ أو هي استيفاء؟ أو هي عقد توثيق؟ فمن قال بأنها بيع قال بالبراءة المؤبدة، ومَن قال هي استيفاء، قال بالرجوع إذا تعذر استيفاء المحال من المحال عليه، ومن قال إنها عقد وثيقة قال إن ذمة المحيل لا تبرأ كالكفالة(2).
ثالثاً: الأدلة:
أ ـ أدلة القول الأول:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/17، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/241.
(2) المهذب: الشيرازي 1/338، الذخيرة: القرافي 9/249، 250.(4/6)
استدل القائلون ببراءة ذمة المحيل براءة مطلقة بالسنة، والأثر والمعقول:
أ ـ السنة: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم " مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع "(1).
وجه الدلالة: وذلك من وجهين:
إنه لو كان للمحال الرجوع على المحيل، لما كان لاشتراط الملاءة فائدة ؛ لأن المحال إذا لم يصل إلى حقه كان له الرجوع على المحيل، فلما شرط الملاءة دلَّ ذلك على أن الحق انتقل انتقالاً لا رجوع له به، فاشترط الملاءة حراسة لحقه، حتى لا يحصل ضرر على المحال.
إن ظاهر الحديث يوجب اتباع المحال عليه أفلس أم لم يفلس، أنصف أم لم ينصف، فلم يخص حالة دون حالة(2).
ب ـ الأثر:
__________
(1) سبق تخريجه ص 14 من هذه الرسالة.
(2) الحاوي:الماوردي 8/95، أسنى المطالب:الأنصاري 2/232، الذخيرة: القرافي 9/251.(4/7)
رُوي أنه كان لحزن(1) جد سعيد بن المسيِّب(2) على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مال، فأحاله به على إنسان، فمات المحال عليه، فرجع حزن إلى عليّ رضي الله عنه ـ وقال: قد مات من أحلتني عليه، فقال: " قد اخترت علينا غيرنا، أبعدك الله، ولم يعطِه شيئاً(3)
__________
(1) هو حزن بن وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، القرشي، المكي، جد سعيد ابن المسيِّب، أسلم يوم الفتح، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل، قال: لا أغيّر اسماً سمانيه أبي، قال سعيد بن المسيب: فما زالت فينا حزونة بعد، انظر تهذيب الكمال: المزي 5/590، 591
(2) هو سعيد بن المسيِّب بن حزن: أحد فقهاء المدينة السبعة، كان يعيش من تجارة الزيت، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأقضيته، حتى سمي راوية عمر، توفي في المدينة سنة 15 هـ، تهذيب الكمال: المزي 11/66، 75.
(3) لم أعثر على هذا الأثر فيما اطلعت عليه من كتب الآثار، ولكن ذكره الماوردي في الحاوي الكبير 8/95، وابن قدامة في المغني 7/61، وأبو إسحاق بن مفلح في المبدع في شرح المقنع 4/270، والكمال بن الهمام في شرح فتح القدير 7/245، وقد ذكر ابن حزم هذه الرواية بصورة مخالفة، وهي قوله: " روينا من طريق حمّاد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن علي بن عبيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لأبيه المسيب دين على إنسان ألفا درهم، ولرجل آخر على علي بن أبي طالب ألفا درهم، فقال ذلك الرجل للمسيب: أنا أحيلك على عليّ، وأحلني أنت على فلان، ففعلا فانتصف المسيب من عليّ، وتلف مال = = الذي أحاله المسيب عليه، فأخبر المسيب بذلك علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقال له علي: أبعده الله. المحلى: ابن حزم 8/109 ـ 110.(4/8)
.
وجه الدلالة: إنه لو كان للمحال حق الرجوع على المحيل في حالة الموت أو الفلس أو غيرهما، لَما استجاز عليّ ـ رضي الله عنه ـ أن يمنعه منه، وهو فعل منتشر بين الصحابة، ولم يُعرف له مخالف، فكان إجماعاً(1).
ج ـ المعقول: وهو من وجوه:
إن الحوالة في الحق تجري مجرى القبض بدليلين:
إن القبض صرف يجوز الافتراق فيه، ولما كانت الحوالة يجوز الافتراق فيها فهي قبض.
إن المحيل لو مات بعد الحوالة، وقبل أن يقبض المحال حقه، فإنه يجوز لورثته اقتسام التركة دون أن يشاركهم في ذلك المحال، فلولا أن الحوالة قبض، لما جاز للورثة اقتسام التركة إلا بعد أن يأخذ المحال حقه منها.. فدل هذا على أن الحق مقبوض، والحقوق المقبوضة إذا تلفت لا يستحق الرجوع بها، كالأعيان المقبوضة(2).
ومعنى ذلك أن الحوالة تشبه قبض الحق، وهلاك الحق بعد قبضه لا يقتضي اشتغال ذمة المدين بالحق مرة أخرى.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/95، المغني: ابن قدامة 7/61، الذخيرة: القرافي 9/251.
(2) 2 الحاوي: الماوردي 8/96.(4/9)
قياس فلس المحال عليه على هلاك المبيع بعد القبض، وعلى الغبن في البيع، فكما لا يرجع المشتري على البائع في هاتين الحالتين، كذا لا يرجع المحال على المحيل(1).
إنَّ تعذُّر استيفاء الحق لا يوجب فسخ الحوالة، بالقياس على ما لو أفلس المحال عليه حياً، كذلك فإن موت المحال عليه مفلساً لا يوجب فسخ الحوالة قياساً على موت المشتري مفلساً، فإنه لا يوجب الفسخ، بل عدم الفسخ في الحوالة أولى ؛ لأن الثمن قد ثبت لمعاوضة تنفسخ بهلاك المبيع في حين أن دين الحوالة لا ينفسخ بهلاك مقابله(2)
إن الحوالة اسم مشتق من التحويل، فهي توجب النقل، كما أن الضمان مشتق من انضمام ذمة إلى ذمة، وإذا كانت توجب النقل فلا يجوز أن يعود الحق بعد تحوله إلا بمثل ما انتقل به(3).
واستدل المالكية وموافقوهم على الرجوع في حالة الشرط والغرر بما يلي:
__________
(1) 2 نهاية المحتاج: الرملي 4/428، المهذب: الشيرازي 1/338، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232.
(2) الحاوي: الماوردي 8/95، الذخيرة: القرافي 9/250.
(3) الحاوي: الماوردي 8/95.(4/10)
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلمون عند شروطهم "(1)، وقد اشترط المحال على المحيل سلامة ذمة المحال عليه، فله شرطه.
إنه شرط فيه مصلحة، فهو من مقتضيات العقد، كما لو اشترط صفة في المبيع، وقد قال ابن قدامة " وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد، بدليل اشتراط صفة في المبيع "(2).
إن الفلس في المحال عليه عيب كسائر العيوب التي يستحق بها الرجوع على البائع، فكان للمحال الرجوع على المحيل إذا غره(3).
ب ـ أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن ذمة المحيل تبرأ من الدين إلا في حالة التوى بالسنة والأثر والمعقول:
أ ـ السنة: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع "(4).
__________
(1) سبق تخريجه ص 44 من هذه الرسالة.
(2) المغني: ابن قدامة 7/62.
(3) المغني: ابن قدامة 7/61، المنتقى على الموطأ: الباجي 5/67.
(4) سبق تخريجه ص 14 من هذه الرسالة.(4/11)
وجه الدلالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بأن يتبع المحال عليه إذا كان مليئا، فثبت أنه إذا لم يكن مليئاً يرجع على المحيل(1).
ب ـ الأثر: ما أخرجه البيهقي من طريق شعبة: أخبرني خليد بن جعفر قال: سمعت أبا إياس عن عثمان بن عفان قال: " ليس على مال امرئ مسلم توى "، يعني حوالة، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن عثمان في الحوالة " يرجع، ليس على مسلم توى "(2).
وجه الدلالة: يدل الأثر على أن المحال يرجع على المحيل في حالة التوى، ولم يعرف له مخالف من الصحابة، فكان إجماعاً(3).
ج ـ المعقول: وهو من وجهين كالتالي:
__________
(1) المبسوط: السرخسي 20/48.
(2) السنن الكبرى: البيهقي، كتاب الحوالة، 2 باب من قال يرجع على المحيل، لا توى على مال مسلم، ح11391، 6/117، وقد أعلَّه، المصنف لابن أبي شيبة، 84 في الحوالة أله أن يرجع فيها؟ ح20717، 4/336.
(3) 3 البدائع: الكاساني 6/18، إعلاء السنن التهانوي 14/560.(4/12)
إن المقصود من مشروعية الحوالة هو أن يتوصل المحال إلى حقه بالاستيفاء من المحال عليه على الوجه الأحسن، وليس المقصود منها مجرد الوجوب على المحال عليه ؛ لأن الذمم لا تختلف في نفس الوجوب، وإنما تختلف بالنسبة إلى الوفاء، وهذا هو المعلوم والمعروف بين الناس، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً(1)، فإذا لم يصل المحال إلى حقه بالاستيفاء، كان له الرجوع على المحيل، فصار وصف السلامة في الدين المحال به كوصف السلامة في المبيع، فإن هلاك المبيع قبل قبضه يوجب ردَّ الثمن إلى المشتري ؛ لأن العرف قاضٍ بأن المشتري ما بذل الثمن إلا ليحصل على سلعة سليمة، فإذا فات المقصود، عاد بالثمن، وهكذا يقال في الحوالة(2)
__________
(1) 3 الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: البورنو ص179.
(2) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/244، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172.(4/13)
إن الدين لا يسقط عن المدين إلا بالقضاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: " الدين مقضي "(1) أي يجب قضاؤه، وألحق الإبراء بالقضاء، والحوالة ليست بقضاء ولا إبراء(2).
واستدل من قال بسقوط المطالبة دون الدين بما يلي:
إن المحال إذا أبرأ المحال عليه من الدين فإن الأخير لا يرد هذا الإبراء، فلو انتقل الدين إلى ذمة المحال عليه لارتد إبراؤه ؛ لأنه يكون تمليكاً للدين ممن هو عليه، والتمليك يرتد بالرد ؛ كما في إبراء المحال للمحيل قبل الحوالة، فإنه يرتد بالرد.
إن المحيل إذا قضى الدين بعد الحوالة، وقبل أن يؤديه المحال عليه، لا يكون متطوعاً، ويجبر الدائن على القبول، فلو لم يكن عليه دين لكان متطوعاً، ولا يجبر الدائن على القبول.
إن المحال إذا وكل المحيل بقبض دين الحوالة من المحال عليه، لا تصح الوكالة، فلو انتقل الدين عن ذمة المحيل لصحت الوكالة ؛ لأن المحيل عندئذٍ يكون أجنبياً، وتوكيل الأجنبي بقبض الدين صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، 90 باب في تضمين العارية، ح3565، 2/265، واللفظ له، ابن ماجة، كتاب الصدقات، 9 باب الكفالة، ح4052، 2/804.
(2) البدائع: الكاساني 6/18.(4/14)
إن المحال إذا أبرأ المحال عليه، فليس للمحال عليه أن يرجع على المحيل بالدين، حتى ولو كانت الحوالة بأمر المحيل.
ولو وهب إلى المحال عليه يرجع به على المحيل، كما في الكفيل، إذا لم يكن للمحيل على المحال عليه دين، ولو كان عليه دين لالتقيا قصاصاً.
فلو انتقل الدين إلى ذمة المحال عليه لتساوى حكم الإبراء والهبة في عدم الرجوع على المحيل(1).
واستدل من قال بسقوط الدين والمطالبة:
إن المحال لو وهب الدين إلى المحيل بعد الحوالة أو أبرأه منه، لا تصح هبته، ولا إبراؤه، فلو كان الدين باقياً في ذمة المحيل لصح الإبراء والهبة، وبالعكس، فلو أبرأ المحال المحال عليه من الدين أو وهبه إياه يصح الإبراء والهبة، وهذا يقتضي تحول الدين عن ذمة المحيل، وهذه الرواية هي الصحيحة في المذهب(2).
ج ـ أدلة القول الثالث:
واستدل القائلون بأن ذمة المحيل لا تبرأ من دين المحال مطلقاً بالقياس، وهو:
__________
(1) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، البدائع: الكاساني 6/18.
(2) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، البدائع: الكاساني 6/17.(4/15)
قياس الحوالة على الكفالة بجامع أن كلاً منهما شُرع وثيقة لوفاء الدين، فكما أن المدين الأصلي (المكفول) في الكفالة لا يبرأ من الدين، فكذلك المحيل في الحوالة لا يبرأ(1)
رابعاً: المناقشة:
أ ـ مناقشة أدلة القول الأول:
1 ـ نوقشت أدلة القائلين بأن ذمة المحيل تبرأ بالحوالة براءة مؤبدة من ثلاثة وجوه:
بالنسبة لاستدلالهم بالحديث فلا وجه له ؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم علّق الحكم بشرط ملاءة المحال عليه، وقد فاتت هذه الملاءة بالتوى (الموت مفلساً، أو جحود الحوالة، أو تفليس القاضي)(2).
بالنسبة لاستدلالهم بالأثر المروي عن علي ـ كرم الله وجهه ـ فإنه معارض بما روي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ من أنه قال في الحوالة " لا توى على مال امرئ مسلم "، وإذا تعارض الدليلان فقد تكافآ وإذا حصل التكافؤ تساقطا(3).
__________
(1) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/241، البدائع: الكاساني 6/17.
(2) البدائع: الكاساني 6/18.
(3) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/245.(4/16)
بالنسبة لاستدلالهم بقياس فلس المحال عليه في حالة التوى على هلاك المبيع بعد القبض، فهو غير مسلم ؛ لأن الحوالة ليست قبضاً ؛ إذ إنها لو كانت قبضاً لجاز للمحال أن يشتري بالمال المحال به شيئاً من غير المحال عليه، وهذا لا يجوز(1).
ب ـ مناقشة أدلة القول الثاني (الحنفية ماعدا زفر):
نوقشت أدلة القائلين بأن ذمة المحيل تبرأ من الدين إلا في حالة التوى من خمسة وجوه:
أ ـ بالنسبة لاستدلالهم من السنة: فإن اشتراط الملاءة كان لنفي الضرر لا لمشروعية الحوالة، بدليل جوازها على المعسر إجماعاً(2).
ب ـ بالنسبة لاستدلالهم بالأثر المروي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال في الحوالة: " لا توى على مال امرئ مسلم" فلا يصلح حجة ؛ لما يأتي:
إنه من رواية خليد بن جعفر، وهو مجهول.
__________
(1) 4 شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/245.
(2) 4 الذخيرة: القرافي 9/202. ولكن يستثنى من الإجماع المذكور الظاهرية الذين قالوا بعدم جواز الحوالة على غير مليّ. انظر هذه الرسالة ص 59.(4/17)
إنه منقطع ؛ لأن معاوية بن قرة (أبا إياس) لم يدرك عثمان ـ رضي الله عنه ـ ولا كان في زمانه ؛ لأنه من الطبقة الثالثة (1)، والحديث المنقطع غير لازم.
إنه قاله في الحوالة، أو الكفالة فكان شكّاً يمنع صحة الاستدلال ؛ لأن في الكفالة يرجع، وفي الحوالة لا يرجع، والشك يمنع من تعينه في الحوالة.
إنه فيه احتمال ؛ لأنه قال " لا توى على مال مسلم " فيحتمل أمرين:
لا توى على مال المحال.
لا توى على مال المحيل، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر(2).
ج ـ أما بالنسبة لقولهم: " إنه احتال بشرط السلامة كما هو معروف بين الناس " فهو غير مسلم ؛ لأن المحال رضي بالحوالة على توقع الفلس والموت، فهو لا يكون أتمُّ غرضاً من البائع، ولا يبطل عَقْدَهُ فلسٌ أو موت(3).
__________
(1) تحرير تقريب التهذيب لابن حجر: بشّار معروف وشعيب الأرنؤوط 3/392. الطبقة الثالثة هي الطبقة الوسطى من التابعين التي تلي طبقة كبارهم ؛ كالحسن وابن سيرين. انظر: المرجع السابق 1/53.
(2) الحاوي:الماوردي8/96، المغني: ابن قدامة 7/61، الذخيرة:القرافي 9/251.
(3) الذخيرة: القرافي 9/251.(4/18)
د ـ أما قياسهم التوى على تلف المبيع قبل قبضه، فهو قياس مع الفارق ؛ لأن الحوالة بمنزلة القبض، بدليل أن المشتري لو أحال بالثمن على آخر، وقبل البائع، فإنه يجب على البائع تسليم المبيع للمشتري(1).
هـ ـ وبالنسبة لقولهم " إن الدين لا يسقط عن المدين إلا بالقضاء أو الإبراء " فهو مسلم، لكن سقوط المطالبة عمّن عليه الحق (المحيل)، مع انقطاع العلاقة بينه وبين من له الدين (المحال)، يجعل سقوط الدين بالحوالة كما لو سقط بالقضاء أو الإبراء (2).
مناقشة استدلال المالكية وموافقيهم على الرجوع في حالة الشرط والغرر:
وهو موجه من الشافعية: إن قياسهم الغرر في الحوالة على رد المبيع بالعيب، قياس مع الفارق من ثلاثة وجوه:
__________
(1) الذخيرة: القرافي 9/251، تكملة المجموع: المطيعي 13/430.
(2) الحاوي: الماوردي 8/96.(4/19)
إن العيوب التي توجب الرد في المبيع توجبه بنفسها، سواء حصل بها غرر أو لم يحصل، فمتى اكتشف المشتري العيب، وكان ممّا يوجب الردّ فله الخيار، بخلاف فلس المحال عليه، فإنه لا يوجب الرجوع على المحيل عند الإطلاق، فكذلك لا يوجب عند وجود الغرر(1)، وهذا ما قصده الشيرازي(2) بقوله: " لأن الإعسار نقص، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع".
إن هناك فرقاً بين الإعسار في الحوالة، والعيب في المبيع، فإن إعسار المحال عليه قد يصل إليه من غير المحيل، فالتفريط يكون من جهة المحال، حيث لم يختبر خال المحال عليه، في حين أن العيوب في المبيع لا يصل إليها من غير جهة البائع، فإذا لم يبين عيوب سلعته ثبت للمشتري الخيار.
__________
(1) الحاوي:الماوردي 8/97، تكملة المجموع:المطيعي 13/426.
(2) في المهذب 1/338.(4/20)
إن السلعة حق للمشتري، فإذا وجدها ناقصة كان له الرجوع بالثمن، وليس كذلك ذمة المحال عليه، إذ إنها محل لحقه، فالفلس ليس بعيب، وإنما تتأخر به المطالبة فقط، وقد يتوصل المحال عليه إلى قضاء الدين في الوقت المطلوب؛ بأن يصبح موسراً أو يستدين، وبذلك يفارق الفلس في الحوالة العيب في المبيع(1).
وهو موجه للمالكية من قبل ابن عرفه: إن شرط يسار المحال عليه مناقض لعقد الحوالة الذي يوجب البراءة المطلقة للمحيل، والقول بصحته يناقض أصل المذهب في إفساد الشروط المناقضة للعقد(2).
والجواب عليه:
إن الحوالة مع اشتراط يسار المحال عليه تعتبر حوالة إذن، وهي توكيل(3)، (وحوالة الإذن عند المالكية لا تبرأ بها ذمة المحيل حتى يقبض المحال حقه من المحال عليه)(4).
ج ـ مناقشة أدلة القول الثالث (مذهب زفر):
وقد تولى الحنفية مناقشة دليل زفر بما يلي:
__________
(1) تكملة المجموع: المطيعي 13/426.
(2) 5 مواهب الجليل: الحطاب 5/95.
(3) 5 البهجة شرح التحفة: التسولي 2/58.
(4) منح الجليل: عليش 6/188.(4/21)
لا نسلم أن الحوالة عقد توثيق كالكفالة ؛ لأن الحوالة في اللغة بمعنى النقل أو الانتقال، وهذا لا يقتضي بقاء الشيء في الموضع الذي انتقل منه، أما الكفالة في اللغة فهي بمعنى الضمّ، ومقتضى ذلك بقاء ما يُضم إليه لمعنى التوثيق.
على أنه لا يشترط أن يكون التوثيق بالضم والتشريك، بل يكفي لتحقق معنى الوثيقة في الحوالة أن يكون المحال عليه أكثر ملاءة وأحسن قضاء من المحيل، حتى يحصِّل المحال حقه بسهولة(1).
خامساً: القول الراجح:
بعد عرض الآراء وبيان حجج كل رأي، وحظّها من السلامة والضعف، يبدو لي ما يلي:
ترجيح قول الشافعية ومن وافقهم على القول بالبراءة المؤبدة للمحيل من دين المحال، متى وقعت الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها للتالي:
إن ما سلم من أدلتهم يصلح لتأييد رأيهم.
إن الحوالة من العقود التي يكثر التعامل بها في المعاملات التجارية، وتتطلب بطبيعتها سرعة الحركة، وتفادي أسباب النزاع، وليس في ذلك ظلم على المحال، طالما أن رضاه شرط في صحة الحوالة.
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/17، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، تبيين الحقائق: الزيلعي4/171.(4/22)
إن الحنفية بعد أن حكموا ببراءة ذمة المحيل، عادوا فنقضوا هذا الحكم عند حدوث التوى، إلحاقاً للحوالة بالكفالة، وهكذا تظل الحقوق غير مستقرة، والأنسب لها أن تستقر ليعرف المكلف ماله، وما عليه، وهو الموافق لمقاصد الشريعة في استقرار المعاملات.
إن الحوالة تشبه قبض الحق، وهلاك الحق بعد قبضه لا يقتضي اشتغال ذمة المدين بالحق مرة ثانية.
إذا كان المحال عليه مفلساً، وعلم المحال بفلسه، ورضي بالحوالة، فلا يرجع على المحيل ؛ لأنه قد أسقط حقه برضاه واختياره.
أما إذا كان المحيل يعلم بموت المحال عليه أو فلسه، ومع ذلك أحال عليه، وكان المحال جاهلاً بحال المحال عليه، فيجوز له الرجوع على المحيل ؛ لأن من شروط تحقق الرضى أن يكون متنوراً واعياً، وعلى هدى وإدراك لما يتعلق بالتصرف الذي يقوم به، ولا يشوبه غرر أو تدليس، ولا شك أن المحيل هنا تعمّد الضرر بالغرر للمحال، وهذا يدل على سوء نيته، فلا بد أن يُعامل بخلاف قصده.(4/23)
كذلك يبدو لي ترجيح رأي المالكية ومن وافقهم في صحة اشتراط المحال على المحيل دوام يسار المحال عليه لقوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون عند شروطهم "(1) فهو شرط من مصالح العقد ومقتضياته والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر الحوالة في علاقة المحال بالمحال عليه
إنه بمقتضى عقد الحوالة تبرأ ذمة المحيل على النحو السابق بيانه، وتُشغل ذمة المحال عليه بالدين الذي كان في ذمة المحيل، فيلزمه أداء الدين الذي انتقل إلى ذمته، ومن ثَمَّ تنشأ العلاقة بين المحال والمحال عليه، وتتجلى علاقة المحال بالمحال عليه في الحالات التالية:
ثبوت ولاية المحال في مطالبة المحال عليه.
ثبوت الحق للمحال في ملازمة المحال عليه.
عدم جواز امتناع المحال عليه من الوفاء للمحال.
الضمانات والدفوع.
وفيما يلي تفصيل الأحكام في كل واحد من هذه الأمور على حدة:
1 ـ ثبوت ولاية المحال في مطالبة المحال عليه:
__________
(1) سبق تخريجه ص 44 من هذه الرسالة.(4/24)
وهذا حق ثابت للمحال باتفاق الفقهاء، سواء عند من يعتبر الحوالة تنقل الدين والمطالبة جميعاً، أو تنقل المطالبة وحدها، كما قيل عند الحنفية، أو عقد وثيقة، كما هو الحال عند زفر(1)، ويبقى هذا الحق ثابتاً للمحال على المحال عليه حتى الوفاء، إلا إذا سقطت هذه الولاية قبل الوفاء، سواء كان السقوط باختياره، أو جبراً عنه.
ومثال سقوط ولاية المحال باختياره، أن يبرئ المحال عليه من الدين(2)، ومثال سقوط ولاية المحال جبراً عنه، ما لو قضى المحيل الدين بعد الحوالة، وقبل أن يستوفيه المحال من المحال عليه، ويجبر المحال على القبول(3).
2 ـ ثبوت حق المحال في ملازمة المحال عليه:
وهذا الحق ثابت للمحال بالاتفاق، فقد نص صاحب البدائع على أنه كما لازم المحال المحال عليه، للمحال عليه أن يلازم المحيل(4).
3 ـ عدم جواز امتناع المحال عليه من الوفاء:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/18، البحر الرائق: ابن نجيم 6/269.
(2) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/241.
(3) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، الفتاوى الهندية 3/297.
(4) البدائع: الكاساني 6/18.(4/25)
إن هذا واجب على المحال عليه تفريعاً على اشتغال ذمته بالدين الذي كان في ذمة المحيل، فيلزمه أداء الدين الذي انتقل إلى ذمته، سواء جرت الحوالة باتفاق بين المحال والمحيل، ورضي بها المحال عليه، أو جرت باتفاق بين المحال والمحال عليه، فإن المحال عليه يلتزم بالأداء للمحال بمقتضى عقد الحوالة(1).
4 ـ الضمانات والدفوع:
بينت سابقاً أن الحوالة تنقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، والكلام هنا في توابع هذا الدين من ضمانات أو دفوع، هل تنتقل محملة مع الدين أم لا؟ وتحقيق الكلام عن ذلك في فرعين ؛ كالتالي:
الفرع الأول: الضمانات
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى سقوط الضمانات التي هي لمصلحة الدائن (المحال) كالرهن، والكفالة، وحق حبس المبيع، بمجرد الحوالة بالدين الموثق، واستدلوا بأن الحوالة تجري مجرى القبض(2).
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/271، الفتاوى الهندية 3/304.
(2) 6 الذخيرة: القرافي 9/250، حاشية الشرقاوي على التحرير 2/71، المغني: ابن قدامة 7/69.(4/26)
وقد نص الشافعية على أنه إذا شرط في عقد الحوالة بقاء الرهن، فإنها تبطل ؛ لأنه شرط فاسد، ووثيقة بغير دين(1).
وعند الحنفية على الرأي القائل بأن الحوالة تنقل الدين والمطالبة معاً، تسقط الضمانات التي لمصلحة المحال ؛ فلو أحال الراهن المرتهن بالدين سقط حق المرتهن في حبس الرهن، وللراهن أن يسترده، ولو أحال المشتري البائعَ على رجل سقط حق البائع في حبس المبيع(2).
أما على رأي محمد بن الحسن ـ حيث إن الحوالة تنقل المطالبة فقط(3) ـ ورأي زفر ـ حيث إن الحوالة لا تنقل الدين ولا المطالبة، بل تضم ذمة المحال عليه إلى ذمة المحيل ؛ كالكفالة، فإن الضمانات على كلا الرأيين لا تسقط، بل تنتقل مع الدين، وتكون وثيقة في محله الجديد، ولا تسقط إلا بسقوطه ؛ لأن الدين لم ينتقل(4).
القول الراجح:
__________
(1) 6 قليوبي وعميرة على المنهاج 2/321.
(2) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/242، مجمع الأنهر: داماد أفندي 2/147.
(3) وسيأتي ص223 أن رأي محمد بن الحسن هو المعمول به في العرف التجاري، فلا مانع من الاستئناس به هناك.
(4) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172.(4/27)
بالنظر إلى ما سبق يبدو لي التالي:
سقوط الضمانات التي لمصلحة المحال: كالحبس والرهن والكفالة بمجرد صدور الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها بالدين الموثق عنه ؛ ترتيباً على ما سبق ترجيحه من أن الحوالة تحدث براءة ذمة المحيل، لا سيما أن هذه الضمانات كانت مراعاة لشخصية الدائن عند الراهن والكفيل.
يجوز للمحال أن يأخذ ضمانات جديدة بموافقة المحال عليه: قال في البحر: " جاز للمحال أن يبرئ الحويل أو يسترهن "(1)، وقال الماوردي في الحاوي الكبير: " إذا كان على رجل ألف، فأحال بها على رجل، انتقلت الألف بالحوالة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وجاز أن يأخذ رهناً من المحال عليه ؛ لأنها دين مستقر عليه "(2)
الفرع الثاني: الدفوع
هي الأسباب والحجج التي تكون لمصلحة المدين، ويتمسك بها في مواجهة دعاوى دائنه، مثل الأجل، وأسباب سقوط الدين المحال به، وسبق الوفاء، وغير ذلك من الدفوع التي يتمسك بها المحال عليه لسقوط دعوى بقاء ذمته مشغولة، فهل تنتقل هذه الدفوع مع الدين أم لا؟ تحقيق الكلام عن ذلك كالتالي:
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/267.
(2) الحاوي: الماوردي 7/383.(4/28)
بالنسبة لشرط الأجل فقد سبق الحديث عنه عند الكلام عن شرط تماثل الدينين في الحلول والتأجيل، وشرط أن يكون المحال به حالاَّ(1).
وقد نصت المجلة في م 697 على أن الحوالة المبهمة التي لا يذكر تعجيلها ولا تأجيلها، تتبع الدين الأصلي الذي على المحيل للمحال، فإذا كان معجلاً على المحيل كانت الحوالة معجلة، ووجب على المحال عليه أداء الدين حالاً، وإن كان الدين على المحيل مؤجلاً كانت الحوالة مؤجلة، ووجب أداء الدين عند حلول أجله(2).
وبالنسبة للدفوع بغير الأجل، فإن الظاهر من كلام الحنفية أن المحال عليه لا يملك التمسك بها إلا بالنيابة عن الأصيل، فإذا لم تثبت له تلك النيابة فلا يمكنه التمسك بها.
__________
(1) انظر ص 73، ص 76 من هذه الرسالة.
(2) درر الحكام: علي حيدر 2/51.(4/29)
وفي حالة غيبة الأصيل يمكنه التمسك بها من غير نيابة، فلو غاب المحيل، وزعم المحال عليه أن مال المحال على المحيل كان ثمن خمر، لا تصح دعواه، حتى وإن برهن على ذلك كما في الكفالة، ولو أحال امرأته بصداقها على رجل، وقبل الحوالة، ثم غاب الزوج، فأقام المحال عليه بيّنة أن نكاحها كان فاسداً، وبين لذلك وجهاً صحيحاً، لا تقبل بينته، ولو ادّعى أنها أبرأت زوجها عن صداقها، أو أن الزوج أعطاها المهر، أو باع بصداقها منه شيئاً، وأقبضها، قُبلت البينة، وإن كان المبيع غير مقبوض، لا تقبل بينته، والفرق أن مدعي فساد النكاح متناقض، لكونه يدعي أمراً مستنكراً، فلا تسمع دعواه، بخلاف دعوى الإبراء أو البيع ؛ لأنه غير مستنكر(1).
__________
(1) البحر الرائق: ابن نجيم 6/271، الفتاوى الهندية 3/304، الفتاوى الخانية: قاضيخان 3/71.(4/30)
وعند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، حيث يشترطون وجود دين للمحيل عند المحال عليه، وبالتالي يمكن للمحال عليه أن يتمسك في مواجهة المحال بسبق الوفاء، أو بانقضاء الدين، بأي سبب من الأسباب، وبالتالي تسقط مطالبته به(1).
ويظهر من كلام الشافعية عدم صحة الدفع بانقضاء التزام المحال عليه إذا كان إسقاط المال المحال عليه طرأ بعد الحوالة، وكان قد تعلق به حق ثالث.
__________
(1) 7 حاشية الدسوقي 3/325، وقد جاء فيها وهو ينقل خلاف المذهب في اشتراط حضور وإقرار المحال عليه: " إنما اشترط حضوره على هذا القول وإقراره، وإن كان رضاه لا يعتبر ؛ لاحتمال أن يبدي مطعناً في البينة إذا حضر، أو يثبت براءته من الدين ببينة على الدفع، أو على إقراره به، " نهاية المحتاج: الرملي 4/431 حيث جاء فيه: " ولو أقام بينة أن غريمه الدائن أحال عليه فلاناً الغائب سُمعت وسقطت مطالبته " وكذلك قليوبي وعميرة 2/319.(4/31)
فقد قال الشيرازي في المهذب: " وإن أحال البائع على المشتري رجلاً بألف، ثمّ ردّ المشتري المبيع بالعيب، لم تبطل الحوالة وجهاً واحداً ؛ لأنه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي المحتال، فلم يجز إبطالها"(1).
المطلب الثالث: أثر الحوالة في علاقة المحيل بالمحال عليه
إن هذا الأثر تابع لأثر علاقة المحيل بالمحال، فالحوالة كما أحدثت أثراً في علاقة المحيل بالمحال، فإنها تحدث أثراً في علاقة المحيل بالمحال عليه، ويظهر هذا الأثر بوضوح في الحوالة المطلقة، وذلك على النحو التالي:
ملازمة المحال عليه للمحيل.
إجراء المقاصَّة بين المحيل والمحال عليه.
رجوع المحال عليه على المحيل بما أدَّى للمحال.
حق المحيل في مطالبة المحال عليه.
وفيما يلي تفصيل الأحكام في كل واحد من هذه الحالات على حدة.
1 ـ ملازمة المحال عليه للمحيل:
__________
(1) 7 المهذب: الشيرازي 1/339.(4/32)
إن هذا الحق نصَّ عليه الحنفية في الحوالة المطلقة، عندما يكون المحال عليه غير مدين للمحيل، وهو حق تابع لحق المحال في ملازمة المحال عليه، فكما لازم المحال المحال عليه، كان للمحال عليه أن يلازم المحيل ليتخلص من ملازمة المحال، وكلما حبسه المحال كان له أن يحبس المحيل أيضاً لنفس الغرض، ولكن يشترط لثبوت هذا الحق ما يلي
أن تكون الحوالة بأمر المحيل: فإذا لم تكن الحوالة بأمره فإن المحال عليه يكون متبرعاً، وبناء عليه فليس له الحق في ملازمة المحيل.
أن تكون الحوالة مطلقة غير مقيدة، ويكون المحال عليه غير مدين للمحال: فلو كانت الحوالة مقيدة لم يكن في حق ملازمة المحال عليه للمحيل فائدة ؛ لأن المحال عليه لو لازم المحيل لكان للمحيل أن يلازمه أيضاً.(4/33)
أما لو كان المحال عليه مديناً للمحيل بدين لم تقيد به الحوالة، فإن المحال عليه لا يستطيع أن يرفض الوفاء للمحيل قبل أداء الدين للمحال، أما بعد الأداء فإنه يجري التقاصّ بين ما أدى للمحال وما عنده للمحيل (1)، وهذا الحق يقرره بعض الشافعية ممن يقولون بجواز الحوالة على غير مدين برضاه(2).
2 ـ إجراء المقاصّة بين المحيل وٍالمحال عليه:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/17، البحر الرائق: ابن نجيم 6/269، 270، الفتاوى الهندية 3/297.
(2) روضة الطالبين: النووي 4/229.(4/34)
محل الكلام عن هذا الحق عندما يكون المحال عليه مديناً للمحيل، سواء قيدت به الحوالة أم لم تقيد ؛ لأن المقاصّة هي إسقاط دين مطلوب لشخص من غريمه، في مقابلة دين مطلوب من ذلك الشخص لغريمه، وذلك بأن تشغل ذمة الدائن بمثل ما له عند المدين في الجنس والصفة ووقت الأداء(1)، ولا خلاف بين الفقهاء في هذا الحق(2)، فإن كان المالان (المال المحال به وعليه) متفقين في الجنس والصفة ؛ فإن المقاصة تجري بمقدار الحق الذي للمحال، وأما ما زاد عليه فإنه يكون للمحيل الحق في مطالبة المحال عليه به، وإن كان من غير جنسه ؛ كما لو ادّعى دراهم وله على المحيل دنانير، فإن الحنفية أجازوا المقاصّة بينهما أيضاً(3).
3 ـ رجوع المحال عليه على المحيل بالمال المحال به:
__________
(1) انظر هامش 1 من ص4 من هذه الرسالة.
(2) البدائع: الكاساني 6/19 الشرح الصغير: الدردير 4/558، حاشية الشرقاوي 2/70، كشاف القناع: البهوتي 3/373.
(3) البدائع: الكاساني 6/19.(4/35)
هذا الحق تقرر عند كلِّ مَن يجيز الحوالة المطلقة، ويرى الحنفية أن المحال عليه متى أدّى إلى المحال في الحوالة المطلقة فإنه يستحق الرجوع على المحيل، ولكن بالشروط التالية:
أن تكون الحوالة برضا المحيل وأمره، وهذا ظاهر في حق ملازمة المحال عليه للمحيل ؛ لأن المحال عليه حينئذٍ إذا أدّى لا يكون متبرعاً.
فإن كانت الحوالة بغير أمر المحيل فلا رجوع للمحال عليه على المحيل ؛ وذلك لأن الحوالة إن كانت بأمر المحيل صار المحال عليه مُمَلِّكاً الدينَ للمحال بما أدّى إليه من المال، فكان له أن يرجع بذلك على المحيل، وإن كانت بغير أمره فلا يوجد معنى التمليك، فلا تثبت ولاية الرجوع ؛ إذ يكون في هذه الحالة متبرعاً في أدائه(1).
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/19، درر الحكام: علي حيدر 2/42، 43.(4/36)
أن يكون المحال عليه قد أدّى المال للمحال، إما حقيقة أو حكماً ؛ كأن يهب المحال دين الحوالة للمحال عليه، أو يتصدق به عليه، وكذلك إذا ورث المحال عليه الدينَ من المحال ؛ ذلك لأن الإرث سبب من أسباب الملك، وعلى هذا الشرط فإن سبب الرجوع هو تمَلُّك المحال عليه للدين، فإن لم يؤدِّ المحال عليه المال لم يملك الدين(1).
ألاَّ يكون المحال عليه مديناً للمحيل بمثل دينه، فإن كان مديناً يلتقي الدينان قصاصاً، فيمتنع الرجوع ؛ لأنه لو رجع المحال عليه على المحيل بالمال المحال به، لكان للمحيل الرجوع على المحال عليه أيضاً، فلا تتحقق فائدة، ويكون الرجوع حينئذٍ عبثاً(2)
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/19، البحر الرائق: ابن نجيم 6/275، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/174.
(2) البدائع: الكاساني 6/19.(4/37)
ويرجع المحال عليه على المحيل بمثل الدين المحال به، لا بما يؤديه هو، فلو كان المحال به دراهم، فنقده دنانير، أو العكس، جاز الأداء، ولكن يجب مراعاة شرط الصرف، فلو افترقا قبل القبض، أو شرطا فيه أجلاً أو خياراً، تبطل المصارفة، ويعود إلى حاله، وإذا صحت المصارفة فإن المحال عليه يرجع على المحيل بمال الحوالة، لا بما أدّاه ؛ لأن الرجوع بحكم الملك، وقد ملك دين الحوالة(1).
4 ـ حق المحيل في مطالبة المحال عليه:
فرّق الحنفية في تقرير هذا الحق بين أمرين:
الأمر الأول: إذا كان للمحيل عند المحال عليه دين أو عين، فإنه يجب التفرقة بين حالتين:
__________
(1) 8 البدائع: الكاساني 6/19، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/12، 13، الفتاوى الهندية 3/299، درر الحكام: علي حيدر 2/53.(4/38)
الحالة الأولى: إذا قيدت الحوالة بهذا الدين، أو بهذه العين، ففي هذه الحالة ينقطع حق المحيل من مطالبة المحال عليه، وذلك لأن الحوالة لما قيدت بهذا الدين أو هذه العين، فقد تعلق بها حق المحال، وهو استيفاؤه لدينه، كالرهن، فلا يزاحَم فيه المستحق، ولا يدفعه إلى غيره، ولا يملك المحال عليه دفعه إلى المحيل، وإلا وجب على المحال عليه ضمانه للمحال ؛ لأنه فوَّت عليه ما تعلق به حقه، كما لو استهلك الرهن أحد، فإنه يضمنه للمرتهن(1).
__________
(1) 8 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/14، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/248، 249.(4/39)
الحالة الثانية: إذا لم تقيد الحوالة بهذا الدين أو بهذه العين، وفي هذه الحالة فإن المحال عليه يطالب بدينين، دين الحوالة الذي التزمه بمقتضى عقدها، والطالب هو المحال، والدين الذي عليه للمحيل أصلاً، والمطالب به هو المحيل ؛ لأنه حق قديم لا ينقطع بسبب الحوالة ؛ لأنها لم تقيد به، فبقيت حقوق المحيل كاملة، ومنها المطالبة والقبض، ويظل هذا الحق ثابتاً للمحيل إلى أن يؤدي المحال عليه إلى المحال، فإذا أدى سقط ما عليه بطريق المقاصّة، ولكن في حالة العين، فإن هذه المقاصّة تتوقف على رضا المحيل، لأنها مقاصّة عين بدين (1).
الأمر الثاني: إذا لم يكن للمحيل عند المحال عليه دين أو عين: فإن المحال عليه يُطالب بدين واحد، وهو دين الحوالة، والمطالب له هو المحال فقط، ثم إن المحال عليه إذا أدّاه للمحال ثبت له الرجوع على المحيل إن كانت الحوالة بأمره، وإلا فلا رجوع(2).
---
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/15، درر الحكام: علي حيدر 2/43.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/274.(4/40)
المبحث السادس: انتهاء الحوالة
انتهاء الحوالة يعني براءة ذمة المحال عليه، وخروجه ممّا التزم به تجاه المحال بعقد الحوالة، وهذا الانتهاء قد يحصل بالتنفيذ أو بغيره.
والكلام في ذلك في مطلبين على النحو التالي:
المطلب الأول: انتهاء الحوالة بالتنفيذ
انتهاء الحوالة بالتنفيذ ؛ إما أن يكون بالوفاء، أو بما يقابله، وذلك كما يلي:
1 ـ التنفيذ بالوفاء:
الوفاء هو: الطريق الطبيعي لتخلص المحال عليه من المطالبة ؛ وذلك بأن يؤدي المال إلى المحال أو وكيله، إما بعينه، إن كان عيناً، أو بمثله، إن كان ديناً، فمتى تحقق الوفاء بهذه الصورة، تحقق الغرض المنشود من الحوالة، فتنتهي أحكامها، ويخرج المحال عليه عن الحوالة(1)، بل إن هذه الغاية تتحقق من غير طريق المحال عليه مباشرة، كما لو تبرع به أجنبي، فإن هذا الوفاء ينهي عقد الحوالة(2).
2 ـ التنفيذ بما يعادل الوفاء:
ويحصل بأحد ثلاثة أمور:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/19.
(2) الفتاوى الهندية 3/298، 299.(5/1)
الأول: أن يتراضى المحال عليه مع المحال على أن يؤدي شيئاً آخر عوضاً عن المال المحال به، كما لو كان عيناً فاعتاض به نقداً أو العكس، أو يبيعه المحال عليه بدينه عروضاً، فإن هذا البدل يكون تنفيذاً لعقد الحوالة(1).
الثاني: أن يموت المحال، ويكون المحال عليه وارثه، فعندئذٍ يملك المحال عليه مال الحوالة ؛ لأن الإرث من أسباب المِلك.
وفي معنى الإرث: أن يهب المحال دين الحوالة للمحال عليه، أو يتصدق به عليه، ففي هذه الأحوال جميعها، تبرأ ذمة المحال عليه، ويكون كأنه أدّى إلى المحال، فتنتهي الحوالة، ولا يبقى لها حكم(2).
الثالث: أن يحيل المحال عليه المحال على ثالث: ففي هذه الحالة تكون الحوالة بمنزلة الأداء حكماً عند جميع الفقهاء، ولكن على التفصيل التالي:
__________
(1) درر الحكام: علي حيدر 2/53، شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/258. وهذا التراضي بين المحال عليه والمحال، ما هو إلا عقد معاوضة مخصوصة بينهما، ويكون نفعه وضرره عائداً على العاقدين.
(2) البدائع: الكاساني 6/19، درر الحكام: علي حيدر 2/54، الفتاوى الهندية 3/299.(5/2)
أ ـ فعند الحنفية: يبرأ بهذه الحوالة المحال عليه (المحيل ثانياً)، والمحيل أولاً، سواء كان المحال عليه الثاني مديناً للمحيل الثاني (المحال عليه الأول) أم لا، ولكن في حالة كون المحال عليه الثاني غير مدين للمحال عليه الأول، لا يكون له ـ أي للمحال عليه الأول ـ أن يرجع على المحيل في الحال ؛ لأنه لم يغرم شيئاً بمجرد الحوالة الثانية، وإنما يكون له الرجوع بعد أن يؤدي المحال عليه الثاني للمحال(1).
ب ـ أما عند الجمهور فيشترط لبراءة المحال عليه الأول في الحوالة الثانية، أن يكون المحال عليه الثاني مديناً للمحال عليه الأول، وهو شرط لكل حوالة عندهم ؛ لأنه إذا لم يكن مديناً فلا فائدة من الحوالة الثانية ؛ بل تكون من العبث ؛ لأنه إذا لم يكن مديناً فإن المحال عليه الثاني سيعود عليه بعد أن يؤدي المال إلى المحال، إذ المحيل الثاني هو المدين بالنسبة للحوالة الثانية(2).
__________
(1) درر الحكّام: علي حيدر 2/53، المبسوط: السرخسي 20/71.
(2) الحاوي: الماوردي 8/104.(5/3)
الخلاصة: تنتهي الحوالة بأداء المحال عليه، أو أداء متبرع عنه بقيمتها إلى المحال، أو نائبه أداءً حقيقياً أو حكمياً.
