الاستصناع ( المقاولات )
إعداد
سعد السبر
فقه مقارن مستوى أول المعهد العالي للقضاء
9/4/1429
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد
فلقد يسر الله لي البحث في موضوع يتعلق بمعاملة معاصرة وهي المقاولات ( الاستصناع ) بتكليف من الدكتور عبدالرحمن السند بحث فصلي لمرحلة الماجستير فقه المقارن المستوى المقارن بمعهد العالي للقضاء بجامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية للعام 1428 هـ 1429 هـ وبدأت بمقدمة وتعريف للمقاولات وأنواعها ثم طرحت تساؤلات وإشكالات حول الاستصناع ثم تكلمت على الاستصناع وتعريفه وأركانه وشروطه وتكييفه الفقهي ثم تكلمت على اشتراط الأجل وعلى الإلزام في عقد الاستصناع وعلى الإلزام في عقد الاستصناع وعلى تأجيل البدلين في الاستصناع وآثاره وبما ينتهي عقد الاستصناع وأنواع الاستصناع ثم ذكرت توصيات حول المقاولات وقرارا المجمع الفقهي ثم نقلت تطبيق معاصر من بنك البلاد واستفدت في بحثي من بحث الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله وبحث عقد التوريد والمقاولة في ضوء التحديات الاقتصادية المعاصرة رؤية شرعية للدكتور أحمد ذياب شويدح والدكتور عاطف أبو هربيد و مجموعة بحوث مجلة مجمع الفقهي الإسلامي للدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله والدكتور مصطفى التارزي والدكتور القره داغي وبعض الفقهاء ونقلت مباشرة منهم حسب مصادرهم دون الرجوع لتلك المصادر , ونشرته لمن أراد الفائدة والله اسأل أن يجعل عملي خالصا لوجه وأن يغفر لي ولوالدي والمسلمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
تعريف المقاولة لغة:
…المقاولة صيغة مبالغة على وزن مفاعلة، تقتضي مشاركة من أطراف متعددة، وأصل اشتقاقها الفعل قال يقول قولاً وقولة ومقالاً، وقاوله في أمره وتقاولا أي تفاوضا (الرازي، 1995: 232؛ ابن منظور، د. ت.: 11/577)، فالمقاولة معناها المفاوضة والمجادلة.
ثانياً: تعريف عقد المقاولة اصطلاحاً:(1/1)
…يُعتبر مصطلح عقد المقاولة من المصطلحات القانونية الحديثة، ولذلك عرفه علماء الشرع المعاصرون بتعريفه القانوني وهو: "عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئاً أو أن يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر" (السنهوري، 1964: 5/7؛ الزحيلي، 1997: 4/3172؛ المصري، 1996: 202؛ التارزي، 1992: 580).
…والمقاول في عقد المقاولة هو مَن يتعهد بصناعة شيء معين، أو بأداء عمل معين، والعاقد الآخر هو مَن يتعهد بالأجر للمقاول مقابل تنفيذ التزاماته، وهذا الأجر غالباً ما يُؤدى على شكل دفعات أو أقساط؛ ولذلك أضاف المصري في تعريفه لعقد مقاولة الأشغال العامة قوله:"لقاء مقابل محدد يُدفع على نجوم (أقساط)" (المصري، 1996: 203).
ويُشار هنا أنه بالرغم من كون المقاولة مصطلحاً قانونياً إلا أن مجلة الأحكام العدلية المستَمدة موادها من الفقه الحنفي استعملته في تفسير الاستصناع حيث جاء فيها: "الاستصناع عقد مقاولة مع أهل الصنعة، على أن يعمل شيئاً، فالعامل صانع والمشتري مستصنع والشيء مصنوع" (أسرة جمعية المجلة، د. ت.: 31)، وجاء في موضع آخر:" لو تقاول مع صاحب معمل أن يصنع له كذا بندقية كل واحدة بكذا قرشاً وبيّن الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة وقبل صاحب المعمل انعقد الاستصناع" (أسرة جمعية المجلة، د. ت.: 75 وما بعدها)، ويُفهم من ذلك كما ذكر المصري أن مجلة الأحكام العدلية اعتبرت الاستصناع والمقاولة شيئاً واحداً (المصري، 1996: 222 وما بعدها)، مع أن المقاولة في القانون الوضعي أعم من الاستصناع في الشرع (التارزي، 1992: 581)، إذ أنها تشمل الاستصناع والإجارة كما أُشير إلى ذلك سابقاً، وليس كذلك الاستصناع.
