بسم الله الرحمن الرحيم
يسرني أن أقدم للطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا وقد ازددت إيماناً واقتناعاً
بأن الأمة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلها الإسلام وتدرك
بالرغم من ألوان التَضليل الاستعماري أن الإسلام هو طريق الخلاص وأن
النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي يجب أن تحقق حياتها و تفجر طاقاتها
ضمنه و تنشىء كيانها على أساسه.
وقد كان بودي أن تتاح لي فرصة للتوسع في بعض مواضيع الكتاب
وتسليط المزيد من الأضواء على عدد من النقاط التي تناولها ولكني
إذ لا أجد الآن مجالاً للحديث عن بحوث الكتاب فلن أدع هذه المناسبة دون
كلمة عن موضوع الكتاب ذاته وصلة هذا الموضوع الخطير بحياة الأمة
ومشاكلها وأهميتها المتنامية على مر الزمن على الصعيد الإسلامي و الصعيد
البشري على السواء.
فالأمة على الصعيد الإسلامي وهي تعيش جهادها الشامل ضد تخلفها
وانهيارها وتحاول التحرك السياسي والاجتماعي نحو وجود أفضل وكيان
أرسخ واقتصاد أغني وارفه سوف لن تجد أمامها عقيب سلسلة من محاولات
الخطأ والصواب إلا طريقاً واحداً للتحرك وهو التحرك في الخط الإسلامي
ولن تجد إطاراً تضغ ضمنه حلولها لمشاكل التخلف الاقتصادي سوى إطار
النظام الاقتصادي في الإسلام.
والإنسانية على الصعيد البشري وهي تقاسي أشد ألوان القلق والتذبذب
بين تيارين عالميين ملغمين بقنابل الذرة والصواريخ ووسائل الدمار لن تجد
لها خلاصاً إلا على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء وهو
الإسلام.
ولنأخذ في هذه المقدمة الصعيد الإسلامي بالحديث.
على الصعيد الإسلامي:
حينما أخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الإنسان الأوروبي ويذعن
لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة
وقيمومتها على الحياة البشرية بدأ يدرك دوره في الحياة ضمن إطار التقسيم
التقاليدي لبلاد العالم الذي درج عليه الإنسان الأوروبي حين قسم العالم على(1/1)
أساس المستوي الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى بلاد راقية اقتصادياً وبلاد
فقيرة أو متخلفة اقتصادياً وكانت بلاد العالم الإسلامي كلها من القسم الثاني
الذي كان يجب عليه في منطق الإنسان الأوروبي أن يعترف بإمامة البلاد
الراقية ويفسح المجال لها لكي تنفث روحها فيه وتخطط له طريق الإرتفاع.
وهكذا دشن العالم الإسلامي حياته مع الحضارة الغريب بوصفه مجموعة
من البلاد الفقيرة اقتصادياً ووعى مشكلته على أساس أنها هي التخلف
الاقتصادي عن مستوي البلاد المتقدمة الذي أتاح لها تقدمها الاقتصادي
زعامة العالم ولقنته تلك البلاد المقتدمة أن الأسلوب الوحيد للتغلب على هذه
المشكلة والالتحاق بركب البلاد المتقدمة هو اتخاذ حياة الإنسان الأوروبي
تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطوات هذه التجربة لبناء اقتصاد كامل شامل
قادر على الارتفاع بالبلاد الإسلامية المتخلفة إلى مستوي الشعوب الأوروبية
الحديثة.
وقد عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد
للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً ولا تزال هذه الأشكال
الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.
الأول: التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية
اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.
الثاني: التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة
من الناحية السياسية في البلاد المتخلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال
للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر
موادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية و يحتكر عدداً من مرافق
الحياة الاقتصادية فيها بحجة تمرين أبناء البلاد المتخلفين على تحمل أعباء
التطوير الاقتصادي لبلادهم.
الثالث: التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم
الإسلامي حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي(1/2)
اقتصادياً وأخذت تفكر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها
والتغلب على تخلفها غير أنها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي
يجسدها تخلفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها
مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ
لاقتصاده الحديث.
وبالرغم من اختلافات نظرية كبيرة نشأت بين تلك التجارب خلال
رسم المنهج و تطبيقه فإن هذه الاختلافات لم تكن دائماً إلا اختلافاً حول
اختيار الشكل العام للمنهج من بين الأشكال المتعددة التي اتخذها المنهج في
تجربة الإنسان الأوروبي الحديث فاختيار المنهج الذي سلكته التجربة الرائدة
للإنسان الأوروبي الحديث كان موضع وفاق لأنه ضريبة الأمانة الفكرية
للحضارة الغربية وإنما الخلاف في تحديد شكل واحد من أشكالها.
وتواجه التجارب الحديثة للبناء الاقتصادي في العالم الإسلامي عادة
شكلين لتجربة البناء الاقتصادي في الحضارة الغربية الحديثة وهما الاقتصاد
الحر القائم على أساس رأسمالي والاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.
فإن كلاً من هذين الشكلين قد عاش تجربة ضخمة في بناء الاقتصاد
الأوروبي الحديث والصيغة التي طرحت للبحث على مستوي التطبيق في
العالم الإسلامي على الأكثر ما هو الشكل الأجدر بالأتباع من هذين الشكلين
وأقدر على إنجاح كفاح الأمة ضد تخلفها الاقتصادي وبناء اقتصاد رفيع على
مستوى العصر.
و كان الاتجاه الأقدم حدوثاً في العالم الإسلامي يميل إلى اختيار الشكل
الأول للتنمية وبناء الاقتصاد الداخلة للبلاد أي الاقتصاد الحر القائم على أساس
رأسمالي نتيجة لأن المحور الرأسمالي للاقتصاد الأوروبي كان أسرع
المحورين للنفوذ إلى العالم الإسلامي واستقطابه كمراكز نفوذ.
وعبر صراع الأمة سياسياً مع الاستعمار ومحاولتها التحرر من نفوذ
المحور الرأسمالي وجدت بعض التجارب الحاكمة أن النقيض الأوروبي(1/3)
للمحور الرأسمالي هو المحور الاشتراكي فنشأ اتجاه آخر يميل إلى اختيار
الشكل الثاني للتنمية أي التخطيط القائم على أساس اشتراكي نتيجة للتوفيق
بين الإيمان بالإنسان الأوروبي كرائد للبلاد المتخلفة وواقع الصراع مع
الكيان السياسي للرأسمالية فما دامت تبعية البلاد المتخلفة للبلاد الراقية اقتصادياً
تفرض عليها الإيمان بالتجربة الأوروبية كرائد وما دام الجناح الرأسمالي من
هذه التجربة يصطدم مع عواطف المعركة ضد الواقع الاستعماري المعاش
فليؤخذ بالتخطيط الاشتراكي بوصفه الشكل الآخر للتجربة الرائدة.
ولكل من الاتجاهين أدلته التي يبرر بها وجهة نظره فالاتجاه الأول يبرر
عادة التقدم العظيم الذي حصلت عليه الدول الأوروبية الرأسمالية و ما أحرزته
من مستويات في الإنتاج والتصنيع نتيجة لانتهاج الاقتصاد الحر كأسلوب
للتنمية و يضيف إلى ذلك أن بإمكان البلاد المتخلفة إذا انتهجت نفس الأسلوب وعاشت نفس التجربة أن تختصر الطريق و تقفز في زمن أقصر إلى المستوى
المطلوب من التنمية الاقتصادية لأنها سوف تستفيد من خبرات التجربة
الرأسمالية للإنسان الأوروبي و تستخدم كل القدرات العلمية الناجزة التي
كلفت الإنسان الأوروبي مئات السنين حتى ظفر بها.
والاتجاه الثاني يفسر اختياره للاقتصاد المخطط على أساس اشتراكي
بدلاً عن الاقتصاد الحر بأن الاقتصاد الحر إن كان قد استطاع أن يحقق
للدول الأوروبية الرائدة في العالم الرأسمالي مكاسب كبيرة و تقديماً مستمراً
في التكنيك والإنتاج ونمواً متزايداً للثروة الداخلية للبلاد فليس بالإمكان أن
يؤدي دوراً مماثلاً للبلاد المتخلفة اليوم لأن البلاد المتخلفة تواجه اليوم تحدياً
اقتصادياً هائلاً يمثله التقدم العظيم الذي أحرزته دول الغرب وتقابل إمكانات
هائلة منافسة لا حد لها على الصعيد الاقتصادي بينما لم تكن الدول المتقدمة
فعلاً تواجه هذا التحدي الهائل وتقابل هذه الإمكانات المنافسة حين بدأت(1/4)
عملية التنمية الاقتصادية وشنت حربها ضد أوضاع التخلف الاقتصادي واتخذت
من الاقتصاد الحر منهجاً وأسلوباً فلا بد للبلاد المتخلفة اليوم من تعبئة كل
القوى والطاقات لعملية التنمية الاقتصادية بصورة سريعة ومنظمة في نفس
الوقت وذلك عن طريق الاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.
ويعتمد كل من الاتجاهين في تفسيره لما يمنى به من فشل في مجال التطبيق
على الظروف المصطنعة التي يخلقها المستعمرون في المنطقة لكي يعرقلوا فيها
عمليات النمو ولا يسمح لنفسه على أساس ذلك أن يفكر حين الإحساس
بالفشل في أي منهج بديل للشكلين التقليديين اللذين اتخذتهما التجربة الأوروبية الحديثة في الغرب والشرق بالرغم من وجود بديل جاهز لا يزال يعيش نظرياً
وعقائدياً في حياة الأمة وإن كان منعزلاً عن مجال التطلبيق وهو المنهج الإسلامي
والنظام الاقتصادي في الإسلام.
و أنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية فإن هذا ما أتركه للكتاب نفسه
فقد قام كتاب اقتصادنا بدراسة مقارنة بهذا الصدد وإنما أريد أن أقارن بين
الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي
من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضد
التخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً
لعملية التنمية الاقتصادية.
ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواها
الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار للتنمية
الاقتصادية يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكل واحد
من تلك المناهج فحسب بل لابد أن نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للأمة
وتركيبها النفسي والتاريخي لأن الأمة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن
الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية(1/5)
ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق. كما أن فاعلية الاقتصاد
الحر الرأسمالي أو التخطيط الاشتراكي في تجربة الإنسان الأوروبي لا تعني
حتماً أن هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفر متي اتبع
نفس المنهج بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءاً من كل
مترابط و حلقة من تاريخ فإذا عزل المنهج عن إطاره وتاريخه لم تكن له تلك
الفاعلية ولا تلك الثمار.
ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وإمكانات
نجاحها عملياً في العالم الإسلامي يجب إبراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقدير
الموقف إلى درجة كبيرة وهي أن حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي
ليست مجرد حاجة إلى أطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب
لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبنّي الدولة
له والتزامها به بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف
أن تؤدي دورها المطلوب إلا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة
ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها شرط أساسي
لإنجاح أي تنمية وأي معركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن
نموها ونمو إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لا تنمو الأمة لا يمكن
أن تمارس عملية تنمية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للأمة يجب أن يسيرا في خط واحد.
و تجربة الإنسان الأوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن
هذه الحقيقة. فإن مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعملية التنمية لم
تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوروبا الحديث إلا بسبب
تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة
وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخ
طويل هذا الاندماج والتفاعل.
فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم(1/6)
الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب
حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد
التخلف ولابد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها
وتاريخها وتعقيداتها المختلفة.
ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد
البلاد المتخلفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين
الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة
هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة.
فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي
تجاه الاستعمار الذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير طويل
من الاستغلال والصراع، فإن هذا الشعور خلق نوعاً من الإنكماش لدى
الأمة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة
المستمدة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدها
وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة حتى لو كانت صالحة ومستقلة عن الاستعمار
من الناحية السياسية غير قادرة على تفجير طاقات الأمة وقيادتها في معركة
البناء فلا بد للأمة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار
وانكماشها تجاه ما يتصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي
ومعالم حضارية لا تمت إلى بلاد المستعمرين بنسب.
وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية في
العالم الإسلامي تفكر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي حرصاً منهم على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري
للاستعمار انفصالاً كاملاً غير أن القومية ليست إلا رابطة تاريخية ولغوية
وليست فلسفة ذات مبادىء ولا عقيدة ذات أسس بل حيادية بطبيعتها تجاه
تخلف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية، وهي لذلك بحاجة(1/7)
إلى الأخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة وفلسفة خاصة تصوغ على
أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي.
ويبدو أن كثيراً من الحركات القومية أحست بذلك أيضاً و أدركت
أن القومية كمادة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعية ونظام اجتماعي
معين وحاولت أن توفق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه وانفصاله
عن الإنسان الأوروبي فنادت بالاشتراكية العربية. نادت بالإشتراكية لأنها
أدركت أن القومية وحدها لا تكفي بل هي بحاجة إلى نظام ونادت بها في
إطار عربي تفادياً لحساسية الأمة ضد أي شعار أو فلسفة مرتبطين بعالم
المستعمرين فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكية بالعربية تغطية
الأجنبي المتمثل في الاشتراكية من الناحية التاريخية والفكرية وهي تغطية
فاشلة لا تنجح في استغفال حساسية الأمة لأن هذا الإطار القلق ليس إلا مجرد
تأطير ظاهري وشكليّ للمضمون الأجنبي الذي تمثله الاشتراكية وإلا فأي
دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي وأي تطوير للعامل العربي
في المواقف وما معنى أن العربية كلغة وتاريخ أو دم وجنس تطوّر فلسفة
معينة للتنظيم الاجتماعي بل كل ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل
العربي إن هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من
الاشتراكية مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي والتي لم تحن الظروف
الموضوعية لتغييرها كالنزعات الروحية بما فيها الإيمان بالله فالإطار العربي
إذن لا يعطي الاشتراكية روحاً جديدة تختلف عن وضعها الفكري والعقائدي
المعاش في بلاد المستعمرين وإنما يراد به التعبير عن استثناءات معينة وقد تكون
موقوتة والاستثناء لا يغير جوهر القضية والمحتوى الحقيقي للشعار ولا يمكن
لدعاة الاشتراكية العربية أن يميزوا الفوارق الأصلية بين اشتراكية عربية
واشتراكية فارسية واشتراكية تركية ولا أن يفسروا كيف تختلف الإشتراكية(1/8)
بمجرد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك لأن الواقع أن المضمون والجوهر
لا يختلف وإنما هذه الأطر تعبر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخر
تبعاً لنوعية التقاليد السائدة في تلك الشعوب.
وبالرغم من أن دعاة الاشتراكية العربية قد فشلوا في تقديم مضمون
حقيقي جديد لهذه الاشتراكية عن طريق تأطيرها بالإطار العربي فإنهم أكدوا
بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها وهي أن الأمة بحكم حساسيتها الناتجة
عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلا على أساس قاعدة أصيلة
لا ترتبط في ذهن الأمة ببلاد المستعمرين أنفسهم.
وهنا يبرز فارق كبير بين مناهج الاقتصاد الأوروبي التي ترتبط في
ذهن الأمة بإنسان القارة المستعمرة مهما وضعت لها من إطارات وبين المنهج
الإسلامي الذي يرتبط في ذهن الأمة بتاريخها وأمجادها الذاتية ويعبر عن
أصالتها ولا يحمل أي طابع لبلاد المستعمرين فان شعور الأمة بأن الإسلام
هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح أمجادها السابقة يعتبر
عاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضد التخلف وفي سبيل التنمية إذا استمد
لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق.
وإلى جانب الشعور المعقد للأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار وكل
المناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين يوجد هناك تعقيد آخر يشكّل صعوبة كبيرة
أيضاً في طريق نجاح المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي إذا طبقت في العالم
الإسلامي وهو التناقض بين هذه المناهج والعقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون.
وهنا لا أريد أن أتحدث عن هذا التناقض لكي أقارن بين وجهة النظر الدينية
ووجهة النظر التي تتبناها تلك المناهج وأحاول أن أفضّل الأولى على الثانية
_ أي أني لا أريد أن أبحث هذا التناقض بحثاً عقائدياً مذهبياً _ وإنما أحاول
إبراز هذا التناقض بين مناهج الإنسان الأوروبي والعقيدة الدينية للإنسان(1/9)
المسلم بوصفها قوة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أي تقييم لها
فإن هذه القوة مهما قدرنا لها من تفكك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار
ضدها في العالم الإسلامي لا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق
المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء. وقد عرفنا قبل لحظات أن عملية التنمية
الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبناها وتشرّع لها فحسب وإنما هي
عملية يجب أن تشترك فيها وتساهم بلون وآخر الأمة كلها. فإذا كانت
الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتز
بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجم بدرجة تفاعلها
مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض.
وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ولا يمني بتناقض
من ذلك القبيل بل إنه إذا وضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية
سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره لأن
أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية وهي أحكام يؤمن المسلمون
عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها يحف عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم
بأن الإسلام دين نزل من الشماء على خاتم النبيين (ص).
وما من ريب في أن من أهم العوامل في نجاح المناهج التي تتخذ لتنظيم
الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق.
وهب أن تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي
استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوتها السلبية تجاه تلك المناهج فإن
هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العلوي الذي قام على أساس تلك العقيدة
عبر تاريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً وساهم على درجة كبيرة في
تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي. كما أن
القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي(1/10)
نجحت على يد الإنسان الأوروبي لأنها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة
على التفاعل معها.
فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم
الإسلامي وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية
... ... ... ...
الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي.
والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم وبقدر
ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض
أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال
جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.
والتخطيط_ أي تخطيط للمعركة ضد التخلف_ كما يجب أن يدخل
في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له درجة تمردها على
عمليات الإنتاج كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري
ومدي انسجامه مع هذا الخطط أو ذاك.
إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء وحتى
المسيحية بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين لم تستطع أن
تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي بل بدلاً عن أن ترفع
نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض
ويجسده في كائن أرضي.
وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان
وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي
يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كله على أساس
القوى المنتجة التي تمثل الأرض وما فيها من إمكانات ليست هذه المحاولات
إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي
بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض وإن اختلفت
تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري.
وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشيئ قيماً(1/11)
للمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة.
وقد استطاعت هذه القيم التي ترسخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي
أن تعبّر عن نفسها في مذاهب اللذة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي
الأخلاقي في أوروبا فإن لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّل
نجاحاً كبيراً إلى الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على
المزاج العام للنفس الأوروبية.
وقد لعبت هذه التقييمات الخاصة للمادة والثروة والتملك دوراً كبيراً
في تفجير الطاقات المختزنة في كل فرد من الأمة ووضع أهداف لعملية
التنمية تتفق مع تلك التقييمات. وهكذا سرت في كل أوصال الأمة حركة
دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء
من المادة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات.
كما أن انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى
الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن
قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته
وهيأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعور
بالاستقلال والفردية الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة
الفلسفية أو تعبر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تاريخ أوروبا
الحديثة وهي الوجودية إذ توجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي
الحديث بالصيغة الفلسفية فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه.
وقد قامت الحرية بدور رئيسي في الاقتصاد الأوروبي وأمكن لعملية
التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الإنسان الأوروبي بالحرية
والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحر بوصفه وسيلة تتفق مع الميول
الراسخة في نفوس الشعوب الأوروبية وأفكارها وحتى حينما طرح الاقتصاد
الأوروبي منهجاً اشتراكياً حاول فيه أن ينطلق من الشعور بالفردية والأنانية
أيضاً مع تحويلها من فردية شخص إلى فردية طبقية.(1/12)
وكلنا نعلم أن الشعور العميق بالحرية كان يوفر شرطاً أساسيا لكثير من
النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية
الأخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتم بدونه.
والحرية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الأوروبي على مفهوم الصراع
لأنها جعلت لكل إنسان أن ينطلق دون أن يحده في انطلاقه شيء سوى وجود
الشخص الآخر إلذي يقف في الطرف المقابل كمحدد له فكان كل فرد
يشكّل بوجوده النفي لحرية الشخص الآخر.
وهكذا نشأت فكرة الصراع في ذهن الإنسان الأوروبي وقد عبرت
هذه الفكرة عن نفسها على الصعيد الفلسفي كما رأينا في سائر الأفكار الأساسية
التي كونت مزاج الحضارة الغربية الحديثة. عبرت هذه الفكرة_ فكرة
الصراع_ عن نفسها في الأفكار العلمية والفلسفية عن تنازع البقاء كقانون
طبيعي بين الأحياء أو عن حتمية الصراع الطبقي داخل المجتمع أو عن
الديالكتيك وتفسير الكون على أساس الأطروحة ونقضيها والمركب الناجم
عن الصراع بين النقيضين. إن كل هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أو
الفلسفي هي قبل كل شيء تعبير عن واقع نفسي عام وشعور حاد لدى
إنسان الحضارة الحديثة بالصراع.
وكان للصراع أثره الكبير في توجيه الاقتصاد الأوروبي الحديث وما
واكبه من عمليات التنمية سواء ما اتخذ منه الشكل الفردي وعبر عن نفسه
بالتنافس المحموم وغير المحدود بين المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الشخصية
في ظل الاقتصاد الحر التي كانت تنمو وتنمي الثروة الكلية من خلال صراعها
وتنافسها على البقاء أو ما اتخذ منه الشكل الطبقي وعبر عن نفسه بتجمعات
ثورية تتسلم مقاليد الإنتاج في البلاد وتحرك كل الطاقات لصالح التنمية
الاقتصادية.
هذه هي أخلاقية الاقتصاد الأوروبي وعلى هذه الأرضية استطاع هذا
الاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقق نموه ويسجل مكاسبه الضخمة.
وهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمة داخل العالم(1/13)
الإسلامي نتيجة لتاريخها الديني فالإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء
وعاشت في بلاده ومر بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى
السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة
والمحسوس.
وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبر عن نفسه
على المستوي الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى
المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس.
وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلم حددت من قوة أغراء
المادة للإنسان المسلم وقابليتها لأثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم
الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها
إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة.
وقد روّضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبر في وعي
المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبر في ذهن مسلم
آخر عن ضمير محدّد وموجّه وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي
عن الإحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بها
الإنسان الأوروبي.
ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي
لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب
إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر
الأوروبي الحديث. وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار
العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً
وامتدادها مع الزمان والمكان فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ
مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية
والارتباط بالجماعة. وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا(1/14)
لاحظناها بوصفها حقيقة مائلة في كيان الأمة يمكن الاستفادة منها في المنهجة
للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية
لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي
الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام.
فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى
موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثل في
الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء وأما إذا ألبست
الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة
فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة
دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي. وبدلاً عما
يحسه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الأرض أو ما يحسه المسلم النشيط
الذي يتحرك وفق أساليب الاقتصاد الحر أو الاشتراكي من قلق نفسي في
أكثر الأحيان ولو كان مسلماً متميعاً سوف يولد انسجام كامل بين نفسية
إنسان العالم الإسلامي ودوره الايجابي المرتقب في عملية التنمية.
ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي
يجعله لا يعيش فكرة الحرية بالطريقة الأوروبية يمكن أن يساعد إلى درجة
كبيرة في تفادي الصعاب التي تنجم عن الاقتصاد الحر والمشاكل التي
تواجهها التنمية الاقتصادية في ظله عن تخطيط عام يستمد مشروعيته في ذهن
إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي و الرقابة غير المنظورة
أي يستند إلى مبررات أخلاقية.
والإحساس بالجماعة والارتباط بها يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدم
في تعبئة طاقات الأمة الإسلامية للمعركة ضد التخلف إذا أعطي للمعركة
شعار يلتقي مع ذلك الإحساس كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان
الأمة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال (وأعدوا لهم ما استطعتم(1/15)
من قوة) فأمر بإعداد كل القوى الاقتصادية التي يمثلها مستوى
الإنتاج باعتباره جزءاً من معركة الأمة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها.
وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادر
على الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى
طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية.
فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية
ونستطيع أن نعبأها في المعركة ضد التخلف على عكس ما إذا أخذنا بمناهج
في الاقتصاد ترتبط نفسياً وتاريخياً بأرضية أخلاقية أخرى.
وقد أخذ بعض المفكرين الأوروبيين يدركون هذه الحقيقة أيضاً ويلمحون
إليها معترفين بأن مناهجهم لا تتفق مع طبيعة العالم الإسلامي واذكر كمثال
على ذلك جاك أو ستروى فقد سجل هذه الملاحظة بكل وضوح في كتابه
((التنمية الاقتصادية)) بالرغم من أنه لم يستطع أن يبرز التسلسل الفني والمنطقي
لتكوّن الأخلاقية الأوروبية وتكوّن الأخلاقية الإسلامية وترتب حلقاتها ولا
الأبعاد الكاملة لمحتوى كل من الأخلاقيتين وتورط في عدة أخطاء وبالرغم
من أمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الأستاذ
الجليل محمد المبارك في مقدمة الكتاب والأستاذ الدكتور نبيل صبحي الطويل
الذي ترجم الكتاب إلى العربية فإن بودي أن أتوسع في فرصة مقبلة بهذا
الصدد مكتفياً الآن بالقول بأن اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني
بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص
وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك أو ستروي
بل إن هذا الاتجاه لدى الإنسان المسلم يعبر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان
في الأرض فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله
ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان(1/16)
وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون كما لا أعرف
مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأن
الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه ولا مسؤولية بدون
حرية وشعور بالاختيار والتمكن من التحكم في الظروف وإلا فأي استخلاف
هذا إذا كان الإنسان مقيداً أو مسيّراً ولهذا قلنا إن إلباس الأرض إطار
السماء يفجر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته بينما قطع الأرض عن
السماء يعطل في الخلافة معناها ويجمد نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض في
صيغة سلبية فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء
بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذا
الإنسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة.
وإضافة إلى كل ما تقدم نلاحظ أن الأخذ بالإسلام أساساً للتنظيم العام
يتيح لنا أن تقيم حياتنا كلها بجانبيها الروحي والاجتماعي على أساس واحد
لأن الإسلام يمتد إلى كلا الجانبين بينما تقتصر كثير من المناهج الاجتماعية
الأخرى غير الإسلام على جانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية من
حياة الإنسان ومثله فإذا أخذنا مناهجنا العامة في الحياة من مصادر بشرية
بدلاً عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب
الروحي ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحية إلا الإسلام فلا بد
حينئذ من إقامة كل من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاص به
مع أن الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر بل هما متفاعلان إلى درجة
كبيرة وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم وأكثر انسجاماً
مع التشابك الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان.
العراق _ النجف الأشر ف محمد باقر الصدر
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤلف
كنا يا قرائي الأعزاء على موعد منذ افترقنا في كتاب فلسفتنا، فقد(1/17)
حدثتكم. أن(فلسفتنا) هي الحلقة الأولى من دراستنا الإسلامية، بوصفها
دراسة تعالج الصرح الإسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها
بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي،
لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة
حية في الأعماق، ونظاماً كاملاً للحياة، ومنهجاً خاصاً قي التربية والتفكير.
قلنا هذا في مقدمة(فلسفتنا)، وكنا نقدّر أن يكون(مجتمعنا) هو
الدراسة الثانية في بحوثنا، نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته
الاجتماعية، وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره، لننتهي
من ذلك إلى المرحلة الثالثة، إلى النظم الإسلامية للحياة التي تتصل بأفكار
الإسلام الاجتماعية، وترتكز على صرحه العقائدي الثابت. ولكن شاءت
رغبة القراء الملحة أن نؤجل مجتمعنا، ونبدأ بإصدار اقتصادنا عجلة منهم في
الإطلاع على دراسة مفصلة للاقتصاد الإسلامي: في فلسفته وأسسه وخطوطه وتعاليمه.
وهكذا كان، فتوفرنا على أنجاز(اقتصادنا) محاولين أن نقدم فيه
الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي، كما نفهمه اليوم من مصادره
وينابيعه.
وكنت أرجو أن يكون لقاؤنا هذا أقرب مما كان، ولكن ظروفاً قاهرة
اضطرت إلى شيء من التأخير، بالرغم من الجهود التي بذلتها بالتضامن
مع عضدي المفدى العلامة الجليل السيد محمد باقر الحكيم، في سبيل إنجاز
هذه الدراسة ووضعها بين أيديكم في أقرب وقت ممكن.
* * *
وبودّي أن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة(اقتصادنا) أو كلمة
الاقتصاد الإسلامي الذي تدور حوله بحوث الكتاب، وما أعنيه بهذه الكلمة
حين أطلقها لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإنساني،
وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرت بها، وللازدواج
في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد(1/18)
أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميز علم الاقتصاد
عن المذهب الاقتصادي، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير
المذهبي، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي، الذي
نتوفر على دراسته في هذا الكتاب.
فعلم الاقتصاد هو: العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها
وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي
تتحكم فيها.
وهذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث_ بالمعني الدقيق للكلمة_
إلا في بداية العصر الرأسمالي منذ أربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره
البدائية تمتد إلى أعماق التاريخ، فقد ساهمت كل حضارة في التفكير
الاقتصادي بمقدار ما أتيح لها من إمكانات، غير أن الاستنتاج العلمي الدقيق
الذي نجده لأول مرة في علم الاقتصاد السياسي، مدين للقرون الأخيرة.
وأما المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو: عبارة عن الطريقة التي يفضّل
المجتمع أتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكلها العملية.
وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي،
لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لا بد له من طريقة يتفق عليها
في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه
المذهبي من الحياة الاقتصادية.
ولا شك في أن اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباطاً
مطلقاً، وإنما يقوم دائماً على أساس أفكار ومفاهيم معينة، ذات طابع أخلاقي
أو علمي أو أي طابع آخر. وهذه الأفكار والمفاهيم تكوّن الرصيد الفكري
للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها. وحين يدرس أي مذهب اقتصادي
يجب أن يتناول من ناحية: طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية:
رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط المذهب بها. فإذا درسنا مثلاً
المذهب الرأسمالي القائل: بالحرية الاقتصادية.. كان لزاماً علينا أن نبحث(1/19)
الأفكار والمفاهيم الأساسية، التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحرية
وإيمانها بها.. وهكذا الحال في أي دراسة مذهبية أخرى.
ومنذ بدأ علم الاقتصاد السياسي يشق طريقه في مجال التفكير الاقتصادي،
أخذت بعض النظريات العلمية في الاقتصاد تكوّن جزءاً من هذا الرصيد
الفكري للمذهب.
فالتجاريون مثلاً_ وهم طلائع التفكير الاقتصادي الحديث_ حين
زعموا أنهم فسروا من ناحية علمية كمية الثروة لدى كل أمة: بالمقدار الذي
تمكله من النقد، استخدموا هذه الفكرة في وضع مذهبهم التجاري، فدعوا
إلى تنشيط التجارة الخارجية بوصفها الأداة الوحيدة بجلب النقد من الخارج،
ووضعوا معالم سياسة اقتصادية، تؤدي إلى زيادة قيمة البضائع المصدرة على
قيمة البضائع المستوردة، لتدخل إلى البلاد نقود بقدر الزيادة في الصادرات.
والطبيعيون حين جاؤا بتفسير جديد للثروة، قائم على أساس الإيمان:
بأن الإنتاج الزراعي وحده هو الإنتاج الكفيل بتنمية الثروة وخلق القيم
الجديدة، دون التجارة والصناعة. . وضعوا في ضوء التفسير العلمي المزعوم
سياسة مذهبية جديدة، تهدف إلى العمل على ازدهار الزراعة وتقدمها،
بوصفها قوام الحياة الاقتصادية كلها.
و(مالتس) حين قرر في نظريته الشهيرة على ضوء إحصاءاته العلمية:
إن نمو البشر أسرع نسبياً من نمو الإنتاج الزراعي، مما يؤدي حتماً إلى مجاعة
هائلة في مستقبل الإنسانية، لزيادة الناس على المواد الغذائية.. تبنّى الدعوة
إلى تحديد النسل، ووضع لهذه الدعوة أساليبها السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
وحين فسر الاشتراكيون قيمة السلعة: بالعمل المنفق على إنتاجها..
شجبوا الربح الرأسمالي، وتبنوا المذهب الاشتراكي في التوزيع الذي يجعل
الناتج من حق العامل وحده، لأنه الخالق الوحيد للقيمة التي يتمتع بها الناتج.
وهكذا أخذت جملة من النظريات العلمية تؤثر على النظرة المذهبية،(1/20)
وتنير الطريق أمام الباحثين المذهبيين(1).
وجاء بعد ذلك دور ماركس، فأضاف إلى الرصيد الفكري للمذهب
الاقتصادي شيئاً حديداً، وهو علم التاريخ أو ما أسماه بالمادية التاريخية،
التي زعم فيها: أنه كشف القوانين الطبيعية التي تتحكم في التاريخ، واعتبر
المذهب نتاجاً حتمياً لتلك القوانين. فلكي نعرف المذهب الاقتصادي الذي
يجب أن يسود في مرحلة معينة من التاريخ، يجب أن نرجع إلى تلك القوانين
الحتمية لطبيعة التاريخ ونكشف عن مقتضياتها في تلك المرحلة.
ولأجل ذلك آمن ماركس: بالمذهب الاشتراكي والشيوعي بوصفه
النتاج الحتمي لقوانين التاريخ التي بدأت تتمخض عنه في هذه المرحلة من
حياة الإنسان. وبهذا ارتبط المذهب الاقتصادي بدراسة علم التاريخ كما
ارتبط قبل ذلك ببعض الدراسات في علم الاقتصاد السياسي.
وعلى هذا الأساس، فنحن حين نطلق كلمة: (الاقتصاد الإسلامي)
لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة
نسبياً، ولأن الإسلام دين دعوة ومنهج حياة وليس من وظيفته الأصيلة
ممارسة البحوث العلمية.. وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي
للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية،
بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري، يتألف من أفكار الإسلام
الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد
السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية.
وهكذا فنحن نريد بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي منظوراً
__________
(1) يجب أن نلاحظ هنا. أن كثيراً من النظريات العلمية في الاقتصاد السياسي ذات موقف
سلبي بحت من المذهب. كالنظريات التي تشرح نقاطاً من الحياة الاقتصادية موضوعة في إطار
مذهبي ثابت وإنما تتأثر النظرة المذهبية مباشرة بالنظريات التي تعالج نقاطاً مطلقة في الحقل
الاقتصادي، لا نقاط نسبية موضوعة في هذا الإطار المذهبي الخاص أو ذاك.(1/21)
إليه في إطاره الكامل، وفي ارتباطه بالرصيد الفكري الذي يعتمد عليه،
ويفسر وجهة نظر المذهب في المشاكل التي يعالجها.
وهذا الرصيد الفكري يتحدد لدينا وفقاً لبيانات مباشرة في الإسلام،
أو للأضواء التي يلقيها نفس المذهب على مسائل الاقتصاد والتاريخ. فإن
المزاج العلمي للإسلام في بحوث علم الاقتصاد السياسي، أو في بحوث
المادية التاريخية وفلسفة التاريخ... يمكن أن يدرس ويستكشف من خلال
المذهب الذي يتبناه ويدعو إليه.
فحينما نريد أن نعرف مثلاً: رأي الإسلام من الناحية العلمية في تفسير
قيمة السلعة وتحديد مصدرها، وكيف تتكون للسلعة قيمتها؟ وهل تكتسب
هذه من العمل وحده أو من شيء آخر؟.. يجب أن نتعرف على ذلك من
خلال وجهة نظر الإسلام المذهبية إلى الربح الرأسمالي، ومدي اعترافه
بعدالة هذا الربح.
وحينما نريد أن نعرف: رأي الإسلام في حقيقة الدور الذي يلعبه كل
من رأس المال ووسائل الإنتاج والعمل في عملية الإنتاج... يجب أن ندرس
ذلك من خلال الحقوق التي أعطاها الإسلام لكل واحد من هذه العناصر في
مجال التوزيع، كما هو مشروع في أحكام: الإجارة، والمضاربة، والمساقاة،
والمزارعة، والبيع، والقرض.
وحين نريد أن نعرف: رأي الإسلام في نظرية مالتس الآنفة الذكر
عن زيادة السكان، يمكننا أن نفهم ذلك في ضوء موقفه من تحديد النسل في
سياسته العامة.
وإذا أردنا أن نستكشف: رأي الإسلام في المادية التاريخية وتطورات
التاريخ المزعومة فيها، يمكننا أن نكشف ذلك من خلال الطبيعة الثابتة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، وإيمانه بإمكان تطبيق هذا المذهب في كل مراحل
التاريخ التي عاشها الإنسان منذ ظهور الإسلام، وهكذا...
* * *
والآن، بعد أن حددنا مدلول الاقتصاد الإسلامي بالقدر الذي ييسر
فهم الدراسات المقبلة، يجب أن نتحدث بشكل خاطف عن فصول الكتاب:
فالكتاب يتناول في الفصل الأول المذهب الماركسي. ونظراً إلى أنه يملك(1/22)
رصيداً علمياً يتمثل في المادية التاريخية، فقد درسنا أولاً هذا الرصيد الفكري.
ثم انتهينا من ذلك إلى نقد المذهب بصورة مباشرة، وخرجنا من ذلك بنسف
الأسس العلمية المزعومة التي قوم عليها الكيان المذهبي للماركسية: وأما
الفصل الثاني: فقد خصص لدرس الرأسمالية ونقدها، في أسسها وتحديد
علاقتها بعلم الاقتصاد السياسي.
وتبدأ دراسة الاقتصاد الإسلامي بصورة مباشرة من الفصل الثالث،
فنتحدث في هذا الفصل عن مجموعة من الأفكار الأساسية لهذا الاقتصاد،
ثم ننتقل إلى التفاصيل في الأصول الأخرى، لنشرح نظام التوزيع ونظام
الإنتاج في الإسلام، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات
الطبيعية، وتحديدات الملكية الخاصة، ومباديء التوازن، والتكافل،
والضمان العام، والسياسة المالية وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية،
ودور عناصر الإنتاج: من العمل، ورأس المال ووسائل الإنتاج، وحق
كل واحد منها في الثروة المنتجة، وما إلى ذلك من الجوانب المختلفة،
التي تشترك بجموعها في تقديم الصورة الكاملة المحددة عن الاقتصاد الإسلامي...
* * *
وأخيراً، فقد بقيت عدة نقاط تتصل ببحوث الكتاب، وخاصة
الفصول الأخيرة التي تستعرض تفصيلات الاقتصاد الإسلامي، يجب تسجيلها
منذ البدء.
1- إن الآراء الإسلامية فيما يتصل بالجوانب الفقهية من الاقتصاد
الإسلامي، تعرض في هذا الكتاب عرضاً مجرداً عن أساليب الاستدلال
... ... ... ... ...
وطرق البحث العلمي في الدراسات الفقهية الموسعة. وحين تسند تلك الآراء
بمدارك إسلامية من آيات وروايات لا يقصد من ذلك الاستدلال على الحكم
الشرعي بصورة علمية، لأن البرهنة على الحكم بآية أو رواية لا يعني مجرد
سردها، وإنما يتطلب عمقاً ودقة واستيعاباً بدرجة لا تلتقي مع الغرض الذي
ألّف لأجله هذا الكتاب، وإنما نرمي من وراء عرض تلك الآيات والروايات
أحياناً، إلى إيجاد خبرة عامة للقاريء بالمدارك الإسلامية.(1/23)
2- الآراء الفقهية التي تعرض في الكتاب، لا يجب أن تكون مستنبطة
من المؤلف نفسه، بل قد يعرض الكتاب لآراء تخالف من الناحية الفقهية
اجتهاد الكاتب في المسألة، وإنما الصفة العامة التي لوحظ توفرها في تلك
الآراء هي: أن تكون نتيجة لاجتهاد أحد المجتهدين، بقطع النظر عن
عدد القائلين بالرأي وموقف الأكثرية منه.
3- قد يعرض الكتاب أحكاماً شرعية بشكل عام دون أن تتناول
تفصيلاتها، وبعض الفروض الخارجة عن نطاقها، نظراً إلى أن الكتاب
لا يتسع لكل التفاصيل والتفريعات.
4- يؤكد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام، وهذا
لا يعني أنها أحكام ارتباطية وضمنية بالمعني(الأصولي)، حتى إذا عطل
بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى، وإنما يقصد من ذلك
أن الحكمة التي تُستهدف من وراء تلك الأحكام لا تحقق كاملة دون أن
يطبق الإسلام، بوصفه كلاً لا يتجزأ، وإن وجب في واقع الحال امتثال
كل حكم بقطع النظر عن امتثال حكم آخر أو عصيانه.
5- توجد تقسيمات في الكتاب في بعض جوانب الاقتصاد الإسلامي،
لم ترد بصراحة في نص شرعي، وإنما انتزعت من مجموع الأحكام الشرعية
الواردة في المسألة، ولذلك فإن تلك التقسيمات تتبع في دقتها مدى انطباق
تلك الأحكام الشرعية عليها.
6-جاءت في الكتاب ألفاظ قد يساء فهمها. ولهذا شرحنا مدلولها
وفقاً لمفهومنا عنها، خوفاً من الالتباس، كملكية الدولة التي تعني في
مفهومنا: كل مال كان ملكاً للمنصب الإلهي في الدولة، فهو ملك للدولة.
ولمن يشغل المنصب أصالة أو وكالة التصرف فيه، وفقاً لما قرره الإسلام.
* * *
وبعد فإن هذا الكتاب لا يتناول السطح الظاهري للاقتصاد الإسلامي
فحسب، ولا يعني بصبه في قالب أدبي حاشد بالكلمات الضخمة والتعميمات
الجوفاء.. وإنما هو محاولة بدائية_مهما أوتي من النجاح وعناصر الابتكار_
للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام، وصبها في قالب فكري(1/24)
ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي، ثري بفلسفته وأفكاره
الأساسية، واضح في طابعه ومعلمه واتجاهاته العامة، محدد في علاقته وموقفه
من سائر المذاهب الاقتصادية الكبرى، مرتبط بالتركيب العضوي الكامل
للإسلام...
فيجب إذن أن يدرس هذا الكتاب بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح
الإسلامي، ويطلب منه أن يفلسف الاقتصاد الإسلامي في نظرته إلى الحياة
الاقتصادية وتاريخ الإنسان، ويشرح المحتوي الفكري لهذا الاقتصاد.
((وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)).
النجف الأشر ف محمد باقر الصدر(1/25)
...
مع الماركسّية
نظرية المادية التاريخية
1_ تمهيد
2_ النظرية على ضوء الأسس الفلسفية
3_ النظرية بما هي عامة
4_ النظرية بتفاصيلها
المذهب الماركسي
1_ الاشتراكية
2_ الشيوعية
نظرية المادية التاريخيّة
1_ تمهيد
حين نتناول الماركسية على الصعيد الاقتصادي، لا يمكننا أن نفصل بين
وجهها المذهبي، المتمثل في الاشتراكية والشيوعية الماركسية، ووجهها
العلمي المتمثل في المادية التاريخية، أو المفهوم المادي للتاريخ، الذي زعمت
الماركسية أنها حددت فيه القوانين العلمية العامة، المسيطرة على التاريخ
البشري واكتشفت في تلك القوانين النظام المحتوم لكل مرحلة تاريخية من
حياة الإنسان، وحقائقها الاقتصادية المتطورة على مر الزمن.
وهذا الترابط الوثيق بين المذهب الماركسي، والمادية التاريخية، سوف
ينكشف خلال البحوث الآتية أكثر فأكثر إذ يبدو في ضوئها بكل وضوح،
أن الماركسية المذهبية، ليست في الحقيقة إلا مرحلة تاريخية معينة، وتعبيراً
محدوداً نسبياً عن المفهوم المادي المطلق للتاريخ، فلا يمكن أن نصدر حكماً
في حق الماركسية المذهبية، بصفتها مذهباً له اتجاهاته و خطوطه الخاصة،
إلا إذا استوعبنا الأسس الفكرية التي ترتكز عليها، وحددنا موقفنا من
المادية التاريخية، بوصفها القاعدة المباشرة للمذهب، والهيكل المنظم لقوانين
الاقتصاد والتاريخ، التي تملي_في زعم الماركسية_على المجتمع مذهبه
الاقتصادي، وتصنع له نظامه في الحياة طبقاً، لمرحلته التاريخية وشروطه
المادية الخاصة.
والمادية التاريخية إذا أدت امتحانها العلمي، ونجحت فيه، كانت هي
المرجع الأعلى في تحديد المذهب الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، لكل
مرحلة تاريخية من حياة الإنسان. وأصبح من الضروري أن يدرس كل
مذهب اقتصادي واجتماعي، من خلال قوانينها، وفي ضوئها. كما وجب
أن يرفض تصديق أي مذهب اقتصادي واجتماعي، يزعم لنفسه القدرة على(1/1)
استيعاب عدة أدوار تاريخية مختلقة، كالإسلام، المؤمن بإمكانية إقامة
المجتمع، وعلاقاته الاقتصادية والسياسية على أساسه بقطع النظر عما طرأ
على المجتمع من تغيير في شروطه المدنية والمادية، خلال أربعة عشر قرناً،
ولأجل هذا يقرر انجلز_على أساس المادية التاريخية_بوضوح:
((إن الظروف التي ينتج البشر تحت ظلها،تختلف
بين قطر و آخر. وتختلف في القطر الواحد من جيل
لآخر.لذا فليس من الممكن أن يكون للأقطار كافة،
وللأدوار التاريخية جمعاء، اقتصاد سياسي واحد))(1)
وأما إذا فشلت المادية التاريخية في أداء مهمتها العلمية المزعومة، وثبت
لدى التحليل أنها لا تعبّر عن القوانين الصارمة الأبدية، للمجتمعات البشرية،
فمن الطبيعي عندئذ أن تنهار الماركسية المذهبية، المرتكزة عليها. ويصبح من
الممكن علمياً عند ذاك، أن يتبنى الشخص المذهب الذي لا تقره قوانين
المادية التاريخية، كالمذهب الإسلامي، ويدعو إليه، بل وأن يزعم له من
العموم وقدرة الاستيعاب، ما لا يتفق مع منطق الماركسية في التاريخ.
ولهذا نجد لزاماً على كل باحث مذهبي في الاقتصاد، أن يلقي نظرة
شاملة على المادية التاريخية، لكي يبرر وجهة نظره المذهبية، ويستطيع أن يحكم
في حق الماركسية المذهبية، حكماً أساسياً شاملاً.
وعلى هذا الأساس سوف نبدأ في بحثنا_مع الماركسية_بالمادية التاريخية،
ثم نتناول المذهب الماركسي، الذي يرتكز عليها. وبمعني آخر ندرس:
أولاً: علم الاقتصاد والتاريخ الماركسي. وثانياً: مذهب الماركسية في
الاقتصاد.
نظريات العامل الواحد
والمادية التاريخية طريقة خاصة في تفسير التاريخ، تتجه إلى تفسيره بعامل
واحد وليس هذا الاتجاه في المادية التاريخية فريداً من نوعه، فقد جنح
جمهور من الكتاب والمفكرين، إلى تفسير المجتمع والتاريخ بعامل واحد،
من العوامل المؤثرة في دنيا الإنسان، إذ يعتبرونه المفتاح السحري الذي يفتح
__________
(1) ضد دوهرنك:ج2ص5.(1/2)
مغاليق الأسرار، ويمتلك الموقف الرئيسي في عمليات التاريخ. ويفسرون
العوامل الأخرى على أنها مؤثرات ثانوية، تتبع العامل الرئيسي في وجودها
وتطورها، وفي تقلباتها واستمرارها.
* * *
فمن ألوان هذا الاتجاه إلى توحيد القوة المحركة للتاريخ في عامل واحد،
الرأي القائل: بالجنس كسبب أعلى في المضمار الاجتماعي فهو يؤكد أن
الحضارات البشرية، والمدنيات الاجتماعية، تختلف بمقدار الثروة المذخورة
في صميم الجنس، وما ينطوي عليه من قوى الدفع والتحريك، وطاقات
الإبداع والبناء. فالجنس القوي النقي المحض، هو مبعث كل مظاهر الحياة في
المجتمعات الإنسانية، منذ الأزل إلى العصر الحديث، وقوام التركيب
العضوي والنفسي في الإنسان وليس التأريخ إلا سلسلة مترابطة من ظواهر
الكفاح بين الأجناس والدماء التي تخوض معركة الحياة في سبيل البقاء،
فيكتب فيها النصر للدم النقي القوي، وتموت في خضمه الشعوب الصغيرة،
وتضمحل وتذوب، بسبب ما تفقده من طاقات في جنسها، وما تخسره من
قابلية المقاومة النابعة من نقاء الدم.
* * *
ومن تفسيرات التاريخ بالعامل الواحد: المفهوم الجغرافي للتأريخ، الذي
يعتبر العامل الجغرافي والطبيعي أساساً لتأريخ الأمم والشعوب، فيختلف تأريخ
الناس، باختلاف ما يكتنفهم من العوامل الجغرافية والطبيعية،لأنها هي التي
تشق لهم طريق الحضارة الراقية، وتوفر لهم أسباب المدنية، وتفجّر في
عقولهم الأفكار البنّاءة أحياناً، وتوصد في وجوههم الأبواب، وتفرض
عليهم السير في مؤخر القافلة البشرية أحياناً أخرى، فالعامل الجغرافي هو الذي
يكيّف المجتمعات، بما يتفق مع طبيعته ومتطلباته.
* * *
وهناك تفسير ثالث بالعامل الواحد، نادى به بعض علماء النفس قائلاً:
إن الغريزة الجنسية، هي السر الحقيقي الكامن وراء مختلف النشاطات
الإنسانية، التي يتألف منها التاريخ والمجتمع فليست حياة الإنسان إلا سلسلة
من الاندفاعات الشعورية، أو اللاشعورية عن تلك الغريزة.
* * *(1/3)
وآخر هذه المحاولات، التي جنحت إلى تفسير التأريخ والإنسان بعامل
واحد، هي المادية التاريخية التي بشر بها كارل ماركس، مؤكداً فيها: إن
العامل الاقتصادي، هو العامل الرئيسي، والرائد الأول للمجتمع في نشوئه
وتطوره والطاقة الخلاقة لكل محتوياته الفكرية والمادية، وليست شتى العوامل
الأخرى، إلا بنيات فوقية في الهيكل الاجتماعي للتأريخ، فهي تتكيف وفقاً
للعامل الرئيسي، وتتغير بموجب قوته الدافعة، التي يسير في ركبها التأريخ
والمجتمع.
* * *
وكل هذه المحاولات لا تتفق مع الواقع ولا يقرّها الإسلام، لأن كل
واحد منها قد حاول أن يستوعب بعامل واحد، تفسير الحياة الإنسانية كلها،
وأن يهب هذا العامل من ادوار التأريخ وفضول المجتمع، ما ليس جديراً به
لدى الحساب الشامل الدقيق.
والهدف الأساسي من بحثنا هذا، هو: دراسة المادية التاريخية من تلك
المحاولات وإنما استعرضناها جميعاً لأنها تشترك في التعبير عن اتجاه فكري
في تفسير الإنسان المجتمعي بعامل واحد.
العامل الاقتصادي أو المادية التاريخية
ولنكوّن الآن فكرة عامة عن المفهوم الماركسي للتاريخ، الذي يتبنى
العامل الاقتصادي، بصفته المحرك الحقيقي لموكب البشرية في كل الميادين.
فالماركسية تعتقد أن الوضع الاقتصادي لكل مجتمع، هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود
الاجتماعي. والوضع الاقتصادي بدوره له سببه الخاص به، ككل شيء في
هذه الدنيا. وهذا السبب_السبب الرئيسي لمجموع التطور الاجتماعي، وبالتالي
لكل حركة تاريخية في حياة الإنسان_هو وضع القوة المنتجة ووسائل الإنتاج.
فوسائل الإنتاج هي القوة الكبرى، التي تصنع تاريخ الناس وتطورهم وتنظمهم.
وهكذا تضع الماركسية يدها على رأس الخيط، وتصل إلى تسلسلها الصاعد
إلى السبب الأول، في الحركة التاريخية بمجموعها.
وهنا يبدو سؤالان: ما هي وسائل الإنتاج؟. وكيف تنشأ عنها الحركة(1/4)
التاريخية، والحياة الاجتماعية كلها؟.
وتجيب الماركسية على السؤال الأول: بأن وسائل الإنتاج هي الأدوات
التي يستخدمها الناس في إنتاج حاجاتهم المادية ذلك أن الإنسان مضطر إلى
الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده، وهذا الصراع يتطلب وجود قوي
وأدوات معينة، يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها. وأول
أداة استخدمها الإنسان في هذا المجال، هي: يده وذراعه. ثم أخذت الأداة
تظهر في حياته شيئاً فشيئاً، فاستفاد من الحجر بصفته كتله ذات ثقل خاص
في، القطع، والطحن، والطرق. واستطاع بعد مرحلة طويلة من التأريخ،
أن يثبت هذه الكتلة الحجرية على مقبض فنشأت المطرقة. وأصبحت اليد
تستخدم في تكوين الأداة المنتجة، لا في الإنتاج المباشر، وصار الإنتاج يعتمد
على أدوات منفصلة، وأخذت هذه الأدوات تنمو وتتطور كلما ازدادت سلطة
الإنسان على الطبيعة، فصنع الفؤوس، والحراب، والسكاكين الحجرية،
ثم تمكن بعد ذلك أن يخترع القوس والسهم ويستعملهما في الصيد. وهكذا
تدرّجت القوى المنتجة تدرجاً بطيئاً، خلال آلاف السنين، حتى وصلت
إلى مرحلتها التاريخية الحاضرة، التي أصبح فيها البخار، والكهرباء،
والذرة، هي الطاقات التي يعتمد عليها الإنتاج الحديث. فهذه هي القوى
المنتجة التي تصنع للإنسان حاجاته المادية.
وتجيب الماركسية على السؤال الثاني أيضاً: بأن الوسائل المنتجة تولد
الحركة التاريخية، طبقاً لتطوراتها وتناقضاتها. وتشرح ذلك قائلة إن القوى
المنتجة في تطور ونمو مستمر، كما رأينا وكل درجة معينة من تطور هذه
القوى والوسائل، لها شكل خاص من أشكال الإنتاج. فالإنتاج الذي يعتمد
على الأدوات الحجرية البسيطة، يختلف عن الإنتاج القائم على السهم،
والقوس، وغير هما، من أدوات الصيد، وإنتاج الصائد، يختلف عن
إنتاج الراعي أو المزارع، وهكذا يصبح لكل مرحلة من تاريخ المجتمع
البشري، أسلوبه الخاص في الإنتاج، وفقاً لنوعية القوى المنتجة، ودرجة
نموها وتطورها.(1/5)
ولما كان الناس في نضالهم مع الطبيعة، لاستثمارها في إنتاج الحاجات
المادية ليسوا منفردين، منعزلاً بعضهم عن بعض، بل ينتجون في جماعات
وبصفتهم أجزاء من مجتمع مترابط، فالإنتاج دائماً ومهما تكن الظروف
إنتاج اجتماعي. ومن الطبيعي حينئذ، أن يقيم الناس بينهم علاقات معينة،
بصفتهم مجموعة مترابطة خلال عملية الإنتاج.
وهذه العلاقات_علاقات الإنتاج_التي تقوم بين الناس، بسبب
خوضهم معركة موحدة ضد الطبيعة، هي في الحقيقة علاقات الملكية،
التي تحدد الوضع الاقتصادي، وطريقة توزيع الثروة المنتجة في المجتمع
وبمعني آخر: تحدد شكل الملكية_المشاعية، أو العبودية،أو الإقطاعية،
أو الرأسمالية، أو الاشتراكية_ونوعية المالك، وموقف كل فرد من
الناتج الاجتماعي.
وتعتبر هذه العلاقات(علاقات الإنتاج، أو علاقات الملكية)_من
وجهة رأي الماركسية_الأساس الواقعي، الذي يقوم عليه البناء العلوي
للمجتمع كله فكل العلاقات السياسية، والحقوقية، والظواهر الفكرية،
والدينية مرتكزة على أساس علاقات الإنتاج(علاقات الملكية). لأن
علاقات الإنتاج، هي التي تجدد شكل الملكية السائد في المجتمع، والأسلوب
الذي يتم بموجبه تقسيم الثروة على أفراده. وهذا بدوره، هو الذي يحدد
الوضع السياسي، والحقوقي والفكري، والديني، بصورة عامة.
ولكن إذا كانت كل الأوضاع الاجتماعية، تنشأ وفقاً للوضع
الاقتصادي وبتعبير آخر: تنشأ وفقاً لعلاقات الملكية(علاقات الإنتاج)،
فمن الضروري أن نتساءل عن علاقات الإنتاج هذه كيف تنشأ؟ وما هو
السبب الذي يكوّن ويكيف الوضع الاقتصادي للمجتمع؟.
وتجيب المادية التاريخية على ذلك: أن علاقات الإنتاج(علاقات
الملكية)، تتكون في المجتمع بصورة ضرورية، وفقاً لشكل الإنتاج،
والدرجة المعينة التي تعيشها القوي المنتجة. فلكل درجة من نمو هذه القوى،
علاقات ملكية ووضع اقتصادي، يطابق تلك الدرجة من تطورها. فالقوى(1/6)
المنتجة هي التي تنشيء الوضع الاقتصادي، الذي تتطلبه وتفرضه على المجتمع
ويتولد عن الوضع الاقتصادي، وعلاقات الملكية عندئذ، جميع الأوضاع
الاجتماعية، التي تطابق ذلك الوضع الاقتصادي و تتفق معه.
ويستمر الوجود الاجتماعي على هذه الحال، حتى تبلغ قوى المجتمع
المنتجة درجة جديدة من النمو والتطور فتدخل في تناقض مع الوضع
الاقتصادي القائم لأن هذا الوضع، إنما كان نتيجة للمرحلة أو الدرجة،
التي تخطتها قوى الإنتاج إلى مرحلة جديدة، تتطلب وضعاً اقتصادياً جديداً،
وعلاقات ملكية من نمط آخر، بعد أن أصبح الوضع الاقتصادي السابق،
معيقاً لها عن النمو. وهكذا يبدأ الصراع بين القوى المنتجة لوسائل الإنتاج،
في مرحلتها الجديدة من ناحية، وعلاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية،
التي خلفتها المرحلة السابقة لقوى الإنتاج من ناحية أخرى.