المطلب الثاني: انتهاء الحوالة بغير التنفيذ
إن انتهاء الحوالة بغير التنفيذ ؛ إما أن يكون برضا طرفيها، أو باستحالة التنفيذ، لسبب قهري، حدث رغماً عن أطرافها، والحديث عن ذلك في فرعين:
الفرع الأول: الانتهاء الرضائي للحوالة
الانتهاء الرضائي للحوالة يكون بالإقالة أو الإبراء، كما يلي:
أولاً: الانتهاء بالإقالة(1):
__________
(1) الإقالة في اللغة: الرفع، في الاصطلاح: رفع العقد وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين، ومجالها العقود اللازمة. انظر: المصباح المنير: الفيومي، ص269، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد، ص64.(5/4)
إن عقد الحوالة من العقود اللازمة بلا خلاف، لكن قبولها للخيارات محل خلاف ـ كما سبق(1) ـ وبناءً على ذلك، فإن عقد الحوالة إذا تم مستوفياً أركانه وشروطه، وخلا من الخيار لأحد أطرافه، فلا يمكن رفعه وإلغاؤه، إلا بنفس الطريقة التي عُقد بها ؛ لأن هذا العقد أوجب حقاً لازماً للمحال، والإلغاء يوجب انتقاضاً لهذا الحق الذي ثبت له.
قال الحنفية بأن المحيل والمحال إذا تراضيا على فسخ الحوالة فإنها تنفسخ، ويبرأ بذلك المحال عليه، ويرجع الدين إلى المحيل، وبذلك تنتهي الحوالة، ولا يتوقف ذلك على رضا المحال عليه(2)، ولو اعترض فلا قيمة لاعتراضه ؛ لأن العقد حقَّهما، ولأصحاب الحق إسقاطه بالتراضي، قال في البحر: " إن المحيل والمحال يملكان النقض، وبالنقض يبرأ المحال عليه "(3)، فهما يملكان نقض الحوالة بتراضيهما دون أن يستبدَّ أحدُهما بفسخها، ودون توقف على رضا
__________
(1) انظر ص 47 من هذه الرسالة.
(2) ولا يشترط رضا المحال عليه ؛ إذ لا ضرر عليه من إقالة الحوالة ؛ بل إن ذمته تبرأ بذلك من التزام قد انتقل إليها.
(3) البحر الرائق: ابن نجيم 6/272، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/10.(5/5)
المحال عليه، وبذلك يبرأ المحال عليه من الدين والمطالبة، وتنتهي الحوالة.
واستدلوا على الفسخ بالإقالة، بأن الحوالة فيها معنى معاوضة مال بمال، فكانت محتملة للفسخ(1).
أما عند الشافعية ففي قبول الحوالة للفسخ والإقالة وجهان:
الأول: عدم صحة الإقالة فيها ؛ لأنها من العقود اللازمة، حيث قال المتولي(2) بأنها لو فُسِخت ـ أي الحوالة ـ لا تنفسخ، وبه جزم الرافعي وبعض الشافعية.
__________
(1) 1 البدائع: الكاساني 6/18.
(2) 1 هو: عبد الرحمن بن مأمون بن علي النيسابوري، أبو سعيد، المعروف بِـ (المتولي)، من فقهاء الشافعية، كان عالماً محققاً، وحبراً مدققاً، وهوعالم بالأصول والخلاف، تفقه بمرو، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد، وأقام بها حتى توفيَ سنة 478 هـ، من تصانيفه تتمة الإبانة للقرافي، ولم يكمله الأعلام: الزركلي 3/323، معجم المؤلفين: كحالة 5/166.(5/6)
الثاني: صحة الإقالة فيها: بناءً على أنها بيع، قال بذلك بعض الشافعية(1).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو الرأي الذي يقرر صحة الإقالة بالحوالة ؛ لأن لزوم العقد لا ينافي دخول الإقالة فيه، بل إن مجال الإقالة إنما هو في العقود اللازمة ما عدا النكاح.
ثانياً: الانتهاء بالإبراء:
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 2/196، الفتاوى الكبرى الفقهية:ابن حجر الهيثمي 2/193، نهاية المحتاج: الرملي 4/422، الحاوي للفتاوى: السيوطي 1/107.(5/7)
الإبراء إما أن يكون إبراءَ استيفاء أو إبراءَ إسقاط(1)، فإذا كان إبراء استيفاء ـ وهو عبارة عن إقرار الدائن بأنه استوفى حقه، وقبضه من المدين ـ بأن قال المحال للمحال عليه: استوفيت ديني منك، فإن هذا يكون إقراراً من المحال بقبض الدين، وبالتالي تنتهي الحوالة، لأن هذا الإبراء كالوفاء الفعلي، ويترتب على ذلك ما سبق الحديث عنه أثناء الكلام عن الحوالة في رجوع المحال عليه على المحيل بدين الحوالة(2)، إن لم يكن مديناً له، فيرجع بمثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً، أو يقع التقاصُّ إن كان مديناً.
__________
(1) هذا التقسيم للإبراء مشهور على ألسنة الحنفية، والتمييز بينهما يكون بالنظر إلى الصيغة، فإن عبّر الدائن بما يدل على ترك دينه وإسقاطه، كأبرأتك من الدين، وأسقطت عنك الدين، أو نحو ذلك، كان إبراءَ إسقاط، وإن عبّر بما يدل على أنه استوفى الدين من المدين، كاستوفيت ديني قِبل فلان، كان إبراء استيفاء انظر حاشية رد المحتار: ابن عابدين 7/381.
(2) راجع ص 101 من هذه الرسالة.(5/8)
أما إذا كان إبراءَ إسقاط ـ وهو عبارة عن إسقاط شخص ديناً له في ذمة آخر(1) ـ
فإن المحال يخرج من الحوالة، ويسقط حقه نهائياً، وبالتالي ينقضي التزام المحال عليه ؛ لفراغ ذمته بالإبراء، وتنتهي الحوالة(2)
الفرع الثاني: الانتهاء باستحالة التنفيذ
واستحالة التنفيذ تكون في الحالات التالية:
إما أن تكون بموت أحد الأطراف.
وإما بفوات محل الحوالة.
وإما بالتوا.
وإليك ذلك بالتفصيل
الحالة الأولى: الموت وأثره على الحوالة
يتناول البحث هنا أثر موت المحيل، والمحال عليه، والمحال على الحوالة، وذلك على التفصيل الآتي:
أولاً موت المحيل: إذا تمت الحوالة مستوفية أركانها وشروطها، ثم مات المحيل قبل أن يقبض المحال حقه من المحال عليه، فقد اختلف الفقهاء في أثر ذلك على الحوالة على قولين
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين: 6/381.
(2) البدائع: الكاساني 6/19 ,(5/9)
القول الأول: يرى عدم تأثر الحوالة بموت المحيل قبل أن يقبض المحال حقه من المحال عليه، وبالتالي يكون المحال أولى من غرماء المحيل قبل أن يقبض، وليس لسائر غرماء المحيل أن يشاركوه بالدين، وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة(1) وزفر من الحنفية، وقد أخذت به مجلة الأحكام في م69(2).
واستدلوا من وجهين:
إن تأثير موت المحيل على الحوالة بعد صحتها ولزومها كتأثير موت بائع السلعة بعد صحة البيع ولزومه(3)، فكما لا يبطل عقد البيع بموت البائع، فكذلك لا تبطل الحوالة بموت المحيل.
__________
(1) المدونة الكبرى: مالك 4/148، جاء في حاشية الشرقاوي على التحرير 2/71 " ولو أحال بمؤجل على مثله حلت الحوالة بموت المحال عليه، ولا تحل بموت المحيل لبراءته في الحوالة "، وجاء في المغني 7/57 " وإن مات المحيل، أو المحال، فالأجل باق بحاله" تدل على أن كل دفع من المحال عليه للمحال قبل موت المحيل أو بعده صحيحاً ".
(2) البدائع: الكاساني 6/17، درر الحكام: علي حيدر 2/46.
(3) المدونة الكبرى: مالك 4/148.(5/10)
قياس تعلّق حق المحال بالمال الذي بيد المحال عليه، أو بالدين الذي في ذمته، على تعلق حق المرتهن بالمرهون بعد وفاة الراهن، فكما أن المرتهن يصير أحق من سائر الغرماء، فكذلك المحال، وهو دليل لزفر خاصة(1).
القول الثاني: للحنفية إلا زفر، وهم يفرِّقون في ذلك بين الحوالة المطلقة، والحوالة المقيدة
فالحوالة المطلقة لا تنفسخ بموت المحيل، فإن كان للمحيل مال على المحال عليه، فإن المحال لا يأخذ منه هذا المال، لأن حق المحال تعلق في ذمة المحال عليه، ويؤول هذا المال إلى ورثة المحيل بعد أن تقضى منه الديون الأخرى، أما دين الحوالة فلا يعود إلى المحيل مادامت الحوالة قائمة، فموت المحيل لا يبطل الحوالة المطلقة عند الحنفية(2).
أما في الحوالة المقيدة: فتنفسخ بموت المحيل قبل أن يستوفي المحال حقه من المحال عليه ؛ لأن المال الذي قيدت به الحوالة استحق، وأصبح من جملة تركة المحيل المتوفى وصار مملوكاً لورثته، وبالتالي يعود المحال بدينه على تركة المحيل مشاركاً سائر غرمائه الدائنين.
__________
(1) 2 البدائع: الكاساني 6/17.
(2) 2 المرجع السابق.(5/11)
والفرق بين هذه الحالة، وحالة الرهن هو أن المرتهن اختص بغرم الرهن من بين سائر الغرماء ؛ لأنه إذا هلك سقط دينه خاصة، ولما اختص بغرمه اختص بغنمه، بخلاف المحال ؛ لأن المال إذا هلك في الحوالة لا يسقط دينه، فكما لا يختص بغرمه فإنه لا يختص بغنمه، ويكون مشاركاً للغرماء، وإذا شارك المحال الغرماء، ونقصت حصته عن دينه، لا يكون له رجوع بما بقي على المحال عليه ؛ لأنه بهذا القدر قد توا حقه، ولا يرجع به على أحد، وإذا كان المحال قد قبض شيئاً من المحيل قبل موته فله ما قبض، وما بقي يشارك به الغرماء(1).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو قول الجمهور بعدم تأثر الحوالة بموت المحيل ؛ أي أنها لا تنتهي بموت المحيل ؛ لأمرين:
إن الحوالة بمثابة القبض، ويقتضي ذلك أن يكون المحال أولى من غرماء المحيل.
إنه بمجرد الحوالة يبرأ المحيل، ويصير أجنبياً عن مال الحوالة، حتى أنه لم يكن له أخذه حال حياته.
والله ـ تعالى ـ أعلم.
ثانياً: موت المحال عليه:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/17.(5/12)
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وأحمد في رواية عنه إلى أن الدين يحل بموت المحال عليه إن كان مؤجلاً ؛ لاستغنائه عن الأجل بموته، فتنتهي الحوالة(1) ويستوفيه المحال من تركة المحال عليه إن كان له تركة، أما إن لم تكن له تركة، فإن الحوالة تكون قد انتهت بالتوا وسيأتي بيانه(2) إن شاء الله.
أما الرواية الثانية للإمام أحمد فتقتضي أن الدين يظل على ما كان عليه(3) ؛ لأن الأجل حق للمحال عليه المتوفى، فيورث عنه قياساً على سائر حقوقه(4)، وبالتالي فلا تنتهي الحوالة.
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو أن دين الحوالة يحل بموت المحال عليه، وبالتالي تنتهي الحوالة ؛ لدليلين:
إنه بالموت تخرب ذمة المحال عليه، فيتعذر على المحال (الدائن) مطالبته بالدين، لذا يجب أن يكون معجلاً.
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/17، البحر الرائق: ابن نجيم 6/270، حاشية الشرقاوي 2/72، المغني: ابن قدامة 7/57
(2) انظر ص117 من هذه الرسالة.
(3) المغني: ابن قدامة 7/57.
(4) كشاف القناع: البهوتي 3/426.(5/13)
إن الأجل مضروب لصالح المحال عليه ؛ ليتصرف بالدين أثناء مدة الأجل، فإذا مات قبل حلوله سقط المقصود من الأجل(1)
ثالثاً: موت المحال:
موت المحال لا يؤثر على الحوالة بالانتهاء، بل يقوم وارثه مقامه في مطالبة المحال عليه، ويكون له جميع الحقوق التي كانت لمورثه، ما لم يكن المحال عليه هو وارثه، فعندئذٍ تنتهي الحوالة، ولا يبقى لها حكم(2).
الحالة الثانية: فوات محل الحوالة
علمنا سابقاً أن المحل عبارة عن دينين، الدين المحال به، وهو دين للمحال على المحيل، والدين المحال عليه، وهو دين للمحيل على المحال عليه، وأتناول هنا الحديث عن أثر فوات المحل (المال المحال به أو عليه) على الحوالة، وذلك كما يلي:
أثر الحوالة في فوات المحل أصالة.
أثر الحوالة في فوات المال المحال به أو عليه عرضاً.
أولاً: أثر الحوالة في فوات المحل أصالة
1 ـ فوات المال المحال به أصالة:
__________
(1) المغني والشرح الكبير: ابن قدامة 4/526.
(2) درر الحكام: على حيدر 2/56، الحوالة في الفقه الإسلامي: محمد زكي عبد البر، بحث في الحوالة كلية الشريعة العدد الرابع ص524 نقلاً عن المادة 909 من مرشد الحيران.(5/14)
إذا تبين فوات المال المحال به بأمر سابق عن الحوالة ؛ كما لو أحال المشتري البائع بالثمن على ثالث، ثم تبين أن المبيع مستحق، أو أن الخلَّ خمر، ففي هذه الحالة تبطل الحوالة بلا خلاف بين الفقهاء ؛ لأنه ثبت أن المحيل (وهو المشتري) غير مدين للمحال (وهو البائع)(1).
وقد سبق القول: إن مديونية المحيل للمحال شرط انعقاد عند جميع الفقهاء، وإذا تخلّف هذا الشرط لم يكن التصرف حوالة، بل وكالة قبض(2).
2 ـ فوات المال المحال عليه أصالة:
إذا تبين فوات المال المحال عليه بأمر سابق عن الحوالة، أي قبل انعقاد الحوالة ؛ كما لو أحال البائع ثالثاً بدين له على المشتري، ثم تبين أن المبيع مستحق، فقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة عندئذٍ على قولين:
__________
(1) الفتاوى الإنقروية 2/332، الإنصاف: المرداوي 5/229.
(2) 3 انظر ص 51 من هذه الرسالة.(5/15)
القول الأول: يرى بطلان الحوالة بفوات المال المحال عليه أصالة: وهو قول الحنفية في الحوالة المقيدة، دون المطلقة(1)، وقول الشافعية، والحنابلة، ومعتمد المالكية على رأي أشهب(2)، واستدلوا من وجهين(3):
إنه ببطلان البيع تبين أنه لا ثمن على المشتري حتى يُحال عليه، والحوالة فرع عن الثمن، فإذا بطل الأصل بطل ما تفرع منه(4).
__________
(1) 3 لا تتأثر الحوالة المطلقة بفوات المال المحال عليه أصالة ؛ لأن دين الحوالة فيها تعلق بذمة المحال عليه بالدين. حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/15.
(2) هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي، فقيه الديار المصرية في عصره، كان صاحب الإمام مالك، توفي بمصر سنة 204 هـ. وفيات الأعيان: ابن خلكان 1/238، الأعلام: الزركلي 1/333.
(3) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/15، مغني المحتاج: الشربيني 2/197، كشاف القناع: البهوتي 2/375، مواهب الجليل: الحطاب 5/96.
(4) مغني المحتاج: الشربيني 2/197، كشاف القناع: البهوتي 3/375.(5/16)
إن ذمة المحال عليه لم تشغل بالدين المحال عليه ؛ لأنه تبين براءته بأمر سابق(1).
القول الثاني: يرى صحة الحوالة بفوات المال المحال عليه أصالة: وهو قول بعض المالكية (2)، واستدلوا بدليلين:
إن الحوالة من قبيل المعروف(3)، ولو نقضت لا تكون كذلك.
إن الحوالة عقد لازم، فلا ينقض في حق المحال باستحقاق سلعة لم يعاوض عليها بدين الحوالة، سواء قبل القبض أو بعده(4).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول ببطلان الحوالة إذا بطل الدين المحال عليه أصالة، وذلك للأسباب التالية:
إن الدين الأصلي هو سبب الحوالة، فإذا بطل، بطل ما يبنى عليه.
وعلى فرض التسليم بأن الحوالة معروف، كما قال أصحاب القول الثاني، إلا أنها من جهة المحال لا من جهة المحال عليه.
وعلى هذا يردُّ المحال ما أخذه على المشتري، ويبقى حقه كما كان(5).
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/15.
(2) حاشية الخرشي 6/20، مواهب الجليل: الحطاب 5/96.
(3) حاشية الخرشي 6/20.
(4) المنتقى على الموطأ: الباجي 5/67، 68.
(5) مغني المحتاج: الشربيني 2/197، شرح منتهى الإرادات:البهوتي 2/258.(5/17)
ثانياً: أثر الحوالة في فوات المحل عرضاً
1 ـ فوات المال المحال به عرضاً:
إذا كان المال المحال به ثابتاً وقت الحوالة، ثم سقط بسبب طارئ ؛ كما لو أحال المشتري البائعَ بالثمن على ثالث، ثم هلك المبيع عند البائع، أو ردّه المشتري بعيب، فقد اختلف الفقهاء في حكم الحوالة عندئذٍ على قولين:
القول الأول: يرى بطلان الحوالة بفوات المال المحال به بالسبب الطارئ، وبالتالي يتوقف التزام المحال عليه عن الدفع إلى المحال إن كان قبل القبض.
وهو قول الحنفية مقيدة كانت الحوالة أو مطلقة، وبعض المالكية، والراجح عند الشافعية، وقول بعض الحنابلة إن كان قبل القبض(1).
واحتجوا من المعقول وهو:
__________
(1) 4 البحر الرائق: ابن نجيم 6/275، حاشية الخرشي 6/20، مغني المحتاج: الشربيني 2/196، الإنصاف: المرداوي 5/230.(5/18)
إن الدين المحال به (ثمن المبيع) هو أساس الحوالة، وقد سقط من ذمة المشتري المحيل بالسبب الطارئ أو العارض ؛ من هلاك المبيع ونحوه، فلا بقاء للحوالة لذهاب حق المحال (البائع) من المال المحال به، أو لارتفاع الثمن (المحال به) بانفساخ المبيع على حدّ تعبير الشافعية(1).
القول الثاني: يرى صحة الحوالة، وإن فات المال المحال به، وهو قول بعض المالكية، وقول مرجوح عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة إن كان بعد قبض المحال المال المحال عليه، والصحيح في المذهب في حالة عدم القبض(2).
واستدلوا بدليلين من المعقول:
إن المشتري قد دفع للبائع بدل ما في ذمته، وعوّضه بما في ذمة المحال، وقد وقع ذلك صحيحاً، فإذا بطل العقد الأول، لم يبطل العقد الثاني، وهو الحوالة(3).
__________
(1) 4 البحر الرائق: ابن نجيم 6/275،مغني المحتاج: الشربيني 2/196.
(2) المرجعان السابقان.
(3) المغني: ابن قدامة 7/64.(5/19)
قياس الحوالة بدين طرأ عليه سبب طارئ، على التصرف في أحد عوضي المبيع إذا طرأ عليه ما يفسخه ؛ كما لو اشترى زيد بثوبه شيئاً من عمرو، وقد باع زيد هذا الشيء، ثم ردّ عليه عمرو الثوبَ بعيب، بجامع أن كلاً منهما صفقة سبقتها صفقة أخرى، فلا يؤثر في الثانية طروء انفساخ الأولى(1).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول ببطلان الحوالة بفوات الدين المحال به عرضاً ؛ لأنه هو أساس الحوالة، وقد سقط بالسبب الطارئ، فليس من المعقول أن يُقضى لصاحب الحق باستيفاء حقه بعد سقوطه ؛ لأن ذلك من العبث، إذا لو قُضي له باستيفاء حقه من طريق الحوالة، لوجب عليه ردّه إلى المحيل المشتري.
2 ـ فوات المال المحال عليه عرضاً:
إذا كان المال المحال عليه ثابتاً وقت إنشاء الحوالة، ثم طرأ عليه سبب جعل تنفيذ الحوالة عليه غير ممكن، فهل تبطل الحوالة به أم لا؟
تحقيق حكم المسألة يكون كالتالي:
أولاً: عند الحنفية:
__________
(1) نهاية المحتاج: الرملي 4/429، المهذب: الشيرازي 1/338.(5/20)
يفرِّق الحنفية في ذلك بين الحوالة المطلقة والحوالة المقيدة ؛ ففي الحوالة المطلقة إذا كان للمحيل مال عند المحال عليه، ولم تقيد به الحوالة، لم تبطل بفواته ؛ لأن حق المحال لم يتعلق به ؛ إنما تعلق بذمة المحال عليه(1).
أما في الحوالة المقيدة فهي على ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا كانت مقيدة بعين هي مضمونة كالمغصوب، ثم هلكت بالسبب الطارئ فلا تبطل؛ لأن هلاك المغصوب يعقبه بدل، وهو الضمان بالمثل إن كان مثلياً، أو بالقيمة إن كان قيمياً، والبدل (الضمان) يقوم مقام الأصل حكماً(2).
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين: 8/15، البدائع: الكاساني 6/17.
(2) البحر الرائق: ابن نجيم 6/275، البدائع: الكاساني 6/17.(5/21)
الحالة الثانية: إن كانت مقيدة بعين هي أمانة (وديعة)، ثمّ هلكت بدون تعدِ بالسبب الطارئ، فإن الحوالة تبطل، ويبرأ المحال عليه (المودع) ؛ لأن الحوالة قد قُيدت بها، وقد هلكت إلى غير بدل، ولم يلتزم المحال عليه الأداء إلا منها، لكن لو استردّ المحيل الوديعة من المحال عليه قبل تسليمها للمحال ؛ فإنها لا تبطل، لأن المحال عليه متعدِ بدفع ما تعلق به حق المحال إلى مَن ليس له أخذه(1).
الحالة الثالثة: إذا كانت الحوالة مقيدة بدين، ثم هلك بالسبب الطارئ، كما لو هلك المبيع عند البائع قبل التسليم وبعد الحوالة، فلا تبطل، وكذلك لا تبطل إذا استردّه المحيل من المحال عليه ؛ لأن المحال عليه يضمن للمحال عندئذٍ، وإذا أدّى المحال عليه يرجع بما أدّى على المحيل ؛ لأنه قضى دينه بأمره(2).
ثانياً: عند الجمهور غير الحنفية:
__________
(1) المرجعان السابقان، مجمع الأنهر: داماد أفندي 2/149.
(2) المراجع السابقة، الفتاوى الإنقروية 2/332.(5/22)
صورة فوات المال المحال عليه عرضاً عندهم، كما لو أحال البائع رجلاً على المشتري، ثم هلك المبيع قبل التسليم، أو رُدّ بعيب، فقد اختلفوا في حكم الحوالة عندئذٍ على قولين:
القول الأول: يرى أن الحوالة لا تبطل بفوات المال المحال عليه بالسبب الطارئ: وهو قول الشافعية والحنابلة إذا كان بعد القبض، وعلى الصحيح عندهم إذا كان قبل القبض، وهو قول ابن القاسم من المالكية(1).
واستدلوا بدليلين:
إن عقد البيع لم يرتفع بالفوات بهذا السبب من أصله، فلا يسقط الثمن، وبالتالي فلا تبطل الحوالة لانتقاء المبطل(2).
قد تعلق حق الغير ـ وهو المحال الأجنبي عن عقد البيع ـ بالدين، فلا يبطل هذا الحق بفسخ البيع، كما لو تصرف البائع في الثمن، ثم ردّ المشتري المبيع بعيب ؛ فإن تصرفه هذا لا يبطل(3).
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 2/196، الإنصاف: المرداوي 5/230، حاشية الخرشي 6/20.
(2) 5 كشاف القناع: البهوتي 3/376.
(3) 5 مغني المحتاج: الشربيني 2/196، المغني: ابن قدامة 7/65.(5/23)
القول الثاني: يرى أن الحوالة تبطل بفوات المال المحال عليه بالسبب الطارئ، وهو معتمد المالكية في رواية أشهب، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة إذا كان الفوات بعد قبض المحال مال الحوالة(1).
واستدلوا بالتالي:
القياس على ما لو بان المبيع باطلاً ببينة أو باتفاق المتعاقدين(2).
إنه لا فائدة في بقاء الحوالة هاهنا فيعود البائع بدينه، ويبرأ المشتري منه(3).
القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول بعدم البطلان، سواء كان قبل القبض أم بعده ؛ لأمرين.
أن عقد الحوالة حين عُقد كان صحيحاً، وكان الدين موجوداً، فلا يطرأ عليه ما يوجب البطلان.
استقراراً للتعامل، وحفاظاً على حقوق المتعاقدين، لا سيما وأن المال المحال عليه قد تعلّق به حق ثالث، ومتى قلنا بعدم بطلان الحوالة بفوات المحل (المال المحال به أو عليه) ؛ فإن المحال عليه يرجع على المحيل بما أدّاه للمحال.
الحالة الثالثة: التوا وأثرة على الحوالة
1 ـ التوا من حيث المعنى:
__________
(1) حاشية الخرشي 6/20، مغني المحتاج: الشربيني 2/196، الإنصاف: المرداوي 5/230.
(2) الإنصاف: المرداوي 5/230.
(3) المغني: ابن قدامة 7/65.(5/24)
تعريف التوا في اللغة: التوا في اللغة هو: التلف والهلاك(1).
أما في الاصطلاح: فهو العجز عن الوصول إلى الحق، والمقصود به في الحوالة هو عجز المحال عن الوصول إلى حقه من المحال عليه بأي سبب من الأسباب(2) التالية:
2 ـ أسباب التوا: ذكر فقهاء الحنفية للتوا أسباباً، وهي:
أ ـ موت المحال عليه مفلساً قبل الأداء:
وله في هذه المسألة ثلاث حالات عند الحنفية:
الأولى: أنه إذا مات المحال عليه مفلساً قبل أن يؤدي مال الحوالة، وذلك بأن لم يترك مالاً يقضي به دين المحال ؛ لا عيناً ولا ديناً ولا كفيلاً به، فعندئذٍ يتحقق التوا ؛ لأنه لم تبقَ ذمة يتعلق بها الحق، فسقط عن المحال عليه، وثبت له الرجوع على المحيل ؛ لأن براءة المحيل كانت براءة نقل واستيفاء لا براءةَ إسقاط، فلما تعذر الاستيفاء وجب الرجوع.
__________
(1) لسان العرب: ابن منظور، مادة (توا) 1/458، القاموس المحيط: الفيروزآبادي 4/307.
(2) شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/246، تبيين الحقائق 4/173.(5/25)
الثانية: فإن مات وترك ما يقضي به دين المحال، فلا يتحقق إفلاسه، ومن ثمَّ لا يرجع على المحيل، مهما كانت الأسباب ؛ لأن التركة خلف عن صاحبها، وإن مات وكان ما تركه لا يفي إلا بأداء قسم من دين المحال، فإن التوا يكون في الباقي.
الثالثة: فإن مات وترك كفيلاً بالمال فلا يعد مفلساً، فوجود الكفيل يمنع موته مفلساً، فلا يعود المحال على المحيل ؛ لأن الكفيل خلف عنه، إلا إذا مات الكفيل أو أبرأه المحال، فعندها يتحقق التوا، فإذا كانت الكفالة ببعض الدين، يتحقق التوا في الباقي(1).
ب ـ جحود المحال عليه الحوالة، ولا بينة:
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/11، البحر الرائق:ابن نجيم 6/273، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/173، البدائع: الكاساني 6/18، درر الحكام: علي حيدر 2/38، 39.(5/26)
ومن أسباب التوا عند الحنفية أن يجحد المحال عليه الحوالة، مع عدم اقتدار المحال أو المحيل على إثباتها بالبينة، ثم يحلف المحال عليه على أنه لم يأخذ الدين حوالة عليه، فعندها لا يقدر المحال على مطالبة المحال عليه، فيتحقق التوا، ومن ثَمَّ يرجع على المحيل، أما إذا أثبت المحال أو المحيل الحوالة بالبينة، فقد امتنع الرجوع، لعدم تحقق التوا؛ لأنه لا قيمة عندئذٍ لإنكار المحال عليه.
لكن هذه البينة لا يمكن القضاء بها إلا بحضور المحال عليه ؛ لأنه لا يمكن القضاء على الغائب(1).
ج ـ تفليس القاضي للمحال عليه حال حياته:
اتفق الحنفية على تحقق التوا في الحالتين السابقتين، واختلفوا في تحققه عند تفليس القاضي للمحال عليه على رأيين:
الرأي الأول: أن التوا يتحقق بتفليس القاضي للمحال عليه حال حياته: وهو للصاحبين، واستندوا في ذلك إلى دليل من القياس، وهو قياس تفليس القاضي للمحال عليه على حالتي الجحود والموت مفلساً، بجامع تعذّر الأخذ وانقطاع المطالبة وامتناع الملازمة.
__________
(1) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/12، درر الحكام: علي حيدر 2/39.(5/27)
الرأي الثاني: أن التوا لا يتحقق بتفليس القاضي للمحال عليه حال حياته: وهو رأي أبي حنيفة، واستند إلى دليلين:
إن القاضي لا يستطيع أن يقضي بإفلاس أحد حال حياته ؛ لأن المال غادٍ ورائح، فقد يمسي الرجل فقيراً ويصبح غنياً، ويمسي غنياً ويصبح فقيراً، فيحتمل أن يطرأ له مال في أيّ لحظة.
إن قياس تفليس القاضي على حالة الجحود والموت مفلساً قياس مع الفارق، لأن الدين مازال ثابتاً في ذمة المحال عليه المفلس، وتعذّر استيفاء الحق من جهته ليس على الدوام، ويمكن ارتفاعه بطروء مال له، وذلك بالقياس على ما لو تعذّر الاستيفاء بغيبة المحال عليه، فلا خلاف في عدم تحقق التوا عندها(1).
وظاهر كلام الحنفية تصحيح قول أبي حنيفة، حتى قال ابن عابدين " ولم أرَ مَن صحح قولهما "(2) أي الصاحبين، ولكن شارح المجلة علي أفندي أفتى بتحقق التوا في هذه الحالة، كما هو رأي الصاحبين(3).
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) 6 حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/12.
(3) 6 درر الحكام: علي حيدر 2/39.(5/28)
هذه الأسباب التي ذكر الحنفية تحقق التوا عندها، هي في الحوالة بنوعيها المطلقة والمقيدة، وهناك سبب مستقل تنفرد به الحوالة المقيدة، وهو:
د ـ تلف الأمانة التي قيدت بها الحوالة أو ضياعها:
إذا فاتت الأمانة التي قيدت بها الحوالة بتلف أو ضياع، بدون تعدٍّ من المحال عليه، فعندها تنتهي الحوالة التي قيدت بها، وتبرأ ذمة المحال عليه من المطالبة بمقتضاها، ويعود الدين إلى ذمة المحيل كما كان أولاً، لأنه ما التزم المحال عليه الأداء إلا منها، فيتعلق بها، وتبطل بهلاكها ؛ كالزكاة المتعلقة بنصاب معين.(5/29)
أما العين المضمونة التي قيدت بها الحوالة كالمغصوب أو الدراهم، فإذا هلكت لا تنتهي الحوالة، ولا تبرأ ذمة المحال عليه، لأن المضمون إذا هلك وجب ردّ مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن كان قيمياً، فكان فواته إلى بدل، فإذا تلف هذا البدل تحقق التوا(1).
3 ـ خلاف الفقهاء حول انتهاء الحوالة بالتوا:
اختلف الفقهاء في مسألة الانتهاء بالتوا على قولين ؛ كالتالي
القول الأول: يرى عدم انتهاء الحوالة بالتوا، وبالتالي لا رجوع للمحال على المحيل بدينه لبراءة ذمة المحيل بالحوالة براءة مؤبدة: وهو قول الشافعية والمالكية والحنابلة، إلا أنه يستثني عند المالكية وفقاً لرواية عند الحنابلة، حالتان يرجع بهما المحال على المحيل:
الأولى: ما إذا كان المحال عليه مفلساً وقت الحوالة، ولم يعلم المحال بذلك ؛ لأن المحيل يكون قد غرّه.
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/17، الفتاوى الهندية 3/293، شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/248، مجمع الأنهر: داماد أفندي 2/148، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/247، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/174، البحر الرائق: ابن نجيم 6/274، درر الحكام: علي حيدر 2/42(5/30)
الثانية: أن يشترط المحال الرجوع على المحيل في حالة التوا، وهذه الحالة وافق عليها ابن سريج من الشافعية(1).
القول الثاني: يرى انتهاء الحوالة بتحقق التوا، وبالتالي يرجع المحال إلى ذمة المحيل بدينه عليه، وهو قول أكثر الحنفية(2).
الأدلّة:
أولاً: أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الحوالة لا تنتهي بالتوا بالسنة والأثر والمعقول:
أ ـ السنة: قوله صلى الله عليه وسلم " فإذا أتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع "(3)
وجه الدلالة:
إنه لو كان له الرجوع لما كان لاشتراط الملاءة فائدة ؛ لأنه إن لم يصل إلى حقه رجع، فلمَّا اشترط الملاءة عُلم أن الحق انتقل بها انتقالاً لا رجوع له به، فاشتراط الملاءة حراسة للحق.
__________
(1) الذخيرة: القرافي 9/249، الحاوي: الماوردي 8/97، الإنصاف: المرداوي 5/248.
(2) البدائع: الكاساني 6/18، البحر الرائق: ابن نجيم 6/272، شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/243، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/172، الفتاوى الهندية 3/296.
(3) سبق تخريجه ص 14 من هذه الرسالة.(5/31)
ظاهر الحديث أوجب اتباع المحال عليه أبداً ؛ أفلس أم لم يفلس، فلم يخصّ حالة دون حالة(1).
ب ـ الأثر: ما روي أنه كان لحزن جد سعيد بن المسيِّب على عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مال، فأحاله به على إنسان، فمات المحال عليه، فرجع حزن إلى علي ـ رضي الله عنه ـ وقال: " قد مات من أحلتني عليه، فقال: قد اخترت علينا غيرنا، أبعدك الله، ولم يعطِه شيئاً "(2).
وجه الدلالة: إنه لو كان له الرجوع لما استجاز عليٌّ أن يمنعه منه، وهو فعل منتشر بين الصحابة، ولم يعرف له مخالف(3).
ج ـ المعقول: قياس فلس المحال عليه أو موته على ما لو اشترى شيئاً وغُبِن فيه أو تلف عنده، فكما لا يرجع المشتري بذلك على البائع، فكذا لا يرجع المحال عليه بالفلس أو الموت على المحيل(4).
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/95، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232، الذخيرة: القرافي 9/251، المنتقى على الموطأ: الباجي 5/67.
(2) سبق تخريجه ص 86 من هذه الرسالة.
(3) الحاوي: الماوردي 8/95، المغني: ابن قدامة 7/61.
(4) نهاية المحتاج: الرملي 4/424، المهذب: الشيرازي 1/338، أسنى المطالب: الأنصاري 2/232.(5/32)
وقد استدل المالكية ومن وافقهم على الرجوع في حالة الغرر والشرط بالأدلة التالية، والتي خصصوا بها أدلة الشافعية في عدم الانتهاء بالتوا:
1 ـ الدليل على الرجوع في حال الغرر خاصة:
إن الفلس عيب في المحال عليه كسائر العيوب التي يستحق بها الرجوع على البائع، فكان للمحال الرجوع على المحيل إذا غرّه(1).
2 ـ الدليل على الرجوع إذا ما اشترط المحال الرجوع في حالة التوا على المحيل
قوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون عند شروطهم " (2).
إن الحوالة صحيحة وقد شرط فيها سلامة ذمة المحال عليه(3).
ثانياً: أدلة القول الثاني:
واستدل القائلون بانتهاء الحوالة بالتوا، بالإجماع والمعقول كالتالي:
1 ـ الإجماع: ما روي عن سيدنا عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال في الحوالات " ليس على مال امرئ مسلم توى " (4).
__________
(1) 7 المغني: ابن قدامة 7/61.
(2) 7 تقدم تخريجه ص 44 من هذه الرسالة.
(3) المنتقى على الموطأ: الباجي 5/67.
(4) تقدم تخريجه انظر ص 89 من هذه الرسالة.(5/33)
وجه الدلالة: يدل هذا الأثرعلى الانتهاء بالتوا، وبالتالي يرجع المحال على المحيل، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة خلافه، فكان إجماعاً(1).
2 ـ المعقول: وهو من وجهين:
قالوا إن المقصود من مشروعية الحوالة أن يصل الدائن المحتال إلى حقه من المحال عليه بالاستيفاء، وليس المقصود منها مجرد التحول والوجوب على المحال عليه ؛ لأن الذمم لا تختلف في نفس الوجوب، وإنما تختلف في الإيفاء، وهذا هو المعلوم والمتعارف عليه عند الناس، والمعلوم كالمشروط، فإذا لم يصل المحتال إلى حقه كان له الرجوع(2).
إن الدين لا يسقط إلا بالقضاء أو الإبراء، والحوالة ليست بقضاء ولا إبراء(3).
وقد سبقت مناقشة أدلة كل قول أثناء الحديث عن مسألة براءة المحيل(4).
القول الراجح:
__________
(1) البدائع: الكاساني 6/18.
(2) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/244.
(3) البدائع: الكاساني 6/18.
(4) انظر ص 91 من هذه الرسالة.(5/34)
يبدو لي أن الراجح هو القول الأول القاضي بعدم انتهاء الحوالة بالتوا ؛ لأن الدين انتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه مؤبداً، لكن يثبت الرجوع في حالة الشرط والغرر كما عليه المالكية وموافقوهم ؛ وذلك لما في الشرط من المصلحة التي لا تنافي مقتضى عقد الحوالة، ولما في الغرر من المنافاة لمقتضى الرضا في العقود.
والله تعالى أعلم.
---(5/35)
السفتجة
المبحث الأول: تعريف السَّفتَجة
أولاً: السفتجة في اللغة:
السَفْتَجَة: بفتح السين والتاء، أو بضمهما، أو بضم السين، و فتح التاء وهو الأشهر، هي كلمة مُعرَّبة عن الفارسية، أصلها سَفْتَه، بمعنى الشيء المحكم أو المجوف، وفسرها بعضهم فقال: هي أن يعطي شخص مالاً لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه هناك، فيستفيد أمن الطريق، وتجمع على سَفاتِج، ومصدرها الذي منه الاشتقاق سفتجة بالفتح، ومنها ما أشدّ سفتج هذه الريح ! أي ما أشد هبوبها(1)، وقد وقعت هذه اللفظة في سنن النسائي(2).
سبب التسمية:
وسميت هذه المعاملة سفتجة لأحد أمور ثلاثة:
__________
(1) لسان العرب: ابن منظور 2/298، تاج العروس: الزبيدي 2/59، المصباح المنير: الفيومي ص145، القاموس المحيط: مجد الدين الفيروزأبادي 1/201.
(2) سنن النسائي، كتاب المزارعة، 7 باب تفرّق الشركاء عن شريكهم ـ سفاتج ومضاربات ـ 7/61.(6/1)
ما فيها من إحكام الأمر وتوثيقه، وتجنُّب خطر الطريق، وخطر التلف والعناء ؛ لأن الراغب في نقل المال لو أعطاه لمن ينقله على سبيل الأمانة، فتلف، لتلف على ربّ المال، بخلاف القرض فإنه يتلف على المقترض(1).
إن فيها تشبيهاً للدراهم التي تُخبأ في الأشياء المجوّفة، فقد كانوا يجوِّفون العصا، ويضعون دراهمهم بداخلها، وإنما شبه بذلك ؛ لأن كلاً منهما احتال لسقوط خطر الطريق.
إن أصلها أن الإنسان إذا أراد السفر، وله نقد، وأراد إرساله إلى صديقه، فوضعه في سفتجة (وعاء مجوَّف)، ثم مع ذلك خاف خطر الطريق، فإنه يقرض ما في السفتجة إنساناً آخر، فأطلق اسم السفتجة على إقراض ما فيها باعتبار المحلية(2).
ثانياً: السفتجة عند الفقهاء:
أورد الفقهاء للسفتجة عدة تعريفات كالتالي:
هي "إقراض لسقوط خطر الطريق"(3).
هي: "كتاب صاحب المال لوكيله في بلد آخر ؛ ليدفع لحامله بدل ما قبضه"(4).
__________
(1) تاج العروس: الزبيدي 2/59.
(2) لسان الحكام في معرفة الأحكام: ابن الشحنة الحنفي، ص61.
(3) الدر المختار: الحصكفي وحاشية ابن عابدين 8/17.
(4) مواهب الجليل: الحطاب 4/548.(6/2)
"هي البطائق تكتب فيها آجال الديون، كالرجل تجتمع له أموال ببلد، فيسلفها لك، وتكتب له إلى وكيلك ببلد آخر لك فيه مال أن يعطيه هناك، خوف غرر الطريق"(1).
"هي البطائق التي يُكتب فيها الإحالة بالدين، وذلك أن يسلّف الرجل مالاً في غير بلده لبعض أهله، أو يكتب القابض لنائبه، أو يذهب معه بنفسه ليدفع عوضه في بلد السلف"(2).
"هي سلف الخائف من ضرر الطريق يعطي بموضع، ويأخذ حيث يكون متاع الآخر فينتفع الدافع والقابض"(3).
وبالنظر في التعريفات السابقة يتبين لي أنها غير جامعة من ثلاثة وجوه ؛ كالتالي:
إنها تناولت السفتجة على أنها تمثل قرضاً ؛ إما صراحة، وإما تمثيلاً، أي أن السفتجة في هذه التعريفات قاصرة على القرض فقط، مع أن مِن الفقهاء مَنْ صرّح بأنها قد تمثل ديناً ثابتاً في الذمة، كما سيأتي إن شاء الله عند الكلام عن صور السفتجة.
__________
(1) الذخيرة: القرافي 5/293.
(2) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/288.
(3) شرح النيل: اطفيش 9/94.(6/3)
إنهم عرفوها بأنها كتاب أو صك أو بطائق، مع أن الفقهاء لم يصرحوا بوجوب الكتابة فيها(1)
إن كل تعريف منها ينظر إلى بعض صور السفتجة ـ الآتية الذكر ـ دون بعض، والأصل في التعريف أن يكون مستوعباً لجميع الصور.
ثالثاً: التعريف المختار:
ويمكن اختيار تعريف جامع مانع للسفتجة، وهو ما ذكره الدكتور رفيق يونس المصري في كتابه (الجامع في أصول الربا) من أن السفتجة هي:
" وفاء الدين في بلد آخر غير بلد الدين، سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة "(2) بإضافة كلمة (عقد)، فيكون التعريف المختار أنها " عقد يقتضي وفاء الدين في بلد آخر غير بلد الدين، سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة "
شرح التعريف:
(عقد يقتضي) إنما عبرت بكلمة عقد ؛ لأن السفتجة لا تكون إلا عن اتفاق بين الدائن والمدين، سواء كان هذا الاتفاق عند إنشاء الدين، أو كان لاحقاً له.
__________
(1) لم يقل أحد من الفقهاء بوجوب الكتابة فيها، بل منهم من يعبر بقوله: " كأن يكتب له بها سفتجة "، والبعض الآخر يعبر عنها بقوله: كأن يشترط عليه أن يوفيه في مكان آخر.
(2) 1 الجامع في أصول الربا: رفيق المصري ص277.(6/4)
(وفاء الدين) وهو ما وقع الاتفاق عليه، سواء كان الوفاء من المدين نفسه، أو مِمَّن يقوم مقامه في المكان الجديد، والتعبير بكلمة (دين) تشمل القرض وغيره ؛ كثمن مبيع، أو بدل إتلاف، وهو قيد في التعريف، تخرج به العين التي هي أمانة ؛ لأن الراغب في السفتجة إنما يدفع المال على سبيل الضمان ؛ ليستفيد به أمن خطر الطريق، ولا يدفعه على سبيل الأمانة.
(في غير بلد الدين) هو قيد في التعريف جيء به لبيان أنه لابد في السفتجة أن يختلف بلد إنشائها عن بلد الوفاء بها، حتى يتحقق المقصود منها، وهو ضمان خطر الطريق على أكمل وجه ؛ لأنه إذا كان الوفاء في نفس بلد الإنشاء، لا يتحقق الغرض المقصود منها إلا إذا كان المكانان متباعدين، وكانت بينهما مخاطر، كما هو الحال في الدول الكبيرة اليوم.
(سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة)، وإنما جيء بهذا القيد لبيان أن كتابة السفتجة ليس بواجب، وإن كان المعتاد فيها أنها كتاب، أو صك يكتبه المدين للدائن، أو المقترض للمقرض.
رابعاً: فوائد التعامل بالسفتجة:
للسفتجة عدة فوائد، أذكر منها ما يلي:(6/5)
ضمان خطر الطريق: قد يكون للرجل مال في بلد، ويريد أن يذهب به إلى بلد آخر، لكنه يخاف من أخطار الطريق، فيدفعه إلى تاجر مثلاً، أو إلى رجل له في ذلك البلد مال أو دين على رجل آخر، ويكتب التاجر أو القابض كتاباً يخاطب به نائبه أو مدينه في ذلك البلد المعين، ليعطي للدافع أو دائنه نظيرَ ما دفعه إليه، وبذلك يحصّل كلٌ منهما على المال المطلوب في المكان المقصود، دون نقل ولا مخاطرة(1).
تيسير إرسال النفقات والمعونات: حيث إنها تيسِّر على الذين يعملون في خارج بلدانهم، في إرسال النفقات إلى ذويهم وأقاربهم، أو من تلزمهم نفقتهم، وكذلك تيسِّر على أولياء الطلاب إرسال النفقات إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، وكذلك إرسال المعونات للفقراء والمساكين في مختلف البلاد.
__________
(1) 1 الموسوعة الفقهية (الطبعة التمهيدية) نموذج 3، ص207.(6/6)
قد تكون السفتجة وسيلة لضمان أموال القاصر: كما لو أراد الولي أن يسافر، ويخشى إن أخذ معه مال القاصر أن يسطو عليه اللصوص، وقطاع الطريق، فيدفعه إلى شخص قرضاً، على أن يردّه إليه في البلد المسافر إليه، فيستفيد من وراء هذا القرض دفع الخطر المتوقع في الطريق، وفي ذلك ضمان للمال، ويكون الولي قد تصرف بمال الصبي بما فيه المصلحة.