واستناداً إلى ما سبق يمكن تعريف المقاولات بأنها: العقود التي يتعهد بمقتضاها أحد المتعاقدين أن يصنع شيئاً أو أن يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر.(1/2)
أنواع المقاولات: تتنوع المقاولات تنوعاً كبيراً؛ نتيجة لتنوع الأعمال التي يلتزم المقاول بأدائها، وهذه الأعمال تختلف من مقاولة إلى أخرى بحسب اعتبارات عديدة هي:
الفرع الأولً: باعتبار طبيعة العمل:
وتنقسم المقاولات بهذا الاعتبار إلى قسمين هما:
1- مقاولات إجارة:
وهي المقاولات التي يتعهد فيها المقاول بتقديم العمل فقط (التارزي، 1992: 590)، بحيث يكون تحت إدارة وإشراف الطرف الآخر للعقد (السنهوري، 1964: 7/12؛ المصري، 1996: 202؛ التارزي، 1992: 590)، وهذا العمل إما أن يكون غير متصل بشيء معين، كنقل الأشخاص والطبع والنشر، وإما أن يكون متصلاً بشيء معين سواء كان موجوداً وقت العقد أو غير موجود، وهذا الشيء لا يملكه المقاول، بل يقدمه الطرف الآخر للعقد، وإنما يمارس المقاول العمل عليه فقط، كترميم الأبنية أو دهانها، وكتجديد الأثاث (السنهوري، 1964: 7/31)، وكتصليح أجهزة الحاسوب أو معدات أخرى، وهذه الأمثلة تندرج ضمن عقود الصيانة، وتُعتبر مقاولات إجارة لأنها تقوم حقيقة على الاستئجار للعمل، يُؤكد ذلك ما ورد في البدائع حيث جاء فيها: " فإن سلم إلى حداد حديداً ليعمل له إناءً معلوماً بأجر معلوم، أو جلداً إلى خفاف ليعمل له خفاً معلوماً بأجر معلوم فذلك جائز ولا خيار فيه؛ لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزاً" (الكاساني، 1982: 5/4).
2- مقاولات استصناع:
وهي المقاولات التي يتعهد فيها المقاول بتقديم العمل والمادة معاً (المصري، 1996: 202؛ التارزي، 1992: 590)، وتُعتبر مقاولات استصناع لأنها يصدق عليها صورة الاستصناع عند القائلين بجوازه وهم الحنفية، فقد جاء في البدائع في ذلك ما نصه: "أما صورة الاستصناع: فهي أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما اعمل لي خفا أو آنية من أديم أو نحاس من عندك بثمن كذا" (الكاساني، 1982: 5/2).(1/3)
ومقاولات الاستصناع قد يصدق عليها أنها تجمع بين البيع وخاصة السلم وبين الإجارة وذلك بحسب تعريف السمرقندي (وغيره من الحنفية للاستصناع، إذ عرّفه بأنه: "عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع" (السمرقندي، 1984: 2/362)، ويقول صاحب البدائع بشأن الاستصناع: "فيه معنى عقدين جائزين وهو السلم والإجارة؛ لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل؛ وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزاً" (الكاساني، 1982: 5/3).
…ويرى القره داغي أن الاستصناع ليس كالسلم الذي لابد فيه من قبض رأس المال في المجلس، وليس كالبيع الذي لابد فيه من وجود المبيع، بل هو عقد يكون المعقود عليه وهو العمل والعين في الذمة، ويجوز فيه تأجيل الثمن أو تقسيطه، مما يساهم في تنشيط الصناعة وزيادة المرونة في سوق المال (القره داغي، 1994:466).
…ويرجح الباحثان ما ذهب إليه الدكتور القره داغي؛ للأسباب ذاتها التي أوردها
الفرع الثاني: باعتبار حجم العمل:
وتنقسم المقاولات بهذا الاعتبار إلى قسمين هما:
1- مقاولات صغيرة:
وتتناول أعمالاً صغيرة، وغالباً ما تتعلق بأعمال المهن الحرة كالنجار وغيرها.
2- مقاولات كبيرة:
وتتناول أعمالاً كبيرة، وعادة ما تتعلق بتشييد المباني والجسور والسدود وغيرها.
الفرع الثالث: باعتبار جنس العمل:
وتنقسم المقاولات بهذا الاعتبار إلى أقسام عديدة بحسب العمل الذي ينسب إلى المقاولة، فهناك مقاولات بناء، ومقاولات أشغال عامة، ومقاولات نقل وغيرها.