وهنا يأتي دور الطبقية في المادية التاريخية. فإن الصراع بين القوى
المنتجة النامية، وعلاقات الملكية القائمة، ينعكس على الصعيد الاجتماعي
دائماً، في الصراع بين طبقتين: أحداهما: الطبقة الاجتماعية، التي تتفق
مصالحها مع نمو القوي المنتجة، ومستلزماته الاجتماعية. والأخرى الطبقة
الاجتماعية، التي تتفق مصالحها مع علاقات الملكية القائمة، وتتعارض
منافعها مع متطلبات المد التطوري للقوى المنتجة.ففي المرحلة التاريخية
الحاضرة_مثلاً-يقوم التناقض بين نمو القوى المنتجة، والعلاقات الرأسمالية
في المجتمع. ويشب الصراع تبعاً لذلك، بين الطبقة العاملة، التي تقف إلى
صف القوي المنتجة في نموها، وترفض بإصرار ووعي طبقي علاقات
الملكية الرأسمالية، وبين الطبقة المالكة، التي تقف جانب العلاقات
الرأسمالية في الملكية، وتستميت في الدفاع عنها.
وهكذا يجد التناقض، بين قوى الإنتاج، وعلاقات الملكية_دائماً_
مدلوله الاجتماعي، في التناقض الطبقي.
ففي كيان المجتمع_إذن_تناقضان: الأول: التناقض بين نمو(1/7)
القوي المنتجة، وعلاقات الملكية السائدة، حين تصبح معيقة لها عن التكامل.
والثاني: التناقض الطبقي، بين طبقة من المجتمع، تخوض المعركة لحساب
القوى المنتجة، وطبقة أخرى، تخوضها لحساب العلاقات القائمة. وهذا
التناقض الأخير، هو التعبير الاجتماعي والانعكاس المباشر، للتناقض الأول.
ولما كانت وسائل الإنتاج، هي القوى الرئيسية في دنيا التاريخ فمن
الطبيعي أن تنتصر في صراعها، مع علاقات الملكية ومخلفات المرحلة القديمة.
فتقضي على الأوضاع الاقتصادية، التي أصبحت في تناقض معها وتقيم
علاقات وأوضاعاً اقتصادية تواكبها في نموها وتنسجم مع
مرحلتها.
ومعنى ذلك بالتعبير الاجتماعي: أن الطبقة الاجتماعية التي كانت
تقف في المعركة إلى صف القوى المنتجة، هي التي يكتب لها النصر على
الطبقة الأخرى التي كانت تناقضها، وتحاول الاحتفاظ بعلاقات الملكية
كما هي.
وحين تنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية، وبمعنى آخر: تفوز
الطبقة الحليفة لوسائل الإنتاج، على نقيضتها حينئذ تتحطم علاقات الملكية
القديمة، ويتغير الوجه الاقتصادي للمجتمع. وتغير الوضع الاقتصادي
بدوره، يزعزع كل البناء العلوي الهائل للمجتمع، من سياسة، وأفكار،
وأديان، وأخلاق لأن هذه الجوانب كلها، كانت تقوم على أساس الوضع
الاقتصادي فإذا تبدل الأساس الاقتصادي، تغير وجه المجتمع كله.
والمسألة لا تنتهي عند هذا الحد فان التناقض بين قوى الإنتاج، وعلاقات
الملكية، أو التناقض بين الطبقتين الممثلتين لتلك القوى والعلاقات، إن هذا
التناقض وإن وجد حله الآتي، في تغير اجتماع شامل، غير أنه حل موقوت.
لأن القوى المنتجة، تواصل نموها وتطورها حتى تدخل مرة أخرى في
تناقض، مع علاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية الجديدة. ويتمخض
هذا التناقض، عن ولادة طبقة اجتماعية جديدة، تتفق مصالحها مع النمو
الجديد في قوى الإنتاج ومتطلباته الاجتماعية. بينما تصبح الطبقة، التي(1/8)
كانت حليفة لقوى الإنتاج، خصماً لها منذ تلك اللحظة، التي بدأت
الوسائل المنتجة تتناقض مع مصالحها، وما تحرص عليه من علاقات الملكية.
فتشتبك الطبقتان في معركة جديدة، كمدلول اجتماعي للتناقض بين قوى
الإنتاج، وعلاقات الملكية. وينتهي هذا الصراع إلى نفس النتيجة، التي
أدى إليها الصراع السابق. فتنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية.
وبالتالي تنتصر الطبقة الحليفة لها، ويتغير تبعاً لذلك الوضع الاقتصادي.
وكل الأوضاع الاجتماعية.
وهكذا، فإن علاقات الملكية، والأوضاع الاقتصادية، تظل محتفظة
بوجودها الاجتماعي، ما دامت القوى المنتجة تتحرك ضمنها وتنمو، فإذا
أصبحت عقبة في هذا السبيل، أخذت التناقضات تتجمع، حتى
تجد حلها في انفجار ثوري، تخرج منه وسائل الإنتاج منتصرة، وقد حطمت
العقبة من أمامها. وأنشأت وضعاً اقتصادياً جديداً، لتعود بعد مدة من
نموها، إلى مصارعته من جديد، طبقاً لقوانين الديالكتيك، حتى يتحطم
ويندفع التاريخ إلى مرحلة جديدة.
المادية التاريخية والصفة الواقعة
وقد دأب الماركسيون، على القول بأن المادية التاريخية، هي الطريقة
العلمية الوحيدة لإدراك الواقع الموضوعي، التي قفزت بالتاريخ إلى مصاف
العلوم البشرية الأخرى، كما حاول بعض الكتّاب الماركسيين بإصرار.
اتهام المناوئون للمادية التاريخية، والمعارضين لطريقتها، في تفسير الإنسان
المجتمعي: بأنهم أعداء علم التاريخ وأعداء الحقيقة الموضوعية، التي
تدرسها المادية التاريخية وتفسرها. ويبرر هؤلاء اتهامهم هذا. بأن المادية
التاريخية تقوم على أمرين: أحدهما: الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية
والآخر: أن الأحداث التاريخية لم تخلق صدفة، وإنما وجدت وفقاً لقوانين
عامة: يمكن دراستها وتفهمها. فكل معرضة للمادية التاريخية، مردها
إلى المناقشة في هذين الأمرين.
وعلى هذا الأساس كتب بعض الماركسيين يقول:
(((1/9)
قد دأب أعداء المادية التاريخية، أعداء علم التاريخ على أن يفسروا الاختلافات في إدراك الأحداث التاريخية، على أنها دليل على عدم وجود حقيقة ثابتة، ويؤكدون أننا قد نختلف في وصف حادث وقع قبل يوم، فكيف بأحداث قد وقعت قبل قرون؟!.)) (1).
وقد شاء الكاتب بهذا، أن يفسر كل معارضة للمادية التاريخية، على
أساس أنها محاولة للتشكيك في الجانب الموضوعي للتاريخ، وفي الحقائق
الموضوعية للأحداث التاريخية. وهكذا يحتكر الكاتب، الإيمان بالواقع
الموضوعي، لمفهومه التاريخي الخاص.
ولكن من حقنا أن نتساءل: هل أن عداء المادية التاريخية، يعني حقاً
التشكيك في وجود الحقيقة، خارج شعور الباحث وإدراكه أو إنكارها؟.
والواقع أننا لا نجد في هذه المزاعم. شيئاً جديداً على الصعيد التاريخي،
فقد استمعنا إلى هذا اللون من المزاعم قبل ذلك في الحقل الفلسفي، حين
تناولنا في(فلسفتنا) المفهوم الفلسفي للعالم. فان الماركسيين كانوا يصرون:
أن المادية، أو المفهوم المادي للعالم، هون وحده الاتجاه الواقعي، في مضمار
البحث الفلسفي. لأنه اتجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعي للمادة،
وليس للمسألة الفلسفية جواب إذا انحرف البحث عن الاتجاه المادي، إلا
المثالية. التي تكفر بالواقع الموضوعي، وتنكر وجوده المادة. فالكون إما
أن يفسر تفسيراً مثالياً لا مجال فيه لواقع موضوعي مستقل عن الوعي
والشعور، وإما أن يفسر بطريقة علمية، على أساس المادية الديالكتيكه..
وقد مر بنا في(فلسفتنا) أن هذه الثنائية تزوير على البحث الفلسفي.
يستهدف من وارئه اتهام كل خصوم المادية الجدلية، بأنهم تصوريون
مثاليون، لا يؤمنون بالواقع الموضوعي للعالم، بالرغم من أن الإيمان بهذا
الواقع، ليس وقفاً على المادية الجدلية فحسب ولا يعني رفضها بحال من
الأحوال، التشكيك في هذا الواقع أو إنكاره...
__________
(1) الثقافة الجديدة العدد 11 السنة 7ص10.(1/10)
وكذلك القول في حقلنا الجديد، فإن الإيمان بالحقيقة الموضوعية
للمجتمع، ولأحداث التاريخ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادي، فهناك واقع
ثابت لأحداث التاريخ، وكل حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلاً
بشكل معين، خارج شعورنا بتلك الأحداث وهذا ما نتفق عليه جميعاً.
وليس هو من مزايا المادية التاريخية فحسب، بل يؤمن به كل من يفسر
أحداث التاريخ أو تطوراته، بالأفكار، أو بالعامل الطبيعي، أو الجنسي،
أو بأي شيء آخر من هذه الأسباب. كما تؤمن به الماركسية، التي تفسر
التاريخ بتطور القوى المنتجة. فالإيمان بالحقيقة الموضوعية، هو نقطة
الإنطلاق لكل تلك المفاهيم عن التاريخ، والبديهة الأولى التي تقوم تلك
التفسيرات المختلفة على أساسها.
* * *
وشيء آخر: أن أحداث التاريخ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث
الكون، تخضع للقوانين العامة، التي تسيطر على العالم. ومن تلك القوانين.
مبدأ العلية القائل: إن كل حدث، سواء أكان تاريخياً أو طبيعياً، أم أي
شيء آخر لا يمكن أن يوجد صدفة وارتجالاً، وإنما هو منبثق عن سبب.
فكل نتيجة مرتبطة بسببها، وكل حادث متصل بمقدماته وبدون تطبيق هذا
المبدأ_مبدأ العلية_على المجال التاريخي يكون البحث التاريخي غير ذي معنى.
فالإيمان بالحقيقة الموضوعية لأحداث التاريخ، والاعتقاد بأنها تسير
وفقاً لمبدأ العلمية، هما الفكرتان الأساسيتان لكل بحث علمي، في تفسير
التأريخ وإنما يدور النزاع بين التفاسير والاتجاهات المختلفة، في درس
التأريخ، حول العلل الأساسية، والقوى الرئيسية التي تعمل في المجتمع.
فهل هي القوى المنتجة؟، أو الأفكار؟، أو الدم؟ أو الأوضاع الطبيعية؟،
أو كل هذه الأسباب مجتمعة؟. والجواب على هذا السؤال_أياً كان
اتجاهه_لا يخرج عن كونه تفسيراً للتاريخ، قائماً على أساس الإيمان بحقيقة
الإحداث التاريخية وتتابعها وفقاً لمبدأ العلية.
* * *
وفيما يلي سنتناول المادية التاريخية، بصفتها طريقة عامة في فهم التاريخ(1/11)
وتفسيره وندرسها:
أولاً: على ضوء الأسس الفلسفية والمنطقية، التي يتكون منها مفهوم
الماركسية العام عن الكون.
وثانياً:بما هي نظرية عامة تحاول استيعاب التاريخ الإنساني.
وثالثاً: بتفاصيلها، التي تحدد مراحل التاريخ البشري، والقفزات
الاجتماعية على رأس كل مرحلة.
النظرية على ضوء ألاسس الفلسفية
في ضوء المادية الفلسفية
تؤمن الماركسية، بأن التفسير المادي للتاريخ، من أهم مزايا المادية
الحديثة. إذ لا يمكن بدونه، إعطاء التاريخ تفسيراً صحيحاً، يتجاوب مع
المادية الفلسفية، ويتسق مع المفهوم المادي للحياة والكون.وما دام التفسير
المادي صادقاً_في رأي الماركسية_على الوجود، بصورة عامة، فيجب
أن يصدق بالنسبة إلى التاريخ، لأن التاريخ ليس إلا جانباً من جوانب الوجود
العام.
وعلى هذا الأساس، تعيب الماركسية على مادية القرن الثامن عشر، موقفها
من تفسير التاريخ. لأن مادية القرن الثامن عشر الميكانيكية، لم توفق إلى هذا
الكشف المادي الجبار، في الحقل التاريخي، بل كانت مثالية في مفاهيمها
عن التاريخ، بالرغم من اعتناقها المادية في المجال الكوني العام. ولماذا
كانت في مفهومها التاريخي مثالية؟. كانت كذلك_في رأي الماركسية_
لأنها آمنت بالأفكار والمحتويات الروحية للإنسان، ومنحتها دوراً رئيسياً
في التاريخي، ولم تستطع خلال العلاقات الاجتماعية، التي كانت تعيشها،
أن تتخطى هذه العوامل المثالية، إلى السبب الأعمق، إلى القوى المادية،
الكامنة في وسائل الإنتاج. فلم تصل لأجل هذا، إلى العلة المادية للتاريخ،
ولم يحالفها التوفيق في وضع تصميم علمي، لمادية تاريخية، تتجاوب مع
المادية الكونية. وإنما ظلت تتعلق بالتفسيرات المثالية السطحية، التي تدرس
السطح التاريخي ولا تنفذ إلى الأعماق. قال أنجلز:
(((1/12)
وبالنسبة إلينا نجد في ميدان التاريخ، أن المادية القديمة، لا تصدق مع ذاتها، لأنها تعتبر القوى المثالية المحركة في التاريخ عللا نهائية، وذلك بدلاً من البحث عما وراءها أي البحث عن القوى المحركة الفعلية، الكامنة وراء هذه القوي المحركة ويبدو التناقض، لا في الاعتراف بهذه القوى المثالية فحسب، بل في عدم مواصلة البحث وراء هذه القوى، حتى يمكن إزاحة الستار عن العلل المحركة)) (1).
وأنا لا أريد في مجال بحثي هذا أن أتناول المادية الفلسفية، لأن ذلك
ما قمت به في الحلقة الأولى(فلسفتنا). وإنما أقصد أن أدرس هذا الربط،
الذي تزعمه الماركسية، أو بعض كتّابها، بين المادية الفلسفية، والمادية
التاريخية، بطرح السؤال التالي: هل من الضروري، على أساس المادية
الفلسفية، أن، نفسر التاريخ كما تفسره الماركسية، ونشد عجلته منذ فجر
الحياة إلى الأبد، بوسائل الإنتاج؟.
ولدى الجواب على هذا السؤال، يجب أن نميز بوضوح، المفهوم
الفلسفي للمادية، عن مفهومها التاريخي عند الماركسية. فإن التباس أحد
المفهومين بالآخر، هو الذي أدى إلى التأكيد الآنف الذكر:على الارتباط
بينهما، وعلى أن كل فلسفة مادية لا تتبنى تفكير ماركس للتاريخ فهي
لا تستطيع أن تقف على قدميها، في ميدان البحث التاريخي، ولا أن تتحرر
من المثالية، في مفاهيمها التاريخية، تحرراً نهائياً.
والحقيقة هي: أن، المادية بمفهومها الفلسفي، تعني أن، المادة بظواهرها
المتنوعة، هي الواقع الوحيد، الذي يشمل كل ظواهر العالم، وألوان
الوجود فيه. وليست الروحيات، وكل ما يدخل في نطاقها، من أفكار،
ومشاعر، وتجريدات، إلا نتاجا مادياً، وحصيلة للمادة في درجات خاصة،
من تطورها ونموها. فالفكر مهما بدا رفيعاً وعالياً عن مستوى المادة فهو
لا يبدو في منظار المادية الفلسفية، إلا نتاجاً للنشاط الوظيفي للدماغ. ولا
__________
(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ: ص 57.(1/13)
يوجد واقع خارج حدود المادة، ووجوهها المختلفة، وليست هي بحاجة
إلى أي معنى لا مادي.
فأفكار الإنسان ومحتوياته الروحية، والطبيعة التي يمارسها على أساس
هذا المفهوم الفلسفي، ليست كلها إلا أوجهاً مختلفة للمادة، وتطوراتها
ونشاطاتها.
هذه هي المادية الفلسفية، ونظرتها العامة إلى الإنسان والكون. ولا
يختلف في حساب هذه النظرة الفلسفية، أن يكون الإنسان نتاجاً للشروط
المادية، والقوى المنتجة، أو أن تكون شروط الإنتاج وقواه، نتاجاً للإنسان.
فما دام الإنسان، وأفكاره. والطبيعة، وقواها المنتجة، كلها ضمن حدود
المادة_ كما تزعم المادية الفلسفية_ فلا يضيرها من ناحية فلسفية أن يبدأ
التفسير التاريخي، بأي حلقة من الحلقات، فيعتبرها الحلقة الأولى في التسلسل الاجتماعي. فكما يصح أن نبدأ بالأداة المنتجة، فنسبغ عليها صفة الألوهية
للتاريخ، و نعتبرها السبب الأعلى، لكل التيارات التاريخية. كذلك يمكن
_ من وجهة النظر المادية الفلسفية_ أن نبدأ بالإنسانية، بصفتها نقطة الابتداء
في تفسير التاريخ فكلاهما في حساب المادية الفلسفية سواء.
وبهذا يتضح أن الاتجاه المادي في الفاسفة، الذي يفسر الإنسان والطبيعة
تفسيراً مادياً، لا يحتم مفهوم الماركسية عن التاريخ، ولا يفرض النزول
بالإنسان، إلى درجة ثانوية في السلم التاريخي، واعتباره عجينة رخوة،
تكفيها أدوات الإنتاج كما تشاء.
فالمسألة التاريخية إذن، يجب أن تدرس بصورة مستقلة، عن المسألة
الفلسفية للكون.
في ضوء قوانين الديالكتيك
إن قوانين الديالكتيك، هي القوانين التي تفسر كل تطور وصيرورة،
بالصراع بين الأضداد، في المحتوى الداخل للأشياء، فكل شيء يحمل في
صميمه جرثومة نقيضة، ويخوض المعركة مع النقيض، ويتطور طبقاً
لظروف الصراع(1).
والماركسية تتجة في مفهومها الخاص، إلى تطبيق قوانين الديالكتيك
__________
(1) لاحظ (فلسفتنا): ص174_242.(1/14)
هذه، على الصعيد الاجتماعي، واستعمال الطريقة الديالكتيكية، في تحليل
الأحداث التاريخية. فهي ترى أن التناقض الطبقي في صميم المجتمع،
تعبير عن قانون التناقضات في الديالكتيك، القائل: إن كل شيء يحتوي في
أعماقه، على تناقضات وأضداد. وتنظر إلى التطور الاجتماعي، بوصفه
حركة ديناميكية، منبثقة عن التناقضات الداخلية، طبقاً لقانون الحركة
الديالكتيكية العام، القائل: أن كل كائن يتطور، لا بحركة ميكانيكية
وقوة خارجية تدفعه من ورائه، بل بسبب التناقضات التي تنمو في صميمه
وتنفجر. وتؤمن بتراكم التناقضات الطبقية، شيئاً فشيئاً، حتى تحين اللحظة
المناسبة لتتفجر عن تحول شامل، في بناء المجتمع ونظامه، وفقاً للقانون
الديالكتيكي، القائل: إن التغيرات الكمية التاريخية، تتحول إلى تغير كيفي
آني. وهكذا حاولت الماركسية، أن تجعل من المجال التاريخي_ عن طريق
ماديتها التاريخية_ حقلاً خصباً، لقوانين الديالكتيك العامة.
ولنقف لحظة لنتبين مدى التوفيق، الذي احرزته الماركسية في
ديالكتيكها التاريخي؟. إن الماركسية استطاعت، أن تجعل من طريقتها في
التحليل التاريخي، طريقة ديالكتيكية إلى حد ما، ولكنها تناقضت في النتائج
التي انتهت إليها، مع طبيعة الديالكتيك. وبهذا كانت ديالكتيكية في
طريقتها، ولم تكن كذلك في مضمونها النهائي، ونتائجها الحاسمة،
كما سنرى.
أ_ ديالكيكية الطريقة:
لم تقتصر الماركسية على الطريقة الديالكتيكية، في البحث التاريخي،
بل اتخذتها شعاراً لها في بحوثها التحليلية، لكل مناحي الكون والحياة، كما
مر في (فلسفتنا). غير أنها لم تنج بصورة نهائية، من التذبذب بين
تناقضات الديالكتيك، وقانون العلية. فهي بوصفها ديالكتيكية، تؤكد:
أن النمو والتطور ينشأ عن التناقضات الداخلية فالتناقض الداخلي، هو الكفيل
بأن يفسر كل ظاهرة من ظواهر الكون، دون حاجة إلى قوة أو
علة خارجية، ومن ناحية أخري تعترف: بعلاقة العلة والمعلول.(1/15)
وتفسر هذه الظاهرات أو تلك بأسباب خارجية، وليس بالتناقضات المخزونة
في أعماقها. وهذا التذبذب ينعكس في تحليلها التاريخي أيضاً. فهي بينما
تصر على وجود تناقضات جذرية، في صميم كل ظاهرة اجتماعية: كفيلة بتطويرها وحركتها، تقرر من ناجية أخرى. إن الصراح الاجتماعي الهائل
يقوم كله على قاعدة واحدة، وهي قوى الإنتاج، وطريقته الخاصة،
وإن الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والفكرية، وغيرها ... ليست
إلا بنى فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل آخر لطريقة الإنتاج،
التي قام البناء عليها. فالعلاقة إذن بين هذه النبى المتنوعة الألوان، وبين
طريقة الإنتاج، هي علاقة معلول بعلة. ويعني هذا، أن الظاهرات الاجتماعية
الفوقية، لم تنشأ بطريقة ديالكتيكية، وفقاً للتناقضات الداخلية فيها، وإنما
وجدت بأسباب خارجة عن محتواها الداخلي، وبتأثير القاعدة فيها. بل إنا
نجد أكثر من هذا، فإن التناقض الذي يطور المجتمع_ في رأي الماركسية_
ليس هو التناقض الطبقي، الذي قد يعتبر بمعنى من المعاني تناقضاً داخلياً
للمجتمع، وإنما هو التناقض بين علاقات الملكية القديمة وقوي الإنتاج
الجديد. فهناك إذن شيئان مستقلان، يقوم التناقض بينهما، لا شيء واحد
يحمل في صميمه نقضيه.
وكأن الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح، بين التناقضات
الداخلية، وقانون العلية، وحاولت أن توفق بين الأمرين. فأعطت العلة
والمعلول مفهوماً ديالكتيكياً، ورفضت مفهومهما الميكانيكي، وسمحت
لنفسها على هذا الأساس، أن تستعمل في تحليلها طريقة العلة والمعلول،
في اطارهما الديالكتيكي الخاص. فالماركسية ترفض السببية التي تسير على
خط مستقيم، والتي تظل فيها العلة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول
سلبياً بالنسبة إلى علته. لأن هذه السببية، تتعارض مع الديالكتيك، مع
عملية النمو والتكامل الذاتي في الطبيعة. إذ إن المعلول طبقاً لهذه السببية،(1/16)
لا يمكن أن يجيء حينئذ أثرى من علته. وأكثر نمواً. لأن هذه الزيادة
في الثراء والنمو، تبقى دون تعليل. وأما المعلول الذي يولد من نقيضه،
فيتطور وينمو بحركة داخلية، طبقاً لما يحتوي من تناقضات، ليعود إلى
النقيض الذي أولده، فيتفاعل معه، ويحقق عن طريقة الاندماج به،
مركباً جديداً، أكثر اغتناء وثراء، من العلة والمعلول منفردين. فهذا هو
ما تعنيه الماركسية بالعلة والمعلول، لأنه يتفق مع الديالكتيك، ويعبر عن
الثالوث الديالكتيكي:(الأطروحة، والطباق، والتركيب)(1). فالعلة
هي الأطروحة، والمعلول هو الطباق، والمجموع المترابط منهما هو
التركيب. والعلية هنا عملية نمو وتكامل، عن طريق ولادة المعلول من
العلة، أي الطباق من الأطروحة. والمعلول في هذه العملية لا يولد سلبياً،
بل يولد مزدواً بتناقضاته الداخلية، التي تنميه وتجعله يحتضن علته إليه،
في مركب أرقى وأكمل.
وقد استعملت الماركسية علاقات العلة والمعلول، بمفهومهما الديالكتيكي
هذا في المجال التاريخي. فلم تشذ بصورة عامة عن الطريقة الديالكتيكية
التي تتبناها، وإنما فسرت المجتمع على أساس أن له قاعدة، تقوم عليها
ظواهر فوقية، تنشأ عن تلك القاعدة، وتنمو وتتفاعل مع القاعدة. وتنتج
عن التأثير المتبادل، مراحل التطور الاجتماعي، طبقاً لقصة الأطروحة
والطباق والتركيب(الإثبات، والنفي، ونفي النفي).
وينطبق هذه الوصف على الماركسية، إذا استثنينا بعض الحالات،
التي سجلت فيها الماركسية فشلها في تفسير الحدث التاريخي، بالطريقة
الديالكتيكية فاضطرت إلى تفسير الحدث التاريخي، بالطريقة
الديالكتيكية فاضطرت إلى تفسير التطور الاجتماعي، والأحداث التاريخية،
في تلك الحالات، تفسيراً ميكانيكياً، وإن لم تسمح لنفسها بالاعتراف بهذا
الفشل. فلقد كتب انجلز يقول:
((كان في إمكان المجتمعات البدائية القديمة،
التي ذكرناها آنفاً، أن تظل باقية في الوجود لعدة آلاف
__________
(1) لاحظ (فلسفتنا) ص176_177.(1/17)
من السنين، كما هي الحال في الهند وبين السلافيين إلى
يومنا هذه قبل أن يؤدي تعاملها مع العالم الخارجي،
إلى أن تنشأ في أوساطها اللامساواة في الملكية، التي ينجم عنها شروع هذه المجتمعات في التفكك))(1).
ب_ تزييف الديالكتيك التاريخي:
ومن الضروري أن نشير بهذا الصدد، إلى رأينا في الطريقة الديالكتيكية
والسببية بمعناها الديالكتيكي، وهو: أن هذه السببية القائمة على أساس التناقض(الأطروحة، والطباق، والتركيب) لا تستند على العلم، ولا إلى
التحليل الفلسفي، ولا توجد تجربة واحدة في الحقل العلمي يمكن أن تبرهن
على هذا اللون من السببية كما يرفضها البحث الفلسفي رفضاً تاماً. ولا نريد
التوسع في درس هذه النقطة، لأننا قمنا بدراسة مفصلة لذلك، في نقدنا
العام للديالكتيك.(راجع فلسفتنا). وإنما يعنينا ونحن في المجال التاريخي،
أن نعرض نموذجاً للديالكتيك التاريخي، كي يتجلى عجزه في المجال التاريخي،
كما تجلى في(فلسفتنا) عجزه في المجال الكوني العام. ولنأخذ هذا النموذج،
من كلام(ماركس) إمام الديالكتيك التاريخي، إذ حاول أن يصطنع
الديالكتيك، في تفسير تطور المجتمع إلى رأسمالي، ثم إلى الاشتراكية.
فكتب يقول_ عن ملكية الصانع الخاصة لوسائل إنتاجه:
((إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمو الإنتاج الرأسمالي. يشكّل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة،
التي ليست إلا تابعاً للعمل المستقل الفردي. ولكن الإنتاج
الرأسمالي ينسل هو ذاته، نفيه بالحتمية ذاتها، التي
تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه نفي النفي. وهو يعيد
ليس ملكية الشغيل الخاصة، بل ملكيته الفردية،
المؤسسة على مقتنيات ومكاسب العصر الرأسمالي، وعلى التعاون والملكية المشتركة، لجميع وسائل الإنتاج بما
فيها الأرض))(2).
هل رأيتم كيف ينمو المعلول، حتى يندمج مع علته في تركيب أغني
__________
(1) ضد دوهرنك.ج2ص8.
(2) رأس المال: ج3 ق2 ص138.(1/18)
وأكمل؟. إن ملكية الصانع أو الحرفي الصغير، لوسائل إنتاجه، هي
الأطروحة والعلة. وانتزاع الرأسمالي لتلك الوسائل منه، وتملكه لها، هو
الطباق والمعلول. وحيث إن المعلول ينمو ويزدهر، ويؤلف مع العلة
تركيباً أكمل، فإن الملكية الرأسمالية تتمخض عن الملكية الاشتراكية،
التي يعود فيها الحرفي مالكاً لوسائل إنتاجه، بشكل أكثر كمالاً.
ومن حسن الحظ، أنه لا يكفي أن يفترض الإنسان، أطروحة وطباقاً
وتركيباً، في أحداث التاريخ والكون، لكي يكون التاريخ والكون
ديالكتيكياً. فإن هذا الديالكتيك، الذي افترضه ماركس، لا يعدو أن
يكون لوناً من الجدل التجريدي في ذهنه، وليس جدلاً أو ديالكتيكاً (1)
للتاريخ. وإلا فمتي كانت ملكية الحرفي الخاصة، لوسائل إنتاجه، هي
العلة لتملك الرأسمالي لها؟! ليقال: إن النقيض، ولد من نقيضه، وإن
الأطروحة أنشأت طباقاً.
إن ملكية الحرفيين الخاصة، لوسائل إنتاجهم، لم تكن هي السبب في
وجود الإنتاج الرأسمالي. وإنما وجد الإنتاج الرأسمالي، نتيجة لتحول
طبقة التجار_ضمن شروط معينة، وبسبب تراكم ثرواتهم_ إلى منتجين
رأسماليين. وكانت ملكية الحرفيين، لوسائل إنتاجهم، بصورة مبعثرة
ومتفرقة عقبة في وجه أولئك التجاريين، الذين أصبحوا يمارسون الإنتاج
الرأسمالي، ويطعمون في السيطرة على مزيد من وسائل الإنتاج، فاستطاعوا
بنفوذهم، أن يسحقوا تلك العقبة، وينتزعوا_ بشكل أو آخر_ وسائل
الإنتاج، من أيدي الحرفيين، ليثبتوا بذلك أركان الإنتاج الرأسمالي،
ويوسعوا من مداه. فالإنتاج الرأسمالي وإن احتل مكان الإنتاج الفردي،
القائم على أساس ملكية الحرفي لوسائل إنتاجه، ولكنه لم ينشأ عن ملكية
الحرفي لأدوات إنتاجه، كما ينشأ الطباق من الأطروحة، وإنما نشأ من
ظروف الطبقة التجارية، وتراكم رأس المال عندها، بدرجة جعلها تمارس
الإنتاج الرأسمالي، وبالتالي تسيطر على ممتكلات طبقة الحرفيين. وبكلمة
__________
(1) الجدل والديالكتيك بمعني واحد.(1/19)
واحدة: إن الشروط الخارجية_ كالتجارة، واستغلال المعمرات،
واكتشاف المناجم_ لو لم تمنح التجاريين ملكية ضخمة، وقدرة على
الإنتاج الرأسمالي، وعلى تجريد الحرفيين في نهاية المطاف من وسائلهم...
لو لم تنتج تلك الشروط لهم هذه الإمكانات، لما برز الإنتاج الرأسمالي إلى
الوجود، ولما استطاعت ملكية الحرفيين أن تخلق نقيضها، وتوجد الإنتاج
الرأسمالي، وتطور نفسها بالتالي إلى ملكية اشتراكية.
وهكذا لا نجد في المجال التاريخي_ كما سنرى بصورة أكثر وضوحاً،
لدى دراستنا للمادية التاريخية، في تفاصيلها ومراحلها_ كما لم يوجد في
المجال الكوني العام، مثال واحد تنطبق عليه قوانين الديالكتيك ومفاهيمه
عن السببية.
ج _ النتيجة تناقض الطريقة:
ومن أقسى ما منيت به الماركسية، في طريقتها الديالكتيكة، أنها
استعملت هذه الطريقة، بشكل انتهى بها إلى نتائج غير ديالكتيكية، ولأجل هذا
قلنا_ منذ البدء_ : إن طريقة الماركسية في التحليل التاريخي ديالكتيكية،
ولكن مضمون الطريقة يناقض الديالكتيك. لأن الماركسية تقرر من ناحيتها،
أن التناقض الطبقي الذي يعكس تناقضات وسائل الإنتاج، وعلاقات
الملكية، هو الأساس الرئيسي الوحيد، للصراع في داخل المجتمع. وليست
التناقضات الأخرى، إلا نابعة منه. وتقرر في نفس الوقت، أن القافلة
البشرية سائرة- حتماً_ في طريق محو الطبقية، من المجتمع إلى الأبد.
وذلك حين تدق أجراس النصر، للطبقة العاملة، ويولد المجتمع اللاطبقي،
وتدخل الإنسانية في الاشتراكية والشيوعية. فإذا كانت الطبقة وتناقضاتها،
ستزول في تلك المرحلة من حياة المجتمع، فسوف ينقطع عنه المد التطوري
وتنطفيء شعلة الحركة الأبدية، وتحصل المعجزة التي تشل قوانين
الديالكتيك عن العمل. وألا فكيف تفسر الماركسية حركة الديالكتيك في
المجتمع اللاطبقي، ما دام التناقض الطبقي قد لاقي مصيره المحتوم، وما
دامت حركة الديالكتيك لا توجد إلا على أساس التناقض؟!.(1/20)
ولا يزال في متناول يدنا، كلام ماركس الآنف الذكر، الذي جعل
ملكية الحرفي الخاصة أطروحة واعتبر أن الرأسمالية هي النفي الأول(الطباق)
والاشتراكية هي نفي النفي(التركيب)... فبإمكاننا أن نسأل ماركس:
هل سوف تكف قصة الأطروحة، والطباق، والتركيب، عن العمل،
بعد ذلك، بالرغم من قوانين الديالكتيك العامة؟ أو أنها ستستأنف ثالوثاً
جديداً؟. وإذا كانت ستستمر، فسوف تكون الملكية الاشتراكية هي
الأطروحة. فما هو النقيض الذي ستلده وتنمو بالاندماج معه؟. يمكننا أن
نفترض أن الملكية الشيوعية هي النقيض، أو النفي الأول للاشتراكية،
ولكن ما هو نفي النفي(التركيب)؟. إن الديالكتيك سوف يبقى حائراً،
بإزاء تأكيد الماركسية، على أن الشيوعية هي المرحلة العليا من التطور
البشري.
في ضوء المادية التاريخية
ولندرس الآن المادية التاريخية في ضوء جديد، في ضوء المادية
التاريخية ذاتها. وقد يبدو غريباً لأول وهلة، أن تكون النظرية، أداة
للحكم على نفسها. غير أننا سنجد فيما يلي، أن المادية التاريخية، تكفي
بمفردها للحكم على نفسها، في مجال البحث العلمي.
إن المادية التاريخية لما كانت نظرية فلسفية عامة، لتركيب المجتمع
وتطوره، فهي تعالج الأفكار والمعارف الإنسانية عامة، بوصفها جزءاً من
تركيب المجتمع الإنساني. فتعطي رأيها في كيفية تكوّن المعرفة الإنسانية
وتطورها، كما تعطي رأيها في كيفية نشوء سائر الأوضاع السياسية والدينية
وغيرها... ولما كان الوضع الاقتصادي في رأي المادية التاريخية هو الأساس
الواقعي للمجتمع بكل نواحيه، فمن الطبيعي لها أن تفسر الأفكار والمعارف
على أساسه ولذلك نجد المادية التاريخية، تؤكد أن المعرفة الإنسانية، ليست
وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب، وإنما يمكن سببها الأصيل، في الوضع الاقتصادي. ففكر الإنسان، انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، التي يعيشها وهو ينمو ويتطور، طبقاً لتطور تلك الأوضاع
والعلاقات.(1/21)
وعلى هذا الأساس، شيّدت الماركسية نظريتها في المعرفة، وقالت
بالنسبية التطورية، وإن المعرفة ما دامت وليدة ظروفها الاقتصادية والاجتماعية،
فهي ذات قيمة نسبية، محدودة بتلك الظروف، ومتطورة تبعاً لها. فلا توجد
حقيقة مطلقة، وإنما تتكشف الحقائق بشكل نسبي، من خلال العلائق
الاجتماعية، وبالمقدار الذي تسمح به هذه العلائق.
هذه هي النتيجة التي وصلت إليها المادية التاريخية في تحليل المجتمعات
وهي النتيجة التي كان لابد لها أن تصل إليها، وفقاً لطريقة فهمها للمجتمع
والتاريخ.
وبالرغم من وصول الماركسية إلى هذه النتيجة، في تحليلها الاجتماعي، أبت
أن تطبق هذه النتيجة على نظريتها التاريخية نفسها. فنادت بالمادية التاريخية
كحقيقة مطلقة، وأعلنت على قوانينها الصارمة، بوصفها القوانين الأبدية،
التي لا تقبل التغيير والتعديل، ولا يصيبها شيء من عطل أو عجز، في المجرى
التاريخي الطويل للبشرية. حتى كان المفهوم الماركسي للتاريخ، نقطة انتهاء
للمعرفة البشرية كلها، ولم تكلف الماركسية نفسها، أن تتساءل. من أين نشأ
هذا المفهوم الماركسي؟ أو أن تخضعه لنظريتها العامة في المعرفة. ولو كلفت
الماركسية نفسها شيئاً من ذلك_ كما يحتمه عليها الحساب العلمي_ لاضطرت
إلى القول: بأن المادية التاريخية، بوصفها نظرية معينة، قد انبثقت من خلال
العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فهي ككل نظرية أخرى، نابعة من
الظروف الموضوعية التي تعيشها.
وهكذا نجد، كيف أن المادية التاريخية تحكم على نفسها، من ناحية أنها
تعتبر كل نظرية انعكاساً محدوداً للواقع الموضوعي الذي تعيشه. ولا تعدو هي
بدورها أيضاً، أن تكون نظرية قد تبلورت في ذهن إنساني، عاش ظروفاً
اجتماعية واقتصادية معينة. فيجب أن تكون انعكاساً محدوداً لتلك الظروف
ومتطورة تبعاً لتطورها، ولا يمكن أن تكون هي الحقيقة الأبدية للتاريخ.
ونحن وإن كنا لا نؤمن بأن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، هي السبب(1/22)
الوحيد لولادة النظريات والأفكار. ولكننا لا ننكر تأثيرها في تكوين كثير من
...
الأفكار والنظريات. ولنضرب لذلك مثلاً على مفاهيم المادية التاريخية، وهو
مفهوم ماركس الثوري للتاريخ فقد ظن ماركس، أن إزالة المجتمع الرأسمالي،
أو أي مجتمع آخر، لايتم إلا باتصال ثوري، بين طبقتيه الأساسيتين، وهما
طبقة البورجوازية، وطبقة البروليتاريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الثورة من
أعم القوانين، التي تسيطر على التاريخ البشري كله، وجاء الماركسيون بعد
ذلك. فبدلاً عن محاولة استكشاف الظروف الاجتماعية، التي أوحت إلى
ماركس بحتمية الثورة وضرورتها التاريخية. آمنوا بأن الثورة من القوانين الأبدية
للتاريخ. مع أنها لم تكن في الحقيقة، إلا فكرة استوحاها ماركس، من
الظروف التي عاشها، ثم قفز بها إلى مصاف القوانين المطلقة للتاريخ.
فقد عاصر ماركس، رأسمالية القرن التاسع عشر، تلك الرأسمالية
المطلقة، المتميزة بظروفها السياسية والاقتصادية الخاصة. فبدا له أن التلاحم
الثوري، أقرب ما يكون إلى الوقوع، وأوضح ما يكون ضرورة. لأن البؤس
والنعيم والفقر والغنى، في ظل الرأسمالية المطلقة، كانا يتزايدان باستمرار ودون
عائق. وكانت الظروف السياسية مظلمة إلى حد كبير فتفتق ذهن ماركس،
عن فكرة النضال الطبقي، الذي يستشري ويزداد تناقضاً، يوماً بعد يوم،
حتى ينفر البركان ويحل التناقض بالثورة. فآمن بأن الانقلاب الثوري من
قوانين التاريخ العامة. ومات ماركس واختلفت الأوضاع الاجتماعية في
أوروبا الغربية، وأخذت الظروف السياسية والاقتصادية تسير سيراً معاكساً،
للاتجاه الذي قدره ماركس. فلم يتفاقم التناقض، ولم يتسع البؤس، بل أخذ
بالانكماش نسبياً وأثبتت التجارب السياسية، أن بالإمكان تحقيق مكاسب
مهمة للجمهور البائس، بخوض المعترك السياسي دونما ضرورة لتفجير
البركان بالدماء.
وسار الماركسيون الاشتراكيون في اتجاهين مختلفين: أحدهما: الاتجاه(1/23)
الإصلاحي الديمقراطي والآخر: الاتجاه الانقلابي الثوري.فالاتجاه الأول،
كان هو الاتجاه العام للاشتراكية، في عدة من الأقطار الأوروبية الغربية،
التي بدا للاشتراكيين، في ضوء ما حصل لها من تقدم سياسي واقتصادي،
أن الثورة أصبحت غير ضرورية. وأما الاتجاه الثاني، فقد سيطر على الحركة
الاشتراكية في أوروبا الشرقية، التي لم تشهد ظروفاً فكرية وسياسية واقتصادية،
مماثلة لظروف الغرب. وقام الصراع بين الاتجاهين الماركسيين، حول
تفسير الماركسية، لحساب هذا الاتجاه أو ذاك. وقدّر أخيراً للاتجاه الثوري،
في أوروبا الشرقية أن ينجح. فهلل له الاشتراكيون الثوريون، واعتبروه
الدليل الحاسم على: أن الاتجاه الثوري، هو الذي تتجسد فيه الماركسية
بمطلقاتها وأبدياتها النهائية.
وفات هؤلاء جميعاً كما فات ماركس قبلهم، أنهم ليسوا إزاء حقيقة مطلقة
أبدية، وإنما هم إزاء فكرة استوحاها ماركس من ظروفه، والأجواء
الفكرية والسياسية التي كان يعيشها، ثم وضع عليها المساحيق العلمية، وأعلنها
قانوناً مطلقاً، لاتقبل التخصيص والاستثناء.
وليس من شاهد على ذلك أقوى، من تناقض الاشتراكية الماركسية
_ كما أشرنا سابقاً_ واتخاذها في الشرق طابعاً ثورياً، وفي الغرب طابعاً
ديمقراطياً إصلاحيا. فإن هذا التناقض، لا يعبر في الحقيقة عن الاختلاف
في فهم الماركسية، بمقدار ما يعبر عن مدى محدودية المفهوم الماركسي،
لظروفه الاجتماعية الخاصة. حيث نستنتج منه أن الثورية الماركسية، لم تكن
من حقائق التاريخ المطلقة، التي تكشفت الماركس في لحظة من الزمن، وإنما
هي تعبير عن الظروف التي عاشها ماركس، وحين تطورت هذه الظروف
في أوروبا الغربية، وتكشفت عن أشياء جديدة، أصبحت تلك الفكرة غير
ذات معنى، بالرغم من احتفاظها بقيمتها في أوروبا الشرقية، التي لم تحدث
فيها تلك الأشياء.
ولا نريد بهذا أننا نؤمن، بأن كل نظرية لا بد أن تكون نابعة من(1/24)
الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وإنما هدفنا أن نقرر:
أولاً: أن بعض الأفكار والنظريات، تتأثر بالظروف الموضوعية
للمجتمع فتبدو وكأنها حقائق مطلقة مع أنها لا تعبر إلا عن الحقيقة، في
حدود تلك الظروف الخاصة. ومن تلك الأفكار والنظريات بعض مفاهيم
ماركس عن التاريخ.
ثانياً: أن جميع مفاهيم ماركس عن التاريخ، يجب أن تكون_ في
حكم المادية التاريخية ووفقاً لنظرية المعرفة الماركسية_ حقائق نسبية، نابعة
عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، التي عاصرتها، ومتطورة تبعاً لتطورها.
ولا يمكن أن تؤخذ المادية التاريخية، بوصفها حقيقة للتاريخ. ما دامت
النظريات نتاجاً للظروف النسبية المتطورة كما تؤكد ذلك الماركسية نفسها.
النظرية بما هي عامّة
بعد أن درسنا المادية التاريخية، في ضوء القواعد الفكرية الماركسية، من
المادية الفلسفية، والديالكتيك، والمادية التاريخية نفسها، أو بتعبير آخر
طريقة المادية التاريخية في تفسر المعرفة. وحددنا صلتها بتلك القواعد. بعد أن
درسنا ذلك كله، حان الوقت للانتقال إلى المرحلة الثانية من دراسة المادية
التاريخية. وذلك أن نتناولها بما هي نظرية عامة، تستوعب بتفسيرها حياة
الإنسان، وتاريخه الاجتماعي كله. وندرسها بصفتها العامة هذه. بقطع النظر
عن تفاصيلها، وخصائص كل مرحلة من مراحلها.
وحين نتناولها بهذا الوصف، نجد بين يدي البحث عدة أسئلة، تنتظر
الجواب عليها:
فأولاً: ما هو نوع الدليل، الذي يمكن تقديمه لإثبات الفكرة الأساسية،
في المادية التاريخية وهي: أن، الواقع الموضوعي لقوى الإنتاج، هو القوة
الرئيسية للتاريخ، والعامل الأساسي في حياة الإنسان؟
وثانياً: هل يوجد مقياس أعلى، توزن به النظريات العلمية؟. وما هو
موقف هذا المقياس من النظرية الماركسية عن التاريخ؟
وثالثاً: هل استطاعت المادية التاريخية حقاً أن تملأ بتفسيرها الافتراضي،
كل الشواغر في التاريخ الإنساني، أو بقيت عدة جوانب عامة من الحياة(1/25)
الإنسانية، خارج حدود التفسير المادي للتاريخ؟
وسوف ندير البحث، حول الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة. حتى إذا
انتهينا من ذلك، انتقلنا إلى المرحلة الثالثة، من درس المادية التاريخية، درس
تفاصيلها ومراحلها المتعاقبة.
أولاً: ما هو نوع الدليل على المادية التاريخية؟
ولكي تتاح لنا معرفة الأساليب، التي تستعملها الماركسية، للتدليل على
مفهومها المادي للتاريخ، يجب استيعاب مجموعة ضخمة، من أفكار المادية
التاريخية وكتبها لأن الأساليب معروضة بشكل متقطع، وموزع في مجموع
كتابات الماركسية.
ويمكننا تلخيص الأدلة التي تستند إليها المادية التاريخية، في أمور ثلاثة:
( أ ) الدليل الفلسفي.
( ب ) الدليل السيكولوجي
( جـ ) الدليل العلمي.
أ_ الدليل الفلسفي:
أما الدليل الفلسفي_ ونعني به: الدليل الذي يعتمد على التحليل
الفلسفي للمشكلة، وليس على التجارب والملاحظة المأخوذة عن مختلف
عصور التاريخ_ فهو: أن خضوع الأحداث التاريخية لمبدأ العلية، الذي
يحكم العالم بصورة عامة، يرغمنا على التساؤل عن سبب التطورات التاريخية،
التي تعبر عنها أحداث التاريخ المتعاقبة، وتياراته الاجتماعية، والفكرية
والسياسية المختلفة. فمن الملاحظ بكل سهولة، أن المجتمع الأوروبي الحديث
مثلاً يختلف في محتواه الاجتماعي وظواهره المتنوعة، عن المجتمعات
الأوروبية قبل عشرة قرون. فيجب أن يكون لهذا الاختلاف الاجتماعي
الشامل سببه، وأن نفسر كل تغير في الوجود الاجتماعي، في ضوء الأسباب
الأصيلة، التي تصنع هذا الوجود وتغيره، كما يدرس العالم الطبيعي، في
الحقل الفيزيائي، كل ظاهرة طبيعية، في ضوء أسبابها، ويفسرها بعلتها
لأن المجالات الكونية كلها_ الطبيعية والإنسانية_ خاضعة لمبدأ العلية.فما هو
السبب_ إذن_ لكل التغييرات الاجتماعية، التي تبدو على مسرح التاريخ؟.
قد يجاب على هذا السؤال: بأن السبب هو الفكر أو الرأي السائد في(1/26)
المجتمع. فالمجتمع الأوروبي الحديث، يختلف عن المجتمع الأوروبي_
القديم، تبعاً لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة، السائدة في كل من
المجتمعين.
ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التاريخ والمجتمع؟.
إننا إذا تقدمنا خطوة إلى الأمام، في تحليلنا التاريخي، نجد أنفسنا مرغمين
على التساؤل: عما إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرد المصادفة.
ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال_ في ضوء مبدأ العلية_
سلبياً. فليست آراء البشر وأفكارهم، خاضعة للمصادفة، كما أنها ليست
فطرية، تولد مع الناس، وتموت بموتهم. وإنما هي آراء وأفكار مكتسبة،
تحدث وتتغير وتخضع، في نشوئها وتطورها لأسباب خاصة فلا يمكن
_ إذن_ اعتبارها السبب النهائي، للأحداث التاريخية والاجتماعية، ما دامت
هي بدورها أحداثاً خاضعة لأسباب وقوانين محددة. بل يجب أن نفتش عن
العوامل المؤثرة، في نشوء الآراء والأفكار وتطورها. فلماذا_ مثلاً_ ظهر
القول بالحرية السياسية في العصر الحديث، ولم يوجد في قرون أوروبا
الوسطى وكيف شاعت الآراء التي تعارض الملكية الخاصة، في المرحلة التاريخية
الحاضرة، دون المراحل السابقة؟
وهنا قد نفسر، بل من الضروري أن نفسر نشوء الآراء وتطورها، عن
طريق الأوضاع الاجتماعية. بصورة عامة، أو بعض تلك الأوضاع
_ كالوضع الاقتصادي_ بوجه خاص. ولكن هذا لا يعني أننا تقدمنا في حل
المشكلة الفلسفية شيئاً. لأننا لم نصنع أكثر من أننا فسرنا تكون الآراء وتطورها
تبعاً لتكون الأوضاع الاجتماعية وتطورها. ولذلك انتهينا إلى النقطة التي
ابتدأنا بها، انتهينا إلى الأوضاع الاجتماعية، التي كنا نريد منذ البدء أن
نفسرها، ونستكشف أسبابها. فإذا كانت الآراء وليدة الأوضاع الاجتماعية،
فما هي الأسباب التي تنشأ عنها الأوضاع الاجتماعية، وتتطور طبقاً لها؟
وبكلمة أخرى ما وهو السبب الأصيل للمجتمع والتاريخ؟(1/27)
وليس أمامنا_ في هذا الحال_ لاستكشاف أسباب الوضع الاجتماعي
وتفسيره إلا أحد سبيلين:
الأول: أن نرجع إلى الوراء خطوة، فنكرر الرأي السابق، القائل
بتفسير الأوضاع الاجتماعية بمختلف ألوانها السياسية والاقتصادية وغيرها
بالأفكار والآراء. ونكون حينئذ قد درنا في حلقة مفرغة. لأننا قلنا أولاً:
أن الآراء والأفكار وليدة الأوضاع الاجتماعية. فإذا عدنا لنقول: أن هذه
الأوضاع نتيجة للأفكار والآراء، رسمنا بذلك خطاً دائرياً، ورجعنا من
حيث أردنا أن نتقدم.
وهذا السبيل هو الذي سار فيه المفسرون المثاليون للتاريخ جميعاً. قال
بليخانوف:
((وجد هيجل نفسه، في ذات الحلقة المفرغة، التي وقع فيها علماء الاجتماع، والمؤرخون الفرنسيون. فهم يفسرون الوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي... وما دامت هذه المسألة بلا حل،
كان العلم لا ينفك عن الدوران في حلقة مفرغة، بإعلانه:
أن (ب) سبب (أ)، مع تعيينه(أ) كسبب
(ب)(1))).
والسبيل الآخر_ سبيل الماركسية_: أن نواصل تقدمنا في التفسير
والتعليل، وفقاً لمبدأ العلية. ونتخطى أفكار الإنسان وآرائه، وعلاقاته
الاجتماعية بمختلف أشكالها، نتخطاها لأنها كلها ظواهر اجتماعية، تحدث
وتتطور، فهي بحاجة إلى تعليل وتفسير. ولا يبقى علينا في هذه اللحظة
الحاسمة، من تسلسل البحث، إلا أن نفتش عن سر التاريخ، خارج نطاق
الطبيعة التي يمارسها الإنسان منذ أقدم العصور. أن قوى الإنتاج هذه، هي
وحدها التي يمكّنا أن تجيب على السؤال، الذي كنا نعالجه: لماذا وكيف
حدثت الأحداث التاريخية، وتطورت وفقاً للضرورة الفلسفية، القائلة: بأن
الأحداث لا تخضع للمصادفة، وإن لكل حادثة سببها الخاص (مبدأ العلية)؟.
وهكذا لا يمكن للتفسير التاريخي، أن ينجو من الحركة الدائرية العقيمة
في مجال البحث، إلا إذا وضع يده على وسائل الإنتاج، كسبب أعلى للتاريخ
والمجتمع.
__________
(1) فلسفة التاريخ: ص 44.(1/28)
هذا هو الدليل الفلسفي. وقد حرصنا على عرضه بأفضل صورة ممكنة،
ويعد أهم كتاب استهدف بمجموعة بحوثه كلها، التركيز على هذا اللون
من الاستدلال: (فلسفة التاريخ)، للكاتب الماركسي الكبير بليخانوف وقد
لخصنا الدليل الآنف الذكر من مجموعة بحوثه.
والآن بعد أن أدركنا، الدليل الفلسفي للنظرية، بشكل جيد، أصبح
من الضروري تحليل هذا الدليل ودرسه، في حدود الضرورة الفلسفية،
القائلة: أن الأحداث لا تنشأ صدفة(مبدأ العلية).
فهل هذا الدليل الفلسفي صحيح؟. هل صحيح أن التفسير الوحيد
الذي تنحل له المشكلة الفلسفية للتاريخ هو تفسيره بوسائل الإنتاج؟.
ولكي نمهد للجواب على هذا السؤال، نتناول نقطة واحدة بالتحليل،
تتصل بوسائل الإنتاج، التي اعتبرتها الماركسية السبب الأصيل للتاريخ.
وهذه النقطة هي: أن وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة، بل هي بدورها
أيضاً تتغير وتتطور على مر الزمن، كما تتغير أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية، فتموت وسيلة إنتاج، وتولد وسيلة أخرى. فمن حقنا أن نتساءل: عن
السبب الأعمق الذي يطور القوى المنتجة، ويكمن وراء تاريخها الطويل،
كما تساءلنا عن الأسباب والعوامل التي تصنع الأفكار، أو تصنع الأوضاع
الاجتماعية.
ونحن حين فتقدم بهذا السؤال إلى بليخانوف_ صاحب الدليل الفلسفي_
وأضرابه. من كبار الماركسيين، لا ننتظر منهم الاعتراف بوجود سبب
أعمق للتاريخ، وراء القوى المنتجة لأن ذلك يناقض الفكرة الأساسية، في
المادية التاريخية، القائلة بأن وسائل الإنتاج هي المرجع الأعلى في دنيا
التاريخ. ولهذا فإن هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا، يحاولون أن يفسروا
تاريخ القوى المنتجة وتطورها بالقوى المنتجة ذاتها، قائلين: إن قوى
الإنتاج، هي التي تطور نفسها، فيتطور تبعاً لها المجتمع كله. ولكن كيف
يتم ذلك؟. وما هو السبيل الذي تنهجه القوى المنتجة لتطوير نفسها؟. إن
جواب الماركسية على هذا السؤال جاهز أيضاً، فهي تقول في تفسير ذلك:(1/29)
إن القوى المنتجة_ خلال ممارسة الإنسان لها_ تولّد وتنمي، في ذهنه
باستمرار، الأفكار والمعارف التأملية(1). فالأفكار التأملية، والمعارف
العلمية، تنتج كلها عن التجربة، خلال ممارسة الإنسان لقوى الطبيعة
المنتجة، وحين يكسب الإنسان تلك الأفكار والمعارف، عن طريق
ممارسة القوى الطبيعية المنتجة، تصبح هذه الأفكار التأملية والمعارف
العلمية، قوى يستعين بها الإنسان على إيجاد وسائل إنتاج، وتجديد القوى
المنتجة، وتطويرها باستمرار.
ومعنى هذا: أن تاريخ تطور القوى المنتجة، تم وفقاً للتطور العلمي
والتأملي، ونشأ عنه. والتطور العلمي بدوره، نشأ عن تلك القوى خلال
تجربتها. وبهذا استطاعت الماركسية، أن تضمن لوسائل الإنتاج، موقعها
الرئيسي من التاريخ وتفسر تطورها عن طريق الأفكار التأملية، والمعارف
__________
(1) فإن أفكار الإنسان تنقسم إلى فئتين: أحداهما: الأفكار التأملية، ونعني بها معلومات
الإنسان عن الكون الذي يعيش فيه، وما يزخر به من ألوان الوجود، وما تسيره من قوانين
نظير معرفتنا بكروية الأرض، أو أساليب تدجين الحيوان، أو بأساليب تحويل الحرارة إلى =
=حركة، والمادة إلى طاقة، أو بأن كل حادثة خاضعة لسبب، وما إلى ذلك من آراء تدور حول
تحديد طبيعة العالم، ونوعية القوانين التي تحكم عليه.
والفئة الأخرى من أفكار الإنسان: الآراء العملية، وهي آراء الناس في السلوك، الذي
ينبغي أن يتبعه الفرد والمجتمع، في المجالات السياسية، والاقتصادية، والشخصية. كرأي
المجتمع الرأسمالي، في العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين العامل وصاحب المال. ورأي المجتمع
الاشتراكي في رفض هذه العلاقة. أو رأي هذا المجتمع أو ذاك، في السلوك الذي ينبغي أن يتبعه
الزوجان. أو النهج السياسي الذي يجب على الحكومة إتباعه.
فالأفكار التأملية: هي ادراكات لما هو واقع وكائن والأفكار العملية: ادراكات لما
ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن لا يكون.(1/30)
العلمية المتزايدة، الناشئة بدورها عن قوى الإنتاج، دون أن تعترف بسبب
أعلى من وسائل الإنتاج.