جاء في المغني لابن قدامة: "ذكر القاضي: أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيّه في بلد آخر، ليربح خطر الطريق "(1).
توثيق الدين: ففي السفتجة توثيق للدين، والقرآن الكريم في أطول آياته يحثّ على كتابة الدين (يا أيها الذينَ آمنوا إذا تداينتُمْ بدينٍ إلى أجلٍ مسمىً فاكتبوهُ … … (2) ومعلوم أن وثائق الحقوق ثلاثة: كتابة، وشهادة، ورهن.
خامساً: صور السفتجة:
إن للسفتجة صوراً سبعاً، تظهر من خلال تفسير الفقهاء لها، وهي كالتالي:
الأولى: أن يكون لشخص دين على آخر، فيطلب الدائن من مدينه أن يكتب له سفتجة إلى بلد آخر.
__________
(1) المغني: ابن قدامة 4/290.
(2) سورة البقرة الآية 282.(6/7)
وهذه الصورة مذكورة في كتاب الحاوي للماوردي، ونصّه: " أما الدين الثابت إذا سأل صاحبه ـ أي الدائن ـ مَن هو عليه ـ أي المدين ـ أن يكتب له به سفتجة إلي بلد آخر لم يلزمه إلا أن يشاء، فلو اتفقا على كتب سفتجة جاز "(1).
وهذه الصورة في الدين عامة.
الثانية: أن يقرض شخص آخرَ ليوفيَّه المقترض إلى ثالث في بلد آخر.
وهذه الصورة منتشرة في كتب الحنفية، جاء في شرح فتح القدير: " أن يدفع في بلده إلى مسافر قرضاً، ليدفعه إلى صديقه أو وكيله مثلاً في بلدة أخرى، ليستفيد به أمن خطر الطريق "(2).
ففي هذه الصورة يكون المقترض عازماً على السفر بنفسه إلى بلد الأداء، حتى يوفّيَ لشخص ثالث موجود هناك، وأشخاص هذه الصورة هم: المقرض المقيم في بلد القرض، والمقترض العازم على السفر، والشخص الثالث نائب المقرض في البلد الآخر.
الثالثة: أن يقرض في بلد ليقوم المقترض بتكليف نائبه بدفع بدل ما استقرضه للمقرض نفسه في بلد آخر.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150.
(2) شرح فتح القدير: الكمال بن الهمام 7/250.(6/8)
وهذه الصورة مذكورة في مدونات المالكية، قال الخرشي "المراد بها الكتاب الذي يرسله المقترض إلى وكيله ليدفع لحامله ببلد آخر نظير ما تسلفه "(1).
وفي هذه الصورة يكون المقرض هو العازم على السفر دون المستقرض.
وأشخاص هذه الصورة هم: المقرض العازم على السفر، والمقترض المقيم في بلد القرض، والثالث وكيل المقترض المكلف بدفع مال الوفاء للمقرض.
الرابعة: أن يقرضه ببلد ليدفعه المقترض نفسه إلى المقرض في بلد آخر يعيّنه.
وهذه الصورة المشهورة عند الفقهاء، جاء في رد المحتار: " وقيل هي أن يقرض إنساناً ليقبضه المستقرض في بلد، ويدفعه في بلد يريده المقرض "(2).
وجاء في البهجة عن هذه الصورة والتي قبلها "السفتجة وهي البطائق التي تُكتب فيها الإحالة بالدين، وذلك أن يسلِّف الرجل مالاً في غير بلده لبعض أهله، ويكتب القابض لنائبه، أو يذهب بنفسه ليدفع عوضه في بلد المسلف"(3)
__________
(1) حاشية الخرشي 5/231، مواهب الجليل: الحطاب 4/548.
(2) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/18.
(3) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/288.(6/9)
والملاحظ في هذه الصورة أن المقرض والمقترض كليهما عازمان على السفر إلى البلد الآخر، وهما أشخاص هذه الصورة.
الخامسة: أن يقرضه في بلد على أن يكتب المقترض إلى نائبه في البلد الآخر ليوفيه إلى نائب المقرض أو دائنه في ذلك البلد.
وهذه الصورة ذكرها بعض المالكية، جاء في منح الجليل: " السفتجة ؛ أي ورقة يكتبها مقترض ببلد كمصر لوكيله ببلد آخر كمكة، ليقضي عنه بها ما اقترضه بمصر "(1).
وفي هذه الصورة يكون كل من المقرض والمقترض ماكثين غير مسافرين إلى بلد الوفاء.
وأشخاص هذه الصورة هم: المقرض والمقترض المقيمان، ونائب كل منهما ببلد الأداء.
السادسة: أن يكون للمقرض مال في بلد آخر، فيكتب إلى وكيله أن يقرض هذا المال لشخص يدفع للآمر في بلده.
__________
(1) منح الجليل: عليش 5/406. وينضاف إلى هذه الصورة صورة أخرى مشابهة لها، وهي:أن يكتب المقترض إلى مدينة في بلد ما أن يدفع إلى وكيل المقرض في ذلك البلد مبلغاً معيناً، يكون المستقرض قد تسلّمه من المقرض في بلد آخر.(6/10)
وهذه الصورة نقلها الفيومي في المصباح المنير عن بعض الفقهاء بقوله: " هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قرضاً يأمن به من خطر الطريق "(1).
ولم أجدها في كتب الفقه، وفي هذه الصورة يكون الإقراض في غير بلد المقرض، والوفاء في بلده.
وأشخاص هذه الصورة هم: المقترض، ونائب المقرض المأمور بالإقراض، والمقرض.
السابعة: أن يقرضه في بلد على أن يكتب المقترض إلى مدينه في بلد آخر، يكلفه بأن يدفع بدل ما استقرضه إلى المقرض في البلد الآخر، وفاءً بماله عليه من دين.
ومثالها أن يكون لرجل مال مثلاً يريد أن يذهب به إلى بلد آخر، ويخاف عليه خطر الطريق، فيدفعه إلى رجل له بذلك البلد دين على آخر، ويقول: (اكتب خطاً على ذلك الرجل بما لك عليه، لآخذه منه).
__________
(1) 2 المصباح المنير: الفيومي ص 145.(6/11)
وهذه الصورة مع مثالها ذكرها ابن بطّال(1) في كتابه (النظم المستعذب في شرح غريب المهذب)(2).
وفي هذه الصورة يكون المقرض هو العازم على السفر دون المستقرض.
وأشخاص هذه الصورة هم: المقرض العازم على السفر، والمقترض المقيم في بلد الإقراض، ومدين المقترض في بلد الأداء.
وهذه الصورة مطابقة تماماً لحقيقة الحوالة عند الفقهاء.
وبالنظر إلى تفسيرات السفتجة وصورها يتبين لي التالي:
إنها قد تمثل ديناً كما هو الحال في الصورة الأولى، وقد تمثل قرضاً، كما في باقي الصور، وهذا يؤكد أفضلية التعبير بالدين في التعريف المختار ؛ لأنه يشمل القرض كذلك.
__________
(1) 2 ابن بطال هو: محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان بن بطّال الركبي، اليمني، المشهور ببطال، أبو عبد الله، شمس الدين، فقيه، محدِّث، لغوي، شاعر، سكن في بلدة ذي يعمد، إحدى قرى الدملوه، ورحل إلى مكة، ثم عاد إلى بلده، فبنى مدرسة، ووقف عليها كتبه وأرضه، توفي في بلده سنة 633 هـ، من تصانيفه: شرح غريب المهذب. انظر معجم المؤلفين: كحالة 3/101، الأعلام: الزركلي 5/320.
(2) النظم المستعذب شرح غريب المهذب بهامش المهذب: ابن بطال 1/304.(6/12)
إنها تفيد في مجموعها أن القصد الأساسي منها إنما هو ضمان خطر الطريق، فغاية الدائن أو المقرض من هذا الدين أو القرض هو تضمين المدين أو المقترض خطر الطريق، وهو زيادة منفعة، إذ المنفعة الأصلية للمقرض أو الدائن من القرض أو الدين في أن المال في ذمة المقترض أو المدين، إلى أن يردّ مثله في مكان العقد(1)، فإذا شرط المقرض، أو اتفق الدائن مع المدين على كتب سفتجة إلى بلد كذا، فإن المقرض أو الدائن ينتفع بذلك زيادة ضمان لنفسه، لكن لو دفع ذلك الشخص المال إلى الآخر على سبيل الوديعة ليردّها عليه في بلد آخر، لما استفاد الدافع هذه المنفعة الزائدة ؛ لأن الوديعة إذا تلفت تكون غير مضمونة لصاحبها، لكونها لم تخرج عن ملكه، بخلاف القرض، فإنه من العقود الناقلة للملكية، فإذا قبضه المقترض صار مالكاً وضامناً، وعند الوفاء يردّ مثله، فالضمان يتبع الملك(2).
__________
(1) كون القرض مضموناً على المقترض لا خلاف فيه بين الفقهاء ؛ لأن طبيعة القرض هكذا، فيكون المال خلال فترة القرض مملوكاً للمقترض، ومضموناً عليه.. انظر الجامع في أصول الربا: المصري ص282
(2) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/17.(6/13)
إن الفقهاء لم يحددوا صيغة معينة تنعقد بها السفتجة، سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة، وقد نصّ الماوردي على أن السفتجة المكتوبة قد تكون بلفظ الحوالة، وقد تكون بلفظ الأمر والرسالة(1).
ونظراً لشيوع السفاتج، وتعويل الناس عليها في معاملاتهم التجارية والمدنية على حدٍّ سواء، فقد نشأت لها طرق وأساليب عرفية، استغني فيها عن كتابة الرقاع والصكوك، حتى أصبحت لا تتوقف على كتابة معينة، بل يُكتفى فيها بأي إشارة يحملها الدائن أو نائبه، أو مدينه، ويطلع عليها المأمور بالوفاء في مكانه، ولا سيما اليوم بين الدول ذات النظام النقدي المقيد، الذي يمنع فيه إدخال النقود وخروجها إلا بمقادير محدودة تحت رقابة الدولة، حيث يكثر تهريب النقود منها وإليها بطريق السفاتج، وتُعتَمد فيها إشارات ورموز بين الآمر والمأمور بالوفاء للشخص حامل الرسالة.
وفي العصر الحديث قامت في سائر البلاد مصارف، ونظم مصرفية أخرى، أصبح فيها تحويل النقود عصب المعاملات المالية.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150.(6/14)
وبسبب التقدم المذهل في وسائل الاتصال الحديثة ؛ أصبح من الممكن تحويل ملايين من الوحدات النقدية بمكالمة هاتفية، أو برقية، أو بإرسال فاكس، أو شيك مصرفي لا يخرج عن كونه سفتجة(1)، وسيأتي إن شاء الله في سياق الحديث عن حقيقة التحويلات المصرفية توضيح ذلك.
سادساً دخول الأجل في السفتجة:
السفتجة من المعاملات التي تقبل الأجل في الدين الذي هو محلها، أو في المال المراد الوفاء به ؛ كالقرض، والحوالة، وغيرها من المعاملات التي تقبل الأجل ؛ لذا عرّفها بعضهم بقوله: " السفتجة هي البطائق تُكتب فيها آجال الديون "(2)
المبحث الثاني: تكييف السفتجة
بالنظر إلى مفهوم السفتجة وصورها السابقة نخلص إلى ما يلي:
__________
(1) الموسوعة الفقهية، طبعة تمهيدية، نموذج 3 ص209.
(2) الذخيرة: القرافي 5/293.(6/15)
إذا كانت السفتجة تمثل ديناً(1) كما في الصورة الأولى، فإنها عندئذٍ تكون استيفاء له في البلد الآخر.
أما إذا كانت تمثل قرضاً، كما في باقي الصور، فتكون على نوعين:
قرض محض، أو قرض وكالة: وهي التي ينحصر فيها الإقراض والوفاء، بين المقرض، والمقترض، أو نائب عن أحدهما.
حوالة: وهي التي تصحب عملية القرض فيها إحالة على مدين ؛ كما لو كان هناك مقرض ومقترض في بلد، ومدين للمقترض في بلد آخر، يكلفه المقترض بالأداء إلى المقرض أو نائبه هناك.
أو كان هناك مقرض ومقترض في بلد، ودائن للمقرض في بلد آخر، بحيث يؤدي المقترض أو نائبه إليه ما اقترضه من مدينه.
__________
(1) الدين لغة: كل شيء غير حاضر، واصطلاحاً " ما يصح أن يثبت في الذمة، سواء كان نقداً أو غيره " كثمن المبيع بالأجل، وغرامة المتلف وقيمته، وعوض الخلع، وهو بهذا المعنى أعم من القرض الخ. انظر لسان العرب: ابن منظور 2/1467، القاموس الفقهي: سعدي أبو جيب ص133.(6/16)
فإذا انطوت السفتجة على إقراض وإحالة على مدين ـ ولو كانت هذه الإحالة غير صريحة ؛ بل مستفادة من قرائن الحال ـ فإن السفتجة تكون حوالة مستندة إلى قرض(1)
وترتيباً على ذلك فقد اختلفت أنظار الفقهاء في تكييف السفتجة على ثلاثة أقوال كالتالي:
القول الأول: يرى أن السفتجة قرض، وأورد أصحابه أحكامها في باب القرض، فقد ذكروها عند الكلام في القرض الذي يجر منفعة، هل هو جائز أو غير جائز؟ وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة وبعض الحنفية وأكثر الشافعية(2).
أقول: بأن هذا التكييف للسفتجة قاصر، لا يشمل ما إذا كانت السفتجة تمثل ديناً ثابتاً في الذمة ؛ إذ من المعلوم أن الدين أعمّ من القرض.
__________
(1) الموسوعة الفقهية، طبعة تمهيدية، نموذج 3 ص208.
(2) 3 انظر المراجع السابقة في صور السفتجة، الموسوعة الفقهية 25/24.(6/17)
القول الثاني: يرى أن السفتجة ضمان، وأورد القائلون به أحكامها في آخر باب الضمان، اعتباراً بالقصد الأساس منها، وهو ضمان خطر الطريق، أو باعتبارها بمثابة وثيقة بالدين إن كانت مكتوبة، أو لأن لزومها على المكتوب إليه ربما يكون مقروناً بأن يضمنها كما سيأتي إن شاء الله في لزوم السفتجة على المكتوب إليه(1)، وهذا قول بعض الشافعية والحنفية (2).
أقول: إن تكييف السفتجة على أنها ضمان، إنما كان بالاعتبارات المذكورة، وهذه الاعتبارات في نظري، لا تقوى على أن تجعل التكييف الصالح لها هو الضمان ؛ لأن في الحوالة مثل هذه الاعتبارات، ومع ذلك كان التكييف الأقوى أنها عقد مستقل.
القول الثالث: يرى أن السفتجة حوالة، وأورد أصحابه أحكامها في باب الحوالة، وهو لبعض الحنفية(3).
__________
(1) 3 انظر ص160 من هذه الرسالة.
(2) الحاوي: الماوردي 8/150، الفتاوى الهندية 3/294.
(3) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/250، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/18، وقد ذكرها بعض فقهاء الحنفية في آخر باب الحوالة، مع ذكرها في باب القرض.(6/18)
وهذا القول جدير بالبحث، حيث إن هناك أوجه شبه، وأوجه خلاف بين السفتجة وبين الحوالة، كالتالي:
أولاً: أوجه الشبه:
إن السفتجة في معنى الحوالة، من حيث إن الدائن أو المقرض أحال الخطر المتوقع على المدين أو المقترض، فكانت في معنى الحوالة(1).
باعتبار أن المدين أو المقترض يحيل الدائن أو المقرض إلى شخص ثالث، فكأنه نقل الدين من ذمته إلى ذمة المحال عليه، والحوالة لا تخرج عن كونها انتقال الدين من ذمة إلى ذمة(2).
إن كلاً من السفتجة والحوالة معاملة في الديون كالكفالة وغيرها(3).
ثانياً: أوجه الخلاف:
إن السفتجة لا تتقيد بلفظ الحوالة ؛ بل إنها قد تكون بلفظ الحوالة، وقد تكون بلفظ الأمر والرسالة فيها ؛ كما بينت آنفاً(4).
__________
(1) شرح منلاسكين على كنز الدقائق ص201، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/175.
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية 25/24.
(3) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/251، شرح العناية على الهداية: البابرتي 7/251.
(4) الحاوي: الماوردي 8/150، انظر ص131 من هذه الرسالة.(6/19)
قد يكون ثبوت الدين في السفتجة مقارناً للعقد ؛ كما لو كانت بقرض حادث، وهذا يقع كثيراً، أما الحوالة فهي في دين ثبت في الذمة فعلاً(1).
باعتبار أن بعض صور السفتجة قرض محض مشروط الوفاء في بلد آخر، فلا يتوفر فيه طرف ثالث، وبعضها يتوفر فيها ذلك.
وهذا السبب جعل بعض الباحثين المعاصرين يفردون بحث السفتجة عن الحوالة، كما فعلت الموسوعة الفقهية(2).
إن المدين في السفتجة لا تبرأ ذمته حتى يستوفي الدائن أو نائبه المال في البلد الآخر، تحقيقاً للغرض من السفتجة ؛ حيث إن الدائن قصد أن يدفع المال لمن يضمن له الوفاء في المكان المتفق عليه، في حين أن المحيل (المدين) في الحوالة تبرأ ذمته بمجرد صدور الحوالة مستوفية أركانها وشروطها(3)، وإن لم يستوفِ المحال الدين من المحال عليه.
إنه لابد في السفتجة من اختلاف مكان إنشائها عن مكان الوفاء بها، بخلاف الحوالة.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150، الموسوعة الفقهية 25/24.
(2) الموسوعة الفقهية 18/176.
(3) 4 انظر ص94 من هذه الرسالة.(6/20)
إن السفتجة لا تحتمل التداول من قبل الشخص المكتوب إليه، أو المكتوب له، في حين أن الحوالة يمكن تداولها من جهة المحال أو من جهة المحال عليه، كما سبق تفصيل ذلك (1).
رأي الباحث:
بالرغم من شدة الصلة بين كل من الحوالة والسفتجة كما سبق، حيث إن السفتجة قد تكون نوع حوالة، إلا أنه لا يمكن إطلاق القول بأن السفتجة حوالة ؛ نظراً لوجود تلك المفارقات بين قواعد كل منهما.
لذا، فإنني أميل إلى أنها معاملة مستقلة يتم فيها الاتفاق على وفاء مقدار من المال في بلد أخر.
والله أعلم.
المبحث الثالث: حكم السفتجة
البحث في حكم السفتجة يتناول السفتجة حال كونها تمثل ديناً ثابتاً في الذمة، وكذلك إذا كانت (السفتجة) تمثل قرضاً حادثاً، وذلك على النحو التالي:
__________
(1) 4 انظر ص 55، 62 من هذه الرسالة.(6/21)
أ ـ إذا كانت السفتجة تمثل ديناً ثابتاً في الذمة: كما لو كان لشخص على آخر دين من ثمن مبيع مؤجل، أو بدل خلع، أو قرض قديم، أو نحو ذلك، ثم إن الدائن والمدين اتفقا على كتابة سفتجة بالدين إلى بلد كذا، فقد نص الشافعية على جواز ذلك، كما نصوا على أن الدائن إذا طلب من المدين أن يكتب له بالدين سفتجة إلى بلد آخر، فلا يلزم المدين ذلك، إن شاء كتب له، وإن شاء لم يكتب(1).
ب ـ وإذا كانت السفتجة تمثل قرضاً حادثاً: ففيه حالات ثلاث.
الحالة الأولى: إذا لم تكن منفعة السفتجة مشروطة في عقد القرض.
الحالة الثانية: إذا كانت منفعة السفتجة للمقرض والمقترض معاً، أو وجدت حالة ضرورة، أو كانت المنفعة للمقترض وحده.
الحالة الثالثة: إذا كانت منفعة السفتجة مشروطة في عقد القرض.
وفيما يلي تفصيل الأحكام عن كل واحدة من هذه الحالات على حدة:
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150.(6/22)
الحالة الأولى: إذا لم تكن منفعة السفتجة مشروطة في عقد القرض: كأن يكون المقترض هو الذي تبرع بالسفتجة، أو يكون القرض مطلقاً، ثم يتفقا على كتابة سفتجة، فهي جائزة بلا خلاف بين الفقهاء(1).
جاء في الفتاوى الهندية " وتكره السفتجة، إلا أن يستقرض مطلقاً، ويوفّي بعد ذلك في بلد آخر من غير شرط " (2).
وجاء في التاج والإكليل على مختصر خليل " قال مالك: وأما إن أقرضه عيناً فلا حمال فيها ـ أي لا مؤنة لحملها ـ إذ لك أخذه بها حيث لقيته، فإن شرطت أخذها ببلد آخر، فإنما يجوز ذلك إذا فعلته رفقاً بصاحبك لا تعتزي أنت به نفعاً من ضمان طريق، ونحوه"(3).
__________
(1) نصّ الحنفية على أن السفتجة عند عدم الشرط إنما تجوز إذا لم يكن فيه عرف ظاهر، فإن كان يعرف بأن ذلك يفعل لذلك فلا تجوز، أي أنه إذا لم تكن المنفعة مشروطة ولا متعارفة فلا بأس ؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. انظر شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/251.
(2) الفتاوى الهندية 3/204.
(3) التاج والإكليل على مختصر خليل بهامش مواهب الجليل: المواق 4/547.(6/23)
وجاء في الحاوي للماوردي: " أن يكون قرضاً مطلقاً، ثم يتفقان على كَتْبِ سفتجة فيجوز"(1).
وجاء في الروضة للنووي " لو أقرضه بلا شرط فردّ أجود أو أكثر، أو ببلد آخر جاز" (2).
وجاء في المغني لابن قدامة " فإن أقرضه مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيراً منه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز، وكذلك إن كتب له بها سفتجة أو قضاه في بلد آخر جاز"(3).
وجاء في المحلى لابن حزم " فإن تطوع المقترض من غير شرط، فكل ذلك حسن مستحب، وكذلك إن قضاه في بلد آخر، ولا فرق، فهو حسن ما لم يكن عن شرط "(4).
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150.
(2) روضة الطالبين: النووي 4/34
(3) المغني: ابن قدامة 4/392.
(4) المحلى: ابن حزم 8/78.(6/24)
وقال بجواز السفتجة في هذه الحالة أيضاً عدد من فقهاء الصحابة والتابعين ؛ منهم: ابن عباس، وابن عمر، وسعيد ابن المسيِّب، والحسن، والنخعي، والشعبي، والزهري، ومكحول(1)، وقتادة(2)، وغيرهم(3).
والدليل على جواز السفتجة في هذه الحالة ما يلي:
1 ـ من السنة:
__________
(1) 5 مكحول هو: مكحول بن أبي مسلم شِهراب بن شاذل، أبو عبد الله، الهذلي بالولاء، فقيه الشام في عصره، أصله من الفرس، تابعي، أعتق بمصر، وتفقه بها، ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة، واستقر بدمشق، وتوفي بها سنة 112هـ. انظر الأعلام: الزركلي 7/284.
(2) 5 قتادة هو: قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، أبو الحطّاب، السدوسي البصري، وُلد ضريراً، مفسر حافظ للحديث، ومع علمه بالحديث كان رأساً بالعربية ومفردات اللغة وأيام العرب وأنسابها، وقد يدلس في الحديث، مات بواسط بالطاعون سنة 118هـ. انظر الأعلام: الزركلي 5/189.
(3) المغني: ابن قدامة 4/392.(6/25)
إن السفتجة إذا كانت من غير شرط فهي تطوع من المقترض بالأداء في تلك البلد، وذلك من حسن القضاء الذي ندب إليه الشارع، وقد تواترت السنة الصحيحة في الحثّ عليه، ومنها:
أخرج مسلم عن أبي رافع أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بِكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال صلى الله عليه وسلم: " أعطِه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً"(1).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 22 باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه،ح 1600، 3/1224. والبكر هو: الفتى من الإبل، كالغلام من الذكور. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير 1/149، والرباعي هو: ما دخل في السنة السابعة. انظر المرجع السابق 2/188.(6/26)
ما جاء عن أبي هريرة قال: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لصاحب الحق مقالاً " فقال لهم: " اشتروا له سناً فأعطوه إياه "، فقالوا: إنا لا نجد إلا سناً هو خير من سنه، قال: " فاشتروه فأعطوه إياه، فإن من خيركم ـ أو خَيْرَكُمْ ـ أحسنكم قضاءً"(1).
ما أخرجه أبو داود عن محارب بن دثار قال سمعت جابر بن عبد الله قال: " كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني"(2).
وجه الدلالة:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الوكالة، 6 باب الوكالة في قضاء الديون، ح2306، 3/85، صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 22 باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، ح 1601، 3/1225، واللفظ له. والسِّن هو: الجمل القوي الذي يأكل من العشب، ويرعى، ويكون ذلك في السنة الثالثة، النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير 2/411، 412.
(2) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في حكم القضاء، ح3347، 3/245.(6/27)
دلّت هذه الأحاديث على أن الزيادة التي تكون في عقد القرض بدون اشتراط باختيار المقترض تكون جائزة، بل مستحبة، ومن هذا القبيل كتابة سفتجة باختيار المقترض بدون شرط ؛ لأن المقترض يفعل ذلك معترفاً بفضل الله ـ تعالى ـ أولاً، ثم بفضل المقرض صانع المعروف ثانياً، وقد قال ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال صلى الله عليه وسلم: " من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا به فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه "(1).
2 ـ المعقول:
إن هذه الزيادة لم تشترط في عقد القرض، ولم تُجعل عوضاً في القرض للمقرض، ولا وسيلة إليه، ولا إلى استيفاء دينه، فحلّت كما لو لم يكن قرض(2).
الحالة الثانية: إذا كانت المنفعة للمقرض والمقترض معاً، أو وُجدت حالة ضرورة، أو كانت المنفعة للمقترض وحده:
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله،ح1672، 2/131، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6/60.
(2) المغني: ابن قدامة 4/392.(6/28)
أ ـ فإذا كان في السفتجة نفع للمقرض والمقترض معاً، كأن يكون من مصلحة المقترض سداد القرض في البلد الآخر ؛ لأن ماله موجود فيه، ومن مصلحة المقرض استيفاؤه في البلد الآخر نفسه ؛ لأنه يريد مالاً فيه.
فقد ورد القول بجواز السفتجة في مثل هذه الحالة عن بعض فقهاء الحنابلة، وهو رأي بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض التابعين، مثل: علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن بن علي، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن ابن الأسود(1)،وأيوب السختياني(2)، والثوري(3)
__________
(1) عبد الرحمن بن الأسود هو: عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف الزهري، وُلد على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -، ومات أبوه في ذلك الزمان، فعدّ من الصحابة، وقال العجليّ هو من كبار التابعين. انظر تحرير تقريب التهذيب: بشار معروف وغيره، 1/306.
(2) هو: أبو بكر أيوب بن أبي تمية كيسان السختياني، البصري، سيد فقهاء عصره، تابعي من الزهاد وحفّاظ الحديث، رًوي عنه ثماني مائة حديث، وكان ثبتاً ثقة، توفي سنة131هـ. الأعلام: الزركلي 2/38
(3) 6 الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، كان رأساً في التقوى، طلبه المنصور، ثم المهدي، حتى يلي الحكم، فتوارى منهما سنتين، ومات بالبصرة مستخفياً سنة 161هـ، من تصانيفه: الجامع الكبير، والجامع الصغير في الحديث، وله كتاب في الفرائض. انظر تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، رقم 4331، 9/151، الأعلام: الزركلي 3//104، 105.(6/29)
6، وإسحاق(1) رضي الله عنهم أجمعين(2).
واستدلوا بالتالي: " إن في ذلك مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها، ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤه على الإباحة "(3).
" ولأن المقرض انتفع بأمن خطر الطريق في نقل أمواله إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضاً في الوفاء بذلك البلد، وأمن خطر الطريق، فكلاهما قد انتفع بهذا القرض، والشارع لا ينهى عمّا ينفعهم، ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم "(4).
__________
(1) 6 إسحاق هو: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي بن راهويه، المروزي، عالم خرسان، أحد كبار الحفّاظ، طاف البلاد لجمع الحديث، قرين أحمد بن حنبل، وقيل في سبب تلقبه بِ (ابن راهويه) أن أباه وُلد في طريق مكة، فقال أهل مرو: راهويه أي ولد الطريق، من تصانيفه: المسند، توفي سنة 238هـ. انظر تحرير تقريب التهذيب: بشار معروف وغيره 1/913، الأعلام: الزركلي 1/292.
(2) المغني: ابن قدامة 4/390.
(3) المغني: ابن قدامة 4/391.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 29/531، بتصرف.(6/30)
ب ـ وفي حالة الضرورة: كأن يعم الخوف، فتكون الطرق المتعين على المقرض سلوكها غير مأمونة، بحيث يغلب على الظن الهلاك فيها، أو قطع الطريق، حيث يكون المقرض أمام أمرين لا ثالث لهما، إما اللجوء إلى السفتجة، وإما تعرّض ماله للضياع، فتجوز، بل تُندب عندئذٍ تقديماً لمصلحة حفظ المال على مفسدة القرض الذي يجر نفعاً، أو بعبارة أخرى تجوز صيانةً للمال، نصّ على ذلك المالكية(1).
ج ـ وفي حالة أن تكون المنفعة للمقترض وحده: نصّ المالكية أيضاً على أنه إن قام دليل عل أن المنتفع بالسفتجة هو المقترض وحده، أو كان المقترض هو الذي طلب ذلك، جاز التعامل بها(2).
__________
(1) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/288، حاشية الدسوقي 3/225، مواهب الجليل: الحطاب 4/547، 548.
(2) مواهب الجليل: الحطاب 4/548.(6/31)
الحالة الثالثة: إذا كانت منفعة السفتجة مشروطة في عقد القرض: واشتراط منفعة السفتجة في القرض، إما أن يكون من جهة المقرض، كأن يقول: أقرضتك لتكتب لي سفتجة إلى بلد كذا، وإما أن يكون من جهة المقترض، كأن يقول شخص: أقترض منك لأكتب لك سفتجة إلى بلد كذا(1)، وقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك وعدمه، على قولين كالتالي:
أولاً: أقوال الفقهاء:
القول الأول: يرى جواز شرط منفعة السفتجة في القرض: قال بذلك بعض المالكية، وأحمد في رواية عنه صححها ابن قدامة وبعض الحنابلة، وهو مروي عن علي،
وابن عباس، وعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهم(2).
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150.
(2) البهجة شرح التحفة: التسولي 2/288، المغني: ابن قدامة 4/290، مجموع فتاوى ابن تيمية 29/531، القياس: ابن تيمية ص27، السنن الكبرى: البيهقي 5/576، مصنف عبد الرازق 8/140.(6/32)
القول الثاني: يرى عدم جواز شرط منفعة السفتجة في القرض: قال بذلك الحنفية(1) والشافعية، ومشهور المالكية(2)، وبعض الحنابلة، ومذهب الظاهرية، والإباضية، وهو مروي عن ابن سيرين(3)، وإبراهيم النخعي(4).
__________
(1) عند الحنفية إذا كانت المنفعة متعارفة فهي كالمشروطة، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/18.
(2) 7 روى ابن الجلاب عن مالك الكراهية فقط … البهجة شرح التحفة: التسولي 2/288.
(3) 7 ابن سيرين: محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء أبو بكر، إمام وفقيه في علوم الدين، تابعي، ولد بالبصرة وتوفي فيها سنة 110هـ، اشتهر بالورع وتأويل الرؤيا، تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي 5/331.
(4) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/250، الحاوي: الماوردي 8/150، مواهب الجليل: الحطاب 4/547، كشاف القناع: البهوتي 3/354، المحلى: ابن حزم 8/77، شرح النيل: اطفيش 8/626، 627، مصنف عبد الرزاق 8/140.(6/33)
وعلى هذا القول هل يفسد القرض بفساد الشرط أم لا؟ قال بالأول الحنفية والشافعية في الصحيح، وقال بالثاني الحنابلة، وبعض الشافعية(1).
ثانياً: منشأ الخلاف:
يرجع منشأ الخلاف إلى سببين:
اختلاف الآثار والأحاديث في ذلك.
إن أصل السفتجة قرض، وكل قرض جرّ نفعاً فهو حرام، فمن رأى السفتجة تجر نفعاً أفتى بالمنع، ومن لم يرَ السفتجة تجرّ نفعاً مادياً أفتى بالجواز.
ثالثاً: الأدلة:
أ ـ أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز اشتراط منفعة السفتجة في القرض بالآثار والمعقول:
1 ـ الآثار: ما روي عن عطاء بن رباح أن عبد الله بن الزبير كان يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه، فسُئل ابن عباس
عن ذلك، فلم يرَ به بأساً، فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهم؟ قال لا بأس إذا أخذوا
__________
(1) شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/250، الروضة: النووي 3/275، كتاب الأسئلة والأجوبة الفقهية المقرونة بالأدلة الشرعية: عبد العزيز السلمان 4/343.(6/34)
بوزن دراهمهم، وروي في ذلك أيضاً عن علي ـ رضي الله عنه(1) ـ
وجه الدلالة: فهذه الآثار تدل على جواز التعامل بالسفتجة، سواء كانت المنفعة مشروطة أم لا.
2 ـ المعقول: لأنه ليس بزيادة في قدر ولا صفة، فلا يفسد القرض كشرط الأجل، بل فيه مصلحة لهما، فجاز كشرط الرهن(2).
ب ـ أدلة القول الثاني:
واستدل القائلون بعدم جواز اشتراط منفعة السفتجة في القرض بالسنة والمعقول.
1 ـ السنة:
__________
(1) السنن الكبرى: البيهقي، كتاب البيوع، 100 باب ما جاء في السفاتج ح10947، 5/576، 577، مصنف عبد الرزاق، باب السفتجة، 8/140، أثر 14642، إعلاء السنن: التهانوي، كتاب الحوالة، باب كراهة السفاتج بشرط وجوازها بلا شرط، 14/565، أثر 4857، وقال هذا سند صحيح موصول.
(2) المبدع شرح المقنع: ابن مفلح 4/209، الكافي: ابن قدامة 2/125.(6/35)
أ ـ ما أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال أناس يشترطون شروطاً ليس في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق "(1).
وجه الدلالة: إن هذا الشرط وقع في صلب عقد القرض، فيكون باطلاً ؛ لأنه ليس في كتاب الله(2).
ب ـ ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عباس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى زينب امرأة ابن مسعود تمراً أو شعيراً بخيبر، فقال لها عاصم بن عدي: هل لك أن أعطيك مكانه بالمدينة، وآخذه لرقيقي هنالك؟ فقالت حتى أسأل عمر، فسألته، فقال: كيف بالضمان، وكأنه كرهه "(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع 67 باب البيع والشراء مع النساء، ح2155، 3/36.
(2) أحكام عقد الصرف، دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، رسالة دكتوراه: سالم أحمد سلامة ص409.
(3) مصنف عبد الرزتق، باب السفتجة ح14643، 8/140، 141.(6/36)
ج ـ وأخرج البيهقي هذه القصة بلفظ " عن عبيد ـ وهو ابن السباق ـ عن زينب قالت: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين وسقاً تمراً بخيبر، وعشرين شعيراً، قالت فجاءني عاصم بن عدي فقال لي: هل لك أن أوتيك مالكِ بخيبر ههنا بالمدينة، فأقبضه منك بكيله بخيبر؟ فقالت: لا حتى أسأل عن ذلك، قالت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال لا تفعلي فكيف لك بالضمان فيما بين ذلك(1).
وجه الدلالة: إن اعتراض عمر على هذا السلف وكراهيته له يدل على عدم الجواز.
د ـ ما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قرض جر منفعة فهو ربا "(2).
__________
(1) السنن الكبرى: البيهقي، كتاب البيوع، 100 باب ما جاء في السفاتج، ح10945، 5/576.
(2) 8 نصب الراية: الزيلعي كتاب الحوالة 4/60 وأعله بسوار بن مصعب، لأنه متروك، نيل الأوطار:الشوكاني، باب جواز الزيادة عند الوفاء، والنهي عنها قبله 5/351، إعلاء السنن: التهانوي، كتاب الحوالة، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا، 14/566 ح 4858.(6/37)
وجه الدلالة: إن القرض في السفتجة من هذا القبيل حيث إن المقرض يدفعه ليستفيد سقوط خطر الطريق، والقرض عقد معونة وإرفاق، وشرط النفع فيه يخرجه عن موضعه(1).
هـ ـ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " السفتجات حرام"(2).
ثانياً: المعقول:
وذلك من وجهين:
1 ـ القرض تمليك دراهم بدراهم، فإذا شرط فيه الوفاء في بلد آخر، صار في حكم التأجيل(3)، وتضمن معنى الربا.
__________
(1) 8 شرح منتهى الإرادات: البهوتي 2/227، شرح روضة الطالب من أسنى المطالب: الأنصاري 2/142.
(2) السنن الكبرى: البيهقي، كتاب البيوع، 100 باب ما جاء في السفاتج، 5/576، نصب الراية: الزيلعي كتاب الحوالة 4/60، الكامل في ضعفاء الرجال: ابن عدي 5/11، وأعله بعمر بن موسى ؛ لأنه يضع الحديث.
(3) تبيين الحقائق: الزيلعي 4/175، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/71.(6/38)
2 ـ إن حقيقة القرض معاوضة(1)، وإن كان في بعض الأحكام إعارة(2)، ونظراً لشبهه بالمعاوضة، فإنه يفسد بدخول الشرط الفاسد فيه(3).
رابعاً: مناقشة الأدلة:
أ ـ مناقشة أدلة القائلين بالجواز:
__________
(1) المعاوضة في القرض من ناحية أنه ينتهي بأداء مثله إلى المقرض، فيستوفي مثل ما أخرجه من ملكه. انظر مختصر أحكام المعاملات الشرعية: علي الخفيف ص 180.
(2) شبهه بالعارية من حيث إنه إخراج بعض المال من ملك المقرض بدون عوض مقبوض في الحال، والعارية إخراج العين من ملك صاحبه لينتفع بها المستعير رهناً ثم يرده، ويكون ذلك مجاناً، ولكن دون استهلاك العين، ودون ضرورة لملكها. أحكام المعاملات المالية في الفقه الحنبلي: محمد زكي عبد البر ص690، القاموس الفقهي: أبو جيب ص 267، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية قاضي خان 3/71.
(3) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضي خان 3/71.(6/39)
نوقش استدلالهم بالآثار: بأنه إن صح ما كان يفعله ابن الزبير وغيره، فإن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في عقد القرض، بأن يكون القرض مطلقاً ثم يتفقان على السفتجة(1).
ويجاب عن ذلك: بأن هذا القول مُحتمَل، والمروي عنهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ابن عباس، وعلي، وابن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ، ولو كان الحكم مع الشرط يختلف لبيّنوه، ولا يخفى عليهم مثل هذا، مع ما لهم من مكانة الصحبة والتلقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ب ـ مناقشة أدلة القائلين بعدم الجواز:
1 ـ أما عن استدلالهم بحديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها ؛ فمع صحته نقول:
__________
(1) السنن الكبرى: البيهقي، 5/577، البدائع: الكاساني 7/95، 96، المبسوط:السرخسي 14/37.
(2) أحكام عقد الصرف: سالم أحمد سلامة ص409، 410.(6/40)
إن الشرط الممنوع هو ما ينافي مقتضى العقد، واشتراط منفعة السفتجة ليس من هذا القبيل، بل فيها منفعة للعقد من حيث هي وثيقة له، والقرآن ـ كما ذكرنا ـ يحثّ على كتابة الدين، ومعلوم أن وثائق الحقوق ثلاثة، كتابة وشهادة ورهن، والشرط الباطل هو الذي يصطدم بنصّ أو إجماع أو قاعدة شرعية متفق عليها، وصورتنا هذه ليست من ذلك(1).
2 ـ بالنسبة لاستدلالهم بخبر زينب امرأة ابن مسعود ـ رضي الله عنها ـ فليس فيه حجة من عدة وجوه:
إن فيه أبا عميس: وهو عتبة بن عبد الله بن مسعود، من رجال التهذيب، وهو لا يروى عن عبد الله بن عباس، كما أنَّ في الإسناد قصوراً، هذا على رواية عبد الرزاق(2).
على فرض التسليم بصحة الخبر بناء على رواية البيهقي له ؛ فإن المرأة لم تشترط الوفاء في مكان آخر، ولم تقرض ؛ بل إنه طلب منها ولم ترضَ.
إنها لو رضيت لكانت المنفعة للطالب الذي عرض عليها أن يؤدي لها بالمدينة.
__________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) 9 مصنف عبد الرزاق 8/141، كلام المحقق حبيب الرحمن الأعظمي.(6/41)
إنه كان معها خمسون وسقاً تمراً، وعشرون شعيراً، وهذا مما يحتاج في نقله إلى مؤونة، وهو لا يجوز ؛ لأنه زيادة(1).
وأخيراً يمكن أن يقال: إنه قول صحابي، وقد عورض بما روي عن علي، وابن الزبير، وطلحة ـ رضي الله عنهم ـ من أنهم أجازوا ذلك، وعملوا به.
3 ـ بالنسبة لاستدلالهم بحديث (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فقد جاء في نصب الراية " أن عبد الحق في أحكامه في البيوع رواه من جهة الحارث بن أبي أسامة، وأعلّه بسوار بن مصعب، وقال إنه متروك"(2).
وجاء في الكامل لابن عدي قال: سألت يحيى عن سوار بن مصعب فقال: لم يكن ثقة، ولا يُكتب حديثه، وسمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: سوار بن مصعب الهمداني يُعدُّ في الكوفيين، سمع كليب بن وائل، منكر الحديث، وقال النسائي: سوار بن مصعب كوفي متروك الحديث"(3).
__________
(1) 9 أحكام عقد الصرف: سالم أحمد سلامة ص، 410.
(2) نصب الراية:الزيلعي 4/60، تلخيص الحبير: ابن حجر العسقلاني 2/345.
(3) الكامل في ضعفاء الرجال: ابن عدي 3/454.(6/42)
وعلى فرض أنه صحيح المعنى، فإن المراد به الزيادة المالية، لا مجرد الانتفاع بسبب القرض، فإنه لا يوجد قرض إلا ويراد به نفع، كانتفاع المقرض بتضمين ماله، فيكون مضموناً، سواء تلف أم لا، مع شكر المقترض إياه(1).
ولكن يمكن أن يُجاب عن ذلك: بأن هذا الحديث وإن كان ضعيفاً من حيث السند، إلا أنه أصبح قاعدة فقهية تلقتها الأمة بالقبول، فكان حجة(2)، على أن لهذا الحديث شاهداً موقوفاً(3) على فُضالة بن عبيد الله، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا"(4)
__________
(1) المحلى: ابن حزم 8/87.
(2) الإجماع: ابن المنذر ص 95.
(3) ومعنى الشاهد: هو الحديث الذي يروى عن صحابي مشابهاً لما روي عن صحابي آخر في اللفظ أو المعنى، ومعنى الموقوف: ما روي عن الصحابي من قول له أو فعل أو تقرير متصلاً أو منقطعاً.انظر: أصول الحديث علومه ومصطلحه: محمد حجاج الخطيب ص366، ص380.
(4) سنن البيهقي، كتاب البيوع 97 باب كل قرض جر منفعة فهو ربا، ح10933، 5/573، وفي سنده عبد الله ابن عياش روى له مسلم استشهاداً وقال أبو حاتم ليس بالمتين صدوق يكتب حديث، فمثله حسن الحديث إعلاء السنن: التهانوي 14/567.(6/43)
، ومقتضى ذلك أن تُمنع الزيادة المشروطة في القرض سواء كانت في مال أو غيره.
4 ـ بالنسبة لحديث السفتجات حرام، فقد أخرجه ابن عدي في الكامل عن إبراهيم ابن نافع الجلاب، حدثنا عمر بن موسى بن وجيه عن سمّاك بن حرب، عن جابر بن سمرة، وأعلّه بعمر بن موسى بن وجيه، لتضعيف البخاري والنسائي وابن معين له، وقال "إنه في عداد من يضع الحديث"(1)، وفي نصب الراية للزيلعي قال: " ومن طريق ابن عدي رواه ابن الجوزي في الموضوعات " ونقل كلامه(2).
__________
(1) الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدي 5/9 ـ 13.
(2) نصب الراية: الزيلعي 4/60.(6/44)
5 ـ بالنسبة لقولهم إن القرض تمليك دراهم بدراهم، والشرط فيه في حكم التأجيل، فيمكن أن يجاب عليه: بأن هذا مبني على أن القرض رخصة مستثناة من ربا النساء(1)
__________
(1) 10 النسأ: التأخير، يقال: نسأت الشيء إذا أجلته وأخرته، وفي الشرع قسيم ربا البيوع، وقد ثبت تحريمه بالحديث الذي أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا إن كان يداً بيد " فيدل هذا = = الحديث على تحريم ربا البيوع، وهو على نوعين فضل ونساء، فإذا باع الشخص غيره درهماً بدرهمين، أو صاعاً من تمر بصاعين منه كان ذلك ربا الفضل، وإذا باعه ديناراً بعشرة دراهم، أو صاعاً من تمر بصاع من شعير، مع تأخير أحد البدلين، كان ذلك ربا النساء. انظر تاج العروس: الزبيدي مادة نسأ 1/124 صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 15 باب الصرف، وبيع الذهب بالورِق نقداً ح1587، 3/1209 معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد ص140.(6/45)
0المحرم، غير أن هذا التكييف للقرض غير صحيح ؛ لأن هناك فرقاً بين ربا النساء والقرض، فربا النساء قسم من ربا البيوع، ولا علاقة له بالقرض ؛ لأن القرض أصل شرعي يختلف عن أصل البيع، وإن كان فيه شوب معاوضة ؛ من ناحية أنه ينتهي بأداء مثل القرض، غير أن المعاوضة فيه تبقى ناقصة، حيث البيع فيه ربح، وهو مبني على العدل، والقرض فيه صدقة، وهو مبني على الإحسان، ومن ناحية أخرى فإن الذهب بالذهب، أو القمح بالقمح مع النَّسَاء بيعاً لا يجوز، وقرضاً يجوز(1).