…كما وتنقسم المقاولات باعتبار جنس العمل إلى قسمين آخرين هما:
1- مقاولات مادية:
وتتناول الأعمال المادية كإنشاءات المباني والجسور والسدود وغيرها.
2- مقاولات عقلية:
وهي التي ترد على أعمال ناتجة عن مجهود عقلي وليس مادي، كالأعمال القانونية مثل المحاماة، وكالأعمال الفنية مثل تصميم يضعه مهندس معماري.
الفرع الرابع: باعتبار متعلق العمل:(1/4)
…وتنقسم المقاولات بهذا الاعتبار إلى قسمين هما:
1- مقاولات عامة:
وهي التي تتعلق أعمالها بالمرافق العامة والأشغال العامة والنقل وغيرها، وتكون الحكومة أو المؤسسات العامة طرفاً فيها.
2- مقاولات خاصة:
وهي التي تتعلق أعمالها بمرافق ومصالح خاصة بالأفراد والشركات ولا تكون الحكومة أو المؤسسات العامة طرفاً فيها (السنهوري، 1964: 7/31 وما بعدها).
إشكالات حول الاستصناع ( المقاولات )
هل هو مجرد وعد من شخص لآخر، أو هو عقد ذو طرفين ينشأ بإيجاب وقبول منهما. ومن يرى أنه عقد هل هو عنده عقد معاوضة ملزم لطرفيه بمجرد الانعقاد الصحيح ، أو عقد غير ملزم كالوكالة مثلًا والإيداع والإعارة؟
هل هو بيع سلم فتجري فيه شروط السلم ؟؟ أو بيع عادي فتجب فيه شروط البيع ؟
هل الاستصناع عقد أم وعد ؟؟
هل عقد الاستصناع من قبيل البيع أم من قبيل الإجارة ؟
هل البيع للعين أو للعمل ؟
هل يجري فيه خيار الرؤية ؟؟
* وهل عقد الاستصناع جائز أم لازم ؟
لذا سنتكلم بالتفصيل على الاستصناع لكي نجيب على التساؤلات
تعريف الاستصناع في اللغة :
الاستصناع استفعال من صنع ، فالألف والسين للطلب ، يقال : استغفار لطلب المغفرة ، والصنع : يقول الرازي : "(الصنع) : بالضم مصدر قولك صنع إليه معروفاً وصنع به صنيعاً قبيحاً أي : فعل ، والصناعة - بكسر الصاد : حرفة الصانع ، واصطنعه : اتخذه ، قال تعالى : " واصطنعتك لنفسي " ، يقول ابن منظور : " ويقال اصطنع فلان خاتما إذا سأل رجلا أن يصنع له خاتما 3 واستصنع الشيء : دعا إلى صنعه ، فالاستصناع لغة : طلب الفعل
الاستصناع في الاصطلاح : عقد يشتري به في الحال شيء مما يصنع صنعاً يلتزم البائع بتقديمه مصنوعاً بمواد من عنده بأوصاف معينة لقاء ثمن محدد .
الاستصناع المصرفي : توسط البنك لتمويل صناعة سلع أو إنشاء أصل معين يطلبه العميل بمواصفات محددة .(1/5)
الصانع : هو البائع الذي يلتزم في عقد الاستصناع بتقديم المصنوع للعميل عند حلول الأجل سواء باشر الصنع بنفسه أو عن طريق صانع
آخر .
الصانع النهائي : المقاول أو الصانع الذي يباشر الصنع في عقد يكون البنك فيه مستصنعاً .
المستصنع : هو الطرف المشتري في عقد الاستصناع والملتزم بموجب العقد بقبول المصنوع إذا جاء مطابقاً للمواصفات .
التكلفة الكلية للاستصناع : هي التكلفة التي يدفعها البنك للصانع النهائي زائداً أية تكاليف يتحملها البنك لطرف ثالث حتى لحظة تسليم
المصنوع للمستصنع .
ربح البنك : هو المبلغ الزائد على التكلفة الكلية للاستصناع الذي يحققه البنك كعائد من عملية الاستصناع .
مبلغ الاستصناع : مجموع التكلفة الكلية للاستصناع زائداً ربح البنك .
دين الاستصناع : هو مبلغ الاستصناع مطروحاً منه أي دفعة مقدمة من العميل عند التوقيع على العقد .
أركان عقد الاستصناع :
أركان الاستصناع عند الجمهور ستة - كالسلم - ، وهي :
1. الصانع .