وقد أكد انجلز على إمكان هذا اللون من التفسير_ تفسير كل من قوى
الإنتاج والأفكار التأملية في تطورهما بالآخر_ ونوّه: بأن الديالكتيك لا يقر
تصور العلة والمعلول بوصفهما قطبين متعارضين، تعارضاً حاداً، كما اعتاد
غير الديالكتيكيين إدراكهما كذلك. فهم يرون دائماً العلة هنا، والمعلول
هناك وإنما يفهم الديالكتيك العلة والمعلول، على شكل فعل ورد فعل للقوى.
هذه هي النقطة التي أوضحناها تمهيداً لتحليل الدليل الفلسفي ونقده كي
نقول: إذا كان هذا ممكناً من الناحية الفلسفية، وجاز أن يسير التفسير في
حلقة دائرية_ كما صنعت الماركسية بالنسبة إلى القوى المنتجة وتطورها_ فلماذا
لا يمكن فلسفياً، أن نصطنع نفس الأسلوب، في تفسير الوضع الاجتماعي؟!
فنقرر: أن الوضع الاجتماعي_ في الحقيقة_ عبارة عن التجربة الاجتماعية،
التي يخوضها الإنسان خلال علاقاته بالأفراد الآخرين، كما يخوض تجربته
الطبيعية، مع القوى المنتجة، خلال عمليات الإنتاج. فكما أن الأفكار التأملية
للإنسان، تنمو وتتكامل في ظل التجربة الطبيعية ثم تؤثر بدورها في تطوير
التجربة وتجديد وسائلها كذلك الأفكار العملية للمجتمع، تنمو وتتطور
في ظل التجربة الاجتماعية وتؤثر في تطويرها وتجديدها.
فوعي الإنسان العلمي للكون، ينمو باستمرار من خلال التجربة
الطبيعية، وتنمو بسببه التجربة الطبيعية وقواها المنتجة نفسها. وكذلك وعي
الإنسان العملي، للعلاقات الاجتماعية. ينمو باستمرار من خلال التجربة
الاجتماعية، وتتطور بسببه التجربة الاجتماعية نفسها، وعلاقاتها السائدة.
وعلى هذا الأساس لا مانع من ناحية فلسفية يمنع الماركسية من أن تفسر
الوضع الاجتماعي، عن طريق الآراء العملية. ثم تفسر تغير الآراء وتطورها،
عن طريق التجربة الاجتماعية، المتمثلة في الأوضاع السياسية والاقتصادية(1/31)
وغيرها... لأن هذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والوعي العملي نظير
تفسير الماركسية_ تماماً_ لكل من تاريخ القوى المنتجة والوعي العلمي، بالآخر.
والسؤال بعد هذا كله، لماذا يجب أن ندخل وسائل الإنتاج، في حساب
التفسير التاريخي والاجتماعي؟! ولماذا لا يمكن أن نكتفي بهذا التفسير المتبادل،
للوضع الاجتماعي والأفكار، أحدهما بالآخر.
إن الضرورة الفلسفية، ومفاهيم العلة والمعلول، التي أكد عليها انجلز،
تسمح لنا بمثل هذا التفسير، فإن كانت توجد أسباب تمنع عن الأخذ به،
فإنما هي الملاحظات والتجارب التاريخية. وذلك ما سوف نتناوله في الدليل
العلمي.
ب_ الدليل السيكولوجي:
نقطة البدء في هذا الدليل، هي: محاولة التدليل على أن نشوء الفكر في
حياة الإنسانية، كان نتاجاً لظواهر وأوضاع اجتماعية معينة. وينتج عن ذلك
أن الكيان الاجتماعي، سبق في وجوده التاريخي، وجود الفكر، فلا يمكن
أن نفسر الظواهر الاجتماعية، في تكوينها الأول، ونشوئها، بعامل مثالي
_ كأفكار الإنسان- ما دامت هذه الأفكار لم تظهر في التاريخ، إلا بصورة
متأخرة عن حدوث ظواهر اجتماعية معينة، في حياة الناس. وليس من اتجاه
علمي بعد ذلك، لتفسير المجتمع وتعليل ولادته، إلا الاتجاه المادي، الذي
يطرح العوامل الفكرية جانباً ويفسر المجتمع بالعامل المادي، بوسائل الإنتاج.
فالنقطة الرئيسية في هذا الدليل- إذن- أن نبرهن على أن الأفكار، لم
تحدث في عالم الإنسانية، إلا كنتيجة ظاهرة اجتماعية سابقة. لكي يستنتج
_ من ذلك_ أن المجتمع سابق تاريخياً على الفكر، وناشيء عن العوامل
المادية، وليس ناشئاً عن الأفكار والآراء.
أما كيف عالجت الماركسية هذه النقطة الرئيسية؟ وبرهنت عليها؟
فهذا ما يتضح في تأكيد الماركسية، على أن الأفكار وليدة اللغة، وليست
اللغة إلا ظاهرة اجتماعية. قال ستالين:
(((1/32)
يقال أن الأفكار تأتي في روح الإنسان، قبل أن تعبر عن نفسها في الحديث. وأنها تولد دون أدوات اللغة،
أي دون إطار اللغة، أو بعبارة أخرى: تولد عارية.
إلا أن هذا خطأ تماماً مهما كانت الأفكار، التي تأتي في
روح الإنسان، فلا يمكن أن تولد وتوجد إلا على أساس أدوات اللغة، أي على أساس الألفاظ والجمل اللغوية.
فليس هناك أفكار عارية متحررة، من أدوات اللغة،
أو متحررة من المادة الطبيعية التي هي اللغة. فاللغة هي
الواقع المباشر للفكر، ولا يمكن أن يتحدث عن فكر،
بدون لغة، إلا المثاليون وحدهم))(1).
وهكذا ربط ستالين، بين الفكر واللغة. واعتبر اللغة أساساً لوجود
الفكر. فلا يمكن الحديث عن أفكار عارية، دون أدوات اللغة.
وجاء بعد ذلك الكاتب الماركسي الكبير(جورج بولتزير)، ليبرهن
على هذه الحقيقة المزعومة، في ضوء بعض الاكتشافات السيكولوجية، أو
بالأحرى في ضوء الأساس الفيسولوجي لعلم النفس، الذي وضعه العالم
الشهير (بافلوف) مستخلصاً له من تجارب عديدة قام بها.
فقد كتب(بولتزير) معلقاً على كلام(ستالين) الآنف الذكر:
((ولقد لاقت مباديء المادية الجدلية هذه، تدعيماً باهراً في العلوم الطبيعية، بفضل الأبحاث الفسيولوجية،
التي قام بها العالم العظيم(بافلوف). فقد اكتشف
(بافلوف): أن العمليات الأساسية في النشاط ألمخي،
هي الأفعال المنعكسة الشرطية، التي تكون في ظروف محدودة، والتي تطلقها الاحساسات، سواء الخارجية
أو الداخلية وأثبت(بافلوف): إن هذه الاحساسات،
تقوم بدور الإشارات الموجهة، بالنسبة لكل نشاط
الكائن العضوي الحي. وقد اكتشف من ناحية أخرى:
__________
(1) جورج بولتزير_ المادية والمثالية في الفلسفة: ص77. ونود أن نشير بهذه
المناسبة: إلى أن هذا الكتاب ليس من نتاج جورج بولتزير، وإنما قام بتأليفة كاتبان ماركسيان
هما:(جي ميس) و(موريس كافيج) ومنحا كتابهما اسم(بولتزير)، ولأجل هذا نضيف
ما في هذا الكتاب إليه.(1/33)
أن الكلمات_ بمضمونها و معناها_ يمكن أن تحل محل الاحساسات_ التي تحدثها الأشياء_ التي تدل عليها.
وهكذا تكون الكلمات إشارات للإشارات، أي نظاماً
ثانياً في العملية الاشارية، يتكون على أساس النظام
الأول، ويكون خاصاً بالإنسان وهكذا تعتبر اللغة،
هي شرط النشاط الراقي في الإنسان وشرط نشاطه الاجتماعي وركيزة الفكر المجرد، الذي يتخطى الإحساس ألوقتي، وركيزة النظر العقلي. فهي التي تتيح للإنسان
أن يعكس الواقع، بأكبر درجة من الدقة. وبهذه الطريقة أثبت(بافلوف) أن ما يحدد_ أساساً_شعور الإنسان
ليس جهازه العضوي، وظروفه البيولوجية، بل يحدده_
على عكس ذلك_ المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان))(1).
ولنأخذ بشيء من التوضيح محاولة(بولتزير) هذه، التي استدل فيها
على رأي الماركسية، بأبحاث(بافلوف).
يرى(بولتزير)، أن من رأي(بافلوف) في العمليات الأساسية للمخ،
أنها كلها استجابات المنبهات وإشارات معينة. وهذه المنبهات والإشارات،
هي بالدرجة الأولى الإحساسات. ومن الواضح أن الاستجابة التي تحصل
عن طريق الإحساسات، ليست فكرة عقلية مجردة عن الشيء، لأنها لا
تحصل إلا لدى الإحساس بالشيء المعين. فهي لا تتيح للإنسان أن يفكر
في شيء غائب عنه. وبالدرجة الثانية يأتي دور اللغة، والأدوات اللفظية،
لتقوم بدور المنبهات والإشارات الثانوية. فيشرط كل لفظ بإحساس معين،
من تلك الاحساسات، فيصبح منبهاً شرطياً بالدرجة الثانية. ويتاح للإنسان
أن يفكر، عن طريق الاستجابات، التي تطلقها المنبهات اللغوية إلى ذهنه،
فاللغة_ إذن_ هي أساس الفكر. وحيث أن اللغة ليست إلا ظاهرة
اجتماعية، فالفكر ليس_على هذا_ إلا ظاهرة ثانوية للحياة الاجتماعية.
هذه هي الفكرة التي عرضها(بولتزير).
وبدورنا نتساءل: هل اللغة هي أساس الفكر حقاً، (فليس هناك
أفكار عارية متحررة من أدوات اللغة)، على حد تعبير ستالين؟. ولأجل
__________
(1) المصدر السابق.ص78.(1/34)
التوضيح نطرح المسألة على الوجه التالي: هل أن اللغة هي التي خلقت من
الإنسان كائناً مفكراً، بصفتها ظاهرة اجتماعية معينة، كما يقرر بولتزير؟
أو أنها وجدت في حياة الإنسان المفكر، نتيجة لأفكار كانت تريد الوسيلة
للتعبير عنها، وعرضها على الآخرين؟. ونحن لا نستطيع أن نأخذ بالتقدير
الأول، الذي حاول(بولتزير) التأكيد عليه، حتى حين ننطلق في البحث
من تجارب(بافلوف)، والقاعدة التي وضعها عن المنبهات الطبيعية والشرطية.
* * *
ولكي نكون أكثر وضوحاً، يجب اعطاء فكرة مبسطة عن آراء
(بافلوف)، وطريقته في تفسير الفكر، تفكيراً فسيولوجياً: فإن هذا العالم
الشهير، استطاع أن يدلل بالتجربة، على أن شيئاً معيناً إذا ارتبط بمنبه طبيعي،
اكتسب نفس فعاليته، وأخذ يقوم بدوره، ويحدث نفس الاستجابة التي يحدثها
المنبه الطبيعي. فتقديم الطعام إلى الكلب مثلاُ_ منبه طبيعي، يحدث فيه
استجابة معينة: إذ يسيل لعابه، أول ما يرى الاناء الذي يحتوي على الطعام.
وقد لاحظ ذلك (بافلوف)، فأخذ يدق جرساً عند تقديم الطعام إلى الكلب.
و كرر هذا عدة مرأت. أخذ يدق الجرس من دون تقديم الطعام. فوجد
أن لعاب الكلب يسيل. واستنتج من هذه التجربة: أن دق الجرس أصبح
يحدث نفس الاستجابة، التي كان المنبه الطبيعي (تقديم الطعام) يحدثها،
ويؤدي نفس دوره، بسبب اقترانه واشتراطه به عدة مرات ولهذا أطلق
على دق الجرس أسم:(ألمنبه الشرطي) وسمي تحلب اللعاب وسيلانه،
الذي يحدث بسبب دق الجرس: (استجابة شرطية).
وعلى هذا الأساس حاول جماعة، أن يفسروا الفكر الإنساني كله،
تفسيراً فسيولوجياً، كما يفسر تحلب اللعاب عند الكلب تماماً. فأفكار الإنسان
كلها استجابات لمختلف أنواع المنبهات. وكما أن تقديم الطعام إلى الكلب،
منبه طبيعي، يستثير استجابة طبيعية وهي سيلان اللعاب، كذلك توجد بالنسبة
إلى الإنسان منبهات طبيعية، تطلق استجابات معينة، اعتدنا أن نعتبرها ألواناً(1/35)
من الإدراك. وتلك المنبهات، التي تطلق هذه الاستجابات، هي الإحساسات
الداخلية والخارجية. وكما أن دق الجرس، اكتسب نفس الاستجابة، التي
يحدثها تقديم الطعام إلى الكلب، بالاقتران والاشتراط، كذلك توجد أشياء
كثيرة، اقترنت بتلك المنبهات الطبيعية للإنسان، فأصبحت منبهات شرطية
له ومن تلك المنبهات الشرطية: كل أدوات اللغة. فلفظة الماء_ مثلاً_
تطلق نفس الاستجابة، التي يطلقها الإحساس بالماء. بسبب اقترانها واشتراطها
به. فالإحساس بالماء، أو الماء المحسوس: منبه طبيعي، ولفظ.(الماء):
منبه شرطي، وكلاهما يطلقان في الذهن، استجابة من نوع خاص.
وقد افترض بافلوف لأجل ذلك نظامين أشاريين.
أحدهما: النظام الاشاري، الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية،
والمنبهات الشرطية، التي لا تتدخل فيها الألفاظ.
والآخر: النظام الاشاري المشتمل على الألفاظ والأدوات اللغوية،
بصفتها منبهات شرطية ثانوية: فهي منبهات ثانوية، أشرطت بمنبهات
النظام الاشاري الأول، واكتسبت بسبب ذلك، قدرتها على إثارة استجابات
شرطية معينة.
والنتيجة التي تنتهي إليها آراء (بافلوف) هي: أن الإنسان لا يمكنه
أن يفكر بدون منبه، لأن الفكر ليس إلا استجابة من نوع خاص للمنبهات.
كما أنه لا يتاح له الفكر العقلي المجرد، إلا إذا وجدت بالنسبة إليه منبهات
شرطية، اكتسبت عن طريق اقترانها بالاحساسات، نفس الاستجابات التي
تطلقها تلك الأحاسيس. وأما إذا بقي الإنسان رهن إحساساته، فلا يستطيع
أن يفكر تفكيراً مجرداً، أي أن يفكر في شيء غائب عن حسه. فلكي يكون
الإنسان كائناً مفكراً، لا بد من أن توجد له منبهات، وراء نطاق الإحساسات
نطاق المنبهات الطبيعية.
* * *
ولنفترض أن هذا كله صحيح. فهل يعني ذلك أن اللغة هي أساس
وجود الفكر في الحياة الإنسانية؟. كلا فإن إشراط شيء معين بالمنبه الطبيعي،
لكي يكون منبهاً شرطياً، يحصل تارة، بصورة طبيعية. كما إذا اتفق أن(1/36)
اقترنت رؤية الماء بصوت معين، أو بحالة نفسية معينة، مرات عديدة،
حتى أصبح ذلك الصوت أو هذه الحالة، منبهاً شرطياً، يطلق نفس
الاستجابة التي كان يطلقها الإحساس بالماء. فالاشراط في هذه الحالات
إشراط طبيعي. ويحصل هذا الاشراط، تارة أخرى، نتيجة لقصد معين،
كما في سلوكنا مع الطفل، إذ نقدم له شيئاً كالحليب، ونكرر له إسمه،
حتى يربط بين الكلمة والشيء. ويصبح الاسم منبهاً شرطياً للطفل، نتيجة
للطريقة التي اتبعناها معه.
ولا شك في أن عدة من الأصوات والأحداث، قد اقترنت بمنبهات
طبيعية، عبر حياة الإنسان، وأشرطت بها إشراطاً طبيعياً. وأصبحت بذلك
تطلق استجابات معينة، في ذهن الإنسان. وأما أدوات اللغة_ على وجه
العموم_ وألفاظها، التي تم إشراطها خلال عملية اجتماعية، فهي إنما
أشرطت نتيجة لحاجة الإنسان، إلى التعبير عن أفكاره ونقلها إلى الآخرين،
أي أنها وجدت في حياة الإنسان، لأنه كائن مفكر، يريد التعبير عن
أفكاره. إلا أن الإنسان أصبح كائناً مفكراً، بسبب أن اللغة وجدت في
حياته. وإلا فلماذا وجدت في حياته خاصة، ولم توجد في حياة سائر أنواع
الحيوان؟!. فاللغة ليست أساس الفكر، وإنما هي أسلوب خاص للتعبير
عنه، اتخذه الإنسان منذ أبعد العصور، حين وجد نفسه_ وهو يخوض
معركة الحياة، مع أفراد آخرين_ بحاجة ملحة إلى التعبير عن أفكاره،
وتفهم أفكار الآخرين، في سبيل تيسير العمليات التي يقومون بها،
وتحديد الموقف المشترك أمام الطبيعة، وضد القوى المعادية.
وإنما تعلم الإنسان أن يتخذ هذا الأسلوب_ أسلوب اللغة_ بالذات،
للتعبير عن أفكاره في ضوء ما تم بفعل الطبيعة، أو المصادفة، من إشراط
بعض الأصوات ببعض المنبهات الطبيعية، عن طريق اقترانها بها مراراً.
فقد استطاع الإنسان أن ينتفع بذلك، في نطاق أوسع، فوجدت اللغة في
حياته.
وهكذا نعرف، أن اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، إنما نجمت عن(1/37)
إحساس الإنسان، خلال العمل الاجتماعي المشترك، بالحاجة إلى ترجمة
أفكاره، والإعلان عنها، وليست هي التي خلقت من الإنسان كائناً مفكراً.
وعلى هذا الاساس، نستطيع أن نعرف: لماذا ظهرت اللغة في حياة
الإنسان، دون غيره من أنواع الحيوان، كما ألمحنا سابقاً؟. بل أن نعرف
أكثر من ذلك: لماذا وجد المجتمع الإنساني، ولم يوجد مجتمع كهذا، لأي
كائن حي آخر؟. فإن الإنسان، لما كان قادراً على التفكير، فقد أتيح له
وحده، أن يتخطى حدود الإحساس، فيغير من الواقع الذي يحسه، وبالتالي
يغير من إحساساته نفسها، تبعاً لتغيير الواقع المحسوس. ولم يتح هذا لأي
حيوان آخر، لا يملك قدرة على التفكير، لأنه لا يستطيع أن يدرك ويفكر
في شيء، سوى الواقع المحسوس، بأشكاله الخاصة، فلا يمكنه أن يغير
الواقع إلى شيء آخر.
وهكذا كان التفكير،هو الذي خص الإنسان بالقدرة، على تغيير
الواقع المحسوس، تغييراً حاسماً.
ولما كانت عملية تغيير الواقع هذه، تتطلب في كثير من الأحايين،
جهوداً متنوعة وكثيرة، فهي تتخذ لأجل ذلك طابعاً اجتماعياً، إذ يقوم
بها أفراد متعددون، وفقاً لنوعية العملية ومدى الجهود التي تتطلبها، وبذلك
توجد علاقة اجتماعية بينهم، لم يكن من الممكن أن توجد علاقة من لونها.
بين أفراد نوع آخر من الحيوان. لأن الحيوانات الأخرى، حيث أنها
ليست كائنات مفكرة، فهي عاجزة عن القيام بعمليات تغيير حاسم للواقع
المحسوس، وبالتالي لا توجد فيما بينها علاقة اجتماعية، من ذلك اللون.
ومنذ يدخل الناس في عمليات مشتركة، لتغيير الواقع المحسوس،
يصبحون بحاجة إلى لغة. لأن الإشارات الحسية إنما تعبر عن الواقع
المحسوس، ولا تستطيع أن تعبر عن فكرة تغييره، وعن الروابط الخاصة
بين الأشياء المحسوسة، التي يراد تعديلها أو تغييرها. فتوجد اللغة في حياة
الإنسان، إشباعاً لهذه الحاجة، وإنما وجدت في حياته وحده، لأن الحيوان(1/38)
لم يشعر بمثل هذه الحاجة الإنسانية التي كانت وليدة العمل الاجتماعي،
القائم على أساس التفكير، لتغيير الواقع المحسوس، وإيجاد تعديلات
حاسمة فيه.
ج _ الدليل العلمي:
يسير التفسير العلمي لظواهر الكون المتنوعة، في خط متدرج. فهو
يبدأ بوصفه فرضية، أي تفسيراً افتراضياً للواقع، الذي يعالجه العالم،
وحاول استكشاف أسراره وأسبابه. ولا يصل هذا التفسير الافتراضي،
إلى الدرجة العلمية، إلا إذا استطاع الدليل العلمي، أن يبرهن، وينفي
إمكان أي تفسير آخر، للظاهرة موضوعة البحث، عداه. فما لم يقم الدليل
على ذلك، لا يصل التفسير المفترض إلى درجة اليقين العلمي، ولا يوجد
مبرر لقبوله، دون سواه من الافتراضات والتفاسير. فمثلاً قد نجد شخصاً
معيناً، يلتزم في ساعة معينة، بالعبور من شارع خاص. وقد نفترض
لتفسير هذه الظاهرة: أن هذا الشخص يسلك هذا الطريق بالذات، في كل
يوم، لأن له عملاً يومياً في معمل، يقع في منتهى الشارع. وهذا الافتراض
وإن كان يصلح لتفسير الواقع، غير أن ذلك لا يعني قبوله، ما دام من
الممكن أن نفسر سلوك هذا الشخص، في ضوء آخر: كما إذا افترضنا أنه
يزور صديقاً له، يسكن بيتاً في ذلك الشارع. أو يراجع طبيباً يقطن في
تلك المنطقة، ليستشيره في حالة مرضية. أو يقصد مدرسة معينة، تلقى
فيها المحاضرات بصورة رتيبة.
وهكذا الأمر في التفسير الماركسي للتاريخ (المادية التاريخية)، فإنه
لا يمكن _ حتى إذا افترضنا كفاءته لتفسير الواقع التاريخي_ أن يكتسب
الدرجة العلمية أو الوثوق العلمي، ما لم يخرج عن كونه افتراضاً، ويحصل
على دليل علمي، يدحض كل افتراض عداه، في تفسير التاريخ.
ولنأخذ تفسير المادية التاريخية للدولة مثالاً لذلك. فهي تفسر نشوء
الدولة ووجودها في حياة الإنسان، على أساس العامل الاقتصادي، والتناقض
الطبقي، فالمجتمع المتناقض طبقياً، يلتهب فيه الصراع، بين الطبقة القوية(1/39)
المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة الضعيفة التي لا تملك شيئاً، فتقوم الطبقة
الغالبة، بإنشاء أداة سياسية لحماية مصالحها الاقتصادية، والحفاظ على
مركزها الرئيسي. وهذه الأداة السياسية هي الحكومة، بمختلف أشكالها
التاريخية.
وهذا التفسير الماركسي للدولة أو الحكومة، لا يكتسب قيمة علمية
مؤكدة، إلا إذا أفلست كل التفاسير، التي يمكن أن يبرر بها نشوء الدولة
في المجتمع البشري، سوى كونها أداة سياسية للاستغلال الطبقي. وأما
إذا استطعنا، أن نفسر هذه الظاهرة الاجتماعية على أساس آخر،
ولم يدحض الدليل العلمي ذلك، فليس التفسير الماركسي عندئذ، إلا
افتراضاً من عدة افتراضات.
فلن يكون التفسير الماركسي، تفسيراً علمياً، إذا أمكن_ مثلاً_
أن نفسر نشوء الدولة، على أساس تعقيد الحياة المدنية. ونبرر بذلك قيام
الدولة في كثير من المجتمعات البشرية. ففي مصر القديمة_ مثلاً_ لم
تكن الحياة الاجتماعية فيها ممكنة، بدون جهود معقدة جسمية، وعمل
واسع شامل، لتنظيم جريان وفيضان الأنهر الكبيرة، وتنظيم شؤون الري.
فظهرت الدولة لتسيير الحياة الاجتماعية، والإشراف على العمليات المعقدة،
التي تتوقف الحياة العامة عليها. ولأجل هذا نجد أن طائفة الاكليروس
المصريين، كانوا يتمتعون بمكانة عليا في جهاز الدولة المصرية القديمة،
لا على أساس طبقي، وإنما على أساس الدور الخطير، الذي لعبته معارفهم
العلمية، في نظام الزراعة المصرية. وكذلك أيضاُ نجد أن رجال الكنسية،
تمتعوا بمركز كبير في جهاز الدولة الرومانية، عندما دخل الجرمان في
الدولة الرومانية، أفوجاً متبربرة تلو أفواج. إذ بدت الكنيسة_ على إثر
ما أدى إليه الغزو الجرماني، من انهيار التعليم والثقافة_ صاحبة الصدارة
الفكرية في البلاد، حيث صار الرجل من رجال الدين الكنيسي، هو
الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة، والتكلم باللاتينية. وهو الذي يفهم(1/40)
دون غيره_ حساب الشهور، ويستطيع أن يمارس العمل الرتيب، لتصريف
شؤون الإدارة الحكومية، بينما انصرف ملوك الجرمان، والقادة العسكريون
منهم، إلى صيد الخنازير والإبل والغزال، وخوض معارك الغزو والتخريب.
فكان من الطبيعي، أن يسيطر رجال الكنيسة على الإدارة الحكومية في
البلاد، ويكون لهم أثر كبير في الجهاز السياسي الحاكم، الأمر الذي
جلب لهم من المغانم والمكاسب، ما جعلهم _ في رأي الماركسية_ طبقة
ذات مصالح اقتصادية معينة. فالنفوذ الاقتصادي أو المصالح الاقتصادية،
إنما حصلت عن طريق الوجود السياسي. وأما وجودهم السياسي في جهاز
الحكم، فلم يكن قائماً على أساس ذلك النفوذ الاقتصادي، الذي اكتسبوه
بعد ذلك، وإنما قام على أساس امتيازاتهم الفكرية والإدارية.
ولن يكون التفسير الماركسي للدولة، تفسيراً علمياً، إذا أمكن أن
نفترض: أن للعقيدة الدينية، تأثيراً في تكوين كثير من الدول والسلطات
السياسية، التي كانت ترتكز على أساس ديني، وتتمثل في جماعات
لا تشترك في مصلحة طبقية، وإنما تشترك في طابع ديني واحد.
وكذلك إذا أمكن أن نفترض: أن نشوء الدولة في المجتمع الإنساني،
كان إشباعاً لنزعة أصيلة في النفس الإنسانية، التي تملك استعداداً كامناً
للميل إلى السيطرة والتفوق على الآخرين. فكانت الحكومة من وحي هذا
الميل، وتعبيراً عملياً عنه.
ولا أريد أن أستقصي كل الفرضيات، التي يمكن تفسير الدولة على
أساسها، وإنما أرمي من وراء هذا، على القول بأن تفسير الماركسية للدولة،
لا يمكن أن يكتسب طابعاً علمياً، ما لم يستطع أن يدحض سائر تلك
الافتراضات، ويقدم الدليل من الواقع على زيفها.
وقد سقنا تفسير الماركسية للدولة، كنموذج لسائر مفاهيمها وفرضياتها
التاريخية، التي تفسر المجتمع الإنساني على أساسها. فإن جميع تلك
الفرضيات تتطلب من الماركسية_ لكي تصبح نظريات علمية جديرة
بالقبول_ أن تقدم الدليل على كذب كل فرضية سواها. ولا يكفي لقبولها(1/41)
أن تكون فرضيات ممكنة صالحة للانطباق على الواقع وتفسيره.
فلنرى_ إذن_ ماذا يمكن للماركسية أن تقدمه من دليل علمي بهذا
الصدد؟. أن أول وأهم عقبة تواجه الماركسية في هذا المجال، هي العقبة
التي تضعها في طريقها، طبيعة البحث التاريخي. ذلك أن البحث في المجال
التاريخي، (نشوء المجتمع، وتطوره، والعوامل الأساسية فيه). يختلف
عن البحوث العلمية في مجالات العلوم الطبيعية، التي يستخلصها العالم
الفيزيائي_ مثلاً_ من تجاربه العملية في المختبر.
فالباحث التاريخي، والعالم الفيزيائي، وإن كانا يلتقيان عند نقطة
واحدة، وهي: أن كلاً منهما يتناول مجموعة من الظواهر_ ظواهر
المجتمع البشري كالدولة والأفكار والملكية. أو ظواهر الطبيعة كالحرارة
والصوت والنور_ ويحاولان تنظيم تلك الظواهر، بصفتها مواداً للبحث،
واستكشاف أسبابها، والعوامل الأساسية فيها... غير أنهما يختلفان في
موقفهما العلمي، من تلك الظواهر موضوعة الدرس ومرد اختلافهما إلى
سببين: فان الباحث التاريخي، الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري،
ونشوءه وتطوره ومراحله، في ضوء الظواهر التاريخية والاجتماعية،
لا يستطيع أن يتبين هذه الظواهر بصورة مباشرة، كما يتبين العالم الفيزيائي
ٍظواهر الطبيعة، التي يدرسها في مختبره الخاص، وإنما هو مضطر إلى
تكوين فكرة عنها، ترتكز على النقل والرواية، وشتى المخلوقات العمرانية
وغيرها من الآثار، ذات الدلالة الناقصة. فالفرق إذن كبير جداً، بين الظواهر
الطبيعية، التي يرتكز عليها البحث العلمي، في العلوم الطبيعية، بصفتها
المواد الرئيسية له، وبين الظواهر التاريخية، التي يقوم على أساسها البحث
التاريخي، بصفتها مواداً أولية له. فالمواد في العلوم الطبيعية، ظواهر
معاصرة للعالم الطبيعي، موجودة في مختبره، يستطيع مشاهدتها، وتسليط
الضوء العلمي عليها، وبالتالي وضع تفسير كامل لها.. وعلى العكس من(1/42)
ذلك تماماً، المواد التي يملكها الباحث التاريخي. فإنه لدى محاولة استكشاف
العوامل الأساسية في المجتمع، وكيفية نشوئه وتطوره، مضطر على الإعتماد
في تكوين مواد البحث، وفي الاستنتاج والتفسير، على كثير من الظواهر
التاريخية للمجتمع، التي لا يستطيع الباحث مشاهدتها، إلا من خلال النقل
والرواية، أو من خلال بعض الآثار التاريخية الباقية ونذكر على سبيل المثال
انجلز، بوصفه باحثاً تاريخياً، حاول في كتابه (أصل العائلة) تفسير الظواهر
الاجتماعية علمياً، فاضطر إلى الاعتماد_ بصورة رئيسية_ في استنتاجاته،
على روايات ومزاعم مؤرخ أو رحالة معين، هو مورغان.
وهكذا يختلف البحث التاريخي، عن البحث الطبيعي من ناحية المادة
(الظواهر)، التي يملكها الباحث، ويقيم عليها تفسيره واستنتاجه. ولا
يقف اختلافهما عند هذا الحد. فإنهما كما يختلفان من ناحية المادة، كذلك
يوجد سبب آخر لاختلافهما، من ناحية الدليل الذي يمكن للباحث استخدامه،
في سبيل تدعيم هذا التفسير العلمي أو ذاك.
فإن الباحث التاريخي حين يحصل على مجموعة من الظواهر والأحداث
التاريخية، لا يملك تجاهها تلك الإمكانيات، التي يملكها الفيزيائي مثلاً،
تجاه الذرة وظواهرها، ونواتها وكهاربها وإشعاعاتها. لأن الباحث التاريخي،
مضطر لأخذ الظواهر والأحداث التاريخية كما هي، ولا يمكنه أن يطور
أو يغير شيئاً منها، عن طريق التجربة. وأما العالم الفيزيائي، فهو يستطيع
أن يجري تجاربه المختلفة على المادة التي يعالجها. ويستبعد منها ما يشاء،
ويضم إليها ما يشاء. وحتى في المجال الذي لا تخضع المادة المدروسة فيه
للتغيير، كعلم الفلك، يمكن للعالم الفلكي أن يغير من علاقاته بتلك المادة،
بواسطة التلسكوب، ومن موقعه واتجاهاته.
وعجز الباحث التاريخي عن القيام بتجارب على الظواهر التاريخية
والاجتماعية يعني عدم تمكنه من تقديم دليل تجريبي على نظرياته، التي
يفسر بها التاريخ، ويستكشف أسراره.(1/43)
فلا يستطيع_ مثلاً لدى محاولة الكشف عن العامل الأساسي لظاهرة
تاريخية معينة_ أن يستعمل الأساليب العلمية الأساسية، التي يقررها المنطق
التجريبي، ويستعملها العلماء الطبيعيون، كطريقتي:الاتفاق والاختلاف،
الطريقتين الرئيسيتين في الاستدلال التجريبي. لأن هاتين الطريقتين تتوقفان
كلاهما، على إضافة عامل بأسره، أو حذف عامل بأسره، لنرى مدى
ارتباطه مع عامل آخر. فلكي يثبت علمياً، أن (ب) هي سبب (أ) يجمع
بينهما في ظروف مختلفة. وهذه هي طريقة الاتفاق. ثم يعزل (ب)،
ليرى هل يزول (أ) تبعاً لذلك. وهذه هي طريقة الاختلاف. ومن
الواضح أن الباحث التاريخي، لا يتمكن من تغيير الواقع التاريخي للإنسانية،
ولا يقدر على شيء من ذلك.
ولنأخذ_مثلاً على ذلك_ الدولة بوصفها ظاهرة تاريخية، والحرارة
بوصفها ظاهرة طبيعية. فإن العالم الطبيعي إذا حاول أن يفسر الحرارة،
تفسيراً علمياً ويستكشف السبب الرئيسي لها، أمكنه أن يفترض: أن
الحركة هي سبب الحرارة، إذا أدرك اقترانهما في حالات عديدة. ولكي
يتأكد من صحة هذا الافتراض، يستعمل طريقة الاتفاق، فيقوم بعدة
تجارب، يحاول في كل واحدة منها، إبعاد شيء من الأشياء، التي تقترن
بالحركة والحرارة، ليتأكد من أن الحرارة توجد بدونه، وأنه ليس سبباً
لها. ويستعمل أيضاً طريقة الاختلاف، فيحاول أن يقوم بتجربة: يفصل
فيها الحركة عن الحرارة، ليتبين ما إذا كان من الممكن إن توجد حرارة
بدون حركة، فإذا كشفت التجربة: إن الحرارة توجد متى ما وجدت
الحركة، مهما كانت الظروف والأحداث الأخرى وأنها تختفي في الحالات
التي لا توجد فيها حركة.. ثبت علمياً إن الحركة هي سبب الحرارة.
وأما الباحث التاريخي، حين يتناول الدولة بصفتها ظاهرة تاريخية في
حياة الإنسان، فهو قد يفترض أنها نتاج مصلحة اقتصادية، لفئة معينة من
المجتمع، ولكنه لا يستطيع أن يدحض الافتراضات الأخرى بالتجربة.(1/44)
فلا يمكنه_ مثلاً أن يبرهن تجريبياً، على أن الدولة ليست نتاجاً لنزعة
سياسية في نفس الإنسان أو لحالة تعقيد معينة في الحياة المدنية والاجتماعية.
لأن غاية ما يتاح للباحث التاريخي، أن يضع إصبعه على عدد من الحالات
التاريخية، التي اقترن فيها ظهور الدولة بمصلحة اقتصادية معينة، ويحشد
عدداً من الأمثلة التي وجد فيها الدولة والمصلحة الاقتصادية معاً (وهذا
ما يسمى في المنطق التجريبي أو العلمي بطريقة التعداد البسيط).
ومن الواضح أن طريقة التعداد البسيط هذه، لا تبرهن علمياً على أن
المصلحة الاقتصادية الطبقية هي السبب الأساسي الوحيد، لظهور الدولة
إذ من الجائز أن يكون للعوامل الأخرى أثرها الخاص، في تكوين الدولة،
وحيث إن الباحث لا يستطيع أن يغير الواقع التاريخي_ كما يغير الفيزيائي
الظواهر الطبيعية بتجاربه_ فهو لا يتمكن من إفراز وعزل سائر العوامل
الأخرى، عن واقع المجتمع ليدرس نتيجة هذا العزل. ويتبين: ما إذا
كانت الدولة_ كظاهرة اجتماعية_ ستزول بعزل تلك العوامل، أولا.
ويستخلص مما سبق أن البحث التاريخي يختلف عادة عن البحوث العلمية
الطبيعية! من ناحية المادة التي يقوم على أساسها الإستنتاج، أولاً. ومن
ناحية الدليل الذي يدعم ذلك الإستنتاج، ثانياً.
وإذا استبعدنا الدليل التجريبي الدقيق، عن نطاق البحث التاريخي،
لم يبق لدى مفسري التاريخ إلا الملاحظة المنظمة، التي تحاول أن تستوعب
أكبر مقدرا ممكن، من أحداث التاريخ وظواهره، حيث يأخذها الباحث
التاريخي كما هي، ويحاول أن يفسرها، ويضع لها مفاهيمها العامة، على
طريقة التعداد البسيط.
وعلى هذا الأساس نعرف: أن الماركسية لم تكن تملك_ حين وضعت
مفهومها الخاص عن التاريخ_ سنداً علمياً لها، سوى الملاحظة، التي رأتها
الماركسية كافية، للتدليل على وجهة نظرها المعينة إلى التاريخ. وأكثر من
هذا، أنها زعمت: أن الملاحظة المحدودة في نطاق تاريخي ضيق، تكفي(1/45)
وحدها لإستكشاف قوانين التاريخ كلها، واليقين العلمي بها. فقد قال أنجلز:
((ولكن فيما كان البحث عن هذه الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً، في سائر المراحل السابقة،
بسبب تعثر علاقتها وتخفيها مع ردود الفعل، التي تؤثر
بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلائق كثيراً، بحيث
أمكن حل اللغز. فمنذ انتصار الصناعة الكبرى، لم يعد
خافياً على أحد في إنكلترا، بأن النضال السياسي كله
يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة، ألا وهما: الأرستقراطية العقارية، البرجوازية ))(1).
ومعني هذا: أن ملاحظة الوضع الإجتماعي، في فترة معينة من حياة
أوروبا أو انكلترا خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي الكبير
انجلز، لليقين العلمي، بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو
العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ
الأخرى، لا تكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف بذلك
(انجلز) نفسه، فمشهد واحد من مشاهد التاريخ في القرن الثامن عشر أو
التاسع عشر، استطاع أن يقنع الماركسية بأن القوى المحركة للتاريخ،
عبر عشرات الآلاف من السنين، هي قوى العامل الاقتصادي، يقنعها
بذلك لا لشيء، إلا لأن هذا العامل، هو الذي بدا لها أنه مسيطر على ذلك
المشهد التاريخي الخاص، مشهد انكلترا في تلك الفترة المحدودة من تاريخها.
مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع في فترة خاصة، لا تكفي للتدليل
على سيطرته الرئيسية، في كل أدوار التاريخ، وفي كل المجتمعات، إذ
قد يكون لهذه السيطرة نفسها أسبابها وعواملها الخاصة. فيجب قبل إصدار
الأحكام النهائية في حق التاريخ، أن يقارن المجتمع الذي بدا العامل الإقتصادي
مسيطراً عليه، بالمجتمعات الأخرى، حتى يبحث عما إذا كان لهذه السيطرة،
ظروفها وأسبابها الخاصة؟.
ومن الجدير بنا بهذا الصدد أن نلاحظ كلاماً آخر لأنجلز، ساقه في
__________
(1) لودفيج فيورباخ: ص95.(1/46)
مناسبة أخرى، وهو يعتذر عن أخطاء وقع فيها، من جراء تطبيق الديالكتيك
على غير المجتمع، من مجالات الكون والحياة، قائلاً:
((وغني عن البيان، بأنني كنت قد عمدت إلى
سرد المواضيع في الرياضيات والعلوم الطبيعية، سرداَ
عاجلاً وملخصاً، بغية أن أطمئن تفصيلاً إلى ما لم أكن
في شك منه بصورة عامة، إلى أن نفس القوانين
الديالكتيكية للحركة، التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التاريخ، تشق طريقها في الطبيعة... ))(1).
ونحن إذا قارنا هذا الكلام بالكلام السابق لأنجلز، استطعنا أن نعرف
كيف أتيح لمفكر ماركسي مثل أنجلز، أن يكون مفهومه العام عن التاريخ،
وبالتالي مفهومه الفلسفي عن الكون والحياة وكل ظواهرها، من خلال
الضوء الذي يلقيه مشهد تاريخي واحد لمجتمع خاص من المجتمعات البشرية.
في فترة محدودة من الزمن بطريقة سهلة جداً. فما دام هذا المشهد التاريخي
المعين، يكشف عن صراع بين جماعتين في المجتمع، فيجب أن يكون
التاريخ كله صراعاً بين المتناقضات. وإذا كان التناقض هو الذي يسود
التاريخ، فيكفي هذا ليؤمن أنجلز بأن نفس قوانين التناقض هذه، تشق
طريقها في الطبيعة، على حد تعبيره، وأن الكون كله صراع بين مختلف
التناقضات الداخلية.
ثانياً_ هل يوجد مقياس أعلى؟
إن المقياس الأعلى في رأي الماركسية، لاختبار صحة كل نظرية، هو
مدى نجاحها في مجال التطبيق. فالنظرية عند الماركسيين لا يمكن أن تنفصل
عن التطبيق وهذا ما يسمى في الديالكتيك بوحدة النظرية والتطبيق. قال
ماوتسي تونغ:
((إن نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية تضع التطبيق في المقام الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب أن لا ينفصل بأية درجة كانت عن التطبيق وتشن نضالاً ضد كل النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية التطبيق، أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق ))(2).
وقال جورج بولتزير:
((
__________
(1) ضد دوهرنك:ج2ص193.
(2) حول التطبيق، ص4.(1/47)
فمن المهم إذن أن نفهم معنى وحدة النظرية والتطبيق، ومعنى ذلك: أن من يهمل النظرية يقع في
فلسفة الممارسة. فيسلك كما يسلك الأعمى ويتخبط في الظلام، أما ذلك الذي يهمل التطبيق فيقع في الجمود
المذهبي ))(1).
على هذا الأساس نريد أن ندرس المادية التاريخية، وبكلمة أخرى:
ندرس النظرية الماركسية العامة عن التاريخ، لنتعرف على نصيبها من النجاح،
في مجال التطبيق الثوري الذي خاضه الماركسيون.
ومن الواضح، أن الماركسيين إنما أتيحت لهم محاولة تطبيق النظرية،
بالنسبة إلى جزء خاص منها، وهو الجزء الذي يتصل بتطوير المجتمع
الرأسمالي إلى مجتمع إشتراكي، وإما الجوانب الأخرى من النظرية، فهي
تتعلق بقوانين لمجتمعات تاريخية، وجدت في حياة الإنسان وانصرمت،
ولم تعاصرها الماركسية ولا ساهمت في إيجادها.
فلنأخذ الجزء الخاص من النظرية، الذي يتصل بتطوير المجتمع الرأسمالي
ونشوء الإشتراكية، والذي مارست الماركسية تطبيقه، لنتبين وحدة النظرية
والتطبيق أو تناقضهما، وبالتالي لنحكم على النظرية، وفقاً لمقدار نجاحها
أو فشلها في مجال التطبيق ما دام التطبيق في رأي الماركسية هو المعيار الأساسي
لتقويم النظريات، والعنصر الضروري للنظرية العلمية الصحيحة.
وبهذا الصدد، يمكننا أن نقسم البلاد الاشتراكية، التي مارست تطبيق
النظرية الماركسية جزئياً أو كلياً، إلى قسمين، جاء التطبيق في كل منهما
بعيداً عن النظرية ونبوءاتها العلمية وما حددته من قوانين لمجرى التاريخ
وتياراته الاجتماعية.
فالقسم الأول هو: البلاد الاشتراكية، التي فرض عليها النظام
الاشتراكي فرضاً، بقوة الجيش الأحمر، كعدة من أقطار أوروبا الشرقية،
مثل: بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، ففي هذه الأقطار ونظائرها،
لم يحصل التحول الاشتراكي بحكم ضرورة من الضرورات التي تحددها
النظرية، ولم تنبثق الثورة عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت من
__________
(1) المادية والمثالية في الفلسفة: ص114.(1/48)
الخارج ومن الأعلى بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح وإلا
فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين وأدرج جزءها الشرقي ضمن
العالم الاشتراكي، وجزءها الآخر ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى
المنتجة؟ أو حكم الجيش الفاتح، الذي فرض على البقعة التي ملكها نظامه
وأفكاره؟!.
وأما القسم الثاني من البلاد الاشتراكية: فقد أقيمت فيها الأنظمة
الاشتراكية بقوة الثورات الداخلية، ولكن هذه الثورات الداخلية لم تتجسد
فيها قوانين الماركسية، ولم تجيء طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل
ألغاز التاريخ.
فروسيا_ وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي
بفعل الثورات الداخلية_قد كانت في مؤخرة الدول الأوروبية، من
الناحية الصناعية، ولم يكن نمو القوى المنتجة فيها، قد بلغ الدرجة التي
تحددها النظرية لإمكانية التحول، واندلاع الثورة الاشتراكية. فلم يلعب
تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، وتكوين جوهر
المجتمع وفقاً للنظرية، بل لعب دوراً معكوساً، إذ نمت القوى المنتجة في
بلاد كفرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت تلك البلاد في درجة
عالية من التصنيع، وبمقدار ارتقائها في هذا المضار، كان بعدها عن
الثورة، ونجاتها من الانفجار الثوري الشيوعي المحتوم، في مفاهيم المادية
التاريخية.
وأما روسيا فقد كانت الحركة التصنيعية فيها منخفضة جداً، وكان
الرأسمال المحلي عاجزاً تماماً عن حل مشاكل التصنيع السريع، في ظل
ظروفها السياسية والاجتماعية، ولم يكن هناك موضع للقياس: بين الرأسمالية
الصناعية في تلك البلاد المتخلفة، وبين قوى الصناعة وضخامة الرأسمال
الصناعي في الغرب الأوروبي، ومع ذلك أخصب الاتجاه الثوري فيها
وتفجر، وجاءت الثورة الصناعية، كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز
الانقلابي في الدولة، هو الأداة الفعالة لتصنيع البلاد، وتطوير قواها(1/49)
المنتجة، ولم يكن التصنيع وتطور قوى البلاد المنتجة، هو السبب في خلق
ذلك الجهاز وإنشاء تلك الأداة.
وإذا كان من الضروري، أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة
التصنيع والقوى المنتجة من ناحية أخرى، فالشيء المعقول أن نعكس العلاقة
الماركسية المفترضة بين الثورة والتصنيع، فنعتبر أن انخفاض المستوى الصناعي
والإنتاج، من العوامل المهمة، التي أدت إلى دق أجراس الثورة في بلد
كروسيا، على العكس تماماً من افتراض النظرية الماركسية، القائل: إن
الثورة الاشتراكية، بموجب القوانين المادية للتاريخ، لا تكون إلا نتاجاً
لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة. فروسيا مثلاً_ لم يدفعها نمو
قوى الإنتاج إلى الثورة، بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوٍ وتخلفها الخطر،
عن ركب الدول الصناعية، التي قفزت بخطوات العمالقة في مضمار
الصناعة والإنتاج، فكان لا بد لكي تحتفظ روسيا بوجودها الحقيقي في
الأسرة الدولية، أن تنشيء الجهاز السياسي و الاجتماعي، الذي يحل
مشاكل التصنيع حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام، في حلبات التصنيع
ومجالات السباق الدولي الهائل، وبدون خلق الجهاز القادر على حل هذه
المشاكل تقع روسيا حتماً فريسة الإحتكارات، التي تقيمها الدول السباقة،
وينتهي وجودها كدولة حرة على مسرح التاريخ.
وهكذا نجد_ إذا نظرنا إلى روسيا من زاوية القوى المنتجة، والحالة
الصناعية_ كما تنظر الماركسية دائماً_ أن المشكلة الرئيسية هي: مشكلة إيجاد
التصنيع، لا تناقض نمو التصنيع مع كيانات المجتمع السياسية والاقتصادية.
وقد تسلمت الثورة الاشتراكية الحكم واستطاعت بطبيعة كيانها السياسي
(القائم على سلطة مطلقة لا حدود لها) وطبيعة كيانها الاقتصادي (القائم
على تركيز كل عمليات الإنتاج في وجهة واحدة هي الدولة) أن تخطو
خطوات جبارة في تصنيع البلاد. فكانت الحكومة الاشتراكية هي التي
تخلق أسباب وجودها، والمبررات الماركسية لنشوئها، وتنشيء الطبقة التي(1/50)
تزعم أنها تمثلها، وتنقل القوى المنتجة في البلد إلى المرحلة التي أعدها
(ماركس) لاشتراكيتة العلمية.
ومن حقنا بعد هذا أن نتساءل عما إذا كانت تقوم حكومة ثورية في
روسيا تحمل الطابع السياسي والاقتصادي للإشتراكية، لو أن روسيا لم
تكن متأخرة صناعياً وسياسياً وفكرياً، عن مستوى الدول الصناعية الكبرى؟!.
والصين_ وهي البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الإشتراكي بالثورة_
نجد فيها_ كما وجدنا في روسيا_ التناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.
فلم تكن الثورة الصناعية هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة،
وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج، وفائض القيمة،
وتناقضات رأس المال، التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور
رئيسي في المعترك السياسي.
وشيء آخر جدير بالملاحظة هو: أن الثورات الداخلية، التي مارست
عملية تطبيق الإشتراكية الماركيسة، لم تكن تعتمد في انتصارها على الصراع
الطبقي، وانهيار الطبقة الحاكمة أمام الطبقة المحكومة، بسبب شدة التناقضات
الطبقية بينهما، بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز الحاكم، انهياراً
عسكرياً، في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري في روسيا
عسكرياً، بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي مكن للقوى
المعارضة_ وعلى رأسها الحزب الشيوعي_ من الإنتصار السياسي،بشكل
ثوري، أدى إلى امتلاك الحزب الشيوعي لأزمة الحكم، بصفته أبرع
القوى المعارضة تنظيماً وتكتلاً، وأقواها وحدة من الناحية الفكرية القيادية،
وكذلك الثورة الشيوعية في الصين، فإنما وإن بدأت قبل الغزو الياباني،
ولكنها ظلت لمدة عقد كامل، تنتشر وتتوسع، لتخرج نهائياً منتصرة
بانتهاء الحرب. فلم يستطع التطبيق مرة واحدة حتى الآن أن يحقق النصر
عن طريق التناقض الداخلي فحسب، أو أن يحطم جهاز الدولة ما لم تحطم
الجهاز ظروف حربية وخارجية، تدعو إلى زعزعته وانهياره.(1/51)
فملامح النظرية وسماتها العامة، لم تبد على التطبيق، وإنما كل ما بدا
من خلال التطبيق، إن مجتمعاً حدثت فيه ثورة قلبت نظامه، وعصفت
بالجهاز الحاكم فيه، بعد أن تصدع هذا الجهاز لظروف عسكرية وخارجية
واجتاح الناس شعور قوي بالحاجة إلى لون جديد من الحياة السياسية والإجتماعية.
ونفس هذه العوامل التي أنجحت الثورة في روسيا، أو هيأت لها،
كانت موجودة_ كلياً أو جزئياً_ في عدة أقطار أخرى، شهدت نفس
ما شاهدته روسيا من ظروف عسكرية، وتمخضت على أثر الحرب العالمية
الأولى بثورات مماثلة، لعب فيها تصدع السلطات الحاكمة، والشعور
القوي بعدم كفاءتها، والاحساس بالحاجة المتزايدة إلى التقدم السريع،
للإلتحاق بالركب الأمامي للعالم. دوراً خطيراً، غير أن الثورة الوحيدة
التي اتخذت الطابع الإشتراكي، هي الثورة الروسية. ولا يمكننا أن نجد
سبب ذلك في اختلاف قوى الإنتاج، التي كانت متشابهة إلى حد ما في
تلك الأقطار، وإنما نجده في الظروف الفكرية التي كانت تمر بها تلك
الأقطار، والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي، والمجال
الثوري هنا وهناك.
فإذا كان من الحق ما يزعمه المنطق الديالكتيكي للماركسية، من وحدة
النظرية والتطبيق، وإن التطبيق هو الأساس الوحيد لتدعيم النظرية، فمن
الحق أيضاً أن المادية التاريخية، لا تزال تفقد حتى الآن هذا الدليل، لأن
التطبيق الذي حققته الماركسية، لم يحمل خصائص النظرية، ولم تنعكس
عليه ملامحها. حتى أن لينين_ وهو الثوري الروسي الأول، الذي كان
يخوض معركة التطبيق ويقودها_ لم يستطع أن يتنبأ بموعد وبشكل اندلاع
الثورة، إلا بعد أن أصبحت الثورة على قاب قوسين أو أدنى. وليس ذلك
إلا لأن دلائل المجتمع وأحداثه، لم تكن لتنطبق على الدلائل والأحداث،
التي تحدد النظرية على أساسها، سمات المجتمع، المشرف على العمل الثوري
الاشتراكي. فقد خطب لينين في اجتماع للشباب الاشتراكي السويسري،(1/52)
قبل شهر واحد من ثورة شباط وقبل عشرة أشهر من ثورة أكتوبر الشيوعية،
فقال في خطابه:
((لعلنا نحن أبناء الجيل الذي يكبركم، لن نعيش لنرى المعارك الحاسمة للثورة الإشتراكية، الموشكة على الاندلاع، ولكن يبدو لي، أنني أستطيع أن أعرب
بأقصى ثقة، عن الأمل بأن يتاح للشبان العاملين في
الحركة الإشتراكية الرائعة في سويسرا، وبقية أنحاء
العالم، الحظ الطيب، ليس فحسب بالمساهمة في القتال
أثناء الثورة البروليتارية الوشيكة، بل كذلك في الخروج ظافرين منها)).
قال لينين هذا، وبعد عشرة أشهر فقط، تزعم الثورة الإشتراكية التي
انفجرت في روسيا، وجاءت به إلى الحكم. وأما الشبان العاملون في الحركة
الاشتراكية الرائعة في سويسرا، على حد تعبيره، فلا يزالون حتى اليوم،
لم يتح فهم الحظ الطيب، الذي تمناه لهم بالمساهمة في الثورة البروليتارية،
والخروج منها ظافرين.
ثالثاً_ هل استطاعت الماركسية إستيعاب التاريخ؟
المادية التاريخية(الماركسية)_ كما سبق_ مجموعة من الإفتراضات
العلمية يختص كل واحد منها بمرحلة محدودة من مراحل التاريخ، وتتكون
من مجموعها الفرضية العامة في تفسير التاريخ، القائلة: بأن المجتمع دائماً
وليد الوضع الاقتصادي الذي تحدده وتفرضه قوى الإنتاج.
والواقع أن أروع ما في الماركسية، وأكثر قواها التحليلية إغراءً
وإستهواءً إنما هو قوة هذا الشمول والاستيعاب، الذي تتميز به على أكثر
التفاسير الأخرى، للعمليات الإجتماعية أو الإقتصادية، وتعبر من خلاله
عن ترابط وثيق محدد، بين مختلف تلك العمليات، في كل الميادين الإنسانية.
فليست الماركسية فكرة نظرية محدودة، أو تحليلاً اجتماعياً أو اقتصادياً
فحسب، وإنما هي تعبير تحليلي شامل عن كل العمليات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية كما تجري منذ آلاف السنين في مجراها التاريخي الطويل، لتتكون منها في كل لحظة تاريخية حاسمة، حالة معينة، تحدد بنفسها(1/53)
وبطريقة جدلية ما يعقبها من حالات متلاحقة على مدار المزمن، تتتابع في
لحظات تاريخية فاصلة.
ومن الطبيعي أن تستأثر مثل هذه النظرية بتقدير الناس، وتوحي إليهم
بالإعجاب أكثر من أي نظرية أخرى ما دامت قد زعمت لهم أنها وضعت
في أيديهم كل أسرار الإنسانية، وألغاز التاريخ، وما دامت قد تفوقت
على كل النظريات العلمية، عن الاجتماع والاقتصاد، في نقطة ذات وزن
جماهيري كبير، وهي: أنها استطاعت أن تمزج آمال الناس بالتحليل
العلمي، وأن تقدم إليهم أمانيهم التقليدية في إطار تحليلي، قائم على أسس
مادية ومنطقية، بالمقدار الذي أتيح لماركس أن يصل إليه، بينما لم تكن
النظريات العلمية الأخرى في الاجتماع والاقتصاد، تظفر_ على أفضل
تقدير_ إلا بعناية حفنة من العلماء والأخصائيين.
والمادية التاريخية، بوصفها فرضية عامة، تقرر_ كما عرفنا سابقاً_:
أن جميع الأوضاع والظواهر الاجتماعية، نابعة من الوضع الاقتصادي،
وهو بدوره يتكون نتيجة لوضع القوى المنتجة. فالوضع الاقتصادي هو
همزة الوصل، بين قوة الإنتاج الرئيسية، وجميع الظواهر والأوضاع
الاجتماعية، كما قال بليخانوف:
((إن الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب، يحدد بدوره وضعه السياسي والديني، وهكذا دواليك.
ولكنكم ستتساءلون عما إذا لم يكن للوضع الاقتصادي
من سبب أيضاً؟.. لا ريب إن لهذا الوضع سببه الخاص
به، ككل شيء في هذه الدنيا، وهذا السبب...هو
الصراع الذي يخوضه الإنسان مع الطبيعة ))(1).
((إن علاقات الإنتاج، تحدد جميع العلاقات
الأخرى التي توحد بين الناس في حياتهم الاجتماعية. وأما علاقات الإنتاج فيحددها وضع القوى المنتجة ))(2).
فالقوى المنتجة هي التي تخلق الوضع الاقتصادي، وتطوره تبعاً
لتطورها، والوضع الاقتصادي هو الأساس العام لهيكل البناء الاجتماعي،
__________
(1) المفهوم المادي للتاريخ: ص46.
(2) نفس المصدر: ص48.(1/54)
وما فيه من ظواهر وأوضاع. هذه هي الوجهة العامة للمادية التاريخية.