وبالنسبة لاستدلال من قال إن الشرط يفسد القرض لشبهه بالمعاوضة: فهو مردود بما ذكرنا في المعقول من أن اشتراط منفعة السفتجة في القرض ليس بزيادة في قدر، ولا صفة، فلا يفسد كشرط الأجل(2).
خامساً: القول الراجح:
بعد عرض آراء الفقهاء في هذه المسألة، وبيان حجج كل رأي، وحظها من السلامة أو الضعف، يبدو لي رجحان القول بجواز اشتراط منفعة السفتجة في القرض لما يلي:
__________
(1) 10 الجامع في أصول الربا:رفيق المصري ص224.
(2) انظر ص 143 من هذه الرسالة.(6/46)
إنه إذا لم يدل دليل على جوازها وصحتها، فإنه لم يقم دليل على منعها، فيبقى العمل بها على الإباحة، ما لم يرد دليل على المنع، وقد عمل بها ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على جوازها، وصحة التعامل بها تحقيقاً لمصالح الناس.
إن قاعدة (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، لا بد أن يكون فيها نوع قيد، إذ لو مُنعت أي زيادة، وإن كانت يسيرة لتحقق التعسير في المعاملة ؛ لأنها لا تخلو عن شوب زيادة، كما أنه يجب الانتباه إلى منفعة المقترض بالإضافة إلى منفعة المقرض ؛ لأن انحصار النظر إلى منفعة المقرض فقط، يؤدي إلى حكم شرعي غير صحيح.
إن السفتجة في معنى الحوالة، وقد تنعقد بلفظها، ومعلوم أن الحوالة جائزة بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، والمعقول كما سبق(1).
إنه عند اختلاف آراء الفقهاء لا ينبغي الميل إلى الأخذ بالرأي الأشد في معاملة كالسفتجة التي أصبحت من أهم حاجات العصر، ومعاملاته التجارية في تداول الأموال، فإن الأخذ بالرأي الأضيق أو الأشد تعسيراً ليس من مقاصد الشريعة السمحة(2).
__________
(1) انظر ص 14، ص15 من هذه الرسالة.
(2) الموسوعة الفقهية، طبعة تمهيدية، نموذج 3 ص212.(6/47)
إن المنفعة المشروطة التي تُجرُّ إلى الربا في القرض، هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته(1)، فإنه ـ المقترض ـ لا مصلحة له في ذلك، بخلاف مسألة السفاتج فإن المنفعة مشتركة، ولا تخص المقرض وحده ؛ بل تعم المقرض، والمقترض على حد سواء، فتكون مشروعة
المبحث الرابع: ضابط مشروعية السفتجة
ما سبق ترجيحه من جواز التعامل بالسفتجة ليس على إطلاقه، بل إنه مقيد بشرط أن لا يكون فيها ضرر على المدين أو المقترض، والضرر عليه يكون بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن تكون السفتجة مشروطة، ويكون فيها مؤنة على المقترض، كأن يُضطر المقترض إلى نقل بدل الوفاء في القرض إلى البلد الآخر، ويكون لحمله مؤنة، سواء كان نقداً أو طعاماً، فلا يجوز عندئذٍ التعامل بالسفتجة ؛ لما يلي:
__________
(1) المبدع شرح المقنع: ابن مفلح 4/209.(6/48)
ما جاء في موطأ الإمام مالك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال في رجل أسلف رجلاً طعاماً على أن يعطيه إياه في بلد آخر، فكره ذلك عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، وقال: فأين الحمل؟ يعني حملانه"(1).
وجه الدلالة: إن السبب الذي جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ يكره هذا التعامل إنما هو مؤنة الحمل، فدلَّ هذا على عدم الجواز.
إن عقد القرض عقد إرفاق وقربة، فشرط النفع فيه يخرجه عن موضوعه(2).
إن ذلك ربا، إذ إن المقرض انتفع بتوفير تكاليف النقل، وأخطاره، كالسرقة والضياع والتلف، فصار المال مضموناً على المقترض إلى زمان الوفاء، ومكانه، فيربح بذلك المقرض الكراء وأمن الطريق(3).
__________
(1) الموطأ: الإمام مالك، 31 كتاب البيوع، 44 باب ما لا يجوز من السلف، ح91، 2/681.
(2) المعتمد في فقه الإمام أحمد: جرى فيه الجمع بين نيل المآرب شرح دليل الطالب، ومنار السبيل في شرح الدليل: علي عبد الحميد بلطرجي ومحمد وهبي سليمان 1/448.
(3) الجامع في أصول الربا: رفيق المصري ص278.(6/49)
جاء في كتاب المعتمد في فقه الإمام أحمد " ولا يجوز شرط أن يقضيه ببلد آخر، ولحمله مؤنة … … وإن لم يكن لحمله مؤنة فقال في المغني الصحيح جوازه، لأنه مصلحة لهما من غير ضرر … "(1)
لكن إن كانت السفتجة عن رغبة المقترض أو المدين، فيوجد احتمالان ؛ كالتالي:
1 ـ إن رغب فيها المقترض بأن تبرع بدفع المثل في بلد آخر، وأبى المقرض قبوله، فله ذلك ؛ لأنه ضرر عليه في قبضه، لأنه ربما احتاج إلى مؤنة في حمله إلى المكان الذي أقرضه فيه، فيتكبد تكاليف النقل، ومخاطره.
ولو رغب فيها المقترض، ورضي المقرض بتحمل مؤنة إعادة المال، ومخاطرته فهو جائز ؛ لأنه يكون قد أحسن إلى المقترض مرتين، مرة بالقرض، ومرة بموافقته على استرداد القرض في بلد المقترض(2).
__________
(1) المعتمد في فقه الإمام أحمد: علي عبد الحميد بلطرجي وغيره 1/448.
(2) 11 المعتمد في فقه الإمام أحمد: بلطرجي وغيره 1/448.(6/50)
2 ـ إن رغب فيها المقترض ؛ لكون بلد الوفاء هي بلده، أو له مال فيها، فلا يتكبد نقل المال إليه، ولا مخاطرته، وكان للمقرض مصلحة في استيفاء القرض في بلد المقترض، كأن يريد مثلاً نقل المال إلى هذا البلد، فهذا جائز ؛ إذ ليس فيه مؤنة على أيٍّ منهما، فإن المقترض ربما استهلك القرض في بلد المقرض، وله مال في بلده، والعبرة في السفتجة بمال الوفاء لا بمال القرض، سواء نقله المقترض أو استهلكه في بلد الاقتراض، بمعنى أن المقترض إذا نقل مال القرض إلى بلد آخر لكي يستهلكه فيه، يكون قد تكبد مؤنة لصالح نفسه، فهذه المؤنة لا علاقة للمقرض بها، إنما المؤنة التي لها تأثير في الحكم هنا، هي التي تتعلق بمال الوفاء لا بمال القرض، فهذه الحالة جائزة أيضاً ؛ لأن السفتجة مصلحة للطرفين، والمهم فيها أن منفعة المقرض لم تقابلها مؤنة على المقترض نفسه(1).
الأمر الثاني: إذا كانت منفعة السفتجة مشروطة، وكان محلها ـ أي الدين أو القرض ـ طعاماً ثابتاً في الذمة:
__________
(1) 11 الجامع في أصول الربا: رفيق المصري ص278.(6/51)
فالدين أو القرض إن كان طعاماً في الذمة، واشترط الدائن الوفاء به في بلد آخر، فلا يجوز ؛ لأنه قد يكون ثمنه أعلى في هذا البلد، فيستفيد المقرض أو الدائن من فرق الثمن، وكذلك لو كان القرض نقوداً، واختلفت أسعار الصرف بين البلدين، كما سيأتي في المبحث التالي إن شاء الله، ففي ذلك ضرر على المدين أو المقترض(1).
المبحث الخامس: وفاء السفتجة بنقد آخر
الأصل أن يكون الوفاء في السفتجة بنفس جنس المال المدفوع عند العقد إن كانت تمثل قرضاً، أو بنفس جنس المال الثابت في الذمة إن كانت تمثل ديناً، لكن إن كان الوفاء بنقد آخر فماذا يكون الحكم؟
لبيان ذلك يجب أن نفرِّق بين حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الوفاء بنقد آخر مشروطاً في القرض ابتداء.
الحالة الثانية: أن يتفق العاقدان عند الوفاء أن تكون بنقد آخر.
وتفصيل الأحكام عن هاتين الحالتين كالتالي:
الحالة الأولى: أن يكون الوفاء بنقد آخر مشروطاً في العقد ابتداء:
__________
(1) المرجع السابق.(6/52)
ففي هذه الحالة إما أن تكون السفتجة تمثل ديناً ثابتاً في الذمة، وإما أن تمثل قرضاً(1)، فإن كانت تمثل ديناً ثابتاً في الذمة، واشترط الدائن على المدين عند عقد السفتجة أن يكون الوفاء بنقد آخر في البلد الآخر، فحينئذٍ يكون هذا التصرف من باب بيع الدين بالدين مؤجلاً، إلى حين الوصول إلى البلد الأخرى، أي أنه نسيئة، بمعنى أنه بيع كالئ بكالئ(2)، وهو ممنوع شرعاً بإجماع الفقهاء، وقد نقل الإجماع ابن المنذر(3)، وقال ابن القيم: إنه لا يجوز ذلك بالاتفاق(4)، وعلى ذلك فإن اشتراط وفاء السفتجة على المدين بنقد آخر في البلد الآخر لا يجوز شرعاً.
__________
(1) تقدّم هذا التقسيم عند الكلام عن تكييف السفتجة ص129، وكذلك عند حكمها ص132 من هذه الرسالة.
(2) انظر نيل الأوطار: الشوكاني 5/255، وتقدم الكلام عن تخريج حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ أنه ضعيف، ولكن الأمة قد تلقته بالقبول، وأجمعوا على معناه، وهذا يغني عن صحة الإسناد.انظر ص12 من هذه الرسالة.
(3) الإجماع: ابن المنذر ص92 ,
(4) أعلام الموقعين: ابن القيم 1/389.(6/53)
أما إذا كانت السفتجة تمثل قرضاً حادثاً، واشترط المقرض على المقترض عند العقد أن يكون الوفاء بنقد آخر ـ كالدولار بدل الدينار ـ في البلد الآخر، فكذلك يكون الحكم بالمنع ؛ لأن عقد القرض بشرط الوفاء بنقد آخر يُعدُّ صرفاً مؤجلاً أو مؤخراً، والصرف المؤجل أو المؤخر غير جائز(1) ؛ لأنه يفسح مجالاً للتفاضل مع النساء، فيصير القرض ربوياً(2).
__________
(1) الجامع في أصول الربا: رفيق المصري ص283.
(2) وهذا يظهر بوضوح عند من يرون أن القرض في الحقيقة صرف، لأنه يعطي دراهم بدراهم، ولكن جوّز تأخير القبض فيه ؛ لأنه إرفاق. انظر تكملة المجموع: المطيعي 13/430.(6/54)
أخرج الإمام مسلم عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورِقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إليّ فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح، قال قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك عليّ أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته، فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نبيع هذا البيع، فقال: ما كان يداً بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا، ائتِ زيد بن أرقم، فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته، فقال مثل ذلك(1).
وجه الدلالة: هذا الحديث يدل على أن بيع النقد بغير جنسه مع تأجيل أحد البدلين لا يجوز ؛ لأنه ربا، ومن هذا القبيل اشتراط المقرض على المقترض أن يكون الوفاء بنقد آخر
الحالة الثانية: أن يتفقا عند الوفاء أن يكون بنقد آخر: كما لو كان القرض أو الدين دنانير، فاتفقا عند الوفاء أن يكون دراهم صرفاً ناجزاً، فهل يصح ذلك أم لا؟ قولان للفقهاء:
أولاً: أقوال الفقهاء:
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 16 باب النهي عن بيع الورِق بالذهب ديناً، ح1589، 3/1212.(6/55)
القول الأول: يرى الجواز، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعي في الجديد ومعتمد الحنابلة(1) وقال به من التابعين الحسن البصري، والحكم(2)، وحمّاد(3)، وسعيد بن جبير، وطاووس(4)
__________
(1) 12 المبسوط: السرخسي 14/9، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/140، المدونة الكبرى: الإمام مالك 3/393، مغني المحتاج: الشربيني 2/70، المغني: ابن قدامة 4/187، كشاف القناع: البهوتي 3/257.
(2) 12 هو الحكم بن عتيبة الكندي، أبو محمد الكوفي، مولى عدي بن عدي الكندي، تابعي، عُرف بالفقه، شهد له الأوزاعي وغيره، ورُمي بالتدليس، وهو ثقة، ولد سنة 50هـ، وتوفي سنة 113. انظر تهذيب الكمال: المزي 7/114 ـ 120.
(3) هو حمّاد بن سليمان بن مسلم الأشعري بالولاء، فقيه، تابعي، كوفي من شيوخ الإمام أبي حنيفة، أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي وغيره وكان أفقه أصحابه، توفي سنة 120هـ. انظر تهذيب التهذيب: ابن حجر 3/16.
(4) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء، أبو عبد الرحمن، أصله من الفرس، مولده في اليمن، من كبار التابعين في الفقه ورواية الحديث، كان ذا جرأة على هشام بن عبد الملك، توفي سنة 106هـ. انظر: تهذيب التهذيب: ابن حجر 5/8.(6/56)
، والزهري، وقّتادة، والقاسم بن محمد(1)، واختلف عن عطاء(2) وإبراهيم، ولكن هذا الجواز مقيد بشرط أن يفترقا وليس للدائن في ذمة المدين رصيد من الدين(3).
__________
(1) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن، من كبار التابعين، كان فقيهاً رفيعاً، عالماً، إماماً، ورعاً، وله رواية للحديث الشريف، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي سنة 101هـ. انظر: الأعلام: الزركلي 5/181.
(2) هو عطاء بن أسلم بن أبي رباح، يكنى أبا محمد، من خيار التابعين، من مولدي الجند (اليمن) كان أسوداً، مفلفل الشعر، معدود في المكيين، سمع عائشة، وأبا هريرة، وابن عباس، وأم سلمة، وأبا سعيد، رضي الله عنهم، وأخذ عنه أبو حنيفة، وكان مفتي مكة، شهد له ابن عباس بالفتيا، وحثّوا أهل مكة على الأخذ عنه، مات بمكة سنة 114هـ. انظر: تهذيب التهذيب: ابن حجر 7/199، الأعلام: الزركلي 5/29.
(3) المحلى: ابن حزم 8/504، نيل الأوطار: الشوكاني 5/255.(6/57)
القول الثاني: يرى المنع: وهو قول الشافعي في القديم، وبعض الحنابلة، وقول الظاهرية(1)، وقال به من الصحابة والتابعين: ابن عباس، وابن مسعود، وابن شِبرمة(2)، والنخعي، وسعيد بن جبير(3).
ثانياً:الأدلة:
أ ـ أدلة القول الأول: واستدل القائلون بالجواز بالسنة، والمعقول، كالتالي:
__________
(1) مغني المحتاج: الشربيني 2/70، المغني: ابن قدامة 4/225، المحلى: ابن حزم 8/504.
(2) هو عبد الله بن شِبرمة بن حسّان بن المنذر بن ضِرار بن عمرو بن مالك بن كعب الضبي أبو شبرمة الكوفي، كان قضياً فقيهاً، ثقة، روى عن أنس، وابن الطفيل، وغيرهما، وُلد سنة 72هـ، وتوفي سنة 144هـ. انظر: تهذيب التهذيب: ابن حجر 5/223، 224.
(3) نيل الأوطار: الشوكاني 5/255، التمهيد: ابن عبد البر 16/9.(6/58)
1 ـ السنة: ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله: رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء "(1)
__________
(1) 13 سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورِق، ح3354، 3/247، واللفظ له، سنن الترمذي، كتاب البيوع، 24 باب ما جاء في الصرف، ح1246، 3/21، سنن النسائي، كتاب البيوع، 52، باب أخذ الورِق من الذهب،ح4598، 7/302، سنن ابن ماجة، 12 كتاب التجارات، 51 باب اقتضاء الذهب من الورِق، والورِق من الذهب،ح2262، 2/760، سنن الدارمي، كتاب البيوع، 43، باب الرخصة في اقتضاء الورِق من الذهب،ح2577، 2/178، مسند الإمام أحمد، ح6244، 2/188، تلخيص الحبير: ابن حجر العسقلاني، 3/25، وقال عنه الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث سمّاك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ سنن الترمذي 3/22.(6/59)
3.
وجه الدلالة: إن هذا الحديث يدل على جواز المصارفة على ما في الذمة، على أساس أن الحق القائم بهيئة دنانير يؤدى في مقابلها دراهم بسعر يوم الوفاء والاقتضاء، لا بسعر يوم ثبوت الدين(1).
فبذلك يكون وفاء السفتجة بنقد آخر جائزاً إذا وقع التقابض في المجلس ؛ لأن الدراهم والدنانير مالان ربويان، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع التقابض في المجلس.
2 ـ المعقول: إن المدين قابض لما في ذمته ؛ لأن الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض، فإذا دفع ثمنه للدائن كان هذا بيع مقبوض بمقبوض فيكون جائزاً شرعاً(2).
ب ـ: أدلة القول الثاني: واستدل القائلون بمنع الاتفاق على الصرف عند الوفاء بالأدلة التالية من السنة والمعقول:
__________
(1) 13 نيل الأوطار: الشوكاني 5/255، التمهيد: ابن عبد البر 16/8.
(2) التمهيد: ابن عبد البر 6/291.(6/60)
1 ـ السنة: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مَثلاً بمثل، ولا تُشِفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشِفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز "(1).
وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغائب بالحاضر، والدين هنا غائب عن مجلس العقد، فيصدق عليه أنه بيع غائب بناجز، وبذلك يكون محرماً بنص الحديث(2).
2 ـ المعقول: لا يجوز بيع الدين بالدين ؛ للغرر، ولأنه مجهول(3).
ثالثاً: المناقشة:
أ ـ مناقشة أدلة القائلين بجواز الاتفاق على الصرف عند الوفاء:
__________
(1) صحيح مسلم، 22 كتاب المساقاة، 14 باب الربا، ح1584، 3/1208، والشِفّ في اللغة يطلق على الزيادة والنقصان. صحيح مسلم بشرح النووي 6/12.
(2) المحلى: ابن حزم 8/504، التمهيد: ابن عبد البر 16/10.
(3) المحلى: ابن حزم 8/504، التمهيد: ابن عبد البر 16/10.(6/61)
1 ـ بالنسبة لاستدلاهم بحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فقد اعترض عليه بعدم صحة الحديث، حيث لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق سمّاك بن حرب، وقد تكلم فيه شعبة بما يدل على ضعفه، فلا يكون حديثه صالحاً للاحتجاج به(1).
والجواب عن هذا الاعتراض: إن سمّاك بن حرب الذي طعن فيه شعبة بما يدل على ضعفه، قد وثقه ابن معين وأبو حاتم، وروى له مسلم، وكثير من الأئمة، كما أن الحديث وإن كان أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فهذا لا يقدح في رفعه، فإن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلاً، وبعضهم متصلاً، وبعضهم موقوفاً أو مرفوعاً، كأنه محكوم عليه بالرفع والوصل على الصحيح عند العلماء(2).
2 ـ بالنسبة لقولهم إن المدين قابض لما في ذمته … … الخ، فهو غير مسلم ؛ إذ قد يكون الدين مؤجلاً، فلا يصدق عليه أنه مقبوض.
والجواب عن ذلك: أن ما في الذمة كالحاضر(3).
ب ـ مناقشة أدلة القائلين بالمنع:
__________
(1) المحلى: ابن حزم 8/504.
(2) تكملة المجموع: السبكي 10/111، إعلاء السنن: التهانوي 14/290.
(3) الربا والمعاملات المصرفية:المترك ص290.(6/62)
1 ـ بالنسبة لحديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ " لا تبيعوا شيئاً غائباً منه بناجز إلا يداً بيد " فإنه في غير محل النزاع ؛ لأن المراد بالحديث المناجزة، بأن لا يتفرقا وذمة أحدهما مشغولة بشيء، فلا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عمر السابق، قال ابن عبد البر في التمهيد: " حديث ابن عمر في اقتضاء الدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير، جعله قوم معارضا لحديث أبي سعيد الخدري، لقوله: " ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " وليس الحديثان بمتعارضين عند أكثر الفقهاء ؛ لأنه ممكن استعمال كل واحد منهما، وحديث ابن عمر مفسر، وحديث أبي سعيد مجمل، فصار معناه لا تبيعوا منها غائباً ليس في ذمة بناجز، وإذا حُملا على هذا لم يتعارضا "(1).
__________
(1) التمهيد: ابن عبد البر 16/12.(6/63)
2 ـ بالنسبة لقولهم لا يجوز بيع الدين بالدين لوجود الغرر فيه: فهو غير مسلم، إذ الغرر فيه بعيد ؛ فالثمن معلوم القدر والصفة، والمبيع الذي هو الدين معلوم أيضاً، وإن كان غير حاضر فليس ثمَّ غرر يقتضي تحريمه، وإنما يتحقق الغرر عندما يكون البدلان أو أحدهما مجهولين في الصفة والقدر(1).
رابعاً: القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول الأول القائل بالجواز، فيكون وفاء السفتجة بنقد آخر ـ إذا جرى ذلك عن اتفاق بين الدائن والمدين ـ جائزاً شرعاً، بشرط أن يفترقا وليس للدائن في ذمة المدين شيء، وعلى أن يكون الصرف بسعر اليوم، بقطع النظر عمّا كان عليه يوم ثبوته في الذمة ؛ للأسباب التالية:
حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد والدارمي وغيرهم، وإسناده صحيح(2)، وهو نص في المسألة.
إن الثابت في الذمة في حكم المقبوض.
إن هذا الرأي هو الذي يتفق مع قواعد الشريعة التي جاءت باليسر ورفع الحرج ؛ لأن هذه المعاملة فيها مصلحة للطرفين مع انتفاء المفاسد.
__________
(1) 14 الربا المعاملات المصرفية: المترك ص291.
(2) 14 جامع المسانيد و السنن: ابن كثير، ح794، 28/285.(6/64)
والله تعالى أعلم.
المبحث السادس: هل يلزم المكتوب إليه (المحال عليه) بأداء مال السفتجة(1)؟
تبين مما سبق أن المعتاد في السفتجة أن تكون مكتوبة، كما تبين أن السفتجة قد تكون ذات ثلاثة أطراف، وهم:
الكاتب (المحيل، محرر السفتجة) وهو الشخص المدين الذي يلزم بأداء الدين للمكتوب له، وهو الدافع في السفتجة، فيقوم بإرسال كتاب للمكتوب إليه بأن يؤدي مال السفتجة إلى الشخص المكتوب له.
المكتوب له (المحال) في السفتجة، وهو الدائن المستفيد من تحرير السفتجة الذي كُتبت لأجله.
المكتوب إليه (المحال عليه)، وهو الواسطة بين الكاتب والمكتوب له، وهو المكلف بالأداء إلى المكتوب له في البلد الآخر.
ففي هذه الحالة إذا وردت السفتجة إلى المكتوب إليه، فهل يلزمه الوفاء للمكتوب له أم لا؟ لبيان ذلك يجب أن نفرق بين حالتين:
الحالة الأولى: إذا وردت السفتجة إلى المكتوب إليه بلفظ الحوالة.
الحالة الثانية: إذا وردت السفتجة إلى المكتوب إليه بلفظ الأمر والرسالة.
__________
(1) انفرد بالحديث عن هذه المسألة فقهاء الحنفية والشافعية، الفتاوى الهندية 3/95، الحاوي: الماوردي، 8/150.(6/65)
الحالة الأولى: إذا وردت السفتجة إلى المكتوب إليه بلفظ الحوالة(1): كما لو كتب دائن إلى مدينه في بلد آخر سفتجة: يقول أحلت زيداً الذي له عليَ ألف لتدفع له الألف التي لي عليك.
ففي هذه الحالة يرى الشافعية(2) أن المكتوب إليه يلزمه أن يؤدي مال السفتجة، ولكن بالشروط التالية:
أن يقر المكتوب إليه أن في ذمته ديناً للكاتب ؛ أي أنه مديون للكاتب بإقراره.
أن يقر المكتوب إليه أن كاتب السفتجة مدين للمكتوب له.
__________
(1) في هذه الحالة يمكن أن تتضمن السفتجة البيانات التالية: اسم الكاتب (المحيل)، اسم المكتوب له (المحال)، اسم المكتوب إليه (المحال عليه)، والدين المحال به الذي للمكتوب له على الكاتب، والمال المحال عليه الذي للكاتب على المكتوب إليه، وصيغة الحوالة مثل لفظ أحلت أو ابتعت.
(2) لم أعثر فيما اطلعت عليه من كتب الشافعية تناولهم لهذه المسألة واختلافهم فيها إلا في كتاب الحاوي للماوردي عقب الضمان في فصل مستقل، ولم يترجم فقهاء الشافعية الذين اطلعت على كتبهم للسفاتج باباً أو فصلاً خاصاً، ولم يتناولوها بالبحث عقب الضمان، كما فعل الماوردي في كتابه الحاوي 8/150.(6/66)
أن يقر المكتوب إليه أن هذه السفتجة هي كتاب الكاتب المحيل الذي هو دائن للمكتوب إليه.
أن يقر المكتوب إليه بأن الكاتب المحيل أراد بهذا الكتاب الحوالة.
فإذا أقر المكتوب إليه بهذه الأربعة، صار المال المحال عليه في كتاب السفتجة لازماً عليه أداؤه إلى المكتوب له (المحال)، سواء تلفظ بضمان الأداء للمكتوب له أم لم يتلفظ(1).
لكن لو أقر المكتوب إليه بأن للكاتب ديناً في ذمته، وأنكر الدين المحال به ـ هو الدين الذي للمكتوب له على الكاتب ـ الذي هو شرط انعقاد في الحوالة، أو أنه أقر بالدينين، وأنكر الكتاب، لم تلزمه السفتجة.
ولو أقر المكتوب إليه (المحال إليه) بالدينين وبالكتاب، وأنكر أن يكون الكاتب أراد بكتاب السفتجة الحوالة، ففي لزوم السفتجة عليه وجهان عند الشافعية:
أحدهما: إن الحوالة لا تلزم المكتوب إليه ؛ لأنه لا يلزمه الأداء إلا بالحوالة، وهذا هو المذهب الذي يوجبه القياس عندهم.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/150، 151.(6/67)
ثانيهما: إن الحوالة تلزم المكتوب إليه ؛ لأنه إذا كان هناك دينان، وكانت السفتجة بلفظ الحوالة، وقد أقر المكتوب إليه بذلك، فالذي يقتضيه العرف أن هذا التصرف حوالة، وهو دليل كافٍ للوصول إلى الإرادة(1).
أقول: إن خلاف الشافعية في هذه المسألة مبني على أنه لا يشترط في الحوالة على المدين رضا المحال عليه، وسبق ترجيح القول باشتراط رضاه لصحة الحوالة(2).
وإذا لم يقر المكتوب إليه بكتاب السفتجة، وأدّى إلى المكتوب له ما في السفتجة؛ ليكون مضموناً عليه إلى أن تصح الحوالة جاز ذلك، ولكن إذا أراد أن يسترد ما دفعه قبل صحة الحوالة ففي جواز ذلك وعدمه وجهان للشافعية:
الوجه الأول: لا يجوز استرداده ؛ وهو الصحيح في المذهب، لأنه بالضمان أصبح لازماً عليه أداؤه حتى تصح الحوالة، وله أن يسترده عند بطلان الحوالة.
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/151.
(2) انظر ص36 من هذه الرسالة.(6/68)
الوجه الثاني: يجوز استرداده متى شاء ما لم تثبت صحة الحوالة، وهو قول أبي عبد الله الزبيري(1) ؛ لأن المال لا يلزمه إلا بعد صحة الحوالة(2).
أقول: وعندي إنه ليس له أن يسترده إلا إذا تبيّن بطلان الحوالة ؛ لأن ضمانه ضمان صحيح.
والله تعالى أعلم.
وقد صرّح الإمام محمد بن الحسن من الحنفية على أنه إذا لم يكن للمكتوب له دين على الكاتب المحيل، أو كان المكتوب إليه قد ضمن الكتاب للمكتوب له لم يلزمه الدفع (الوفاء) ؛ لأن ضمانه غير صحيح(3).
__________
(1) الزبيري هو: الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام بن خويلد، أبو عبد الله الزبيري البصري، كان أحد أئمة الشافعية، فقيه، محدِّث، عارف بالأدب، خبير بالأنساب، توفي سنة 317هـ، من تصانيفه الكافي في الفقه. انظر تاريخ بغداد:الخطيب البغدادي 8/471، معجم المؤلفين: كحالة 1/731، الأعلام: الزركلي 3/43، الفهرست: ابن النديم ص299.
(2) الحاوي: الماوردي 8/151.
(3) 15 الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/71،72، الفتاوى الهندية 3/295.(6/69)
الحالة الثانية: إذا وردت السفتجة إلى المكتوب إليه بلفظ الأمر والرسالة(1) كما لو كتب شريك أو مخالط سفتجة إلى شريكه أو مخالطه، يقول له فيها: ادفع بموجب هذه السفتجة لحاملها مبلغاً وقدره كذا، فقد اختلف الفقهاء في لزومها على المكتوب إليه على ثلاثة أقوال ؛ كما يلي:
القول الأول: يرى أن السفتجة لا تلزم المكتوب إليه حتى يصرح بالضمان(2) لفظاً أو
في معناه ؛ كأن يقول له ضمنت لك كتاب السفتجة، أو يقول كتبتها لك عليً وأثبتها لك عليً؛
لأن هذا ضمان صحيح، وهو قول الشافعية ومحمد بن الحسن من الحنفية.
__________
(1) 15 السفتجة في هذه الحالة قد تتضمن البيانات التالية:
اسم الكاتب، وهو الآمر في السفتجة، اسم المكتوب له وهو من صدر الأمر لصالحه في السفتجة (المستفيد)، اسم المكتوب إليه، وهو المأمور بدفع المال المراد أداؤه، لفظ الأمر مثل ادفع.
(2) ضمان المكتوب إليه يضيف لصالح المكتوب له ضماناً جديداً للوفاء بقيمة السفتجة ؛ لأن ذمة المكتوب إليه تنضاف إلى ذمة الكاتب في الدين، فيثبت الدين في ذمتيهما جميعاً. والله تعالى أعلم.(6/70)
فلو لم يضمنها لفظاً أو معنى، لم يلزمه أداء مال السفتجة حتى لو أثبتها في حسابه؛ بأن قال: كتبتها لك عندي، أو قرأها ثم تركها تركَ رضا، وعند الشافعية لو كتب على ظهرها أنها صحيحة قد قبلتها لا تلزمه أيضاً(1).
القول الثاني: يرى أن السفتجة تلزم المكتوب إليه متى أثبتها في حساب المكتوب له؛ بأن قال له كتبتها لك عندي، أو قال أثبتها لك عندي، وهو لبعض الحنفية(2).
القول الثالث: يرى أن السفتجة تلزم المكتوب إليه بمجرد أن يقبلها ـ يتسلمها ـ ويقرأها إن تركها تركَ رضا، وإن لم يصرح بالضمان، لكن إن رفض المكتوب إليه أن يضمنها فله ذلك، ولا تلزمه، وهو قول أبي يوسف(3).
القول الراجح:
__________
(1) الحاوي: الماوردي 8/151، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/71، الشروط الصغير: الطحاوي 2/563، الفتاوى الهندية 3/294.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/71، الفتاوى الهندية 3/294.
(3) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/71، الشروط الصغير: الطحاوي 2/563، الفتاوى الهندية 3/294.(6/71)
يبدو لي أن الراجح هو أن السفتجة تلزم المكتوب إليه، حتى ولو أثبتها في حساب المكتوب له، أو كتب على ظهرها أنها صحيحة قد قبلتها ؛ لأن هذا الضمان صحيح يقتضيه العرف، كما أن ذلك إقرار من المكتوب إليه بصحة بياناتها.
رجوع المكتوب إليه على الكاتب ببدل السفتجة:
إذا أراد المكتوب إليه أن يرجع ببدل السفتجة على الكاتب الذي صدرت السفتجة بأمره، فإن الكاتب لا يلزمه ذلك حتى يقر بكتاب السفتجة لفظاً، أو يكتب بأن لفلان في ذمتي كذا من المال، ويُشهد على ذلك شهوداً.
لكن إن أقر بالخط ففي لزومها عليه قولان:
القول الأول: تلزمه باعترافه بالخط، وهو لبعض الشافعية.
القول الثاني: لا تلزمه باعترافه بالخط، وهو قول أكثر الشافعية، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو الصحيح ؛ لأن الإقرار بالخط لا يعتبر ضماناً صحيحاً(1).
---
__________
(1) الحاوي: الماوردي8/151، الفتاوى الهندية 3/295، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: قاضيخان 3/72(6/72)
تمهيد
ظهرت في الآونة الأخيرة حاجة ملحة لتحويل الأموال من مكان لآخر ؛ كالحوالات التي يجريها العاملون في الخارج إلى حساباتهم في بلدانهم، أو إلى ذويهم أو أقاربهم، أو الحوالات التي يقوم بها أولياء الطلاب إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، ونحو ذلك من الحوالات الداخلية والخارجية التي تولت المصارف والدوائر البريدية أداءها لعملائها، ولرجال الأعمال، وطلبة العلم وغيرهم.
فما هي حقيقة هذه المعاملة من الناحية القانونية؟ ثم ما وجهة النظر الفقهية الإسلامية لهذه العملية، هذا ما عالجته في هذا الفصل في مبحثين ؛ كالتالي:
المبحث الأول: حقيقة التحويلات المصرفية والبريدية من الناحية القانونية
أولاً: تعريف التحويلات المصرفية:
التحويلات المصرفية هي "عملية نقل النقود أو أرصدة الحسابات من حساب إلى حساب، أو من بنك إلى بنك، أو من بلد لآخر، وما يستتبع ذلك من تحويل العملة المحلية بالأجنبية، أو الأجنبية بأجنبية أخرى "(1).
ثانياً: مضمون عملية التحويل:
__________
(1) المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي: محمد عثمان شبير ص233.(7/1)
وهي عبارة عن أمر صادر من شخص يُسمى (طالب التحويل) إلى مصرف، حيث يقوم طالب التحويل بدفع المبلغ المراد تحويله أو يطلب خصمه من حسابه لدى المصرف الذي يقوم بتحويل هذا المال إلى فرعه، أو مصرف آخر في مكان آخر، أو في بلد آخر، سواء كان لصالح نفسه أو لآخر (مستفيد)، وسواء بنفس العملة أو بعملة أخرى(1).
ويتضح من هذا المفهوم أن مقومات عملية التحويل هي كالتالي:
الآمر (طالب التحويل)، وهو بمنزلة المحيل.
المصرف المأمور بالتحويل، وهو الواسطة بين طالب التحويل والمصرف الآخر.
المصرف المراسل في نفس البلد أو في بلد آخر.
المستفيد إن لم يكن هو الآمر.
المال المراد تحويله.
ثالثاً: كيف تتم عملية التحويل المصرفي أو البريدي؟
__________
(1) الوجيز في الجوانب القانونية لعمليات البنوك: عبد الرحمن قرمان ص144، أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي: عباس أحمد الباز ص87.(7/2)
أن يدفع شخص مبلغاً إلى مصرف أو إلى دائرة البريد، طالباً تحويله إلى من يسميه (شخصاً حقيقياً أو اعتبارياً)، أو يكون له حساب جارٍ لدى المصرف، فعمده لسحب مبلغ معين لتحويله إلى من يرغب التحويل إليه في بلد آخر أو مكان آخر، وغالباً ما يستخدم نماذج المصرف واستثماراته، حيث إن المصارف عادة تعمل على طبع نماذج لطلبات التحويل بقصد التيسير على عملائها، وتجنباً للخطأ أو التزوير في أمر التحويل، ثم بعد ذلك يدخل المصرف في إجراءات تنفيذ طلب التحويل.
ويتم ذلك بإحدى طريقين:
أ ـ أن يقوم المصرف بتحرير حوالة تتضمن أمراً من هذا المصرف (المصرف المأمور بالتحويل) إلى مصرف آخر (المراسل) ـ فرع له أو عميل أو وكيل في مكان آخر ـ بأن يدفع إلى شخص أو جهة معينة مبلغاً محدداً من النقود، ويتسلم الشخص طالب التحويل السند بيده، وغالباً ما تكون صورة طبق الأصل عن طلب التحويل الذي قدمه للمصرف، ثم يقدمه بنفسه إن كان هو الشخص أو الجهة المستفيدة منه ليقبض المبلغ.(7/3)
ب ـ أو يقوم بتنفيذ التحويل عن طريق الإبراق أو الكتابة أو الهاتف مباشرة من بنك إلى بنك، أو من فرع أو غيره دون أن يتسلم العميل أوراقاً، ثم يتولى البنك أو الفرع المحوَّل إليه (المراسِل) الاتصال بالمستفيد، طالباً منه الحضور إلى البنك لتسلِّم قيمة الحوالة، أو يقوم البنك نفسه بتقييد مبلغ الحوالة في الحساب الجاري للمستفيد إذا كان هذا الحساب موجوداً، مع إشعار المستفيد بقيمة المبلغ المحول إليه(1).
رابعاً: أنواع التحويلات المصرفية، ووسائلها، وصورها:
التحويلات المصرفية على نوعين: داخلية وخارجية:
__________
(1) العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة: عيسى عبده ص241، عمليات البنوك من الوجهة القانونية: علي جمال الدين عوض ص 140، البنك اللاربوي في الإسلام: محمد باقر الصدر ص 112، 113.(7/4)
أ ـ التحويل الداخلي: وهو نقل المصرف أو البريد النقود من مكان لآخر في نفس البلد الواحد، حيث إن النقل قد يكون من طرف لآخر، أو من حساب الشخص نفسه في الفرع إلى حسابه في فرع آخر، شريطة قيام طالب التحويل بإيداع المبلغ المراد تحويله، أو أن يكون له حساب جارٍ في المصرف الذي سيقوم بعملية التحويل، ويتم التحويل الداخلي بالوسائل التالية:
التحويلات الخطابية: بأن يأمر المصرف المأمور بالتحويل، المصرف المُحوَّل إليه خطابياً بدفع قيمة التحويل إلى المستفيد.
التحويلات الهاتفية: حيث يتم إبلاغ المحول إليه هاتفياً أو برقياً بدفع مبلغ التحويل إلى المستفيد.
الشيكات المصرفية(1): وهي الشيكات الصادرة عن مصرف مسحوبة عليه نفسه، أو مسحوبة على بنك مراسل.
صور التحويل الداخلي:
__________
(1) الشيك: هو صك محرر وفقاً لأوضاع حددها العرف، يتضمن أمراً يصدر من شخص هو الساحب إلى شخص آخر هو المسحوب عليه، وهو عادة البنك، بأن يدفع بمجرد الاطلاع مبلغاً معيناً من النقود لشخص ثالث هو المستفيد لأمره، أو لحامله , انظر: الأوراق التجارية: حمدي بارود ص74، الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 5/153.(7/5)
أن يدفع طالب التحويل قيمة الحوالة نقداً، ثم يطلب تحويلها إلى من يرغب التحويل إليه داخل الدولة، كمن يتقدم إلى البنك الإسلامي العربي في غزة طالباً تحويل ألف دينار أردني مثلاً، إلى عميله في خان يونس بعد دفع قيمة الحوالة نقداً(1).
النقل من حساب إلى حساب: وهو إما أن يكون بين حسابين لشخص واحد، أو لشخصين في بنك واحد أو بنكين(2).
ب ـ التحويل الخارجي: ويقصد به نقل المصرف قيمة الحوالة من دولة لأخرى، سواء كان هذا النقل وفاءً لدين، أو سداداً لثمن بضاعة، أو غير ذلك، شريطة قيام طالب التحويل بإيداع المبلغ المراد تحويله، أو أن يكون له حساب جارٍ، والتحويل الخارجي يعرف في العمل المصرفي باسم (الحوالة الصادرة والحوالة الواردة).
__________
(1) بحث حكم قبض الشيك: عبد الله بن منيع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة 1/701.
(2) موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: محيي الدين علم الدين 1/400، الوجيز في الجوانب القانونية لعمليات البنوك: عبد الرحمن قرمان ص 149.(7/6)
فالحوالة الصادرة: هي التي يصدرها المصرف بطلب من شخص معين إلى مصرف أو فرع للمصرف نفسه، ليدفع المصرف المحول إليه مبلغاً من المال إلى شخص معين.
أما الحوالة الواردة: فهي الأمر الوارد إلى المصرف من فرع له، أو مصرف آخر، لدفع مبلغ معين من المال إلى شخص معين(1).
ويتم التحويل الخارجي بوسيلتين إضافيتين على الوسائل الثلاثة في التحويل الداخلي، وهما:
خطاب الاعتماد: وهو عبارة عن رسالة صادرة من مصرف وطني لمصرف أجنبي، أو عدة مصارف أجنبية، تقع في دول مختلفة، ويرتبط المصرف الوطني معها بعلاقات مالية، وتتضمن هذه الخطابات دفع مبلغ معين لحاملها (المستفيد)(2).
__________
(1) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية: سامي حمود ص337، الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: محمد سراج ص69.
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 5/455، موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية: عبد العزيز هيكل ص500.(7/7)
الشيك السياحي: وهو شبيه بالشيك العادي، من حيث إنه يحتوي على نموذج لتوقيع المستفيد للتأكد من شخصيته عند صرف الشيك في الخارج، وهو أوسع دائرة من خطاب الاعتماد ؛ إذ إنه يًقبل بسهولة في كثير من الأماكن ؛ كالمتاجر، والفنادق، والمطارات، والسكك الحديدية، فضلاً عن البنوك والمصارف(1).
صور التحويل الخارجي:
نقل مبلغ من حساب في مصرف محلي إلى حساب آخر في مصرف خارجي، أو فرع أو مراسل، سواء كان لشخص واحد أو لشخصين(2).
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 5/454.
(2) موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: محيي الدين علم الدين 1/400، الوجيز في الجوانب القانونية لعمليات البنوك: قرمان ص 149.(7/8)
تحويل من الآمر إلى المستفيد في بلد آخر، وذلك بأن يدفع طالب التحويل قيمة الحوالة نقداً، طالباً تحويلها إلى شخص في بلد آخر، سواء بنفس النقد أو بنقد آخر، كمن يتقدم إلى البنك الإسلامي الفلسطيني بغزة، لطلب تحويل ألف دولار إلى عميله في أمريكا، سواء كان الدفع بالدولار، أو بنفس النقد المتداول في بلد طالب التحويل(1).
التحويل لصالح الآمر لنفسه، كأن يريد شخص السفر إلى بلد ما، وهو محتاج إلى مبلغ من النقود في ذلك البلد، فيدفع إلى البنك في بلده قيمة المبلغ نقداً، أو بخصم من حسابه، ثم يتسلمه بنفسه في البلد الآخر من أحد فروع البنك أو مراسليه(2).
خامساً: أهمية التحويلات المصرفية:
تظهر أهمية التحويل المصرفي من عدة جوانب، وذلك كما يلي:
__________
(1) 1 حكم قبض الشيك: ابن منيع، مجلة مجمع الفقه، الدورة السادسة، 1/701.
(2) 1 البنك اللاربوي في الإسلام: محمد باقر الصدر ص 118.(7/9)
أ ــ بالنسبة للمصرف: حيث تعتبر التحويلات المصرفية مصدر دخل يتقاضى البنك عليها عمولة، فهي من وسائل الكسب المشروع بالنسبة إليه، وخاصة أنها قليلة التكاليف بالنسبة لوسائل الدفع الأخرى ؛ لأن عمل المصرف يقتصر على مجموعة من القيود المحاسبية البسيطة في الجانب الدائن من حساب المستفيد، وفي الجانب المدين من حساب العميل الآمر بالتحويل، أو تحرير شيك يتسلمه الآمر.
ب ـ بالنسبة لطالب التحويل: فهي وسيلة لحفظ أمواله من الضياع، وتفادي خطر الطريق، وتوفر عليه الجهد والوقت في معاملاته التجارية، وتساعده على الوفاء بالتزاماته المالية في مواعيد استحقاقها.
ج ـ بالنسبة للمستفيد: تؤدي إلى استيفاء حقه في موعده، وإدخال المال محل الحق في ذمته بمجرد إجراء القيد الحسابي في الجانب الدائن من حسابه، دون أن يكبده عبء قبضه ومشقته(1).
سادساً: عائد المصرف أو البريد من عملية التحويل:
عمولة المصرف أو البريد من عملية التحويل.
__________
(1) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة الإسلامية منها: رضوان محمد عبد العال ص7، الوجيز في الجوانب القانونية لعمليات البنوك: عبد الرحمن قرمان ص144.(7/10)
مصاريف الهاتف أو البرق أو البريد أو خطاب الاعتماد.
أجرة التحويل لهذه المبالغ.