2. المستصنع .
3. المحل .
4. الثمن .
5. الإيجاب .
6. القبول .
ويمكن حصرها في ثلاثة ، وهي : العاقدان - وهما الصانع والمستصنع - ، والمعقود عليه - وهما المحل والثمن- والصيغة - وهي الإيجاب والقبول - .
وقال الأحناف : ركنه الصيغة فقط ، فينعقد بالإيجاب والقبول .
شروط عقد الاستصناع :
يشترط لعقد الاستصناع شروط خاصة - إضافة إلى شروط البيع - ، هي :
1- أن يكون المصنوع معلوماً : بتحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته تحديداً وافياً يمنع التنازع عند التسليم .
2- أن يكون المصنوع مما تدخله الصناعة ، فلا يصح في البقول والحبوب ونحو ذلك .(1/6)
3- أن يكون الشيء المصنوع مما يجري التعامل فيه ؛ لأن الاستصناع جائز استحساناً ، فلا يصح فيما لا تعامل فيه، وذلك يختلف بحسب الأعراف السائدة في كل مكان وزمان ، فلا يقاس مكان على مكان ولا زمان على زمان ، وأما إذا كان الشيء المطلوب صنعه مما لم تجر به العادة بصناعته فإنه يمكن التوصل إليه بطريق السلم .
4- أن تكون المواد المستخدمة في الشيء المصنوع من الصانع ، فإذا كانت من المستصنع فإنه يكون عقد إجارة لا عقد استصناع .
5- بيان الثمن جنساً وعدداً بما يمنع التنازع ، فالجنس : كريال سعودي ، والعدد : كالألف
6- بيان مكان تسليم المبيع إذا احتيج إلى ذلك .
7- ألا يكون فيه أجل ، وفي هذا الشرط خلاف , ولكن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرر اشتراط تحديد الأجل فيه قطعاً للنزاع والخصومة ، وما قرره المجمع أوجه ؛ إذ إن من مقاصد الشريعة في المعاملات قطع المنازعات
التكييف الفقهي
عقد بيع على الصحيح من أقوال العلماء وبهذا أخذت مجلة الأحكام العدلية، فعقدت للاستصناع فصلًا خاصًّا به في باب (أنواع البيع) من كتاب البيوع في المواد 388 – 392
اشتراط ألا يكون في الاستصناع أجل:
…وهذا الشرط قال به أبو حنيفة؛ لأن ذكر الأجل في الاستصناع عنده يُصيره سلماً، باعتبار أن الأجل من شروط السلم، وقال الصاحبان أنه لا يُشترط عدم ذكر الأجل فيه، فهو استصناع سواء ذُكر الأجل أم لا؛ لأن اللفظ حقيقة له فيحافظ على مقتضاه، ويُحمل ذكر الأجل على التعجيل (المرغيناني، د. ت.: 3/78؛ ابن بكر، د. ت.: 6/186؛ ابن عابدين، 1965: 5/223).
…ويرجح الباحثان ما ذهب إليه الصاحبان؛ لأنه لكل من المتعاقدين في ذكر الأجل أو عدم ذكره ما يحقق مصلحته، وذكر الأجل لا يُخرج الاستصناع عن حقيقته.
الإلزام في عقد الاستصناع:(1/7)
…يُعتبر الاستصناع عند الحنفية عقداً غير لازم قبل العمل بلا خلاف، وللمتعاقدين خيار الامتناع قبل العمل، وكذلك بعد الانتهاء من العمل وقبل الرؤية فللصانع أن يبيعه ممن شاء؛ لأن العقد لم يقع على عين المصنوع بل على مثله في الذمة (الكاساني، 1982: 5/3؛ ابن عابدين، 1965: 5/224).
ونُقل عن أبي يوسف قوله بلزومه إذا جاء به كما وصفه؛ لدفع الضرر عن الصانع في إفساد أديمه وآلاته، فربما لا يرغب غيره في شرائه (السرخسي، 1985: 12/139؛ الكاساني، 1982: 5/3)، وبهذا القول أخذت مجلة الأحكام العدلية (أسرة جمعية المجلة، د. ت.: 76).
ويرى الباحثان أن القول باعتبار عقد الاستصناع لازماً إذا جاء المصنوع موافقاً لوصفه هو الراجح؛ لأنه يحقق المصلحة منه، ولأن في عدم لزومه تعطيلاً لعجلة الإنتاج، بالإضافة إلى أن الصناعة اليوم دخلت مجالات ذات أهمية كبيرة، وتكاليف باهضة، والتخيير فيها يؤدي إلى ضرر كبير يلحق بمصالح لها أهمية عظيمة، وهذا القول كان قد رجحه التارزي للأسباب السابقة (التارزي، 1992: 599).