* * *
وتتردد في أوساط الكتاب المناهضين للأفكار الماركسية، مناقشتان
للماركسية التاريخية، بوصفها نظرة عامة عن التاريخ:
الأولى: إن التاريخ إذا كان محكوماً للعامل الاقتصادي، وللقوى
المنتجة، وفقاً لقوانين طبيعية تسير به من الإقطاع إلى الرأسمالية مثلاً، ومنها
إلى الاشتراكية، فماذا تبذل هذه الجهود الجبارة من الماركسيين، في سبيل
تكتيل أكبر عدد ممكن، لشن ثورة فاصلة على الرأسمالية؟! ولم يدع
الماركسيون قوانين التاريخ تعمل، فتكفيهم هذه المهمة الشاقة؟!.
الثانية: أن كل إنسان يحس_ بالضرورة_ أن له دوافع أخرى،
لا تمت إلى الطابع الاقتصادي بصلة، بل قد يضحي في سبيلها بمصالحه
الاقتصادية وبحياته كلها في بعض الأحايين، فكيف يعتبر العامل الاقتصادي
هو المحرك للتاريخ؟!.
ومن البحث العلمي الموضوعي، أن نسجل رأينا في هاتين المناقشتين
بوضوح. فهما تعبران عن عدم استيعاب المفهوم الماركسي للتاريخ، أكثر
مما تعبران عن خطأ المفهوم نفسه.
ففيما يتصل بالمناقشة الأولى، يجب أن نعرف موقف الماركسية من
الثورة. فإنها لا تعتبر الثورة والجهود التمهيدية التي تبذل في سبيلها، شيئاً
منفصلاً عن قوانين التاريخ، بل هي جزء من تلك القوانين، التي يجب
_ علمياً_ أن توجد كي ينتقل التاريخ من مرحلة أخرى.
فالثوريون حين يتجمعون في سبيل الثورة، إنما يعبرون بذلك عن الحتمية
التاريخية.
ونحن حين نقرر هذا، نعلم أن الماركسية_ نفسها_ لم تستطع أحياناً،
أن تتفهم_ بوضوح_ متطلبات مفهومها العلمي عن التاريخ ومستلزماته،
حتى لقد كتب ستالين يقول:
((إن المجتمع غير عاجز إمام القوانين. وإن في
وسعه عن طريق معرفة القوانين الاقتصادية، وبالاستناد
إليها، إن يحد من دائرة فعلها، وإن يستخدمها في مصلحة(1/55)
المجتمع، وأن يروضها،مثلما يجري حيال قوى الطبيعة وقوانينها)) (1).
وكتب بولتزير_ نظير هذا_ قائلاً:
((إن المادية الجدلية، في تأكيدها للطابع الموضوعي لقوانين المجتمع، تؤكد_ في نفس الوقت_ الدور الموضوعي الذي تلعبه الأفكار، يعني النشاطات العلمية الواعية، مما يتيح للناس أن يؤخروا أو يقدموا، وأن يشجعوا أو يعرقلوا، تأثير قوانين المجتمع)) (2).
ومن الواضح، أن هذا الاعتراف الماركسي، بسيطرة الإنسان عن
طريق أفكاره ونشاطاته الواعية، على تأثير قوانين المجتمع، وعلى تقديمه
وتأخيره لا يتفق مع الفكرة العلمية عن التاريخ لأن التاريخ إذا كان مسيراً
وفق قوانين طبيعية عامة، فوعي الإنسان وعلمه بقوانين التاريخ، إنما يعبر
عن جزء من الحقل الذي تحكمه تلك القوانين. فكل ما يقوم به هذا الوعي
والنشاط الإنساني من أدوار، فهو تعبير حتمي عن تلك القوانين، وعن
تأثيرها المحتوم، وليس تقديماً لهذا التأثير أو تأخيراً له. فالماركسيون حينما
يمعنون_مثلاً_ في خلق الفتن، لتعميق التناقضات ومضاعفاتها، ينفذون
قوانين التاريخ. لأن نشاطهم الواعي جزء من الكل التاريخي، لا أنهم
يستعجلون تلك القوانين. وليس موقف الفئات التي تعمل بوعي سياسي،
من قوانين التاريخ، كموقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة، التي يجرب
عليها في مختبر، فإن العالم الطبيعي، يستطيع أن يقدم أو يؤخر من تأثير
قوانين الطبيعة، بما يحدث من تغيرات في وضع الطبيعة التي يجربها. لأن
قوانين الطبيعة التي يجربها، لا تتحكم في عمله، فهو يستطيع أن يسيطر
على تأثيرها، بما يهيء للتجربة من شروط. وأما العاملون في الحقل السياسي،
فلا يمكنهم أن يتحرروا من قوانين التاريخ، وأن يسيطروا على تأثيرها.
لأنهم دائماً يعبرون عن جزء من العملية التاريخية، التي تتحكم فيها تلك
القوانين.
__________
(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع، ص22.
(2) المادية المثالية في الفلسفة، ص152.(1/56)
فمن الخطأ_ إذن_ أن تقول الماركسية شيئاً عن السيطرة على قوانين
المجتمع، كما أن من الخطأ أيضاً أن توجه إليها المناقشة السابقة، التي ترمي
إلى اعتبار النشاط العملي لغواً لا مبرر له، ما دمنا عرفنا أن النشاط العملي
بما فيه الثورة جزء من قوانين التاريخ.
ولنأخذ الآن المناقشة الثانية: إن هذه المناقشة تسرد_ عادة_ قائمة من
الدوافع، التي لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، لتنفيذ القول بالعامل الاقتصادي، كعامل رئيسي. وليست هذه المناقشة بأذنى إلى التوفيق من المناقشة الأولى. فإن الماركسية
لا تعني: أن العامل الإقتصادي هو الدافع الشعوري، لكل أعمال الإنسان،
على مر التاريخ، وإنما ترتكز على القول: بأنه هو القوة التي تعبر عن نفسها،
في وعي الناس، بمختلف التعبيرات. فالسلوك الواعي للإنسان. يصدر عن
غايات ودوافع إيديولوجية مختلفة، قد لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، إلا
أنها في الحقيقة تعبيرات سطحية عن قوة أعمق لأنها ليست إلا أدوات
يستخدمها العامل الاقتصادي، يحرك بها الناس، في الاتجاه التاريخي المحتوم.
ويجب أن نتجاوز بهذا الصدد عن بعض النصوص الماركسية، التي لم
تقتصر على هذا القول، بل جنحت إلى التأكيد على إعتبار الاقتصاد غاية
عامة للنشاط الاجتماعي، وليس قوة محركة من الخلف فحسب. فقد
كتب انجلز يقول:
((إن القوة ليست سوى وسيلة، وان الغاية هي المنفعة الاقتصادية. ولما كانت الغاية أكثر جوهرية من
الوسيلة، التي تستخدم لضمانها، فإن الجانب الاقتصادي
من المسألة، هو أكثر جوهرية في التاريخ، من الجانب السياسي. في جميع قضايا السيطرة والإخضاع، حتى
يومنا الحاضر، كان الإخضاع دوماً وكالة لإملاء
المعدة، بأوسع ما في إملاء المعدة من مدلول))(1).
ولا شك عندنا في أن هذا النص، قد كتبه انجلز على عجل وبقلة أناة
فجاء يسابق الماركسية_نفسها_ في غلوها بالعامل الاقتصادي، ويناقض
__________
(1) ضد دوهرنك، ج2 ص37.(1/57)
الواقع الذي يمكننا أن نلمسه في كل حين. فكثيراً ما نجد أن المعدة قد تمتليء
بأوسع ما في إملاء المعدة من مدلول_ على حد تعبير انجلز_ ولا يمنع ذلك
هؤلاء الممتلئين، عن القيام بنشاطات مهمة في الحقل الإجتماعي، لأجل
تحقيق مثل أعلى، أو إشباع نزعة نفسية.
* * *
ولنترك هذا، إلى درس المشاكل الحقيقية، التي تثيرها المادية التاريخية،
وتعترض سبيلها، ولا يمكن للماركسية أن توفق في حلها. فهي لا تستطيع
أن تفسر_في ضوء المادية التاريخية_ عدة نقاط جوهرية في التاريخ،
لا بد من دراستها بشيء من التفصيل.
1_ تطور القوى المنتجة والماركسية
فهناك_ أولاً_ السؤال عن القوى المنتجة، التي يتطور التاريخ تبعاً
لتطورها كيف تتطور هذه القوى؟، وما هي العوامل التي تسيطر على
تطورها وتكاملها؟، ولماذا لا تكون هذه العوامل هي القوة العليا التي تتحكم
في التاريخ، بدلاً عن القوى المنتجة الخاضعة لتلك العوامل، في نموها
وتكاملها؟.
وقد اعتاد الماركسيون أن يجيبوا على هذا السؤال: بأن الأفكار التي
يستفيدها الإنسان خلال ممارسة قوى الطبيعة، وتنشأ عنها، هي التي تطور
بدورها هذه القوى، وتعمل في تنميتها. فالأسباب التي تطور قوى الإنتاج
نابعة منها. وليست قوى تعمل بصورة مستقلة عنها، أو في درجة أعلى
وتعتقد الماركسية، أنها تقدم في هذا التأثير المتبادل، بين قوى الإنتاج،
والأفكار المنبثقة عنها خلال ممارستها: صورة ديالكتيكية لتطور الإنتاج،
تعبر عن حركة تكامل ديالكتيكية للقوى المنتجة، بوصفها تولد دائماً
الأفكار الجديدة، ثم تعود لتنمو ضمنها وتتكامل.
وهذا الوصف الديالكتيكي، تطور القوى المنتجة، يقوم على أساس
مفهوم خاص للتجربة، يجعل منها الممون الأساسي الوحيد للإنسان،
بالأفكار والآراء. فتصبح العلاقة بين قوى الطبيعة المنتجة التي يجربها الإنسان،
وبين أفكاره وآرائه عن الكون وحقائقه، علاقة علة بمعلول ينشأ عن علته،(1/58)
ثم يتفاعل معها، فيزيدها ثراء واغتناء. ولكننا يجب أن لا ننسى النتائج
التي استخلصناها من دراستنا لنظرية المعرفة في (فلسفتنا) فقد برهنت تلك
النتائج، على أن التجارب الطبيعية، لا تقدم إلى الإنسان إلا المواد الخام،
ولا تتحفه إلا بالتصورات الحسية لمضمون التجربة. وهذه المواد والتصورات
تبقى غير ذات معنى، لو لم تصادف في ذهن معين، الشروط الطبيعية
والسيكولوجية الخاصة، هو ذهن الإنسان، الذي يملك_ دون سائر
الحيوانات التي تشترك معه في التصور والاحساس_ قدرة عقلية على الإستنتاج والتحليل، ومعرف ضرورية لا تخضع للتجربة، يأخذ الإنسان بتطبيقها على
المواد الخام التي يستوردها عن طريق التجربة، فينتهي إلى نتائج جديدة.
وكلما تكررت عمليات الاستنتاج وتكامل رصيدها، ازدادت خصباً
وثراءً. فلم تكن قوى الطبيعة المنتجة، هي التي تشق_بمفردها_ طريق
تكاملها ونموها، أو تولد عوامل تطورها واغتنائها، وإنما تولد الإحساسات
والتصورات فحسب فليس تطورها_ إذن_ ديالكتيكياً ذاتياً، وليست
القوة الإيجابية التي تطورها منبثقة عنها. وهكذا تصبح قوى الإنتاج محكومة
لعامل أعلى منها درجة في تسلسل التاريخ.
وقد كنا حتى الآن نتساءل، عن العوامل التي تطور الإنتاج وقواه على
مر الزمن، الأمر الذي انتهينا فيه إلى نتيجة لا تسر الماركسية. غير أن من
الممكن_ بل يجب_ أن نتخطى هذا السؤال إلى نقطة أعمق، وأكثر
إحراجاً للمادية التاريخية، فنطرح السؤال على الوجه التالي: كيف مارس
الإنسان عملية الإنتاج، ونشأت في حياته، ولم تنشأ في حياة أي كائن
حي آخر؟.
نحن نعلم من عقيدة الماركسية، أنها تؤمن بالإنتاج قاعدة رئيسية
للمجتمع يقوم على أساسها الوضع الإقتصادي، وتبتني على الوضع
الاقتصادي كل الأوضاع الأخرى. ولكنها لم تكلف نفسها أن تقف قليلاً
عند الإنتاج نفسه، لتفسر: كيف وجد الإنتاج في حياة الإنسان؟. فإذا
كان الإنتاج يصلح لتفسير نشوء المجتمع، وكل علاقاته وظواهره،(1/59)
أفليس للإنتاج نفسه شروط تصلح لتفسير وجوده ونشوئه؟.
إن بالإمكان الجواب على ذلك، إذا عرفنا ما هو الإنتاج: إن الإنتاج
_ كما تعرفه لنا الماركسية_ عملية كفاح ضد الطبيعة، يشترك فيها مجموعة
من الناس، لإنتاج حاجاتهم المادية، وتقوم على أساسها كل العلاقات.
فهي إذن عملية يقوم بها عدد من الناس، لتغيير الطبيعة، وجعلها بالشكل
الذي يوافق حاجاتهم ويشبع رغباتهم.
وعملية تغيير كهذه، يقوم بها عدد من الناس، لا يمكن أن توجد
تاريخياً، ما لم تسبقها شروط معينة، يمكن تلخيصها في أمرين جوهريين.
إحداهما:(الفكر)، فإن الكائن الحي لا يستطيع أن يغير من شكل
الطبيعة بقصد إشباع حاجاته، فيجعل الحنطة دقيقاً، أو الدقيق خبزاً.. مالم
يكن يملك فكراً عن الشكل الذي سوف يمنحه للطبيعة، فعملية التغيير
لا يمكن أن تنفصل بحال، عن التفكير فيما ستتمخض عنه العملية من أشكال
وأوضاع للطبيعة لا تزال في ابتداء العمل غيبية. ولأجل هذا لم يكن من
الممكن للحيوان، إن يقوم بعملية إنتاج، عملية تغيير حاسم للطبيعة.
والأمر الآخر: هو، اللغة بوصفها المظهر المادي للفكر، الذي يتيح
للمشتركين في عملية الإنتاج أن يتفاهموا، ويتخذوا موقفاً موحداً خلال
العملية فما لم يملك كل منتج أداة التعبير عن فكره، وتفهم أفكار شركائه
في العمل لا يستطيع أن ينتج.
وهكذا نجد_ بوضوح_ أن الفكر_ بأي درجة كان_ يجب أن يسبق
عملية الإنتاج، وأن اللغة ليست نابعة من عملية الإنتاج، كما تنبع كل
العلاقات والظواهر الاجتماعية، في زعم الماركسية.. وإنما تنبع من الحاجة
إلى تبادل الأفكار، بوصفها المظهر المادي للفكر. فلم تنشأ اللغة_ أذن_
من القاعدة الرئيسية المزعومة، من عملية الإنتاج، بالرغم من أنها أهم
ظاهرة اجتماعية على الإطلاق.. وإنما كانت هي الشرط الضروري تاريخياً،
في وجود هذه القاعدة المزعومة.
وأكبر دليل يمكننا أن نقدمه على ذلك، هو استقلال اللغة في تطورها(1/60)
عن الإنتاج وقواه. فلو كانت اللغة وليدة الإنتاج، وليدة القاعدة المزعومة،
لتطورت وتغيرت، تبعاً لتطور أشكال الإنتاج وتغيرها، كما تتغير تبعاً
لذلك جميع الظواهر والعلاقات الاجتماعية. في رأي الماركسية، ولا يوجد
ماركسي واحد_ وحتى ستالين_ يجرأ على القول: بأن اللغة الروسية
_ مثلاً_ تغيرت بعد الثورة الاشتراكية، وتبدلت إلى لغة جديدة، أو
أن الآلة البخارية التي غيرت القاعدة الأساسية للمجتمع، وأحدثت ثورة
كبرى في أسلوب الإنتاج قد جاءت بلغة جديدة للانكليز، غير اللغة التي
كانوا يتكلمون بها قبل ذلك. فالتاريخ يؤكد_ إذن_ أن اللغة مستقلة عن
الإنتاج، في استمراريتها وتطورها. وليس ذلك إلا لأنها لم تنبع من هذا
الشكل أو ذاك، من أشكال الإنتاج، وإنما نبعت عن فكر وحاجة هما
أعمق وأسبق من كل ممارسة للإنتاج الاجتماعي مهما كان شكلها.
2- الفكر والماركسية
ويمكن أن نعتبر أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ
عند الماركسية، هذه العلاقة، التي تؤكد عليها بين الحياة الفكرية للإنسان،
بشتى ألوانها ومناحيها، وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى
المنتجة الذي يحدد كل المضمون التاريخي لكيان الإنسان فالفكر مهما اتخذ
من أشكال عليا، ومهما ابتعد في مجاله الاجتماعي عن القوة الأساسية،
واتخذ سبيله في منعطفات تاريخية معقدة، فلا يعدو عند التحليل أن يكون
_ بشكل أو آخر_ نتاجاً للعامل الاقتصادي. وعلى هذا الأساس تفسر
الماركسية تاريخ الفكر، وما يزخر به من ثورات وتطورات عن طريق
الظروف المادية، والتكوين الاقتصادي للمجتمع والقوى المنتجة.
وهذا الإطار الاقتصادي، الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار
الإنسان جدير بالبحث العلمي والفلسفي، أكثر من سائر الجوانب الأخرى
في البناء الماركسي للتاريخ لما يؤدي إليه من نتائج خطيرة في (نظرية المعرفة)
وتحديد قيمتها ومقاييسها المنطقية. ولهذا كان من الضروري دراسة هذا(1/61)
الرأي، خلال البحث الفلسفي في(نظرية المعرفة) وقد عرضنا في(فلسفتنا)
لهذا الرأي في نظرة عابرة، ونحن الآن نتوفر على تطوير تلك النظرة، إلى
دراسة مفصلة لهذا الرأي، في الطبعة الثانية من كتاب(فلسفتنا). ولأجل
هذا، فسوف نترك إليه مهمة البحث المستوعب لرأي الماركسية في الفكر،
غير أن هذا لا يمنعنا عن دراسته ونقده، في الحدود التي يتسع لها البحث في
هذا الكتاب.
ولكي نشرح رأي الماركسية بشكل واضح. نركز الحديث على
المظاهر الرئيسية في الحياة العقلية وهي: الأفكار الدينية، والفلسفية،
والعلمية، والاجتماعية.
وقبل أن نتناول التفاصيل، نود أن نسجل نصاً لأنجلز، كتبه بصدد
عرض رأي الماركسية الذي ندرسه. فقد قال في رسالته إلى فرانز مهرنج:
((إن الايدولوجيا عملية يقوم بها المفكر، عن وعي وشعور من جانبه، ولكنه شعور باطل حقاً. فالبواعث الحقيقة التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقاً. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون البواعث الحقيقة التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقاً. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون تمحيص أو بحث عن عملية أخرى أبعد، مستقلة عن الفكر))(1).
ويريد انجلز بهذا، أن يبرر جهل المفكرين جميعاً، بالأسباب الحقيقية
التي خلفت لهم أفكارهم، ولم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية. فلم يكن
يعني جهلهم بالأسباب، التي تحددها المادية التاريخية لمجرى التفكير الإنساني،
إنها لم تكن أسباباً حقاً، وإن المادية التاريخية على خطأ في نظرتها، وإنما كان
من الضروري إن لا تتكشف حقيقة تلك الأسباب، أمام أبصارهم، وإلا
لما كانت هناك عملية إيديولوجية.
ومن حقنا أن نقول_ بدورنا_لأنجلز: إذا كان من الضروري حقاً،
أن تظل الدوافع الحقيقة لكل إيديولوجية مجهولة عند أصحابها، لئلا تخرج
__________
(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ: ص122.(1/62)
عن صفتها عملية إيديولوجية.. فكيف جاز لأنجلز نفسه أن يحطم هذه
الضرورة، ويصنع المعجزة، ويتقدم إلى البشرية بايديولوجية جديدة،
ظلت تتمتع بصفتها الفكرية والايديولوجية، بالرغم من علمه بأسبابها
وبواعثها الحقيقة؟!.
ولنبدأ الآن بالتفاصيل:
أ_ الدين:
فالدين يحتل جزاءاً بارزاً على الصعيد الفكري، وقد لعب لأجل هذا
أدواراً فعالة، في تكوين العقلية الإنسانية أو بلورتها، واتخذ على مر الزمن
أشكالاً مختلفة ومظاهر متنوعة. فلا بد للماركسية_ وقد استبعدت عن
تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية، من الوحي والنبوة والصانع
_ أن تصطنع للدين وتطوراته تفسيراً مادياً. وكان من الشائع في أوساط
المادية، أن الدين نشأ نتيجة لعجز الإنسان القديم وإحساسه بالضعف،
بين يدي الطبيعة وقواها المرعبة، وجهله بأسرارها وقوانينها.. ولكن
الماركسية لا ترتضي هذا التفسير، لأنه يشذ عن قاعدتها المركزية، فلا
يربط الدين بالوضع الاقتصادي، القائم على أساس الإنتاج الذي يجب أن
يكون هو المفسر والسبب الوحيد، لكل ما يحتاج إلى تفسير وسبب. قال كونستانيوف:
((ولكن الماركسية اللينينية، قد حاربت دائماً مثل هذا المسخ للمادية التاريخية، وأثبتت أنه ينبغي البحث
عن منبع الأفكار: الاجتماعية والسياسية والحقوقية والدينية، في الإقتصاد قبل كل شيء))(1).
ولهذا أخذت الماركسية تفتش عن السبب الأصيل لنشوء الدين، من
خلال الوضع الاقتصادي للمجتمع، حتى وجدت هذا السبب المزعوم في
التركيب الطبقي للمجتمع. فالواقع الشيء الذي تعيشه الطبقة المضطهدة في
المجتمع الطبقي، تفجّر في ذهنيتها البائسة الأفكار الدينية، لتستمد منها
السلوة والعزاء.
قال ماركس:
((إن البؤس الديني، لهو التعبير عن البؤس
الواقعي، والاحتجاج على هذا البؤس الواقعي في وقت
معاً. الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم
__________
(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع.ص4.(1/63)
تبق فيه روح، وفكر عالم لم يبق فيه فكر، إنه أفيون
الشعب. إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى، لنقد هذا
الوادي الغارق في الدموع))(1).
وتنفق محاولات الماركسية بهذا الصدد، على نقطة واحدة هي: أن
الدين حصيلة التناقض الطبقي في المجتمع، ولكنها تختلف في الطريقة التي
نشأ بها الدين عن هذا التناقض. فتجنح الماركسية أحيانا إلى القول: بأن
الدين هو الأفيون الذي تستقيه الطبقة الحاكمة المستغلة، للطبقة المحكومة
المضطهدة، كي تنسى مطالبها ودورها السياسي، وتستسلم إلى واقعها
الشيء. فهو على هذا أحبولة تنسجها الطبقة الحاكمة للصيد، وإغراء
الكادحين البائسين.
تقول الماركسية هذا، وهي تتغافل عن الواقع التاريخي الصارخ، الذي
يدلل_ بكل وضوح_ على أن الدين كان ينشأ دائماً في أحضان الفقراء
والبائسين، ويشع في نفوسهم قبل أن يغمر بنوره المجتمع كله. فهذه هي
المسيحية، لم يحمل لواءها في أرجاء العالم، وفي الإمبراطورية الرومانية على
وجه خاص، إلا أولئك الرسل الفقراء، الذين لم يكونوا يملكون شيئاً سوى
الجذوة الروحية، التي تشتعل في نفوسهم. وكذلك لم يكن التكتل الأول،
الذي اختضن الدعوة الإسلامية، وكان النواة للأمة الإسلامية، ليضم
_ على الأكثر_ إلا الفقراء وأشباه الفقراء، من المجتمع المكي. فكيف يمكن
أن يفسر الدين على أنه نتاج للطبقة الحاكمة، خلقته لتخدير المضطهدين
وحماية مصالحها؟!.
وإذا كان يحلو للماركسية، أن تؤمن بأن الطبقة المالكة المسيطرة،
هي التي تصنع الدين لحماية مصالحها، فمن حقنا أن نتساءل: هل كان
من مصلحة هذه الطبقة، أن تجعل من هذا الدين أداة فعالة في القضاء على
الرأسمال الربوي، الذي كان يدر عليها أرباحاً طائلة في المجتمع الملكي،
قبل أن يحرّمه الإسلام تحريماً باتاً؟!. أو هل كان من مصلحتها، أن
تتنازل عن كل مزاعمها الأرستقراطية، فتسخّر الدين للدعوة إلى المساواة
__________
(1) كارل ماركس. ص16_17.(1/64)
بين الناس، في الكرامة الإنسانية، بل إلى الاستهانة بالأغنياء، والتنديد
بتعاظمهم دون حق، حتى قال المسيح:(من أرد أن يكون فيكم عظيماً،
فليكن لكم خادماً، وأنه أيسر أن يدخل الجمل في ثقب إبرة، من أن
يدخل غني إلى ملكوت الله).
ونجد الماركسية أحياناً أخرى، تشرح تفسيرها الطبقي للدين بطريقة
أخرى، فتزعم أن الدين نابع من أعماق اليأس والبؤس، اللذين يملآن
نفوس الطبقة المضطهدة. فالمضطهدون هم الذين ينسجون لأنفسهم الدين،
الذي يجدون فيه السلوة، ويستشعرون في ظله الأمل. فالدين ايديولوجية
البائسين والمضطهدين، وليس من صنع الحاكمين.
ومن حسن الحظ. أن نعلم من تاريخ المجتمعات البدائية، أن الدين
ليس من الظواهر الفكرية للمجتمعات الطبقية فحسب، بل إن المجتمعات
البدائية التي تحسبها الماركسية، تعيش في حالة شيوعية لا طبقية، قد مارست
هذا اللون من التفكير، وظهرت فيها العقيدة الدينية بأشكال شتى. فلا
يمكن أن يفسر الدين تفسيراً طبقياً، أو أن يعتبر انعكاسا عقلياً لظروف
الاضطهاد، التي تحيط بالطبقة المستغلة، ما دام قد وجد في حياة الإنسان
العقلية، قبل أن يوجد التركيب الطبقي، وقبل أن يغرق الوادي بدموع
البائسين والمتسغلين. فكيف تستطيع الماركسية بعد هذا أن تجعل من الوضع
الاقتصادي أساساً لتفسير الدين؟!.
وهناك شيء آخر، فالدين إذا كان إيديولوجية المضطهدين، النابعة
من واقعهم السيء، وظروفهم الاقتصادية، كما تزعم الماركسية في طريقتها
الثانية في التفسير.. فكيف يمكن أن نفسر وجود العقيدة الدينية، منفصلة
عن الواقع السيء، وظروف الاضطهاد الاقتصادي؟!. وكيف أمكن
لغير المضطهدين، أن ينقبلوا من الطبقة المضطهدة، إيديولوجيتها التي
نبعت من واقعها الاقتصادي، ودينها الذي تبشر به؟!.
إن الماركسية لا يمكنها أن تنكر وجود العقيدة الدينية، عند أشخاص
لا يمتون إلى ظروف الاضطهاد الاقتصادي بصلة، وصلابة العقيدة في(1/65)
نفوس بعضهم، إلى درجة تدفعهم إلى التضحية بنفوسهم في سبيلها. وهذا
يبرهن_ بوضوح_ على أن المفكر لا يستوحي فكرة إيديولوجية_ دائماً_
من واقعه الاقتصادي، لأن الفكرة الدينية عند أولئك الأشخاص، لم تكن
تعبيراً عن بؤسهم، وتنفيساً عن شقائهم، وبالتالي لم تكن انعكاساً لظروفهم
الاقتصادية، وإنما كانت عقيدة تجاوبت مع شروطهم النفسية والعقلية،
فآمنوا بها على أساس فكري.
ولا تكتفي الماركسية بتفسير الدين تفسيراً طبقياً اقتصادياً، بل تذهب
إلى أكثر من هذا، فتحاول أن تفسر تطوره على أساس اقتصادي أيضاً.
فكل شعب حين تطورت ظروفه الاقتصادية، وأتاحت له إقامة مجتمع
قومي مستقل، كانت الآلهة التي يعبدها قومه آلهة قومية، لا تتجاوز
سلطتها حدود الأراضي القومية، المدعوة إلى حمايتها. وبعد أن تلاشت
قوميات هذه الشعوب، بالاندماج في إمبراطورية عالمية، هي الإمبراطورية
الرومانية، ظهرت الحاجة إلى دين عالمي أيضاً. وكان هذا الدين العالمي،
هو المسيحية، التي أصبحت ديناً رسمياً للدولة، بعد مرور (250) عاماً
على نشأتها. وتكيفت المسيحية بعد ذلك بالظروف الإقطاعية، وحين بدأت
تتعارض بشكلها الكاثوليكي، مع القوى البورجوازية المتنامية، ظهرت
حركة الإصلاح الديني البروتستانتية(1).
ونلاحظ في هذا المجال، أن المسيحية أو البروتستانتية، لو كانت
تعبيراً عن الحاجات الموضوعية المادية، التي تشير إليها الماركسية، لكان
من الطبيعي أن تولد المسيحية وتنمو في قلب الإمبراطورية الرومانية، الآخذة
بزمام القيادة العالمية، وان تنشأ حركة الإصلاح الديني، في أكثر المجتمعات
الأوروبية، تطوراً ونمواً من الناحية البورجوازية. مع أن الواقع التاريخي،
يختلف عن ذلك تماماً.
فالمسيحية لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، ولم تولد في أحضان
الرومان الذين بنوا الدولة العالمية، وكانوا يعبرون في نشاطاتهم عنا،
__________
(1) راجع لودفيج فيورباخ ص103_105 .(1/66)
وإنما نشأت بعيدة عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقية المستعمرة
للرومان، ونمت بين شعب يهودي مضطهد، لم يكن_ منذ استعمرته
الإمبراطورية على يد القائد الروماني(بمبي) قبل الميلاد بستة عقود_ يحلم
إلا بالاستقلال القومي، وتحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين، الأمر
الذي كفله كثيراً من الثورات، وعشرات الألوف من الضحايا، خلال
تلك العقود الستة فهل كانت ظروف هذا الشعب المادية والسياسية والإقتصادية
جديرة بأن تتمخض عن الدين العالمي، الذي يلبي حاجات الإمبراطورية
المستعمرة؟!.
وحركة الإصلاح الديني، التي نشأت عن طلائع التحرر الفكري في
أوروبا، هي الأخرى لم تكن وليدة القوى البورجوازية، وإن حصلت
منها البورجوازية على مكاسب، غير أن هذا لا يعني أنها بوصفها إيديولوجية
معينة قد نشأت عن مجرد التطور الاقتصادي البورجوازي. وإلا لكانت
انكلترا أجدر بها من البلاد، التي انبثقت عنها حركة الإصلاح، لأن
البورجوازية في إنكلترا، كانت أقوى منها في أي بلد أوروبي آخر.
والتطور الاقتصادي والسياسي، الذي أحرزته خلال ثورات، منذ عام
(1215)، جعلها في موضع لا تصل إلى مستواه البلدان الأخرى، وبالرغم
من ذلك لم يظهر ((لوثر)) في انكلترا استجابة للوعي البورجوازي فيها،
وإنما ظهر بعيداً عنها، ومارس نشاطه ودعوته في ألمانيا، كما ظهر في فرنسا
الزعيم الثاني للحركة في شخص( كالفن) البروتستانتي العنيد، الذي جرت
في فرنسا على عهده عدة مذابح واشتباكات مروعة، بين الكاثوليك
والبرتستانت، ووقف الأمير الألماني(وليم أورانج) يدافع عن الحركة
الجديدة بجيش جرار.
صحيح أن انكلتر_ بعد ذلك_ تبنت البروتستانتية رسمياً،
ولكنها لم تكن_ بحال_ من نسيج وعيها البورجوازي، وإنما كانت نتيجة
وعي عاش في بلاد إقطاعية.
وإذا أخذنا فكرة الماركسية، عن التطور التاريخي للأديان، لنطبقها
على الإسلام، الدين العالمي الآخر، لوجدنا مدى التناقض الفاضح، بين(1/67)
الفكرة والواقع. فلئن كانت أوروبا دولة عالمية، تتطلب ديناً عالياً،
فلم تكن في جزيرة العرب دولة عالمية كذلك، بل لم تكن توجد دولة
قومية، تضم الشعب العربي، وإنما كان العرب موزعين فئات متعددة،
وكان لكل قبيلة إلهها الذي تؤمن به، وتتذلل إليه وتصنعه من الحجر،
ثم تدين له بالطاعة والعبودية، فهل كانت هذه الظروف المادية والسياسية،
تدعو إلى انبثاق دين عالمي واحد، من قلب تلك الجزيرة المبضعة، وهي
بعد لم تعرف كيف تدرك وجودها كقوم وشعب، فضلاً عن أن تعي
وحدة من نمط أرقى، تتمثل في دين يوحد العالم برمته؟!. وإذا كانت
الآلهة الدينية تتطور، من آلهة قومية إلى إله عالمي، تبعاً للحاجات المادية
والأوضاع السياسية فكيف طفر العرب من آلهة قبلية يصنعونها بأيديهم،
إلى إله عالمي دانوا له بأعلى درجات التجربة؟!.
ب_ الفلسفة:
والفلسفة في رأي الماركسية_ هي الأخرى أيضاً_ مظهر عقلي للحياة
المادية والشروط الاقتصادية، التي يعيشها المجتمع، ونتاج حتمي لها.
قال كونستانتيوف:
((من القوانين المشتركة بين جميع التكوينات الاجتماعية، والصالحة_ على الخصوص_ للمجتمع الاشتراكي، يمكن أن نذكر القانون القائل: أن الوجود الاجتماعي يحدد الإدراك الاجتماعي. إن الأفكار
الاجتماعية والسياسية والحقوقية والفنية والفلسفية، هي انعكاس للشروط المادية في الحياة الاجتماعية))(1).
وموقفنا تجاه هذا يتلخص في كلمات، فنحن لا ننكر بالمرة الصلة
بين الفكر والشروط المادية والاقتصادية، التي يعيشها المفكرون، كما أننا
لا ننكر ما للفكر من نظام وقوانين، لأنه بوصفه ظاهرة من ظواهر الكون،
يخضع لما تخضع له تلك الظواهر من قوانين، ويجري وفقاً لمبدأ العلية.
فلكل عملية إيديولوجية أسبابها وشروطها، التي ترتبط بها كما ترتبط كل
ظاهرة بأسبابها وشروطها. ولكن الأمر الذي نختلف فيه مع الماركسية،
__________
(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع. ص8.(1/68)
هو تحديد هذه الأسباب والشروط. فالماركسية ترى أن السبب الحقيقي،
لكل عملية إيديولوجية. إنما يكمن في الشروط الاقتصادية والمادية.
فلا يمكن_ في رأيها_ أن نفسر الفكرة، في ضوء علاقاتها بالأفكار الأخرى
وتفاعلاتها معها، وعلى أساس الشروط السيكولوجية والعقلية، وإنما يمكن
تفسيرها_ فقط_ عن طريق العامل الاقتصادي. فليس للفكر تاريخ مستقل
أو تطور خاص له، وإنما هو تاريخ للانعكاسات الحتمية، التي تثيرها في
العقل الإنساني ظروف المجتمع الاقتصادية والمادية والطريقة العلمية التي
يمكن أن نختبر بها هذه الحتمية، أن نقارن بين النظرية ومجرى الأحداث في
مجرى الحياة العقلية والاجتماعية للإنسان.
وللماركسية نصوص عديدة في شرح هذه النظرية، وتطبيقها على
الحقل الفلسفي. فهي تارة تفسر الفلسفة بحالة القوى المنتجة، وأخرى تفسرها
بمستوى العلوم الطبيعية، وثالثة تعتبرها ظاهرة طبقية، تحددها ظروف
التركيب الطبقي في المجتمع، كما سنرى في النصوص الآتية!
قال الفيلسوف الشيوعي البريطاني(موريس كونفورث):
((شيء آخر تجدر بنا ملاحظته، ذلك هو تأثير المخترعات التكنيكية والاكتشافات العلمية، على ظهور الأفكار الفلسفية ))(1).
ويريد بهذا، أن يربط بين التفكير الفلسفي، وتطور وسائل الإنتاج
ويوضح هذه الرابطة في مجال آخر بتقديم نموذج لها من مفهوم التطوير،
الذي ساد العقلية الفلسفية، بسبب التطور الثوري في قوى الإنتاج، فهو
يقول:
((إن التقدم نحو المفاهيم التطورية في العلم، والذي أعرب عن اكتشاف التطور الحقيقي في الطبيعة والمجتمع
كان يطابق تطور الرأسمالية الصناعية في أواخر القرن
الثامن عشر،بيد أن هذا التطابق، لم يكن مجرد تطابق فحسب، بل كان يعبر عن علاقة سببية... لا تعيش البورجوازية، إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة
على أدوات الإنتاج... كانت هذه هي الشروط، التي
__________
(1) المادية الديالكتيكة. ص40 .(1/69)
أدت إلى ظهور مفهوم التطور العام في الطبيعة والمجتمع، ولذلك فإن مهمة الفلسفة، في تعميم قوانين التغير والتطور
لا تنتج من مكتشفات العلوم فحسب، بل ومن الكل
المعقد لحركة المجتمع الحديث بكليته))(1).
وهكذا فإن أدوات الإنتاج، كانت تتطور وتتجدد، فتقذف إلى عقل
الفلاسفة مفاهيم التطور، التي قضت على النظرة الفلسفية الجامدة إلى الكون،
وحولتها إلى نظرة ثورية، تطابق التطورات المتواصلة في أدوات الإنتاج.
ونكتفي هنا بالقول: بأن التطورات الثورية في أدوات الإنتاج، بدأت
في أواخر القرن الثامن عشر، كما أشار إلى ذلك(كون فورث) نفسه،
أي بعد اختراع الآلة البخارية سنة 1764، التي تعتبر أول ثورة حقيقية
في وسائل الإنتاج، ومفهوم التطور_ على أساس مادي_ سبق هذا التاريخ،
على يد إمام من كبار أئمة الفلسفة المادية، الذي تشيد الماركسية بمجدهم
وآرائهم وهو (ديدرو)(2). الذي طلع على دنيا الفلسفة في النصف الأول
من القرن الثامن عشر، بمادية صبها في إطار من التطور الذاتي، فقال:
بأن المادة تتطور بنفسها، وفسر الحياة على أساس التطور. فالأحياء عنده
تتطور، ابتداء من خلية تحدثها المادة الحية، بحيث تحدث الأعضاء الحاجات،
وتحدث الحاجات الأعضاء... فهل استقى(ديدرو) هذا المفهوم الفلسفي
للتطور، من الانقلابات الثورية في الأدوات المنتجة، التي لم تكن قد تعاقبت
بعد على مسرح الإنتاج؟!.
صحيح أن التغييرات الجذرية على الصعيد الإنتاجي، كانت تهيء
الأذهان_ إلى حد ما_ لقبول فكرة التطور الفلسفي، وتطبيقها على كل
مرافق الكون ولكن هذا لا يعني السببية الضرورية، وربط التطور الفلسفي
بتطور الإنتاج، ربطاً حتمياً لا يأذن له بالتقدم أو التأخر، وإلا فكيف سمحت
هذه الحتمية المزعومة (ديدرو)، أن يسبق تطور الإنتاج؟! بل كيف
__________
(1) ملخصات عن المصدر السابق.ص 8 _ 9.
(2) ولد سنة 1713، ونشر خواطره الفلسفية سنة 1745 واستمر في التأليف والنشر
حتى مات سنة 1784.(1/70)
سمحت لفلاسفة عاشوا قبل ذلك بأكثر من ألفي سنة، أن يجعلوا من التطور
قاعدة فلسفية لهم؟!.
فهذا هو الفيلسوف اليوناني(انكسمندر)، عاش في القرن السادس
قبل الميلاد(1)، جاء بمفهوم فلسفي عن التطور، لا يختلف في جوهره عن
مفاهيم التطور في عصر الإنتاج الرأسمالي. فقد قال: إن الكائنات كانت
أول أمرها منحطة، ثم سارت في طريق التطور، درجات أعلى فأعلى،
بما فطر فيها من دافع غريزي، يدفعها إلى الملاءمة بين أنفسها والبيئة الخارجية: فالإنسان_ مثلاً_ كان حيواناً يعيش في الماء، فلما انحسر الماء اضطر هذا
الحيوان المائي إلى ملاءمة البيئة، فاكتسب على مر الزمن أعضاء صالحة
للحركة على الأرض اليابسة. وهكذا حتى أصبح إنساناً.
وفيلسوف آخر، كانت له مساهمة كبيرة في مفاهيم التطور الفلسفي،
حتى اعتبرته الماركسية، شارحاً رائعاً لجوهر الديالكتيك ورأيه في التطور، وهو(هرقلطيس)، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد(2). وجاء
في دنيا الفلسفة بمفهوم للتطور، يقوم على أساس التناقض والديالكتيك.
فهو يؤكد أن الكون ليس على صورة واحدة، فهو متغير متحول دائماً،
وهذه الصيرورة والحركة من صورة إلى صورة، هي حقيقة الكون،
فلا تفتأ الأشياء تتقلب من حال لحال إلى آخر الأبد. ويفسر هذه الحركة
بأنها تناقض، لأن الشيء المتحرك يكون موجوداً ومتغيراً في نفس الوقت،
أي موجوداً وغير موجود في آن واحد، وهذا الاتحاد الآني بين الوجود
واللاوجود، هو معنى الحركة، التي هي جوهر الكون وحقيقة.
إن فلسفة(هرقليطس) هذه، لئن برهنت على شيء، فإنما تبرهن
بوجودها التاريخي، على خطأ الماركسية في تفسيرها للفلسفة، وتأكيدها
على مسايرتها حتماً لوسائل الإنتاج والمكتشفات التكنيكية، لا سيما إذا
عرفنا أن(هرقليطس)، كان متأخر تأخراً فاضحاً عن موكب العلم،
__________
(1) ولد سنة 611ق.م. وتوفي سنة 547 ق.م. تقريباً
(2) ولد سنة 535ق.م. وتوفي سنة 475 ق.م.(1/71)
ومكتشفاته الطبيعية والفلكية، في عصره. فضلاً عن مواكبه الحديثة،
حتى كان يعتقد أن قطر الشمس قدم واحد، كما يبدو للبصر، ويفسر
غروبها بانطفائها في الماء.
ولماذا نذهب بعيداً، وبين أيدينا الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين
الشيرازي، الذي أحدث ثورة جبارة في الفلسفة الإسلامية، إذ أتحف الفكر
الإسلامي في مطلع القرن السابع عشر، بأعمق فلسفة شهدها تاريخ هذا
الفكر، وأثبت في فلسفته هذه، الحركة الجوهرية في الطبيعة، والتطور
المستمر في جوهر الكون، على أسس فلسفية تجريدية وقد أثبت ذلك،
يوم كانت وسائل الإنتاج ثابتة، بشكلها التقليدي على مر الزمن، وكان
كل شيء في الحياة الاجتماعية ساكناً ثابتاً، غير أن الدليل الفلسفي، دفع
فيلسوفنا الشيرازي إلى التأكيد على قانون التطور في الطبيعة، بالرغم من
ذلك كله.
فلا علاقة حتمية_ إذن_ بين المفاهيم الفلسفية، والوضع الاقتصادي
للقوى المنتجة.
وهناك شيء آخر له مغزاه الخاص بهذا الصدد، وهو أن الوضع
الاقتصادي لقوى الإنتاج وعلاقاته، لو كان هو الأساس الحقيقي الوحيد،
لتفسير الحياة العقلية للمجتمع، بما فيها الأفكار الفلسفية، لكانت النتيجة
الطبيعية لذلك، أن التطورات الفلسفية تواكب في حركتها التقدمية، تطور
الوضع الاقتصادي، وتجري وفقاً لحركة التكامل في علاقات الإنتاج وقواه
ويصبح من الضروري بموجب ذلك، أن تنبع الاتجاهات التقدمية في الفلسفة،
وأن تتولد الثورات الفلسفية الكبرى، في أرقى المجتمعات من الناحية
الاقتصادية فيكون نصيب كل مجتمع من التفكير التقدمي، والفلسفة الثورية،
بمقدار حظه من التطور الاقتصادي والسبق في ظروف الإنتاج وعلاقاته.
فهل تنسجم هذه النتيجة مع الواقع التاريخي للفلسفة؟ هذا ما نريد معرفته
الآن.
ولنأخذ حالة أوروبا، عندما لاحت في الأفق الأوروبي، تباشير
الثورة الفكرية الجديدة. فقد كانت انكلترة تتمتع بدرجة عالية نسبياً من(1/72)
التطور الاقتصادي، لم تظفر بنظيرها فرنسا ولا ألمانيا، وكان الشعب
الإنكليزي، قد ظفر بمكاسب سياسية خطيرة، لم يكن قد حصل على شيء
منها الشعب الفرنسي والألماني، وكانت القوى الاقتصادية الفنية في انكلترة
(قوى البورجوازية) في نمو مستمر، لا يشبهه وضعها في البلدان الأخرى.
وبكلمة مختصرة: إن الوضع الاجتماعي لإنكلترة، بشروطه الاقتصادية
والسياسية، كان أعلى درجة_ في سلم التطور التاريخي، الذي تؤمن به
الماركسية_ من فرنسا وألمانيا، بدليل أن انكلترة بدأت ثورتها التحررية،
سنة(1215)، وخاضت في منتصف القرن السابع عشر(1648)، ثورتها
الكبرى بقيادة(كرومويل)، بينما لم تتهيأ في فرنسا ظروف الثورة
الحاسمة، إلا سنة(1789)ولا في ألمانيا، إلا عام(1848)، وهذه
الثورات، بوصفها ثورات بورجوازية، منبثقة عن درجة التطور الاقتصادي
في رأي الماركسية، تبرهن بما تشير إليه من تفاوت زمني بينها إلى سبق
انكلترة في المجال الاقتصادي.
وإذا كانت انكلترة هي الدولة المتطورة اقتصادياً، أكثر من غيرها،
فمن الطبيعي_ على أساس النظرية الماركسية_ أن تسبق غيرها من البلدان
في المضمار الفلسفي، وتصبح أكثر تقديمة منها في اتجاهها الفلسفي. والاتجاه
التقدمي في الفلسفة_عند الماركسية_ هو الاتجاه المادي، وأكثر ما يكون
الاتجاه المادي تقدمياً، حين يقوم على أساس التطور والحركة. وهنا نتساءل:
أين ولدت المادية وشبت؟ وفي أي مجتمع ظهرت تباشير ها، ثم اندلعت
عاصفتها؟ وتبدو لنا الماركسية هنا في موقف حرج، لأن نظريتها في تفسير
الفلسفة، على أساس العامل الاقتصادي، تدعوها إلى القول: بأن تقدم
انكلترة الاقتصادي، كان يفرض عليها أن تظهر على المسرح الفلسفي،
بالاتجاه التقدمي، أو الاتجاه المادي بتعبير آخر. ولهذا حاول ماركس القول:
بأن المادية ولدت في إنكلترة، على يد(فرنسيس بيكون)، وعلى يد
(الاسميين)(1).
__________
(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ. ص76.(1/73)
ولكنا نعلم جميعاً، أن(بيكون) لم يكن فيلسوفاً مادياً، بل كان
غارقاً في المثالية، وإنما دعا إلى التجربة فقط وشجع الطريقة التجريبية في
البحث. وأما (الاسميون) الانجليز، فلئن كانت(الاسمية) لوناً فكرياً
من الإعداد للمادية، فقد سبق إلى هذا اللون من التفكير الفلسفي، إثنان من
الفلاسفة الفرنسيين، في مطلع القرن الرابع عشر: أحدهما(دوران دي
سان بورسان)، والآخر:(بيير أوريول) وإذا أردنا أن نفتش بصورة
أعمق عن المقدمات الفكرية، التي مهدت للاتجاه المادي. فسوف نجد قبل
(الاسمية) الحركة(الرشدية اللاتينية) في الفلسفة، التي ظهرت في القرن
الثالث عشر في فرنسا، وتشيّع لها معظم أساتذة كلية الفنون بباريس. وعلى
يدهم فصلت الفلسفة عن الدين، وبدأت تتجة إلى إنكار المسلّمات الدينية.
وأما الاتجاه المادي في شكله الصريح، فهو وإن كشف عن نفسه
في شخص أو أشخاص معدودين في إنكلترة، نظير(هوبز). ولكن هذا
الاتجاه لم يستطع أن يسيطر على الموقف الفلسفي في إنكلترة، أو يستلم
الزمام من الفلسفة المثالية، بينما أثار أكبر عاصفة مادية على المسرح الفلسفي
في فرنسا، حتى غرقت فرنسا في الاتجاهات المادية. وبينما كانت فرنسا
الفكرية، تحتفل ب(فولتير) و(ديدرو) وأمثالها من أئمة المادية في القرن
الثامن عشر.. نجد انكلترة زاخرة بأعمق وأفظع مثالية فلسفية. على يد
((جورج باركلي)) و ((ديفيد هيوم)) المبشرين الأساسيين بالمثالية في تاريخ
الفلسفة الحديثية..
وهكذا تجيء النتائج، على عكس ما ترتقبه الماركسية في التاريخ. إذ
تزدهر الفلسفة المثالية، وبتعبير آخر: أشد الفلسفات رجعية عند الماركسية،
في أرقى المجتمعات، وأكثرها تطوراً من الناحية الاقتصادية والتكنيكية.
بينما تختار العاصفة المادية لها مكاناً، في مجتمعات متأخرة اقتصادياً واجتماعياً،
كفرنسا، بل إن المادية التطورية والديالكتيك نفسهما، لم يظهرا إلا في(1/74)
ألمانيا، يوم كانت متأخرة في شروطها المادية على انكلترة، بعدة درجات.
ومع هذا تريدنا الماركسية، أن نصدق تفسيرها للتفكير الفلسفي
وتطوراته، على أساس الوضع الاقتصادي ونموه.
وإذا حاولت الماركسية، أن تجد لها المفارقات مبرراً لتعبيرها استثناءً
عن القانون. فماذا يبقي عندها من دليل على صحة القانون نفسه. لتكون
هذه المفارقات استثنائية؟؟ ولماذا لا تكون دليلاً على خطأ القانون نفسه،
بدلاً من أن نلتمس المعاذير لها من هنا وهناك؟!!.
وهكذا نستنتج_ مما سبق_ أن لا علاقة حتمية بين المفاهيم الفلسفية
للمجتمع والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة فيه.
* * *
وأما العلاقة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، فتتوقف دراستها_ بصورة
مفصلة_ على تحديد مفهوم الفلسفة، ومفهوم العلم، والأسس التي يرتكز
عليها التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، لنستطيع أن نعرف ما يمكن من
تفاعل وارتباط بين الحلقتين. وهذا ما سنتركه إلى ((فلسفتنا)) ولكننا لا نترك
هذا المناسبة دون أن نشير بإجمال، إلى شكنا في التبعية المفروضة على
الفلسفة للعلوم الطبيعية فإن الفلسفة قد تسبق العلم أحياناً، إلى بعض الإتجاهات
في تفسير الكون، ثم يجري العلم بعد ذلك في اتجاهها، بطريقته الخاصة.
وأوضح مثل على ذلك التفسير الذري للكون، الذي قال به الفيلسوف
اليوناني ديمقراطيس، وقامت على أساسه عدة مدارس فلسفية، على مر
التاريخ، قبل أن تصل العلوم الطبيعية إلى مستوى تتمكن فيه من التدليل على
هذا التفسير. واستمر التفسير يحمل الطابع الفلسفي الخالص، حتى حاول
أن يدخل الحقل العلمي_ لأول مرة_ على يد(دالتن) عام(1805)،
حيث استخدم الفرضية الذرية، لتفسير النسب الثابتة في الكيمياء.
* * *
ولم يبق علينا بعد هذا، إلا أن نفحص الطابع الطبقي للفلسفة. فإن
الماركسية تؤكد أن الفلسفة لا يمكن أن تتجرد عن إطارها الطبقي، بل هي
دائماً تعبير عقلي رفيع، عن مصالح طبقة معينة. قال موريس كونفورت:
(((1/75)
كانت الفلسفة دوماً تعبر، ولا تستطيع أن تعبر عن وجهة نظر طبقية. فكل فلسفة عبارة عن وجهة نظر طبقه ما، عن العالم. طريقة تدرك بها الطبقة، مركزها وأهدافها التاريخية. فكانت المدارس الفلسفية، تعبر عن نظرة الطبقة، ذات الإمتيازات، إلى العالم، أو عن وجهة نظر الطبقة التي كانت تكافح، لتصبح طبقة ذات امتيازات))(1).
ولا تكتفي الماركسية بمجمل من القول كهذا، بل تضع النقاط على
الحروف فتؤكد أن الفلسفة المثالية(وتعني بها كل فلسفة ترفض التفسير
المادي البحث للعالم) هي فلسفة الطبقات الحاكمة، والأقليات المستغلة التي
تتبني المثالية على مر التاريخ_ بوصفها فلسفة محافظة_ لتستعين بها على
إبقاء القديم على قدمه. وأما المادية فهي على نقيض ذلك، لأنها كانت
تعبر دائماً عن المفهوم الفلسفي للطبقات المضطهدة، وتقف إلى جانبها في
كفاحها، وتسند الحكم الديمقراطي والقيم الشعبية(2).
وتشرح الماركسية هذين الموقفين المتناقضين. من المثالية والمادية،
على أساس اختلاف الفلسفتين في نظريتهما عن المعرفة. وفي هذا تقع
الماركسية في خلط، بين نظرية المعرفة في المجال الكوني، وبينها في المجال
الأخلاقي فتعتبر أن تأكيد المثالية على حقائق مطلقة الوجود، يتضمن إيمانهم
بقيم مطلقة للوضع الاجتماعي أيضاً. فما دامت المثالية، أو الميتافيرية،
تؤمن بأن الحقيقة العليا ((الله)) في الوجود مطلقة وثابتة، فهي تؤمن_
أيضاً_ بأن الظواهر العليا في المجتمع، من حكومة وأوضاع سياسية
واقتصادية، حقائق ثابتة مطلقة أيضاً. لا يجوز تغييرها واستبدالها بغيرها.
والحقيقة هي: أن وجود حقائق مطلقة وفقاً لنظرية المعرفة الفلسفية
عند الميتافيزية، ولمفهومها عن الوجود، لا يعني الاعتراف بنظير هذا
الإطلاق والشمول، على الصعيد الاجتماعي والسياسي ولذلك نجد أرسطو
__________
(1) المادية الديالكتيكية، ص32.
(2) راجع دراسات في الاجتماع، ص81.(1/76)
زعيم الميتافيزية، الفلسفية، يؤمن بالنسبية، على الصعيد السياسي، ويقرر
أن الحكومة الصالحة تختلف باختلاف الأحوال والظروف، ولم يمنعه القول
بالصلاح النسبي_ هذا_ في المجال الاجتماعي، من الاعتقاد بالحقائق
المطلقة في الفلسفة الميتافيزيقية.
وسنترك درس هذه الناحية دراسة دقيقة، إلى(فسفتنا)، ونقف
هنا لحظة لنرى: هل يصدق التاريخ هذه المزاعم، التي تقررها الماركسية
عن الاتجاه التاريخي الطبقي للمثالية والمادية؟؟.
ويمكننا أن نأخذ مثالين من التاريخ. من تاريخ المادية على الخصوص: أحدهما:(هرقلطيس) اكبر فيلسوف للمادية في العالم القديم. والآخر:
(هوبز) الذي يعتبر من أقطاب المادية في الفلسفة الحديثة.
أما (هرقليطس) فهو أبعد إنسان عن الروح الشعبية، التي تسلكها
الماركسية في جوهر الفلسفة المادية. فقد كان سليل أسرة إرستقراطية نبيلة،
لها المنزلة الأولى بين أهل المدينة وقد شاء الحظ أن يندرج في مناصبها الكبيرة،
حتى أصبح حاكم المدينة المسيطر. وقد كان يعبر دائماً، وفي كل تصرفاته
عن نزعته الأرستقراطية، وترفعه على الشعب، واستهانته به، حتى
كان يصفه تارة بقوله: (أنعام تؤثر الكلأ على الذهب)، وأخرى بقوله:
(كلاب تنبح كل من لا تعرفه).
هكذا تجسّدت_ في العالم القديم_ المادية الديالكتيكية في شخص،
يمكن أن يوصف بكل شيء إلا بالروح الديمقراطية ومساندة الحكم الشعبي.
بينما كان إمام المثالية في دنيا اليونان، (أفلاطون)، يدعو إلى فكرة
ثورية؟ تتجسد في نظام شيوعي مطلق، ويشجب الملكية الخاصة بكل
ألوانها. فأي الفيلسوفين كان أقرب للثورية، والقيم التحررية في رأي
الماركسية؟!
و(هوبز) الذي حمل في مطلع عهد النهضة، لواء فلسفة مادية
خالصة، معارضاً بها ميتافيزيقية(ديكارت)... لم يكن أحسن حالاً من
(هرقليطس) فقد كان معلماً لأمير من الأسرة المالكة في انكلترة، (هو
الذي اعتلى عرش انجلترا بعد ذلك باسم: شارل الثاني عام 1660)،(1/77)
وبحكم علاقته هذه، ناهض الثورة الشعبية الكبرى، التي فجّرها الشعب
الانجليزي، بقيادة (كرومويل) حتى إذا دكّت الثورة عرش الملكية،
وإقامت مكانها جمهورية يرأسها (كرومويل)، اضطر فيلسوفنا المادي،
إلى الفرار والالتجاء إلى فرنسا، التي كانت معقلاً قوياً للملكيين. وهناك
استمر في مناصرته الفكرية للملكية المطلقة، ووضع كتابه(التنين)،
الذي ضمّنه فلسفته السياسية، وأكد فيه على ضرورة سلب أفراد الشعب
حرياتهم، وإقامة الملكية على أساس من الإستبداد المطلق. وفي الوقت الذي
كانت تؤكد فيه الفلسفة المادية، هذا الاتجاه السياسي، على يد(هوبز)
كانت الفلسفة(الميتافيزيقية) تقف موقفاً معاكساً، يتمثل في عدة من
أبطالها المفكرين، الذين عاصروا(هوبز) كالفيلسوف الصوفي الكبير
(باروخ سبينوزا) الذي آمن بحق الشعب في انتقاد السلطة، بل وفي الثورة
عليها. ودعا إلى الحكم الديمقراطي قائلاً:(كلما اتسعت مشاركة الشعب
في الحكم، قوي التحاب والإتحاد).