فرق السعر(1) بين العملتين، على أساس سعر الصرف في اليوم نفسه الذي يخطر فيه المصرف المحلي المصرف الأجنبي المحول إليه (فرق الربح في الكمبيو)(2)، حيث إن البنك أو المصرف دائماً يشتري بسعر أقل مما يبيع، ليستفيد من الزيادة في حالة البيع
المبحث الثاني: التحويلات المصرفية والبريدية من وجهة النظر الإسلامية
__________
(1) فرق السعر بين العملتين إنما يكون على أساس سعر الكمبيو في اليوم نفسه، ذلك لأن العملة الوطنية المراد تحويلها إلى الخارج لا تتساوى في القيمة مع العملة في الدولة الأخرى، لهذا تحدد البنوك أسعار الكمبيو يومياً تبعاً لقاعدة الطلب والعرض، وتبعاً لما تتلقاه من مراكزها الرئيسية في الخارج، فتذكر سعرين: أحدهما خاص بالشراء، والآخر خاص بالبيع، وطبيعي أن سعر البيع أعلى من سعر الشراء قليلاً
(2) الكمبيو: كلمة لا تينية، معناها (مبادلة العملة الوطنية بالعملة الأجنبية، وبالعكس) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية الجزء الخامس الشرعي /425.(7/11)
بعد أن انتهيت من بيان حقيقة التحويلات المصرفية والبريدية من الناحية القانونية، أنتقل الآن إلى بيان هذه المعاملة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، وما إذا كانت تتوافق مع أصولها أم لا، وتحت أي من العقود الشرعية يمكن تكييفها؟.
في البداية أقول: إن الشريعة الإسلامية لا تنكر ما لا يتعارض مع قواعدها الأساسية، ومبادئها العامة، وعلى ذلك، فهي لا تنكر ما تقوم المصارف بأدائه من الخدمات الخالية من الفوائد الربوية، التي تؤديها خدمة للمجتمع بأفراده وجماعاته، بحيث لم يعد أدنى ريبة في جدوى الدور الذي تقوم به هذه المصارف بهذا الخصوص ومنافعه، وعملية التحويل المصرفي إحدى الخدمات المعتادة والمتكررة التي تولت المصارف أداءها خدمة للناس، وهذه العملية بهذا الإطار وهذا المسمى لم تكن معروفة في عصور أئمة الفقه، حيث لم ترد ضمن العقود والمعاملات التي ورد ذكرها وترتيبها في مصنفاتهم، على ضوء ما هو مشهور لديهم في عصورهم من تصرفات وأحداث، قاموا باستنباط الأحكام لها من خلال الأدلة التفصيلية، حيث كان دورهم هو استنباط الأحكام.(7/12)
وبعد ذلك استجدت صور وأحداث من معاملات وغيرها، نتيجة لتغير أوضاع الحياة وتشابك مصالح الناس، فكان دور العلماء والباحثين المعاصرين لهذه الأحداث والصور لا يعدو أن يكون تخريجاً أو إلحاقاً لها تحت الأصول والقواعد الكلية، ومقاصد الشريعة التي قررها سلفنا الصالح من أئمتنا وفقهائنا ـ رضي الله عنهم ـ والتي تعتبر مناطاً لتعلق هذه الأحداث والصور عليها، أو تفريعها منها، فما استقام من هذه الأحداث والصور مع تلك القواعد والأصول اعتمدوه وكيّفوه تكييفاً مناسباً، فإن جاء مخالفاً منعوه، وحكموا عليه بالبطلان.(7/13)
وعملية التحويل المصرفي ما هي إلا صورة من صور المعاملات القديمة بمسمى جديد، وبالنظر إلى حقيقتها، وما تقوم به من فوائد ومزايا على النحو الذي سبق بيانه، نجد أنها لا تتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، بل تتفق وروح الشريعة(1)
__________
(1) فإنه كان من أسس الشريعة التيسير والتخفيف، مصداقاً لقوله تعالى(يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر ((185 من سورة البقرة)، وعملية التحويل ما هي إلا وسيلة للتخفيف على طالب التحويل في تسيير معاملاته التجارية، والوفاء بالتزامه، كما أنها وسيلة للتخفيف على المستفيد في الوصول إلى حقه في= =مواعيد استحقاقه، وإذا كانت الشريعة تهدف إلى المحافظة على المال ؛ وذلك بحفظه وتنميته وتشغيله، فإن التحويل يهدف إلى المحافظة على أموال طالب التحويل، وتجنباً لمخاطر حملها وهو في طريقه لتشغيلها وتنميتها، والوفاء بالتزاماته، كما أنها تعتبر مصدر دخل يتقاضى من خلالها المصرف أجرة، وهي وسيلة للكسب المشروع بالنسبة له، يقول ـ تعالى ـ (إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ((الآية 29 من سورة النساء)، وكلمة تجارة تنتظم جميع العقود التي يقصد بها تحصيل الربح ؛ كالبيع والإيجار.(7/14)
؛ لذا فإن العلماء والباحثين المعاصرين لم يختلفوا في القول بمشروعيتها، وإنما كان الخلاف في تكييفها كمعاملة مستجدة، وتحت أي من العقود الشرعية تندرج(1).
وعلى ذلك فلا بد من بيان مع أي العقود الشرعية تنسجم هذه المعاملة، وخاصة أن العقود التي ذكرها الفقهاء في مصنفاتهم الفقهية تتسع لتشمل كثيراً من المعاملات، وتعالج ما يجدُّ من صور المعاملات التي لم تكن معروفة من قبل، مع العلم بأنه من غير المتصور أن يكون في الفقه الإسلامي تعريف مسبق لعملية التحويل، غاية ما هنالك أنه يمكن إدراجها تحت واحد من العقود الشرعية التي صنفها فقهاء المسلمين.
وأمامي هنا قولان للعلماء في تكييف عملية التحويل: قول يكيّفها على أساس الحوالة، وقول يكيّفها على أساس السفتجة، باعتبار أن عملية التحويل تطبيق لأحدهما، وتحقيق الكلام في هذين القولين في مطلبين ؛ كالتالي:
المطلب الأول: تكييف عملية التحويل المصرفي والبريدي على أساس الحوالة
__________
(1) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة منها: رضوان عبد العال ص4 ـ 10، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية: سامي حسن حمود ص 74 فما بعد.(7/15)
يرى جانب من الباحثين المعاصرين تكييف عملية التحويل المصرفي أو البريدي على أساس عقد الحوالة، ويستند هذا الرأي على أن أركان الحوالة موجودة في عملية التحويل، فطالب التحويل دائن للبنك بمبلغ الحوالة، والمستفيد من التحويل دائن لطالب التحويل، فيحيل طالب التحويل المستفيد على البنك المأمور بالتحويل، فيصير البنك بموجب هذه الحوالة مديناً للمستفيد، ثم إن البنك ـ الذي هو محال عليه ـ يقوم بإحالة المستفيد: إما على بنك مراسل في البلد الذي يقيم فيه ـ المستفيد ـ، فتتم بذلك حوالة ثانية يكون بموجبها البنك المراسل مديناً للمستفيد، وإما على فرع ممثل له هناك، بأن يتصل به، ويأمره بالدفع، ولا تعتبر هذه حوالة ثانية ؛ لأن ذمة الفرع هي نفس ذمة البنك الأصلي، بل هو ممثل له فقط في البلد الآخر(1).
تقييم التكييف السابق:
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام: محمد باقر الصدرص114، التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة منها:عبد العال ص 38، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة التاسعة 1/344.(7/16)
من خلال الدراسة السابقة لكل من الحوالة وعملية التحويل، يبدو أن هناك مفارقات بين عملية التحويل في مفهومها المعاصر، وقواعد الحوالة في الفقه الإسلامي، وذلك كالتالي:
أولاً: من حيث الأركان:
إن عقد الحوالة لا يقوم أساساً إلا مع وجود دين للمحال على المحيل، فالدين المحال به هو شرط انعقاد في الحوالة، فإذا تخلف هذا الدين كانت وكالة كما هو مذهب جماهير الفقهاء(1)، في حين أن عملية التحويل المصرفي في بعض الحالات تكون لصالح شخص غير دائن ؛ كأن يأمر طالب التحويل البنك بتحويل مبلغ بعد دفع قيمته، أو بالخصم من حسابه إلى شخص أو جهة ما على سبيل الهبة أو التبرع(2).
من أركان الحوالة وجود أطراف ثلاثة ؛ وهم المحيل، والمحال، والمحال عليه، بينما في عملية التحويل توجد صور لا يتوفر فيها بعض هذه الأركان، ومن أمثلة ذلك
__________
(1) انظر ص51 من هذه الرسالة.
(2) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة منها:عبد العال ص 39.(7/17)
ما لو دفع شخص قدراً من النقود إلى مصرف في بلده ؛ بغرض الحصول على قيمته بنفسه في بلد آخر، من أحد فروع ذلك المصرف، أو من مصرف مراسل، ففي هذه الصورة المحيل نفسه هو المحال.
لو كان التحويل بين حسابين لشخص واحد في بنك واحد، حيث لا يوجد محال ولا محال عليه، ومن المعلوم أن العقد إذا فقد أحد أركانه فلا ينعقد(1).
ثانياً: من حيث الآثار:
من آثار الحوالة براءة ذمة المحيل بمجرد صدورها مستوفية أركانها وشرائطها، في حين أن المصرف الآمر (عندما يكون محيلاً في الحوالة الثانية) لا يبرأ إلا أن يسلم المصرفُ الآخر المبلغَ إلى المستفيد، أو يقيّده في حسابه(2).
ثالثاً: من حيث التداول:
إن الحوالة قابلة للتداول من جهة المحال لدائنه، وكذلك من جهة المحال عليه على مدينه، في حين أن عملية التحويل غير قابلة للتداول.
رأي الباحث:
__________
(1) 2 تجارة الذهب في أهم صورها وأحكامها: صالح المرزوقي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة التاسعة 1/261.
(2) 2 بحث حكم قبض الشيك هل هو قبض لمحتواه: إعداد عبد الله بن منيع، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة السادسة 1/686.(7/18)
نظراً لوجود هذه المفارقات بين حقيقة التحويل المصرفي في مفهومها المعاصر، وبين قواعد الحوالة في الفقه الإسلامي، فالذي يبدو لي أنه لا يمكن إطلاق القول بأن عملية التحويل المصرفي هي عقد حوالة، وبالتالي لا يصح تكييف هذه المعاملة على أساس عقد الحوالة في الفقه الإسلامي(1).
المطلب الثاني: تكييف عملية التحويل على أساس السفتجة
يرى جانب من الباحثين تكييف عملية التحويل المصرفي على أساس السفتجة، ويستند هؤلاء إلى أن هناك وجه شبه إجمالاً بين السفتجة وعملية التحويل المصرفي(2).
وحتى نتعرف على وجاهة هذا التكييف أو عدمها، لا بد أن نقف على أوجه الشبه، وأوجه الخلاف بين السفتجة والتحويلات المصرفية والبريدية، وذلك من خلال ما تقدم عنهما:
أولاً: أوجه الشبه بين التحويلات المصرفية والسفتجة:
__________
(1) هناك بعض الصور في عملية التحويل قد تحمل معنى الحوالة الفقهية، كما في علاقة المصرف المأمور مع المصرف المراسل عندما يكون دائناً، فعدم صحة التكييف لا ينفي عدم وقوع الحوالة في عملية التحويل مطلقاً.
(2) الموسوعة الفقهية ط تمهيدية نموذج 3 ص229، العقود الشرعية الحاكمة: عيسى عبده ص242.(7/19)
1 ـ في التحويلات المصرفية يدفع طالب التحويل قيمة الحوالة إلى المصرف، أو تُخصم من حسابه إن كان له حساب لديه، بقصد تحويلها دون النقل المادي لها، تجنباً لأخطار حملها، وتوفيراً للوقت والجهد، فهو إذن لا يدفع قيمة المبلغ المراد تحويله، أو يطلب خصمه من حسابه على سبيل الأمانة، بل على سبيل الضمان، وذلك بإحالة خطر الطريق على المصرف.
والمعروف أن الأساس الذي بُنيت عليه السفتجة هو تجنب خطر الطريق المتوقع.
وعلى ذلك فإن الغرض الذي تؤديه كل من عملية التحويل والسفتجة، هو تحويل الأموال دون النقل المادي لها، تجنباً لأخطار الطريق، وذلك عن طريق تضمين المأمور بالتحويل.(7/20)
2 ـ إن المصرف أو البريد لا يسلم إلى المستفيد عين المبلغ الذي دفعه طالب التحويل أو الذي خُصم من حسابه، بل إنه يدفع إلى المستفيد بدله ؛ لأن العرف في المصارف جارٍ على أن المصرف يخلط أموال العملاء بأمواله، وكذلك الأمر في الدوائر البريدية، والمتتبع لأقوال الفقهاء يجد أنهم ينسبون الأحكام إلى القاعدة المقررة عندهم من أن (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، وليست للألفاظ والمباني)(1)، فالمال إذا تُصرف فيه أو اختلط بغيره لا يكون مجال للقول بأنه وديعة، بل ينقلب إلى قرض، على اعتبار أن الانتفاع بالمعقود عليه في القرض لا يكون إلا باستهلاكه، وبالتالي فهو مضمون على المقترض أو المدين(2).
__________
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن القيم 3/95.
(2) الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي: مصطفى الخن وغيره 3/173.(7/21)
وعلى ذلك فإن عملية التحويل إما أن تكون بقرض حادث، كما في حالة أن يأتي طالب التحويل ومعه المال المراد تحويله، فيدفعه إلى البنك، وإما أن يكون بدين قديم، كما لو كان لطالب التحويل حساب جارٍ لدى المصرف، وطلب منه الخصم من هذا الحساب وتحويله، وقد سبق في السفتجة أنها قد تكون بقرض حادث، وقد تكون بدين قديم.
فإن قيل: " إن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم، أو عملائهم، أو حساباتهم في مصارف أخرى، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض "(1) بخلاف السفتجة.
أقول:
إن الذي يتبادر إلى ذهن الناس شيء، وقد يكون التكييف الفقهي له شيء آخر، فعلى سبيل المثال: إن الودائع المصرفية هي في تصور الناس ودائع، ولكنها في الحقيقة ليست ودائع، لما سبق ذكره من أن المصرف يخلط أموال عملائه مع أمواله، أو يتصرف فيها، وبالتالي تكون مضمونة عليه، فكذلك الأمر في عملية التحويل المصرفي(2).
__________
(1) تجارة الذهب في أهم صورها: صالح المرزوقي / مجلة مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة 1/260
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة 1/348، من كلام للدكتور عبد السلام العبادي.(7/22)
3 ـ وعلى ما تقدم ؛ فإن عمليات التحويل الداخلي والخارجي تتم بإحدى طريقتين:
الأولى: الحوالة عن طريق الشيكات المصرفية أو السياحية، باعتبار أن حامل الشيك المصرفي أو السياحي قد وفَّى بقيمتها للجهة التي تصدرها، فيعد دائناً(1).
الثانية: عن طريق رسالة، كما في الخطاب أو خطاب الاعتماد(2) أو الهاتف.
وفي ذلك تكييف لعلاقة المصرف الآمر مع المصرف المأمور من أنها إما أن تكون
__________
(1) كيَّفَ بعض المعاصرين الشيك بأنه حوالة إذا كان المستفيد دائناً للساحب بقيمة مبلغ الشيك ؛ حيث يعتبر الساحب محيلاً، والمسحوب عليه محالاً عليه، والمستفيد محالاً، فإن لم يكن الساحب مديناً للمستفيد فإن الشيك يعتبر وكالة بالقبض. العقود الشرعية الحاكمة: عيسى عبده ص257.
(2) قرر بعض الفقهاء المحدثين أن انتشار السفتجة ورجها في القديم تشبه الدور الذي يقوم به خطاب الاعتماد الآن. الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: محمد أحمد سراج ص 46.(7/23)
حوالة، أو تكون وكالة(1).
وفي كلتا الحالتين فإن للمصرف ـ الذي قد يكون محيلاً أو وكيلاً ـ أن يرفض الحوالة، أو الرسالة إذا لم يكن لطالب التحويل رصيد، أو ليس عنده ثقة بهذا الشخص حامل الشيك، بدليل أن لمحرر الشيك أو الرسالة أن يرسل إشعاراً إلى البنك المراسل أو الفرع لوقف تنفيذ عملية التحويل(2).
كذلك الحال في السفتجة، فقد تكون بلفظ الحوالة على اعتبار أن المكتوب إليه محال عليه، أو بلفظ الأمر والرسالة باعتباره وكيلاً عن الكاتب، وفي كلتا الحالتين لا يلزم المكتوب إليه الدفع إلا بشروط بينتها سابقاً(3)، وإن للكاتب ـ محرر السفتجة (المحيل) ـ أن يرسل إلى المكتوب إليه بوقف تنفيذ السفتجة.
__________
(1) 3 سواء كانت علاقة المصرف الآمر بالمصرف المراسل حوالة أو وكالة، فهي في كلتا الحالتين تدخل ضمن السفتجة، كما في الصورة التي ذكرها الحطاب في مواهب الجليل هي كتاب صاحب المال لوكيله في بلد آخر ليدفع لحامله بدل ما قبضه منه 4/548.
(2) 3 تجارة الذهب في أهم صورها: صالح المرزوقي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي لدورته التاسعة 1/262، 263
(3) انظر ص159 من هذه الرسالة.(7/24)
وغاية الأمر أن التحويل المصرفي تُستخدم فيه الوسائل الحديثة المبتكرة ؛ كالإبراق والهاتف والتلكس وغيرها، وليس كذلك في السفتجة، حيث كان الأمر فيها لا يتعدى الرسالة، وهذا لا ينتظم فرقاً ؛ إذ إن هذه الوسائل التي تستخدمها البنوك والمؤسسات في تنفيذ عملية التحويل، ليس إلا نتيجة اكتشاف أسرار الكون الذي سخره الله ـ تعالى ـ للإنسان، وأمره بالكشف عنها، وتدبرها، حتى يتحقق معنى الخلافة في عمارة الأرض، ومن الأصول الشرعية " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "(1).
4 ـ في عملية التحويل قد يكون المستفيد هو الآمر نفسه، وذلك كما لو دفع شخص مبلغاً من المال إلى بنك في بلده، أو في مكان معين بغرض الحصول على قيمته في مكان آخر، وقد يكون المستفيد غير الآمر، كما لو كان الآمر عميلاً أو مديناً، وهو الغالب في عملية التحويل.
كذلك الأمر في السفتجة، فقد يكون المقرض أو الدائن هو الذي يقبض في البلدالآخر، وهو الغالب بعكس التحويل(2)، وقد يكون الوفاء لصديق أو دائن هناك.
__________
(1) المحصول في علم أصول الفقه: الرازي 1/275.
(2) انظر الصورة الأولى والرابعة من صور السفتجة ص127، 128 من هذه الرسالة.(7/25)
5 ـ عملية التحويل المصرفي والسفتجة لا تخضع لنظام التداول بطريق التظهير(1)، ولو كان ذلك بحوالة أو شيك(2).
ثانياً: أوجه الخلاف بين التحويل المصرفي والسفتجة:
أورد بعض العلماء والباحثين المعاصرين أوجه الخلاف بين عملية التحويل المصرفي وبين السفتجة في الفقه الإسلامي على خمسة وجوه، وذلك كالتالي:
الوجه الأول: في عملية التحويل المصرفي قد يكون نقل النقود بين بلدين مختلفتين، وقد يكون في بلد واحدة، بينما في السفتجة لا بد أن يكون النقل بين الأقطار المختلفة تحقيقاً لمقصودها.
__________
(1) التظهير هو: " بيانٌ كتابيٌّ على ظهر الورقة التجارية أو ما يلتحق بها، ينقل بمقتضاه المظهر بعض حقه في هذه الورقة، أو كل حقوقه فيها إلى شخص آخر هو المظهر إليه، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: تظهير تام وتظهير توكيلي، وتظهير تأميني " وسيأتي توضيحه تفصيلاً إن شاء الله تعالى عند الحديث عن تداول الكمبيالة انظر: الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: محمد سراج ص36، 37.
(2) موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: علم الدين 1/401.(7/26)
الوجه الثاني: إن السفتجة قد تشتمل على صور غير متوفرة في عملية التحويل المصرفي ؛ إذ إن المقترض أو المدين قد يكون مسافراً أو عازماً على السفر، وبذلك يقوم هو أو نائبه بأداء الدين للمقرض الدائن أو نائبه ؛ بينما في عملية التحويل قد تولت المصارف المنتشرة بفروعها القيام بأداء هذا النوع من التعامل.
الوجه الثالث: إن نقل النقود في التحويل يقترن في أغلب الأحيان بصرفها بغير أجناسها، فقد يأخذ المصرف من طالب التحويل أو يخصم من حسابه عملة معينة، ويكتب إلى المصرف المراسل أن يوفي بعملة أخرى، وليس كذلك في السفتجة الذي كان الأمر فيها يقتصر على نقل نقد معين دون تغييره(1).
الوجه الرابع: يتقاضى المصرف في عملية التحويل أجراً (عمولة) على قيامه بعملية التحويل، في حين أن محرر السفتجة لا يتقاضى أجراً في العادة، اكتفاء منه بأنه انتفع بالمال قرضاً أو ديناً(2).
__________
(1) قد تبين من خلال الدراسة السابقة في السفتجة جواز اتفاق كل من المكتوب له (المحال)، والمكتوب إليه (المحال عليه) أن يكون الوفاء بنقد آخر. انظر ص 157 من هذه الرسالة.
(2) الموسوعة الفقهية، طبعة تمهيدية 3/ف352 ص229.(7/27)
الوجه الخامس: هو أن التحويل المصرفي يجري بطريقة القيد الحسابي بين المصرفين، المصرف المحوِّل (بكسر الواو) والمصرف المراسل، وذلك بأن يقيِّد المصرف المحوِّل في سجلاته قيمة التحويل لحساب المصرف المحوَّل عليه (المرسل)، كما يقيد المصرف المراسل (المحول عليه) هذه القيمة في سجلاته لإجراء المقاصّة بين مسحوبات كل منهما على الآخر، ثم تسوية ما يتبقى من ديون بينهما(1)، وليس كذلك في السفتجة.
مناقشة أوجه الخلاف بين عملية التحويل المصرفي وبين السفتجة:
ويمكن أن يُجاب بأن وجود هذه الأوجه من الخلاف بينهما لا يمنع من سحب حكم السفتجة على التحويلات المصرفية، وذلك لما يلي:
__________
(1) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية: حمود ص 339، الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: سراج ص 69.(7/28)
1 ـ بالنسبة للوجه الأول: وهو أن عملية التحويل تجري بين بلدين أو بلد واحدة، بينما في السفتجة لا بد وأن تكون بين البلدين: فإن هذا الفرق لا أثر له ؛ ذلك لأن منع التعامل بالسفتجة على أنها قرض جر نفعاً ـ وهو أمن الطريق ـ لعلة اختلاف البلدين، فإذا انتفت هذه العلة، وتمّت كتابة السفتجة في بلد واحد يتم فيه الوفاء، فإن ذلك لا يكون قرضاً جر نفعاً(1)، وبالتالي ينتفي المنع عند القائلين به، كما أن الحاجة لأمن الطريق قد تكون داخل البلد الواحد إذا ضعف النظام، وكثر قطّاع الطرق.
__________
(1) 4 بالنظر إلى الناحية التاريخية للسفتجة نجد أنها قد استعملت أيضاً كأداء لتسوية الديون في المعاملات التجارية في القطر الواحد في عصور متقدمة ترجع إلى القرن الرابع الهجري، فقد نقل الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه (تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري) " أن رجلاً من الأهواز أرسل إلى العامل سفتجة بألف دينار مع أنهما كانا في الأهواز " ص 960، والأهواز: مدينة بين البصرة وفارس وكان اسمها أيام الفرس خوزستان. معجم البلدان: ياقوت الحموي 1/338.(7/29)
2 ـ بالنسبة للوجه الثاني: وهو كون السفتجة قد تشمل صوراً غير متوفرة في عملية التحويل: فلا أثر لهذا الوصف أيضاً ؛ لأن الذين أجازوا السفتجة لم يشترطوا أن يكون المقترض مسافراً أو عازماً على السفر(1).
3 ـ بالنسبة للوجه الثالث: وهو كون التحويل المصرفي يقترن في أغلب الأحوال بالصرف، بخلاف السفتجة، فقبل مناقشته لا بد من التفرقة بين حالتين.
__________
(1) 4 الموسوعة الفقهية: ط تمهيدية، نموذج 3، ص230، العقود الشرعية الحاكمة: عبده ص 243، 244.(7/30)
الحالة الأولى: جريان التحويل بعملة واحدة، بأن يدفع الشخص قيمة الحوالة نقداً إلى مصرف محلي طالباً تحويله إلى شخص آخر بنفس العملة، أو يكون له مال لدى مصرف، فيطلب اقتطاع مبلغ منه ثم تحويله إلى بلد آخر بنفس العملة، فيعطيه المصرف إشعاراً بالتحويل على بنك مراسل أو فرع، وفي هذه الحالة لا إشكال في جوازها على أنها سفتجة، حيث إن الأصل في السفتجة أن تكون بنوع واحد معين من النقود، إلا عند الوفاء فيمكن أن يتفق المستفيد مع الموفى له على أن يكون الوفاء بنقد آخر كما سبق تفصيل ذلك عند الكلام عن وفاء السفتجة بنقد آخر(1).
__________
(1) بحث الصرف في بعض خصائصه وأحكامه: ابن منيع، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة التاسعة ص 99، 101، العقود الشرعية الحاكمة: عبده ص 244، الموسوعة الفقهية ط. تمهيدية، نموذج (3) ص230، انظر ص157 من هذه الرسالة.(7/31)
الحالة الثانية: جريان التحويل بأكثر من عملة واحدة ؛ بأن يدفع الشخص طالب التحويل قيمة الحوالة إلى مصرف بعملة محلية، أو بالخصم من حسابه الجاري، ثم يطلب تحويلها إلى بلد آخر بعملة أخرى، والعادة المتبعة في المصارف في مثل هذه الحالة أن المصرف يتسلم النقود المحلية من طالب التحويل، أو لا يتسلمه إن كان له حساب جارٍ، ثم يسلم طالب التحويل شيكاً يتضمن حوالة على مصرف آخر بمبلغ يعادل هذا من النقود المطلوبة، أو يسلمه إشعاراً بأن المصرف قد أبرق للمصرف الآخر المحوَّل إليه (بفتح الواو) بسداد المبلغ المحوَّل فوراً للمستفيد(1).
وبالنظر إلى هذه المعاملة، كما هي جارية في المصارف، يظهر أن فيها اجتماعاً لعمليتين:
الأولى: عملية الصرف: وهي بيع نقد بنقد، وذلك عند تسلم المصرف من طالب التحويل قيمة المبلغ المراد تحويله، أو بيع على ما في الذمة ـ أي ذمة المصرف ـ إن كان من الحساب الجاري للعميل، وذلك على أساس سعر الصرف السابق مع ربح فرق السعرين
__________
(1) موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة: عبد الله العبادي ص 335.(7/32)
الثانية: تحويل المبلغ الذي تم صرفه: وذلك بمقتضى الشيك الذي تسلمه طالب التحويل، والذي يتضمن أمراً للمصرف المحوَّل إليه في البلد الآخر بدفع مضمونه إلى المحول إليه، أو بمقتضى الإشعار بأن المصرف قد أبرق للمصرف المحول عليه.
ولا يخفى من خلال الدراسة السابقة في الحوالة والسفتجة ما يلي:
إن الحوالة في الصرف لا تجوز إلا إذا كان المال المحال عليه مقبوضاً في المجلس، فإن لم يدفع المحال عليه في المجلس قبل افتراق المتعاقدين بطل الصرف.(7/33)
إن اشترط الدائن أو الدافع في السفتجة على محررها أن يوفي المبلغ بعملة أخرى غير جائز(1)، والسبب في هذا كله أن للصرف عند اختلاف النقدين جنساً شرطاً ؛ وهو التقابض في مجلس العقد، هذا في النقود المعدنية (الذهب والفضة)، كما هو معروف عند الفقهاء، وكذلك في النقود الورقية في هذا العصر، على اعتبار أن كل عملة جنس مستقل بنفسه، يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى(2)
__________
(1) انظر ص 152 من هذه الرسالة.
(2) الأوراق النقدية في صورتها الحالية لم تكن معروفة لدى الفقهاء القدامى، ولم تذكر في مصنفاتهم، ولمّا انتشرت هذه النقود في البلاد الإسلامية، وجرى التعامل بها، بحثها العلماء المعاصرون، واختلفوا في حكم التعامل بها ؛ كالتالي:
فمنهم من اعتبرها سندات دين في ذمة مُصدرها، وليست أموالاً ولا أثماناً، وعلى ذلك فالذي يدفع لغيره ورقة من هذه الأوراق، لا يدفع إليه مالاً، إنما يحيله على مديون له، وهو الذي أصدر تلك الورقة (الحكومة)، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، وبالتالي فلا يجوز أن يشترى بها ذهباً أو فضة أصلاً ؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، ويشترط في الصرف التقابض في المجلس، والقبض على هذه الأوراق لا يعتبر قبضاً على غطائها من الذهب والفضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط جواز الصرف، فلا تصح العملية، ومستند هذا الرأي أن غطاء هذه الأوراق من الذهب والفضة، وحامل الورقة يستطيع متى شاء تحويلها إلى ذهب أو فضة.
ولكن مع تطور النقود الورقية وانتشارها لم يبقَ وراءها شيء من الذهب والفضة، ولا يمكن تحويلها إلى أحدهما، وبالتالي فلم يعد لهذا الرأي قيمة عملية.
ومنهم من نظر إلى هذه النقود على أنها عرض من عروض التجارة، وعليه فلا ينطبق عليها أحكام الصرف ؛ لأن العقد لم يقع على ذهب أو فضة، لا حقيقة ولا صورة، إنما وقع على قصاصات من الورق.
ولكن الأخذ بهذا الرأي يفتح باب الربا على مصراعيه، ويؤدِّي إلى هدم ركن الزكاة.
ومنهم من نظر إلى هذه الأوراق على أنها بدل لما استُعيضَ عنه، وهما الذهب والفضة، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقاً، فما كان منها متفرعاً من الذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعاً عن الفضة فله حكم الفضة، ويترتب على هذا القول جريان الربا بنوعيه في الأوراق النقدية، كما يترتب وجوب الزكاة.
ولكن هذا الرأي أصبح مخالفاً للواقع بعد أن أصبح غطاء الأوراق النقدية لا يقتصر على الذهب والفضة، بل قد يكون عقاراً أو عملة أخرى أو أوراقاً مالية من أسهم وسندات.
وأخيراً قررت المجامع الفقهية المعاصرة، وهيئة كبار العلماء، أن الأوراق النقدية تعتبر نقداً قائماً بذاته، قام مقام الذهب والفضة ؛ لاختفاء التعامل بهما، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وبالتالي فهي تأخذ حكم النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة من زكاة وكفارة وغير ذلك.
كما قررت أن هذه الأوراق أجناس مختلفة، تتعدد بتعدد وجهات الإصدار في مختلف البلاد، فالنقد السعودي جنس مستقل، والنقد الأردني جنس، والنقد الأمريكي جنس، وبناء عليه لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية نسيئة، كما لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان القبض حالاً أو مؤجلاً، ويجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً إذا كان يداً بيد.
انظر الدورة الثالثة لمجلة مجمع الفقه الإسلامي 1/1685 ـ 1895، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية: المترك ص 319 ـ 342، أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي: عباس أحمد الباز ص 153 ـ 165، النقود واستبدال العملات: علي السالوس ص 25 فما بعدها.(7/34)
، ومن ثَمَّ فإن هذا التعامل (اجتماع الصرف مع الحوالة) غير جائز ؛ لأن المحال عليه الذي بيده بدل الصرف غائب عن المجلس، فلا يتحقق التقابض الشرعي.
فرع: الحلول الشرعية لهذه المسألة (اجتماع الصرف مع الحوالة):
أولاً: أقوال الفقهاء:
تناول الفقهاء والباحثون المعاصرون هذه المسألة، وكانت لهم وجهات نظر مختلفة في تصحيحها، ترجع إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: يرى صحة هذه المعاملة (اجتماع الصرف مع الحوالة)، كما هي على حالها في البنوك، على اعتبار أن الشيك أو الإشعار الذي يتسلمه طالب التحويل هو قبض حكمي قام مقام القبض الحقيقي، ولكن يشترط أن يكون الشيك أو البرقية يحمل نفس التاريخ الذي وقع فيه الصرف (1).
__________
(1) الموسوعة الفقهية ط تمهيدية نموذج 3 ص232.(7/35)
القول الثاني: يرى عدم صحة المعاملة، كما هي جارية في البنوك، والحل الشرعي لها هو أن تُفصل عملية الصرف كعقد بيع عن عملية التحويل، وذلك بأن يجري الصرف في الحال على أساس التقابض الناجز بين الطرفين، ثم يعيد طالب التحويل المال الذي تمّ صرفه إلى المصرف ليتخذ إجراءات التحويل اللازمة، فإذا أراد شخص في غزة مثلاً إرسال ألف دولار إلى ولده في أمريكا، فإن عليه إن لم يكن معه دولارات أن يشتريها بدفع قيمتها دنانير مثلاً، ثم بعد ذلك يتفق مع المصرف لتحويلها(1).
القول الثالث: يرى وجوب جريان الفصل كما في القول الثاني، إلا أنه يجيز القبض الحكمي في الصرف ؛ كأن يتسلم طالب التحويل من المصرف شيكاً يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسليم محتواه أو تحويله(2).
ثانياً: منشأ الخلاف: ويرجع إلى سببين:
__________
(1) أحكام عقد الصرف دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: سالم أحمد سلامة ص427.
(2) الذهب في بعض خصائصه وأحكامه: ابن منيع، مجلة الفقه الإسلامي، الدورة التاسعة 1/101،103، الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية بيت التمويل الكويتي: بدر المتولي 10/89، فتوى 50.(7/36)
الأول: هل القبض الحكمي معتبر في الصرف أم لا؟
الثاني: هل قبض الشيك يقوم مقام قبض محتواه أم لا؟
ثالثاً: الأدلة:
أ ـ أدلة القول الأول:
استدل القائلون بصحة المعاملة كما هي جارية في البنوك على أساس القبض الحكمي بما يلي:
عندما يتسلم طالب التحويل الشيك مثلاً، أو يتسلم الإشعار بأن المصرف المأمور قد أبرق للمصرف المحوَّل إليه (المراسل)، أو اتصل به هاتفياً، وأمر بصرف المبلغ حالاً للمستفيد، فإن القبض يتم حالاً(1) بمجرد الانتهاء من عملية التحويل، وبتاريخ اليوم الذي تم فيه الصرف، وأن طالب التحويل يستطيع في اليوم نفسه أن يذهب للجهة المحول عليها، ويقبض المبلغ بدون تأخير.
أما إذا قام المصرف بتأريخ الشيك بعد شهر، أو أبرق إلى المصرف الآخر بتسليم طالب التحويل المبلغ بعد شهر مثلاً، فلا يجوز ذلك لكونه لا يعتبر قبضاً ؛ حيث إن تاريخ القبض قد تأخر(2).
__________
(1) المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي: محمد عثمان شبير ص 235.
(2) 5 موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة: عبد الله العبادي ص 336.(7/37)
القياس على ما كان يحصل من عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ عندما كان يأخذ النقود من التجار بمكة، فيكتب سفتجة لهم إلى الكوفة أو البصرة، فإن ما يحصل اليوم من أخذ البنك النقود من طالب التحويل وتسليم شيك، بشرط أن يكون الشيك بتاريخ اليوم وسعر صرف اليوم، وهو عين ما كان يفعله ابن الزبير، فإن قبض الشيك يقوم مقام قبض محتواه، فهو كالنقود(1).
الاستدلال بقول شيخ الإسلام ابن تيمية " الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع، كالصلاة والصيام والحج، وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق "(2) وقوله " المرجع في القبض إلى عرف الناس وعادتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات "(3).
فإذا كان القبض مرده إلى العرف، فالشيك هو الذي تعارفت المصارف على نقل ملكية النقود به، وإذا تعارف الناس على نقل هذه الملكية بالتلكس، أو الفاكس، أو البريد الإلكتروني مثلاً، فإن هذا يكون قبضاً في عرفهم.
__________
(1) 5 النقود واستبدال العملات دراسة وحوار: علي السالوس ص 164.
(2) مجموع الفتاوى: ابن تيمية 29/448.
(3) مجموع الفتاوى: ابن تيمية 29/20.(7/38)
ويمكن أن يتوصل الناس إلى وسائل أخرى تنتقل بها ملكية النقود، فتقوم هذه الوسائل مقام قبض النقود ذاتها(1).
ب ـ أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بوجوب انفصال عملية الصرف عن التحويل، على أن يكون الصرف على أساس التقابض الناجز، بما يلي:
1 ـ ما رواه مسلم في صحيحه عن مالك بن أوس أنه قال: "أقبلت أقول من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله (وهو عند عمر بن الخطاب): أرنا ذهبك، ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطِك ورِقك، فقال عمر بن الخطاب: كلا، والله، لتعطينه ورِقه، أو لتردنَّ إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الورِق بالذهب، رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء "(2).
__________
(1) النقود واستبدال العملات: السالوس ص164.
(2) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، 15 باب الصرف وبيع الذهب بالورِق نقداً، ح1586، 3/1209 ـ 1210.(7/39)
وجه الدلالة: إن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنكر على طلحة فعله، وبين له حقيقة القبض، وقد قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم (هاء وهاء)، خذ وهات، كناية عن التقابض في المجلس، فهذا هو القبض الشرعي في الصرف خذ وهات حتى لا يكون فيه تأخير، فلو كان هناك قبض آخر لذكره(1).
2 ـ " إن صح اعتبار الشيك قبضاً بالنسبة للحوالة، فلا يمكن اعتبار ذلك قبضاً بالنسبة للصرف الشرعي ؛ لأن شرط جواز الصرف التقابض في المجلس، والشيك في حد ذاته ليس هو مقابل بدل الصرف، بل نائباً عنه، ويلزم لقبض قيمة ما أثبت فيه مفارقة المجلس قبل القبض الحقيقي للنقود، فلا يقوم مقام بدل الصرف في المجلس، فلا يعتبر قبضه قبضاً في الصرف "(2).
ج ـ أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بوجوب الفصل بين عملية الصرف وعملية التحويل، وأنه يكفي القبض الحكمي في الصرف بما يلي:
استدلوا على وجوب الفصل بالأدلة العامة التي تفيد عدم جواز بيع الحاضر بالغائب في الصرف، والتي استدل بها أصحاب القول الثاني.
__________
(1) النقود واستبدال العملات: علي السالوس ص60.
(2) أحكام عقد الصرف: سالم سلامة ص427، بتصرف.(7/40)
استدلوا على أنه يكفي القبض الحكمي في الصرف بما استدل به أصحاب القول الأول من أن قبض الشيك أو نحوه قائم مقام بدل الصرف، ولكن بشروط ثلاثة كالتالي:
أن يكون الشيك مؤرخاً بتاريخ اليوم التي تمَّ فيه الصرف.
أن يكون المسحوب عليه مليئاً يستطيع أن يفي بقيمة المبلغ المحوَّل إليه.
أن يكون الشيك مكتوباً بكامل المبلغ الذي تمَّ الاتفاق عليه(1).
رابعاُ: مناقشة الأدلة:
أ ـ مناقشة أدلة القول الأول:
نوقشت أدلة القائلين بصحة اجتماع الصرف مع الحوالة كما هي على حالها في البنوك من وجهين:
الوجه الأول: إن قابض الشيك أو الإشعار قد يتأخر عن تقديمه إلى المصرف، وقد يزيد السعر أو ينقص في هذه الفترة قليلاً، فيتضرر أحدهما، فلا يتحقق الوصف الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترّقا، وبينكما شيء "(2)
__________
(1) النقود واستبدال العملات: السالوس ص97.
(2) حكم قبض الشيك، وهل هو قبض لمحتواه: ابن منيع، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة 1/699، وتقدم تخريج الحديث في ص155 من هذه الرسالة.(7/41)
ويجاب عن هذا الوجه من الاعتراض: بأن المصرف المراسل أو فرعه مستعدان للوفاء بقيمة الشيك أو بمقتضى الإشعار، طالما أن الشيك أو البرقية تحمل تاريخ اليوم الذي تمّ فيه الصرف، وإن تأخر في تقديمه ؛ فإن هذا التأخير ليس من عمل المصرف، بل هو من عمل العميل، كما أن التأخير لا يكون إلا لمصلحة أو لعذر(1).
الوجه الثاني: إن قبض الشيك ليس في قوة قبض محتواه ؛ لأن التصرف الذي يملكه حامل الشيك من قبض محتواه هو نهائي، في حين أن قابض الشيك يمارس عند قبض الشيك بعض التصرفات، وهي الموقوفة على الوفاء الفعلي، وقد يكون الشيك بدون رصيد، وبذلك يظهر الفارق(2).
__________
(1) 6 حكم قبض الشيك، وهل هو قبض لمحتواه: ابن منيع، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة 1/699، موقف الشريعة الإسلامية من المصارف الإسلامية: عبد الله العبادي ص 337.
(2) 6 حكم قبض الشيك، وهل هو قبض لمحتواه: ابن منيع، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة السادسة 1/698(7/42)
الجواب عن هذا الاعتراض: بأن هذا الفرق لا يؤثر في الإلحاق ؛ حيث إن قبض المحتوى (النقد) هو الآخر ليس بالنهائي ؛ إذ قد يكون مزوراً أو معيباً ؛ بل إن مخاطر الشيك بدون رصيد قد تقل عن مخاطر الأوراق النقدية المزيفة ؛ من حيث إن النقود لا يمكن معرفة أول من زَوَّرها ؛ لأنها تتداول بالمناولة، في حين أن الشيك يتداول بطريق يتمكن فيه من معرفة من تداوله، حيث إن كثيراً من الدول تفرض عقوبة جنائية على محرر الشيك بدون رصيد، وهذه العقوبة تقف حاجزاً لمُصدره بدون رصيد، وعلى ذلك يمكن القول بأن مسئولية ساحب الشيك عن صدق محتواه يشبه ضمان الدول للأوراق النقدية التي تصدرها، وما بينهما من فروق لا يؤثر في الإلحاق(1).
ب ـ مناقشة أدلة القول الثاني:
نوقشت أدلة القائلين بعدم صحة القبض الحكمي في الصرف من وجوه ثلاثة:
1 ـ إنه لا يستقيم الاستدلال بالقياس على موقف سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ؛ لأن سيدنا عمر أراد من المتصارفين أن لا يتفرقا إلا عن قبض، وهنا لا تفرق إلا بقبض الشيك(2)
__________
(1) المرجع السابق 1/698، 699.
(2) النقود واستبدال العملات: علي السالوس ص98.(7/43)
2 ـ قولهم إن القبض الشرعي هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " خذ وهات "، ولو كان هناك قبض آخر لذكره.
ويجاب عنه: بأن القبض ليس له حد شرعي، وأن مرده إلى عرف الناس واصطلاحهم، كما دلّ على ذلك كلام ابن تيمية السابق الذكر(1).
3 ـ ونوقش قولهم بأن الشيك في حدّ ذاته ليس هو مقابل بدل الصرف ؛ بل نائب عنه: "بأن غاية القبض إنما هو إثبات اليد، فإن كان ذلك حاصلاً فلا ينظر إلى الشكل في المبادلة، لذلك فقد أجاز الفقهاء الصرف إذا كان في الذمة، كما في مسالة اقتضاء الدين، سواء كان أحدهما ديناً والآخر نقداً(2)، أو كان المبلغان عبارة عن دينين في ذمة كل من المتصارفين، ثم تطارحا صرفاً"(3)
__________
(1) انظر ص182 من هذه الرسالة.
(2) تطور الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية: حمود ص315 بتصرف.
(3) ذهب الحنفية والمالكية، والسبكي من الشافعية، وابن تيمية من الحنابلة إلى أنه لو كان في ذمة آخر دنانير وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتيهما ؛ فإنه يصح ذلك في الصرف، ويسقط الدينان قصاصاً، دون حاجة إلى التقابض الحكمي الذي هو بمنزلة القبض الحقيقي، حيث إن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم الجواز ؛ لأنه بيع دين بدين.
الراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بالصحة ؛ لأن ما في الذمة كالحاضر.
انظر تبيين الحقائق: الزيلعي 4/140، التمهيد ابن عبد البر 16/9، تكملة المجموع: السبكي 10/108، المغني: ابن قدامة 4/53، كشاف القناع: البهوتي 3/257 الاختيارات الفقهية: ابن تيمية ص128.(7/44)
.
خامساً: القول الراجح:
يبدو لي أن الراجح هو القول الثالث، وهو أنه يجب الفصل بين عملية الصرف وعملية التحويل، ويكفي القبض الحكمي في الصرف باعتباره حلاً وسطاً بين القولين السابقين، إذ إن القول الأول الذي يصحح ـ المعاملة كما هي جارية في البنوك ـ، فيه دفاع عن شرعية أعمال هذه البنوك، والمصارف، دون النظر إلى العملية من الناحية الشرعية.
وفي القول الثاني القائل بضرورة التقابض الحقيقي في مجلس العقد، تعسير على الناس، وإعاقة لسير الحركة التجارية ؛ إذ إن القبض الميسر في عصرنا هو الذي يكون في معنى الحس، كقبض الشيك، وليس هناك من النصوص الشرعية ما يمنعه، لا سيما وأن الشارع لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان.
وبناء عليه إذا تم إجراء عملية الصرف أولاً ؛ بأن يتسلم طالب التحويل المبلغ الذي يريد تحويله حسياً، أو في معنى الحس، يصير الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحالة الأولى من كون التحويل يجري بنقد واحد معين فتكون سفتجة، وغاية الأمر أن العملية تكون صرفاً و سفتجة.(7/45)
4 ـ بالنسبة للوجه الرابع: وهو أن طالب التحويل يدفع عمولة للمصرف في مقابل عملية التحويل، بخلاف السفتجة التي تجري دون أجر.
فنقول: إن أخذ المصرف عمولة على القيام بعملية التحويل لا يؤثر على تكييفها بأنها سفتجة ؛ لما يلي:
إن اشتراط أخذ العمولة فيه نفع للمصرف الذي هو مدين أو مقترض (للمقرض أو الدائن)، واشتراط النفع للمدين أو المقترض لا ظلم فيه، بل فيه مصلحة وزيادة إرفاق به، وليس ثمَّ نص أو إجماع يمنع من ذلك.