تأجيل البدلين في الاستصناع:
جاء في المجلة ما نصه: "لا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حالا أي وقت العقد" (أسرة جمعية المجلة، د. ت.: 76)، وبما أن المصنوع موصوف في الذمة فقد يرد أن ذلك يؤدي إلى بيع الدين بالدين المنهي عنه.
…ويُجاب على ذلك بما أُجيب على ذات المسألة في عقود التوريد في هذا البحث، بالإضافة إلى أن أحد البدلين في عقود المقاولة سواء كانت إجارة أو استصناع عبارة عن منفعة، والمنفعة كما يقول العلماء لا تُستوفى جملة واحدة، وإنما تُستوفى تدريجياً (المرغيناني، د. ت.: 3/220؛ الكاساني، 1982: 3/196؛ البهوتي، 1981: 4/65؛ ابن تيمية، د. ت.: 29/399؛ ابن حزم، د. ت.: 8/184)، والبدل الآخر المتمثل بالثمن فقد يكون معجلاً أو مؤجلاً.(1/8)
ويشير ابن عابدين إلى أن المنفعة تحدث شيئاً فشيئاً، ثم يقول: "وشأن البدل أن يكون مقابلاً للمبدل، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالاً لا يلزم بدلها حالاً، إلا إذا شرطه ولو حكماً بأن عجله؛ لأنه صار ملتزماً له بنفسه حينئذ، وأبطل المساواة التي اقتضاها العقد فصح" (ابن عابدين، 1965: 6/10).
…وبناءً على ما سبق يمكن القول بأن عقود المقاولات سواء كانت إجارة أو استصناع هي عقود مشروعة، وكان ممن أجازها مصطفى الزرقا(الزرقا، 1968: 2/710).
آثار عقد الاستصناع :
* بالنسبة للصانع :
فيثبت للصانع ملك الثمن ؛ نظرا للزوم العقد ، ويستحقه كاملاً إذا قدم العين المصنوعة كما طُلب منه .
* بالنسبة للمستصنع :
فيثبت للمستصنع ملك المبيع في ذمة المستصنع إن جاء به كما طلبه منه .
بقول الكاساني : " وأما حكم الاستصناع فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكا غير لازم وقد سبق بيان أن الملك في الاستصناع ملك لازم .
ينتهي عقد الاستصناع فيستحق الصانع الثمن ، ويستحق المستصنع المبيع ؟
ينتهي عقد الاستصناع بما يلي :
1-وفاء كل من المتعاقدين بالالتزامات التي أوجبها العقد :
* من جهة الصانع :
أ) القيام بالصنع للمطلوب كما طلبه المستصنع .
ب) تسليم المطلوب صنعه إلى المستصنع .
* من جهة المستصنع :
أ) استلام المطلوب صنعه كما طلبه .
ب) دفع الثمن للصانع .
2. إقالة أحد المتعاقدين للآخر .(1/9)
3. موت أحد المتعاقدين ، وقالوا بذلك : لشبه الاستصناع بالإجارة ، حيث إن الاستصناع إجارة ما دام الصانع يعمل في العين ، فإذا سلمها فهو بيع ، لكنه سبق بيان أن الاستصناع بيع من بدايته إلى نهايته ، فعلى هذا لا ينفسخ عقد الاستصناع بموت أحد المتعاقدين ، ويلزم ورثة الصانع بتسليم المبيع ، ويلزم ورثة المستصنع بقبولها ، على أن انفساخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين محل خلاف بين العلماء ، والراجح هو عدم انفساخها بذلك56 ، والله أعلم.
الاستصناع في المصارف :
يعتبر الاستصناع للمصارف خطوة رائدة لتنشيط الحركة الاقتصادية في البلد ، وذلك إما بكون المصرف صانعاً ، أو بكونه مستصنعاً :
* أما كونه صانعاً : فإنه يتمكن على أساس عقد الاستصناع من دخول عالم الصناعة والمقاولات بآفاقهما الرحبة ، كصناعة السفن والطائرات والبيوت والطرق ، وغير ذلك ، حيث يقوم المصرف بذلك من خلال أجهزة إدارية مختصة بالعمل الصناعي في المصرف ؛ لتصنع الاحتياجات المطلوبة للمستصنعين .