فأي الفلسفتين كانت تسير في ركاب الأرستقراطية والإستبداد؟!.
فلسفة(هرقليطس) الأرستقراطي، أم فلسفة أفلاطون واضع كتاب
الجمهورية. فلسفة(هوبز) الإستبدادي، أم فلسفة(سبينوزا)، القائل
بحق الشعب في الحكم.
بقي علينا أن نلاحظ شيئاً آخر، وهو: أن التفكير الفلسفي لمّا كان
طبقياً في رأي الماركسية، فهو تفكير حزبي دائماً. فلا يمكن لأي باحث
فلسفي، أن يدرس مسائل الفكر الإنساني، دراسة موضوعية نزيهة،
بل الدراسات الفكرية كلها ذات لون حزبي صارخ، ولأجل هذا لا تتحاشى
الماركسية عن إبراز الطابع الحزبي لفلسفتها وتفكيرها الخاص، والإعتراف
باستحالة النزعة الموضوعية في البحث بالنسبة إليها، وإلى كل المفكرين،
وتكرر دائماً: أن النزعة الموضوعية والنزاهة التامة في البحث، ليست إلا
أسطورة بورجوازية يجب القضاء عليها قال الكاتب الماركسي الكبير
(تشاغين):
(((1/78)
لقد ناضل لينين بثبات وإصرار... ضد النزعة الموضوعية في النظرية، وضد اللاتحيز واللاّحزبية البورجوازيين. ومنذ عام 1890 سدّد لينين طعنة نجلاء،
إلى النزعة الموضوعية البورجوازية، التي كان ينادي
بها الماركسيون الشرعيون، أولئك الذين كانوا ينتقدون الموقف الحزبي في النظرية، ويطالبون بالحرية في ميدان النظرية... لقد بيّن في نضاله ضد الماركسية الشرعية،
وضد نزعة المراجعين: أن النظرية الماركسية من واجبها
أن تعلن بصراحة، وحتى النهاية، مبدأ الروح الحزبية البروليتارية...ولكي نقدر حق قدره هذا الحدث أو ذالك، من أحداث التطور الاجتماعي، فينبغي النظر إليه من
زاوية مصالح الطبقة العاملة، والتطور التاريخي لهذه
الطبقة... فالروح الحزبية هي التي تمكّن الطبقة العاملة،
من أن تبرّر علمياً، الضرورة التاريخية لإقامة (دكتاتورية البروليتاريا) ))(1).
وقال لينين نفسه:
((إن المادية تفرض الموقف الحزبي، لأنها في تقدير
كل حادث تجبر على الإنحياز صراحة، ودون مواربة،
إلى وجهة نظر فئة اجتماعية معينة))(2).
وعلى هذا الأساس، وجه جدانوف نقداً قاسياً لكتاب(الكسندروف)
في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ دعا فيه مؤلفه إلى التساهل والنزعة الموضوعية
في البحث فنقده جدانوف بحرارة وكتب يقول:
((إن المهم في نظري، هو أن المؤلف يستشهد بـ (تشرينشفسكي)، لكي يبين: أنه يجب على مؤسسي
الأنظمة الفلسفية المختلفة، وحتى المتناقضة فيما بينها،
أن يكونوا أكثر تساهلاً واحدهم تجاه الآخر ولما كان
المؤلف قد استشهد بهذه الفقرة( أي بفقرة من كلام تشرينشفسكي في تحبيذ التساهل والموضوعية) دون
تعليق، فمن الواضح أنها تمثل وجهة نظره الخاصة.
فإذا كان الأمر كذلك، كان من الجلي أنه يسير في
طريق، إنكار مبدأ الموقف الحزبي في الفلسفة، ذلك
__________
(1) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، ص79_72.
(2) حول تاريخ تطور الفلسفة، ص21.(1/79)
المبدأ الجوهري في الماركسية اللينينية))(1).
ونحن بدورنا نتساءل، في ضوء هذه النصوص: ماذا تقصد الماركسية
من التشديد على الموقف الحزبي في الفلسفة، والتحيز في كل مجال فكري
إلى وجهة نظر الطبقة التي تدافع عن مصالحها فإن كانت تعني بذلك أن من
الضروري للفلاسفة الماركسيين أن يجعلوا مصلحة الطبقة العاملة، هي المعيار
فيما يقبلون ويرفضون من آراء، فلا يسمجون لأنفسهم بتبني أي فكرة،
تتعارض مع تلك المصلحة، وإن توفرت عليها الأدلة والبراهين.. فمعنى
هذا أنها تنتزع من نفوسنا الثقة بأقوالها، وتجعلنا نشك في إيمانها بأي رأي
تبديه، أو فكرة تتحمس لها. ويصبح من الجائز أن يكون ماركس، أعرف
الناس بأخطائه، التي كان يكافح في سبيلها، ويعرضها بوصفها معاجز
التفكير الحديث.
وأما إذا كانت تعني الماركسية من الموقف الحزبي، أن كل فرد ينتمي
إلى طبقة ويدافع عن مصالحها، ينساق دون قصد إلى ما يتفق مع مصالح
تلك الطبقة من مفاهيم وآراء، ولا يمكن أن يتجرد عن وصفه الطبقي خلال
البحث مهما حاول اصطناع النزعة الموضوعية وتكلفها، إذا كانت
الماركسية تعني هذا، فإنه يؤدي بها إلى النسبية الذاتية التي تحاربها دائماً.
ولعل القاريء يتذكر النسبية الذاتية، من بين المذاهب التي استعرضناها
في نظرية المعرفة من(فلسفتنا) وهو المذهب القائل: بأن الحقيقة ليست
مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي، وإنما هي مطابقة الفكرة للشروط الخاصة،
التي توجد في تركيب الفرد العضوي والنفسي، فالحقيقة بالنسبة إلى كل
شخص، ما تتفق مع تركيبه الخاص، لا يطابق الواقع الخارجي، وهي
لأجل ذلك نسبية ذاتية، بمعنى أنها تختلف من فرد لآخر. فما هو حقيقة
بالنسبة إلى شخص، لا يكون كذلك بالنسبة إلى شخص آخر.
والماركسية تشن حملة عنيفة ضد هذه النسبية الذاتية، وتعتبر الحقيقة
هي مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي، غير أن الواقع الموضوعي لمّا كان
__________
(1) حول تاريخ تطور الفلسفة ص18.(1/80)
متطوراً، فالحقيقة التي تعكسه متطورة أيضاً، فهي حقيقة نسبية، ولكن
النسبية هنا موضوعية، تابعة لتطور الواقع الموضوعي، وليست ذاتية تابعة
للتركيب العضوي والنفسي للفرد المفكر. هذا ما تقوله الماركسية في نظرية
المعرفة، ولكنها بتأكيدها على الطابع الطبقي والحزبي للتفكير، وعلى
استحالة التجرد من مصالح الطبقة، التي ينتمي إليها المفكر، تسير في طريق
النسبية الذاتية من جديد، إذ تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكرة للمصالح
الطبقية للمفكر لأن كل مفكر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلا في حدود هذه
المصالح. فلا يمكن للماركسية حين تقدم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع،
أن تزعم لهذا المفهوم القدرة على تصوير الواقع، وإنما كل ما تستطيع أن
تقره هو: أنه يعكس ما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع.
فمعيار الحقيقة عند كل مدرسة فكرية، هو مدى اتفاق الفكرة مع المصالح
الطبقية، التي تدافع عنها. وبهذا تصبح الحقيقة نسبية، تختلف من مفكر إلى
آخر، ولكن لا بحسب التركيب العضوي والنفسي للأفراد. بل بحسب
التركيب الطبقي والمصالح الطبقية التي ينتمون إليها. فالحقيقة نسبية
طبقية، تختلف باختلاف الطبقات ومصالحها، وليست نسبية موضوعية،
ولا يمكن التأكد من احتواء الحقيقة على جانب موضوعي من الواقع، أو
تحديد هذا الجانب فيها، ما دامت الماركسية لا تأذن للتفكير_مهما كان
لونه_ أن يتجاوز حدود المصالح الطبقية وما دامت المصالح الطبقية توحي
دائماً بما يشايعها من أفكار، بقطع النظر عن خطئها وصوابها وينتج من
ذلك شك مطلق مرير، في كل الحقائق الفلسفية.
جـ _ العلم:
ولا أريد أن أقف عند الأفكار العلمية طويلاً، خوفاً من الإسهاب.
ولكننا لن نستمع_ مهما وقفنا_ إلا نفس النغمة، التي كانت ترددها
الماركسية في الحقل الفلسفي، وفي كل مرفق من مرافق الوجود الإنساني.
فالعلوم الطبيعية_ في رأيها_ تتدرّج وتنمو طبقاً للحاجات المادية، التي(1/81)
يتفتح عنها الوضع الاقتصادي، وتستجد شيئاً فشيئاً تبعاً لتطور الظروف
الاقتصادية وتكاملها. ولما كانت هذه الظروف، نتاجاً تاريخياً لوضع القوى
المنتجة، وأساليب الإنتاج، فلا غرو أن تصل الماركسية في تفسيرها للحياة
العلمية إلى الإنتاج أيضاً، كما تصل إليه عند نهاية كل شوط، في تحليل
حركة التاريخ وعمليته المتعددة الجوانب. فكل مرحلة تاريخية تتكيف
اقتصادياً وفقاً لأساليبها في الإنتاج، وتساهم في الحركة العلمية في المدى
الذي يفرضه واقعها الاقتصادي، وحاجاتها المادية النابعة من هذا الواقع.
فاكتشاف العلم للقوة البخارية المحركة، في أواخر القرن الثامن عشر مثلاً،
كان وليد الظروف الاقتصادية، ونتيجة لحاجة الإنتاج الرأسمالي إلى
قوة ضخمة، لتحريك الآلات التي يعتمد عليها هذا الإنتاج. وكذلك
سائر الكشوف والتطورات، التي يحفل بها تاريخ العلم.
وقد ذكر (روجيه غارودي)، لإيضاح تبعية العلوم للوضع الاقتصادي
والتكنيكي، للقوى المنتجة: أن المستوى التكنيكي، الذي تبلغه القوى
المنتجة، هو الذي يضع أمام العلم قضايا، ويحتم عليه بحثها وحلها، فيتقدم
ويتكامل وفقاً لما يعالجه من هذه القضايا، النابعة من تطور القوى المنتجة،
ووضعها الفني والتكنيكي. وعلى هذا الأساس يفسر لنا(غارودي)،
كيف أن اكتشافاً واحداً قد يتوصل إليه عدة علماء في آن واحد كاكتشاف
التعادل بين الحرارة والعمل، الذي حققه علماء ثلاثة، في وقت واحد،
وهم: (كارنو) في فرنسا، و(جول) في إنجلترا، و(ماير) في ألمانيا؛
وكما يقدّم تطور القوى المنتجة بين يدي العلم القضايا، التي يجب عليه حلها،
كذلك يعبّر لنا(غارودي) عن وجه آخر، من تبعية العلوم لوضع القوى
المنتجة وهو أن تطورها يهيء للعلم أدوات البحث التي يستخدمها، ويؤمّن
له مجموعة الأدوات الضرورية للمراقبة والاختبار(1).
__________
(1) راجع الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، ص11_12.(1/82)
وفيما يلي نلخص ملاحظاتنا، على هذا الموقف الماركسي في تفسير العلم:
أ_ إذا استثنينا العصر الحديث، نجد أن المجتمعات التي سبقته إلى
الوجود، كانت متقاربة إلى حد كبير في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن
بينها أي فرق جوهري من هذا الناحية. فالزراعة البسيطة، والصناعة
اليدوية، هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج، في مختلف تلك المجتمعات. ومعنى
ذلك في العرف الماركسي، أن القاعدة التي تقوم عليها هذه المجتمعات كلها
واحدة. وبالرغم من ذلك فإنها تختلف اختلافاً كبيراً، في مستوياتها العلمية.
فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته، هي العامل الأساسي، الذي يحدد لكل
مجتمع محتواه العلمي، ويطوّر الحركة العلمية وفقاً لدرجة التاريخية.. لما
وجدنا تفسيراًًًًًً لهذا الإختلاف، ولا مبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون
مجتمع، ما دامت القوة الرئيسية التي تصنع التاريخ، واحدة في الجميع.
فلماذا اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى مثلاً، عن
المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع إشتراكها في نوعية
القاعدة!. وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية، الحركة
العلمية في مختلف الحقول بدرجة عالية نسبياً، ولم يوجد لها أي تباشير في
أوروبا الغربية، التي هالها ما رأته في حروبها الصليبية، من علوم المسلمين
ومدنيتهم؟.
ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها، أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل
إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها!.. فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة،
عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في
القرن الثالث عشر. فهل كانت القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها الصين
القديمة، تختلف في جوهرها عن قاعدة المجتمعات الأخرى؟!.
ب_ إن الجهود العلمية، وإن كانت تعبّر في كثير من الأحايين عن
حاجة مادية اجتماعية تتطلب الإبداع، ولكن هذه الحاجة لا يمكن أن
تكون هي التفسير الأساسي الوحيد، لتاريخ العلم وتطوراته. فإن كثيراً(1/83)
من الحاجات، بقيت تنتظر آلاف السنين كلمة العلم بشأنها، ولم تستطع
بمجرد وجودها في حياة الناس المادية، أن تظفر من العلم بمكسب، حتى
آن للعلم أن يصل إلى الدرجة التي تتيح له قضاء هذه الحاجة. ولنأخذ المثال
على ذلك من كشف علمي، قد يبدو الآن تافهاً ولكنه عبر في حينه عن
تطور علمي جديد، وهو إختراع النظارات. فحاجة الناس إلى النظاّرات
مثلاً قديمة، قدم الإنسان، ولكن هذه الحجة المادية، بقيت تنتظر دورها،
حتى جاء القرن الثالث عشر، فاستطاعت أوروبا أن تأخذ عن المسلمين،
معلوماتهم عن انعكاس الضوء وانكساره، وبالتالي تمكّن العلماء على
أساس هذه المعلومات، أن يصنعوا النظارات فهل كان هذا الحدث العلمي
وليد حاجة جديدة، نبعت عن الواقع الاقتصادي والمادي للمجتمع؟!
أو كان نتيجة لعوامل فكرية، استطاعت أن تؤدي إلى اختراع النظارات
عند وصولها إلى درجة معينة من تطورها وتكاملها؟!.
ولو كان بإمكان الحاجة المنبثقة من الظروف الاقتصادية، أن تفسر
العلم والكشوف العلمية، فكيف يمكن أن نفهم اكتشاف أوروبا لقدرة
المغنطيس على تعيين الاتجاه، في القرن الثالث عشر، حين استعملت الإبرة
المغنطيسية في إرشاد السفن؟!. مع أن الطريق البحري كان هو الطريق
الرئيسي للتجارة في قرون خلت، وكان الرومان يعتمدون في التجارة على
طريق البحر بصورة رئيسية، ولم يتح لهم_بالرغم من ذلك_ أن يكتشفوا
للمغناطيس قدرته على توجيه السفن. ولم تشفع لهم حاجاتهم النابعة من
واقعهم الإقتصادي بذلك، بينما تؤكد بعض الروايات التاريخية، أن الصين
قد ظفرت بهذا الكشف قبل عشرين قرناً تقريباً.
وقد يتفق للعلم أن يسبق بفتوحه الحاجة الاجتماعية إذا استكمل الشروط
الفكرية للفتح الجديد. فالقوة المحركة للبخار هي من حاجات المجتمع
الرأسمالي في رأي الماركسية، ولكن العلم قد اكتشفها_بالرغم من ذلك_(1/84)
في القرن الثالث الميلادي(1) قبل أن تظهر طلائع الرأسمالية الصناعية، على
مسرح التاريخ، بأكثر من عشرة قرون. صحيح أن المجتمعات القديمة،
لم تستثمر هذه القوة البخارية، ولكننا لا نتحدث عن مدى قدرة المجتمع
على الاستفادة من العلوم، وإنما نبحث الحركة العلمية نفسها، وندرس
ما إذا كانت تعبيراً عقلياً عن الحاجة الاجتماعية المتجددة بدورها، أو
حركة أصيلة لها شروطها السيكولوجية وتاريخها الخاص.
جـ _والماركسية حين تحاول أن تقصر نطاق العلم، على القضايا
والمشاكل التي تضعها وسائل الإنتاج، وأوضاعها التكنيكية أمامها، تقع
في خلط بين العلوم الطبيعية النظرية من ناحية، والفنون العملية من ناحية
أخرى. فالفنون العملية الصناعية، التي نبعت من خلال التجارب والخبرات
الإعتيادية، التي حصل عليها رجال الأعمال، وتوارثوها، كانت تسخر
دائماً لحساب القوى المنتجة، وتنمو تبعاً لما تقدمه هذه القوى من مسائل
ومشاكل، تتطلب منهم الجواب عنها، أو التغلب عليها. وأما العلوم
النظرية التجريبية، فلم تكن وقفاً على تلك المسائل والمشاكل، بل إننا
نجد أن التطور العلمي النظري، والتطور الفني العملي، سار لفترة كبيرة
من الزمن، في خطين منفصلين، وذلك منذ القرن السادس عشر، إلى
القرن الثامن عشر. فقد مضى على الفنون العملية_ بعد ميلاد العلم في القرن
السادس عشر_ قرنان، قبل أن تتهيأ لها الاستفادة من العلم، وبقي الحال
على هذا تقريباً، حتى بدأت صناعة الكهرباء سنة(1870).
ومن المفيد بهذا الصدد أن نعلم، أن الثورة العلمية في الكيمياء، التي
قام بها(لافوازيه)، لم يقلبها الناس عامة، إلا في نهاية القرن الثامن عشر.
وقد استطاعت الفنون العملية خلال ذلك، إجراء تحسينات في صناعة الحديد،
وصناعة الفولاذ، قبل أن يعرف هؤلاء الفنانون الفروق الكيمياوية الأصلية،
__________
(1) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، ص12.(1/85)
بين الحديد الصلب، والحديد المطاوع، والفولاذ، تبعاً لإختلاف نسبة
الكربون فيها.
وهذا الانفصال بين خط التفكير العلمي، والخبرة البحتة في الفنون
العملية، ردحاً من الزمن، يعني أن للعلم تاريخه الفكري، وليس نتاجاً
لحاجات الإنتاج المتجددة، واستجابة لمستلزماتها الفنية فحسب.
وأما ما لاحظه(غارودي)، من أن كشفاً علمياً واحداً، قد يصل
إليه عدة علماء في وقت واحد... فهو لا يبرهن على أن الكشوف العلمية
دائماً وليدة الظروف التكنيكية. لوسائل الإنتاج، كما شاءت الماركسية أن
تستنتجه من هذه الظاهرة، زاعمة: أن الظروف الاقتصادية والمادية،
حين تسمح لقوى الإنتاج، بطرح قضية جديدة إلى العلماء، وتدفعهم إلى
التفكير في حلها، يصل هؤلاء العلماء إلى الكشف المطلوب، في أوقات
متقاربة، لأن القوة الدافعة لهم قد وجدت في وقت واحد، من خلال
تطور الإنتاج.
ولكن هذا ليس هو التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة،. بل من الممكن
تفسيرها عن طريق تشابه أولئك العلماء، في الخبرة والشروط الفكرية
والسيكولوجية، والمستوى العلمي العام.
والدليل على أمكان هذا التفسير، وجود هذه الظاهرة التي ندرسها،
في الحقول العلمية النظرية، البعيدة عن مشاكل الإنتاج وتطوراته. فقد
توصّل مثلاً ثلاثة من علماء الاقتصاد السياسي، في وقت واحد إلى (النظرية
الحدّية) في تفسير القيمة، وهم(جيفونز) الانجليزي سنة(1871)
و(فالراس) السويسري سنة(1874)، و(كارل منجر) النمساوي سنة
(1871). ومن الواضح أن النظرية الحدّية، ليست إلا تفسيراً نظرياً معيّناً
لظاهرة اقتصادية قديمة، في حياة المجتمع الإنساني، وهي القيمة التبادلية.
فلا علاقة للمحتوى العلمي للنظرية، بمشاكل الإنتاج أو تطور القوى
الطبيعية المنتجة، ولم تستمد دليلها من هذا التطور.
فما هو تفسير وصول ثلاثة من أقطاب الاقتصاد، في وقت واحد تقريباً
إلى وجهة نظر معينة، في تفسير القيمة، سوى أنهم كانوا متقاربين في(1/86)
شروطهم الفكرية، وقدرتهم التحليلية؟!.
د_ وأما تبعية العلوم الطبيعية لتطور القوى المنتجة، بوصفه المصدر
الذي يموّن العلم بأدوات البحث الضرورية له، فهي في الواقع علاقة مقلوبة،
ذلك أن العلوم الطبيعية، وإن كانت تنمو وتتكامل طبقاً لما تظفر به من
أدوات للتجربة والاختبار، من مراقب ومجاهر وآلات تسجيل، وما إليها..
ولكن هذه الأدوات نفسها، ليست إلا نتاجاً للعلم، يقدمه العلم بين يدي
العلماء، ليتيح لهم استخدامه في الوصول إلى مزيد من النظريات، واستكشاف
الأسرار المجهولة. فاختراع المجهر في القرن السابع عشر، كان ثورة في
وسائل الإنتاج، لأنه استطاع أن يزيح الستار عن دنيا مجهولة، لم يكن قد
اطّلع عليها الإنسان قط، ولكن ما هو المجهر؟. إنه نفسه ليس إلا نتاجاً
للعلم، ولاكتشاف قوانين الضوء، وكيفية انعكاسه على العدسات.
ويجب أن نعرف بهذا الصدد، أن قصة العلم لا تتمثل كلها في الأدوات
فما أكثر الحقائق التي كانت أدوات اكتشافها جاهزة، ولكنها ظلت مستورة
عن عين الإنسان، حتى بلغ التفاعل والتكامل في الفكر العلمي إلى درجة
سمحت له باكتشاف الحقيقة، وصوغها في مفهوم علمي خاص. ويمكننا
أن نقدّم مثلاً بسيطاً على ذلك، من فكرة الضغط الجوي، هذه الفكرة التي
تعتبر من الفتوح الكبرى للعلم، في القرن السابع عشر. فهل تدري كيف
سجل العلم هذا الفتح العظيم؟. إنه سجله في فكرة طرأت على ذهن
(تورتشيلي)، إذ لاحظ أن المضخة لا تستطيع أن ترفع الماء إلى أكثر من
(34) قدماً. وقد سبقه إلى هذه الملاحظة آلاف من رجال الأعمال،
خلال قرون، كما سبقه إليها بوجه خاص العالم الكبير(جاليلو)، ولكن
الشيء العظيم الذي قدّر(لتروتشيلي)، أن يقدمه إلى العلم، هو تفسير
الظاهرة، التي كانت معروفة منذ قرون. فقد قال أن الحد الذي ترفع
المضخة إليه الماء، فلا تزيد عنه(34قدماً)، قد يكون هو مقياس ما للجو
من ضغط، وإذا كان الضغط الجوي قادراً على حمل عمود من الماء طوله
((1/87)
34قدماً). فهو لابد حامل عموداً من الزئبق أقصر من العمود المائي
لأن الزئبق أثقل من الماء، وسرعان ما تأكد من صحة هذه النتيجة، وأقام
عن طريقها الدليل العلمي على وجود الضغط الجوي، الأمر الذي قام على
أساسه عدد عظيم من الكشوف والاختراعات.
فمن حقنا أن نقف عند هذا الكشف العلمي، بوصفه حادثاً تاريخياً،
لنتساءل: لماذا وجد هذا الحدث العلمي في فترة معينة، من القرن السابع
عشر، ولم يتحقق قبل ذلك؟! أفلم تكن هناك حاجة للإنسان قبل هذا،
إلى الاستفادة من قوى الضغط وتخسيره، في قضاء مختلف الحاجات؟!،
أو لم تكن الظاهرة التي وضع (تورتشيلي) نظريته في ضوئها، معروفة
خلال قرون، منذ بدء استعمال المضخات المائية؟!، أو لم تكن التجربة
التي قام بها لإثبات النظرية علمياً، ميسورة لغيره ممن التفت إلى الظاهرة،
ولم يحاول أن يفسرها؟!.
ونحن إذا لم نؤمن للحركة العلمية بأصالتها وتطورها، وفقاً لتراكم
الأفكار وتفاعلها، وشروطها السيكولوجية والفكرية الخاصة فسوف لن
يجد هذا الكشف العلمي، ولا العلم بوجه عام، تفسيره الكامل في قوى
الإنتاج والأوضاع الاقتصادية.
ولن نتكلم الآن عن الأفكار الاجتماعية، وعلاقتها، بالعامل الاقتصادي
لأن لمعالجة هذه النقطة موضعها في بحث مقبل من هذا الكتاب.
3_ الطبقية الماركسية
ومن النقاط الجوهرية في الماركسية مفهومها الخاص عن الطبقية الذي
كوّنته، وفقاً لطريقتها العامة في دمج الدراسة الاجتماعية الاقتصادية،
والنظر دائماً إلى المدلولات الاجتماعية ضمن الإطار الاقتصادي، فهي
ترى أن الطبقات بوصفها ظاهرة اجتماعية، ليست إلا تعبيراً ذا طابع
اجتماعي عن القيم الاقتصادية السائدة في المجتمع، من الربح والفائدة والأجر
وألوان الاستثمار، وتؤكد لأجل هذا، أن الأساس الواقعي للتركيب
الطبقي، ولظهور أي طبقة في المجتمع، هو العامل الاقتصادي، لأن
انقسام الناس إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لا تملك منها شيئاً،(1/88)
هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع، بأشكالها المتنوعة تبعاً
لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على الطبقة المحكومة، من
عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة.
والحقيقة أن الماركسية حين أعطت الطبقة مفهوماً اقتصادياً يتمثل في
ملكية وسائل الإنتاج أو انعدام هذه الملكية، كان من الطبيعي لها أن تؤمن
بقيام التركيب الطبقي في المجتمع، على أساس اقتصادي، ما دامت قد
أدرجت ذلك في مفهومها عن الطبقية بالذات.
ولعل هذه النقطة هي أوضح مثال من بين النقاط التحليلية في الماركسية،
لما حرصت عليه الماركسية، وأدته ببراعة من تفسير المدلولات الاجتماعية
كلها، تفسيراً اقتصادياً وتطعيمها بقيمها الاقتصادية الخاصة.
غير أن هذا البراعة في التحليل، من الناحية النظرية، كلفت الماركسية
الابتعاد عن المنطق الواقعي للتاريخ، وعن طبيعة الأشياء_ لا كما تبدو
وتتعاقب في ذهن العلماء الماركسيين_ بل كما تبدو في الواقع، لأن التحليل
الماركسي يفترض أن الواقع الاقتصادي_ ملكية وسائل الإنتاج، وعدم
ملكيتها_ هو الأساس الواقعي والتاريخي للتركيب الطبقي، وانقسام المجتمع
إلى طبقة حاكمة_لأنها تملك_ وطبقة محكومة_ لأنها لا تملك مع أن
الواقع التاريخي ومنطق الأحداث يبرهن في أكثر الأحايين على العكس،
ويوضح أن أوضاع الطبقات، هي السبب في الأوضاع الاقتصادية التي
تتميز بها تلك الطبقات، فالوضع الاقتصادي للطبقة يتحدد وفقاً لكيانها
الطبقي، وليس كيانها الطبقي نتيجة لوضعها الاقتصادي.
وأكبر الظن، أن الماركسية حين قررت أن التركيب الطبقي قائم على
أساس اقتصادي، وأكدت على أن الطبقة نتيجة للملكية لم تدرك النتيجة التي
تترتب على ذلك منطقياً، وهي أن النشاط في ميادين الأعمال، هو الأسلوب
الوحيد إلى كسب المقام الاجتماعي، وتكوين طبقة رفيعة في المجتمع،
لأن التكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة، في المجتمع إذا كان نتاجاً(1/89)
للملكية_الوضع الاقتصادي_ فلا بد لها من إيجاد هذه الملكية، إلا
النشاط في ميادين العمل. وقد تكون هذه أغرب نتيجة، يتمخض عنها
التحليل الماركسي لبعدها عن الواقع، وإلا فمتى كان النشاط في ميادين
العمل، هو الطريق الأساسي لتكوين الطبقة الحاكمة في المجتمع. وإن
كانت هذه النتيجة_ التي تترتب منطقياً على التحليل الماركسي_ تنطبق على
ظرف تاريخي، فإنما تنطبق فقط على المجتمع الرأسمالي في ظرف تكوّنه
وتكامله، إذ يمكن لأحد أن يقول أن الطبقة الرأسمالية، قد بنت كيانها
الطبقي عن طريق الملكية التي حصلت عليها بالنشاط الدائب في ميادين العمل
والإنتاج وأما في الظروف التاريخية الأخرى، فلم يكن النشاط العملي،
هو الأساس لتكوّن الطبقات، ولا الدعامة الرئيسية للطبقة الحاكمة في كل
العصور، بل على العكس كانت حالة الملكية تظهر على الأكثر بوصفها
نتيجة للوضع الطبقي، وليست أساساً له.
وإلا فكيف نفسر الحدود الفاصلة التي كانت توضع في المجتمع الروماني
بين طبقة الأشراف، ومجموع العامة بما فيهم طبقة رجال الأعمال الذين
كانوا يدانون الأشراف في ثرواتهم، ويتمتعون بملكيات لا تقل عن ملكيات
أولئك الأشراف بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي، ومن
السلطات السياسية الخاصة التي كان الأشراف يمتازون بها على رجال الأعمال
وغيرهم من الفئات.
وكيف نفسر وجود طبقة(الساموراي) ذات النفوذ الكبير في المجتمع
الياباني القديم التي كانت تأتي في السلم الاجتماعي بعد أمراء الاقطاع
مباشرة، وترتكز في تكوينها الطبقي على خبرتها الخاصة بحمل السيف،
وفنون الفروسية وأساليبها، وليس على الملكية وقيمها الاقتصادية.
وكيف نفسر قيام التنظيم الطبقي في المجتمع الهندي، قبل التاريخ
الحديث بألفي سنة على يد الفاتحين، من الآريين الفيديين الذين غزوا الهند،
وسيطروا عليها، وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً على أساس اللون والدم، ثم(1/90)
تطور التكوين الطبقي، فانقسمت الطبقة الفاتحة الحاكمة إلى طبقة(الكشاترية)
المتميزة بكفاءتها العسكرية وبراعتها في القتال وطبقة(البراهمة)، القائمة
على أساس ديني، وظلت الفئات الأخرى كلها محكومة لهاتين الطبقتين،
بما فيها التجار والصناع الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج. واحتلت القبائل
الوطنية التي ظلت متمسكة بدينها أدنى الدرجات في السلم الاجتماعي،
وتكونت منها طبقة المنبوذين. فلم يكن للملكية أثر في هذا التكوين الطبقي،
الذي ظل يمارس وظيفته الاجتماعية مئات السنين في القارة الهندية قائماً على
أسس عسكرية ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع ملكيتهم،
لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في
سلطانها السياسي والديني.
وأخيراً كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح
الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً، فإننا جميعاً نعلم_ وحتى
انجلز نفسه فقد كان يعترف أيضاً_ بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم
تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العسكرية
والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها
فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.
وهكذا نجد عناصر غير ماركسية، وتنتهي إلى نتائج غير ماركسية
لدى تحليل كثير من التركيبات الطبقية في المجتمعات البشرية المختلفة.
وقد تحاول الماركسية بهذا الصدد الدفاع عن مفهومها في الطبقية عن
طريق القول بالعلاقة المتبادلة بين العامل الاقتصادي وشتى العوامل الاجتماعية
الأخرى الأمر الذي يجعله يتأثر بها، ويتكيف وفقاً لها، كما يؤثر فيها
ويساهم في تكوينها.
غير أن هذا المحاولة وحدها تكفي لنسف المادية التاريخية، والقضاء على
مجدها العلمي الشامخ في دنيا الماركسية، لأنها لا تختلف عندئذ عن التفاسير(1/91)
الأخرى للتاريخ، إلا في التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي نسبياً مع
الاعتراف بالعوامل الأخرى الأصيلة التي تساهم في صنع التاريخ.
وإذا كانت الماركسية على خطأ في تعليل الطبقية بالوضع الاقتصادي
وحده عرفنا من ذلك خطأها أيضاً في إعطاء الطبقة مفهوماً اقتصادياً خالصاً،
لأن الطبقة إذا لم تكن قائمة دائماً على أساس اقتصادي في تركيبها الاجتماعي
فليس من الصحيح إذن أن نعتبر الطبقية مجرد تعبير عن قيمة اقتصادية معيّنة
كما زعمت الماركسية ذلك، الأمر الذي جعلها تصل إلى نتائج غريبة مشابهة
لما أدت إليه نظرتها في تعليل الطبقية وتبريرها من نتائج، فقد رأينا أن
الماركسية حين آمنت بأن الطبقة إنما تتكون وفقاً للشروط الاقتصادية،
والحالة الملكية، كلفها ذلك القول بأن النشاط في ميادين العمل هو الطريق
الوحيد إلى السمو الاجتماعي، وكذلك يمكننا أن نلاحظ الآن أننا إذا أعطينا
الطبقة مفهومها الماركسي، وبالأحرى مفهومها الاقتصادي المبحث القائل
بأن الجماعة التي تعيش على عملها طبقة واحدة، والجماعة التي تعيش على
استثمار وسائل الإنتاج التي تملكها طبقة أخرى، ولم ندخل في مفهوم الطبقة
أي اعتبار آخر سوى هذه القيم الاقتصادية كما تصر الماركسية على ذلك،
لكان معنى هذا أننا أدرجنا كبار الأطباء والمهندسين، ومدراء المؤسسات
التجارية والشركات الكبرى، في نفس الطبقة التي تضم عمال المناجم
وأجراء الزراعة والصناعة، لأنهم جميعاً يعيشون على الأجور، بينما يلزمنا
أن نضع حداً طبقياً فاصلاً بين هؤلاء الأجراء وبين مالكي وسائل الإنتاج
مهما كانت أجور أولئك ومهما كانت نوعية الوسائل المنتجة المتوفرة عند
هؤلاء. وحيث أن الصراع بين الطبقات ضريبة ماركسية لا محيد للطبقات
عن القيام بها فسوف ينتهي بنا ذلك إلى تصور أن صغر مالكي الوسائل
المنتجة سوف يقفون في صراعهم الطبقي إلى صف الطبقة المستثمرة من(1/92)
المالكين بينما يقف كبار الأجراء من المهندسين والأطباء الأخصائيين إلى
صف الكادحين المستثمرين وهكذا ينقلب مدير المؤسسة التجارية الكبرى
عاملاً كادحاً يخوض المعركة ضد المالكين المستثمرين نتيجة لدمج الحقائق
الاجتماعية بالقيم الاقتصادية واتخاذ الجهاز الاقتصادي في توزيع الدخل أساساً
للطبقات الاجتماعية.
ونستنتج من دراستنا هذه للتحليل الماركسي للطبقة نتيجتين خطيرتين:
إحداهما: أن من الممكن قيام الطبقات في المجتمع حتى ولو انعدمت
فيه الملكية الخاصة بصورة قانونية لأن حالة الملكية_ كما عرفنا_ ليست
هي الأساس الوحيد للتكوين الطبقي، وهذه هي النتيجة التي كانت الماركسية
تخاشاها حين أكدت على حالة الملكية، بوصفها السبب الوحيد لوجود الطبقات
كي تبرهن عن هذا الطريق على ضرورة زوال الطبقية واستحالة وجودها
في المجتمع الاشتراكي الذي تلغي فيه الملكية الخاصة. وما دمنا قد تبينّا أن
الملكية الخاصة بصيغتها القانونية ليست هي العامل الوحيد في وجود المجتمع
الطبقي فمن الطبيعي أن ينهار هذا البرهان، ويصبح من الممكن أن توجد
الطبقية. بشكل من الأشكال في المجتمع الاشتراكي بالذات، كما وجدت
في غيره من المجتمعات. وهذا ما سندرسه إن شاء الله باستيعاب أكثر
عند نقد المرحلة الاشتراكية من مراحل المادية التاريخية.
والنتيجة الأخرى هي: أن الصراع في المجتمع_ حيث يوجد_ لا يجب
أن يعكس القيم الاقتصادية التي يقررها جهاز التوزيع في المجتمع فليست
نوعية الدخل الناحية الاقتصادية_ ككون الدخل أجراً أو ربحاً_ هي التي
تفرض الصراع ولا جبهات الصراع مقسمة على أساس تلك الدخول والقيم الاقتصادية.
4_ العوامل الطبيعية والماركسية
ومن مظاهر النقصان البارزة في الفرضية الماركسية، تناسي العوامل
الفيزيولوجية والسيكولوجية والفيزيائية، وإهمال دورها في التاريخ، مع
أنها قد تكون في بعض الأحايين ذات تأثير كبير في حياة المجتمع وكيانه(1/93)
العام، لأنها هي التي تحدد للفرد اتجاهاته العلمية، وعواطفه وكفاءاته
الخاصة، تبعاً لما تتحفه به من تركيب عضوي خاص، وهذه الاتجاهات
والعواطف والكفاءات، التي تختلف في الأفراد وفقاً لتلك العوامل، وتساهم
في صنع التاريخ، وتقوم بأدوار إيجابية متفاوتة في حياة المجتمع.
فكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي لعبته مواهب نابليون العسكرية،
وشجاعته الفريدة، في حياة أوروبا.
وكلنا نعلم بميوعة لويس الخامس عشر، وآثارها التاريخية خلال حرب
السنوات السبع، التي خاضتها فرنسا إلى جانب النمسا. فقد استطاعت امرأة
واحدة، كمدام(بومبادور)، أن تملك إرادة الملك، وبالتالي أن تدفع
فرنسا للاشتراك مع النمسا في حربها، وتحمّل العواقب الوخيمة التي أسفرت
عنها.
وكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي نجم عن حادثة غرام خاصة، في
حياة ملك انجليزي كهنري، إذ أدت تلك الحادثة إلى انفصال العائلة المالكة،
وبالتالي انكترا كلها، عن المذهب الكاثوليكي.
وكلنا نعلم ما فعلته عاطفة الأبوة، التي دفعت بمعاوية بن أبي سفيان،
إلى اتخاذ كل الأساليب الممكنة، لأخذ البيعة لإبنه يزيد، الأمر الذي عبّر
في وقته عن تحوّل حاسم، في المجرى السياسي العام.
فهل كان التاريخ سيتم بنفس الصورة التي وجدت فعلاً، لو لم يكن
نابليون رجلاً عسكرياً حديدياً، ولم يكن لويس ذائباً مستسلماً لمحظياته،
ولم يعشق هنري(آن بولين)، ولم تسيطر عاطفة خاصة على معاوية بن أبي
سفيان.
وليس أحد يدري ماذا كان يحدث؟ لو لم تسمح الشروط الطبيعية
للوباء باكتساح أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وامتصاص مئات الآلاف
من سكانها مما ساعد على انهيارها وتغير الوجه التاريخي العام.
ولا يدري أحد أيضاً أي اتجاه كان يتجه التاريخ القديم، لو أن جندياً
مقدونياً لم ينقذ حياة الاسكندر، في اللحظة المناسبة، فيقطع اليد التي أهوت
عليه بالسيف من خلفه، وهو في طريقه إلى فتح عسكري خطير، امتدت
آثاره عبر الأجيال والقرون.(1/94)
وإذا كانت تلك الصفات من الصلابة، والميوعة، والغرام، والعاطفة،
ذات تأثير في التاريخ، ومجرى الحوادث الاجتماعية. فهل من الممكن أن
نفسر هذه الصفات، على أساس القوى المنتجة والأوضاع الاقتصادية،
لننتهي مرة أخرى إلى العامل الاقتصادي، الذي تؤمن به الماركسية؟!.
الحقيقة أن أحداً لا يشك، في أن هذه الصفات لا يمكن تفسيرها على
أساس العامل الاقتصادي، وقوى الإنتاج. فإن الوسائل المنتجة والظروف
الاقتصادية ليست هي التي كوّنت المزاج الخاص، للملك لويس الخامس
عشر مثلاً، بل كان من الممكن_ لو ساعدت الشروط الطبيعية والسيكولوجية
_ أن يكون لويس الخامس عشر، شخصاً صلباً قوي الإرادة، نظير
لويس الرابع عشر، أو نابليون مثلاً، وإنما نبع مزاجه الخاص، من
الخصائص الفيزيائية والفيزيولوجية والنفسية، التي يتكون منها وجوده
الخاص، وشخصيته المتميزة.
وقد تبتدر الماركسية هنا، قائلة: أليست العلاقات الاجتماعية، التي
أنشأها العامل الاقتصادي في المجتمع الفرنسي، هي التي سمحت للملك
لويس أن يؤثر على التاريخ، ويعكس ميوعته على الأحداث العسكرية
والسياسية، بما أقرّته تلك العلاقات من النظام الملكي الوراثي؟ فالدور
التاريخي الذي أداه هذا الملك ليس في الحقيقة إلا نتاجاً لهذا النظام، الذي هو
بدوره وليد الوضع الاقتصادي وقوى الإنتاج، وإلا فمن يستطيع أن
يقول: أن لويس كان يمكنه أن يؤثر في التاريخ، لو لم يكن ملكاً، ولم
تكن فرنسا تعترف بنظام الملكية الوراثية في الحكم(1) ؟!.
وهذا صحيح، فإن لويس لو لم يكن ملكاً لكان كمية مهملة، في
حساب التاريخ. ولكنا نقول من ناحية أخرى: أنه لو كان ملكاً، يتمتع
بشخصية صلبة وقوة تصميم، لاختلف دوره التاريخي، ولاختلفت بالتالي
أحداث فرنسا السياسية والعسكرية، فما الذي سلب منه صلابة الشخصية،
وحرمه من قوة التصميم؟، أهو النظام الملكي أو العوامل الطبيعية التي
__________
(1) راجع دور الفرد في التاريخ: ص68.(1/95)
ساهمت في تركيبه العضوي وتكوينه الخاص؟!.
وبكلمة أخرى: إن ثلاثة تقادير كان من الممكن أن يوجد أي واحد
منها في فرنسا: السلطة السياسية الجمهورية، والسلطة الملكية المتمثلة في
شخص مائع، والسلطة الملكية المتمثلة في ملك قوي حديدي.
ولكل من هذه التقادير الثلاثة أثره الخاص، في مجرى الحوادث
السياسية والعسكرية، وبالتالي في تكوين فرنسا لفترة من الزمن. فلنتبين
فحوى قوانين التاريخ التي استكشفتها الماركسية، وفسرت على أساسها
التاريخ بالعامل الاقتصادي.
إن هذه القوانين تشير، إلى أن الوضع الاقتصادي لم يكن يسمح بقيام
سلطة جمهورية في البلاد، بل كان يفرض النظام الملكي في الحكم. ولنفترض
أن هذا صحيح، فليس هو إلا جانباً واحداً من المسألة، لأننا نستطيع بذلك
أن نستبعد التقدير الأول، ويبقى التقديران الآخران. فهل هناك قانون
علمي يحتم وجود ملك مائع أو قوي، في تلك الفترة من تاريخ فرنسا،
سوى القوانين العلمية: في الفيزياء والفيزيولوجيا والسيكولوجيا، التي
تفسر شخصية لويس ومزاجه الخاص؟؟.
وهكذا نعرف، أن للأفراد أدوارهم في التاريخ، التي تحددها لهم
العوامل الطبيعية والنفسية، لا قوى الإنتاج السائدة في المجتمع.
وليست هذه الأدوار التاريخية، التي يقوم بها الأفراد وفقاً لتكوينهم
الخاص أدواراً ثانوية في عملية التاريخ دائماً، كما زعم (بليخانوف)
الكاتب الماركسي الكبير إذ أكد على:
((إن الخصائص الفردية، التي يتصف بها الرجال العظام، تحدد السمة الخاصة للحوادث التاريخية، وتحدد
عامل المصادفة... وتلعب دوراً جزئياً في مجرى هذه
الحوادث، التي تحدد اتجاهها في النهاية، الأسباب
الموصوفة بالعامة، أي بتطور القوى المنتجة، وبالعلاقات
التي تحددها هذه القوى بين الناس))(1).
ولا نريد أن نعلّق على تأكيد(بليخانوف) هذا، إلا بمثال واحد،
نستطيع أن ندرك في ضوئه: كيف يمكن أن يكون دور الفرد، سبباً
__________
(1) دور الفرد في التاريخ. ص93.(1/96)
لتحوّل الاتجاه التاريخي بشكل حاسم؟ فماذا كان يقدّر لوجهة التاريخ العالمي،
لو أن عالماً ذرياً في ألمانيا النازية، قد سبق إلى اكتشاف سر الذرة بعدة شهور
فقط؟ ألم يكن امتلاك هتلر لهذا السر، كفيلاً بتغيير وجهة التاريخ،
وتقويض الديمقراطية الرأسمالية، والاشتراكية الماركسية من أوروبا؟
فماذا لم يستطع هتلر أن يملك هذا السر؟ ليس ذلك طبعاً بسبب من الوضع الاقتصادي، ونوعية القوى المنتجة، وإنما هو لأن الفكر العلمي، لم يستطع
في تلك اللحظة أن يستكشف السر الذي اكتشفه بعد ذلك بعدة شهور فقط،
تبعاً لظروفه الفيسولوجية والسيكولوجية.
بل ماذا كان يمكن أن يقع، لو أن العلماء الروس لم يصلوا إلى سر
الذرة؟ ألم يكن من الممكن أن يستغل المعسكر الرأسمالي، في تلك اللحظة
قوى الذرة، في القضاء على الحكومات الاشتراكية؟! فيم نستطيع أن نفسر
اكتشاف العلماء الروس للسر، الأمر الذي أنقذ العالم الاشتراكي من الدمار؟
لا يمكننا أن نقول أن قوى الإنتاج، هي التي أزاحت الستار عن هذا السر،
وإلا فلماذا لم يدركه نفر خاص، من العدد الكبير من العلماء الذريين الذين
كانوا يمارسون التجارب الذرية؟! فإن هذا يوضح، أن الاكتشاف مدين
_بصورة خاصة_ للتركيب العضوي الخاص، وشروطه الذهينة. ولو
لم تتهيأ هذا الشروط، في شخص أو أشخاص معدودين من علماء الروس،
ولم يوحد النبوغ العلمي الخاص، المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط،
لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى، وبالرغم من قوانين المادية
التاريخية كلها.
وإذا كان من الممكن أن توجد لحظات في حياة الإنسان، تقرر مصير
التاريخ أو نوعية الأحداث الاجتماعية، فكيف يمكن أن تكون قوانين
الوسائل المنتجة، هي القوانين الحتمية للتاريخ؟!.
5_ الذوق الفني والماركسية
والذوق الفني في الإنسان_بوصفه ظاهرة اجتماعية، اشتركت فيها
كل المجتمعات، على اختلافها في النظم والعلاقات ووسائل الإنتاج_ لون(1/97)
آخر من الحقائق الاجتماعية، التي تضيق بها المادية التاريخية كما سنرى.
والحديث عن الذوق الفني له جوانب عديدة. فالرسام حين يبدع
صورة رائعة، لزعيم سياسي، أو لمعركة حربية. قد نسأل مرة عن الطريقة
التي اتبعها هذا الفنان، في إبداع الصورة، ونوعية الأدوات التي استعملها،
وقد نسأل مرة أخرى عن الهدف الذي كان يرمي إليه، من وراء هذه
الصورة، وقد نسأل ثالثة لماذا نعجب بها، ونمتليء أحساساً بروعتها،
والتذاذاً بمنظرها؟
ويمكن للماركسية التي تجيب على السؤال الأول قائلة: إن الطريقة
التي اتبعها الرسام خلال العملية، هي الطريقة التي تفرضها درجة التطور في
الأدوات وقوى الإنتاج. فالوسائل الطبيعية هي التي تقرر طريقة الرسم.
وكذلك يمكن للماركسية أن تجيب على السؤال الثاني، زاعمة: أن
الفن استخدم دائماً لخدمة الطبقة الحاكمة. فالهدف الذي يدعو الفنان إلى
التفنن والإبداع، هو تعزيز هذه الطبقة ومصلحتها، ولما كانت هذه
الطبقة وليدة القوى المنتجة، فوسائل الإنتاج هي الجواب الأخير على هذا
السؤال.
ولكن ماذا تصنع الماركسية بالسؤال الثالث: لماذا نعجب بالصورة
ونستذوقها؟؟ فهل قوى الإنتاج أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق في نفوسها
هذا الإعجاب، وهذا الذوق الفني، أو هو شعور وجداني، وذوق ينبع
من صميم النفس، وليس مستورداً من وسائل الإنتاج وظروفها الطبقية؟
إن المادية التاريخية تفرض على الماركسية أن تفسر الذوق الفني بقوى
الإنتاج، والمصلحة الطبقية، لأن العامل الاقتصادي هو الذي يفسر كل
الظواهر الاجتماعية، في المادية التاريخية، ولكنها لا تستطيع ذلك، وإن
حاولته، إذ لو كانت القوى المنتجة، أو المصلحة الطبقية، هي التي تخلق
هذا الذوق الفني، لزال بزوالها، ولتطور الذوق الفني تبعاً لتطور وسائل
الإنتاج، كما تتطور سائر الظواهر والعلاقات الاجتماعية، مع أن الفن
القديم بآياته الرائعة، لا يزال في نظر الإنسانية حتى اليوم، منبعاً من منابع(1/98)
اللذة الجمالية، ولا يزال يتحف الإنسان وهو في عصر الذرة، بما كان
يتحفه به قبل آلاف السنين، من انشراح وسحر فكيف ظلت هذه المتعة،
النفسية، حتى أخذ الإنسان الاشتراكي والرأسمالي، يتمتع بفن مجتمعات
الرق، كما كان الأسياد، والعبيد يتمتعون بها؟! وبقدرة أي قادر استطاع
الذوق الفني أن يتحرر من قيود المادية التاريخية، ويخلد في وعي الإنسان؟!
أليس العنصر الإنساني الأصيل، هو التفسير الوحيد، الذي يجيب على
هذه الأسئلة؟!.
ويقوم ماركس هنا بمحاولة، للتوفيق بين قوانين المادية التاريخية
وإعجاباً بالفن الإنساني القديم، زاعماً: أن الإنسان الحديث، يلتذ بروعة
الفن القديم بوصفه ممثلاً لطفولة النوع البشري، كما يلذ لكل إنسان أن
يستعرض أحوال طفولته البريئة، الخالية من التعقيد(1).
ولكن ماركس لا يقول لنا شيئاً عن سرور الإنسان بأحوال الطفولة،
فهل هو نزعة أصيلة في الإنسان، أو ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي
ومتغيرة تبعاً له؟!.
ثم لماذا يجد الإنسان الحديث، المتعة والسحر في روائع اليونان الفنية
مثلاً، ولا يجد هذه المتعة والسحر في استعراض بقية ظواهر حياتهم، من
أفكار وعادات ومفاهيم بدائية، مع أنها جميعاً تمثل طفولة النوع البشري؟!
وماذا يقول لنا ماركس، عن المناظر الطبيعية الخالصة، التي كانت
منذ أبعد آماد التاريخ ولا تزال، قادرة على إرضاء الحس الجمالي في الإنسان،
وبعث المتعة إلى نفسه؟! فكيف نجد المتعة في هذه المناظر، كما كان يجدها
الأسياد والرقيق، والإقطاعيون والأقنان، مع أنها مظاهر طبيعية، لا تميّل
شيئاً من طفولة النوع البشري، التي يفسر ماركس على أساسها إعجابنا
بالفن القديم!..
أفلسَنا نعرف من هذا، أن المسألة ليست مسألة الإعجاب بصور
الطفولة، وإنما هي مسألة الذوق الفني الأصيل العام، الذي يجعل إنسان
عصر الرق، وإنسان عصر الحرية، يشعران بشعور واحد!!.
* * *
__________
(1) كارل ماركس ص243.(1/99)
وفي ختام دراستنا هذه، للنظرية بما هي عامة، ألا نجد من الطبيعي أن
يندم انجلز، المؤسس الثاني للمادية التاريخية، على المبالغة بدور العامل
الاقتصادي في التاريخ، ويعترف بأنه مع صديقه ماركس، قد اندفعنا بروح
مذهبية في مفهومهما المادي عن التاريخ، اندفاعاً خاطئاً؟ فقد كتب انجلز
إلى يوسف بلوخ عام(1890) يقول:
((إن توجيه الكتّاب الناشئين، الاهتمام إلى الجانب الاقتصادي، بأكثر مما يستحق، أمر يقع اللوم فيه على
عاتقي وعاتق ماركس. لقد كان علينا أن نؤكد هذا
المبدأ الرئيسي. لنعارض خصومنا الذين كانوا ينكرونه،
ولم يكن لدينا الوقت أو المكان أو الفرصة، لنضع
العناصر الأخرى التي تتضمنها العلاقة المتداخلة، في
مواضعها الحقيقية))(1).
النظرية بتفاصيلها
حين نأخذ تفاصيل النظرية بالدرس والتمحيص، يجب أن نبدأ بالمرحلة
الأولى من مراحل التاريخ، في رأي الماركسية، وهي الشيوعية البدائية.
فلقد مرت الإنسانية في عقيدة الماركسيين بدور الشيوعية البدائية، في مطلع
حياتها الاجتماعية، وكان هذا الدور يحمل في طياته نقيضه، وفقاً لقوانين
الديالكتيك وبعد صراع طويل، نما النقيض واشتد، حتى حطم الكيان
الشيوعي للمجتمع، وبرز النقيض منتصراً في ثوب جديد، وهو النظام
العبودي ومجتمع الرق بدلاً عن نظام الإشاعة ومجتمع المساواة.
هل وجد المجتمع الشيوعي؟
وقبل أن نستوعب تفاصيل هذه المرحلة، يعترض البحث سؤال أساسي:
ما هو الدليل العلمي، على أن البشرية مرت بدور الشيوعية البدائية حقاً! بل
كيف يمكن الحصول على هذا الدليل العلمي، ما دمنا نتكلم عن الإنسانية
قبل عصور التاريخ المأثور! وقد حاولت الماركسية تذليل هذه الصعوبة،
وتقديم الدليل العلمي على صحة فهمها لتلك المرحلة المغمورة، من حياة
المجتمع البشري. بالاستناد إلى ملاحظة عدة مجتمعات معاصرة، حكمت
__________
(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ ص116.(1/100)
عليها الماركسية بالبدائية، واعتبرتها مادة علمية للبحث. عما قبل عصر
التاريخ، بوصفها ممثلة للطفولة الاجتماعية، ومعبرة عن نفس الحالة البدائية،
التي مرت بها المجتمعات البشرية بصورة عامة. ولما كانت معلومات الماركسية
عن هذا المجتمعات البدائية المعاصرة، تؤكد أن الشيوعية البدائية هي
الحالة السائدة فيها، فيجب إذن أن تكون هي المرحلة الأولى، لكل المجتمعات
البدائية في ظلمات التاريخ. وبذلك خيل للماركسية، أنها وضعت يدها على
الدليل المادي المحسوس.
ولكن يجب أن نعلم_ قبل كل شيء_ أن الماركسية، لم تتلق
معلوماتها عن تلك المجتمعات البدائية المعاصرة، بصورة مباشرة، وإنما
حصلت عليها عن طريق الأفراد الذين اتفق لهم الذهاب إلى تلك المجتمعات
والتعرف على خصائصها. وليس هذا فقط، بل إنها لم تأخذ بعين الاعتبار،
إلا المعلومات التي تتفق مع نظريتها العامة واتهمت كل المعلومات التي
تتعارض معما، بالتحريف والتزوير، وبهذا كانت البحوث الماركسية،
تتجه إلى انتقاء المعلومات النافعة للنظرية، وتحكيم النظرية نفسها في تقدير
قيمة المعلومات والإخبار، التي تقدم عن تلك المجتمعات، بدلاً عن تحكيم
المعلومات في النظرية، وامتحان النظرية في ضوئها. ونستمع بهذه المناسبة
إلى كاتب ماركسي كبير يقول:
((وبالقدر الذي نستطيع أن نتوغل في الماضي،
نجد أن الإنسان كان يعيش في مجتمعات. ومما يسهّل
دراسة المجتمعات البدائية القديمة، انه ما زالت تسود
ظروف اجتماعية بدائية، حتى عصرنا هذا، بين كثير
من الشعوب، كما هو الحال بالنسبة لبعض السكان
الملوّنين، في أفريقيا وبولونيزيا وماليزيا واستراليا،
وهنود أمريكا قبل اكتشافها، والأسكيمو واللاجون...
الخ. وأغلب المعلومات الكثيرة التي وصلتنا من هذه
المجتمعات البدائية، قدمها رجال البعثات التبشيرية
الذين حرّفوا الحقائق عن قصد أو غير قصد))(1).
__________
(1) القوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالي ص10.(1/101)
ولنسلّم أن المعلومات التي اعتمدت عليها الماركسية، عن تلك المجتمعات
المعاصرة، هي وحدها المعلومات الصحيحة فمن حقنا بعد ذلك أن نتساءل
عن هذه المجتمعات: هل هي مجتمعات بدائية، يمكن الاعتماد عليها في
تصوير البدائية الاجتماعية؟ وبالنسبة إلى هذا السؤال الجديد، لا تملك
الماركسية دليلاً واحداً على بدائية هذه المجتمعات المعاصرة، بالمعنى العلمي
للّفظ. بل إن قوانين التطور الحتمي للتاريخ، التي تؤمن بها الماركسية،
تقضي بأن تلك المجتمعات قد شملتها عملية التطور الاجتماعي حتماً فالماركسية
حين تزعم، أن الحالة الحاضرة لتلك المجتمعات، هي حالتها البدائية،
تبطل قوانين التطور، وتقرر الجمود عبر آلاف السنين.
كيف نفسر الشيوعية البدائية!