يمكن تخريج العمولة في القرض ـ على رأي بعض الحنابلة، وأحد الوجهين عند الشافعية ـ على أنه يجوز للمقرض أن يشترط على المقترض الوفاء بأنقص مما أخذ، كأن يقول له: (أقرضتك مائة دينار على أن تردها تسعة وتسعين)، وإنما جاز ذلك على أنه زيادة إرفاق بالمقترض، وليس للإرفاق حد للوقوف عليه.
قال ابن قدامة المقدسي: " إن شرط ردّ دون ما أخذ لم يجز ؛ لأنه ينافي مقتضاه، وهو رد المثل، فأشبه شرط الزيادة. ويحتمل ألا يبطل ؛ لأن نفع المقترض لا يمنع منه، لأن القرض إنما شرع رفقاً به، فأشبه شرط الأجل بخلاف الزيادة "(1).
__________
(1) الكافي: ابن قدامة المقدسي 2/125.(7/46)
وجاء في المهذب " فإن شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز ؛ لأن مقتضى القرض رد المثل، فإذا شرط النقصان عمّا أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه، فلم يجُز، كما لو شرط الزيادة، والثاني: يجوز ؛ لأن القرض جُعل رفقاً بالمستقرض، وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه، فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه، فجاز"(1).
إن هذه العمولة بدل المؤنة التي يتكبدها المصرف مقابل قيامه بأداء عملية التحويل، والمؤنة التي يتحملها المصرف تتمثل في:
في الوقت والجهد الذي يبذله موظفوه وعماله في تأدية هذه العملية، ويحصلون على رواتب وأموال لا ترتبط بالعمل قلة وكثرة.
ومن تلك الإجراءات.
إجراء القيود المحاسبية اللازمة لعملية النقل، حيث إن المصارف أقامت القيود المحاسبية مقام النقل الحسي للنقود.
__________
(1) المهذب: الشيرازي 1/304.(7/47)
توسيط مصرف أو فرع له في مكان الوفاء، ويقوم هذا المصرف أو الفرع بعدة إجراءات منها: إضافة المبلغ المحول إليه في حساب المستفيد، بعد أن يشعره المصرف الآمر بذلك، ومنها القيام بالوفاء أو السداد عن طريق الاتصال بالمستفيد، أو التقييد في حساب المستفيد وإشعاره بذلك، ومنها تقييد المال المحول إليه في حساب البنك الآمر، حتى يتم تسوية الحسابات بينهما فيما بعد (1).
وقد ورد إباحة أخذ الأجرة على كتابة الوثائق والرسائل على لسان الفقهاء: فقد جاء في الدر المختار " يستحق القاضي الأجر على كتب الوثائق والمحاضر والسجلات، قدر ما يجوز لغيره كالمفتي، فإنه يستحق أجر المثل على كتابة الفتوى؛ لأن الواجب الجواب باللسان دون الكتابة بالبنان "(2).
وسُئل الإمام مالك عن استئجار الكاتب ليكتب شعراً، أو نوحاً، أو مصحفاً فقال: " أما كتابة المصحف فلا بأس بذلك "(3).
__________
(1) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية، وموقف الشريعة الإسلامية منها: عبد العال ص 175.
(2) 7 الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين 9/127.
(3) 7 المدونة الكبرى: مالك 3/397.(7/48)
وجاء في كشاف القناع " ويجوز استئجار ناسخ ينسخ له كتب فقه، أو حديث، أو شعراً مباحاً، أو سجلات " وقال في موضع آخر " يدخل أيضاً تبعاً حبر ناسخ وأقلامه في استئجار على نسخ " وقال أيضاً " ويجوز نسخه أي للمصحف بأجره ؛ لأنه عمل مباح مقصود "(1).
فإذا جاز أخذ الأجرة على مجرد الكتابة فكيف بالإجراءات الكثيرة ذات الكلفة المالية الباهظة؟
إن البنك يتخذ مقراً، فهو منشأة مبانٍ وأثاث وآلات كثيرة، ويحتاج إلى مصروفات كهرباء ومياه ووسائل اتصال سلكي ولا سلكي، ورواتب موظفين وعمّال، فلو لم يأخذ عمولة لعجز عن تغطية تلك النفقات.
أما المقرض أو المدين في السفتجة فهو لا يقوم بأي عمل، ولا يتكبد أية مؤنة، فلو كان مسافراً فهو مسافر لحاجة نفسه، وربما تاجر بالقرض، فيربح من ورائه، وإن كان غير مسافر فإنه لا يتكلف سوى كتابة السفتجة، وتكليف المكتوب إليه بالوفاء(2).
__________
(1) كشاف القناع: البهوتي 4/9، 3/553، 555.
(2) العقود الشرعية الحاكمة: عيسى عبده ص251.(7/49)
ويؤيد ذلك، ما ذكره صاحب المغني من أن الفقهاء إنما كرهوا اشتراط السفتجة في القرض لاحتمال أن للشيء المستقرض مؤنة إلى ذلك البلد المشروط الوفاء فيه، ولذا استثنوا ما لا مؤنة لحمله(1)، فإذا ارتفعت هذه المؤنة التي كره الفقهاء السفتجة لأجلها ؛ بأن دفع المقرض للمستقرض بدلها فقد زال موجب الكراهة.
مسألة: ضوابط الأجرة المأخوذة على عملية التحويل المصرفي:
حتى تكون العمولة التي يتقاضاها المصرف نظير قيامه بعملية التحويل جائزة شرعاً،
لا بد أن يتوفر فيها الضوابط التالية:
أن تكون معلومة علماً يرفع الجهالة المؤدية إلى النزاع، وهذا شرط عام في كل أجرة(2).
__________
(1) المغني: ابن قدامة 4/260.
(2) الاختيار:ابن مودود 2/507، المقدمات الممهدات: ابن رشد 2/166، الإنصاف: المرداوي 6/10.(7/50)
لا بد من ربطها بالخدمة المؤداة طبقاً للعناء والجهد المبذول، فإن كانت الخدمة كالمراجعة والرصد في الدفاتر تختلف باختلاف المبلغ المحول قلة وكثرة، فيجوز للمصرف أن يرفع الأجرة تبعاً لذلك، ولا مانع في هذه الحالة من أن يكون الأجر على أساس النسبة في المائة، أو في الألف، أو على أي أساس آخر يكون فيه الأجر معلوماً(1)، أما إذا كانت الخدمة لا تختلف باختلاف المبلغ، فلا يجوز للبنك أن يرفع الأجرة ؛ لأنه يكون تقاضى أجراً من غير مقابل(2).
يجب أن لا يكون استحقاقها متكرراً في أداء الخدمة الواحدة ؛ لأن ربوية العمولة تتقرر بمجرد التكرار، أما إذا تعددت الخدمة، أو استوجب ذلك تكراراً نظراً للجهد والعناء المبذول، فإن الأجرة أو العمولة تتكرر بذلك(3).
__________
(1) الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، بيت التمويل الكويتي: بدر المتولي، فتوى رقم 150، 2/85.
(2) حاشية رد المحتار: ابن عابدين 9/127، الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، بيت التمويل الكويتي: بدر المتولي 2/85، فتوى رقم 150.
(3) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة الإسلامية منها:رضوان عبد العال ص178.(7/51)
وكثيراً ما يحصل في بعض المصارف أن طالب التحويل يتقدم إلى المصرف طالباً منه تحويل مبلغ إلى بلد معين، يتقاضى عليه عمولة عند الطلب، ثم إن المصرف المراسل في البلد الآخر يتقاضى عمولة على نفس المبلغ، وفي ذلك تكرار للعمولة لا موجب له، فهذا لا يجوز شرعاً.
5 ـ بالنسبة للوجه الخامس: وهو أن التحويل المصرفي يجري بطريق القيد الحسابي بين المصرفين القائمين بعملية التحويل لإجراء المقاصة فلا ينتظم فرقاً، إذ إن القيد الحسابي ما هو إلا نوع من أنواع التوثيق بالكتابة، ومشروعية التوثيق بالكتابة ثبت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين:
أولاً: الكتاب: ومنه قوله ـ تعالى ـ (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمىً فاكتبوه، وليكتبْ بينكم كاتبٌ بالعدلِ … … (1).
وجه الدلالة: إن الله ـ تعالى ـ حثّ عباده على كتابة الديون الآجلة ؛ ليكون ذلك أحفظ لمقدارها، وأضبط لوقتها، وأن يختص بالكتابة كاتب عدل، يثبت جميع البيانات الجوهرية.
ثانياً: السنة:
__________
(1) سورة البقرة الآية 282.(7/52)
1 ـ إن الرسول صلى الله عليه وسلم باع وكتب، فقد أخرج الترمذي في صحيحه عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العدّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت بلى، فأخرج لي كتاباً " هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول لله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبداً أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خِبثة، بيع المسلم المسلم "(1).
__________
(1) 8 سنن الترمذي، كتاب البيوع، 8 باب، ما جاء في كتابة الشروط،ح1220، 3/8، وقال عنه الترمذي هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبّاد بن ليث، والداء: المرض الداخلي الذي لا يعلمه البائع، والغائلة: الحيلة لسلب المال، والخبثة: الأخلاق السيئة. انظر: تحفة الأحوذي: المباركفوري 4/47.(7/53)
2 ـ وكذلك ما أخرجه البخاري عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: " لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بينهم كتاباً، فكتب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولاً لم نقاتلك، فقال لعلي: (امحه)، قال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام … الحديث "(1).
3 ـ وكذلك أمر بكتابة الوصية فقال صلى الله عليه وسلم " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده "(2).
فهذه الشواهد من السنة تدل على مشروعية الكتابة.
__________
(1) 8 صحيح البخاري، كتاب الصلح، 6 باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، ح2698، 3/223.
(2) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، 1 باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة عنده)ح2738، 3/245.(7/54)
ثالثاً: الإجماع: إنه قد وثّق الناس معاملاتهم بالكتابة من لدن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، حتى إن الكتابة قد احتلت الصدارة في وسائل الإثبات في العصر الحديث، بعد أن نهض العلم بها وعليها، وعرف الناس كثيراً من أسرارها(1).
وما القيد الحسابي الذي تقوم به البنوك في معاملاتها مع بعضها البعض إلا نوع من التوثيق المشروع، وفي السفتجة يلحظ أن المكتوب إليه (مؤدِّي مال السفتجة) كان يطلب من المؤدَّى إليه (المكتوب له) أن يكتب له كتاب استيفاء، فيكتب له بذلك كتاباً، ثمَّ يوثقه بالتاريخ، ويكتب ما يدل على أنه قد استوفى مال السفتجة تاماً كاملاً من المكتوب إليه(2)، ومثل هذا الكتاب يعتبر وثيقة تثبت للمؤدي حق الرجوع على كاتب السفتجة ببدل المال الذي دفعه إليه بموجب السفتجة، فيكون ذلك بمثابة القيد الحسابي الذي تجرية المصارف
__________
(1) التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة الإسلامية منها: عبد العال ص132 ـ 134.
(2) الشروط الصغير: الطحاوي 2/563.(7/55)
لإثبات خط رجوع بعضها على بعض(1).
أما بالنسبة لحصول المقاصّة بين الدينين فقد قدمت أن العلاقة بين المصرفين قد تكون على أساس الحوالة أو على أساس الوكالة، وهو الغالب، وفي كلتا الحالتين فإن المقاصّة تجري بين الدينين، ويسقط الدينان إن كانا متساويين في المقدار، فإن تفاوتا في المقدار فإنه يسقط من الأكثر بقدر الأقل، وتبقى الزيادة، فيكون أحدهما مديناً للآخر بما زاد، وتقع المقاصّة بالقدر المشترك(2)، وهذا ما كان يحصل في معاملة السفتجة والحوالة بين المحيل أو محرر السفتجة، وبين المحال عليه أو المكتوب إليه في السفتجة.
رأي الباحث:
__________
(1) فهذا يدل على أن ما جاء في الشريعة يطابق ما جاء في القانون الوضعي من ضرورة الإثبات بالكتابة، بل إن الشريعة الإسلامية ذهبت إلى أكثر من الكتابة، وهو ضرورة إشهاد شاهدين من الرجال، أو على الأقل إشهاد رجل وامرأتين، وهذا مبالغة في الحرص على حقوق العباد، وتفادي المنازعات.
(2) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد ص259.(7/56)
من خلال ما سبق بيانه يبدو لي أن عملية التحويل المصرفي أو البريدي ما هي إلا صورة مستحدثة للسفتجة المعروفة في الفقه الإسلامي، ضُمّت إلى صورتها القديمة، مع بعض الأحكام الجديدة التي استلزمتها طبيعة الحياة المعاصرة.
ويجب التأكد من حصول الشروط الأربعة التالية:
وجوب خلوعملية التحويل من الربا، حتى تكون معاملة جائزة شرعاً، مثل اشتراط الفائدة بأنواعها على المبلغ المحول إذا تأخر دفعه.
خلو عملية الصرف المصاحبة لعملية التحويل من ربا البيوع، إذا كان هناك مصارفة عند الابتداء أو عند الانتهاء بتحقيق التقابض الحقيقي أو الحكمي بين البلدين في
الصرف.
وجوب فصل عملية الصرف عن عملية التحويل، ولو بالقبض الحكمي.
ألاّ يكون استحقاق الأجرة المأخوذة على عملية التحويل متكرراً ؛ إذ إن ربوية العمولة أو الأجرة تحصل بمجرد التكرار كما بينت ذلك آنفاً.
والله أعلم.
---(7/57)
تمهيد:
مرت البشرية بعصر المقايضة(1)، ثم عصر النقود، ثم عصر الائتمان(2) كوسيط للتبادل، وبالائتمان تجري معظم المعاملات في الاقتصاديات الحديثة، والتي يقتصر دور النقود فيها
__________
(1) المقايضة لغة: المبادلة، يقال قايضته به: أي عاوضته عرضاً بعرض. المصباح المنير: الفيومي ص269، وفي الاصطلاح: معاوضة عرض بعرض، أي مبادلة مال بمال كلاهما من غير النقود، وهو بيع السلعة بالسلعة.التعريفات: الجرجاني ص226، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد ص260.
ونظام المقايضة هو أقدم نظام تبادلي مارسته البشرية عند اتصال بعضها ببعض، فكان الإنسان يعطي ما يزيد عن حاجته مما ينتج لقاء الحصول على ما يحتاج إليه من فائض إنتاج الآخرين، ثم مع تطور العلاقات الاقتصادية ظهرت النقود المعدنية كوسيط للتبادل، ثم النقود الورقية في العصر الحاضر.
(2) يعرف عصرنا هذا عند الاقتصاديين بأنه عصر الائتمان، والمقصود بالائتمان منح حق استخدام أو امتلاك السلع والخدمات دون دفع القيمة فوراً، بمعنى التنازل عن مال حاضر مقابل مال مستقبل. موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية: عبد العزيز هيكل ص192.(8/1)
على الصفقات ذات القيم المحدودة، أما الصفات والمعاملات الأساسية في هذه الاقتصاديات فإنها تتم بواسطة الائتمان، وتتم عمليات الائتمان بوسائل قانونية متعددة، يلجأ إليها الأفراد والشركات والدول، ومن أهم الوسائل القانونية للائتمان الأوراق التجارية، وفي مقدمتها الكمبيالة، التي من أهم وظائفها أنها أداة ائتمان، فما هي حقيقتها من الناحية القانونية؟ وما هو تكييفها الشرعي؟
تحقيق الكلام عن ذلك في مبحثين، كالتالي:
المبحث الأول: حقيقة الكمبيالة، وأحكامها القانونية.
المبحث الثاني: التكييف الشرعي للكمبيالة.
وقبل الحديث عن المبحثين المذكورين فهذه قائمة بأهم المصطلحات الواردة في هذا الفصل، أذكرها هنا بسبب غرابتها عن كثير من الدارسين للفقه الإسلامي.
جدول المصطلحات الواردة في هذا الفصل
الساحب محرر الكمبيالة.
المسحوب عليه وهو الشخص الذي يوجِه إليه الساحب أمره بالوفاء بقيمة الكمبيالة (المدين بقيمة الكمبيالة).
المستفيد وهو الدائن بقيمة الكمبيالة، وهو الذي صدر الأمر لصالحه.
المُظَهِّر هو الحامل القديم للكمبيالة.
المُظَهَّر إليه هو الحامل الجديد.(8/2)
الكمبيالة لحاملها هي التي يكون فيها المستفيد شخصاً غير معين.
الكمبيالة الإذنية هي التي يعين فيها المستفيد تعيناً كاملاً.
مقابل الوفاء هو المال الذي يكون للمستفيد عند المسحوب عليه.
القابل هو الذي وقّع الكمبيالة بالقبول (الشخص المسحوب عليه) إما بالختم أو الإمضاء، أو البصمة.
القيمة وصلت يعني أن محرر الكمبيالة قد تسلّم قيمتها من المستفيد.
الحامل هو من انتهت إليه الكمبيالة.
الضامن الاحتياطي هو كفيل أو رهن يضمن الوفاء بقيمة الكمبيالة في ميعاد الاستحقاق.
بروتستو عدم الدفع هي ورقة رسمية من أوراق المحضرين، يثبت فيها الحامل امتناع المسحوب عليه عن الوفاء في ميعاد الاستحقاق، وهي كلمة لاتينية.
المبحث الأول: حقيقة الكمبيالة وأحكامها القانونية
تمهيد: في نشأة الكمبيالة ووظائفها:(8/3)
ارتبط ظهور الكمبيالة ارتباطاً وثيقاً بعملية المبادلة كأساس للتبادل التجاري، وكان نظام المقايضة أول نظام تبادلي مارسته الشعوب فيما بينها، فكان الإنسان يعطي ما يزيد عن حاجاته ممّا ينتج عنده، مقابل الحصول على ما يحتاج إليه من فائض إنتاج الآخرين، ولكن هذا النظام لا يمكن أن يشكل أسلوباً عامّاً للتبادل، حيث إنّه لا يخلو من الصعوبات والمتاعب التي تكمن في الأساس الذي يقوم عليه، فإنه يُفترض وجود طرفين لدى كل منهما السلعة التي يرغب بها الطرف الأخر، بشرط توافرها بالكمية والنوع والقيمة، وقد يكون من المحال توفر مثل هذه الشروط ؛ لذا فقد بدأ الإنسان يفكر في إيجاد وسيط للتبادل يكون أكثر سهولة ومرونة من نظام المقايضة، فظهرت النقود السلعية، حيث يعمد المتعاملون إلى اتخاذ سلعة تلقى قبولاً عامّاً لدى جميع الأفراد، وجعلها المقياس الذي تقوم عليه مبادلة السلع بالأخرى، هذا فضلاً عن أنه يمكن استهلاك هذه السلعة، والنقود السلعية كانت تختلف من مجتمع لآخر حسب اختلاف طريقة العيش، ونوع المنتجات، فالشعوب التي تمارس مهنة الصيد، كانت الجلود هي الأساس الذي تقوم عليه المبادلة، والشعوب التي تعيش على(8/4)
الرعي وتربية الماشية، فإنها تجعل الماشية هي الأساس الذي تقوم عليه المبادلة، ولكن هذه النقود لم تحل مشكلة، إذ إنها لا تصلح في كل المجتمعات، فابتكر الإنسان النقود المصكوكة التي يسَّرت الحصول على أي سلعة في أي مكان، فكان تبادل السلع بالنقود، كما كان تبادل النقود بالسلع(1)، ولما ازداد حجم التبادل التجاري بيعاً وشراء بين البلاد المختلفة، أصبح من غير الميسور على التجار أن ينقلوا في رحلاتهم التجارية المبالغ الكبيرة لتعذر ذلك عليهم، فضلاً عمَّا يواجهونه من أخطار الطريق، فكان اهتداؤهم إلى الكمبيالة (السفتجة القانونية) باعتبارها إحدى الوسائل التي حققت لهم الأمان في الحِلِّ والترحال، دون حاجة لحمل نقودهم(2).
__________
(1) مدخل إلى اقتصاديات النقود والصيرفة: محمود يونس، وعبد المنعم مبارك ص 2 فما بعد، النقود والسياسات النقدية: أحمد دويدار ص4 فما بعد، النقود والصيرفة والسياسات النقدية: عبد المنعم مبارك ص4 فما بعد.
(2) قانون المعاملات التجارية: مختار أحمد بريري، ص3 ـ 8.(8/5)
وقد بدأ ظهور الكمبيالة كأداة لتنفيذ عقد الصرف، وذلك عن طريق قيام التاجر بدفع مبلغ معين من النقود إلى صيرفي، في مقابل صك يسحبه الصيرفي على عميله في بلد آخر، يتضمن أمراً موجهاً إلى زميله الذي يمارس أعمال الصيرفة بدفع مبلغ معين من النقود، وبالعملة الأجنبية لأمر التاجر في السوق الذي سافر إليها، ويُسمى (عقد الصرف المسحوب)(1)، وهو الذي يقابل الصرف اليدوي الذي يكون بطريق المبادلة يداً بيد، بنقود من نوع آخر في البلد المعين، هكذا كانت الكمبيالة تؤدي وظيفة واحدة، وهي مبادلة نقود مع تسليم هذه النقود في مكان آخر(2).
__________
(1) المسحوب: يعني مسحوب على شخص آخر معين، وهو عادة ما يكون في بلد آخر.
(2) لكن وظيفة الكمبيالة كأداة لتنفيذ عقد الصرف قد قلّ في الوقت الحاضر نتيجة لاستخدام الشيك والحوالات المصرفية. الأوراق التجارية: بارود ص 8.(8/6)
ثم تطورت الكمبيالة حتى أصبحت أداة الوفاء بالديون عوضاً عن النقود في الداخل والخارج، ثم انتهت لتكون أداة ائتمان ؛ أي أنها في الغالب تكون واجبة الدفع في أجل قصير، بمعنى أنها تتضمن أجلاً للوفاء بها، والأجل في المعاملات التجارية له أهمية كبيرة، من حيث إنّ التاجر يستطيع أن يشتري بضاعة، أو يحصل على مال، مقابل تحويل حقه الثابت في الكمبيالة إلى آخر، وهكذا يمكن أن تنتقل الكمبيالة من دائن لآخر إلى حين استحقاقها، كما يمكن أن يتم تسوية عدة علاقات دائنية ومديونية دون أن يتمّ الوفاء نقداً إلا مرة واحدة(1).
__________
(1) الأوراق التجارية: حمدي بارود ص 8 ـ 10، الأوراق التجارية: سميحة القليوبي ص 15 ـ 19، القانون التجاري، الأوراق التجارية: صفوت ناجي بهنساوي ص 24 ـ 27.(8/7)
وقد ذكر معظم شراح القانون أن الكمبيالة نشأت نشأة عرفية في محيط التجار، وليس من ابتكار المشرع القانوني، الذي اقتصر دوره على تقنين الأعراف التجارية، وحماية التعامل بها، فهي بذلك ليست وليدة مشرع واحد، أو اختراع رجل من رجال الأعمال، بل هي وليدة جهود مشتركة ساهمت فيها الأمم منذ أقدم العصور(1).
وفيما يلي أعرض الكمبيالة بإيجاز من حيث تعريفها، ومقارنتها بغيرها من الأوراق التجارية الأخرى، وبعض الأحكام المتصلة بها، من مثل تداولها بالمناولة، والتظهير مقابل الوفاء، والقبول والامتناع عنه، ثم التضامن، ثم الضمان الاحتياطي، وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: تعريف الكمبيالة
هي صك محرر أو مكتوب وفقاً لأوضاع معينة حددها القانون، ويتضمن أمراً من الساحب (محرر الصك) إلى المسحوب إليه، طالباً منه دفع مبلغ معين في تاريخ محدد، أو قابل للتحديد لإذن ثالث، وهو المستفيد، أو حامل الصك، ويذكر أن القيمة وصلت، ويوضع عليه تاريخ السحب(2).
__________
(1) الأوراق التجارية: بريري ص 3 ـ 8.
(2) الأوراق التجارية: القليوبي ص 27، القانون التجاري / الأوراق التجارية: بهنساوي ص 12.(8/8)
والكمبيالة في القانون الفلسطيني تعرف بالسفتجة(1)، وقد عرفتها م 84 فقرة أ من مجموعة القوانين الفلسطينية بأنها " تعهد تحريري بالدفع من شخص لآخر غير مقيد بشرط، موقع ممن أصدره، يتعهد بموجبه أن يدفع حين الطلب، أو في ميعاد محدود، أو قابل للتحديد، مبلغاً معيناً من المال لشخص معين أو لأمره أو للحامل"(2).
ومن خلال هذا التعريف تتضح الأمور التالية:
إن الكمبيالة لابد أن تكون مكتوبة: فالكتابة تعتبر شرطاً ضرورياً لوجودها، ولنشوء الالتزام فيها، وترجع الحكمة من طلب كتابة الكمبيالة، إلى تسهيل إثبات ما اتفق عليه الطرفان فيها، والعمل على سهولة تداولها.
تتضمن الكمبيالة عند إنشائها ثلاثة أشخاص ؛ وهم:
السّاحب: وهو الذي يحرر الصك، ويعطي الأمر، أي أنه مُنشئ الكمبيالة.
__________
(1) وكذلك تُعرف الكمبيالة بهذا الاسم "السفتجة" في قوانين بعض الدول ؛ كالقانون اللبناني والسوري، الالتزام الصرفي: أمين بدر ص 21.
(2) 1 مجموعة القوانين الفلسطينية: مازن سيسالم ص 4 ـ 55.(8/9)
المسحوب عليه: وهو المأمور بالدفع، أو الذي صدر الأمر إليه بالدفع، وقد يكون المسحوب عليه أكثر من واحد، ولا يلزمه الوفاء إلا بعد التوقيع.
المستفيد أو الحامل: وهو الذي يصدر الأمر أو الإذن لصالحه، وهو الذي يتلقى الوفاء من المسحوب عليه، فإن كان شخصاً معيناً، سُمي (المستفيد)، وسُميت الكمبيالة (إذنيه)، وإن كان شخصاً غير معين، سُمي (الحامل)، وسميت الكمبيالة (لحاملها)(1).
إن الكمبيالة تنطوي على علاقتين حقوقيتين:
علاقة الساحب بالمسحوب عليه: حيث إنّ إصدار الأمر بالدفع من الساحب إلى المسحوب عليه أساسه علاقة سابقة بينهما، وهي أن يكون الساحب دائناً للمسحوب عليه بمبلغ من النقود، مستحق الوفاء في ميعاد الاستحقاق المذكور في الكمبيالة، وهو ما يُطلق عليه (مقابل الوفاء) ويترتب على حصول الوفاء من المسحوب عليه انقضاء علاقة المديونية التي بينه وبين الساحب، ومتى قبل المسحوب عليه الكمبيالة، نشأت العلاقة بينه وبين المستفيد أو الحامل، وأصبح المسحوب عليه هو المدين الأصلي.
__________
(1) 1 الالتزام الصرفي: أمين محمد بدر ص 25.(8/10)
علاقة الساحب بالمستفيد: تحرير الكمبيالة من الساحب لصالح المستفيد أساسه علاقة المديونية بين الاثنين، حيث إنّ الساحب سبق وأن قبض منه ما يعادل قيمة الكمبيالة في شكل نقود أو بضاعة، وقد يكون سبب المديونية حساباً جارياً بينهما، وتسمى هذه العلاقة اصطلاحاً وصول القيمة(1).
المطلب الثاني: البيانات الواجب إثباتها في الكمبيالة
حتى تقوم الكمبيالة بوظيفتها في الحياة الاقتصادية على الوجه الأكمل، لابد أن تشتمل على البيانات التالية:
تاريخ تحرير الكمبيالة: ويكون باليوم والشهر والسنة، سواء كان بالأرقام أو الحروف أو بهما معاً، في أي موضع فيها.
مبلغ الكمبيالة: ولابد أن يكون مبلغاً من النقود، ولا يجوز التعهد بشيء آخر، كتسليم بضاعة، أو القيام بخدمة أو خلاف ذلك، ويجب أن يكون محدداً تحديداً نافياً للجهالة، كما يجب أن يكون المبلغ واحداً، فلا يجوز أن تشتمل الكمبيالة على مجموعة مبالغ أو ديون.
وقت الاستحقاق: أي تاريخ الوفاء، ويكون وقت الاستحقاق بإحدى الطرق التالية:
__________
(1) الالتزام المصرفي: أمين محمد بدر، ص22.(8/11)
أن تكون مستحقة الدفع بمجرد الاطلاع: ففي هذه الحالة تكون واجبة الدفع بمجرد تقديمها للمسحوب عليه.
قد تكون مستحقة الدفع بحلول أجل معين: فيذكر مثلاً: ادفعوا بعد خمسة عشر يوماً من الاطلاع، وقد يذكر فيها تاريخ معين للدفع، ادفعوا في أول يناير 1999، وقد يذكر فيها ادفعوا بعد ثلاثة شهور من تاريخه، أي من تاريخ تحريرها(1).
شرط الإذن أو لحاملها: الكمبيالة قابلة للتداول، فيجب أن تحمل شرط الإذن، كعبارة ادفعوا لأمر، أو ادفعوا لفلان، أو لمن تُظَهَّر إليه، حيث يمكن تداولها بالتظهير كما سيأتي إن شاء الله في المطلب الرابع(2) وإذا خلت الكمبيالة من شرط الإذن وجب أن تكون لحاملها، مثل ادفعوا لحامل هذه الكمبيالة، حيث يمكن تداولها بطريق التسليم أو المناولة.
اسم المستفيد أو الحامل: إذا كانت الكمبيالة إذنية وجب ذكر المستفيد، ويجب أن يعين شخصه تعييناً دقيقاً، أما إذا لم يذكر اسمه بأن يقال ادفعوا لحامل الكمبيالة، فتكون الكمبيالة عندئذٍ لحاملها.
__________
(1) أساسيات القانون التجاري والقانون البحري: مصطفى كمال طه وغيره، ص259.
(2) انظر ص205 وما بعدها من هذه الرسالة.(8/12)
وصول القيمة: بأن يذكر أن القيمة وصلت، وهو السبب الذي من أجله قام الساحب بتحرير الكمبيالة لمصلحة الدائن، وذكر هذه العبارة بمثابة إقرار من الساحب بأنه قبض من المستفيد قيمة الكمبيالة.
توقيع الساحب: وهو مَن أنشأ الكمبيالة، سواء كان بالإمضاء أو الختم أو البصمة.
مكان الوفاء: وهو في الغالب ما يكون موطن المدين (المسحوب عليه).
اسم المسحوب عليه: وهو الذي يوجه إليه الأمر بالدفع من الساحب، ويصبح منذ قبوله الكمبيالة المدين الأصلي، وهذا أحد العناصر الذي يفرق الكمبيالة عن السند الإذني، ويجب تحديد شخصه تحديداً نافياً للجهالة(1).
هذا، ولا يعتبر الصك الخالي من تلك البيانات كمبيالة إلا في الأحوال التالية:
إذا خلت الكمبيالة من ميعاد الاستحقاق اعتبرت مستحقة لدى الاطلاع عليها.
إذا خلت الكمبيالة من بيان مكان الوفاء، أو من بيان موطن المسحوب عليه، اعتبر المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه مكان وفائها.
__________
(1) الأوراق التجارية: القليوبي ص 38 ـ 54، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص42 ـ 56، الأوراق التجارية: بارود ص 22 ـ 25.(8/13)
إذا خلت الكمبيالة من بيان مكان إنشائها اعتبر المكان المبين بجانب اسم الساحب(1).
صورة الكمبيالة كالتالي:
غزة في أول يناير سنة 1999
مبلغ 1000 دينار
إلى عمر يونس (المسحوب عليه) التاجر برفح شارع…..
ادفعوا لأمر أحمد السيد (المستفيد) أو لحامله
مبلغ ألف دينار أردني في أول مارس سنة 1999
والقيمة وصلتنا بضاعة (أو نقداً)
توقيع الساحب
المطلب الثالث:مقارنة الكمبيالة (بِالشيك والسند الإذني)
من أهم أنواع الأوراق التجارية بالإضافة إلى الكمبيالة الشيك والسند الإذني، وبين كلٍ منها بعض أوجه الشبه التي قد توهم بأنها جميعاً شيء واحد، من أجل ذلك، وحتى تتميز الكمبيالة عنهما، كان لا بد من تعريفهما أولاً، ثم تمييزهما عن الكمبيالة ببيان أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين الجهتين:
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي، ص57، الأوراق التجارية: القليوبي، ص 54، الأوراق التجارية: حمدي بارود، ص 26، الالتزام المصرفي: أمين محمد بدر ص 29 ـ 30.(8/14)
أولاً: الشيك: وهو صك محرر وفقاً لأوضاع حددها القانون، يتضمن أمراً يصدر من شخص الساحب إلى شخص آخر هو المسحوب عليه ـ وهو عادة بنك ـ بأن يدفع بمجرد الاطلاع مبلغاً معيناً من النقود لشخص ثالث هو المستفيد، أو لأمره، أو لحامله(1).
أوجه الشبه بين الكمبيالة والشيك:
الشيك يشبه الكمبيالة من حيث عدد الأطراف، فإن كلاً منهما يتضمن ثلاثة أطراف
الساحب: وهو الذي يحرر الشيك ويوقعه.
المسحوب عليه: وهو الشخص الموجه إليه الأمر بالدفع.
المستفيد أو الحامل: وهو الشخص الذي صدر الأمر لصالحه.
إن كلاً منهما يتضمن علاقتين حقوقيتين.
علاقة الساحب بالمسحوب عليه، وتُسمى مقابل الوفاء.
علاقة الساحب بالمستفيد، وتُسمى القيمة وصلت.
__________
(1) القانون التجاري عمليات البنوك، الأوراق التجارية: القليوبي، ص319، الأوراق التجارية: جمال الدين عوض، ص159، القانون التجاري والأوراق التجارية: بهنساوي ص 209.(8/15)
يتفق الشيك مع الكمبيالة في البيانات التالية: اسم المسحوب عليه، والمستفيد، وتوقيع الساحب، والأمر بالدفع، والمبلغ الواجب دفعه، وتاريخ السحب(1).
أوجه الخلاف بين الكمبيالة والشيك:
تثبت في الكمبيالة بيانات لا حاجة إليها في الشيك كالتالي:
ذكر بيان وصول القيمة أو محل الوفاء: فهو واجب في الكمبيالة بخلاف الشيك.
وقت الاستحقاق لازم في الكمبيالة، ولا يجوز ذكره في الشيك، حيث إنّ الشيك خلافاً للكمبيالة أداة وفاء يقوم مقام النقود، ويكون واجب الدفع بمجرد الاطّلاع، وبعبارة أخرى ؛ فإن الشيك لا يحمل سوى تاريخ سحبه، في حين أن الكمبيالة تحمل تاريخين ؛ تاريخ السحب، وتاريخ الاستحقاق.
إن الشيك يُعدُّ دائماً أداة وفاء ؛ لذلك فهو مستحق الدفع لدى الاطّلاع، في حين أن الكمبيالة قد تكون أداة وفاء، وقد تكون أداة ائتمان.
__________
(1) القانون التجاري، والأوراق التجارية: بهنساوي، ص 22، الأوراق التجارية: القليوبي، ص222.(8/16)
يشترط في إصدار الشيك وجود مقابل وفاء وقت إصداره ؛ لكونه واجب الدفع لدى الاطّلاع عليه، في حين يكفي في الكمبيالة أن يكون مقابل الوفاء موجوداً وقت استحقاقها دون وقت إنشائها(1).
ثانياً: السند الإذني: وهو صك مكتوب وفقاً لأوضاع حددها القانون، ويتضمن التزام شخص معين يُسمى المحرر، بدفع مبلغ معين في تاريخ معين أو قابل للتعيين، لإذن أو لأمر شخص آخر يُسمى المستفيد(2).
وعلى ذلك فالسند الإذني ورقة تجارية تتضمن طرفين:
الطرف الأول: المدين الذي تعهد بدفع المبلغ المحدد في تاريخ معين.
الطرف الثاني: الدائن، وهو حامل السند الذي يستحق المبلغ(3).
ويشتمل السند الإذني على البيانات التالية:
عبارة سند لإذن أو لأمر مكتوبة في متن السند.
تعهد ـ غير معلق على شرط ـ بالوفاء بمبلغ معين من النقود.
__________
(1) القانون التجاري الأوراق التجارية: بهنساوي ص 23، المسئولية الجنائية عن جرائم الشيك: إبراهيم طنطاوي، ص 15 ـ 19، الالتزام المصرفي:أمين محمد بدر ص 39 ـ 42.
(2) 2 الأوراق التجارية: بارود ص 68.
(3) 2 القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص 16، الأوراق التجارية: بارود ص 68.(8/17)
يُحدد في السند مكان الوفاء، واسم من يجب الوفاء له، وتاريخ إنشاء السند، ومكان إنشائه، والقيمة وصلت(1)
أوجه الخلاف بين الكمبيالة والسند:
إن الكمبيالة لابد أن تتضمن ثلاثة أطراف وهم: الساحب، والمسحوب عليه، والمستفيد، في حين أن السند الإذني لا يتضمن إلا طرفين: محرر السند، وهو المدين في الالتزام، والمستفيد، وهو الدائن في الالتزام(2).
إن السند الإذني لا محل فيه لمقابل الوفاء والقبول من المسحوب عليه، على عكس الكمبيالة(3).
3 _ إن الكمبيالة عمل تجاري محض، في حين أن السند الإذني قد يكون عملاً مدنيّاً كما في إعطاء السند الإذني بدين.
__________
(1) الأوراق التجارية:القليوبي ص209، القانون التجاري:الشرقاوي 2/442، الأوراق التجارية: بارود ص69
(2) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: مصطفى كمال طه ص216.
(3) القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص16.(8/18)
4 _ إن الكمبيالة تتعلق بالمعاملات التجارية الخارجية في الغالب، في حين أن السند يتعلق في الغالب بالمعاملات الداخلية(1).
المطلب الرابع: تداول الكمبيالة
الغالب في الكمبيالة ألاّ تبقى في يد الدائن الأول (المستفيد) ؛ بل كثيراً ما تُتداول عدة مرات في الفترة ما بين تحريرها وتاريخ استحقاقها، وتداول الكمبيالة في القانون التجاري له طريقتان:
الأولى: التسليم إذا كانت الكمبيالة لحاملها.
الثانية: التظهير إذا كانت الكمبيالة إذنية.
الطريقة الأولى: التسليم:
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص216، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص16، 19.(8/19)
إذا كانت الكمبيالة لحاملها ـ وذلك بأن يكون الشخص المستفيد غير معين ـ فيكون تداولها بالتسليم أو المناولة باليد، دون أي توقيعات، أو أي شروط، وبالتالي لا يعرف عدد من تداولها، ولا تنشأ أية علاقة بين من تداولوها، إلا بين الحامل الأخير وبين من سلمها له، فضلاً عن الساحب والمسحوب إليه(1)، ولكن الكمبيالة لحاملها قليلة الاستعمال نظراً لقلة الضمان فيها، ولخطر ضياعها، وسهولة حيازتها، إذ إن أي شخص يحمل هذه الكمبيالة يعتبر في نظر القانون مالكاً لها(2).
الطريقة الثانية: التظهير:
__________
(1) القانون التجاري: الشرقاوي 2/305، القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص94.
(2) ولهذا آثرت بعض القوانين أن تسقط الكمبيالة لحاملها من مجموعة الأوراق التجارية، واقتصرت على تنظيم الكمبيالة الإذنية، ومن أمثلة هذه القوانين، القانون السوري، واللبناني، ومشروع قانون الجامعة العربية: انظر الالتزام الصرفي: أمين محمد بدر ص25، القانون التجاري: القليوبي ص270، القانون التجاري: الشرقاوي 2/305.(8/20)
إذا كانت الكمبيالة إذنية ـ وذلك بأن يكون المستفيد شخصاً معيناً ـ وهي الأكثر انتشاراً في المعاملات التجارية، فإن تداولها يكون بالتظهير.
والتظهير هو بيان كتابي على ظهر الكمبيالة، ينقل المستفيد بمقتضاه بعض حقه في الكمبيالة، أو كل حقوقه فيها إلى شخص آخر، يسمى المُظَهَّر إليه، بينما يُسمى الحامل القديم المُظّهِر(1)، والتظهير على ثلاثة أقسام: تام ناقل للملكية، وتوكيلي، وتأميني:
القسم الأول: التظهير التام الناقل للملكية:
وهو بيان يكتبه ـ الحامل أو المُظِّهر ـ على ظهر الكمبيالة يفيد معنى النزول عن الحق الصرفي المدرج بها لإذن شخص ثالث(2).
فالكمبيالة متى حررت لصالح المستفيد فإنه يستطيع أن يُظَهِّرها إلى شخص ثالث، يكون دائناً، فتنتقل ملكية الحق الثابت في الكمبيالة إلى المُظَهَّر إليه، ويُطلق عليه في هذه الحالة (الحامل الجديد).
الشروط الشكلية للتظهير التام:
يجب أن يكون التظهير بالكتابة على ظهر الكمبيالة، فإذا لم تتسع فيجب أن يكون على وصلة مرفقة بها.
__________
(1) الالتزام الصرفي: أمين محمد بدر ص56.
(2) الأوراق التجارية: بارود ص30.(8/21)
كما يجب أن يتضمن تاريخ التظهير، واسم المُظَهَّر إليه، وهو المستفيد الجديد، وشرط الإذن، ووصول القيمة، وتوقيع المُظَهٍّر، ومبلغ التظهير، ويجب أن يَرِدَ على مبلغ الكمبيالة كله، وإلاّ وقع باطلاً، فإذا لم يشتمل التظهير على إحدى البيانات السابقة الذكر، انقلب إلى تظهير توكيلي ؛ أي مجرد توكيل المُظَهَّر إليه بقبض قيمة الكمبيالة(1).
ويترتب على التظهير التام ثلاثة أمور:
نقل جميع الحقوق الناشئة عن الكمبيالة إلى ملكية المُظَهَّر إليه.
صيرورة المُظَهِّر ضامناً للوفاء بالكمبيالة على وجه التضامن مع الساحب وسائر الموقعين السابقين.
__________
(1) 3 القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص64 ـ 65، أساسيات القانون التجاري: طه ص262 ـ 263، الأوراق التجارية: بارود ص31، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص80 ـ 83.(8/22)
عدم الاحتجاج بالدفوع (تطهير الكمبيالة من الدفوع) في مواجهة الحامل حسن النية، وهو الذي لا يعلم عن أسباب الدفوع شيئاً، فإن الحق في الكمبيالة ينتقل من المُظَهِّر إلى المُظَهَّر إليه، على وجه البراءة من العيوب التي قد تلحق علاقاتها القانونية، فلا يجوز ـ للمدين سواء كان المسحوب عليه أو غيره ـ أن يمتنع عن الوفاء بالكمبيالة للحامل حَسَن النية، الذي لا يعلم عن العيب شيئاً، وكان ظاهر الكمبيالة لا ينبئ بوجود عيب، متمسكاً بالدفوع التي كان يستطيع التمسك بها أمام دائنه المباشر ؛ لأن الالتزام الذي نشأ في ذمة المُظَهّر ليس هو ذات الالتزام الذي نشأ في ذمة المُظَهَّر إليه، بل إن التزام الأخير يتمتع بذاتية مستقلة عن الالتزام الناشئ بين الساحب والمسحوب عليه أو غيره، والحكمة من ذلك هي الخشية من قلة سير الكمبيالة، وصعوبة تداولها(1)
القسم الثاني: التظهير التوكيلي:
__________
(1) 3 القانون التجاري: طه ص60 ـ 86، الالتزام الصرفي في قوانين البلاد العربية: أمين محمد بدر ص25 ـ 26، القانون التجاري: بهنساوي ص76 ـ 96.(8/23)
ويُقصد به مجرد توكيل المُظَهَّر إليه بتحصيل قيمة الكمبيالة فقط، وليس ملكية الحق الثابت بها، وأكثر ما يقع مثل هذا التظهير في المصارف، حيث إن الدائن المستفيد يقوم بتظهير الورقة له تظهيراً توكيلياً، فيصبح البنك وكيلاً عن المستفيد (عميل البنك) في تحصيلها في ميعاد استحقاقها، فإذا تم تحصيل قيمتها تضاف هذه القيمة لصالح العميل ولحسابه، وتقوم المصارف بهذه الخدمة في مقابل عمولة(1).
ومن صور التظهير التوكيلي ما يلي:
التظهير الناقص: وهو الذي لا يشتمل على أحد البيانات السابقة الذكر في التظهير التام.
التظهير على بياض: ويعتبر توكيلاً للمُظَهَّر إليه بقبض قيمة الكمبيالة(2).
ويترتب على هذا التظهير أنه يعتبر المُظَهَّر إليه وكيلاً عن المُظَهِّر في تحصيل قيمة الكمبيالة فقط، وليس من شأن هذا التظهير أن يطهر الدفوع(3).
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص86، القانون التجاري: الشرقاوي 2/328، الأوراق التجارية: بارود ص34، القانون التجاري: القليوبي ص266.
(2) الالتزام الصرفي: بدر ص67.
(3) القانون التجاري: القليوبي ص266.(8/24)
القسم الثالث: التظهير التأميني:
ويُقصد به رهن الحق الثابت بالكمبيالة توثيقاً بدين من الديون، بحيث يكون للمُظَهِّر الحق في استرداد الكمبيالة بمجرد الوفاء بدين المُظَهَّر إليه(1).
وهذا التظهير يتضمن سائر البيانات اللازمة للتظهير التام، ما عدا وصول القيمة، فيذكر بدلها القيمة للرهن أو للضمان.
يترتب على التظهير التأميني ما يلي:
إن المُظَهَّر إليه دائن للمُظَهِّر، ويحوز الورقة كدائن مرتهن لها، وعليه فلا يستطيع أن يتنازل عنها.
يطبق عليه قاعدة تطهير الدفوع بين المُظَهَّر إليه والغير.
__________
(1) القانون التجاري: القليوبي ص267، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص101، الأوراق التجارية: بارود ص35.(8/25)
فالمدين بالكمبيالة لا يستطيع أن يتمسك في مواجهة الدائن المرتهن (المُظَهَّر إليه) بالدفوع التي كان يستطيع التمسك بها في مواجهة المُظَهِّر(1).