* وأما كونه مستصنعاً ، فبتوفير ما يحتاجه المصرف من خلال عقد الاستصناع مع الصناعيين والذي يوفر لهم التمويل المبكر ، ويضمن تسويق مصنوعاتهم ، ويزيد من دخل الأفراد ، مما يزيد من رخاء المجتمع بتداول السيولة المالية بين أبناء البلد .
* وهناك حالة ثالثة ، وهي أن يكون المصرف صانعاً ومستصنعاً في نفس الوقت ، وهو ما يسمى بالاستصناع الموازي ، حيث سيتم تفصيل الكلام فيه في النقطة التالية
* الاستصناع الموازي : عقد الاستصناع الذي يوقعه المصرف مع الصانع النهائي لتنفيذ المصنوع
صورة الاستصناع الموازي : أن يبرم المصرف عقد استصناع بصفته صانعاً مع عميل يريد صنعة معينة، فيجرى العقد على ذلك ، و تتعاقد المؤسسة مع عميل آخر باعتبارها مستصنعاً ، فتطلب منه صناعة المطلوب بالأوصاف نفسها .
صورته منقولة من موقع مجموعة البركة(1/10)
* الغرض من الاستصناع الموازي : بناءً على التغير الكبير الذي يحدث في المجتمعات ، ونظرا للحاجة الكبيرة لدعم الاقتصاد بمشاريع ضخمة وبرؤوس أموال كبيرة ، فقد أصبح عقد الاستصناع من العقود ذات الأهمية الكبيرة للمصارف تلبية لاحتياجات ورغبات الجماعات والأفراد ، والتي لا يمكن تمويلها بعقود البيوع الأخرى وذلك من خلال تصنيع السلع وسداد الثمن مؤجلاً أو على أقساط ، وفقاً لقدرات المستصنِع وموافقة الصانع على ذلك .
* حكم الاستصناع الموازي : الاستصناع الموازي بالصورة السابقة جائز ، لأنهما عقدان مختلفان ، وقد سبق بيان أن الاستصناع عقد لازم ، فعلى هذا يصح العقد في الجهتين ، ولا ضرر على أحدهما ، وذلك لأنه المعقود عليه هو العين - كما سبق ترجيحه - وأما العمل فهو تابع ، وأن الصانع لو أتى بالصنعة نفسها من آخر فإن ذلك يصح ، ويلزم المستصنع قبولها - ما لم يصرح باشتراط أن تكون من عمل الصانع ، أو أن تقوم قرينة باشتراط ذلك ، والغالب في الاستصناع الموازي أن العميل يعلم أن المصرف لا يصنع ذلك الشيء بل يستصنعه عند جهة أخرى ، وحينئذ يكون الاستصناع جائزاً .
* شروط الاستصناع الموازي : اشترط أهل العلم شروطاً خاصة بالاستصناع الموازي -إضافة إلى شروط الاستصناع - وذلك لئلا يكون الاستصناع الموازي حيلة إلى الربا ، ومن تلك الشروط :
1. أن يكون عقد المصرف مع المستصنع منفصلاً عن عقدها مع الصانع .
2. أن يمتلك المصرف السلعة امتلاكاً حقيقياً ، وتقبضها قبل بيعها على المستصنع .
3. أن يتحمل المصرف نتيجة إبرامه عقد الاستصناع بصفته صانعاً كل تبعات المالك ، ولا يحق له أن يحولها إلى العميل الآخر في الاستصناع الموازي .
الاستصناع في التمويل العقاري :(1/11)
يمكن تطبيق الاستصناع في التمويل العقاري في عدة تطبيقات مختلفة ، كبناء المساكن والعمائر وغيرها ، وذلك ببيان موقعها والصفات المطلوبة فيها ، كما يمكن أن يكون الاستصناع في تخطيط الأراضي وإنارتها وشق الطرق فيها وتعبيدها ، وغير ذلك من المجالات العقارية والتي يمكن الاستفادة من الاستصناع فيها .
الاستصناع في التمويل الصناعي :
يمكن الاستفادة من عقد الاستصناع بتطبيقه في المجال الصناعي باختلاف أشكاله وأنواعه ، كصناعة الطائرات والمركبات السفن - مما يمكن ضبطه بالمقاييس والصفات - ، وكذلك : صناعة الآلات المختلفة ، بل وحتى القطع الصغيرة في الآلات ، وذلك بدلاً من استيرادها من البلاد الأجنبية بقيم باهظة مع مشقة النقل وتكلفته العالية ، خاصة وأن في الاستصناع الداخلي تحريكاً للنشاط الاقتصادي ، وإبقاء للسيولة المالية بين أبناء المجتمع ، والاستفادة من الطاقات المختلفة وتوظيفها في مجالها المناسب .