ولنترك هذا لنرى الماركسية كيف تفسر هذه المرحلة الشيوعية المزعومة،
وفقاً لقوانين المادية التاريخية؟
إن الماركسية تفسر علاقات الملكية الشيوعية، في المجتمع البدائي
للبشرية، بالدرجة البدائية، التي كانت عليها قوى الإنتاج حينئذ، وظروف
الإنتاج السائدة. فإن الناس كانوا مضطرين إلى ممارسة الإنتاج، بشكل
اجتماعي مشترك، والتكتل في وجه الطبيعة، نظراً إلى ما كان عليه الإنسان
من ضعف وقلة حيلة. والاشتراك في الإنتاج، يحتّم قيام علاقات الملكية
الاشتراكية، ولا يسمح بفكرة الملكية الخاصة. فالملكية إنما كانت اشتراكية
لأن الإنتاج اشتراكي. ويقوم التوزيع بين أفراد المجتمع، على أساس
المساواة، بسبب من ظروف الإنتاج أيضاً لأن المستوى الشديد الانخفاض
للقوى المنتجة، فرض تقسيم الغذاء الضئيل والسلع البسيطة المنتجة إلى أجزاء
متساوية، وكان من المستحيل قيام أي طريقة أخرى للتقسيم، لأن
حصول أحد الأفراد على نصيب يزيد على نصيب الآخرين يعني أن يموت
شخص آخر جوعاً(1).
بهذه الطريقة تفسر الماركسية شيوعية المجتمع البدائي، وتشرح أسباب
__________
(1) تطور الملكية الفردية: ص14.(1/102)
المساواة السائدة فيه، التي تحدّث عنها(مورجان) بصدد وصف القبائل
البدائية. التي شاهدها تعيش في سهول أمريكا الشمالية، ورآها تقسم لحوم
الحيوانات إلى أجزاء متساوية، توزع على أفراد القبيلة كلها.
تقول الماركسية هذا، في نفس الوقت الذي تناقض ذلك، عندما
تتحدث عن أخلاق المجتمع الشيوعي، وتمجّد بفضائلة فتنقل عن(جميس
آديررز) الذي درس هنود أمريكا في القرن الماضي: أن تلك الجماعات
البدائية، كانت تعتبر عدم تقديم المعونة لمن يحتاجها، جريمة كبرى يحتقر
مرتكبها، وتنقل عن الباحث(كاتلين): أن كل فرد في القرية الهندية،
رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً، كان له الحق في أن يدخل إلى أي مسكن
من المساكن، ويأكل إن كان جائعاً بل إن أولئك الذين كانوا يعجزون
عن العمل، أو يقعد بهم مجرد الكسل عن الصيد، كانوا يستطيعون رغم
ذلك أن يدخلوا إلى أي منزل يشاؤون، ويقتسمون الطعام مع من فيه.
وبذلك كان الفرد في تلك المجتمعات، يحصل على الطعام، مهما تهرّب
من التزاماته في إنتاج هذا الطعام، ودون أن يترتب على تهرّبه إلا إحساسه
بفقدان ملحوظ لهيبته(1).
وهذه المعلومات التي تتحفنا بها الماركسية، عن أخلاق المجتمعات
الشيوعية البدائية، وتقاليدها المتبعة اجتماعياً، وتوضح أن مستوى القوى
المنتجة، لم يكن منخفضاً إلى الدرجة، التي تعني أن زيادة نصيب أحد
الأفراد من الإنتاج يؤدي إلى موت شخص آخر جوعاً. بل كانت توجد
وفرة، يحصل على شيء منها الضعيف والعاجز وغيرهما، فلماذا إذن
كانت المساواة في التوزيع، هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟! وكيف
لم يخطر على ذهن أحد فكرة الاستغلال والتلاعب في التوزيع، ما دام في
الإنتاج وفرة يمكن استغلالها؟ وإذا كانت قوى الإنتاج، تسمح بقيام
الاستغلال في تلك المجتمعات فيجب أن نجد سبب عدم ظهوره فيها، ماثلاً
في درجة وعي الإنسان البدائي وفكره العملي. فقد جاءت فكرة الاستغلال
__________
(1) تطور الملكية الفردية ص18.(1/103)
عنده كظاهرة متأخرة لهذا الوعي والفكر العملي، وكنتيجة لنموه وزيادة
الخبرة الإنسانية بالحياة.
وإذا أمكن للماركسية أن تقول_ أو أمكن لنا أن نقول من وجهة نظرنا_:
أن طريقة المساواة في التوزيع أتت في باديء الأمر تبعاً لقلة الإنتاج، ثم
تأصلت وأصبحت عادة. فهل نجد في ذلك تفسيراً معقولاً، لموقف المجتمع
البدائي من الأفراد الكسالى، الذين يتركون العمل عن قصد واختيار،
فيجدون كفايتهم في إنتاج الآخرين، دون أن يتهددهم خطر الجوع،
والحرمان؟! فهل الاشتراك الاجتماعي في عمليات الإنتاج يفرض توزيع
الإنتاج على غير المشتركين في الإنتاج أيضاً!! وإذا كان البدائيون، قد
حرصوا أول الأمر على طريقة المساواة، لئلا يموت أحدهم جوعاً،
فيسخرون بذلك عوناً في عمليات الإنتاج الجماعي، فلماذا حرصوا على
إعالة الكسالى الذين لا يخسرون بفقدهم شيئاً!!
ما هو نقيض المجتمع الشيوعي؟
إن المجتمع الشيوعي البدائي، منذ ولد كان في رأي الماركسية يخفى في
أحشائه تناقضاً، أخذ ينمو ويشتد حتى قضي عليه. وليس هذا التناقض
طبقياً، لأن المجتمع الشيوعي طبقة واحدة، وليس فيه طبقتان متناقضتان،
وإنما هو التناقض: بين العلاقات الشيوعية في الملكية، وقوى الإنتاج حين
تأخذ بالنمو، حتى تصبح العلاقات الشيوعية معيقة لها عن نموها، ويكون
الإنتاج عندئذ بحاجة إلى علاقات جديدة، يستطيع أن يواصل نموه ضمنها.
أما كيف، ولماذا تصبح العلاقات الشيوعية، معيقة لقوى الإنتاج
عن نموها! فهذا ما تشرحه الماركسية قائلة: إن ارتقاء القوى المنتجة،
جعل في إمكان الفرد أن ينال من عمله في تربية الماشية والزراعة، من وسائل
المعيشة ما يزيد عما يلزمه للمحافظة على حياته وبذلك أصبح الفرد قادراً
على الاكتفاء بالعمل في جزء محدود من الوقت لإعاشة نفسه، دون أن
يبذل كل طاقاته العملية. فكان لا بد_ لكي تجنّد كل الطاقات العملية
لصالح الإنتاج، كما تتطلبه القوى المنتجة في ارتقائها ونموها_ أن تخلق(1/104)
قوة اجتماعية جديدة، تضطر المنتجين إلى بذل كل طاقاتهم، وحيث أن
العلاقات الشيوعية، لا يوجد فيها هذه القوة، أصبح من الضروري
استبدال تلك العلاقات بالنظام العبودي الذي يتيح للأسياد أن يرغموا العبيد،
على العمل المتواصل. وهكذا نشأ النظام العبودي.
وقد بدأ النظام العبودي أول ما بدأ، باستعباد الأسرى، الذين كانت
القبيلة تربحهم في غاراتها، وقد اعتادت قبلاً أن تقضي عليهم، لأنها لم
تكن تجد مصلحة في إبقائهم وإعالتهم. وبعد تطور الإنتاج، أصبح من
المصلحة الاقتصادية للقبيلة، استبقاؤهم واسترقاقهم، لأنهم ينتجون أكثر
مما يأكلون وهكذا تحول أسرى الحرب إلى عبيد. ونتيجة لإثراء الذين
استخدموا العبيد. أخذ هؤلاء الأثرياء، يستعبدون أعضاء قبيلتهم، وانقسم
المجتمع إلى سادة وعبيد، واستطاع الإنتاج أن يواصل ارتقاءه، خلال هذا
الانقسام وبفضل النظام العبودي الجديد..
ونحن إذا دقّقنا في هذا، استطعنا أن نتبين من خلال التفسير الماركسي
نفسه، أن المسألة هي مسألة الإنسان، قبل أن تكون مسألة وسائل الإنتاج.
لأن نمو القوى المنتجة لم يكن يتطلب إلا مزيداً من العمل البشري، وأما
الطابع الاجتماعي للعمل فليس له علاقة بنموها، فكما أن العمل الكثير
العبودي ينمي الإنتاج، كذلك العمل الكثير الحر فلو أن أفراد المجتمع
قرروها جميعاً، مضاعفة جهودهم في الإنتاج، وتقسيم النتاج بعد ذلك
بالتساوي، لضمنوا بذلك القوى المنتجة نموها، الذي حققه المجتمع
العبودي، بل لنما الإنتاج كيفياً ونوعياً، أكثر مما نما بممارسة العبيد، لأن
العبد يعمل بيأس، ولا يحاول أن يفكر أو يكسب خبرة في سبيل تحسين
الإنتاج، على العكس من الأحرار، المتضامنين في العمل.
فنمو القوى المنتجة إذن لم يكن يتوقف على الطابع العبودي للعمل،
وإنما كان يتوقف على مضاعفة العمل. فلماذا إذن ضاعف الإنسان الإجتماعي
العمل، عن طريق تحويل نصف المجتمع إلى عبيد، ولم يحقق ذلك عن طريق(1/105)
الاتفاق الحر_ بين الجميع_ على مضاعفة العمل! إن الجواب على هذا
السؤال لا نجده، إلا في الإنسان نفسه، وفي ميوله الطبيعية. فهو ميال
بطبيعته إلى الاقتصاد في العمل، وسلوك أوفر الطرق راحة إلى غايته. فلا
يواجه سبيلين أمامه إلى غاية واحدة، إلا اختار أقلّهما جهداً. وليس هذا
الميل الأصيل نتاجاً لوسائل الإنتاج، وإنما هو نتاج تركيبه الخاص. ولذلك
ظل هذا الميل ثابتاً بالرغم من تطور الإنتاج خلال آلاف السنين. كما أنه
ليس نتاجاً للمجتمع، بل إن تكوّن المجتمع إنما كان بسبب هذا
الميل الطبيعي في الإنسان، إذ رأى أن التكتل أقل الأساليب جهداً، لمقاومة
الطبيعة واستثمارها.
وهذا الميل الطبيعي، هو الذي أوحى إلى الإنسان بفكرة استعباد
الآخرين بصفته أضمن الطرق لراحته، وأقلها تكليفاً له.
وعلى هذا فليست قوى الإنتاج، هي التي صنعت للإنسان الاجتماعي،
النظام العبودي، أو دفعته في هذا السبيل، وإنما هي التي هيأت له الظروف
الملائمة، للسير وفقاً لميله الطبيعي. فمثلها في ذلك، نظير من يعطي شخصاً
سيفاً، فينفس هذا الشخص عن حقده، ويقتل به عدوه. فلا يمكننا أن
نفسر حادثة القتل هذه، على أساس السيف فحسب، وإنما نفسرها_ قبل
ذلك_ في ضوء المشاعر الخاصة، التي كانت تختلج في نفس القاتل، إذ
لم يكن تسليم السيف إليه يدفعه إلى ارتكاب الجريمة، لولا تلك المشاعر التي
ينطوي عليها.
ونلاحظ في هذا المجال، أن الماركسية تلتزم الصمت إزاء سبب آخر.
كان من الطبيعي أن يكون له أثره الكبير، في القضاء على الشيوعية، وتطوير
المجتمع إلى سادة وعبيد، وهو ما أدت إليه الشيوعية، من ركون الكثرة
الكاثرة من أفراد المجتمع، إلى الدعة والكسل والانصراف عن مواصلة
الإنتاج وتنميته، حتى كتب(لوسكيل) عن بعض القبائل الهندية يقول:
(إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئاً بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال: أن غيرهم
لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه. ولما كان النشيط(1/106)
لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل،
فإن إنتاجهم يقل عاماً بعد عام).
فالماركسية لا تشير إلى هذه المضاعفات للشيوعية البدائية، بصفتها
عاملاً في فشلها واختفائها عن مسرح التاريخ، وقيام الأفراد النشيطين
باستعباد الكسالى واستخدامهم في مجالات الإنتاج، بالقوة.
وهذا موقف مفهوم من الماركسية تماماً، فإنها لا تعترف بما نجم عن
الشيوعية من كسل وخمول شامل، لأن ذلك يضع يدنا على الداء الأصيل
في الشيوعية، الذي يجعلها لا تصلح للإنسان بتركيبه النفسي والعضوي
الخاص الذي وجد في إطاره منذ فجر الحياة، ويبرهن على أنها لا تصلح
للطبيعة الإنسانية، ويقدّم الدليل على أن ما حصل من مضاعفات مشابهة
لذلك، خلال محاولة الثورة الحديثة في روسيا، لتطبيق الشيوعية تطبيقاً
كاملاً لم يكن نتيجة للأفكار الطبقية، والذهنية الرأسمالية المسيطرة على
المجتمع، كما يدّعي الماركسيون، وإنما كانت تعبيراً عن واقع الإنسان
ودوافعه ومشاعره الذاتية، التي خلقت معه قبل أن تولد الطبقية، وتناقضاتها
وأفكارها.
المجتمع العبودي
وبتحول المجتمع من الشيوعية البدائية، إلى مجتمع عبودي، تبدأ
المرحلة الثانية في المادية التاريخية. وببدئها تولد الطبقية في المجتمع، وينشأ
التناقض الطبقي بين طبقة السادة وطبقة العبيد، الأمر الذي قذف المجتمع
في أتون الصراع الطبقي لأول مرة في التاريخ، ولم يزل هذا الصراع قائماً
حتى اليوم بأشكال مختلفة، تبعاً لنوعية القوى المنتجة ومتطلباتها.
ومن الضروري أن نثير هنا سؤالاً_ في وجه الماركسية_ عن هذه
الانقسامية الفاصلة في حياة البشرية، التي قسمت المجتمع إلى طبقتين:
سادة وعبيد: كيف أعطيت فيها السيادة لأولئك، وكتب على هؤلاء
الرق والعبودية؟ ولماذا لم يقم السادة بدور العبيد، والعبيد بدور السادة؟
وللماركسية جوابها الجاهز على هذا السؤال، فهي تقول: إن كلاً
من السادة والعبيد قد مثّل الدور المحتوم، الذي يفرضه العامل الإقتصادي(1/107)
ومنطق الإنتاج. لأن الجماعة التي مثلت دور السيادة في المجتمع، كانت
على مستوى عال من الثروة نسبياً، وكانت تملك بسبب ذلك القدرة على
ربط الآخرين بها، برباط الرق والعبودية. ولكن اللغز يبقى_ بالرغم
من هذا الجواب_ كما هو، لم يتغير، لأننا نعلم أن هذه الثروات الضخمة
نسبياً، لم تهبط على الأسياد من السماء. فكيف حصل عليها هؤلاء دون
غيرهم، واستطاعوا أن يفرضوا سيادتهم على الآخرين، مع أن الجميع
كانوا يعيشون في مجتمع شيوعي واحد؟!
وتجيب الماركسية على هذا السؤال من جديد بأمرين:
أحدهما: أن الأفراد الذين كانوا يزاولون مهام الرؤساء، والقادة
الحربيين، ورجال الدين، في المجتمع الشيوعي البدائي، أخذوا يستغلون
مركزهم، لكي يحصلوا على الثروة، فامتلكوا جزاءاً من الملكية الشائعة،
وبدأوا ينفصلون شيئاً فشيئاً عن أعضاء جماعاتهم، ليكوّنوا أرستقراطية،
بينما كان أعضاء الجماعة يسقطون شيئاً فشيئاً تحت تبعيتهم الاقتصادية(1).
والآخر: إن مما ساعد على إيجاد التفاوت والتناقض، في مستويات
الإنتاج والثروة بين أفراد المجتمع. إن جماعة حوّلت أسرى الحرب إلى
عبيد، وصارت تربح بسبب ذلك النتاج الفائض عن حاجتهم الضرورية
حتى أثرت، واستطاعت نتيجة لثروتها أن تستعبد أعضاء القبيلة، الذين
تجردوا من أموالهم وأصبحوا مدينين(2).
وكلا هذين الأمرين لا يتفقان مع وجهة نظر المادية التاريخية، أما
الأول: فلأنه يؤدي إلى اعتبار العامل السياسي، عاملاً أساسياً، والعامل
الاقتصادي عاملاً ثانوياً منبثقاً عنه، لأنه يفترض أن المكانة السياسية، التي
كان القواد ورجال الدين والرؤساء يتمتعون بها في المجتمع الشيوعي اللاطبقي،
هي التي شقّت لهم الطريق إلى الإثراء، وإيجاد ملكيات خاصة، فالظاهرة
الطبقية إذن وليدة الكيان السياسي، وليس العكس، كما تقرر
__________
(1) تطور الملكية الفردية، ص32.
(2) المصدر السابق ص33.(1/108)
المادية التاريخية. وأما السبب الثاني، الذي فسرت به الماركسية تفاوت
الثروات: فهو لا يتقدم في حل المشكلة إلا خطوة واحدة، إذ يعتبر أن
استرقاق السادة للعبيد من أبناء القبيلة،قد سبقه تاريخياً استرقاق أولئك
السادة، لأسرى الحرب، وإثرائهم على حساب هؤلاء الأسرى وأما لماذا
هيأت الفرص لأولئك السادة بالذات، دون غيرهم من أعضاء القبيلة،
استرقاق الأسرى؟ فهذا ما تحاول الماركسية تفسيره، لأنها لا تجد تفسيره
في القوى المنتجة، وإنما يمكن تفسيره تفسيراً إنسانياً، على أساس الفوارق
والكفاءات المتفاوتة: البدنية والفكرية والعسكرية، التي يولد الناس وهم
يختلفون في حظوظهم منها، طبقاً لظروفهم وشروطهم النفسية والفسيولوجية والطبيعية...
المجتمع الإقطاعي
ونشأ المجتمع الإقطاعي بعد ذلك، نتيجة للتناقضات التي كانت تعمل
في المجتمع العبودي، وأساس هذه التناقضات، التنافس بين علاقات النظام
العبودي، ونمو القوى المنتجة، إذ أصبح تلك العلاقات بعد فترة طويلة،
من حياة المجتمع العبودي، عائقة عن نمو الإنتاج، وعقبة في سبيله من
ناحيتين:
إحداهما: أنها فسحت المجال أمام الأسياد، لاستغلال العبيد_ بوصفهم
القوة المنتجة_ استغلالاً وحشياً، فتهاوى آلاف العبيد في ميدان العمل،
بسبب ذلك، الأمر الذي كلّف الإنتاج نقصاً كبيراً في القوة المنتجة، المتمثلة
في أولئك العبيد.
والأخرى: أن تلك العلاقات، حولت بالتدريج أكثر الأحرار من
الفلاحين والحرفين، إلى عبيد، ففقد المجتمع_ بسبب ذلك_ جيشه
وجنوده الأحرار، الذين كان المجتمع يحصل عن طريق غزواتهم
المتلاحقة، على سيل مستمر من العبيد المنتجين، وهكذا أدى النظام العبودي،
إلى التبذيز بالقوى المنتجة الداخلية، والعجز عن استيراد قوى منتجة جديدة،
عن طريق الغزو والأسر، وقام لأجل هذا التناقض الشديد بينه وبين قوى
الإنتاج، فتقوض المجتمع العبودي، وخلفه النظام الإقطاعي...(1/109)
وتغفل الماركسية في هذا العرض عدة نقاط جوهرية في الموضوع.
فأولاً: أن تحوّل المجتمع الروماني مثلاً، من النظام العبودي إلى
الإقطاع، لم يكن تحولاً ثورياً، منبثقاً عن صراع الطبقة المحكومة، كما
بفرضه المنطق الديالكتيكي للمادية التاريخية.
وثانياً: إن هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي، لم يسبقه أي تطور في
القوى المنتجة. كما تتطلبه الفرضية الماركسية القائمة على أساس: إن وسائل
الإنتاج هي القوة العليا المحركة للتاريخ.
وثالثاً:إن الوضع الاقتصادي، الذي هو أساس الأوضاع الاجتماعية
في رأي الماركسية، لم يكن في تغيره التاريخي معبّراً، عن مرحلة تكاملية
من تاريخه، بل مني بنكسة، خلافاً لمفاهيم المادية التاريخية، التي تؤكد أن
التاريخ يزحف في حركته إلى الإمام دائماً، وأن الوضع الاقتصادي هو
طليعة هذا الزحف الدائم ونعالج هذه النقاط الثلاث بتفصيل.
أ_ لم يكن التحول ثورياً:
إن تحوّل المجتمع الروماني مثلاً من نظام الرق إلى نظام الإقطاع، لم
يكن نتيجة لثورة طبقية، في لحظة فاصلة من لحظات التاريخ، بالرغم من
أن الثورة قانون حتمي في المادية التاريخية لكل التحولات الاجتماعية، وفقاً
للقانون الديالكتيكي(قانون قفزات التطور) القائل: بأن التغييرات الكمية
التدريجية، تتحول إلى تغير كيفي دفعي، وهكذا عطل هذا القانون
الديالكتيكي عن العمل، ولم يؤثر في تحويل المجتمع العبودي إلى إقطاعي،
بشكل ثوري آني، وإنما تحول المجتمع_ حسب إيضاحات الماركسية
نفسها_ عن طريق السادة أنفسهم، إذ أخذوا يعتقون كثيراً من عبيدهم،
ويقسمون الأملاك الكثيرة إلى أجزاء صغيرة، ويعطونها إليهم، بعد أن
أحسوا بأن نظام الرق لا يضمن لهم مصالحم(1).
فالطبقة المالكة_ إذن_ قد حولت المجتمع بالتدرج إلى النظام
الإقطاعي، دون حاجة إلى قانون الثورات الطبقية، أو قفزات التطور...
__________
(1) تطور الملكية الفردية ص53.(1/110)
وكان غزو الجرمان من الخارج، عاملاً آخر في تكوين الإقطاع_ حسب
اعتراف الماركسية نفسها_ وهو بدوره أيضاً بعيد عن تلك القوانين.
ومن الطريف، أن الثورات التي كان يجب_ وفقاً للمادية التاريخية_
أن تفجر في لحظة التحول الفاصلة، نجد أنها قبل انهيار المجتمع
العبودي بقرون، كحركة الارقّاء في(اسبرطة)، قبل الميلاد بأربعة
قرون، التي تجمعت فيها الألوف من الأرقاء، قريباً من المدينة، وحاولت
اقتحامها، والجأت قادة(أسبرطة) إلى طلب المساعدة العسكرية من
جيرانهم، ولم يتمكنوا من صد الأرقاء الثائرين إلا بعد سنين عديدة.
وكذلك حركة العبيد في الدولة الرومانية التي تزعّمها(سبرتاكوس)
قبل الميلاد بسبعين سنة تقريباً، واحتشد فيها عشرات الألوف من العبيد،
وكادت أو تقضي على كيان الإمبراطورية. وقد سبقت هذه الثورة نشوء
المجتمع الإقطاعي بعدة قرون، ولم تنتظر إلى أن توجد التناقضات وتشتد بين
العلاقات وقوى الإنتاج، وإنما كانت تستمد وقودها من وعي متزايد
بالاضطهاد، وقدرة تكتلية وعسكرية وقيادية، تفجّر ذلك الوعي، بالرغم
من وسائل الإنتاج، التي كانت حينئذ على وئام مع النظام العبودي. فمن
الخطأ إذن أن نفسر كل ثورة على أساس تطور معين في الإنتاج أو بوصفها
تعبيراً اجتماعياً عن حاجة من حاجات القوى المنتجة.
ولنقارن_ بعد هذا_ بين تلك الثورات الهائلة، التي شنها العبيد على
نظام الإنتاج العبودي_ قبل أن يتخلى عن الميدان إلى النظام الإقطاعي بقرون
عديدة_ بين ما كتبه انجلز قائلاً:
(ما دام أسلوب إنتاجي ما، لا يزال يرسم مدرجاً متصاعداً في سلم التطور، فانه لا يفتأ يقابل بحماس وترحاب، حتى من لدن أولئك الذين ازدادت حالتهم سوءاً، جرّاء أسلوب التوزيع المتماثل وإياه)(1).
فكيف نفسر تلك الثورات من العبيد، التي سبقت تطور العبودية إلى
الإقطاع بستة قرون، في إطار هذه النظرية الضيقة إلى الثورات، وإذا
__________
(1) ضد دوهرنك ج2 ص9.(1/111)
كان تبرم المضطهدين ينشأ دائماً، كتعبير عن تعثر أسلوب الإنتاج، لا عن
حالتهم النفسية والواقعية، فلماذا تبرمت تلك الجماهير من العبيد، وعبّر
عن تبرمها تعبيراً ثورياً، كاد أن يعصف بالإمبراطورية، قبل أن يتعثر
أسلوب الإنتاج، القائم على النظام العبودي، و قبل أن توجد الضرورة
التاريخية لتطويره بعدة قرون.
ب_ لم يسبق التحول الاجتماعي أي تجدد في قوى الإنتاج:
من الواضح عن الماركسية أنها تؤمن: بأن أشكال العلاقات الاجتماعية
تابعة لأشكال الإنتاج. فكل شكل من الإنتاج، يتطلب شكلاً خاصاً من
علاقات الملكية الاجتماعية، ولا تتطور هذه العلاقات إلا تبعاً لتغير شكل
الإنتاج، وتطور القوى المنتجة.
((إن أي تكوين اجتماعي، لا يموت أبداً، قبل أن تتطور القوى المنتجة، التي تستطيع أن يفسح لها المجال. ماركس))(1).
وبينما تؤكد الماركسية هذا، نجد أن شكل الإنتاج كان واحداً في
المجتمع العبودي والإقطاعي معاً، ولم تتغير العلاقات العبودية إلى إقطاعية
نتيجة لأي تطور أو تجديد في القوى المنتجة السائدة، التي كانت لا تعدو
مجالات الزراعة والخدمة اليدوية. ومعنى ذلك أن التكوين الاجتماعي
والعبودي، قد مات قبل أن تتطور القوى المنتجة، خلافاً لتأكيد ماركس
الآنف الذكر.
وفي مقابل ذلك نجد: أن أشكالاً متعددة من الإنتاج ودرجات مختلفة،
تخطّها القوى المنتجة خلال آلاف السنين، دون أن يحصل أي تحوّل في
الكيان الاجتماعي باعتراف الماركسية نفسها. فالإنسان البدائي كان
يستعين في إنتاجه بالأحجار الطبيعية، ثم استعان بأدوات حجرية، وبعد
ذلك استطاع أن يكتشف النار، وأن يصنع الفؤوس والحراب، ثم تطورت
قوى الإنتاج، فظهرت الأدوات المعدنية والسهام والأقواس، ثم ظهر
الإنتاج الزراعي في حياة الإنسان وبعده الإنتاج الحيواني. وقد تمت هذه
التحولات الكبرى في أشكال الإنتاج، وتتابعت تطوراته في المجتمع البدائي،
__________
(1) فلسفة التاريخ ص47.(1/112)
بالتسلسل الذي ذكرناه أو بتسلسل آخر دون أن تواكبها تحولات اجتماعية
وتطورات في العلاقات العامة، باعتراف الماركسية نفسها، إذ أنها تؤمن
بأن النظام السائد في المجتمع البدائي، الذي حدثت خلاله كل تلك
التطورات، كان هو الشيوعية البدائية.
فإذا كان من الممكن أن تتطور أشكال الإنتاج، والشكل الاجتماعي
ثابت كما في المجتمع البدائي مثلاً، وكان من الممكن أن تتطور الأشكال
الإجتماعية، وشكل الإنتاج ثابت، كما رأينا في المجتمع العبودي والإقطاعي.
فما هي الضرورة التي تدعو إلى التأكيد على: أن كل تكوين اجتماعي يرتبط
بشكل معين ودرجة خاصة من الإنتاج؟! ولماذا لا تقول الماركسية: إن
النظام الاجتماعي إنما هو حصيلة الأفكار العملية، التي يحصل عليها الإنسان
خلال تجربته الاجتماعية، للعلاقات التي يشترك فيها مع الآخرين، كما
أن أشكال الإنتاج حصيلة الأفكار التأملية والعلمية، التي يحصل عليها
الإنسان خلال تجربته الطبيعية، لقوى الإنتاج وسائر قوى الكون. وحيث
إن التجارب الطبيعية قصيرة الأمد، فمن الممكن أن تتوفر وتتجمع بسرعة
نسبياً، فتتطور أشكال الإنتاج بصورة سريعة، على العكس من
التجربة الاجتماعية، فإنها تغني تاريخ مجتمع برمّته، فلا تنمو الأفكار
العملية خلال هذه التجربة البطيئة، بنفس السرعة التي تنمو بها الأفكار
التأملية والعلمية خلال الطبيعية، ومن الطبيعي عندئذ أن لا تتطور
في البدء أشكال النظام، بنفس السرعة التي تتطور بها أشكال الإنتاج.
جـ _ الوضع الاقتصادي لم يتكامل:
سبق أن مربنا: أن الماركسية تفسر زوال النظام العبودي، بأنه أصبح
معيقاً للإنتاج عن النمو ومناقضاً له، فكان من الضروري أن تزيحه القوى
المنتجة عن طريقها، وتصنع وضعاً اقتصادياً يواكبها في نموها ولا يناقضها.
فهل ينطبق هذا على الواقع التاريخي حقاً؟.
هل إن ظروف المجتمع وشروطه الإقطاعية، كانت أكثر مواكبة(1/113)
لنمو الإنتاج من شروطه وظروفه قبل ذلك؟. وهل سار الوضع الاقتصادي
_ ومن خلفه القافلة البشرية كلها_ في خط صاعد، تتطلبه طبيعية
الحركة التاريخية عند الماركسيين، الذين يفهمونها على أنها عملية تكامل
مستمر للمحتوى التاريخي كله، تبعاً لتكامل الوضع الاقتصادي ونموه؟.
إن شيئاً من ذلك لم يحدث، على الوجه الماركسي المفروض. ويكفي
لمعرفة ذلك أن نلقي نظرة على الحياة الاقتصادية، التي كانت الإمبراطورية
الرومانية تعيشها. فلقد بلغت_ وعلى الأخص في أجزاء معينة منها_ مستوى
اقتصادياً رفيعاً، ونمت فيها الرأسمالية التجارية نمواً كبيراً. ومن الواضح
أن الرأسمالية التجارية من الأشكال الاقتصادية الراقية، وإذا كانت
الإمبراطورية الرومانية قد جربّت هذا الشكل_ كما يدل عليه تاريخها_
فقد وصلت إذن إلى درجة عالية نسبياً في تركيبها الاقتصادي، وابتعدت
شوطاً كبيراً عن ألوان الاقتصاد البدائي المغلق(اقتصاديات البيت)،
وكان من أثر ذلك أن التجارة راجت في مختلف الدول التي عاصرتها
الإمبراطورية الرومانية، بفضل تعبيد الطرق وتأمينها حماية الملاحة،
فضلاً عن التجارة الداخلية التي ازدهرت داخل أرجاء الإمبراطورية،
بين إيطاليا والولايات وبين الولايات بعضها مع بعض حتى أن الأواني
الفخارية لإيطاليا، كانت تكتسح السوق العالمية، من بريطانيا شمالاً إلى
شواطىء البحر الأسود شرقاً. ودبابيس الأمن التي تميزت بها(أوكيسا)
انتشرت عن طريق التجارة في جميع الولايات، ووصلت إلى شواطىء
البحر الأسود. والمصابيح التي كانت المصانع الإيطالية تنتجها بكميات
هائلة، عثر عليها في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية.
والسؤال الذي يواجهنا على ضوء هذه الحقائق هو: لماذا لم تواصل
الأوضاع الاقتصادية والرأسمالية التجارية نموها وتكاملها، ما دامت
الحركة التكاملية قانوناً حتمياً للأوضاع الاقتصادية والإنتاجية!! ولماذا(1/114)
لم تتطور الرأسمالية التجارية إلى رأسمالية صناعية، كما حدث في منتصف
القرن الثامن عشر، ما دامت رؤوس الأموال الكبيرة متوفرة عند التجار،
وجماهير الأحرار التي كانت تزداد بؤساً وحاجة، حاضرة لتلبية طلبات
الرأسمالية الصناعية، والاستجابة لمتطلباتها!! إن هذا يعني أن الشروط
المادية للشكل الاجتماعي الأعلى كانت موجودة، فلو كانت الشروط المادية
كافية وحدها لتطوير الواقع الاجتماعي، وكانت قوى الإنتاج في تطورها
تخلق دائماً الأوضاع، التي تنطلق في ضمنها وتنمو.. لوجب أن تنمو
الرأسمالية في التاريخ القديم، وأن تستجيب لمتطلبات الإنتاج، ولكان من
المنطقي أن تظهر الرأسمالية الصناعية، ونتائجها التي تمخضت عنها، في
نهاية عهد الإقطاع، كتقسيم العمل الذي أدى إلى ظهور الآلات في الحياة
الصناعية.
ولا يبرهن الواقع التاريخي على عدم ظهورها، وعلى عدم مواصلة
الرأسمالية لنموها فحسب، بل هو يكشف بوضوح أن قيام النظام الإقطاعي
قضى على الرأسمالية التجارية، وخنقها في مهدها نهائياً، إذ جعل لكل
إقطاعية حدودها الخاصة، واقتصادها المغلق القائم على أساس اكتفائها
بحاصلاتها، الزراعية ومنتوجاتها البسيطة، فكان من الطبيعي أن يتلاشى النشاط
التجاري، وتزول الرأسمالية التجارية، ويعود المجتمع إلى اقتصاد شبه
بدائي من اقتصاديات البيت.
فهل كان هذا الوضع الاقتصادي، الذي مني به المجتمع الروماني بعد
دخول الجرمان إليه، تعبيراً عن نمو تاريخي، ومواكبة لمتطلبات الإنتاج،
أو كان نكسة خارجة على قوانين المادية التاريخية، وعقبة في سبيل النمو
المادي وازدهار الحياة الاقتصادية؟؟!
وأخيراً وجد المجتمع الرأسمالي
وأخيراً بدأ النظام الإقطاعي يحتضر، بعد أن أصبح مشكلة تاريخية وعقبة
في وجه الإنتاج، تتطلب حلاً حاسماً. وكانت الشروط التاريخية قد
خلقت هذا الحل ماثلاً في الرأسمالية، التي برزت على المسرح الاجتماعي(1/115)
لتواجه النظام الإقطاعي، بوصفها النقيض التاريخي له الذي نما في ظله،
حتى إذا اكتمل نموه قضى عليه وكسب المعركة... وهكذا يصف لنا
ماركس نشوء المجتمع الرأسمالي بقوله:
((لقد خرج النظام الاقتصادي الرأسمالي، من
أحشاء النظام الاقتصادي الإقطاعي، وانحلال أحدهما أدى
إلى انبثاق العناصر التكوينية للثاني))(1).
ومنذ يبدأ ماركس بتحليل الرأسمالية تاريخياً، يعلق أهمية كبيرة من
تحليل ما يطلق عليه اسم: التراكم الأولي لرأس المال. وهذه النقطة هي
بحق أول النقاط الجوهرية، التي تعتبر ضرورية لتحليل الوجود التاريخي
للرأسمالية. فإذا كانت قد وجدت طبقة جديدة في المجتمع، على
أنقاض الإقطاع المتداعي، تملك رؤوس أموال، وتتمكن في سبيل
تنميتها من استثمار جهود الأجراء. فلا بد من أن نفترض مسبقاً عوامل
ومؤثرات خاصة، أدّت إلى تراكم مالي كبير، في ثروات طبقة
معينة، وتجمع قوى عمالية ضخمة أتاح لتلك الطبقة، تحويل ثرواتها إلى
رؤوس أموال، وتحويل تلك القوى العمالية إلى أجراء، يمارسون عمليات
الإنتاج الرأسمالي بأجرة. فما هي تلك العوامل والمؤثرات التي أتاحت هذا
الظرف السعيد لتلك الطبقة؟ وبالأحرى ما هو سر التراكم الرأسمالي
الأول، الذي قامت على أساسه الطبقة الرأسمالية، تقابلها من الناحية
الأخرى طبقة الأجراء؟
وحين حاول ماركس تحليل هذه النقطة، بدأ أولاً باستعراض وجهة
النظر التقليدية للإقتصاد السياسي القائلة: أن السبب الذي مكّن لطبقة معينة
من المجتمع دون غيرها، أن تحصل على الشروط الاقتصادية للإنتاج
الرأسمالي، والثروات اللازمة لذلك، هو ما تمتاز به تلك الطبقة من ذكاء
واقتصاد وحسن تدبير، جعلها توفر شيئاً من دخلها بالتدريج وتدّخره،
حتى استطاعت أن تحصل على رأس مال.
وقد عرض ماركس لهذه النظرة الكلاسيكية، بطريقته المألوفة في عرض
الأفكار المناهضة له، بسخرية لاذعة، واستخفاف بالغ، وانتهى من
__________
(1) رأس المال ق2 ج3 ص1053.(1/116)
سخريته إلى أن الادخار لا يكفي وحده تعليلاً لوجود الطبقة الرأسمالية،
وإنما يجب لكي نصل إلى سر التراكم الرأسمالي الأول، الذي قامت على
أساسه الطبقة الجديدة أن نفحص مضمون النظام الرأسمالي نفسه، ونفتش
في أعماقه عن ذلك السر المعقد.
ويستعين ماركس هنا بموهبته الفذة في التعبير، وسيطرته على التصرف
بالألفاظ كيف شاء، للتدليل على وجهة نظره فيقرر: أن النظام الرأسمالي
يبرز لنا علاقة من نوع خاص، بين الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج،
وبين الأجير الذي يتخلى بحكم تلك العلاقة عن كل حق من حقوق الملكية،
على منتوجه، لا لشيء إلا لأنه لا يملك سوى طاقة عملية محدودة، بينما
يملك الرأسمالي جميع الشروط الخارجية اللازمة: المادة والأدوات ونفقات
المعيشة_ لتجسيد تلك الطاقة. فموقف الأجير في النظام الرأسمالي، إنما
هو نتيجة لفقده وسائل الإنتاج التي يتمتع بها الرأسمالي، وانفصاله عنها،
ومعنى هذا: أن أساس العلاقة الرأسمالية يقوم، على الانفصال الجذري
بين وسائل الإنتاج والأجير، وبالرغم من أنه هو المنتج الذي يباشر تلك
الوسائل. فهذا الانفصال هو الشرط الضروري تاريخياً لتكوّن العلاقات
الرأسمالية. فلكي يولد النظام الرأسمالي، يجب إذن أن يكون قد جرى
بالفعل انتزاع وسائل الإنتاج من المنتجين، دون أخذ ولا رد، أولئك
المنتجين الذين كانوا يستخدمونها لتحقيق عملهم الخاص، ويجب أن تصبح
هذه الوسائل المنتجة محصورة في أيدي التجاريين الرأسماليين. فالحركة
التاريخية التي تحقق الانفصال بين المنتج ووسائل الإنتاج، وتحصر هذه الوسائل
في أيدي التجاريين، هي إذن مفتاح السر للتراكم الرأسمالي الأول. وقد
تمت هذه الحركة التاريخية بأساليب: من الاستعباد، والاغتصاب المسلح،
والنهب، وألوان العنف، دون أن يساهم في إنجازها التدبير والاقتصاد،
والكياسة، والذكاء، كما تتخيل مراجع الاقتصاد السياسي التقليدي(1).
__________
(1) راجع رأس المال:ج3 ق3 ص1050_1055.(1/117)
ومن حقنا أن نتساءل: هل نجح ماركس في تفسيره هذا للتراكم
الأولي، الذي كان أساساً للنظام الرأسمالي؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال،
يجب أن نعرف أن ماركس حين قدّم هذا التفسير، لم يكن يهدف من
وراءه إلى إدانة الرأسمالية أخلاقياً، بصفتها قائمة على أساس النهب
والاغتصاب، وإن بدا في بعض الأحايين وكأنه يحاول شيئاً من ذلك...
لأن ماركس يعتبر الرأسمالية _ في ظرف تكوّنها_ حركة زحف إلى
الأمام، ساعدت على السير بالإنسان في المنحنى التاريخي، نحو المرحلة العليا
لحركة التطور البشري. فهي تتفق في ذلك الظرف_ من وجهة رأيه_
مع القيم الخلقية، إذ ليست القيم الخلقية عنده إلا وليدة الظروف الاقتصادية،
التي تتطلبها وسائل الإنتاج. فإذا كانت القوى المنتجة تتطلب قيام النظام
الرأسمالي، فمن الطبيعي أن تتكيف القيم الخلقية في تلك المرحلة التاريخية
طبقاً لمتطلباتها(1).
فليس من هدف ماركس إذن_ ولا من حقه أن يستهدف على أساس
مفاهيمه الخاصة_ الحكم على الرأسمالية، من وجهة نظر أخلاقية، وإنما
يهدف في دراسته للرأسمالية إلى تطبيق المادية التاريخية على مجرى التطور
التاريخي، وتحليل الأحداث وفقاً لها. فما هو نصيبه من التوفيق في هذه الناحية؟
يمكننا قبل كل شيء أن نلاحظ بهذا الصدد، ما أصابه ماركس من
التوفيق وما أتقنه بذكاء وبراعة من التصرف البارع بالألفاظ. ذلك أنه
لاحظ لدى تحليل النظام الرأسمالي، أن هذا النظام يتضمن في أعماقه علاقة
معينة، بين رأسمالي يملك وسائل الإنتاج وأجير لا يملك شيئاً منها، وهو
__________
(1) قال انجلز: ((فإذا كان ماركس يقوم بإبراز الجوانب السيئة من الإنتاج الرأسمالي،
فهو يثبت بوضوح مماثل أن هذا الشكل الاجتماعي كان ضرورة، لكي ترفع بالتدريج المجتمع
القوى الإنتاجية، إلى مستوى يستطيع فيه جميع أعضاء المجتمع أن ينمو بالتساوي قيمهم الإنسانية.
رأس المال ملاحق ص1168)).(1/118)
لذلك يتنازل عن منتوجه إلى الرأسمالي. واستخلص من ذلك: أن النظام
الرأسمالي يتوقف على عدم وجود القوى المنتجة عند الفئات العاملة القادرة
على ممارسة الإنتاج، وانحصارها لدى التجاريين، لتضطر تلك الفئات إلى
العمل بأجرة عند هؤلاء. وهذه الحقيقة تعتبر واضحة دون مراء، غير
أن ماركس كان بحاجة إلى لعبة لفظية ليصل عن طريق هذه الحقيقة إلى
ما يعينه، ولذلك غيّر من تعبيره، وانتقل من قوله ذاك إلى التأكيد على:
أن سر التراكم الأول يمكن في فصل وسائل الإنتاج عن المنتجين، وتجريدهم
منها بالقوة، واختصاص التجاريين بها. وهكذا بدأ هذا المفكر الكبير،
وكأنه لم يدرك الفرق المعنوي بين المقدمات التي ساقها، والنتيجة التي انتهى
إلى التأكيد عليها. فإن تلك المقدمات كانت تعني: أن عدم وجود الوسائل
المنتجة عند جماعات من القادرين على العمل، ووجودها عند التجاريين،
هو الشرط الأساسي لوجود الرأسمالية، وهذا يختلف عن النتيجة التي
انتهى إليها أخيراً، والتي فسرت عدم وجود الوسائل لدى الأجراء:
بتجريدهم منها وانتزاعها منهم بالقوة. فهذا التجريد والانتزاع إذن إضافة
جديدة تماماً لا تتضمنها المقدمات التحليلية التي ساقها، ولا يمكن أن
يستنتج منطقياً من تحليل جوهر النظام الرأسمالي، والعلاقات المحددة فيه
بين المالك والأجير.
وقد تقول الماركسية تعليقاً على ما قلناه_: صحيح إن النظام الرأسمالي
إنما يتوقف فقط على عدم وجود الوسائل المنتجة عند العمال، وتوفرها عند
التجاريين. ولكن كيف نفسر ذلك؟ ولماذا لم توجد الوسائل المنتجة عند
العمال ووجدت عند التجاريين، لو لم تقم حركة تجريد العمال من وسائلهم
المنتجة، واغتصابها لحساب التجاريين؟!
وردنا على هذا القول يتلخص في وجوه:
فأولاً: إن هذا الوصف لا ينطبق على المجتمعات، التي قامت فيها
الرأسمالية على أكتاف الطبقة الإقطاعية، كما اتفق في ألمانيا مثلاً، إذ قام عدد(1/119)
كبير من الإقطاعيين بتشييد المصانع ومباشرة إدارتها، وتمويلها بما كانوا
يحصلون عليه من ريع إقطاعي. فليس من الضروري أن يحدث التحول من
الإقطاع إلى الرأسمالية، على إثر حركة اغتصاب جديد، ما دام يمكن
للإقطاعيين أنفسهم أن يباشروا الإنتاج الرأسمالي، على أساس ما يملكون من
ثروات إقطاعية، تم لهم استملاكها في مطلع التاريخ الإقطاعي.
وكما لا ينطبق الوصف الماركسي على الرأسمالية الصناعية، التي نشأت
على أكتاف الطبقة الإقطاعية، كذلك لا ينطبق على الرأسمالية الصناعية،
التي تكونت من الأرباح التجارية، كما وقع في الجمهوريات التجارية الإيطالية(كالبندقية) و(جنوا) و(فلونسة) وغيرها. فإن طبقة من
التجاريين وجدت في هذه المدن قبل أن يخلق أجراء الصناعة، أي قبل أن
يوجد النظام الرأسمالي بمعناه الصناعي، الذي يفتش ماركس عن جذوره
فكان الصناع يعملون لحسابهم الخاص، وكان أولئك التجار يشترون منهم
منتوجاتهم للاتجار بها، فيجنون الأرباح الطائلة عن طريق التجارة مع
الشرق، التي ازدهرت في أعقاب الحروب الصليبية. وازداد مركزهم
التجاري نجاحاً بتمكنهم من احتكار التجارة مع الشرق، عن طريق التفاهم
مع سلاطين المماليك، أصحاب السيادة على مصر والشام، فتضاعفت
أرباحهم، واستطاعوا عن هذا الطريق أن يتخلصوا من سلطة الإقطاع،
وبالتالي أن يشيدوا المصانع الكبيرة التي اكتسحت_ بالمنافسة_ الصناعات
اليدوية الصغيرة. فقام على هذا الأساس الإنتاج الرأسمالي، أو الرأسمالية
الصناعية.
وثانياً: إن وجهة النظر الماركسية لا تكفي لحل المشكلة، لأنها لا تزيد
على القول: بأن الحركة التاريخية التي جرّدت العمال المنتجين من وسائلهم،
وحصرتها في أيدي التجاريين، هي التي خلقت التراكم الرأسمالي الأول،
ولكنها لا تفسر لنا: كيف أن فئة معينة استطاعت أن تكتسب سلطة
الإخضاع والعنف، وتجرّد المنتجين من وسائل إنتاجهم بالقوة؟(1/120)
وثالثاً: هب أن سلطة الإخضاع والعنف هذه ليست بحاجة إلى تفسير،
ولكنها لا تصلح أداة ماركسية لتفسير التراكم الرأسمالي الأول، وبالتالي
للنظام الرأسمالي كله، لأنها ليست تفسيراً اقتصادياً، فهي لا تنسجم مع
جوهر المادية التاريخية. فكيف سمح ماركس لنفسه، أو سمح له مفهومه
العام عن التاريخ، أن يعلل التراكم الرأسمالي الأول، ووجود الطبقة
الرأسمالية تاريخياً، بسلطة الاغتصاب والإخضاع، وهي علة ليست اقتصادية
بطبيعتها؟! والحقيقة إن ماركس بهذا التحليل يهدم منطقه التاريخي بنفسه،
ويعترف ضمناً بأن التكوين الطبقي لا يقوم على أساس اقتصادي بحت.
وقد كان جديراً به_ وفقاً لأسس المادية التاريخية_ أن يأخذ بوجهة
النظر التقليدية، في تفسير ظهور الطبقة الرأسمالية، تلك النظرة التي سخر
منها بالرغم من أنها تقدم تفسيراً أقرب إلى الطبيعة الاقتصادية من التفسير
الماركسي.
وأخيراً: فإن كل ما يعرضه لنا ماركس بعد ذلك في فصول كتابه،
من شواهد تاريخية على حركة الاغتصاب والتجريد التي فسر فيها التراكم
الأول، قد استخرجها من تاريخ انكلترا فحسب، وهي تعرض الإغتصاب
التي قام بها الإقطاعيون في انكلترا. إذ جرّدوا الفلاحين من أراضيهم
وحولوها إلى مراع، وألقوا بأولئك المطرودين في أسواق البورجوازية
الفتية. فهي عمليات تجريد الفلاح من أرضه لحساب الإقطاعي، وليست
حركة تجريد للصناع من وسائل الإنتاج لحساب التجاريين.
وقبل أن نتجاوز عن هذه النقطة، نود أن نلقي نظرة عابرة على عشرات
الصفحات التي ملأها ماركس من كتاب رأس المال، بوصف تلك العمليات
العنيفة، التي جرد فيها الإقطاعيون الفلاحين من أراضيهم، ومهدوا بذلك
لقيام النظام الرأسمالي.
إن ماركس في وصفه المثير، يقتصر على الأحداث التي وقعت في
انكلترا خاصة، ويوضح لدى استعراضه لتلك الأحداث: أن السبب
الحقيقي الذي دعا الإقطاعيين إلى استعمال ألوان العنف، في طرد الفلاحين(1/121)
من أراضيهم، هو أنهم أرادوا تحويل مزارعهم إلى مراع للحيوانات، فلم
يعد لهم حاجة بهذا الجيش الكبير من الفلاحين. ولكن لماذا وجد_ هكذا
وفجأة- هذا الاتجاه العام، إلى تحويل المزارع إلى مراع؟. إن ماركس
يجيب على ذلك قائلاً:
((إن الذي فسح المجال بصورة خاصة في انجلترا
لأعمال العنف،هذا هو ازدهار مصانع الصوف في
(الفلاندرز)، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار الصوف))(1).
ولهذا الجواب مغزاه التاريخي الخاص، وإن لم يعره ماركس اهتماماً،
لأنه يقرر أن ازدهار الإنتاجي الصناعي في المدن(الفلمنكية) الصناعية، وفي
الجزء الجنوبي من بلجيكا خاصة(الفلاندرز)، ورواج التجارة الرأسمالية
بالصوف وسائر المنتجات على وجه العموم، وظهور أسواق كبيرة لتلك
البضائع التجارية، هو الذي دعا الإقطاعيين الإنجليز إلى الاستفادة من هذه
الفرصة، وتحويل مزارعهم إلى مراع، ليتمكنوا من تصدير الصوف إلى
المدن الصناعية، واحتلال السوق التجارية الصوف، باعتبار ما يتمتع به
الصوف الإنجليزي من ميزات جعلته أساسياً في نسج الأقمشة الصوفية الرفيعة(2).
وواضح من سياق هذه الأحداث وتتابعها، أن السبب الذي اعتبره
ماركس الدعامة التاريخية، لتكوّن المجتمع الرأسمال في انجلترا(طرد
الفلاحين).. لم ينبع من النظام الإقطاعي نفسه. كما يفرضه المنطق الجدلي
للمادية التاريخية فليس النظام الإقطاعي هو الذي ولد التناقض الذي قضى
عليه، ولا العلاقات الإقطاعية هي التي أوجدت ذلك السبب الذي عني به
ماركس، وإنما وجد بسبب ازدهار مصانع الصوف من الخارج، ورواج
التجارة الرأسمالية بالأصواف. فالرأسمالية التجارية هي التي دفعت الإقطاعيين
إلى الإلقاء بجماهير الفلاحين في أسواق المدينة، لا العلاقات الإقطاعية...
وهكذا نرى_ حتى في الصورة التي قدمها لنا ماركس بالذات_ أن النقيض
__________
(1) رأس المال: ق2 ج3 ص1059.
(2) التاريخ الإنجليزي، ص56.(1/122)
للعلاقات الاجتماعية، قد تكونت أسبابه وشروطه، خارج حدود تلك
العلاقات، ولم تنبع من نفس تلك العلاقات، التي لم تكن لتحقق تلك
الشروط، لو عزلت عن العوامل والمؤثرات الخارجية.
اعتراف ماركس:
وقد أدرك ماركس بعد ذلك، أن عمليات اغتصاب الطبقة الإقطاعية،
لا يمكن أن يفسر على أساسها التراكم الأولي لرأس المال الصناعي، وإنما
تفسر تلك العمليات فقط: كيف وجد السوق الرأسمالي، العمال القادرين
على العمل لأجرة، في أشخاص أولئك الفلاحين الذين لفظهم الريف،
فنزحوا إلى المدينة؟. ولهذا حاول أن يعالج المشكلة من جديد، في الفصل
الحادي والثلاثين من رأس المال. فلم يكتف في تفسير التراكم بظروف
الرأسمالية التجارية أو الربوية، التي أدت إلى تجمع ثروات ضخمة لدى
التجار والربويين، لأنه لا يزال مصراً على أن أساس التراكم هو اغتصاب
وسائل الإنتاج، والشروط المادية من المنتجين ولأجل هذا اتجه في تفسير
التراكم الرأسمالي إلى القول:
((إن اكتشاف مناطق الذهب والفضة في اميركة، وتحويل سكان البلاد الأصليين إلى حياة الرق، ودفنهم
في المناجم أو إبادتهم وبدايات الفتح والنهب لجزر الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج، هذه هي الطرائق ((الغزلية البريئة))
للتراكم الأولي، التي تبشر بالعهد الرأسمالي في فجره))(1).
ومرة أخرى نجد ماركس يفسر ظهور المجتمع الرأسمالي بعامل القوة،
بالغزو والنهب والاستعمار، بالرغم من أنها عناصر ليست ماركسية بطبيعتها،
لأنها لا تعبّر عن قيم اقتصادية، وإنما تعبّر عن القوة السياسية والعسكرية.
ومن الطريف أن تتناقض الماركسية في هذه النقطة، تبعاً لما يتفتق ذهنها
عنه من أسلوب للتخلص من المأزق فنجد رجل الماركسية الأول بعد أن
اضطر إلى تفسير نشوء الكيان الرأسمالي في المجتمع بعامل القوة يقول:
((
__________
(1) رأس المال: ص1116.(1/123)
فالقوة هي المولد لكل مجتمع قديم آخذ في العمل، إن القوة هي عامل اقتصادي))(1).
وهو يريد بهذا التمديد في مفاهيم الأوضاع والتوسع فيها، إعطاء
العامل الاقتصادي مدلولاً لا يضيق عن استيعاب كل العوامل، التي يضطر
إلى الاستناد إليها تحليله.
ونقرأ للماركسية من ناحية أخرى، نصاً آخر عن عامل القوة، على
النقيض من ذلك في كتب انجلز علمها الفكري الثاني. فقد كتب يقول عن
التطورات الرأسمالية:
((يمكن تفسير هذه العملية بأجمعها، بعوامل
اقتصادية بحتة، وما من حاجة قط في هذا التفسير إلى اللصوصية(القوة) (التدخل) الحكومي أو السياسي
بأي نوع كان. لا يبرهن تعبير:(الملكية المؤسسة على
القوة) في هذا الصدد كذلك، إلا على أنه عبارة
يجترها مغرور، ليغطي على حرمانه من فهم مجرى
الأمور الواقعي))(2).
ونحن حين فقرأ لماركس وصفه التحليلي المثير، لظروف الرأسمالية
الانجليزية وواقعها التاريخي، لا نجد أي مبرر لرفضه أو الاعتراض عليه،
لأننا لا نفكر بطبيعة الحال في الدفاع عن التاريخ الأسود الذي سجلته أوروبا،
في مطلع نهضتها المادية الطاغية، التي نشأت الرأسمالية في ظلالها. ولكن
الأمر يختلف حين نأخذ تحليله للرأسمالية ونشوئها، بوصفه معبراً عن
الضرورة التاريخية التي لا يمكن علمياً للإنتاج الرأسمالي في الصناعة. أن
يشيد صرحه بدونها، فماركس حين ينطلق من الواقع الرأسمالي الذي
عاشته انكلترا مثلاً، له كل الحق في أن يفسر ثروتها الرأسمالية المتنامية،
في فجر تاريخها الحديث، بالنشاطات الاستعمارية المسعورة، التي ارتكبت
فيها ألوان الجرائم في مختلف بقاع الأرض، وبعمليات تجريد الصناع من
وسائل إنتاجهم بالقوة.. غير أن هذا لا يبرهن علمياً على أن الرأسمالية
لا يمكن أن توجد دون تلك النشاطات والعمليات، وأنها تحمل في أعماقها
__________
(1) رأس المال، ق2 ج3 ف31 ص 1119.
(2) ضد دوهرنك، ج2 ص32.(1/124)
الضرورة التاريخية لهذه النشاطات، الأمر الذي يعني أن إنكلترا كان من
الضروري أن تشهد تلك النشاطات والعمليات في مطلع الرأسمالية، ولو
كانت تعيش في إطار فكري آخر، بل إن التاريخ يبرهن على عكس ذلك.
فقد قام الإنتاج الرأسمالي في(فلاندرز) وإيطاليا في القرن الثالث عشر،
ونشأت فيها مؤسسات رأسمالية، ينتج فيها آلاف من الأجراء سلعاً تغزو
الأسواق العالمية، لحساب الملاّك الرأسماليين، ولم تظهر خلال ذلك الأعراض
التي ظهرت في انكلترا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التي
درسها ماركس في تحليله التاريخي للرأسمالية.
ولنأخذ مثلاً آخر: الإنتاج الرأسمالي في اليابان، التي بدأت في القرن
التاسع عشر تتحول من الأوضاع الإقطاعية إلى الرأسمالية الصناعية. ونختار
هذا المثال بالذات، لأن ماركس أشار في كلامه إشارة عابرة إلى:
(إن اليابان بتنظيمها الإقطاعي البحت للملكية العقارية وللزراعة الصغيرة فيها، تقدم لنا من وجهات
عديدة، صورة أكثر أمانة عن العصور الوسطى الأوروبية،
من تلك التي تقدمها كتب التاريخ عندنا، المشبعة بأفكار بورجوازية مستبقة)(1).
فلنفحص هذه الصورة الأمينة للإقطاع: كيف تحولت إلى الرأسمالية
الصناعية؟، وهل يتفق تحولها مع مفاهيم المادية التاريخية وتفاسير ماركس
لنشوء الرأسمالية الصناعية؟.