المطلب الخامس: مقابل الوفاء في الكمبيالة
أ ـ تعريف مقابل الوفاء: هو الدَّين النقدي الذي للساحب عند المسحوب عليه، ومنه يدفع هذا الأخير قيمة الكمبيالة(2).
ومقابل الوفاء ليس شرطاً لصحة الكمبيالة، حيث إنّ الكمبيالة تنشأ ولو لم يوجد مقابل الوفاء، إلا أن وجود مقابل الوفاء في ذمة المسحوب عليه سبب في قبول الوفاء بها عند تقديمها له للقبول.
__________
(1) القانون التجاري: بهنساوي ص101 ـ 103، القانون التجاري: القليوبي ص268 ـ 270، الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: سراج ص46، أساسيات القانون التجاري: طه ص258 ـ 260، قانون المعاملات التجارية: مختار أحمد بريري ص145 ـ 149.
(2) الأوراق التجارية: القليوبي ص133، أساسيات القانون التجاري: طه ص268.(8/26)
والمسئول عن تقديم مقابل الوفاء وتوفيره هو الساحب، وهذه المسئولية هي التي تفرض عليه أن يكون قد أدّى هذا المقابل إلى المسحوب عليه لكي يتمكن من تنفيذ أمره بالدفع(1).
ب ـ شروط مقابل الوفاء:
يشترط في دين الساحب عند المسحوب عليه حتى يكون بدلاً للوفاء بالكمبيالة الشروط التالية:
أن يكون محل التزام المسحوب عليه قبل الساحب مبلغاً نقدياً.
أن يكون موجوداً وقت استحقاق الكمبيالة.
أن يكون مستحق الطلب في وقت استحقاق الكمبيالة.
أن يكون مساوياً بالأقل لمبلغ الكمبيالة(2).
ج ـ حق الحامل في مقابل الوفاء:
هو حق ملكية وقت الاستحقاق فقط، أما قبل ذلك فيظل الساحب مالكاً لجميع حقوقه، يملك التصرف فيه، واسترداده، حتى قبل حلول هذا الوقت(3).
__________
(1) أساسيات القانون التجاري: طه ص268، القانون التجاري: الشرقاوي 2/343.
(2) القانون التجاري: الشرقاوي 2/244، الأوراق التجارية: القليوبي ص 134، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص 109.
(3) 4 القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص 113.(8/27)
ويتأكد حق الحامل في مقابل الوفاء قبل حلول موعد الاستحقاق في الحالات التالية:
إذا اتفق الحامل مع الساحب صراحة أو ضمناً، على تخصيص دين معين للساحب لدى المسحوب عليه للوفاء بالكمبيالة، وعلم بذلك المسحوب إليه.
إذا قبل المسحوب إليه الكمبيالة بتوقيعه، فإن حق الحامل على ملكية مقابل الوفاء يتأكد لحظة التوقيع عليها، ومنذ هذه اللحظة يمتنع على الساحب استرداد مقابل الوفاء،أو التصرف فيه.
إذا أخطر(1) الحامل المسحوب عليه بإنشاء الكمبيالة، ونبه بعدم التصرف في مقابل الوفاء، وتجميده للوفاء بقيمة الكمبيالة عند حلول وقت الاستحقاق ؛ لأن مثل هذا الإخطار يتنزل منزلة القبول فيما يتعلق بمقابل الوفاء، فعندئذٍ لا يحق للمسحوب عليه أن يردّ مقابل الوفاء إلى الساحب، وإلا كان مسؤولاً أمام الحامل(2).
المطلب السادس: قبول الكمبيالة
__________
(1) 4 قد يتم الإخطار عن طريق محضر بخطاب عادي، أو مجرد إطلاع المسحوب عليه على الكمبيالة. انظر: القانون التجاري: الشرقاوي 2/352.
(2) القانون التجاري: الشرقاوي ص2/351 ـ 353، الأوراق التجارية: علي جمال الدَّين عوض ص148، الأوراق التجارية: القليوبي ص140 ـ 142.(8/28)
أ ـ تعريف القبول: هو تعهد المسحوب عليه بدفع قيمة الكمبيالة إلى الحامل أو المستفيد في موعد الاستحقاق(1).
فالمسحوب عليه يظل غريباً عن الكمبيالة حتى يوقع عليها بالقبول، وبمجرد حصول التوقيع منه تنشأ العلاقة بينه وبين الحامل، ويصبح هو المدين الأصلي بالوفاء.
ب ـ الشروط الشكلية للقبول:
يجب أن يتضمن القبول الشروط الشكلية التالية:
أن يتم كتابة.
أن يتضمن توقيع القابل أو ختمه، وأن يكون بلفظ القبول أو ما يقوم مقامه، كأتعهد بالدفع، أو سأدفع.
أن يَرِدَ القبول على ذات الكمبيالة، فلا يصح القبول على ورقة مستقلة (2).
ج ـ الحالات التي لا يجوز فيها طلب القبول:
إذا كانت الكمبيالة مستحقة الدفع لدى الاطلاع فإنها لا تقدم للقبول بل للوفاء.
إذا تضمنت الكمبيالة شرط عدم القبول.
د ـ الحالات التي يجب فيها طلب القبول:
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص116، القانون التجاري: الشرقاوي 2/357، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص11
(2) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس ص122، الأوراق التجارية: القليوبي ص118.(8/29)
إذا كانت الكمبيالة مستحقة الدفع بعد زمن من الاطلاع عليها، فلا يسري موعد الاستحقاق إلا من تاريخ القبول.
إذا تضمنت الكمبيالة شرط القبول، وهو شرط يضعه الساحب أو أحد المظهرين لإجبار الحامل على تقديم الكمبيالة للقبول.
ثم إن القبول أو الرفض ليس واجباً على المسحوب عليه فور تقديم الكمبيالة لذلك ؛ بل إن القوانين التجارية أعطته مهلة أربع وعشرين ساعة يقرر فيها موقفه بالرفض أو القبول(1).
هـ ـ متى يُلْزَم المسحوب عليه بقبول الكمبيالة؟
ويلتزم المسحوب عليه بقبول الكمبيالة في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان هناك اتفاق سابق بينه وبين الساحب على قبول الكمبيالة التي سحبها عليه.
الحالة الثانية: إذا كان كل من الساحب والمسحوب عليه تاجراً، وكانت العلاقة بينهما تجارية، فإن الساحب التاجر يستطيع سحب كمبيالات على مدينه وفاء لدينه(2).
و ـ آثار القبول:
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص116 ـ 117، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص117، 119، الأوراق التجارية: قليوبي ص113 ـ 116.
(2) القانون التجاري: الشرقاوي 2/362، الأوراق التجارية: بارود ص40.(8/30)
يلتزم المسحوب عليه القابل بدفع قيمة الكمبيالة في موعد الاستحقاق، التزاماً نهائياً لا رجعة فيه، ويعتبر ـ بالقبول ـ المدين الأصلي، بعد أن كان بعيداً عن دائرة الالتزام
تبرأ بالقبول ذمة الساحب والمظهرين جميعاً من الالتزام بضمان القبول، ويبقون ضامنين للوفاء ؛ لأن الموقعين يضمنون القبول والوفاء، فإذا تم القبول من المسحوب عليه أصبحوا في مأمن من رجوع الحامل عليهم حتى حلول ميعاد الاستحقاق.
يعتبر القبول قرينة على وجود مقابل الوفاء، وعلى من يدّعي غير ذلك الإثبات.
من حق المسحوب عليه بعد القبول أن يحجز مقابل الوفاء لديه إلى حين موعد الاستحقاق(1).
ز ـ الامتناع عن القبول وآثاره:
__________
(1) الأوراق التجارية: طه ص123 ـ 126، الأوراق التجارية: القليوبي ص120 ـ 124، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص 128 ـ 130، أساسيات القانون التجاري: طه ص273.(8/31)
قد يمتنع المسحوب عليه عن القبول صراحة، أو يعلّق قبوله على شرط، أو يضيف إليه تحفظاٌ معيناً، يعدل من الالتزام الثابت في الكمبيالة، فكل ذلك يعد بمثابة امتناع عن القبول، فإذا رفض المسحوب عليه القبول، فإنه يجب على الحامل إثبات هذا الامتناع أو الرفض بورقة رسمية تُسمى (بروتستو عدم القبول) ؛ وذلك حتى يتمكن من الرجوع على الساحب وسائر الموقعين على الكمبيالة(1).
ويترتب على امتناع المسحوب عليه من القبول ما يلي:
عدم جواز رجوع الحامل على المسحوب عليه، لأنه في هذه الحالة يعتبر غريباً عن الكمبيالة، وإن جاز للساحب مطالبة المسحوب عليه غير القابل بتعويض الضرر الحاصل نتيجة الإخلال بهذا الالتزام.
__________
(1) القانون التجاري: الشرقاوي 2/368 ـ 369، القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه ص126.(8/32)
رجوع الحامل على الساحب وجميع الموقعين على الكمبيالة، الذين يلتزمون في مواجهته بضمان القبول، ويطالبهم إما بتقديم كفيل موسر يضمن الوفاء بقيمة الكمبيالة، وإما بدفع قيمتها فوراً، وللحامل أن يطالبهم جميعاً دَفعة واحدة، أو يطالب كل واحد منهم على انفراد(1).
ح ـ القبول بالواسطة:
إذا امتنع المسحوب عليه من قبول الكمبيالة، وقام الحامل بتحرير بروتستو عدم القبول، فإن لأي شخص غير ملتزم بدفع قيمة الكمبيالة أن يتعهد بدفع قيمتها في موعد الاستحقاق نيابة عن المسحوب عليه، أو عن الموقعين على الكمبيالة، وبهذا القبول يوجد ملتزم جديد، يزيد من ضمانات الوفاء المقررة لصالح حامل الكمبيالة ؛ لذلك فهو لا يتم إلا من شخص غير ملتزم، فإذا وقع من ملتزم يكون باطلاً لا أثر له.
ط ـ عمّن يجوز القبول بالواسطة:
__________
(1) الأوراق التجارية: القليوبي ص 125 ـ 127، القانون التجاري، والأوراق التجارية: بهنساوي ص 131، 134.(8/33)
يجوز القبول بالواسطة عن ساحب الكمبيالة، أو عن أحد المظهّرين، ولا يجوز أن يصدر لمصلحة المسحوب عليه الممتنع عن القبول ؛ لأنه لا يُعدُّ مديناً بأي التزام ناشئ عن الكمبيالة(1).
المطلب السابع: التضامن في الكمبيالة
أ ـ تعريف التضامن:
يُقصد بالتضامن: أن جميع الموقعين على الكمبيالة وهم: الساحب، والمسحوب عليه القابل، والقابل بالواسطة (المُظَهِّر)، والضامن الاحتياطي، والكفيل الذي يقدمه أحد المدينين للحامل بدلاً من الوفاء الفوري، ملتزمون بالوفاء على وجه التضامن تجاه الحامل(2).
ب ـ مركز الملتزمين المتضامنين:
__________
(1) 5 القانون التجاري: الشرقاوي 2/371 ـ 374، الأوراق التجارية: بارود ص40 ـ 44، الأوراق التجارية: القليوبي ص128 ـ 133.
(2) 5 أساسيات القانون التجاري: طه ص274، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص134، الأوراق التجارية: بارود ص44.(8/34)
المدين الأصلي في الكمبيالة هو المسحوب عليه القابل، أو الساحب قبل القبول، والموقعون على الكمبيالة لا يلتزمون على قدم المساواة، فليسوا إلا ضامنين ملتزمين في المرتبة الثانية، والقانون يفرض على الحامل ترتيباً معيناً في الرجوع ؛ فعليه أولاً أن يطالب المسحوب عليه، فإن امتنع حرر بروتستو، ثم يرجع بعد ذلك على الموقعين إما دفعة واحدة، أو يرجع عليهم مبتدئاً بالمُظَهِّر الأخير، ثم الذي قبله … … وهكذا إلى أن يصل إلى الساحب، فإن رجع على أحد المظهرين المتوسطين فقد حقه في الرجوع على اللاحقين له، وإن بدأ بالساحب فقد حقه في الرجوع على سائر الموقعين(1).
ج ـ شرط عدم التضامن:
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية: طه ص135، 137، الأوراق التجارية: بارود ص45، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص137، الأوراق التجارية: القليوبي ص146.(8/35)
يجوز استبعاد التضامن بشرط صريح في الكمبيالة، ويسمى هذا الشرط بشرط عدم التضامن، وإذا اشترط الساحب عدم التضامن استفاد من الشرط جميع الموقعين على الكمبيالة، أما إذا اشترط أحد المظهرين اقتصر أثر الشرط عليه، ولا يستفيد منه الموقعون السابقون أو اللاحقون، تطبيقاً لمبدأ استقلال التوقيعات(1).
المطلب الثامن: الضمان الاحتياطي
أ ـ أنواع الضمان الاحتياطي:
حامل الكمبيالة قد لا يقنع بالضمانات القانونية المقررة له، فيرغب في الحصول على ضمانات أخرى للوفاء بحقه الثابت في الكمبيالة، فيتفق مع مدينه على تأمين شخصي أو تأمين عيني كرهن.
1 ـ الضمان العيني:
__________
(1) القانون التجاري: الشرقاوي 2/374 ـ 380، الأوراق التجارية:بارود، ص46، الأوراق التجارية: القليوبي، ص 146 ـ 147.(8/36)
يجيز العرف التجاري للحامل أن يشترط تقرير رهن على عقار أو منقول لصالحه ضماناً للوفاء بقيمة الكمبيالة، ولكن العادة المتبعة هي أن تُرهن البضائع المرسلة من البائع المصدِّر إلى المشتري المستورد، لصالح حامل الكمبيالة رهناً حيازياً بمقتضى المستندات الخاصة بتلك البضائع المرفقة مع الكمبيالة، وهذه المستندات هي سند الشحن، ووثيقة التأمين والفاتورة(1).
مثال ذلك: تاجر فلسطيني يريد أن يشتري بضاعة من تاجر أمريكي، فيطلب الثاني من الأول توسيط مصرف في بلد المشتري (التاجر الفلسطيني)، فيقوم التاجر الفلسطيني بطلب فتح اعتماد قصير الأجل في مصرف في بلده(2)، يتعهد فيه المصرف الفلسطيني بتأدية الثمن المحدد للبضاعة لصالح التاجر الأمريكي، مشروطاً بأن يقدم البائع إلى المصرف المستندات التي يحدد مواصفاتها للمصرف التاجر الفلسطيني، وعندئذ يرسل المصرف الفلسطيني إلى التاجر الأمريكي خطاباً يخطره فيه بوجود المبلغ
__________
(1) الأوراق التجارية: القليوبي ص148.
(2) قد يكون التزام المصرف التزاماً بقبول الكمبيالة، وقد يكون التزامه بمجرد الوفاء بقيمة الكمبيالة، وذلك حسب طلب العميل (المشتري الفلسطيني).(8/37)
تحت تصرفه مقابل تسليم المستندات الممثلة للبضاعة.
ولذلك يقوم التاجر الأمريكي بسحب (كمبيالة مستندية) على المصرف الفلسطيني، ويرفق بها المستندات التي طلبها التاجر الفلسطيني، وهذه الكمبيالة تتسم بقوة ائتمانية كبيرة ؛ لأن المسحوب عليه مصرف، وليس شخصاً، قد لا يكون معروفاً، وبذلك يستطيع التاجر الأمريكي أن يقدم هذه الكمبيالة لأي مصرف في بلده للخصم أو التحصيل(1)، فإذا حل ميعاد استحقاقها ـ وهو عادة ميعاد قصير، لا يتجاوز بضعة أيام أو بضعة أسابيع على الأكثر ـ يتقدم بها المصرف الأمريكي ليحصِّلها من المصرف الفلسطيني، فإن دفع قيمتها بعد فحص المستندات للتأكد من مطابقتها، وشروط عملية التاجر الفلسطيني، تنتهي العلاقة بين المصرف الفلسطيني والمصرف الأمريكي، أما إذا لم يدفع المصرف الفلسطيني قيمتها
__________
(1) وقد يكون بالتظهير إلى الغير إذا كانت إذنية، فتنطلق الكمبيالة في التداول، ومعها المستندات حتى تقدم من الحامل الأخير إلى المشتري للحصول على قيمتها، ولكن هذا نادر لكون الكمبيالة قصيرة الأجل في الغالب. انظر: موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: علم الدين 3/1305.(8/38)
فيستطيع المصرف الأمريكي أن يتسلط على البضاعة، ويأخذ حقه منها باعتباره دائناً مرتهناً لها(1).
2 ـ الضمان الشخصي (الاحتياطي):
وهو كفالة الدَّين الثابت في الكمبيالة، والضامن الشخصي هو كفيل يضمن الوفاء بقيمة الكمبيالة في ميعاد الاستحقاق(2).
ب ـ شروط الضمان الشخصي:
يجب أن يكون الضمان الشخصي بالكتابة، والأصل فيه أن يكون على ذات الكمبيالة، ولكن يجوز أن يتم على صك أو ورقة مستقلة، أو خطاب عادي، يبين من هو الشخص المضمون، ثم يوقع على صيغة الضمان بالختم أو الإمضاء.
أن لا يكون الضامن الشخصي ملتزماً من قبل بدفع قيمة الكمبيالة ؛ لأن الضمان الاحتياطي الذي يقدمه أحد الموقعين على الكمبيالة لا يفيد الحامل، ولا يضيف إلى ضماناته شيئاً.
__________
(1) موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: علم الدين 3/1304 ـ 1309، ضمانات الوفاء بالكمبيالة: عمر محمد مختار القاضي ص 317 ـ 318.
(2) أساسيات القانون التجاري: طه ص258، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص138.(8/39)
يجب أن يكون الضمان الشخصي عن أحد الموقعين على الكمبيالة ؛ كالساحب، والمسحوب عليه (القابل)، والمظهر، ويجوز أن يكون عن المسحوب عليه الذي لم يقبل بعد، وتوقع قبوله(1)
ج ـ صفة التزام الضامن الشخصي:
هو نفس محل التزام المضمون، ولكن ليس هناك مانع من أن يكون محل التزام الضامن الاحتياطي هو جزءاً فقط من مبلغ الكمبيالة، وليس ما يمنع أن يشترط الضامن الاحتياطي أن يكون التزامه مُنصَباً لصالح حامل معين دون غيره(2).
آثار الضمان الشخصي (الاحتياطي):
يترتب على الضمان الاحتياطي الآثار التالية.
اعتبار الضامن ملتزماً بالوفاء بنفس التزام المضمون.
لا يجوز للضامن الاحتياطي أن يحتجَّ على الحامل إلا بالدفوع التي يجوز للمضمون توجيهاً إليه، إلا أنه يحق لضامن المُظَهِّر التمسك بإهمال الحامل إذا لم يعلن البروتستو إليه شخصياً، ولو كان قد أعلن إلى المُظَهَّر شخصياً.
__________
(1) القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: طه، ص 138، الأوراق التجارية: القليوبي ص148 ـ 149، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص140.
(2) 6 ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 268 ـ 269.(8/40)
إذا قام الضامن الاحتياطي بالوفاء للحامل جاز له الرجوع على الملتزم والموقعين السابقين عليه(1).
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للكمبيالة
إن ما قمت بسرده من أحكام الكمبيالة ـ طبقاً لما استقر عليه العُرف التجاري، واستناداً إلى نصوص القانون التجاري في هذا الخصوص ـ إنما هو بقصد بيان حقيقة الكمبيالة وتحديدها، حتى يمكنني التوصل إلى التكييف الفقهي لها بدقة، وذلك عن طريق مقارنتها مع الدراسة السابقة في كل من السفتجة والحوالة، باعتبارها تطبيقاً معاصراً قد يتعلق بواحد منها، ومن ثم يكون الحكم الشرعي لها، وتحقيق الكلام عن التكييف الشرعي للكمبيالة في مطلبين، كالتالي:
المطلب الأول: مقارنة الكمبيالة بالسفتجة في الفقه الإسلامي.
المطلب الثاني: مقارنة الكمبيالة بالحوالة في الفقه الإسلامي.
المطلب الأول: مقارنة الكمبيالة بالسفتجة في الفقه الإسلامي
__________
(1) 6 الأوراق التجارية: بارود ص 47 ـ 48، القانون التجاري: الشرقاوي 2/380 ـ 385، الأوراق التجارية: القليوبي ص 151 ـ 153، القانون التجاري، الأوراق التجارية: بهنساوي ص 141 ـ 143.(8/41)
المقارنة بين الكمبيالة، وبين السفتجة في الفقه الإسلامي، تكون بإبراز أوجه الشبه وأوجه الخلاف بينهما بناء على ما تقدم عنهما، وذلك كالتالي:
أولاً: أوجه الشبه بين الكمبيالة، وبين السفتجة.
إن الكمبيالة تمثل مبلغاً من النقود مطلوب الوفاء به في مكان آخر بقصد أمن خطر الطريق، وهذا هو أصل النشأة في الكمبيالة، والمعروف أن الأساس الذي بنيت عليه السفتجة هو ضمان خطر الطريق، فهي الوفاء بالمال في بلد آخر ؛ بغرض توفير العناء أو الجهد، وعنت مخاطر الطريق.
إن كلاً من الكمبيالة والسفتجة معاملة في الديون، غاية الأمر أن السفتجة في أغلب الأحيان تمثل قرضاً، في حين أن الكمبيالة تقوم على أساس مبادلة المنافع، فليس ثم داعٍ لقصرها على القرض.(8/42)
إن الكمبيالة غالباً ما تكون مستحقة الدفع بعد مدة من تحريرها، وتظهر هذه المدة في صيغة الكمبيالة، فبذلك تكون مؤجلة، وقد تكون معجلة إذا كانت واجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها، وكذلك الحال في السفتجة فقد بينت أنها من المعاملات التي تقبل الأجل، حتى إن بعضهم عرفها بقوله " السفتجة هي البطائق تكتب فيها آجال الديون"(1)
__________
(1) انظر ص132 من هذه الرسالة، وقد نقل الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ص 197 ما يدل على أنه كان لكل سفتجة موعد لاستحقاقها، فكانت السفاتج الواردة من الولاة إلى الوزير تحفظ حتى يحين صرفها، واستلم بغدادي سفتجة بأجل أربعين يوماً على تاجر وغير ذلك، ولكن أرى أنه لا يمكن الاعتماد على مثل هذه النقول ؛ وذلك لأن أكثرها من مصادر أجنبية غير موثوق بها من الناحية الشرعية.(8/43)
إن كلاً من الكمبيالة في القانون، والسفتجة في الفقه الإسلامي، وسيلة مكتوبة في محرر أو صك أو ورقة، فالكمبيالة هي محرر مكتوب به بيانات معيّنة، وكذلك الأمر في السفتجة، فقد عرفها بعضهم بأنها صك أو ورقة أو بطائق، غاية الأمر أن الكتابة في الكمبيالة ركن فلا توجد كمبيالة إلا وكانت مكتوبة، بينما في السفتجة ـ وإن اعتبرها البعض وسيلة مكتوبة ـ إلا أن ذلك ليس شرطاً فيها كما بينت ذلك سابقاً(1)، على أن كتاب السفتجة أعمّ من صك الكمبيالة ؛ من حيث إنّ السفتجة قد تكون بلفظ الأمر، وقد تكون بلفظ الحوالة، في حين أن الكمبيالة لا تكون إلا بلفظ الأمر فقط.
__________
(1) انظر ص126 من هذه الرسالة.(8/44)
إن الكمبيالة تنشأ بين الساحب والمستفيد بعيداً عن المسحوب عليه، فهو يتلقى الأمر دون توافر اشتراط رضاه، ولا يلتزم بها ؛ بل يظل أجنبياً عنها حتى يوقع عليها بالقبول، وكذلك الحال في السفتجة ؛ فإنها تنشأ بين المحال (المكتوب له) الدائن، وبين الكاتب محرر السفتجة، وهو المدين، دون توفر اشتراط رضا المكتوب إليه الذي يوجد في البلد المطلوب الوفاء فيه، ولا يلزمه أي المكتوب إليه (المحال عليه) السفتجة حتى يقبلها بأن يتعهد للمكتوب له (المحال) بالوفاء بها، وذلك إما بلفظ الضمان، أو بالإقرار بمضمونها، أو بالكتابة على ظهرها أنها صحيحة قد قبلتها، كما سبق تفصيل ذلك(1).
__________
(1) انظر ص160 من هذه الرسالة.(8/45)
إن قبول المسحوب عليه في الكمبيالة يجعله ملتزماً أصيلاً بالوفاء بقيمة الكمبيالة للحامل في ميعاد الاستحقاق، سواء كان ملزماً بشيء للساحب، أو غير ملزم له بشيء قبل التوقيع، وينقلب الساحب إلى مجرد ضامن للوفاء بالكمبيالة، من هنا كان قبول المسحوب إليه إضافة ضمان جديد للحامل إلى جانب التزام الساحب، وكذلك الحال في السفتجة ؛ حيث إنّ المكتوب إليه إذا تعهد للمكتوب له بالوفاء في ميعاد استحقاق السفتجة يكون هو الملتزم بأداء الدَّين فعلاً إلى المكتوب له (المحال)، سواء قدم إليه الكاتب محررُ السفتجة مالاً أم لا، ويبقى الكاتب محرر السفتجة ضامناً، فلا تخلو ذمته حتى يتم الوفاء الفعلي للمكتوب له، أو الإضافة في حسابه.
ثانياً: أوجه الخلاف بين الكمبيالة والسفتجة في الفقه الإسلامي:
إن الكمبيالة لا بد أن تُحرر وِفقاً لشكل معين حدده القانون، في حين أن السفتجة لم يشترط فيها الفقهاء شكلاً معيناً، بل اكتفوا بالنص على تدوين الدين بأيّ طريقة كانت، وأساس ذلك أن الفقه الإسلامي يُعنى بمقاصد العقود وغاياتها دون النظر إلى الناحية الشكلية.(8/46)
يشترط في السفتجة اختلاف بلد إنشائها عن بلد الوفاء بها ؛ لأن المقصود فيها ضمان خطر الطريق، ولا يتأتى ذلك إلا بين بلدين، أو في بلد واحد مترامي الأطراف(1)، في حين أن الكمبيالة لا يشترط فيها اختلاف المكانين،مكان السحب عن مكان الوفاء، وإن كانت غالباً ما تُستخدم في تسوية المعاملات الخارجية(2).
قد تنشأ السفتجة بين شخصين، وقد تكون بين ثلاثة أشخاص كما تقدم تفصيله(3)، في حين أن الكمبيالة لابد أن تتضمن ثلاثة أطراف، وهم الساحب، والمسحوب عليه، والمستفيد، فإن كانت بين طرفين فإنها تفقد صفتها ككمبيالة، وإن أمكن اعتبارها ورقة تجارية أخرى (سند إذني مثلاً) (4).
__________
(1) انظر ص126 من هذه الرسالة.
(2) تظهر الكمبيالة كعماد المعاملات الخارجية في أقصى صورها عندما تكون مستندية، انظر ص215 من هذه الرسالة.
(3) انظر ص129، 133 من هذه الرسالة.
(4) انظر ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 37 ـ 38، أحكام عقد الصرف: سلامة ص 412 ـ 413.(8/47)
إن السفتجة في الفقه الإسلامي لا تخضع لنظام التداول لعدم تطورها التطور اللازم، في حين أن الكمبيالة تخضع لنظام التداول بطريق التسليم أو التظهير، وما يتبع ذلك من ضمانات المظهرين(1).
رأي الباحث:
على الرغم من وجود أوجه اتفاق عديدة بين كل من أحكام السفتجة في الفقه الإسلامي، وبين الكمبيالة في العرف التجاري فإنه يبدو لي أن السفتجة قاصرة عن استيعاب جميع أحكام الكمبيالة ؛ وذلك لوجود أوجه خلاف بينهما في جُلِّ الأحكام، وخاصة الأخير منها، وهو عدم خضوع السفتجة لنظام التداول على خلاف الكمبيالة، وبالتالي فلا يصح إطلاق القول بأن الكمبيالة سفتجة في الفقه الإسلامي.
شبهة والرد عليها:
فإن قيل إذا كانت السفتجة قاصرة عن استيعاب جميع أحكام الكمبيالة، فلماذا أطلقت بعض القوانين العربية كالقانون السوري، واللبناني، والفلسطيني مثلاً لفظ السفتجة على الكمبيالة؟
الجواب:
إن بعض التشريعات التي أطلقت لفظ سفتجة على الكمبيالة قد تكون استندت إلى واحد من الوجوه الثلاثة التالية:
__________
(1) الأوراق التجارية: بارود ص26.(8/48)
باعتبار اللغة: فإن معنى السفتجة من سفته بمعنى الشيء المحكم، ولاشك أن احتواء الكمبيالة على بيانات عديدة كالتوقيعات، والعلاقات القانونية، وضمانات الوفاء، وغير ذلك، يجعلها ورقة محكمة.
باعتبار اتفاقهما ـ أي الكمبيالة والسفتجة ـ في أصل النشأة: حيث إنّ أصل نشأة الكمبيالة كان بقصد ضمان أمن خطر الطريق، وهذا هو الأصل الذي بُنيت عليه السفتجة.
بالنظر إلى اتفاقهما في بعض الأحكام: حيث إنَّ هناك أحكاماً مشتركة بينهما، وبالذات أحكام القبول.
وعلى ذلك يرى الباحث ضرورة متابعة دراسة الكمبيالة عن طريق مقارنتها بأحكام الحوالة في الفقه الإسلامي.
المطلب الثاني: مقارنة الكمبيالة بالحوالة في الفقه الإسلامي
أولاً: أوجه الشبه بين الكمبيالة والحوالة:(8/49)
إن الكمبيالة تتضمن أطرافاً ثلاثة ؛ وهم: الساحب يقابله المحيل في الحوالة، والمسحوب عليه يقابله المحال عليه، والمستفيد يقابله المحال، وكذلك تتضمن دين للساحب على المسحوب عليه الذي يُسمى مقابل الوفاء، ولا يُشترط وجوده وقت إنشاء الكمبيالة، يقابله الدَّين المحال عليه، وهو دين للمحيل عند المحال عليه، ولكنه ليس بشرط لقيام الحوالة على ما تمَّ ترجيحه(1)، ودين للمستفيد على الساحب، ويُسمى وصول القيمة، يقابله الدَّين المحال به في الحوالة، الذي يُعتبر شرطاً لقيام الحوالة (شرط انعقاد)، فلو لم يكن موجوداً (أي دين المستفيد على الساحب) لكانت الكمبيالة وكالة بقبض، كما هو الحال في الحوالة إذا لم يكن الدَّين المحال به موجوداً تكون وكالة بقبض عند جماهير الفقهاء(2).
__________
(1) 7 انظر ص61 من هذه الرسالة.
(2) 7 العقود الشرعية الحاكمة: عبده ص 254، ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 57، أحكام عقد الصرف: سالم سلامة، ص 421 ـ 422، الموسوعة الفقهية ط. تمهيدية، نموذج (3) ص237.(8/50)
الكمبيالة تتضمن أمراً من الساحب (مُحَرِّر الصك) إلى المسحوب عليه، طالباً منه أن يدفع مبلغاً معيناً من النقود لإذن شخص ثالث أو لحاملها، وفي ذلك إقرار من الساحب بالدَّين الذي للمستفيد، وتدلُّ عليه عبارة (القيمة وصلت بضاعة أو نقداً)، يقابله الصيغة في الحوالة، فإنها تتضمن أمراً من المحيل للمحال بأن يطالب المحال عليه، كما تتضمن أمراً من المحيل إلى المحال عليه بأن يدفع مبلغاً معيناً من المال للمحال، وفي ذلك إقرار منه بالدَّين الذي عليه للمحال(1).
إن الكمبيالة قد تكون مسحوبة على شخص واحد، وقد تكون على شخصين فأكثر، يقابل ذلك في الحوالة أن المحال عليه قد يكون واحداً، وقد يكون اثنين فأكثر(2).
بالنسبة لمقابل الوفاء في الكمبيالة يقابله في الحوالة الدَّين المحال عليه، كما سبق قريباً، وبالنسبة للشروط الواجب توافرها في مقابل الوفاء في الكمبيالة، وهي كالتالي:
__________
(1) رسالة أحكام عقد الصرف: سالم سلامة ص 421 ـ 422.
(2) المرجع السابق، انظر ص61 من هذه الرسالة.(8/51)
شرط وجود الدَّين وقت استحقاق الكمبيالة، وأن يكون مستحقاً وقت الطلب، يقابله في الحوالة ثبوت الدَّين المحال عليه عند الوفاء، وألاّ يكون قد سقط باستيفاء أو تعذر، أو بخروجه مستحقاً في كل ذلك.
شرط أن يكون مقابل الوفاء مساوياً بالأقل لمبلغ الكمبيالة، يقابله في الحوالة أن يكون الدَّين المحال عليه مساوياً لدين الحوالة في المقدار(1).
شرط أن يكون مقابل الوفاء مبلغاً من النقود، يقابله في الحوالة شرط أن يكون المال المحال عليه مبلغاً من النقود على وجه مرجوح عند الشافعية، ولكن الرأي الراجح أن الحوالة تصح بالمثلي وعليه، وتصح بما ينضبط بالوصف كما تقدم(2)، فهذا يدلُّ على أن الحوالة في الفقه الإسلامي أوسع دائرة وأشمل مدى من الكمبيالة، والسبب في ذلك أن الحوالات في الفقه الإسلامي تطبق في المعاملات التجارية والمعاملات المدنية ؛ لأن الشريعة لا تتضمن في أحكامها أيَّ تمييز بينهما، كما لا تفرِّق بين التاجر وغير التاجر في الحكم، وهذا التمييز أحدثته القوانين الوضعية تحقيقاً لسرعة الحركة
__________
(1) وهو قول قد ترجح خلافه. انظر ص77 من هذه الرسالة.
(2) انظر ص70، 71 من هذه الرسالة.(8/52)
التجارية(1).
إن الساحب في الكمبيالة مسئول عن تقديم مقابل الوفاء، يقابله مسئولية المحيل عن تقديم المال المحال عليه، وبالأخص إذا كانت الحوالة مطلقة بين يدي المحال حتى يتمكن من إيفائه، حتى وإن كان غير موجود، وقبل المحال عليه ذلك تبرعاً، فله الرجوع على المحيل بقيمة مال الوفاء، هذا إذا كانت الحوالة بأمر المحيل(2).
بالنسبة لحق ملكية الحامل في مقابل الوفاء إذا تأكد له، يقابله في الحوالة حق المحال في ملكية المال المحال عليه بمجرد صدور الحوالة مستوفية أركانها وشروطها، حتى إنه لا يجوز للمحال عليه أن يدفعه إلى المحيل، وإلا كان ضامناً له أمام المحال.
__________
(1) ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 157.
(2) انظر ص100 من هذه الرسالة.(8/53)
إن الكمبيالة غالباً ما تكون مستحقة الدفع بعد مدة من تاريخ تحريرها، وتظهر هذه المدة في صيغتها، فعندئذٍ تكون مؤجلة، وقد تكون واجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها، بحيث يستطيع الحامل أن يقدمها للمسحوب عليه في نفس الوقت واليوم الذي حُررت فيه، فعندئذٍ تكون الكمبيالة حالَّة، يقابل ذلك في الحوالة أنها قد تكون مؤجلة إذا كانت بدين مؤجل، وقد تكون معجلة إذا كانت بدين حالّ، غاية ما هنالك، أن الكمبيالة إذا كانت مؤجلة، فإن تاريخ استحقاقها يجب أن يظهر في الصيغة بخلاف الحوالة(1).
إن الكمبيالة يجوز تداولها عرفاً من جهة المستفيد بالتظهير، سواء كان التظهير تامّاً ناقلاً للملكية(2)
__________
(1) أحكام عقد الصرف: سلامة ص 422.
(2) ينبغي التنويه إلى أن التظهير التام الناقل للملكية في الكمبيالة له صورتان ؛ كالتالي.
أ ـ أن تُظّهَّر الكمبيالة تظهيراً تاماً في مقابلة ثمن مساوٍ لقيمتها: بمعنى أن يحصِّل المُظَهِّر قيمة الكمبيالة كاملة من المُظَهَّر إليه، وهذه الصورة جائزة، وتحمل معنى الحوالة في التداول.
ب ـ أن تُظّهَّر الكمبيالة تظهيراً تاماً في مقابلة ثمن أقل من قيمتها: وهذه الصورة تعرف بعملية الخصم أو (الحسم) في الكمبيالة، ومضمونها أن الحامل بيده كمبيالة مستحقة الدفع بعد ثلاثة شهور مثلاً، فيقوم بتظهيرها تظهيراً تامّاً ناقلاً للملكية قبل ميعاد استحقاقها إلى مصرف (أو سواه) مقابل أن يحصل المُظَهِّر على قيمتها مخصوماً منها مبلغاً يُسمى سعر الخصم، ويتكون من ثلاثة عناصر هي:
الفائدة على المبلغ المدفوع إلى المظهر على المدة من يوم إجراء الخصم إلى ميعاد استحقاق الكمبيالة.
عمولة المصرف عن العملية: وقد تكون نسبة من قيمة الكمبيالة.
مصاريف تحصيل الكمبيالة: ويقصد منها تغطية نفقات الانتقال، والإخطارات البريدية وغيرها.
ويكون حامل الكمبيالة ضامناً للمظهر إليه (المصرف أو سواه) قيمتها.
وبالنظر إلى عملية الخصم من الناحية الشرعية، تبيَّن أنها لا تعدو أن تكون شكلاً من أشكال إقراض النقود بفائدة، فهي قرض من المُظَهَّر إليه (المصرف أو سواه) إلى المظهر أو المستفيد، يحصل المُظَهَّر إليه (وهو المصرف أو سواه) في مقابله على فائدة ربوية نظير دفع قيمة الورقة التجارية لحاملها قبل حلول ميعاد الاستحقاق، وإن قيام المصارف التقليدية بعملية الخصم إنما هو في إطار سياستها العامة في الإقراض بالفائدة الربوية نظير الأجل، فالمصرف لا يقصد شراء الورقة التجارية (الكمبيالة) إنما يقرض المستفيد (المُظَهِّر) مبلغاً من المال بضمان هذه الورقة (الكمبيالة) بالفائدة المذكورة، وعلى ذلك فليس= =عملية الخصم إلا عملية ربوية، مهما تبدَّلت الأسماء والأشكال، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، فلا يسوغ شرعاً إسباغ صفة الحوالة عليها ؛ لأن الحوالة إذا كانت تجيز تقاضي كلٍ من العمولة ومصاريف التحصيل ؛ لأن كلاً منها مقابل لخدمات حقيقية قدمها المصرف، فإنها لا تقوى على إباحة الفائدة، ولو أن المُظَهَّر إليه (المصرف أو سواه) اكتفى بأخذ العمولة ومصاريف التحصيل لكان هذا أجراً نظير قيامه بالتحصيل، وكان دفع قيمة الكمبيالة قبل موعد استحقاقها من باب القرض الحسن، الذي لا تعرفه المصارف الربوية، ولَما خرجت عن كونها حوالة.
والحل كبديل إسلامي أن المُظَهَّر إليه (المصرف أو سواه) ينبغي أن يعتبر هذه العملية على أساس القرض الحسن، وذلك بأن يلتزم أحكام القرض، ولا يأخذ أكثر مما دفعه من قيمة الكمبيالة، وإن كان له أن يأخذ منه بدل ما أنفقه من مصاريف حقيقية في تحصيل الورقة، سواء ذلك في إنشاء السجل الخاص بالخصم، أو متابعة المسحوب عليه، وانقضاء الدَّين فيه، ويلتزم المظهر (طالب الخصم) أو المقترض برد ما أخذه من المُظَهَّر إليه (المصرف أو سواه) إذا لم يفِ المسحوب عليه بقيمة الكمبيالة في موعد استحقاقها لضمانة قيمتها، وإذا تحقق ذلك تصير المعاملة إلى الحوالة. انظر: الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: محمد سراج ص 102 ـ 106، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي: محمد شبير ص 207 ـ 208، العقود الشرعية الحاكمة: عبده ص 264، 266.(8/54)
، أو كان توكيلاً، أو كان تأمينياً، بحكم كون الكمبيالة أداة للوفاء بدل النقود، ويقابله في الحوالة تداولها من جهة المحال، فإن المحال يجوز له أن يحيل دائنه على المحال عليه، كما يجوز أن يوكل غيره في تحصيل الدَّين من شخص المحال عليه(1).
ولكن هل يجوز للمحال أن يرهن الدَّين الذي له عند المحال عليه بحكم الحوالة؟
هذه المسألة تُعرف برهن الدَّين لغير دائنه، وقد أجازها فقهاء المالكية وغيرهم(2)
__________
(1) 8 وتظهر الحوالة في أقصى صورها في التظهير التام الناقل للملكية إذا شرط المظَهِّر انتفاء ضمانه للدين.
(2) 8 اختلف الفقهاء في رهن الدَّين على قولين ؛ كالتالي:
القول الأول: يرى جواز رهن الدَّين، وهو قول المالكية والشافعية في وجه ؛ واستدلوا بأنه يجوز بيعه، وكل ما جاز بيعه جاز رهنه.
القول الثاني: يرى عدم جواز رهن الدَّين، وهو قول الحنفية والحنابلة ومشهور الشافعية ؛ واستدلوا بأنه غير مقدور على تسليمه، ولا يُدرى هل سيحصل عليه المرتهن أم لا، وذلك غرر من غير حاجة، فمنع صحة العقد.
الراجح: يبدو لي أن الراجح هو القول القاضي بجواز رهن الدَّين ؛ تنزيلاً له منزلة العين ؛ لأنه يجوز بيعه، ثم إن القول بعدم القدرة على تسليمه غير مسلم، خاصة في الكمبيالة التي تتمتع بخاصية التداول مع الثقة= =بها والله أعلم. انظر تبيين الحقائق: الزيلعي 4/83، حاشية الدسوقي 3/231، المهذب: الشيرازي 1/309، كشاف القناع: البهوتي 3/327.(8/55)
8، وذلك كما لو كان لخالد دين عند عمرو (وهو يمثل المحال) ولعمرو دين على أحمد، فيرهن عمرو دينه الثابت له في ذمة أحمد لدى خالد بدينه الثابت له في ذمته (أي ذمة عمرو)، والطريقة هي أن يدفع عمرو وثيقة الدَّين الذي له على أحمد لخالد، حتى توفيته، ويشترط لصحة هذه الصورة قبض الوثيقة والإشهاد عليها(1).
عند تداول الكمبيالة من المستفيد إلى شخص آخر، لا يشترط قبول محرر الكمبيالة مرة أخرى، كما في الحوالة تماماً، فعند تداول الحوالة من المحال إلى شخص ثالث لا يشترط رضا المحيل الأول.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3/231.(8/56)
من آثار تظهير الكمبيالة تظهيراً تامّاً أو تأمينياً انتقال الحق مطهراً من الدفوع، فلا يستطيع الموَقِّع في مواجهة الحامل حَسَن النية أن يتمسك بالدفوع التي يستطيع توجيهها قِبل أحد الموقعين السابقين، يقابله في الحوالة أن البائع لو أحال رجلاً على المشتري بألف دينار مثلاً، ثم إن المشتري ردّ المبيع بعيب، فلا تبطل الحوالة؛ لأنه تعلق بها حق الأجنبي الثالث، فلا يجوز إبطالها(1)، هذا فضلاً عن أنه ليس هناك ما يمنع من أن يتنازل المحال عليه مقدماً عن الدفوع التي يمكنه التمسك بها قبل المحال.
إن المسحوب عليه لا يلزمه الوفاء بالكمبيالة حتى يتعهد بالوفاء بقيمتها بأن يقبلها، فهي غير نافذة عليه حتى يتعهد بالوفاء بها في ميعاد الاستحقاق، والحال كذلك في الحوالة، فهي لا تنفذ في حق المحال عليه حتى يرضى بها ويقبلها، سواء كان مديناً أو غير مدين على ما ترجح(2).
__________
(1) انظر ص99 من هذه الرسالة، أحكام عقد الصرف: سلامة ص423.
(2) أحكام عقد الصرف: سلامة ص423، انظر ص36 من هذه الرسالة.(8/57)
إن حامل الكمبيالة قد يشترط لنفسه ضماناً شخصياً أو عينياً كالرهن على المدين من ساحب وغيره من أحد المظهرين، ويقابله في الحوالة أنه يجوز للمحال أن يشترط على المحيل أو المحال عليه تقديم ضامن أو رهن.
ثانياً: أوجه الخلاف بين الكمبيالة والحوالة في الفقه الإسلامي:
إذا وفَّى المسحوب عليه بقيمة الكمبيالة للمستفيد أو الحامل المُظَهَّر إليه، برئت ذمة الساحب، وجميع المظهرين، أما إذا لم يوفِ المسحوب عليه بقيمتها، فإن للمستفيد أو الحامل الرجوع على الساحب، وعلى الموقعين جميعاً أو أفراداً، بحكم التضامن، في حين أن الحوالة متى كانت مستوفية أركانها وشروطها، فإنها توجب براءة ذمة المحيل مؤبداً كما سبق ترجيح ذلك(1)، وبناء عليه تسقط الضمانات التي هي لمصلحة الدائن المحال.
__________
(1) أحكام عقد الصرف: سلامة ص 423، ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 252 ـ 253، انظر هذه الرسالة ص94.(8/58)
إن قبول المسحوب عليه في الكمبيالة من شأنه إضافة ضمان جديد لصالح المستفيد من الكمبيالة، ذلك أن المسحوب عليه بمجرد توقيعه على الكمبيالة بالقبول، يصبح ملتزماً بالوفاء بقيمة الكمبيالة للحامل في ميعاد الاستحقاق، ويستوي في ذلك أن يكون المسحوب عليه ملتزماً بشيء للساحب، أو غير ملتزم له بشيء قبل هذا التوقيع، وينقلب الساحب مجرد ضامن للوفاء بالكمبيالة لصالح الحامل، ومن هنا كان قبول المسحوب عليه ضماناً جديداً للحامل إلى جانب التزام الساحب، في حين أن الحوالة على الراجح من أقوال الفقهاء تبرئ ذمة المحيل بمجرد قبول المحال عليه، ذلك إذا كانت مستوفية أركانها وشروطها، وبالتالي، فإن قبوله ليس من شأنه أن ينشئ ضماناً جديداً(1).