النتائج والتوصيات
النتائج:
يمكن تلخيص أهم النتائج من البحث وذلك كما يلي:
إن عقود المقاولات تتنوع بحسب اعتبارات عديدة تتعلق بالعمل وطبيعته، فهناك مقاولات إجارة واستصناع، ومقاولات مادية وعقلية، ومقاولات عامة وخاصة
الغرر في عقود المقاولات يسير، ولا يؤثر في صحة العقد، وعلى فرض وجوده فإنه يُغتفر؛ لأن الحاجة باتت ماسة وعامة فتُنزل منزلة الضرورة.
عقود المقاولات مشروعة، ولا تدخل في بيع الدين بالدين، ولا بيع ما ليس عندك، ويمكن إلحاقها بالصور الفقهية التي بحثها الفقهاء، كبيع الموصوف في الذمة غير المعين، وكبيع الصفة عند المالكية التي يتأجل فيها البدلان، وكالشراء المستمر أو من دائم العمل.(1/12)
أن ما يجري التعامل فيه بين الناس في تغير وتطور مستمر، وأنه لا يمكن الوقوف عليه عند زمن أو مكان معين، ومن ثَم فإن حاجات الناس المتطورة والمتغيرة تستدعي ألا تنحصر العقود فيما جرى فيه التعامل في الماضي؛ لأن الناس اليوم غدوا في أشد الحاجة إلى التوسع في مجالات جديدة، كصناعة الزوارق والسفن والبنادق وغيرها.
إن عقد المقاولة يجب أن يكون لازماً إذا جاء المعقود عليه موافقاً لوصفه؛ لأن في عدم لزومه تعطيلاً لعجلة الإنتاج، بالإضافة إلى أن هذه العقود اليوم دخلت مجالات ذات أهمية كبيرة، وتكاليف باهضة، والتخيير فيها يؤدي إلى ضرر كبير.
التوصيات:
عدم التهاون في الضوابط والأحكام التي قررها العلماء لصحة عقود المقاولة.
ضرورة أن تلتزم عملياً المصارف والبنوك عند استثمار أموالها عن طريق عقود المقاولة بالأحكام الشرعية لهذه العقود، مع ضرورة متابعة ذلك عن طريق هيئات الرقابة الشرعية في تلك المصارف.
قرار المجمع الفقهي رقم 66/3/7 بشأن عقد الاستصناع
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع عقد الاستصناع وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله ومراعاة المقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية فالعقود والتصرفات ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي .
قرر
1- إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
2- يشترط في عقد الاستصناع ما يلي :
أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة .
ب- أن يحدد فيه الأجل .
3- يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله ، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجل محددة .
4- يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة .(1/13)
المصدر : مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة بجدة 7-12ذو القعدة 1412هـ الموافق 9-14مايو 1992م قرار رقم 66/3/7 .
تطبيقات على الاستصناع ( المقاولات ) من بنك البلاد
تمويل الاستصناع والاستصناع الموازي
لم يعد مقبولاً أن تقدم البنوك الإسلامية التمويل للحكومات لإقامة المشروعات بصيغ تمويليه تتعارض مع نظامها الأساسي، كما أنه ليس من المقبول أن يقدم البنك الإسلامي التمويل لمشروعات القطاع الخاص في شكل قروض مُعْفاة من الفوائد؛ لذلك كان الاستصناع هو الشكل الشرعي والاقتصادي الأنسب لتمويل مشروعات البنية الأساسية وبناء الطائرات والسفن ومحطات الطاقة والمباني والمعدات والتي تتطلب تصنيعاً حسب الطلب والحاجة، وبناءً عليه تظهر أهميه التمويل بموجب عقود الاستصناع. ويتميز الاستصناع بأنه عقد يتيح بيع ما لا يوجد عند التعاقد، مع إمكانية الدفع العاجل أو الآجل.
الخطوات المتبعة في بيع الاستصناع:
1.تبدأ العملية بإفصاح العميل عن رغبته للبنك في شراء شيء يحتاج أن
2. يُصنع أو يُبنى أو يُركَّب، بمواصفات معينة، وثمن محدد.