إن اليابان كانت غارقة في العلاقات الإقطاعية، حين استيقظت مذعورة
على أجراس الخطر التي كانت تنذر اليابان بخطر خارجي محقق، وذلك
سنة 1853 لما اقتحم الأسطول الأمريكي خليج(أوراجا)، وبدأ يفاوض
الحاكم العسكري الذي كان يتولى السلطة بدلاً عن الإمبراطور حول عقد
معاهدات، فقد بدا لليابان بوضوح أنها بداية غزو اقتصادي يجر إلى دمار
البلاد واستعمارها، وآمن المفكرون فيها أن السبيل الوحيد لإنقاذ اليابان
هو تصنيعها، وجعلها تسير في طريق الإنتاج الرأسمالي الذي سارت فيه
__________
(1) رأس المال، ق2 ج3 ص 1058.(1/125)
أوروبا من قبلها، واستطاعوا أن يستخدموا سادة الإقطاع أنفسهم في
تحقيق هذه الفكرة، فقام الإقطاعيون بإقصاء الحاكم العسكري عن السلطة
وإعادتها إلى الإمبراطور سنة 1868، وجندت السلطة الإمبراطورية كل
إمكاناتها لإيجاد ثورة صناعية في البلاد، ترتفع بها إلى مصاف الدول
الرأسمالية الكبرى، وبذلت الطبقة الاستقراطية من رجال الإقطاع خدماتها
للسلطة الحاكمة عن ولاء ورضى، ومكنتها من التعجيل بتحويل البلاد
إلى بلاد صناعية، ونمت بسرعة خلال ذلك طبقة من التجار والصناع،
الذين كانوا يوضعون سابقاً في أسفل درجات السلم الاجتماعي، فأخذوا
يستخدمون_ في هدوء_ ما أتيح لهم من مال وقوة نفوذ، في تحطيم النظام
الإقطاعي تحطيما سلمياً. حتى نزل أشراف الإقطاع سنة 1871 عن
امتيازاتهم القديمة. وعوضتهم الحكومة عن أراضيهم بسندات أصدرتها
لذلك وتم كل شيء بسلام، ووجدت اليابان الصناعية وأخذت مركزها
في التاريخ.
فهل ينطبق هذا الوصف على مفاهيم المادية التاريخية، وتفاسير ماركس؟
إن الماركسية تؤكد أن الانقلاب من مرحلة تاريخية إلى أخرى،
لا يتم إلا بشكل ثوري، لأن التغيرات الكمية التدريجية تؤدي إلى تحول
دفعي آني. مع أن تحول اليابان من الإقطاع إلى الرأسمالية تم بشكل سلمي،
وتنازل سادة الإقطاع عن حقوقهم، فلم يضطروا اليابان_ وهي في طريقها
الرأسمالي_ إلى ثورة كالثورة الفرنسة عام(1789).
كما أن الماركسية تعتبر أن كل تطور لا يتم إلا من خلال الصراع الطبقي:
بين طبقة تقف إلى صف التطور، وأخرى تحاول الوقوف في وجهه. بينما
نرى أن المجتمع الياباني قد وقف بمجموعه إلى جانب حركة التطور الصناعي والرأسمالي، ولم يشذ عن ذلك حتى سادة الإقطاع أنفسهم. فقد آمنوا
جميعاً بأن حياة البلاد رهن هذه الحركة وتنميتها.
والماركسية ترى_ كما قرأنا نصوص رأس المال السابقة_ أن
التراكم الرأسمالي الذي تقوم الرأسمالية الصناعية على أساسه، لا يمكن أن(1/126)
يفسر بطرائق(العزل البريء)_ على حد تعبير ماركس_ وإنما يفسر
بأعمال العنف والغزو وعمليات التجريد والاغتصاب، مع أن الواقع
التاريخي لليابان يدلل على العكس. فلم يحدث التراكم الرأسمالي ولم تنشأ
الرأسمالية الصناعية في اليابان، نتيجة للغزو والاستعمار أو عمليات تجريد
المنتجين من وسائل إنتاجهم، وإنما وجدت هذه الحركة بفضل نشاط
ساهمت فيه اليابان كلها، واستخدمت في تنمية السلطة الحاكمة كل نفوذها
السياسي، فظهرت البورجوازية على المسرح الاجتماعي، كنتيجة لتلك
النشاطات السياسية والفكرية وغيرها، وليس كقوة خالقة للجو السياسي
والفكري الذي يلائمها.
قوانين المجتمع الرأسمالي
حين نعرض لقوانين المجتمع الرأسمالي من وجهة نظر المادية التاريخية،
نكون بحاجة إلى إبراز الوجه الإقتصادي للماركسية، الذي لا يتجلى بملامحه
الاقتصادية الكاملة عند تحليل الماركسية لأي مرحلة من مراحل التاريخ،
كما يتجلى عند دراستها للمرحلة الرأسمالية. فقد قامت الماركسية بتحليل
المجتمع الرأسمالي وشروطه الاقتصادية، ودرست قوانينه العامة على أسس
المادية التاريخية، وانتهت من ذلك إلى التأكيد على ما يكمن في أعماق
الرأسمالية من تناقضات، تتراكم وفقاً للقوانين المادية التاريخية، حتى
تدفع بالنظام الرأسمالي في النهاية إلى قبره المحتوم في لحظة حاسمة من
لحظات التاريخ.
القيمة أساس العمل
وقد بدأ(ماركس) دراسته لجوهر المجتمع الرأسمالي، وقوانين
الاقتصاد السياسي البورجوازي، بتحليل القيمة التبادلية، بوصفها عصب
الحياة في المجتمع الرأسمالي_ كما بدأ غيره من الاقتصاديين الذين عاصروه
وسبقوه_ وجعل من نظريته التحليلية في القيمة، حجر الزاوية في بنائه
النظري العام.
ولم يصنع ماركس شيئاً أساسياً في مجال تحليل القيمة التبادلية، وإنما
أخذ بالنظرية التقليدية، التي شادها قبله(ريكاردو) وهي النظرية القائلة:(1/127)
إن العمل البشري هو جوهر القيمة التبادلية. فالقيمة التبادلية لكل منتوج
إنساني، تقدر على أساس كمية العمل المتجسد فيه، وتتفاوت قيم الأشياء
بتفاوت العمل المهراق فيها. فقيمة السلعة التي يتطلب إنتاجها ساعة واحدة
من العمل، تساوي نصف قيمة السلعة التي ينفق عليها في العادة ساعتان من
العمل.
وتعتبر هذه النظرية نقطة البدء عند(ريكاردو) وماركس معاً في
دراستهما التحليلية لهيكل الاقتصاد الرأسمالي. فقد جعل كل منهما منها القاعدة
التي يقوم عليها بناؤه العلمي. ولئن كان(ريكاردو) قد سبق(ماركس)
إلى وضع هذه النظرية في صيغة علمية محددة، فقد سبقهما معاً عدة مفكرين
اقتصاديين وفلسفيين إلى التنويه بها، كالفيلسوف الإنجليزي(جون لوك)،
الذي أشار إلى هذه النظرية في بحوثه، ثم أخذ بها(آدم سميث) الاقتصادي
الكلاسيكي المعروف في حدود ضيقة، فاعتبر العمل أساساً للقيمة التبادلية
بين الجماعات البدائية.. غير أن(ريكاردو) كان بحق هو الذي أعطى
النظرية معنى الشمول والاستيعاب، وآمن بأن العمل هو المصدر العام للقيمة
التبادلية، ثم جاء ماركس يسير في طريقه بأسلوبه الخاص.
وهذا لا يعني_ بطبيعة الحال_ أن ماركس لم يصنع شيئاً، في حقل
هذه النظرية، سوى ترديد الصدى الذي تركه(ريكاردو)، بل أنه
_ حين أخذ النظرية منه_ صاغها في إطاره الفكري الخاص، فادخل على
بعض جوانبها ايضاحات جديدة، وضمّنها عناصر ماركسية، وقبل بعض
جوانبها الأخرى كما تركها سلفه.
ف (ريكاردو) حين آمن بهذه النظرية:(العمل أساس القيمة)،
أدرك أن العمل لا يحدد القيمة في حالات الاحتكار التي تنعدم فيها المنافسة،
إذ أن من الممكن في هذه الحالات أن تتضاعف قيمة السلعة المحتكرة،
وفقاً لقوانين العرض والطلب، دون أن تزيد كميات العمل المنفقة عليها.
ولأجل هذا اعتبر المنافسة الكاملة شرطاً أساسياً، لتشكل القيمة التبادلية على
أساس العمل. وهذا ما قاله ماركس أيضاً، معترفاً بأن النظرية لا تنطبق(1/128)
على حالات الإحتكار.
ولاحظ(ريكاردو) أيضاً أن العمل البشري يتفاوت في كفايته،
فساعة من عمل الصانع الذكي النشيط، لا يمكن أن تساوي ساعة من عمل
الصانع البليد البطيء. وقد عالج ذلك بافتراض مقياس عام للكفاية الإنتاجية
في كل مجتمع. فكل كمية من العمل إنما تخلق القيمة التي تتناسب معها،
إذا كانت تتوافق مع ذلك المقياس العام. وهذا المقياس نفسه هو الذي عبّر
عنه ماركس: بكمية العمل الضرورية اجتماعياً، إذ قال: إن كل عمل
إنتاجي يخلق قيمة تناسبه، إذا انفق بالطريقة المتعارفة اجتماعياً.
ووجد(ريكاردو) نفسه_ بعد وضع النظرية_ مضطراً إلى إبعاد
غير العمل من عناصر الإنتاج_ كالأرض ورأس المال_ عن عملية تكوين
القيمة، ما دام هو الأساس الوحيد لها. فجاء لأجل ذلك بنظريته الجديدة،
في تفسير الريع العقاري، التي قلب بها المفهوم الاقتصادي السائد عن الريع،
كي يبرهن على أن الأرض لا تساهم في تكوين القيمة التبادلية. في حالة
المنافسة الكاملة. فقد كان من عادة الاقتصاديين قبل(ريكاردو)، أن
يفسروا ريع الأرض بأنه هبة من الطبيعة تنشأ، من اشتراك الأرض مع
الجهود الإنسانية، في الإنتاج الزراعي وبالتالي في تكوين القيمة التبادلية
المنتجة وهذا يعني ضمناً: أن العمل ليس هو الأساس الوحيد للقيمة. فكان
من الضروري لريكاردو أن يرفض هذا التفسير للريع، وفقاً لنظريته عن
القيمة، ويأتي بالتفسير الذي ينسجم مع النظرية وهذا ما قام به فعلاً،
فقرر أن الريع نتيجة للاحتكار، ولا يمكن أن يظهر في حالة المنافسة الكاملة. فالأشخاص الذين سيطروا على الجزء الأكثر خصباً من الأرض يحصلون على
ريع نتيجة لاحتكارهم، واضطرار الآخرين إلى استثمار الأراضي الأقل
خصباً.
وأما فيما يتصل برأس المال، فقد ذكر(ريكاردو) أن رأس المال
ليس إلا عملاً متجمعاً، قد ادخر مجسداً في أداة أو مادة، لينفق من جديد
في سبيل الإنتاج، فلا مبرر لاعتباره عاملاً مستقلاً في تكوين القيمة التبادلية.(1/129)
فالمادة التي بذلت في إنتاجها ساعة من العمل، ثم استهلكت في عملية إنتاج
جديدة، تعبّر عن عمل ساعة يضاف إلى الكمية الجديدة من العمل، التي
يتطلبها الإنتاج الجديد وهكذا ينتهي ريكاردو إلى أن العمل هو الأساس
الوحيد للقيمة.
وكان من المنتظر أن يشجب(ريكاردو) الربح الرأسمالي، ما دام
رأس المال لا يخلق قيمة تبادلية جديدة، وما دامت السلعة مدينة في قيمتها
التبادلية لعمل العامل فحسب. غير أن ريكاردو لم يفعل شيئاً من هذا،
واعتبر من المنطقي أن تباع السلعة بسعر يعود بعائد صاف لمن يملك رأس
المال، وفسر ذلك بفترة الوقت التي تمضي بين الاستثمار وظهور المنتجات
للبيع. وبهذا اعترف بالزمن بوصفه عاملاً آخر، لتكوين القيمة التبادلية.
ومن الواضح أن هذا يعتبر من ريكاردو تراجعاً عن نظريته القائلة: بأن
العمل هو الأساس الوحيد للقيمة، وعجزاً عن الاحتفاظ بالنظرية حتى
النهاية.
وأما ماركس فهو حين عالج عناصر الإنتاج، التي تشترك مع العمل
في العملية الإنتاجية، والتي عالجها ريكاردو من قبله.. أدخل على أفكار
سلفه من ناحية شيئاً من التعديل، وجاء من ناحية أخرى بأفكار جوهرية
لها خطرها. فمن الناحية الأولى: درس الريع العقاري، فأقر تفسير
(ريكاردو) له، واستطاع أن يميز بين الريع التفاضلي الذي تحدّث عنه
ريكاردو، والريع المطلق الذي أثبت عن طريقه: أن للأرض بمجموعها
ريعاً قائماً على أساس الاحتكار الطبيعي، ومحدودية مساحة الأرض(1).
ومن الناحية الثانية: هاجم اعتراف ريكاردو بمنطقية الربح الرأسمالي،
وشن حملة عنيفة ضده، على أساس نظرية القيمة الفائضة، التي تعتبر بحق
الجزء الماركسي الصميم في البناء النظري الذي شاده ماركس.
كيف وضع ماركس القاعدة الأساسية لاقتصاده؟
يبدأ ماركس في استدلاله على جوهر القيمة، بالتفرقة بين القيمة
الاستعمالية والقيمة التبادلية. فالسرير والملعقة ورغيف الخبز مجموعة من
__________
(1) رأس المال: ص1186.(1/130)
السلع، تتضمن كل واحدة منها قيمة استعمالية معينة، بسبب المنفعة التي
تؤديها السلعة، وتختلف قيمها الإستعمالية تبعاً لاختلافها في نوعية المنفعة
التي يجنيها الإنسان منها. ولكل واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر.
فإن السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع، كما يمكن أن ينام عليه_ وهذا
ما يحدد قيمته الاستعمالية_ كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه. وهذا
يعبر عن القيمة التبادلية. فالثوب والسرير، بينما كانا متناقضين في منافعهما
وقيمهما الإستعمالية. نجد أنهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة. أي أن
كلاً منها يمكن استبداله بالآخر في السوق. لأن سريراً خشبياً واحداً
يساوي ثوباً حريرياً من نوع معين.
وهذه المعادلة تعني أنه يوجد ثمة في شيئين مختلفين: السرير والثواب،
شيء مشترك، بالرغم من اختلاف منافعهما وموادهما. فالشيئان هما إذن
مساويان لشيء ثالث، ليس في ذاته سريراً ولا ثوباً. وهذا الشيء الثالث
لا يمكن أن يكون خاصة طبيعية أو هندسية للبضائع، لأن خصائصهما
الطبيعية لا تدخل في الحساب، إلا بقدر ما تمنحها من منفعة استعمالية،
ولما كانت القيم والمنافع الاستعمالية في الثوب ولسرير مختلفة، فيجب أن
يكون الشيء الثالث المشترك بينهما، أمراً غير القيم الاستعمالية ومقوماتها
الطبيعية فإذا أسقطنا من الحساب هذه القيم وطرحنا جميع الخصائص الطبيعية
للثوب والسرير، لا يبقى بين أيدينا إلا الصفة الوحيدة، التي تشترك فيها
السلعتان، وهي: العمل البشري. فكل منهما تجسيد لكمية خاصة من
العمل، ولما كانت الكميتان المنفقتان على السرير والثوب متساويتين،
نتج عن ذلك تساويهما في القيمة التبادلية أيضاً...
وهكذا ينتهي تحليل عملية التبادل إلى: أن العمل هو جوهر القيمة
التبادلية(1).
ويتحدد ثمن السلعة في السوق بصورة أساسية، طبقاً لقانون القيمة
__________
(1) لاحظ رأس المال: ج1 ق1 ف1 ص 44_49.(1/131)
التبادلية هذا، أي لكمية العمل البشري المتجسد فيها. غير أن الثمن السوقي
لا يطابق مع القيمة التبادلية الطبيعية، التي يحددها القانون الآنف الذكر،
إلا في حالة معادلة العرض للطلب. ومن هنا يمكن لثمن السلعة أن يرتفع عن
قيمتها الطبيعية، وفقاً لنسبة العرض إلى الطلب. فقوانين العرض والطلب
نستطيع أن ترفع الثمن أو تخفضه، أي أن تجعله مناقضاً للقيمة الطبيعية،
ولكن القيم الطبيعية للسلع تحدد بدورها من فعل قوانين العرض والطلب.
فهي وإن سمحت للسلعة بأن يزيد ثمنها عن قيمتها، بسبب قلة العرض
وزيادة الطلب مثلاً ولكنها لا تسمح لهذا الارتفاع أن يتزايد بشكل غير
محدود، ولذلك نجد أن المنديل_ مثلاً_ مهما تحكمت فيه قوانين العرض
والطلب، فهي لا تتمكن من رفع ثمنه إلى ثمن السيارة. وهذه القوة الكامنة
في المنديل التي تجذب الثمن إليها، ولا تسمح له بالإنطلاق غير المحدود،
هي القيمة التبادلية.
فالقيمة الطبيعية حقيقة ثابتة من وراء الثمن، تخلقها كميات العمل
المتجسدة في السلع. والثمن تعبير سوقي عنها تحدده القيمة الطبيعية، وتلعب
قوانين العرض والطلب دوراً ثانوياً في خفضه ورفعه، وفقاً لحالة المنافسة
ونسبة العرض إلى الطلب ومدى وجود الاحتكار في السوق.
وقد لاحظ ماركس_ و(ريكاردو) من قبله_: أن قانون القيمة
هذا لا ينطبق على حالات الاحتكار، لأن القيمة في هذه الحالات تحدد
وفقاً لقوانين العرض والطلب، التي يتحكم فيها المحتكرون، وكذلك
لا ينطبق أيضاً على بعض ألوان الإنتاج الفني والأثري، كاللوحة التي تنتجها
ريشة فنان مبدع، أو الرسالة الخطية التي يمتد تاريخها إلى مئات السنين،
فيكون لها ثمن مرتفع جداً نظراً إلى طابعها الفني أو التاريخي، رغم الضآلة
النسبية لكمية العمل الممثلة فيها.
ولأجل هذا أعلنت الماركسية أن قانون القيمة القائم على أساس العمل،
يتوقف أولاً: على توفر المنافسة التامة، فلا يسري إلى حالات الاحتكار.(1/132)
وثانياً: على كون السلعة نتاجاً اجتماعياً يمكن إيجاده عن طريق العمل
الاجتماعي دائماً، فلا يسري القانون على الإنتاج الفردي الخاص، كاللوحة
الفنية والرسالة الخطية.
ونود أن نشير قبل كل شيء إلى ظاهرة خطيرة، في التحليل الماركسي
لجوهر القيمة، وهي أن ماركس اتّبع في تحليله واستكشافه لقانون القيمة،
طريقة تجريدية خالصة، بعيداً عن الواقع الخارجي، وتجاربه الإقتصادية.
وهكذا بدا فجأة وقد تقمص شخصية(أرسطو) الميتافيزيقية في الاستدلال
والتحليل. ولهذه الظاهرة سببها الذي اضطر ماركس إلى هذا الموقف،
لأن الحقائق الواضحة عن الحياة الإقتصادية، تعبر دائماً عن ظواهر تناقض
تماماً النتائج التي تؤدي إليها النظرية الماركسية. فإن من نتيجة هذه النظرية
أن الأرباح المكتسبة تختلف من مشروع إلى آخر، تبعاً لإختلاف كمية
العمل المأجور المنفق خلال الإنتاج، دون أن يكون لكمية الآلات والأدوات
أثر في ذلك، لأنها لا تضفي على النتائج أية قيمة أكثر مما تفقده، مع أن
الربح في الحياة الإقتصادية السائدة، يزداد كلما ازدادت الآلات والأدوات
التي يتطلبها المشروع. فلم يتمكن ماركس لأجل هذا من التدليل على
نظريته بشواهد من واقع الحياة الإقتصادية، فحاول أن يبرهن عليها بصورة
تجريدية، حتى إذا أكمل مهمته هذه، جاء إلى النتائج المقلوبة في واقع
الحياة الإقتصادية. ليؤكد أنها لم توجد مقلوبة نتيجة لخطأ النظرية التي
يؤمن بها، وإنما هي مظهر من مظاهر المجتمع الرأسمالي، الذي يضطر
المجتمع إلى الإنحراف عن قانون القيمة الطبيعي، والتكيف وفقاً لقوانين
العرض والطلب(1).
نقد القاعدة الأساسية للإقتصاد الماركسي
والآن فلنفحص قانون القيمة عند ماركس، في ضوء الدليل الذي
قدمه عليه.
يبدأ ماركس في دليله_ كما رأينا_ من تحليل عملية التبادل(تبادل
السرير الخشبي بثوب من حرير مثلاً)، فيرى أن هذه العملية تعبّر عن
__________
(1) رأس المال: 1185.(1/133)
مساواة السرير للثوب في القيمة التبادلية، ثم يتساءل: لماذا كان السرير
والثوب متساويين في القيمة التبادلية؟. ويجيب أن السبب في ذلك اشتراكهما
في أمر واحد، موجود فيهما بدرجة واحدة، وليس هذا الأمر المشترك
بين الثوب والسرير إلا العمل المتجسد فيهما، دون المنافع والخصائص
الطبيعية التي يختلف فيها السرير عن الثوب فالعمل هو إذن جوهر القيمة.
ولكن ماذا تقول الماركسية لو اصطنعنا نفس هذه الطريقة التحليلية، في
عملية تبادل بين إنتاج اجتماعي وإنتاج فردي؟!، أفليس للخط الأثري
- وهو ما تسميه الماركسية بالإنتاج الفردي_ قيمة تبادلية؟!، أو ليس
من الممكن استبداله في السوق بنقد أو كتاب أو بأي مال آخر؟!، فإذا
استبدلناه بنتاج اجتماعي، كنسخة مطبوعة من تاريخ الكامل مثلاً، كان
معنى ذلك أن صفحة الخط الأثري مثلاً، تساوي قيمتها التبادلية نسخة من
تاريخ الكامل. فلنفتش هنا عن الأمر المشترك الذي أملى على السلعتين قيمة
تبادلية واحدة. كما فتشت الماركسية عن الأمر المشترك بين السرير والثوب،
فكما كان يجب أن تكون القيمة التبادلية الواحدة للسرير والثوب تعبيراً
عن صفحة مشتركة بينهما( وهي في رأي الماركسية كمية العمل المنفقة
فيهما) كذلك أيضاً بعد القيمة التبادلية الواحدة للخط الأثري ونسخة من
تاريخ الكامل، عن الأمر المشترك، فهل يمكن أن يكون هذا الأمر المشترك
هو كمية العمل المنفقة عليهما؟!. كلا طبعاً، فإننا نعلم أن العمل المتجسد
في الخط الأثري، أقل كثيراً من العمل المتجسد في نسخة مطبوعة من تاريخ
الكامل، بورقه وجلده وحبره وطباعته، ولأجل هذا استثنت السلع الفنية
والأثرية، من قانون القيمة.
ولسنا نؤاخذ الماركسية على هذا الاستثناء، لأن لكل قانون من قوانين
الطبيعة شروطه واستثناءاته الخاصة، ولكننا نطالبها_ على هذا الأساس_
بتفسير الأمر المشترك بين الخط الأثري، ونسخة من تاريخ الكامل، اللذين(1/134)
تم التبادل بينهما في السوق، كما يتم التبادل بين السرير والثوب. فإن كان من الضروري أن يوجد من وراء المساواة في عملية التبادل، أمر مشترك بين
السلعتين المتساويتين في قيمتها، فما هو هذا الأمر المشترك بين الخط الأثري
ونسخة من تاريخ الكامل، هاتين السلعتين المختلفتين في كمية العمل المكتنز
فيهما، وفي نوعية المنفعة وشتى الخصائص؟!. أفلا يبرهن هذا على أن
هناك أمراً مشتركاً بين السلع، التي يجري بينها التبادل في السوق، غير العمل
المتجسد فيها، وأن هذا الأمر المشترك موجود في السلع المنتجة إنتاجاً فردياً،
كما يوجد في السلع التي تحمل طابع الإنتاج الاجتماعي؟!. وإذا كان يوجد
أمر مشترك بين جميع السلع، بالرغم من اختلافها في كميات العمل المنفقة
عليها، وفي طابع العمل من ناحية كونه فردياً أو اجتماعياً، واختلافهما
أيضاً في المنافع والخصائص الطبيعية والهندسية، إذا كان يوجد مثل هذا
الأمر المشترك العام حقاً، فلماذا لا يكون هو المصدر الأساسي للقيمة التبادلية وجوهرها الداخلي؟!.
وهكذا نجد أن الطريقة التحليلية التي اتخذها ماركس، تتوقف به في
منتصف الطريق، ولا تسمح له بمواصلة استنتاجاته، ما دامت كميات
العمل المتجسد في السلع قد تختلف إختلافاً كبيراً، مع مساواة بعضها لبعض
في القيمة التبادلية. فليست كميات العمل المتساوية هي السر الكامن وراء
المساواة في عمليات التبادل.
فما هو هذا السر الكامن إذن؟؟،
ما هو هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير. والخط الأثري والنسخة
المطبوعة من تاريخ الكامل، الذي يحدد لكل واحدة من هذه السلع قيمتها
التبادلية تبعاً لنصيبها منه؟؟.
* * *
وفي رأينا هناك مشكلة أخرى تواجه قانون القيمة عند ماركس
لا يمكن للقانون أن يتغلب عليها لأنها تعبّر عن تناقض هذا القانون مع الواقع
الطبيعي الذي يعيشه الناس مهما كان الطابع المذهبي والسياسي لهذا الواقع،(1/135)
فلا يمكن أن يكون هذا القانون تفسيراً علمياً للواقع الذي يناقضه.
ولنأخذ الأرض مثالاً لهذا التناقض، بين القانون والواقع. فالأرض
تصلح_ دون شك_ لإنتاج عدد كبير من الحاصلات الزراعية، أي
لعدد كبير من الاستعمالات البديلة فيمكن أن تستعمل الأرض في زراعة
الحنطة، كما يمكن أن تستخدم_ بدلاً عن الحنطة_ في إنتاج القطن والرز
وهكذا. ومن الواضح أن الأرضي ليست متشابهة في كفاءتها الطبيعية،
فهناك من الأراضي ما يكون أكثر كفاءة في فرع معين من فروع الإنتاج
الزراعي، كإنتاج الرز مثلاً. وهناك ما هو أكثر كفاءة لزراعة الحنطة
أو القطن. وهكذا تتمتع كل أرض باستعداد طبيعي، يرشحها لفرع معين
من فروع الإنتاج. ويعني هذا أن كمية من العمل إذا أنفقت على
زراعة الأرض، في حالة تقسيمها على فروع الإنتاج الزراعي تقسيماً
صحيحاً، واستخدام كل أرض فيما هي أصلح له.. تنتج مقادير مهمة من
الحنطة والرز والقطن، بينما لو صرفت نفس تلك الكمية المعينة من العمل
الاجتماعي، في حالة توزيع سيء للأرض على فروع الإنتاج، واستخدام
كل أرض في غير ما هي أجدر به.. لما أمكن الحصول إلا على جزء من
تلك المقادير المهمة. فهل نستطيع أن نتصور أن هذا الجزء من الحنطة مثلاً،
يساوي_ من الناحية التبادلية_ ذلك المقدار المضاعف، الذي ينتج في حالة
توزيع الأرض_ على فروع الإنتاج_ توزيعاً صحيحاً.. لا لشيء إلا لأنه
يساويه في كمية العمل الاجتماعي المتجسد فيه؟!. وهل يسمح الاتحاد
السوفياتي_ القائم على أساس ماركسي_ لنفسه أن يساوي في التبادل بين
هاتين الكميتين المختلفتين، بوصفهما تعبيراً عن كمية واحدة من العمل
الاجتماعي.
إن الاتحاد السوفياتي، وأي دولة أخرى في العالم، تدرك عملياً_ دون
شك_ مدى الخسارة التي تحيق بها من جراء: عدم استخدام كل أرض فيما
هي أكثر صلاحية له.
وهكذا نعرف أن الكمية الواحدة من العمل الزراعي قد تنتج قيمتين(1/136)
مختلفتين، تبعاً للطريقة المتبعة في تقسيمها على الأراضي المتنوعة.
ومن الواضح_ في ضوء ذلك_ أن القيمة المضاعفة، التي تحصل من
استخدام كل أرض فيما هي أكثر صلاحية له.. ليست نتيجة للطاقة التي
أنفقت في الإنتاج، لأن الطاقة هي الطاقة، لا تتغير، سواء زرعت كل
أرض بما هي أصلح له أم زرعت بغيره، وإنما هي_ القيمة المضاعفة_
مدينة للدور الإيجابي الذي تلعبه الأرض نفسها في تنمية الإنتاج وتحسينه(1).
__________
(1) ويمكن للماركسية أن تقرر_ بصدد الدفاع عن وجهة نظرها_ أن الكيلو من القطن
مثلاً إذا كان يتطلب إنتاجه ساعة من العمل في بعض الأراضي، وساعتين من العمل في البعض
الآخر. فلا بد من أخذ المعدل، لمعرفة العمل المتوسط اللازم اجتماعياً لإنتاج كيلو من القطن،
وهو_ في مثالنا_ ساعة ونصف، فيصبح الكيلو من القطن تعبيراً عن ساعة ونصف من العمل
الاجتماعي المتوسط، وتحدد قيمة وفقاً لذلك. وتكون عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاية
منتجاً لقيمة أضخم من القيمة التي ينتجها عمل ساعة في الأرض الأخرى، لأن العملين وإن كانا
متساويين من ناحية شخصية، ولكن كمية العمل الاجتماعي المتوسط، المتضمنة في أحدهما أكبر
منها في الآخر، لأن عمل ساعة في الأرض الخصبة، يساوي ساعة ونصف من العمل الاجتماعي
المتوسط، وأما عمل ساعة في الأرض الأخرى، فهو يعادل ثلاثة أرباع ساعة من العمل المتوسط
اجتماعياً. فمرد الفرق بين النتاجين في القيمة التبادلية هو: اختلاف العملين نفسيهما في كمية
العمل الاجتماعي المتوسط المتضمن في كل منها.
ولكننا بدورنا نتساءل: إن عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة لزراعة القطن، كيف
أصبح أكبر من نفسه؟ وبقدرة أي قادر أضيفت إليه_ نصف ساعة من العمل، فأصبح يساوي
عمل ساعة ونصف؟! إن هذه النصف ساعة من العمل، التي دست نفسها بطريقة سحرية في عمل
ساعة واحدة فصيرته أكبر من نفسه. ليست إنتاجاً إنسانياً، ولا تعبيراً عن طاقة منفقة في سبيلها
-لأن الإنسان لم يصرف في استخدام الأرض الأكثر كفاءة، ذرة من طاقة أكثر مما يصرفه في
استخدام الأرض الأقل كفاءة_ وإنما هو نتاج الأرض الخصبة نفسها. فخصب الأرض هو
الذي قام بالعمل السحري، فمنح مجاناً نصف ساعة من العمل الاجتماعي للعامل.
فإذا كانت نصف الساعة هذه تدخل في حساب القيمة التبادلية للإنتاج، كان معنى ذلك أن
الأرض_ بقدرتها على تمديد ساعة من العمل ومنحها قوة ساعة ونصف_ ذات دور ايجابي في
تكوين القيمة التبادلية، وليس العمل الإنتاجي من المنتج هو وحده جوهر القيمة ومصدرها.
وأما إذا لم تدخل نصف الساعة السحرية في حساب القيمة، وتحددت القيمة وفقاً للعمل الذي
قدمه الإنسان فحسب، كان معنى ذلك أن القطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة
له، يساوي القطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأقل كفاءة وبمعنى آخر، أن كيلو من
القطن يساوي نصف كيلو منه.(1/137)
وهكذا نواجه السؤال السابق نفسه مرة أخرى: ما هو المحتوى
الحقيقي للقيمة التبادلية الذي تلعب الطبيعة دوراً في تكوينه، كما يلعب العمل
الإنتاجي دوره الخطير في ذلك؟.
* * *
وظاهرة أخرى لا تستطيع الماركسية أن تفسرها، على ضوء قانونها
الخاص في القيمة، بالرغم من وجودها في كل مجتمع، وهي: انخفاض
القيمة التبادلية للسلعة، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها: فكل سلعة
إذا تضاءلت الرغبة فيها، ولم يعد المجتمع يؤمن بمنفعة مهمة لها، تفقد
_ بسبب ذلك_ جزءاً من قيمتها التبادلية، سواء كان هذا التحول_
في رغبات المجتمع_ نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري، أو أي عامل
آخر، وهكذا تتضاءل قيمة السلعة، بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية
من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا
يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الانتفاع وإشباع
الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية. فمن الخطأ أن تعتبر نوعية القيمة
الاستعمالية، ودرجة الانتفاع بالسلعة كمية مهملة كما تقرر الماركسية.
والماركسية حين تتغاضى عن هذه الظاهرة، وتحاول تفسيرها في ضوء
قوانين العرض والطلب: تؤكد على ظاهرة أخرى، بوصفها تعبيراً واقعياً
عن قانونها في القيمة، وهي: أن القيمة التبادلية تتناسب طردياً مع كمية
العمل المتجسد في السلعة. فإذا ساءت ظروف الإنتاج، وتطلب عملاً
مضاعفاً في سبيل إنتاج السلعة تضاعفت قيمتها التبادلية تبعاً لذلك. وإذا
اتفق عكس هذا، فتحسنت ظروف الإنتاج، وأصبح من الممكن الاكتفاء
بنصف الكمية السابقة من العمل الاجتماعي، في إنتاج السلعة، انخفضت
قيمة السلعة بدورها إلى النصف أيضاً.
وهذه الظاهرة وإن كانت حقيقة واضحة في مجرى الحياة الاقتصادية،
ولكنها لا تبرهن على صحة قانون القيمة عند الماركسية، إذ كما يمكن لهذا
القانون أن يفسر هذا التناسب بين القيمة وكمية العمل، كذلك يمكن تفسيره(1/138)
في ضوء آخر أيضاً. فإن ظروف إنتاج الورق مثلاً، إذا ساءت وتطلّب
إنتاجه كمية مضاعفة من العمل، انخفضت كمية الورق المنتجة اجتماعياً
إلى النصف_ في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق،
بنفس الكمية السابقة_ وحين تنخفض كمية الورق المنتج إلى النصف،
يصبح أكثر ندرة، وتزداد الرغبة فيه، وترتفع منفعته الحدية.
وإذا حدث العكس، فانخفضت كمية العمل التي يتطلبها إنتاج الورق
إلى النصف، فسوف تتضاعف كمية الورق التي ينتجها المجتمع_ في حالة
بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق، بنفس الكمية السابقة
وتهبط منفعة الحدية، وتقل ندرته نسبياً، وبالتالي تنخفض قيمته التبادلية.
وما دام من الممكن تفسير الظاهرة في ضوء عامل الندرة، أو المنفعة
الحدية، كما يمكن تفسيرها على أساس القانون الماركسي في القيمة... فلا
يمكن أن تعتبر دليلاً علمياً من واقع الحياة، على صحة هذا القانون دون
سواه من الفرضيات.
* * *
والعمل_ بعد هذا كله_ عنصر غير متجانس، يضم وحدات من الجهود
مختلفة في أهميتها، ومتفاوتة في درجتها وقيمتها. فهناك العمل الفني الذي
يتوقف على خبرة خاصة، والعمل البسيط الذي لا يحتاج إلى الخبرة العلمية
والفنية. فساعة من عمل الحمال تختلف عن ساعة من عمل المهندس المعماري،
ونهار من عمل الصانع الفني الذي يبذله لإنتاج محركات كهربائية، يختلف
_ تمام الاختلاف_ عن عمل العامل الذي يحفر السواقي الصغيرة في الحديقة.
وهناك أيضاً العوامل الذاتية الكثيرة_ التي تؤثر على العمل_ باعتباره
صفة إنسانية_ فتحدد أهمية ودرجة كفايته، كما تحدد الجهد النفسي
والعضوي الذي يتطلبه. فالاستعداد الطبيعي العضوي والذهني للعامل،
ومدى رغبته في النبوغ والتفوق على الآخرين، ونوعية ما يختلج في نفسه
من عاطفة بالنسبة إلى العمل، يجعله يقبل عليه مهما بلغت مشقته، أو يعرض
عنه مهما خف عبؤه، وما يشعر به من حيف وحرمان، أو ما ينعم به من(1/139)
حوافز تدفعه إلى التفنن والإبداع، وما تحيط به من ظروف تدعه فريسة
لعوامل السأم والضجر، أو تبعث في نفسه شيئاً من قوة الأمل والرجاء...
كل هذه الأمور تعتبر من العوامل التي تؤثر على نوعية العمل وتحدد قيمته.
فمن الخطأ أن تقاس الأعمال قياساً كمياً عددياً فحسب، وإنما هي
بحاجة إلى قياس نوعي وصفي أيضاً، يحدّد نوعية العمل المقاس ومدى تأثره
بتلك العوامل. فساعة من العمل في ظل شروط نفسية ملائمة، أكثر كفاية
في إنتاجها من ساعة عمل في ظل شروط معاكسة.فكما يجب أن نقيس
كمية العمل_ وهذا هو العنصر الموضوعي في المقياس_ كذلك يجب أن
نقيس أيضاً نوعية العمل وأوصافه، في ضوء العوامل النفسية المختلفة التي
تؤثر فيه، وهذا هو العنصر الذاتي في المقياس.
ومن الواضح أنا إذا كنا نملك دقائق الساعة، بوصفه مقياساً للعنصر
الموضوعي ضبط كمية العمل، فلا نملك مقياساً نقيس به العنصر الذاتي
للعمل، ونوعيته وأوصافه التي تحدد طبقاً له.
فيم تتخلص الماركسية من هاتين المشكلتين: مشكلة قياس عام للكميات
الفنية وغير الفنية من العمل، ومشكلة قياس نوعي لكفاية العمل، وفقاً
للمؤثرات النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر.
أما المشكلة الأولى، فقد حاولت الماركسية حلها عن طريق تقسيم
العمل إلى: بسيط ومركب. فالعمل البسيط هو الجهد الذي يعبّر عن طريق
القوة الطبيعية التي يملكها كل إنسان سوي، بدون تنمية خاصة لجهازه
العضوي والذهني، كعمل الحمال. والعمل المركب هو: العمل الذي
تستخدم فيه الامكانات والخبرة، التي اكتسبت عن طريق عمل سابق،
كأعمال المهندس والطبيب. فالمقياس العام للقيمة التبادلية هو العمل البسيط.
ولما كان العمل المركب عملاً بسيطاً مضاعفاً، فهو يخلق قيمة تبادلية أكبر
مما يخلقه العمل البسيط المجرد. فالعمل في أسبوع الذي ينفقه المهندس
الكهربائي، على صنع كهربائي خاص، أضخم من عمل المهندس من(1/140)
جهد وعمل سابق، بذل في سبيل اكتساب الخبرة الهندسية الخاصة.
ولكن هل يمكن أن نفسر الفرق بين العمل الفني وغيره على هذا الأساس؟
إن هذا التفسير الماركسي للتفاوت، بين عمل المهندس الكهربائي
وعمل العامل البسيط يعني: أن المهندس الكهربائي إذا أنفق عشرين سنة
مثلاً، في سبيل الظفر بدرجة علمية وخبرة فنية في الهندسة الكهربائية،
ومارس العمل بعد ذلك عشرين سنة أخرى.. يحصل على قيمة لمجموع
نتاجه الذي أنجزه خلال العقدين، تساوي القيمة التي يخلقها الحمال عن
طريق مشاركته في الإنتاج، بحمل الإثقال خلال أربعة عقود وبمعنى آخر:
أن يومين من عمل الحمال الذي يساهم في الإنتاج بطريقته الخاصة، تعادل
يوماً واحداً من عمل المهندس الكهربائي، لما يتضمنه هذا اليوم من عمل
دراسي سابق. فهل هذا هو الواقع الذي نشاهده في مجرى الحياة الإقتصادية؟
أو هل يمكن لأي سوق أو دولة، الموافقة على مبادلة إنتاج يومين من عمل
العامل البسيط، بنتاج يوم واحد من عمل المهندس الكهربائي؟!.
ولا شك أن من حسن حظ الاتحاد السوفياتي، أنه لا يفكر في الأخذ
بالنظرية الماركسية عن العمل البسيط والمركب، وألا لمني بالدمار إذا أعلن:
استعداده لإعطاء مهندس، في مقابل كل عاملين بسيطين. ولذلك نجد أن
العامل الفني في روسيا، قد يزيد راتبه على راتب العامل البسيط، بعشرة
أضعاف أو أكثر، بالرغم من أنه لم يقض تسعة أضعاف عمر العامل البسيط
في الدراسة، وبالرغم من توفر الكفاءات الفنية في روسيا بالكمية المطلوبة،
كتوفر القوى العاملة البسيطة كذلك. فمرد الفرق إذن إلى قانون القيمة،
وليس إلى ظروف العرض والطلب، وهو فرق كبير لا يكفي لتفسيره
إدخال العمل السابق في تكوين القيمة.
وأما المشكلة الثانية(مشكلة قياس نوعي لكفاية العمل، وفقاً للمؤثرات
النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر) فقد تخلصت
عنها الماركسية بأخذ المعدل الاجتماعي للعمل، مقياساً للقيمة. فقد كتب
ماركس يقول:
(((1/141)
إن الوقت الضروري اجتماعياً لإنتاج البضائع،
هو الوقت الذي يقتضيه كل عمل يجري إنتاجه بدرجة وسطية، من المهارة والقوة وفي شروط اعتيادية طبيعية، بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية المعينة... إذن فكمية العمل وحدها، أو وقت العمل الضروري، في مجتمع معين
لإنتاج صنف ما، هي التي تحدد كمية القيمة. وكل
بضاعة خاصة، تعتبر_ بصورة عامة_ بمثابة نسخة
وسطية عن نوعها ))(1).
وعلى هذا الأساس، إذا كان العامل المنتج يتمتع بشروط ترفعه عن
الدرجة الوسيطة اجتماعياً، يصبح بإمكانه أن يخلق لبضاعته خلال عمل
ساعة، قيمة أرقى من القيمة التي يخلقها العامل الوسطي خلال تلك الساعة، لأن
ساعة من عمله تفوق ساعة من معدل العمل الاجتماعي للعمل. فالمعدل
الاجتماعي للعمل، ولمختلف العوامل المؤثرة فيه، هو المقياس العام للقيمة.
والخطأ الذي ترتكبه الماركسية بهذا الصدد، هو أنها تدرس المسألة
دائماً بوصفها مسألة كمية. فالشروط العالية التي تتهيأ للعامل، ليست_
في نظر الماركسية_ إلا عوامل تساعد العامل، على إنتاج كمية أكبر في
وقت أقصر، فتصبح الكمية التي ينتجها في ساعة، أوفر من الكمية المنتجة
في ساعة من معدل العمل الاجتماعي، وبالتالي أكثر قيمة منها. بينما ينتج
هذا العامل مترين من النسيج في ساعة واحدة، ينتج العامل الوسطي خلال
تلك الساعة متراً واحداً فقط. فيكون للمترين ضعفا قيمة هذا المتر الواحد،
لأنهما يعبّران عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام، وإن تم إنتاجهما في
الواقع بساعة واحدة من العمل الممتاز.
ولكن الشيء الجدير بالملاحظة، هو أن الشروط الذهنية والعضوية
والنفسية، التي لا يتمتع بها العامل الوسطي... لا تعني دائماً زيادة كمية
في منتوج العامل الذي يحظى بتلك الشروط. بل قد تعني أحياناً امتيازاً كيفياً
في السلعة المنتجة. كما إذا كان هناك رسامان، تستغرق عملية التصوير عند
__________
(1) رأس المال ج1 ص49_50.(1/142)
كل منهما ساعة، ولكن الاستعداد الطبيعي عند أحدهما يجعل الصورة التي
يرسمها أروع من الصورة الأخرى. فالمسألة هنا ليست مسألة إنتاج كمية
أضخم في وقت أقصر، بل الذي لا يملك تلك الموهبة الطبيعية لا يستطيع أن
يأتي بنظير تلك الصورة، ولو ضاعف الوقت الذي ينفقه على عملية التصوير.
فلا نستطيع إذن القول: بأن الصورة الأكثر روعة تعبر عن ساعتين من
العمل الاجتماعي العام، فإن ساعتين من العمل الاجتماعي العام لا تكفي
أيضاً لإنتاج هذه الصورة، التي أبدعها الرسام الموهوب بفضل استعداده
الطبيعي.
وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في شأن هاتين الصورتين، وهي أنهما
تختلفان في قيمتهما دون شك في كل سوق، مهما كانت طبيعته السياسية،
ومهما كانت نسبة العرض فيه إلى الطلب، فإن أحداً لا يقبل أن يستبدل
الصورة الرائعة بالصورة الأخرى، ولو كان الطلب والعرض متعادلين،
وهذا يعني: أن الصورة الرائعة تستمد قيمتها من عنصر لا يوجد في الصورة
الأخرى، وليس هذا العنصر هو كمية العمل، لأن روعة الصورة_ كما
عرفنا_ لا تعبّر عن عمل كمي زائد، وإنما تعبر عن نوعية العمل المنفق
على إنتاجها_ فلا يكفي إذن المقياس الكمي للعمل_ أو دقائق الساعة بتعبير
آخر_ لضبط قيمة السلع، التي تتجسد فيها تلك الكميات المختلفة من
العمل. فليس من الممكن أن نجد دائماً، في كمية العمل الفردي أو
الاجتماعي.. تفسيراً لتفاوت السلع في قيمتها التبادلية، لأن مرد هذا التفاوت
أحياناً إلى الكيف لا إلى الكم، إلى الصفة والنوعية لا إلى عدد ساعات
العمل.
هذه بعض الصعوبات العلمية التي تعترض طريق ماركس، يبرهن
على عدم كفاية القانون الماركسي لتفسير القيمة التبادلية. ولكن ماركس
_ بالرغم من كل هذه الصعاب_ وجد نفسه مضطراً إلى قانونه هذا، كما
يبدو_ بكل وضوح_ من تحليله النظري للقيمة، الذي استعرضناه في
مستهل هذا البحث، لأنه حين حاول أن يستكشف الأمر المشترك بين(1/143)
السلعتين المختلفتين، كالسرير والثوب.. أسقط من الحساب. المنفعة
الاستعمالية، وجميع الخصائص الطبيعية والرياضية، لأن السرير يختلف
عن الثوب في منفعته، وخصائصه الفيزيائية والهندسية. وبدا له_عندئذ_
أن الشيء الوحيد الذي ظل مشتركاً بين السلعتين، هو العمل البشري المنفق
خلال إنتاجهما، وهنا يكمن الخطأ الأساسي في التحليل، فإن السلعتين
المعروضتين في السوق بثمن واحد، وإن كانتا مختلفتين في منفعتهما، وفي
خصائصهما الفيزيائية والكيميائية والهندسة. ولكنهما بالرغم من ذلك
مشتركتان في صفة سيكولوجية موجودة بدرجة واحدة فيهما معاً، وهي
الرغبة الإنسانية في الحصول على هذه السلعة وتلك. فهناك رغبة اجتماعية
في السرير، ورغبة اجتماعية في الثوب، ومرد هاتين الرغبتين إلى المنفعة
الاستعمالية، التي يتمتع بها السرير والثوب. فهما وإن كانا مختلفين في
نوعية المنفعة التي يؤديها كل منها، ولكنهما يشتركان في نتيجة واحدة،
وهي الرغبة الإنسانية. وليس من الضروري_ في ضوء هذا العنصر المشترك_
أن يعتبر العمل أساساً للقيمة، بوصفه الأمر المشترك الوحيد بين السلع
المتبادلة، كما زعمت الماركسية.. ما دمنا قد وجدنا أمراً مشتركاً بين
السلعتين، غير العمل المنفق على إنتاجهما.
وبذلك ينهار الاستدلال الرئيسي الذي قدمه لنا ماركس على قانونه،
ويصبح من الممكن أن تحل الصفة السيكولوجية المشتركة موضع العمل،
وتتخذ مقياساً للقيمة ومصدراً لها. وعندئذ فقط يمكننا أن نتخلص من
الصعوبات السابقة التي اعترضت ماركس، وإن نفسر_ في ضوء هذا
العنصر الجديد المشترك_ الظواهر التي عجز قانون القيمة الماركسي عن
تفسيرها. فالخط الأثري، والنسخة المطبوعة من تاريخ الكامل، اللذان
كنا نفتش عن الأمر المشترك بينهما، فلم نجده في العمل، لاختلاف كمية
العمل المنفقة فيهما.. سوف نجد الأمر المشترك منهما، الذي يفسر قيمتهما(1/144)
التبادلية في هذا المقياس السيكولوجي الجديد. فالخط الأثري والنسخة
المطبوعة من تاريخ الكامل، إنما يتمتعان بقمية تبادلية واحدة، لأن الرغبة
الاجتماعية موجودة فيهما بدرجة متساوية.
وكذلك تذوب سائر المشاكل الأخرى في ضوء هذا المقياس الجديد.
ولما كانت الرغبة في السلعة ناتجة عن منفعتها الاستعمالية، فلا يمكن
إذن أن نسقط المنافع الاستعمالية من حساب القيمة. ولذلك نجد أن السلعة
التي ليس لها منفعة، لا تملك قيمة تبادلية إطلاقاً، مهما انفق على إنتاجها
من عمل. وقد اعترف ماركس نفسه بهذه الحقيقة، ولكنه لم يوضح لنا
_ولم يكن من الممكن له أن يوضح_ سر هذا الترابط، بين المنفعة الإستعمالية
والقيمة التبادلية، وكيف دخلت المنفعة الاستعمالية في عملية تكوين القيمة
التبادلية، مع أنه أسقطها منذ البدء، لأنها تختلف من سلعة لأخرى؟! وأما
في ضوء المقياس السيكولوجي، فالترابط بين المنفعة والقيمة واضح تماماً،
ما دامت المنفعة هي أساس الرغبة، والرغبة هي مقياس القيمة ومصدرها
العام.
والمنفعة الاستعمالية، وإن كانت الأساس الرئيسي للرغبة، ولكنها
لا تنفرد بتحديد الرغبة في الشيء فإن درجة الرغبة_ في أي سلعة كانت_
تتناسب طرداً مع أهمية المنفعة التي تؤديها السلعة. فكلما كانت السلعة أعظم
منفعة، كانت الرغبة فيها أكثر. وتتناسب درجة الرغبة عكسياً مع مدى
إمكانية الحصول على السلعة، فكما توفرت إمكانات الحصول على السلعة
أكثر، تنخفض درجة الرغبة في السلعة، وبالتالي تهبط قيمتها. ومن الواضح
أن إمكانية الحصول على السلعة تتبع الندرة والكثرة، فقد يكون الشيء
كثيراً ومتوفراً_ بصورة طبيعية_ إلى الدرجة، التي تجعل من الممكن
الحصول عليه من الطبيعة دون جهد، كالهواء. وفي هذه الحالة تبلغ القيمة
التبادلية درجة الصفر، لانعدام الرغبة، ومهما قلّت إمكانية الحصول على
الشيء، تبعاً لقلة وجوده، أو صعوبة إنتاجه. ازدادت الرغبة فيه وتضخمت(1/145)
قيمة(1).
نقد الماركسية للمجتمع الرأسمالي
قد يتبادر إلى بعض الأذهان، إننا حين ندرس الملاحظات الماركسية
حول المجتمع الرأسمالي، إنما نستهدف من وراء ذلك إلى تزييف هذه
الملاحظات، وتبرير الرأسمالية، نظراً إلى كونها واقعاً معترفاً به في المجتمع
الإسلامي، الذي يؤمن بالملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج، ويرفض الأخذ
بمبدأ الملكية الاشتراكية، فما دام الإسلام يحتضن الرأسمالية، فيجب إذن
على المذهبيين الإسلاميين أن يفندوا مزاعم الماركسية، حول الواقع الرأسمالي
المعاش في تاريخنا الحديث، ويقدّموا الدليل على خطأ التحليل الماركسي،
فيما يبرزه من مضاعفات هذا الواقع وتناقضاته، ونتائجه الفظيعة التي
تشتد وتتفاقم حتى تقضي عليه...
قد يتبادر إلى الأذهان شيء من هذا، ولكن الواقع أن الموقف الإسلامي
للباحث، لا يفرض عليه أن ينصب نفسه مدافعاً عن الواقع الرأسمالي المعاش،
وأنظمته الاجتماعية، وإنما يجب إبراز الجزء المشترك بين المجتمع الإسلامي
والمجتمع الرأسمالي، ودرس التحليل الماركسي، ليتبين مدى علاقته بهذا
الجزء المشترك.
فمن الخطأ إذن ما يتجه إليه بعض المذهبيين الإسلاميين، من الدفاع عن
واقع الرأسمالية الغربية، وإنكار ما يضج به من أخطاء وشرور، ظناً منهم
بأن هذا هو السبيل الوحيد لتبرير الاقتصاد الإسلامي، الذي يعترف بالملكية
الخاصة.
كما أن من الخطأ أيضاً_ وقد عرفنا أن العامل الاقتصادي ليس هو
العامل الأساسي في المجتمع_ الطريقة التي اتخذها ماركس في تحليل المجتمع
الرأسمالي، والكشف عن عوامل الدمار فيه، إذ اعتبر جميع النتائج التي
تكشّف عنها المجتمع الرأسمالي على مسرح التاريخ، وليدة مبدأ أساسي لهذا
__________
(1) وهذا العرض أكثر انطباقاً على الواقع، من نظرية المنفعة الحدية القائمة على قانون تناقض
المنفعة. وهي النظرية التي تقدر قيمة السلعة، على أساس ما للوحدة الأخيرة من وحدات السلع، =(1/146)
المجتمع، وهو مبدأ الملكية الخاصة فكل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة،
يسير حتماً في الاتجاه التاريخي الذي سار فيه المجتمع الرأسمالي، ويمني
بنفس النتائج والتناقضات.
وهكذا أرى من الضروري، لتصفية الحساب مع موقف الماركسية من
المجتمع الرأسمالي، أن نؤكد دائماً على هاتين الحقيقتين:
أولاً: إن الهدف المذهبي للباحثين المسلمين في الاقتصاد، لا يفرض
عليهم أن يصححوا أوضاع المجتمع الرأسمالي، ويتنكروا للحقائق المرة التي
تعصف به.
وثانياً: إن الواقع التاريخي للمجتمع الرأسمالي الحديث، لا يمكن أن
يعتبر صورة صادقة لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
ولا أن تعمم النتائج التي ينتهي إليها الباحث من درسه المجتمع الرأسمالي
الحديث، على كل مجتمع آخر يتفق معه في القول بالملكية الخاصة، وإن
اختلفت معه في الإطارات والحدود.
وإنما أدانت الماركسية مبدأ الملكية الخاصة، بكل النتائج التي تمخض
عنها المجتمع الرأسمالي.. تجاوباً مع فكرتها الأساسية في تفسير التاريخ،
القائلة: بأن العامل الاقتصادي، الذي تعبر عنه نوعية الملكية السائدة في
المجتمع، هو حجر الزاوية في الكيان الاجتماعي كله. فكل ما يحدث في
المجتمع الرأسمالي، تنبع جذوره الواقعية من القاعدة الاقتصادية، من الملكية
الخاصة لوسائل الإنتاج. فتزايد البؤس وشبكات الاحتكار وفظائع الإستعمار
وجيوش العاطلين من العمل، واستفحال التناقض في صميم المجتمع،
كل تلك الأمور نتائج حتمية وحلقات من التسلسل التاريخي، المفروض على
كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة.
وتتلخص وجهة نظرنا حول آراء الماركسية هذه، عن المجتمع الرأسمالي
في نقطتين:
إحداهما: أنها تخلط بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وواقعها
الرأسمالي المتميزة اقتصادية وسياسية وفكرية معينة فتعتبر مضاعفات
هذا الواقع الفاسد، نتائج حتمية لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة.
والأخرى: أنها على خطأ في الأسس العلمية الاقتصادية المزعومة،(1/147)
التي تستمد منها الماركسية طابعها العلمي، في تحليلها لتناقضات المجتمع
الرأسمالي وتطوراته التاريخية.
تناقضات الرأسمالية
ولنبدأ الآن بأهم تناقضات المجتمع الرأسمالي في رأي الماركسية أو
المحور الرئيسي للتناقض بتعبير آخر، وهو الربح الذي يدره الإنتاج بالأجرة،
على الرأسماليين من مالكي وسائل الإنتاج. ففي الربح يكمن سر التناقض
المزعوم، ولغز الرأسمالية كلها، الذي حاول ماركس الكشف عنه في
القيمة الفائضة. فهو يؤمن بأن البضاعة مدينة بقيمتها للعمل المأجور الذي
أنفق عليها. فإذا اشترى الرأسمالي كمية من الخشب بدينار، ثم استأجر
العامل ليصنع من ذلك الخشب سريراً يبيعه بدينارين، فقد حصل الخشب
على قيمة جديدة. وهي الدينار الثاني، الذي انضم إلى قيمة الخشب الخام. ... ...
ومصدر هذه القيمة الجديدة هو العمل، وفقاً للقانون الماركسي في القيمة.
فيجب لكي يربح مالك الخشب والأدوات شيئاً، أن لا يدفع إلى العامل إلا
جزءاً من القيمة الجديدة_ التي خلقها العامل_ بوصفه أجراً على عمله،
ويحتفظ لنفسه بالجزء الآخر من القيمة، باعتباره ربحاً خاصاً به. وعلى هذا
الأساس يصبح من الضروري دائماً، أن ينتج العامل قيمة تزيد على أجرته.
وهذه الزيادة هي التي يسميها ماركس بالقيمة الفائضة، ويعتبرها المصدر
العام لأرباح الطبقة الرأسمالية كلها.
ويزعم ماركس_ هو يفسر لنا الربح في هذا الضوء_: أن هذا هو
التفسير الوحيد للمسألة الرأسمالية كلها. فإننا إذا حلّلنا عملية الإنتاج الرأسمالي،
نجد أن المالك اشترى من التاجر كل ما يحتاج إليه الإنتاج، من مواد وأدوات،
واشترى من العامل كل ما يحتاجه الإنتاج، من طاقة بشرية. وهاتان مبادلتان
إذا فحصنا التبادل فيهما، وجدنا أنه من ناحية المنفعة الاستعمالية، يمكن
أن ينتفع كلا الشخصين المتبادلين، لأن كلا منهما يستبدل بضاعة_ ذات
منفعة استعمالية_ لا يحتاجها، ببضاعة يحتاج إلى منفعتها. ولكن هذا(1/148)
لا ينطبق على القيمة التبادلية، فإن تبادل البضائع في شكله الطبيعي هو تبادل متعادلات، وحيث يوجد التعادل لا يمكن أن يوجد الربح، لأن كل فرد
يعطي بضاعة ويتسلم بدلاً عنها بضاعة ذات قيمة تبادلية مساوية، فمن أين
يحصل على قيمة فائضة أو على ربح؟!