إن الكمبيالة خُصصت عن الحوالة ببعض الأمور كالتالي:
أنه لابد فيها أن تكون مكتوبة، ولذلك عُرفت بأنها صك أو مُحَرَّر، بخلاف الحوالة.
__________
(1) ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 218 ـ 223.(8/59)
إن الكمبيالة لابد أن تتضمن بيانات محدودة، نص عليها القانون، وهي توقيع الساحب، وبيان اسم المسحوب عليه، وبيان اسم المستفيد، ومبلغ الكمبيالة، وتاريخ إنشائها، وتاريخ استحقاقها، ومكان الوفاء، وشرط الإذن، وذكر وصول القيمة.
إن محل الكمبيالة لابد أن يكون مبلغاً من النقود، في حين أن الحوالة يجوز أن يكون محلها أشياء مثلية أو قيمية، فضلاً عن جواز أن تكون مبلغاً من النقود(1)
تخريج أوجه الخلاف بين كلٍ من الكمبيالة والحوالة:
يمكن تخريج أوجه الخلاف بين كل من الكمبيالة والحوالة، بما لا يخرج الكمبيالة عن كونها حوالة، وذلك كالتالي:
أولاً: بالنسبة للوجه الأول: وهو أن المسحوب عليه في الكمبيالة إذا لم يوفِ بقيمتها للمستفيد أو للحامل، رجع هذا الأخير على الساحب وعلى الموقعين جميعاً، على عكس الحوالة التي تبرئ ذمة المحيل بمجرد صدورها مستوفية أركانها وشروطها، فيمكن تخريجه في الفقه الإسلامي كما يلي:
__________
(1) ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص57، أحكام عقد الصرف: سلامة ص423.(8/60)
إنه يجوز للمحال أن يشترط على المحيل عدم براءة ذمته حتى يستوفي حقه، وبمقتضى هذا الشرط يبقى المحيل ملتزماً له بالوفاء عند تعذر الاستيفاء من جهة المحال عليه أو غيره، على أنه لا مانع من أن يتبرع المحيل بأن يبقى ضامناً للوفاء، حتى يحصل الاستيفاء، وقدّمتُ في الكمبيالة أنه يجوز استبعاد التضامن بشرط صريح، وإذا كان هذا الشرط من الساحب امتد أثره إلى جميع المظهرين اللاحقين، وإذا كان من أحد المظهرين(1) اقتصر أثره عليه، وعلى ذلك نخلص إلى نتيجة واحدة، وهي أن الإرادة هي الفيصل في إيجاد التضامن بين المتعاملين بالكمبيالة.
إنه يجوز للمحيل أن يحيل المحال على اثنين، كل واحد منهما ضامن عن صاحبه ليطالب أيهما شاء(2).
__________
(1) انظر ص214 من هذه الرسالة.
(2) انظر ص 61 من هذه الرسالة.(8/61)
يمكن تفسير عمليه التضامن في الكمبيالة، بالاستئناس بمبدأ محمد بن الحسن من الحنفية في الحوالة، وهو أنها لا تنقل الدَّين إنما تنقل المطالبة فقط مع بقاء الدَّين على حاله في ذمة المحيل، وتفريعاً على قوله لا تسقط الضمانات التي لصالح المحال الدائن، كالرهن أو الحبس أو الضمان، وهذا ينطبق تماماً على الكمبيالة من حيث إنّ المشرع قرر للحامل ضمانات الوفاء، متمثلة في ضمان الساحب والمظهرين جميعاً مع المسحوب عليه، وهذا لا يكون إلا إذا كان إصدار الكمبيالة أو تظهيرها ليس من شأنه نقل الدَّين، وإنما نقل المطالبة على ما يقرره الإمام محمد رحمة الله.(8/62)
إلى جانب ذلك، فإن التضامن بين الموقعين على الكمبيالة أصبح عرفاً سائداً، والفقه الإسلامي يؤثِر الأخذ بالعرف الجاري في أي عصر، أو بين أي طائفة، إذا لم يكن هناك نص شرعي يخالف ذلك العرف، وهناك قاعدة فقهية تقول: " المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً " وقاعدة أخرى تقول: " المعروف بين التجار كالمشروط بينهم"(1) وقد ذكرت سابقاً أن الكمبيالة نشأت نشأة عرفية في محيط التجار، وليست من صنع المشرع الذي اقتصر دوره على تقنين الأعراف التجارية، وحماية التعامل بها(2).
ثانياً: بالنسبة للوجه الثاني: وهو أن قبول المسحوب عليه من شأنه إضافة ضمان جديد لصالح المستفيد في الكمبيالة، على عكس الحوالة التي تبرئ ذمة المحيل بمجرد صدورها مستوفية أركانها وشروطها، فيمكن تخريجه على النحو التالي:
__________
(1) 9 الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: محمد صدقي بن أحمد البورنو ص 179.
(2) 9 ضمانات الوفاء بالكمبيالة: القاضي ص 252 ـ 253، راجع هذه الرسالة ص197.(8/63)
على أساس السفتجة إذا وردت إلى المكتوب إليه وقبلها ؛ أي تعهد بالوفاء بها، بأن تلفظ بصريح الضمان، أو كتب على ظهرها إنها صحيحة قد قبلها، فيصبح ملتزماً بالوفاء بها، على هذا الأساس، بالإضافة إلى التزام كاتب السفتجة، كما سبق تفصيله(1)، ولا يخفى أن السفتجة قد تكون نوعاً من الحوالة.
كما يمكن تخريجه على رأي المالكية وبعض الشافعية في الحوالة التي تكون على غير مدين للمحيل بأنها كفالة(2)، ومن شأن الكفالة عدم براءة ذمة المحيل، بل يظل ضامناً على الرغم من إجراء الحوالة، وقبول المحال عليه الذي يصبح ملتزماً بالوفاء أيضاً، ولكن هذا الرأي مبني على أن الحوالة على غير مدين كفالة، وليس بحوالة، وقد تقدم تخريج خلافه(3).
وكذلك فقد أصبح هذا الأمر عرفاً سائداً، والفقه الإسلامي ـ كما قررت قريباً ـ يؤثر الأخذ بالعرف إذا ثبت تواتره، ولم يصطدم بقاعدة شرعية.
__________
(1) انظر ص160 من هذه الرسالة.
(2) انظر ص23 من هذه الرسالة.
(3) انظر ص23 من هذه الرسالة.(8/64)
ثالثاً: بالنسبة للوجه الثالث: وهو أن الكمبيالة خصصت عن الحوالة ببعض الأمور منها الكتابة، واحتواؤها على عدد من البيانات، واختصاصها بالنقود … … الخ، فيخرج كالتالي:
بالنسبة لضرورة كون الكمبيالة مكتوبة، فإن الله ـ عز وجل ـ أمر في معرض الحديث عن الدَّين الآجل بكتابته، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله … (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 282.(8/65)
وجه الدلالة: إن الكمبيالة إذا كانت تمثل ديناً آجلاً في الغالب، مكتوباً في صك، يحتوي على مجموعة من البيانات، فهذا يطابق ما هو مقرر في الشريعة وفق هذه الآية، من ضرورة كتابة الديون الآجلة، وأن يتولى الكتابة كاتب عدل، يثبت جميع البيانات الجوهرية، فتكون الشريعة الإسلامية سابقة على القوانين الوضعية في تقرير ذلك، بالإضافة إلى ذلك، فإن ضرورة احتواء الكمبيالة على بيانات عديدة كتابة أصبح عرفاً سائداً، وقد قرر الفقهاء قاعدة عرفية تقول: " الكتاب كالخطاب"(1) وهذه في جميع التصرفات من حوالة وغيرها(2).
__________
(1) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: البورنو ص172.
(2) أحكام عقد الصرف: سالم سلامة، ص423.(8/66)
بالنسبة لكون الكمبيالة لابد أن يكون محلها مبلغاً من النقود، على حين أن الحوالة تكون في المال المثلي، فضلا عن النقود، فهذا يدل على أن الحوالة في الفقه الإسلامي أكثر اتساعاً من الكمبيالة في العرف التجاري، وهذا راجع ـ كما قررت سابقاً(1) ـ إلى أن الشريعة الإسلامية في أحكامها لم تميّز بين المعاملات المدنية و المعاملات التجارية، كما لا تفرق بين التجار وغيرهم، كما هو الحال في الكمبيالة(2)
__________
(1) انظر ص224 من هذه الرسالة.
(2) ضمانات الوفاء بالكمبيالة: عمر محمد مختار القاضي، ص157.(8/67)
أقول: إن وجود مثل هذا الوجه من أوجه الخلاف بين الكمبيالة و الحوالة، يجعل الكمبيالة نوعاً من الحوالة، فإذا كانت الحوالة تجوز مكتوبة وغير مكتوبة، وتجوز معجلة ومؤجلة، كما تجوز بالنقود وبالمثلي، فإن الكمبيالة المكتوبة والمؤجلة في الغالب التي يكون محلها مبلغاً من النقود، ما هي إلا نوع من أنواع الحوالة في الفقه الإسلامي، لا سيما أن تعريف الحوالة أعم من تعريف الكمبيالة، فإذا كانت الحوالة انتقال الدَّين من ذمة إلى ذمة، فإن الكمبيالة نوع منها، مكتوبة وفقاً لأوضاع حددها القانون، تتضمن أمراً من الساحب إلى المسحوب إليه بأن يدفع مبلغاً معيناً في تاريخ محدد أو قابل للتحديد، لإذن ثالث، وهو المستفيد أو الحامل.
رأي الباحث:(8/68)
بالنظر إلى كل ما سبق، فإنه يبدو لي أن الكمبيالة في العرف التجاري ما هي إلا صورة مستحدثة للحوالة في الفقه الإسلامي، مع بعض الأحكام التي نظمها المشرع الوضعي، كالتظهير، والتضامن، والضمان الاحتياطي، واستقلال التوقيعات، وهذه الأحكام لا مانع من الاتفاق عليها شرعاً، طالما أنها أصبحت عرفاً سائداً لا تخالف القواعد الشرعية، وخاصة أن الأصل في المعاملات الشرعية الإباحة ما لم تصطدم بقواعد شرعية، وأن وجود بعض وجوه الخلاف بين الكمبيالة وبين الحوالة لا يمنع القول بأن الكمبيالة تأخذ حكم الحوالة، إذ إن السفتجة ـ التي قد تكون نوعاً من الحوالة ـ قد تتدخل في إيجاد مخرج لهذه الفوارق بين الكمبيالة والحوالة، كما يمكن أن يتدخل عقد الكفالة، وهذا يدل على أن فكرة إنشاء الكمبيالة استقيت فعلاً من الحوالة والسفتجة والكفالة في الشريعة الإسلامية.
وإذا كانت الكمبيالة تأخذ حكم الحوالة مع بعض أحكام السفتجة، فإنها تكون جائزة شرعاً.(8/69)
على أنه يتعين التنبيه على وجوب خلو الكمبيالة من الفوائد الربوية، من مثل إضافة قيمة الفوائد إلى أصل مبلغ الكمبيالة، أو شرط إضافة الفائدة إلى أصل مبلغ الكمبيالة عند السداد(1)، وكذلك يجب أن لا يدخلها عملية الخصم(2).
---
__________
(1) 10 يلجأ أطراف الكمبيالة عادة إلى إضافة قيمة الفوائد إلى أصل المبلغ عن الفترة ما بين تحريرها واستحقاقها منعاً للمنازعات في تحديد قيمته عند موعد الاستحقاق، على أنه قد يحدث ألاّ تُضاف الفوائد إلى قيمة المبلغ المدون بالصك، فيضع الأطراف شرط إضافة الفوائد إلى أصل المبلغ عند السداد، كأن يكتب عبارة (يضاف ما قيمته 5 % ـ مثلاً ـ كفوائد عند السداد)، فالكمبيالة إذا احتوت على شيء من ذلك تكون باطلة شرعاً، والله تعالى أعلم.
انظر القانون التجاري والأوراق التجارية: بهنساوي، ص 46، الأوراق التجارية: القليوبي، ص 49.
(2) 10 انظر هامش2 من ص225 من هذه الرسالة.(8/70)
الخَاتِمة
بعد هذه المعايشة والرحلة الطويلة مع موضوع البحث، أضع بين يديّ القارئ الكريم أهمَّ النتائج التي توصلت إليها:
كان من ضروريات البحث أن نعرض لتعريف الحوالة في اللغة وعند الفقهاء، وبعد الدراسة والتحليل، عمد الباحث إلى اختيار تعريف للحوالة يميّزها عن غيرها من العقود المشابهة لها، التي وإن كانت تلتقي مع بعضها في بعض النقاط إلا أنها تختلف معها في الأخرى، وهذا التعريف هو أنها: عقد يقتضي انتقال الدين من ذمة إلى أخرى تبرأ به الأولى.
فيما يتعلق بطبيعة الحوالة، فقد أثبت البحث أنها عقد مستقل، شُرع لغاية يُحتاج إليها في التعامل، وليس بمحمول على غيره، وكان لذلك أثره في المسائل التالية:
استحباب قبول المحال للحوالة.
جواز الحوالة المطلقة.
اشتراط رضا المحال والمحال عليه.
جواز اقتران الحوالة بشرط الرهن والضمان.
عدم اشتراط مديونية المحال عليه للمحيل.
عدم اشتراط صحة الاعتياض عن محل الحوالة.
عدم اشتراط كون المال المحال به حالاً.
عدم اشتراط تماثل الدينين بالجنس والمقدار والصفة.
براءة ذمة المحيل مؤبداً.(9/1)
فيما يتعلق بمشروعية الحوالة فقد أثبت البحث أن الحوالة مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والمعقول، ويستحب للمحال أن يقبلها، وهي على قسمين مطلقة ومقيدة.
لا بد أن تتوافر في الحوالة الأركان التالية:
الصيغة: أثبت البحث أن الحوالة لا بد فيها من رضا الأطراف الثلاثة، دون أن يشوب أيّ طرف من أطرافها إكراه يجعل الحوالة موقوفة على إجازته بعد زوال هذا الإكراه، وتنعقد بكل ما يدلّ على معناها، دِلالة مفهومة لفظاً أو فعلاً (كالكتابة أو الإشارة من الأخرس) بين اثنين من أطرافها الثلاثة.
الأطراف الثلاثة: وهم المحيل، والمحال، والمحال عليه، وقد أثبت البحث أنه لابد في المحيل والمحال أن يكونا عاقلين، وأن يكون المحيل مديناً للمحال، وأن يكون المحال عليه بالغاً عاقلاً، وقادراً على الوفاء بما التزم به.
محل صالح مستوفٍ لشرائط مبينة في محلها.
وبالنسبة للآثار المترتبة على عقد الحوالة، أثبت البحث أن الحوالة تبرئ ذمة المحيل من الدين مؤبداً، بحسب الأصل، على التفصيل المتقدم، وفي المقابل تحدث شغلاً لذمة المحال عليه، ويترتب على ذلك أمور ؛ أهمها:(9/2)
سقوط الضمانات التي هي لمصلحة المحال، فالمحال لا يستفيد شيئاً من الضمانات التي كانت للمحيل في مواجهة المحال عليه.
أما الدفوع التي لمصلحة المحال عليه في مواجهة المحيل فإنها تبقي له في مواجهة المحال، إلا أن يتعلق بمال الحوالة حق ثالث، على التفصيل المتقدم.
رجوع المحال عليه بما أدّى على المحيل في الحوالة المطلقة.
وانتهى البحث في الحوالة إلى أنها تنتهي بما يلي:
بالأداء حقيقة أو حكماً.
بالإبراء والإقالة.
بموت المحال عليه.
بفوات المال المحال به أصالة أو عرضاً، وبفوات المال المحال عليه أصالة.
وفي السفتجة بعد الدراسة والتحليل لهذه المعاملة، ظهر للباحث أنها من التصرفات ذات الطبيعة الخاصة، التي تميّزها عن غيرها من العقود المشابهة بها، وإن كانت تلتقي مع الحوالة في بعض النقاط، إلا أنها تختلف معها في أخرى.
وفيما بتعلق بمشروعية السفتجة، فقد أثبت البحث جوازها، سواء كانت تمثل ديناً أو كانت تمثل قرضاً، وسواء كانت منفعة السفتجة مشروطة في القرض أم لا، بشرط ألاَّ يكون فيها ضرر على المدين.(9/3)
وفيما يتعلق بوفاء السفتجة بنقد آخر، فقد أثبت البحث أنه إذا كان الوفاء بنقد آخر مشروطاً في العقد ابتداءً فلا يجوز ؛ لأنه صرف آجل، أما إذا جرى الاتفاق بين الموفي والمستوفي عند الوفاء أن يكون بنقد آخر فذلك جائز، على التفصيل السابق.
وبالنسبة للزوم السفتجة على المكتوب إليه، فقد أثبت البحث أن السفتجة لا تلزم المكتوب إليه إلا إذا أقر ببياناتها أو ضمنها للمكتوب له، أو أثبتها في حسابه، أو كتب على ظهرها إنها صحيحة قد قبلتها.
وفي عملية التحويل المصرفي والبريدي، اقتضى البحث أن نعرض بإيجاز وعجالة للطبيعة القانونية لهذه العملية من حيث تعريفها، وقيام المصارف بها، وأنواعها، وأهميتها، وعائد المصرف أو البريد من العملية، وبالحكم على هذه العملية من الناحية الشرعية، تبيّن أنها لا تتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، بل تتفق وروحها، لذلك لم يختلف أحد من الفقهاء المحدثين على القول بمشروعيتها، إنما وقع الخلاف في التكييف الفقهي لها، هذا كله إذا كانت خلواً من الربا.(9/4)
وفي محاولة للوقوف على تكييف عملية التحويل، وبعد التحليل والمناقشة، تبيّن أن عملية التحويل ما هي إلا صورة مستجدة للسفتجة ضُمَّتْ إلى صورها القديمة، مع بعض الأحكام المستحدثة التي استلزمتها طبيعة الحياة المعاصرة.
كما اقتضى البحث أن يدرس الباحث مسألة اجتماع الصرف مع الحوالة، حيث أثبت ضرورة فصل عملية الصرف عن عملية التحويل، ولا مانع شرعاً أن يتمّ الصرف على أساس القبض الحُكمي.
أثبت البحث أن العمولة التي يتقاضاها المصرف نظير قيامه بعملية التحويل ما هي إلا بدل المؤنة التي يتحملها المصرف إزاء قيامه بذلك، وعلى ذلك فلا مانع منها شرعاً بالقيود التالية:
أن تكون معلومة ؛ رفعاً للنزاع والخصومة.
لابد من ربطها بالخدمة المؤداة طبقاً للعناء المبذول.
كما يجب ألاَّ يكون استحقاقها متكرراً بلا موجب للتكرار.
استلزم البحث في الكمبيالة أن أعرض للكمبيالة بإيجاز، وذلك من حيث إنشاؤها، ووظائفها، وتعريفها، وبياناتها الإلزامية، ومقارنتها بالشيك والسند الإذني، وبعض الأحكام المتصلة بها، من مثل تداولها بالمناولة، والتظهير، ومقابل الوفاء، والقبول والامتناع عنه، والتضامن، والضمان الاحتياطي.(9/5)
وبالمقارنة بين الكمبيالة والسفتجة من جهة، وبينها وبين الحوالة من جهة أخرى، انتهى الباحث إلى أن الكمبيالة في العرف التجاري ما هي إلا صورة مستجدة للحوالة في الفقه الإسلامي، مع بعض أحكام السفتجة والكفالة، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أن الشريعة الإسلامية هي القادرة على أن تعطي الحوادث المستجدة ما يناسبها من أحكام.
وبعد..
فهذه هي أهمّ النتائج التي وفق الله الباحث إليها، والناظر في ثنايا البحث يجد العديد من الفوائد والنتائج، فإن كنت قد وُفقت في ذلك فالفضل لله وحده، وإن كانت الأخرى فالعذر إنني بذلت جهدي ما استطعت، ولا عصمة لغير الأنبياء.
ولله الحمد من قبلُ، ومن بعد، والله غالبٌ على أمره، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/6)
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: القرآن الكريم.
ثانياً: الحديث الشريف والسنن:
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: تقيّ الدِّين أبو الفتح، المعروف بابن دقيق العيد (ت 702 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمد ناصر الدين الألباني، ط2، 1405هـ 1985م، المكتب الإسلامي، بيروت.
أصول الحديث، علومه ومصطلحه: محمد عجاج الخطيب، ط4، 1401هـ 1981م، دار الفكر، بيروت.
إعلاء السنن: ظفر أحمد العثماني التهانوي، (ت 1394 هـ)، تحقيق / حازم القاضي، ط1، 1418هـ 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت.
تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (ت 1303هـ)، ط. دار الفكر.
تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت 852 هـ)، تحقيق / عبد الله هاشم اليماني المدني،،(ت 1384 هـ)، ط. 1382هـ 1964م، دار المعرفة ـ بيروت.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: أبو عمر يوسف بن عبد الله محمد ابن عبد البر، (ت 463 هـ)، تحقيق / سعيد أحمد إعراب، مكتبة المؤيد.(10/1)
جامع المسانيد والسُّنن: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي، (ت 774 هـ)، ط. 1415 هـ 1984م.
سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، (ت 275 هـ)، دار الحديث القاهرة.
سنن ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، المعروف بابن ماجة، (ت 275 هـ)، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
سنن الترمذي (الجامع المختصر من السنن): أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الترمذي، (ت 279 هـ) تحقيق / أحمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، ط. 1414هـ 1994م، دار الفكر، بيروت.
سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني، (ت 385 هـ)، ومعه التعليق المغني على الدارقطني: أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم، مكتبة المتنبي، القاهرة، عالم الكتب، بيروت.
سنن الدارمي: أبو محمد عبد الله بن بهرام الدارمي السمرقندي، (ت 255 هـ)، ط. 1414 هـ 1994م، دار الفكر، بيروت.
السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، (ت 458 هـ)، تحقيق / محمد عبد القادر عطا، ط1، 1414 هـ 1994 م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.(10/2)
سنن النَّسائي بشرح جلال الدين السيوطي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، (ت 303 هـ)، ط. 1414 هـ 1995م، دار الفكر، بيروت.
شرح الزرقاني على موطأ مالك: محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي، (ت 1122 هـ)، ط1، 1411 هـ 1990 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
شرح السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، (ت 516 هـ)، تحقيق/ زهير الشاويش، وشعيب الأرناؤوط، ط3، 1403 هـ 1983م، المكتب الإسلامي، بيروت.
شرح معاني الآثار: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، (ت 321 هـ) تحقيق / محمد زهري النجار، ط2، 1399 هـ 1979م، دار الكتب العلمية، بيروت.
صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، (ت256 هـ)، تحقيق/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ط.1414 هـ 1994م، دار الفكر، بيروت
صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، (ت261 هـ)، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، 1374 هـ 1955م، عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ مصر.(10/3)
صحيح مسلم بشرح النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، (ت 676 هـ)، تحقيق / عصام الصبابطي، وحازم محمد، وعماد عمر، ط1، 1415 هـ 1994م، دار الحديث، القاهرة.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت852 هـ) تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، وعبد العزيز بن باز، دار الفكر.
مسند أحمد بن حنبل: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 240 هـ)، تحقيق / محمد عبد السلام عبد الشافي، ط1، 1413 هـ 1993م، دار الكتب العلمية، بيروت.
مسند الحميدي: أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، (ت219 هـ)، تحقيق / حسين سليم أسله (الدارارني)، دار السقا، دمشق.
المصنف: أبو بكر عبد الرزاق بن همّام الصنعاني، (ت211 هـ)، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي، من منشورات المجلس العلمي.
المصنف في الأحاديث والآثار: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة، (ت 235 هـ)، تحقيق / محمد عبد السلام شاهين، ط1، 1416 هـ 1995م، دار الكتب العلمية، بيروت.(10/4)
المعجم الأوسط: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، (ت 360 هـ)، تحقيق / أيمن صالح شعبان، وسيد أحمد إسماعيل، ط1، 1417 هـ 1996م، دار الحديث، القاهرة.
المنتقى شرح الموطأ: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، (ت 494 هـ)، ط3، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
الموطأ: الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ)، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، دار التراث العربي ـ بيروت.
نصب الراية لأحاديث الهداية: أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، (ت 762 هـ)، دار الحديث، القاهرة.
النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير، (ت 606هـ)، دار إحياء الكتب العربية.
نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، (ت 1255 هـ)، دار الجيل، بيروت.
ثالثاً: أصول الفقه:
أصول الفقه الإسلامي: وهبة الزحيلي، ط1، 1406 هـ 1986م، دار الفكر، دمشق.(10/5)
إعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية، (ت 751 هـ)، تحقيق / طه عبد الرؤوف سعد، ط 1973م، دار الجيل، بيروت.
التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام في علم الأصول الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية: ابن أمير الحاج، (ت 879 هـ)، ط2، 1403 هـ 1983م، دار الكتب العلمية، بيروت.
شرح البدخشي (مناهج العقول): محمد بن حسن البدخشي، ومعه شرح الإسنوي (نهاية السول): جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، (ت 772 هـ) كلاهما شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، مطبعة محمد علي صبيح.
شرح التلويح على التوضيح: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي، (ت 792 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي: علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، (ت 730 هـ)، ط. 1394 هـ 1974م، دار الكتاب العربي، بيروت.(10/6)
المحصول في علم أصول الفقه: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، (ت 606 هـ)، تحقيق / طه جابر فياض العلواني، ط1، 1399 هـ 1979م، لجنة البحوث والتأليف والترجمة والنشر، جامعة محمد بن سعود الإسلامية.
رابعاً: الفقه:
أ ـ الفقه الحنفي:
الاختيار لتعليل المختار: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، (ت 683 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق: زين الدين إبراهيم بن نجيم، (ت 970 هـ)، ط2، دار المعرفة، بيروت.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، (ت 587 هـ)، دار الحديث، بيروت.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، (ت 743 هـ)، ط2، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
حاشية ردّ المحتار على الدّر المختار: ابن عابدين، تحقيق / عادل أحمد عبد الموجود وغيره، ط 1415هـ 1994م، دار الكتب العلمية، بيروت
حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الشلبي (ت 1021 هـ)، وهى مطبوعة بهامش تبيين الحقائق (السابق رقم 43).(10/7)
حاشية منحة الخالق على البحر الرائق: محمد أمين الشهير بابن عابدين (ت 1252 هـ)، مطبوعة بهامش البحر الرائق (السابق رقم 41).
دُرَر الحكاّم شرح مجلة الأحكام: علي حيدر، تعريب / فهمي الحسيني، ط 1411هـ 1991م، دار الجيل، بيروت.
الدُّر المختار شرح تنوير الأبصار: محمد بن علي بن محمد الحصكفى (ت 1088 هـ) وهو مطبوع مع حاشية رد المحتار لابن عابدين (السابق رقم 44).
شرح العناية على الهداية: أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي، (ت 786 هـ) وهو مطبوع بهامش شرح فتح القدير (الآتي رقم 50).
شرح فتح القدير على الهداية: كمال الدين محمد بن عبد الواحد، السيواسي، السكندري، المعروف بابن الهمام، (ت 681 هـ)، ط2، 1397 هـ 1977 م، دار الفكر.
شرح منلامسكين على كنز الدقائق: معين الدين الهروي المعروف بمنلامسكين، طبعة قديمة، المسجد العمري ـ غزة.
الشروط الصغير: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، الأزدي، المصري الطحاوي، (ت 321هـ) تحقيق / درمي إذرمان، ط2، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة.(10/8)
الفتاوى الإنقروية: محمد بن حسين الإنقروي الرومي الحنفي، (ت 1098 هـ)، طبعة قديمة (مسجد العباس ـ غزة).
الفتاوى البزازية (المسماة بالجامع الوجيز): حافظ الدين محمد بن محمد شِهاب ابن البزاز الكردري، (ت 827 هـ)، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية (الآتي رقم 57).
الفتاوى الخانية: فخر الدين الأوزجندي الفرغاني، المعروف بقاضي خان (ت 295 هـ) مطبوع على الفتاوى الهندية (الآتي رقم 57).
الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية: محمد العباس بن محمد أمين محمد المهدي الحنفي، (ت 1315 هـ)، ط1، 1304 هـ، المطبعة الأزهرية المصرية.
الفتاوى الهندية (الفتاوى العالمكيرية في مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان): الشيخ نظام، ومجموعة من علماء الهند، ط4، 1406 هـ 1986م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
لسان الحكّام في معرفة الأحكام: أبو الوليد إبراهيم بن أبي اليمن محمد بن أبي الفضل، المعروف بابن الشحنة الحنفي، ط2، 1393 هـ 1973م، شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة.
المبسوط: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، (ت 490 هـ)، ط3 1398هـ 1978م، دار المعرفة، بيروت.(10/9)
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: عبد الرحمن بن محمد سليمان، المعروف بِـ(داماد أفندي)، (ت 1078 هـ)، الطبعة قديمة، مسجد العمري، غزة.
ب ـ الفقه المالكي:
البهجة في شرح التحفة: أبو الحسن علي بن محمد بن عبد السلام التسولي، (ت 1258 هـ)، ط3، 1397 هـ 1977 م، دار المعرفة، بيروت.
التاج والإكليل شرح مختصر خليل: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري، المشهور بالمواق، (ت 897 هـ)، وهو مطبوع بهامش مواهب الجليل (الآتي رقم 71).
حاشية الخرشي على مختصر خليل: أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الخرشي، (ت 1101 هـ)، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، (ت 1230 هـ)، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل: محمد بن أحمد بن محمد ابن يوسف الرهوني، ط2، 1398هـ 1978م، دار الفكر، بيروت.
الذخيرة: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، (ت 684 هـ)، تحقيق / محمد أبو خبزة، ط1، 1994، دار الغرب الإسلامي، بيروت.(10/10)
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك: أبو البركات أحمد بن محمد ابن أحمد الدردير، (ت 1201 هـ)، مطبعة عيسى البابي الحلبي، مصر.
المدونة الكبرى: الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ)، رواية سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن القاسم، ط2، 1400 هـ، دار الفكر.
المقدمات والممهدات: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، (ت 520 هـ) تحقيق / محمد صبحي، ط1، 1408 هـ 1988 م، دار الغرب الإسلامي، بيروت
منح الجليل شرح مختصر خليل: أبو عبد الله محمد أحمد عليش، (ت 1299 هـ)، ط1، 1404 هـ 1984م، دار الفكر، بيروت.
مواهب الجليل شرح مختصر خليل: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي، المعروف بالحطاب، (ت 954 هـ)، ط2، 1398هـ 1978 م، دار الفكر.
ج ـ الفقه الشافعي:
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، (ت 911 هـ)، ط. 1378 هـ1959 م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر.(10/11)
تكملة المجموع بشرح المهذب: (التكملة الأولى) علي بن عبد الكافي السبكي، والثانية: محمد نجيب بن حسين المطيعي، (ت 1354 هـ) وكلاهما مطبوع مع المجموع للنووي (الآتي رقم 86).
حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي: أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الباجوري، (ت 825 هـ)، ط2، 1974م، دار المعرفة، بيروت.
حاشية البجيرمي على المنهج المسماة التجريد لنفع العبيد: سليمان بن عمر ابن محمد البجيرمي، (ت 122 هـ)، ط أخيرة، 1369 هـ 1950 م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
حاشية الجمل على شرح المنهج: سليمان بن عمر العجيلي الشافعي الشهير بالجمل، (ت 1204 هـ)، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: أبو الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي القاهري، (ت 1087هـ)، مطبوع مع نهاية المحتاج (الآتي رقم 89)
حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب: عبد الله ابن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري، الشهير بالشرقاوي، (ت 1226هـ)، دار المعرفة، بيروت.(10/12)
حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المنهاج: أبو العباس أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي (ت 1069هـ)، وأحمد البرُلّسي، الملقب بعميرة، (ت 957هـ)، دار الفكر، بيروت.
الحاوي للفتاوى: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر محمد السيوطي، (ت 911 هـ)، مكتبة الرياض الحديثة.
الحاوي الكبير: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، (ت 450 هـ)، تحقيق / محمود مسطرجي وغيره، ط1، 1414 هـ 1994 م، دار الفكر، بيروت
روضة الطالبين وعمدة المفتين: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، (ت 676 هـ)، إشراف / زهير الشاويش، ط2، 1405 هـ 1985 م، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق.
شرح روض الطالب من أسنى المطالب: أبو يحيى زين الدين زكريا بن محمد ابن أحمد الأنصاري، (ت 925 هـ)، المكتب الإسلامي.
الفتاوى الكبرى الفقهية: أبو العباس أحمد شهاب الدين بن حجر الهيثمي، (ت 974 هـ)، دار الفكر.
الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي: مصطفى الخن، ومصطفى البغا، وعلي الشربجي، ط2، 1416 هـ 1996 م، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت.
المجموع شرح المهذب: النووي (السابق رقم 82)، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.(10/13)
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: محمد بن أحمد المعروف بالشربيني الخطيب، (ت 977 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المهذب في فقه الإمام الشافعي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزأبادي، (ت 476 هـ)، دار الفكر.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شِهاب الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير، (ت 1004 هـ)، ط. 1404هـ 1984 م، دار الفكر.
د ـ الفقه الحنبلي:
الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: اختيار علاء الدين أبو الحسن علي بن عباس البعلي الدمشقي، (ت 803 هـ)، دار الفكر.
الأسئلة والأجوبة الفقهية المقرونة بالأدلة الشرعية: عبد العزيز المحمد السلمان ط1، مطبعة رئاسة دورات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ)، ط2، 1400 هـ 1980 م دار إحياء التراث العربي، بيروت.(10/14)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري، الحنبلي، (ت 772 هـ)، تحقيق / عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين، ط1، 1413هـ 1993 م، مكتبة العبيكان، الرياض.
شرح السلسبيل في معرفة الدليل، حاشية على زاد المستقنع: صالح بن إبراهيم البليهي، ط3، 1401 هـ، دار الهلال، الرياض.
الشرح الكبير على متن المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، (ت 682 هـ)، مطبوع مع كتاب المغني (الآتي رقم 104).
شرح منتهى الإرادات: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، (ت 1051 هـ)، دار الفكر.
الفروع: شمس الدين المقدسي أبو عبد الله محمد بن مفلح، (ت 763 هـ)، ط4، 1404 هـ 1984م، عالم الكتب.
الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل: أبو محمد عبد الله بن قدامة، (ت 620 هـ)، تحقيق / زهير الشاويش، ط2، 1399 هـ 1979 م، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت.
كشاف القناع على متن الإقناع: البهوتي (السابق رقم 96)، ط.1394 هـ، مطبعة الحكومة، مكة.(10/15)
المبدع في شرح المقنع: أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن مفلح، (ت 884 هـ)، ط. 1980م، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت.
مجموع فتاوى ابن تيمية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، (ت 728 هـ)، دار التقوى، القاهرة.
المعتمد في فقه الإمام أحمد: علي عبد الحميد بلطرجي، ومحمد وهبي سليمان تحقيق / محمود الأرناؤوط، دار خير، المكتبة التجارية.
المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة، (ت 620 هـ)، تحقيق / عبد الله بن عبد المحسن التركي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ط2، 1412 هـ 1992 م، دار هجر، القاهرة.
المغني على متن المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: ابن قدامة (السابق رقم 103) ط. 1414 هـ 1994 م، دار الفكر، بيروت.
هـ ـ الفقه الظاهري:
المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، (ت 456 هـ)، تحقيق / أحمد محمد شاكر، دار الفكر.
و ـ الفقه الزيدي:
البحر الزّخّار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: أحمد بن يحيى بن المرتضى، (ت 840 هـ)، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ومؤسسة الرسالة، بيروت.(10/16)
ز ـ الفقه الإباضي:
شرح كتاب النيل وشفاء العليل: محمد بن يوسف إطفيش، (ت 1332 هـ)، ط3، 1405 هـ، مكتبة الإرشاد، جدة.
ح ـ كتب الفقه العام.
الإجماع: ابن المنذر، (ت 318 هـ)، تحقيق / عبد الله بن زيد آل محمود، فؤاد عبد المنعم أحمد، ط3، 1402 هـ، دار الدعوة.
أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي، وتطبيقاته المعاصرة: عباس أحمد محمد الباز، دار النفائس، الأردن.
أحكام عقد الصرف (دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي): سالم أحمد محمود سلامة، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الفقه المقارن، (غير منشورة)، سنة 1412 هـ 1992م، كلية الشريعة والقانون، قسم الفقه المقارن، جامعة الأزهر، القاهرة.
أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنبلي: محمد زكي عبد البر، ط1، 1406هـ 1986م، دار الثقافة، قطر.
الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية: محمد أحمد سراج، ط.1988 م، دار الثقافة، القاهرة.
البنك اللاربوي في الإسلام: محمد باقر الصدر، ط.2، 1973م، دار الكتاب اللبناني، بيروت.(10/17)
التحويلات المصرفية في البنوك التجارية وموقف الشريعة الإسلامية منها: رضوان محمد عبد العال، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة.
تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية: سامي حسن حمود، ط2، 1402 هـ 1982 م، مطبعة الشروق، عمان.
الجامع في أصول الربا: رفيق يونس المصري، ط1، 1412 هـ 1991 م، الدار الشامية، بيروت، ودار القلم، دمشق.
الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية: عمر بن عبد العزيز المترك، (ت 1405 هـ)، تحقيق / بكر بن عبد الله أبو زيد، ط1، 1414 هـ، دار العاصمة، الرياض.
ضمانات الوفاء بالكمبيالة (مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي): عمر محمد مختار القاضي، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة.
العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة: عيسى عبده، ط1، 1397هـ 1977م، دار الاعتصام، القاهرة.
الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية: بيت التمويل الكويتي، ط1، 1407 هـ 1986م.
الفقه الإسلامي وأدلته: وهبة الزحيلي، ط2، 1409 هـ 1989 م، دار الفكر، دمشق.(10/18)
مبدأ الرضا في العقود (دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني): علي محي الدين علي القره داغي، ط1، 1406 هـ 1985م، دار البشائر الإسلامية، بيروت
مختصر أحكام المعاملات الشرعية: علي الخفيف، ط4، 1371 هـ 1952م، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
المدخل الفقهي العام (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد): مصطفى أحمد الزرقا، ط. 1967م، دار الفكر.
المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي: محمد عثمان شبير، ط2، 1418 هـ 1998م، دار النفائس، الأردن.
موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي: سعدي أبو جيب، ط2، 1404هـ 1948م، دار الفكر، دمشق.
الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (الجزء الخامس الشرعي)، الأصول الشرعية والأعمال المصرفية في الإسلام، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ط1، 1402 هـ 1982 م.
الموسوعة الفقهية: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، ط2، 1410 هـ 1990 م، ذات السلاسل، الكويت.
الموسوعة الفقهية الكويتية (نموذج 3 الحوالة): ط تمهيدية، 1970 م، وزارة الأوقاف والشئون الدينية، الكويت.(10/19)
موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة: عبد الله العبادي، ط2، 1415هـ 1994م، دار السلام.
النقود واستبدال العملات (دراسة وحوار): علي أحمد االسالوس، ط. 1987م، دار الاعتصام، الكويت.
الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: محمد صدقي بن أحمد البورنو، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت.
خامساً: كتب اللغة والمعاجم:
تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الزبيدي، (ت 1205 هـ)، دار مكتبة الحياة، بيروت.
التعريفات: علي بن محمد بن علي الجرجاني، (ت 816 هـ)، تحقيق / إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي.
طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي الحنفي، (ت 537 هـ) تحقيق / أبي عبد الله محمد حسن إسماعيل الشافعي، ط1، 1418هـ 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت.
القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً: سعدي أبو جيب، ط2، 1408 هـ 1988 م، دار الفكر، دمشق.
القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي، (ت 817 هـ) ط2، 1344 هـ، المطبعة الحسينية، المصرية.(10/20)
لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري، (ت 711 هـ) تحقيق / عبد الله علي الكبير وغيره، دار المعارف، القاهرة.
مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، دار الفكر، بيروت.
المصباح المنير: أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ، (ت 770 هـ)، ط1، 1417 هـ 1996 م، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.
معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد، ط1، 1414هـ 1993م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، (ت 395 هـ) تحقيق/ عبد السلام محمد هارون، ط1، 1411 هـ 1991 م، دار الجيل، بيروت.
النظم المستعذب شرح غريب المهذب: محمد بن أحمد بن بطال الركبي، (ت 633 هـ)، مطبوع مع المهذب (السابق رقم 88).
ساد ساً: القانون.
أساسيات القانون التجاري والقانون البحري: مصطفى كمال طه، وعلي البارودي، ومراد منير فهيم، ط. 1983 م، منشأة المعارف، الإسكندرية.
الالتزام الصرفي في قوانين البلاد العربية: أمين محمد بدر، ط. 1956م، معهد الدراسات العربية العالمية، جامعة الدول العربية.(10/21)
الأوراق التجارية: حمدي محمود بارود، ط1، 1997 م، غزة.
الأوراق التجارية: سميحة القليوبي، ط1982 م، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي.
الأوراق التجارية: علي جمال الدين عوض، ط 1995 م، جامعة القاهرة والكتاب الجامعي.
عمليات البنوك من الوجهة القانونية: علي جمال الدين عوض، ط. 1988م، مكتبة النهضة العربية، القاهرة.
القانون التجاري: محمود سمير الشرقاوي، دار النهضة العربية، القاهرة.
القانون التجاري، الأوراق التجارية: صفوت ناجي بهنساوي، دار النهضة العربية.
القانون التجاري، الأوراق التجارية والإفلاس: مصطفى كمال طه، منشأة المعارف، الإسكندرية.
القانون التجاري عمليات البنوك، الأوراق التجارية: سميحة القليوبي، مكتبة عين شمس.
قانون المعاملات التجارية: مختار أحمد بريري، دار النهضة العربية، القاهرة.
مجموعة القوانين الفلسطينية: البوليس والشيكات والسماسرة ـ حوالة الديون: مازن سيسالم، وإسحاق مهنا، وسلمان الدحدوح، ط 1997 م.
مدخل إلى اقتصاديات النقود والصيرفة: محمود يونس، وعبد المنعم مبارك، ط. 1982 م، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية.(10/22)
المسئولية الجنائية عن جرائم الشيك في ضوء الفقه وأحكام القضاء: إبراهيم حامد طنطاوي، ط1، 1994 م، المكتبة القانونية، القاهرة.
موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية: محيي الدين إسماعيل علم الدين، دار النهضة العربية، القاهرة.
موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية: عبد العزيز فهمي هيكل، ط 1406 هـ 1986م، دار النهضة العربية، بيروت.
النقود والسياسات النقدية: أحمد دويدار، مكتبة عين شمس، القاهرة.
النقود والصيرفة والسياسات النقدية: عبد المنعم مبارك، ط 1984 م، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية.
الوجيز في الجوانب القانونية لعمليات البنوك: عبد الرحمن السيد قرمان، ط1، 1996 م، مطبعة حماد الحديثة.
سابعاً: التاريخ والتراجم:
الإصابة في تمييز الصحابة: شِهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت 852هـ) ط. 1325هـ 1907م، المطبعة الشرقية، مصر.
الأعلام: خير الدين الزركلي، ط9، 1990 م، دار العلم للملايين، بيروت.
أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام: عمر رضا كحالة، ط2، 1397هـ 1977م، مؤسسة الرسالة، بيروت.(10/23)
تاريخ بغداد (مدينة السلام): أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، (ت 463 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري: عبد العزيز الدوري، ط3، 1995 م، بيروت.
تحرير تقريب التهذيب ابن حجر العسقلاني: بشار عواد معروف، وشعيب الأرنؤوط، ط1، 1417 هـ 1997 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
تهذيب التهذيب: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت 852 هـ)، تحقيق / مصطفى عبد القادر عطا، ط1، 1415 هـ 1994 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال: جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزني، (ت 742 هـ)، تحقيق / بشار عواد معروف، ط2، 1408هـ 1987م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
الجواهر المُضيَّة في طبقات الحنفية: محي الدين أبو محمد عبد القادر بن محمد ابن محمد بن نصر الله بن سالم بن أبي الوفاء القرشي الحنفي، (ت 775 هـ)، تحقيق / عبد الفتاح محمد الحلو، ط 1398 هـ 1987 م، مطبعة عيسى البابي الحلبي وأولاده.(10/24)
سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، (ت 1374هـ) تحقيق / شعيب الأرنؤوط، ط7، 1410 هـ 1990 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
طبقات الشافعية: أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن محمد تقي الدين ابن قاضي شهبة الدمشقي، (ت 851 هـ)، ط1، 1407هـ 1987م، عالم الكتب، بيروت.
الفهرست: محمد بن إسحاق بن النديم البغدادي، دار المعرفة، بيروت.
الكامل في ضعفاء الرجال: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، (ت 365 هـ)، ط3، 1409 هـ 1988 م، دار الفكر، بيروت.
معجم البلدان: شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، (ت 626 هـ)، تحقيق / فريد عبد العزيز الجندي، ط1، 1410هـ 1990م، دار الكتب العلمية، بيروت.
معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، ط1، 1414 هـ 1993 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن خلّكان، (ت 681هـ)، تحقيق / إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت
ثامناً: الدوريات:
حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ـ قطر / العدد الرابع 1405هـ 1985م.(10/25)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي ـ منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، الدورة الثالثة: العدد الثالث، 1408هـ 1978م، والدورة السادسة: العدد السادس 1410هـ 1990م، والدورة التاسعة: العدد التاسع، 1417هـ 1996م.(10/26)