يبرم البنك مع العميل عقد استصناع يلتزم بموجبه بصناعة المطلوب وتسليمه للعميل خلال مدة زمنية محددة، مقابل ثمن محدد يسدد حالاً أو على أقساط متعددة أو بدفعة واحدة مؤجلة.
يقوم البنك بعد ذلك بتوقيع عقد استصناع موازٍ (مع طرفٍ ثالثٍ) لصناعة ما طلبه العميل
الغرض من التمويل بموجب عقود الاستصناع والاستصناع الموازي:
بناءً على التغيرات الكبيرة في حجم وقيمة المشروعات التي تتطلبها احتياجات التنمية سواء التي تقوم بها الحكومات أو تلك التي يتم إسنادها للقطاع الخاص لتنفيذها، وفي ظل ندرة السيولة و عدم كفاية مصادر التمويل لتنفيذ هذه المشاريع بالإضافة إلى قلة الخبرات اللازمة لتنفيذها، فقد ظهرت حاجة ماسة إلي صيغة تمويل جديدة تتوافق مع المفاهيم الشرعية.(1/14)
وعليه فقد أصبحت عقود الاستصناع من عقود البيع التي يمكن استخدامها بالبنوك الإسلامية لتلبية حاجات ورغبات الجماعات والأفراد والتي لا يمكن تمويلها بعقود البيوع الأخرى وذلك من خلال تصنيع السلع وسداد الثمن مؤجلاً أو على أقساط، وفقاً لقدرات المستصنِع (العميل) وموافقة الصانع (البنك) على ذلك .
نطاق استخدام الاستصناع:
ومن أمثلة عقود الاستصناع التي يمكن استخدامها لتحقيق منافع للمجتمع مشاريع البنية الأساسية كمشاريع الطرق والكهرباء وبناء المدارس والمستشفيات وخلافه، بالإضافة إلى العقود الضخمة كعقود تصنيع الطائرات والمركبات وبناء السفن، والتي لو لم يتم تنفيذها بموجب عقود الاستصناع لأصبح من العسير توفير البديل الملائم للمستصنِع لتنفيذ مثل هذه المشاريع .
أطراف عقد الاستصناع والاستصناع الموازي:
1.المستصنِع: هو الطرف المشتري في عقد الاستصناع (المالك للمشروع).
2.الصانع: هو البنك (البائع/الصانع) الذي يوقع عقد الاستصناع مع المستصنِع ويلتزم أمامه بتقديم المصنوع.
3.المقاول المنفِّذ: البائع أو الصانع أو المقاول الفعلي، وهو الذي يوقع عقد
4.الاستصناع الموازي مع البنك، والذي يباشر الصنع (تصنيع المنتج المطلوب). وهو يعدُّ مقاولاً من الباطن للبنك، أو مورداً للبنك.
5.المصنوع: وهو ما جرى عليه التعاقد لصنع شيء محددٍ معروف.
ويُعدُّ البنك الصانع والمقاول الرئيس أمام المستصنِع في العقد الأول، بينما يُعدُّ المستصنِعَ أو المالكَ أمام المقاول المنفِّذ في العقد الثاني (الاستصناع الموازي).
أطراف عقد الاستصناع والاستصناع الموازي
الضوابط الشرعية الواجب توافرها في عقد الاستصناع والاستصناع الموازي:
1.أن يكون المعقود عليه (المصنوع) معلوماً بدقة، ويتحقق ذلك من خلال:
بيان جنسه (المصنوع: سيارة، أو طائرة، أو عقار...)
بيان نوعه (ماركة وطراز السيارة أو الطائرة...)
بيان صفاته (جدول المواصفات الخاصة بالمنتَج)
2.جواز التأجيل:(1/15)
المصنوع مبيع مطلوب صنعه أو الحصول عليه من السوق، لذلك يجب تحديد الأجل للتصنيع منعاً للغرر.
مدة الأجل تعتمد على طبيعة الشيء المصنوع وفقاً لعقد الاستصناع الموقع بين الطرفين وللشروط المواصفات المعروضة بكراسة الشروط والمواصفات للمعقود عليه والتي يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.
3.الثمن: أن يكون معلوماً بدقة من قِبل الطرفين.
ألاّ يتأثر بزيادة الأسعار أو أجرة العمل في الأحوال العادية.
يجوز تعديل الثمن في حال إدخال تعديلات على المصنوع وموافقة الطرفين على التعديلات المطلوبة.
كتبه
سعد بن عبدالله بن عبدالعزيز السبر
المشرف العام على شبكة السبر
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله بالرياض
salsaber@hotmail.com(1/16)