ويستمر ماركس في تحليله مؤكداً: أن من المستحيل فرض حصول
البائع أو المشتري على الربح اعتباطاً، لتمتعه بامتياز بيعه للبضاعة بأعلى من
ثمن اشترائها، أو اشترائه لها بأرخص من قيمتها، لأنه في النتيجة سوف
يخسر ما ربحه، حينما يبدل دوره فينقلب مشترياً بعد أن كان بائعاً، أو
بائعاً بعد أن كان مشترياً. فلا يمكن إن تتشكل قيمة فائضة، لا عن
كون البائعين يبيعون البضائع بأكثر من قيمتها، ولا عن كون الشارين
يشرونها بأقل من قيمتها.
وليس من الممكن أيضاً القول بأن المنتجين يحصلون على قيمة فائضة،
لأن المستهلكين يدفعون ثمن البضائع أغلى من قيمتها، فيكون لأصحاب
البضائع_ بصفتهم منتجين_ إمتياز البيع بسعر أغلى. فإن هذا الامتياز
لا يفسر اللغز، لأن كل منتج يعتبر من ناحية أخرى مستهلكاً فيسخر
بصفته مستهلكاً ما يربحه بوصفه منتجاً.
وهكذا ينتهي ماركس من هذا التحليل إلى: أن القيمة الفائضة التي
يربحها الرأسمالي، ليست إلا جزءاً من القيمة التي أسبغها عمل العامل على
المادة، وقد ظفر المالك بهذا الجزء لسبب بسيط، وهو أنه لم يشتر من العامل
_ الذي استخدمه عشر ساعات_ عمله في هذه المدة، ليكون ملزماً بالتعويض
عن عمله بما يساويه، أو بكل القيمة التي خلقها بتعبير آخر. فإن العمل
لا يمكن أن يكون سلعة يشتريها الرأسمالي بقيمة تبادلية معينة_ لأن العمل هو
جوهر القيمة عند ماركس، فكل الأشياء تكتسب قيمتها من العمل، وأما
العمل فلا يكتسب قيمته من شيء، فليس هو سلعة إذن_ وإنما السلعة التي
اشتراها المالك من العامل هي قوة العمل، هذه السلعة التي تحدد قيمتها بكمية(1/149)
العمل اللازم للحفاظ على تلك القوة وتجديدها، أي بكمية العمل الضروري
لإعاشة العامل والمحافظة على قواه. فالمالك اشترى من العامل إذن قوة عمل
عشر ساعات، لا العمل نفسه. وقد اشترى تلك القوة بالقيمة التي تضمن
للعامل خلق تلك القوة وتجديدها، وهي الأجور. ولما كان عمل عشر
ساعات، أكثر من العمل الذي يتوقف عليه تجديد قوى العامل وإعاشته،
فسوف يبقى الرأسمالي محتفظاً بالفارق بين قيمة قوة العمل التي سلمها إلى
العامل، والقيمة التي خلقها العمل التي تسلمها من العامل. وهذا الفارق
هو فائض القيمة الذي يربحه الرأسمالي.
وفي هذا الضوء يعتقد ماركس بأنه كشف عن التناقض الرئيسي في
جهاز الرأسمالية، الذي يتمثل: في أن المالك يشتري من العامل قوة عمله،
ولكنه يتسلم منه العمل نفسه وإن العامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية كلها،
ولكن المالك يضطره إلى التنازل والاكتفاء بجزء من القيمة التي خلقها،
ويسرق الجزء الآخر بوصفه فائضاً، وعلى هذا الأساس يقوم الصراع
الطبقي بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة.
وهذه النظرية(نظرية القيمة الفائضة) تعتبر قبل كل شيء: أن المنبع
الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. فإذا تسلم العامل كل القيمة
التي خلقها في السلعة، لم يبق لغيره شيء يربحه. فيجب لكي يوجد ربح
للمالك، أن يقتطع نصيباً لنفسه من القيمة التي أوجدها العامل في منتوجه.
فنظرية القيمة الفائضة_ إذن_ ترتكز بصورة أساسية، على قانون القيمة
عند الماركسية. وهذا الارتباط بين النظرية والقانون يوحد مصيرهما،
ويجعل من فشل القانون علمياً سبباً لسقوط النظرية، وسقوط كل النظريات
في الاقتصاد الماركسي، التي تقوم على أساس ذلك القانون.
* * *
وقد استطعنا أن نعرف في دراستنا في القانون القيمة عند ماركس، بوصفه
العمود الفقري للاقتصاد الماركسي كله: أن العمل ليس هو الجوهر الأساسي
للقيمة التبادلية، وإنما تقاس القيمة بمقياس ذاتي سيكولوجي، وهو الرغبة(1/150)
الاجتماعية، وإذا كانت الرغبة هي جوهر القيمة التبادلية ومصدرها،
فلن نضطر إلي تفسير الربح_ دائماً_ بكونه جزءاً من القيمة التي يخلقها
العمل، كما صنع ماركس. بل لا يمكن أن نغفل حينئذ_ عن عملية تكوّن
القيمة للسلع_ نصيب المواد الطبيعية الخام_ ذات الندرة النسبية_ من
قيمة تلك السلع. فالمادة الخشبية مثلاً، بوصفها مادة طبيعية نادرة نسبياً
_ وليست كالهواء_ تتمتع بقوة تبادلية، وتساهم في تكوين القيمة التبادلية
للسرير الخشبي، في ضوء المقياس السيكولوجي للقيمة، بالرغم من عدم
انفاق عمل بشري في سبيل إنتاجها. وهكذا كل المواد الطبيعية التي تتجسد
في مختلف السلع المنتجة، والتي أهملتها الماركسية تماماً، ولم تؤمن بأي دور
لها في تكوين القيم التبادلية للسلع، زاعمة: أنها ليست ذات قيمة تبادلية،
ما دامت لا تعبّر عن عمل منفق على إيجادها.
صحيح أن المادة الخام، وهي في باطن الأرض مثلاً وبصورة مجردة
عن العمل البشري. تبدو تافهة، ولا تكتسب أهمية خاصة إلا عند امتزاجها
بالعمل البشري. ولكن هذا لا يعني أن المادة ليس لها قيمة تبادلية، وأن
القيمة كلها ناتجة عن العمل وحده، كما ترى الماركسية، إذ كما ينطبق هذا
الوصف على المادة المعدنية في الأرض، كذلك ينطبق أيضاً على العمل المنفق
على استخراج المادة وتعديلها. فإن هذا العمل إذا عزل عن تلك المادة
المعدنية، لم تكن له قيمة إطلاقاً. فمن السهل أن نتصور تفاهة هذه الكمية
من العمل البشري، التي انفقت على استخراج معدن كالذهب، لو أنها
كانت منفقة في مجالات العبث والمجون، أو على استخراج صخور لا تجدي
نفعاً. فالعنصران إذن( المادة والعمل) متفاعلان متضامنان، في تكوين
القيمة التبادلية للكمية المستخرجة، من المعدن مثلاً، ولكل منها دور
إيجابي في تكوين بضاعة الذهب التي تتمتع بقيمة تبادلية خاصة، وفقاً
للمقياس السيكولوجي لها.
وكما يصبح للمواد نصيبها من قيمة السلع في ضوء المقياس السيكولوجي(1/151)
للقيمة، كذلك يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مختلف عناصر الإنتاج.
فالناتج الزراعي لا يستمد قيمته التبادلية، من كمية العمل المنفقة على إنتاجه
فحسب، بل أن للأرض أثراً في هذه القيمة، بدليل أن تلك الكمية من
العمل نفسها، قد تنفق في زراعة الأرض بما هي أقل صلاحية له، فتحصل
على ناتج لا يتمتع بنفس تلك القيمة التبادلية التي يملكها الناتج الأول. وإذا
كان للمواد الخام وعناصر الإنتاج المختلفة، أثر في تكوين قيمة السلعة،
فليست القيمة كلها_ إذن_ نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو
المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة
الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل، ما دام يمكن أن تكون
تعبيراً، عما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
ويبقى بعد ذلك سؤال واحد، يتصل بهذه القيمة التي تستمدها السلعة
من الطبيعة: فلمن تكون هذه القيمة؟، ومن الذي يملكها؟، وهل يملكها
العامل أو شخص سواه؟. وهذه نقطة أخرى خارجة عن نطاق البحث،
وإنما النقطة التي كنا ندرسها هي علاقة القيمة الفائضة بالعمل، وهل يجب
أن تكون جزءاً من القيمة التي يخلقها العمل، أو يمكن أن تكون نابعة من
مصدر آخر؟. فماركس حين اعتبر العمل أساساً وحيداً للقيمة، لم يستطع
أن يفسر القيمة الفائضة (الربح)، إلا على اقتطاع جزء من القيمة التي يخلقها
العامل. وأما في ضوء مقياس آخر للقيمة، كالمقياس السيكولوجي، فمن
الممكن تفسير القيمة الفائضة، دون أن نضطر إلى اعتبارها جزءاً من القيمة
التي يخلقها العامل. فبالمجتمع تزداد_ دائماً القيم التبادلية التي يملكها_
كما تزداد ثروته باستمرار_ عن طريق اندماج كميات جديدة من العمل
بالمواد الطبيعية، وتكوين سلع جاهزة عن هذا الطريق، تحمل قيمة تبادلية
مستمدة من العنصرين المندمجين فيها، من العمل والمادة الطبيعية. الأمرين
اللذين استطاعا_ بالاندماج والإشتراك_: أن يولدا قيمة جديدة، لم تكن(1/152)
توجد في كل منهما حالة وجوده بصورة مستقلة عن آخر.
وهناك شيء آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة استكشاف
سر الربح، دون أن نجد مبرراً لإقصائه، حتى إذا أخذنا بقانون القيمة عند
ماركس، وهو: القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه
التنظيمية والإدارية، التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي.
وقد أثبتت التجارب بكل وضوح_: أن مشاريع متساوية في رؤوس
أموالها، والأيدي العاملة التي تشتغل فيها.. قد تختلف اختلافاً هائلاً في
الأرباح التي يجنيها، طبقاً لكفاءات التنظيم. فالإدارة عنصر عملي ضروري
في عملية الإنتاج ونجاحها، ولا يكفي لتحقيق عملية الإنتاج ونجاحها أن
تتوفر القوى العاملة وأدوات الإنتاج والمواد اللازمة فحسب، بل تحتاج
عجلة الإنتاج إلى قائد، يعين المقدار اللازم وجوده من القوى العاملة والمواد
والأدوات، ويحدد النسب التي تمتزج بها جميعاً، ويوزع الواجبات على
مختلف أنواع العمال والموظفين، ويشرف إشرافاً تاماً على سير العملية
الإنتاجية، ثم يبحث_ بعد ذلك_ عن منافذ لتوزيعها وإيصالها إلى
المستهلكين. فإذا كان العمل هو جوهر القيمة، فيجب أن يكون للعمل
القيادي والتنظيمي، نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة. ولا
يمكن لماركس أن يفسر الربح، على ضوء نظرية القيمة الفائضة، إلا بالنسبة
إلى القيمة التي يربحها الرأسمالي الربوي، أو المشاريع الرأسمالية التي لا يساهم
فيها المالك بإدارة وتنظيم.
وإذا انهارت نظرية القيمة الفائضة، تبعاً لانهيار أساسها العلمي المتمثل
في قانون القيمة عند الماركسية... فمن الطبيعي أن نرفض حينئذ التناقضات
الطبقية، التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل
والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها
والتناقض بين ما يشتريه المالك من العامل وما يتسلمه منه، إذ يشتري منه(1/153)
_ في زعم الماركسية_ طاقة العمل، ويتسلم منه العمل نفسه.
فالتناقض الأول يتوقف على تفسير الربح، في ضوء نظرية القيمة
الفائضة، وأما في ضوء آخر، فليس من الضروري أن يكون الربح جزءاً
من القيمة التي يخلقها العامل لنفسه، ما دام للقيمة مصدر غير العمل، وبالتالي
ليس من الضروري في نظام العمل بالأجرة، أن يسرق المالك من العامل
شيئاً من القيمة التي يخلقها، ليكون الصراع الطبقي بين المالك والعامل قضاءاً
محتوماً في هذا النظام. صحيح أن من مصلحة المستأجرين تخفيض الأجور،
ومن مصلحة الأجراء رفعها، فهم مختلفون في مصالحهم كما قد تختلف
مصالح الأجراء أو المستأجرين أنفسهم.. وصحيح أن أي ارتفاع أو هبوط
في الأجرة يعني إضراراً بالجانب الآخر في الوقت الذي يستفيد منه أحد
الجانبين... ولكن هذا يختلف عن المفهوم الماركسي للتناقض الطبقي، الذي
يجعل التناقض والابتزاز داخلاً في صميم العلاقة، بين المستأجر والأجير،
مهما كان لونها وشكلها. فالتناقض الطبقي في طابعه العلمي الموضوعي
الصارم القائم على أسس الاقتصاد الماركسي، هو الذي ينهار بانهيار تلك
الأسس. وأما التناقض بمعنى اختلاف المصالح، الذي يجعل أحد الفريقين
يكافح في سبيل رفع الأجور، والفريق الآخر يحاول الاحتفاظ بمستواها..
فهو تناقض ثابت، ولا يرتبط بالأسس العلمية المزعومة للاقتصاد الماركسي،
بل هو نظير اختلاف مصالح البائعين والمشترين، الذي يدفع بالبائعين إلى
محاولة رفع الأثمان، بينما يعمل المشترون لمقابلة ذلك. وكذلك اختلاف
مصالح العمال الفنيين وغيرهم إذ أن من مصلحة الفني أن يحتفظ لعمله
بمستوى عال من الأجر، بينما يكون من مصلحة سائر العمال أن يطالبوا
بمساواة كاملة في الأجور.
وأما التناقض الثاني، بين ما يشريه المالك من العامل وما يسلّمه إليه..
فهو يتوقف على الرأي الماركسي السابق، القائل بأن السلعة التي يشتريها
المالك من العامل_ في مجتمع يسمح بالعمل المأجور_ هي قوة العمل،(1/154)
لا العمل نفسه، كما يردد ذلك الاقتصاد الرأسمالي المبتذل، على حد تعبير
الماركسية. لأن العمل في رأس ماركس هو جوهر القيمة ومقياسها، فلا
يمكن أن تكون له قيمة قابلة للقياس والتقدير، حتى يباع بتلك القيمة،
وعلى العكس من ذلك قوة العمل، فإنها تعبر عن كمية من العمل المنفق
عليها_ أو على إعاشة العامل بتعبير آخر_ فتقاس قيمة قوة العمل، بالعمل
المنفق في سبيلها، وتصبح بذلك سلعة ذات قيمة، يمكن أن يشتريها المالك
من العامل بتلك القيمة.
ولكن الحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد، هي أن
المالك لا يتملك ولا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي
المبتذل، على حد تعبير الماركسية، ولا يشتري أيضاً قوة العمل، كما يقرر
الاقتصاد الماركسي، فلا العمل ولا قوة العمل هو السلعة أو المال الذي
يشتريه المالك من العامل، ويدفع الأجرة ثمناً له.. وإنما يشتري المالك من
العامل منفعة عمله، أي الأثر المادي الذي ينتجه العمل في المادة الطبيعية.
فإذا استأجر مالك الخشب والأدوات عاملاً، ليصنع من ذلك الخشب
سريراً، فهو يدفع له الأجرة ثمناً للهيئة أو التعديل، الذي سوف يطرأ على
الخشب فيجعله سريراً، نتيجة لعمل العامل. فهذا التعديل الذي يصبح
الخشب به سريراً، هو الأثر المادي للعمل، وهو بالتالي منفعة العمل التي
يشتريها المستأجر من العامل بالأجرة. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة
العمل، وهي كذلك ليست جزءاً من كيان الإنسان، وإنما هي بضاعة لها
قيمة، بمقدار ما لتلك المنفعة من أهمية، وفقاً للمقياس السيكولوجي العام
للقيمة( مقياس الرغبة الاجتماعية). فالمالك إذن يشتري من العامل منفعة
عمله، ويتسلم هذه المنفعة ضمن الخشب الذي أصبح بالتعديل سريراً في
مثالنا السابق، دون أي تناقض بين ما يشتريه وما يتسلمه(1).
ولا يفوتنا أن نلاحظ الفرق بين منفعة العمل، والمواد الطبيعية الخام
__________
(1) راجع منية الطالب في حاشية المكاسب، ص16.(1/155)
النادرة نسبياً، كالخشب والمادة المعدنية. فإنها وإن كانت جميعاً ذات
قيم تبادلية، وفقاً للمقياس العام في القيمة، غير أن منفعة العمل_ وهي
حالة التعديل تحصل في المادة الطبيعية، نتيجة للعمل_ كالخشب الذي
يصبح سريراً_ بوصفها ذات بضاعة ناتجة عن عمل إنساني، تتمتع بعنصر
الإرادة والاختيار. فمن الممكن للإرادة الإنسانية، أن تتدخل في جعل
هذه البضاعة نادرة، وبالتالي في رفع ثمنها، كما تقوم به نقابات العمال في
البلدان الرأسمالية. ولهذا يبدو_ لأول وهلة_ كأن هذه البضاعة تحدد
أثمانها اعتباطاً، ووفقاً لمدى القوى السياسية لتلك النقابات، ولكن الواقع
أنها تخضع لنفس المقياس العام للقيمة، غير أن الإدارة الإنسانية بإمكانها أن
تتدخل أحياناً، فتجعل المقياس يرتفع، وتزداد بذلك الأجور.
* * *
ولنواصل الآن_ بعد أن درسنا نظرية القيمة الفائضة_ استعراض
المراحل الأخرى من تحليل الماركسية للمجتمع الرأسمالي. فقد عرفنا_ حتى
الآن_: أن ماركس وضع نظرية القيمة الفائضة، على أساس قانونه الخاص
في القيمة، وفسر في ضوئها طبيعة الربح الرأسمالي، وانتهى من ذلك إلى أن
التناقض الأساسي في الرأسمالية، يكمن في الربح الرأسمالي، بوصفه سرقة
يقتطعها المالك من القيمة التي يخلقها العامل المأجور.
وحين فرغ ماركس من فكرتيه الأساسيتين المتشابكتين)قانون
القيمة، ونظرية القيمة الفائضة)، واطمأن إلى كشفهما عن التناقض الأساسي
في الرأسمالية بدأ يستنتج في ضوئها قوانين هذا التناقض التي تسوق الرأسمالية
إلى حتفها المحتوم.
فأول هذه القوانين: قانون الصراع والكفاح الطبقي الذي يخوضه
الأجراء ضد الطبقة الرأسمالية. والفكرة في هذا القانون ترتكز على التناقض
الأساسي، الذي كشف عنه نظرية القيمة الفائضة: بين ما يدفعه الرأسمالي
إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من نتاج. فحيث أن الرأسمالي يقتطع من
العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، ولا يدفع إليه إلا جزءاً منها.. فهو(1/156)
يقف من العامل موقف السارق، وهذا يؤدي_ بطبيعة الحال_: إلى قيام
صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة.
ويجيء بعد ذلك دور قانون آخر، ليعمل في تشديد هذا الصراع
ومضاعفته، وهو قانون: انخفاض الربح، أو بكلمة، أخرى: اتجاه معدل
الأرباح دائماً إلى الهبوط.
وترتكز الفكرة في هذا القانون، على الاعتقاد بأن التنافس بين مشاريع
الإنتاج، الذي يسود المراحل الأولى من الرأسمالية، يؤدي إلى المزاحمة
والسباق بين المنتجين الرأسماليين أنفسهم ومن طبيعة هذا السباق أن يدفع
الإنتاج الرأسمالي إلى الأمام، ويجعل كل رأسمالي حريصاً على إنماء مشروعه
وتحسينه سعياً وراء المزيد من الربح، ولا يجد كل فرد من الطبقة المالكة
_ لأجل هذا_ مناصاً عن تحويل جزء من أرباحه إلى رأس مال، والإستفادة
بصورة مستمرة من التقدم العلمي والتكنيكي، في تحسين الأدوات والآلات،
أو استبدادلها بما هي أكثر كفاءة وأضخم إنتاجاً، ليستطيع أن يواكب حركة
الإنتاج الرأسمالي مع منافسيه الآخرين، ويعصم نفسه من السقوط في منتصف
الطريق. فهناك إذن في وضع المجتمع الرأسمالي قوة ترغم الرأسمالي على
تراكم رأس المال، وتحسين الأدوات وتنميتها، وهي قوة المزاحمة بين
الرأسماليين أنفسهم.
وينبثق عن هذه الضرورة لتراكم رأس المال، قانون اتجاه معدل
الأرباح دائماً إلى الهبوط. لأن الإنتاج الرأسمالي_ في نموه_ يتزايد اعتماده
على الآلات والمعدات، تبعاً للتقدم العلمي في هذا المضمار، وتقل الكمية
التي يحتاجها من العمل بصورة متناسبة، مع تقدم الآلات وتكاملها. وهذا
يعني انخفاض القيمة الجديدة التي يخلقها الإنتاج، تبعاً لانخفاض كمية العمل
المنفق في هذا السبيل، فينخفض الربح الذي يعبّر عن جزء من تلك القيمة
الجديدة.
ولا يملك الرأسماليون إزاء هذه الضرورة( ضرورة انخفاض الربح)
من علاج، إلا مطالبة العمال بكميات أكبر من العمل بنفس الأجرة السابقة،(1/157)
أو تخفيض نصيبهم من القيمة الجديدة التي يخلقونها، بالتقليل من أجورهم.
وبذلك يشتد الصراع بين الطبقتين. ويصبح تزايد البؤس والحاجة في أوساط
العمال، قانوناً حتمياً في المجتمع الرأسمالي.
ومن الطبيعي أن تنجم بعد ذلك أزمات شديدة، لعدم تمكّن الرأسماليين
من تصريف بضائعهم، نتيجة لانخفاض مستوى القدرة الشرائية عند الجماهير
ويصبح من الضروري التفتيش عن أسواق خارج الحدود، فتبدأ الرأسمالية
مرحلتها الاستعمارية والاحتكارية، في سبيل ضمان أرباح الطبقة الحاكمة.
ويتهاوى تحت نير الاحتكار الضعفاء نسبياً، من الطبقة البورجوازية،
فيضيق نطاق هذه الطبقة تدريجياً، بينما يتسع نطاق الطبقة الكادحة، إذ
تتلقى بكل حرارة أولئك البورجوازيين الضعفاء، الذين يخرّون صرعى
في معركة الاحتكار الرأسمالي. ومن ناحية أخرى: تبدأ الطبقة البورجوازية
تفقد مستعمراتها، بفضل الحركات التحررية في تلك المستعمرات، وتتفاقم
الأزمات شيئاً بعد شيء، حتى يصل المنحنى التاريخي إلى النقطة الفاصلة،
ويتحطم الكيان الرأسمالي كله، في لحظة ثورية يشعل نارها الكادحون والعمال.
* * *
هذه صورة ملخصة عن مراحل التحليل الماركسي للرأسمالية، يمكننا
الآن تحليلها في ضوء دراستنا السابقة.
فمن الملاحظ بوضوح أن قانون الصراع الطبقي، القائم على أساس
التناقض الكامن في الربح، يتوقف مصيره على نظرية القيمة الفائضة. فإذا
انهارت هذه النظرية_ كما رأينا_ تلاشى التناقض العلمي المزعوم وبطلت
فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.
وأما قانون انخفاض الربح، فهو نتيجة للقاعدة المركزية في الاقتصاد
الماركسي، وهي قانون القيمة. فإن ماركس يرى في إنخفاض كمية العمل
المنفقة خلال الإنتاج، بسبب تحسين الآلات وكثرتها، سبباً لانخفاض قيمة
السلعة وضآلة الربح، لأن القيمة ليست إلا وليدة العمل، فإذا قلت كمية
العمل بسبب تزايد الآلات، انخفضت القيمة وتقلص الربح، الذي يعبر(1/158)
عن جزء من القيمة المنتجة. وإذا كان قانون انخفاض الربح مرتكزاً على
تلك القاعدة المركزية القائلة: أن العمل هو الجوهر الوحيد للقيمة،
فيسقط تبعاً لسقوط تلك القاعدة، في دراستنا السابقة، ويصبح من الممكن
علمياً أن يتناقض معدل الربح بزيادة الآلات والمواد الخام، وانخفاض
كمية العمل، ما دام العمل ليس هو الجوهر الوحيد للقيمة.
ولنأخذ_ بعد ذلك_ قانون البؤس المتزايد. إن هذا القانون يقوم
على أساس التعطل، الناتج عن إحلال الآلات والوسائل الحديثة محل العمال،
في عملية الإنتاج فكل جهاز أو تحسين جديد في الجهاز، يقذف بعدد
من العمال إلى الشارع. ولما كانت حركة الإنتاج في تقدم مستمر، فسوف
ينمو جيش العاطلين الذي يطلق عليه ماركس إسم: الجيش الإحتياطي
للرأسماليين، وينمو تبعاً له البؤس والفاقة، والموت جوعاً هنا وهناك.
وفي الحقيقة أن هذا القانون استمده ماركس من تحليل(ريكاردو)
للآلات، وأثرها على حياة العمال. فقد سبق(ريكاردو) إلى نظرية التعطل،
بسبب تضاءل الحاجة إلى الأيدي العاملة، بعد صنع المقدار المطلوب من
الآلات الأكثر كفاية. وقد أضاف ماركس إلى ذلك ظاهرة أخرى،
تنجم عن إحلال الآلات محل العمل، وهي إمكان إشغال أي إنسان سوي
في عملية الإنتاج الآلي، حتى النساء والأطفال، دون حاجة إلى خبرة
سابقة، وبهذا يستبدل العمال الماهرون بغيرهم، بأجور أرخص، وتهبط
قدرة العمال المساومة في الأجور، وبالتالي يزداد البؤس ويتفاقم يوماً
بعد يوم.
وحينما وجد الماركسيون_ بعد ماركس_:أن البؤس في المجتمعات
الرأسمالية والأوروبية والأمريكية، لا ينمو ولا يشتد وفقاً لقانون ماركس،
اضطروا إلى تأويل القانون، فزعموا: أن البؤس النسبي في تزايد، وإن
كانت حالة العمال إذا أخذت بصورة منعزلة عن حالة الرأسماليين...
تتحسن على مر الزمن، بسبب شتى المؤثرات والعوامل، وفي هذا نجد
مثالاً من عدة أمثلة، بيّناها خلال دراستنا لخلط الماركسية، بين قوانين(1/159)
الإقتصاد والحقائق الإجتماعية، والدمج بينهما بطريقة تؤدي إلى نتائج
خاطئة، بسبب إصرار الماركسية على تفسير المجتمع كله في ضوء الظواهر
الإقتصادية. ولنفترض مثلاً: أن الحالة النسبية للعمال تتردى على مر الزمن
_ أي حالتهم بالنسبة إلى الرأسماليين_ ولكنها من ناحية أخرى_ بما هي
حالة منظوراً إليها بصورة مستقلة_ تتحسن وتزداد رخاء وسعة.. فمن
حق الماركسية_ إذا صح هذا_ أن تعبر عن هذه الظاهرة تعبيراً اقتصادياً
محدداً، ولكن ليس من حقها أن تعبر عنها تعبيراً اجتماعياً فتعلن عن ضرورة
تزايد البؤس في المجتمع. فإن تردي الحالة النسبية لا يعني بؤساً، ما دامت
تتحسن بصورة مستقلة. وإنما اضطرت الماركسية إلى هذا التعبير بالذات،
لتصل عن طريق ذلك إلى استكشاف القوة الحتمية الدافعة إلى الثورة، وهي
البؤس المتعاظم باستمرار. ولم تكن الماركسية لتصل إلى هذا الكشف،
لو لم تستعر للظواهر الاقتصادية أسماء اجتماعية، ولو لم تطلق على حالة
التردي النسبي إسم: البؤس:
وأخيراً، فما هي أسباب الحاجة والفاقة، التي كان يجدها ماركس
مخيمة على المجتمع الرأسمالي.
إن الحاجة والفاقة وألوان الفقر والتسكع، لم تنشأ عن السماح بالملكية
الخاصة لوسيلة الإنتاج، وإنما نشأت عن الإطار الرأسمالي لهذه الملكية،
عن اكتساح هذا الملكية الخاصة لكل وسائل الإنتاج، وعدم الإعتراف
بمبدأ الملكية العاملة إلى جانبه، ولا بحقوق ثابتة في الأموال الخاصة للضمان الإجتماعي، ولا بحدود خاصة لتصرفات المالكين في أموالهم. وأما إذا
سمح المجتمع بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، ووضع إلى جانب ذلك
مباديء الملكية العامة لقسم كبير من وسائل الإنتاج، والضمان الإجتماعي،
والحرية الإقتصادية المحدودة بحدود من المصلحة العامة، تحول دون تمركز
الأموال في أيدي فئة قليلة.. أما إذا قام المجتمع بذلك كله، فلن يوجد
في المجتمع الذي يوفق بين هذه المباديء، ظل للبؤس أو ظاهرة من ظواهر(1/160)
الحاجة والشقاء التي نبعت من طبيعة النظام الرأسمالي في المجتمعات الأوروبية.
* * *
وأما الاستعمار، فقد رأينا أن الماركسية تفسره تفسيراً اقتصادياً خالصاً
أيضاً فتعتبره نتيجة حتمية للمرحلة العليا من الرأسمالية، حين تعود الأسواق
والخيرات الداخلية، غير كافية لتمشية مصالح الطبقة الرأسمالية، فتضطر
إلى امتلاك أسواق وخيرات البلاد الخارجية، عن طريق الاستعمار.
ولكن الواقع: أن الاستعمار ليس تعبيراً اقتصادياً عن المرحلة المتأخرة
من الرأسمالية، وإنما هو التعبير العملي بصورة أعمق عن العقلية المادية،
بمقاييسها الخلقية، ومفاهيمها عن الحياة، وأهدافها وغاياتها، فإن هذه
العقلية هي التي جعلت الحصول على أكبر ربح مادي ممكن، هو الهدف
الأعلى، بقطع النظر عن نوعية الوسائل، وطابعها الخلقي، ونتائجها في
المدى البعيد.
والدليل على هذا من الواقع، أن الاستعمار بدأ منذ بدأت الرأسمالية
وجودها التاريخي في المجتمعات الأوروبية، بعقليتها ومقاييسها، ولم ينتظر
حتى تصل الرأسمالية إلى مرحلتها العليا، وليكون تعبيراً عن ضرورة اقتصادية
خالصة. فقد اقتسمت الدول الأوروبية البلاد الضعيفة، في مطلع الرأسمالية
بكل وقاحة واستهتار. فكان لبريطانيا الهند وبورما وجنوب أفريقيا ومصر
والسودان وغيرها.. ولفرنسا الهند الصينية والجزائر ومراكش وتونس
ومدغشكر وغيرها من المستعمرات، وكان لألمانيا قطاعات في غربي
أفريقيا وجزر الباسفيك، ولإيطاليا طرابلس الغرب والصومال، ولبلجيكا
بلاد الكونغو، ولروسيا قطاعات في آسيا، ولهولندا جزائر الهند.
فالسبب الأصيل والأسبق للاستعمار، يكمن في الواقع الروحي والمزاج
الخلقي للمجتمع، لا في مجرد السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج. فإذا
سمح بهذه الملكية في مجتمع يتمتع بواقع روحي وخلقي وسياسي، يختلف
عن الواقع الرأسمالي.. فليس الاستعمار بمفهومه الرأسمالي قانوناً حتمياً له.(1/161)
وأما الاحتكار، فهو الآخر ليس_ أيضاً_ نتيجة حتمية للسماح بالملكية
الخاصة لأداة الإنتاج، وإنما هو نتيجة للحريات الرأسمالية بشكلها المطلق،
وللمبدأ القائل: بعدم جواز التدخل في مجرى الحياة الإقتصادية للناس.
أما حين توضع للملكية الخاصة قيودها وحدودها، ويجعل النشاط
الإقتصادي تحت مراقبة دقيقة، تستهدف الحيلولة دون الإحتكار وتحكم
فئة قليلة في الأسواق التجارية. فسوف لا يجد الاحتكار طريقة الرأسمالي
المعبد، إلى التحطيم والتدمير.
المذهب الماركسي
تمهيد
قلنا في مستهل هذا الكتاب: إن المذهب الإقتصادي عبارة عن نهج
خاص للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الإجتماعي على
أساسه، بوصفه المخطط الأفضل، الذي يحقق للإنسانية ما تصبو إليه من
رخاء وسعادة، على الصعيد الإقتصادي، وأما العلوم الإقتصادية، فهي
دراسات منظمة للقوانين الموضوعية، التي تتحكم في المجتمع كما تجري
في حياته الاقتصادية. فالمذهب: تصميم عمل ودعوة. والعلم: كشف
أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون لهذا السبب كان المذهب عنصراً
فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد. وأما العلم فهو يسجّل ما يقع
في مجرى الحوادث الإقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.
وعلى هذا الأساس فصلنا بين المادية التاريخية والمذهب الماركسي في بحثنا
هذا (مع الماركسية) فالمادية التاريخية التي تناولناها في القسم الأول من
البحث، هي: علم قوانين الإنتاج في تطوره ونموه، ونتائجه الإجتماعية في
مختلف الحقول الإقتصادية والسياسية والفكرية، وبكلمة أخرى: هي علم
الاقتصاد الماركسي، الذي يفسر التاريخ كله تفسيراً اقتصادياً، في ضوء
القوى المنتجة، والمذهب الماركسي: هو النظام الاجتماعي الذي تتزعم
الماركسية الدعوة إليه، وقيادة الإنسانية إلى تحقيقه. فالماركسية تقف في
المادية التاريخية، موقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة. وتقف بصفتها
المذهبية، موقف الدعوة والتبشير.(1/162)
وبالرغم من هذين الوجهين المختلفين للعلم والمذهب، فإن الصلة وثيقة
جداً بين المادية التاريخية والماركسية المذهبية. لأن المذهب_ الذي تتبنى
الماركسية الدعوة إليه_ ليس في الحقيقة إلا تعبيراً قانونياً، وشكلاً تشريعياً
لمرحلة معينة من مراحل المادية التاريخية، وجزءاً محدوداً من المنحنى التاريخي
العام، الذي تفرضه حركة الإنتاج الصاعدة، وقوانين تطوره وتناقضاته.
فالماركسية حين تتقمص ثوب الداعية المذهبي، إنما تعبر بذلك عن الحقيقة
التاريخية لتلك القوانين. فهي لا تنظر الدعوة إلا بوصفها تنفيذاً لارادة
التاريخ وتحقيقاً لمقتضيات العامل الإقتصادي، الذي يقود القافلة البشرية
اليوم نحو مرحلة جديدة، هي المرحلة التي تتجسد فيها مخططات المذهب
الماركسي.
ولهذا السبب كان يطلق ماركس على مذهبه اسم:(الاشتراكية العلمية)،
تمييزاً لها عن سائر الاشتراكيات، التي عبر أصحابها فيها عن اقتراحاتهم
ومشاعرهم النفسية، وليس عن الضرورة التاريخية وقوانينها، فصاغوا
مذاهبهم بعيدين عن الحساب العلمي ودراسة القوى المنتجة ونموها.
وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية_ من ناحية مذهبية_
بتطبيقهما تباعاً، وتؤكد_ من ناحية المادية التاريخية_ على ضرورتهما
التاريخية كذلك، وهما المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر
_ من وجهة رأي المادية التاريخية_ أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري.
لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى، وتقول فيها وسائل
الإنتاج كلمتها الفاصلة. وأما المرحلة الاشتراكية التي تقوم على أنقاض
المجتمع الراسمالي، وتحتل موقع الرأسمالية مباشرة، فهي: من ناحية
تعبّر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار،
ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة
السفينة إلى شاطىء التاريخ.
ما هي الاشتراكية والشيوعية؟(1/163)
ولكل من المرحلتين_ الإشتراكية والشيوعية_ معالمها الرئيسية، التي
تميزها عن المرحلة الأخرى. فإن المرحلة الاشتراكية تتلخص معالمها الرئيسية
وأركانها الأساسية فيما يلي:
أولاً: محو الطبقية وتصفية حسابها نهائياً بخلق المجتمع اللاطبقي.
وثانياً: استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية
قادرة على تحقيق الرسالة التاريخية للمجتمع الإشتراكي.
وثالثاً: تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسمالية في البلاد_ وهي
الوسائل التي يستثمرها مالكها عن طريق العمل المأجور_ واعتبارها ملكاً
للمجموع.
ورابعاً: قيام التوزيع على قاعدة)من كل حسب طاقته ولكل
حسب عمله).
وعندما تصل القافلة البشرية إلى قمة الهرم التاريخي، أو إلى الشيوعية
الحقيقة... يحدث التطور والتغبير في أكثر تلك المعالم والأركان. فالشيوعية
تحتفظ بالركن الأول من أركان الاشتراكية، وهو محو الطبقية، وتتصرف
في سائر مقوماتها وأركانها الأخرى. فبالنسبة إلى الركن الثاني، تضع
الشيوعية حداً نهائياً لقصة الحكومة والسياسة على مسرح التاريخ، حيث
تقضي على حكومة البروليتاريا، وتحرر المجتمع من نير الحكومة وقيودها.
كما أنها لا تكتفي بتأميم وسائل الإنتاج الرأسمالية فحسب، كما تقرر الإشتراكية
في الركن الثالث، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتلغي الملكية الخاصة
لوسائل الإنتاج الفردية أيضاً( وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لا عن
طريق الأجراء). وكذلك تحرم الملكية الخاصة إلغاءً تاماً في الحقلين الإنتاجي
وبكلمة شاملة: تلغي الملكية الخاصة إلغاءً تاماً في الحقلين الإنتاجي
والاستهلاكي معاً، وكذلك تجري تعديلاً حاسماً في القاعدة التي يقوم على
أساسها التوزيع في الركن الرابع، إذ تركز التوزيع على قاعدة( من كل
حسب طاقته ولكل على حسب حاجته).
* * *
هذا هو المذهب الماركسي بكلتا مرحلتيه، الإشتراكية والشيوعية.
ومن الواضح أن لدراسة المذهب_ أي مذهب_ أساليب ثلاثة:(1/164)
الأول: نقد المباديء والأسس الفكرية، التي يرتكز عليها المذهب.
والثاني: دراسة مدى انطباق تلك المباديء والأسس على المذهب،
الذي أقيم عليها.
والثالث: بحث الفكرة الجوهرية في المذهب من ناحية إمكان تطبيقها،
ومدى ما تتمتع به الفكرة من واقعية وإمكان آخر استحالة وخيال.
وسوف نأخذ في دراستنا للمذهب الماركسي، بهذه الأساليب الثلاثة
مجتمعة.
نقد المذهب بصورة عامة
ونواجه منذ البدء في دراسة الماركسية المذهبية_ على ضوء الأساليب
السابقة_ أهم وأخطر سؤال، على صعيد البحث المذهبي، وهو السؤال
عن الدليل الأساسي الذي يرتكز عليه المذهب، ويبرز بصورة منطقية الدعوة
إليه وتبنّيه، وبالتالي تطبيقه وبناء الحياة على أساسه.
إن ماركس لا يستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية، إلى قيم ومفاهيم
خلقية معينة في المساواة، كما يتجه إلى ذلك غيره من الاشتراكيين، الذين
يصفهم ماركس بأنهم خياليون. وذلك لأن القيم والمفاهيم الخلقية، ليست
في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى
المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
وإنما يستند ماركس إلى قوانين المادية التاريخية، التي تفسر حركة
التاريخ في ضوء تطورات القوى المنتجة وأشكالها المختلفة. فهو يعتبر تلك
القوانين الأساس العلمي للتاريخ، والقوة التي تصنع له مراحله المتعاقبة في
نقاط زمنية محددة، وفقاً لوضع القوى المنتجة وشكلها الاجتماعي السائد.
ويرى في هذا الضوء: أن الاشتراكية نتيجة محتومة لتلك القوانين،
التي تعمل عملها الصارم في سبيل تحويل المرحلة الأخيرة للطبقة، وهي
المرحلة الرأسمالية، إلى مجتمع اشتراكي لا طبقي. أما كيف تعمل قوانين
المادية التاريخية الماركسية على أنقاض الرأسمالية؟!، فهذا ما يشرحه ماركس
_ كما مر بنا سابقاً_ في بحوثه التحليلية للاقتصاد الرأسمالي، التي حاول أن
يكشف فيها عن التناقضات الجذرية التي تسوق الرأسمالية_ وفقاً لقوانين(1/165)
المادية التاريخية_ إلى حتفها، وتصل بالركب البشري إلى المرحلة الإشتراكية
وبكلمات قلائل: أن قوانين المادية التاريخية هي القاعدة العامة لكل مراحل
التاريخ، في رأي ماركس، والأسس التحليلية في الاقتصاد الماركسي_
كقانون القيمة ونظرية القيمة الفائضة_ عن محاولة تطبيق تلك القوانين على
المرحلة الرأسمالية، والاشتراكية المذهبية هي النتيجة الضرورية لهذا التطبيق،
والتعبير المذهبي عن المجرى التاريخي المحتوم للرأسمالية، كما تفرضه
القوانين العامة للتاريخ.
ونحن في بحثنا الموسع عن المادية التاريخية_ بقوانينها ومراحلها_ قد
انتهينا إلى نتائج غير ماركسية. فقد عرفنا بوضوح أن الواقع التاريخي
للإنسانية لا يسير في موكب المادية التاريخية، ولا يستند محتواه الإجتماعي
من وضع القوى المنتجة وتناقضاتها وقوانينها. كما تبينا_ من خلال دراستنا
لقوانين الإقتصاد الماركسي_ خطأ الماركسية في الأسس التحليلية. التي
فسرت في ضوئها تناقض الرأسمالية من جهات شتى، وزحفها المستمر نحو
نهايتها المحتومة. فإن تلك التناقضات كانت ترتكز كلها على القانون
الماركسي للقيمة، ونظرية القيمة الفائضة. فإذا انهارت هاتان الركيزتان،
تداعى البناء كله.
وحتى إذا افترضنا أن الماركسية كانت على صواب في دراستها التحليلة
للإقتصاد الرأسمالي، فإن تلك الأسس إنما تكشف عن القوة أو التناقضات،
التي تحكم على الرأسمالية بالموت البطيء، حتى تلفظ آخر أنفاسها، ولكنها
لا تبرهن على أن الاشتراكية الماركسية هي البديل الوحيد الذي يحل محل
الرأسمالية، في المجرى التاريخي للتطور. بل هي تفسح المجال لأشكال
اقتصادية متعددة أن تحتل مركز الرأسمالية من المجتمع، سواء الاشتراكية
الماركسية، كاشتراكية الدولة بلون من ألوانها، أو الاقتصاد المزدوج من
أشكال متعددة للملكية، أو إعادة توزيع الثروة من جديد على المواطنين في
إطار الملكية الخاصة، وما إلى ذلك من أشكال تعالج أزمة الرأسمالية،(1/166)
دون الاضطرار إلى الاشتراكية الماركسية.
وبذلك تخسر الماركسية المذهبية برهانها العلمي، وتفقد طابع الضرورة
التاريخية الذي كانت تستمده من قوانين المادية التاريخية، والأسس الماركسية
في التاريخ والاقتصاد. وبعد أن تنزع الفكرة المذهبية عنها الثوب العلمي،
تبقى من مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
الاشتراكية
ولنأخذ الآن بدراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية، بشيء من
التفصيل.
فالركن الأول: هو محو الطبقية، الذي يضع حداً فاصلاً لما زخر به
تاريخ البشرية_ على مر الزمن_ من ألوان الصراع. لأن مرد تلك الألوان
إلى فإذا اقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض التناقض الطبقي، الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين
الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد الوئام والسلام إلى الأبد.
وتقوم الفكرة في هذا على أساس رأى المادية التاريخية القائل: إن العامل
الاقتصادي هو العامل الأساسي الوحيد في حياة المجتمع. فقد أدى هذا الرأي بالماركسية إلى القول: بأن حالة الملكية الخاصة التي قسمت المجتمع إلى
مالكين ومعدمين، هي الأساس الواقعي للتركيب الطبقي في المجتمع،
ولكن ما يتمخض عنه هذا التركيب من تناقض وصراع. وما دام المجتمع
الاشتراكي يلغى الملكية الخاصة، ويؤمم وسائل الإنتاج، فهو ينسف
الأساس التاريخي للطبقية، ويصبح من المستحيل أن يواصل التركيب الطبقي
وجوده، بعد زوال الشروط الاقتصادية التي كان يرتكز عليها.
وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية: إن العامل الاقتصادي، ووضع
الملكية الخاصة، ليس هو الأساس الوحيد لكل التركيبات الطبقية على
مسرح التاريخ. فكم من تركيب طبقي كان يقوم على أسس عسكرية أو
سياسية أو دينية؟! كما رأينا فيما سبق. فليس من الضروري تاريخياً أن
تختفي الطبقية بإزالة الملكية الخاصة، بل من الممكن أن يحدث للمجتمع
الاشتراكي تركيب طبقي على أساس آخر.(1/167)
ونحن إذا حلّلنا المرحلة الاشتراكية، وجدنا أنها تؤدي_ بطبيعتها
الاقتصادية والسياسية_ إلى خلق لون جديد من التناقض الطبقي، بعد
القضاء على الأشكال الطبقية السابقة.
أما الطبيعة الاقتصادية للمرحلة الاشتراكية، فتمثل في مبدأ التوزيع
القائل(من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) وسوف نرى عند
دراسة هذا المبدأ: كيف أنه يؤدي إلى خلق التفاوت من جديد؟ فلنأخذ
الآن الطبيعة السياسية للمرحلة الاشتراكية بالبحث والتمحيص.
إن الشرط الأساسي للتجربة الثورة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي
ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها. إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا،
بجميع عناصرها، قيادة الثورة وتوجيه التجربة، وإنما يجب أن تمارس
نشاطها الثوري في ظل القيادة والتوجيه. لذلك أكد لينين، بعد فشل
ثورة (1905) على: أن الثوريين المحترفين، هم وحدهم الذين يستطيعون
أن يؤلفوا حزباً جديداً بلشفي الطراز... وهكذا نجد أن القيادة الثورية
للطبقة العاملة، كانت ملكاً طبيعياً لمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين،
كما كانت القيادة الثورية للفلاحين والعمال في ثورات سابقة، ملكاً لأشخاص
ليسوا من الفلاحين والعمال، مع فارق واحد بين الحالين، وهو أن الامتياز
القيادي للأشخاص في المرحلة الاشتراكية لا يعبّر عن نفوذ اقتصادي،
وإنما ينشأ عن خصائص فكرية وثورية وحزبية خاصة. وقد كان هذا
اللون الثوري والحزبي ستاراً على واقع التجربة الاشتراكية التي مرت بها
أوروبا الشرقية، حجب الحقيقة عن الناس، فلم يستطيعوا أن يتبينوا_
باديء الأمر_ في تلك القيادة الثورية للتجربة الاشتراكية، بذرة لأفظع
ما تصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ. لأن هذه القيادة يجب
أن تستلم السلطة بشكل مطلق لطبيعة المرحلة الاشتراكية في رأي الماركسية
القائل: بضرورة قيام دكتاتورية وسلطة مركزية مطلقة، لتصفية حسابات
الرأسمالية نهائياً. فقد وصف لينين طبيعة السلطة في جهاز الحزب، التي(1/168)
تمتلك السلطة الحقيقة في البلاد خلال الثورة قائلاً:
(في المرحلة الراهنة من الحرب الإهلية الحادة،
لا يمكن لحزب شيوعي أن يقدر على أداء واجبه، إلا
إذا كان منظماً بأقصى نمط مركزي وإلا إذا سيطر
عليه نظام حديدي يوازي النظام العسكري وإلا إذا كان جهازه المركزي جهازاً قوياً تسلطاً يتمتع بصلاحيات
واسعة وبثقة أعضاء الحزب الكلية).
وأضاف ستالين إلى ما تقدم:
(هذا هو الوضع فيما بتعلق بالنظام في الحزب،
أثناء فترة الكفاح التي تسبق تحقيق الديكتاتورية، ويجب
_ بل حتى إلى درجة أعظم_ أن يقال الشيء ذاته عن
النظام في الحزب بعد أن يكون قد تم تحقيق الدكتاتورية).
فالتجربة الاشتراكية إذن تتميز بصورة خاصة عن سائر التجارب
الثورية، بأنها مضطرة كما يرى أقطابها_ إلى الاستمرار في النهج الثوري،
والأسلوب المطلق في الحكم، داخل نطاق الحزب وخارجه، من أجل
خلق الإنسان الاشتراكي الجديد، البريء من أمراض المجتمعات الطبقية
وميولها الاستغلالية التي عاشتها الإنسانية آلاف السنين.
وهكذا يصبح من الضروري أن يباشر الثوريون القادة، ومن يدور
في فلكهم الحزبي، السلطة بشكل غير محدود، ليتأتى لهم تحقيق المعجزة
وصنع الإنسان الجديد.
وحين نصل إلى هذه المرحلة من تسلسل التجربة الاشتراكية، نجد أن
هؤلاء القادة في الجهاز الحزبي والسياسي وأنصارهم، يتمتعون بإمكانات
لم تتمتع بها أكثر الطبقات على مر التاريخ، ولا يفقدون من خصائص الطبقة
شيئاً، فهم قد كسبوا سلطة مطلقة على جميع الممتلكات، ووسائل الإنتاج
المؤممة في البلاد، ومركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات،
والتصرف بها طبقاً لمصالحهم الخاصة. وإيماناً راسخاً بأن سيطرتهم المطلقة
تكفل السعادة والرخاء لجميع الناس كما كانت تؤمن بذلك الفئات السابقة.
التي مارست الحكم في العهود الإقطاعية والرأسمالية.
والفرق الوحيد بين طبقة هؤلاء الثوريين الحاكمين، وسائر الطبقات(1/169)
التي حدثتنا الماركسية عنها: أن تلك الطبقات كانت توجد وتنمو_ في
رأي الماركسين_ تبعاً لعلاقات الملكية القائمة بين الناس. وطبيعة هذه
العلاقات هي التي كانت تحدد اندراج هذا الشخص ضمن هذه الطبقة أو
تلك. وأما هؤلاء المالكون الجدد في المرحلة الاشتراكية، فليست طبيعة
الملكية هي التي تحدد اندراجهم في الطبقة الحاكمة. فلا يندرج هذا الشخص
أو ذاك في الطبقة الحاكمة لأن له ملكية خاصة بدرجة معينة في المجتمع،
كما كانت تفترض الماركسية بالنسبة إلى المجتمعات الطبقية السابقة، بل
العكس هو الذي يصدق على المجتمع الاشتراكي الماركسي. فإن هذا أو
ذلك يتمتع بامتيازات خاصة، أو المحتوى الحقيقي للملكية لأنه مندرج في
الطبقة الحاكمة.
وتفسير هذا الفرق بين الطبقة في المجتمع الاشتراكي، وغيرها من
الطبقات.. واضح. فإن هذه الطبقة لم تولد على الصعيد الاقتصادي، الذي
ولدت عليه سائر الطبقات في زعم الماركسية، وإنما نشأت ونمت على
الصعيد السياسي، ضمن تنظيم ذي طراز معين، قائم على أسس فلسفية
وعقائدية وفكرية خاصة، أي ضمن الحزب الثوري الذي يتزعم التجربة.
فالحزب بنظامه وحدوده الخاصة هو مصنع هذه الطبقة الحاكمة.
وتنحصر مظاهر هذه الطبقة الحزبية، فيما يتمتع به أفراد هذه الطبقة
من امتيازات الإدارة غير المحدودة، التي تمتد من إدارة الدولة وإدارة
المؤسسات الصناعية ومشاريع الإنتاج.. إلى كل مناحي الحياة كما تنعكس
أيضاً في التناقضات الشديدة، بين أجور العمال ورواتب موظفي الحزب.
وفي ضوء الظروف الطبقية، التي تؤدي إليها المرحلة الاشتراكية
الماركسية، يمكن أن نفسر ألوان التناقض والصراع على الصعيد السياسي،
في العالم الاشتراكي، التي تتمثل أحياناً في عمليات تطهير هائلة. فإن الطبقة
الممتازة في ظل التجربة الاشتراكية، وإن نشأت في داخل الحزب كما رأينا،
إلا أنها من ناحية لا تشمل الحزب كله ومن ناحية أخرى يمكن أن تمتد إلى(1/170)
خارج نطاق الحزب، طبقاً للظروف التي تكتنف القيادة ومتطلباتها.
ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الطبقة المتفردة بالامتياز، معارضة
شديدة في داخل الحزب، من الأشخاص الذين لم تستوعبهم تلك الطبقة
بالرغم من حزبيتهم، أو طردتهم من حضريتها فأخذوا يعتبرون هذا التركيب
الطبقي الجديد، خيانة للمباديء التي ينادون بها.
وكذلك تواجه الطبقة الممتازة معارضة هائلة في خارج الحزب، ممن
أتاح الواقع السياسي للفئة الممتازة أن تستثمرهم، على شكل امتيازات خاصة،
وحقوق معينة، واحتكارات للأجهزة الإدارية والمرافق الحيوية في البلاد.
ويبدو من المنطقي_ بعد ذلك_ أن تحدث عمليات تطهير واسعة
النطاق_ كما يسميها الشيوعيون_ بوصفها انعكاساً لتلك الظروف والتناقضات الطبقية. ومن الطبيعي أيضاً أن تكون تلك العمليات هائلة في صرامتها
وشمولها، تبعاً لقوة المركز الطبقي الذي تتمتع به الفئة الحاكمة في الحزب
والدولة.
ويكفينا لكي نتبين مدى الصرامة وقوة الشمول، التي تتسم بها تلك
العمليات، أن تعلم أنها كانت تجري في الذروة العليا في كيان الحزب كما
تجري في القاعدة، باستمرار وعنف قد يفوق كثيراً العنف الذي تعرضه
الماركسية كطابع عام لأشكال التناقض الطبقي المختلفة في التاريخ. فقد
شملت عمليات التطهير في مرة تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر،
الذين كانوا يديرون دفة الحكومة السوفياتية عام(1936)، وشملت أيضاً
خمسة رؤساء من الرؤساء السبعة للجنة السوفيات التنفيذية المركزية،
التي وضعت دستور 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر
منظمة الحزب المركزية، الذين كان يبلغ مجموعهم ثلاثة وخميسين أميناً،
وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين، وثلاثة من
مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات
السوفيات، وجميع أعضاء المكتب السياسي الأول الذي أنشأه لينين بعد(1/171)
الثورة، باستثناء ستالين. كما أدت عمليات التطهير إلى طرد ما يزيد على
مليونين من أعضاء الحزب، وما حل عام(1939) حتى كان عدد أعضاء
الحزب الرسمي مليونين ونصف المليون عضو، وعدد المطرودين مليونين
عضو، وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود أن يوازي الحزب الشيوعي
نفسه.
ولا نرمي من وراء هذا إلى التشهير بالجهاز الحاكم في المجتمع الإشتراكي
_ وليس التشهير من شأن هذا الكتاب_ وإنما نرمي إلى تحليل المرحلة
الاشتراكية تحليلاً علمياً، لنجد: كيف تؤدي بطبيعتها المادية الدكتاتورية،
إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع؟! وإذا بالتجربة
التي جاءت لتمحو الطبقية، قد أنشأتها من جديد.
* * *
والسلطة الدكتاتورية_ التي هي الركن الثاني في المرحلة الاشتراكية_
ليست ضرورية لأجل تصفية حساب الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية،
إذ تعتبرها ضرورة مؤقتة، تستمر حتى يقضى على كل خصائص الرأسمالية
الروحية والفكرية والاجتماعية.. وإنما تعبّر عن ضرورة أعمق في طبيعة
الاشتراكية الماركسية، المؤمنة بضرورة التخطيط الاقتصادي الموجه،
لكل شعب النشاط الاقتصادي في الحياة. فإن وضع مثل هذا التخطيط
وتنفيذه يتطلب سلطة قوية لا تخضع للمراقبة، وتتمتع بامكانات هائلة،
ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد، وتقسمها وفقاً لمخطط
دقيق شامل. فالتخطيط الاقتصادي المركزي يفرض على السلطة السياسية
طبيعة دكتاتورية إلى حد بعيد وليست مهمة تصفية الجو من التراث الرأسمالي،
وهي وحدها التي تفرض هذا اللون السياسي من الحكم.
* * *
ونصل بعد هذا إلى التأميم، بوصفه الركن الثالث للمرحلة الاشتراكية.
والفكرة العلمية في التأميم تقوم على: أساس تناقضات القيمة الفائضة،
التي تتكشف عنها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، في رأس ماركس. فإن
هذه التناقضات تتراكم، حتى يصبح تأميم كل وسائل الإنتاج ضرورة
تاريخية لا محيد عنها.(1/172)
وقد مر بنا الحديث عن هذا التناقضات المزعومة، وكيف أنها تقوم
على أسس تحليلية خاطئة؟! ومن الطبيعي أن تمنى النتائج بالخطأ إذا كانت
الأسس التي يقوم عليها التحليل مضلله وغير صحيحة.
وأما الفكرة المذهبية في التأميم فتتلخص: في محو الملكية الخاصة وتتويج
المجموع بملكية وسائل الإنتاج في البلاد، ليصبح كل فرد_ في نطاق
المجموع_ مالكاً لثروات البلاد كلها كما بملكها الآخرون.
غير أن هذه الفكرة تصطدم بواقع هو الواقع السياسي للمرحلة الإشتراكية
الذي يتجسم في طبقة تتمتع بحكم دكتاتوري مطلق في أجهزة الحزب
والدولة. فلا يكفي في هذا الحال أن تلغي الملكية الخاصة قانونياً، ويتم
الإعلان عن ملكية المجموع للثروة.. ليتمتع هذا المجموع بملكيتها حقاً،
ويجد محتواها الحقيقي في حياته التي يعيشها. بل أن طبيعة الموقف السياسي
سوف تجعل حظ المجموع في تملّكه خطاً قانونياً فحسب، وتسمح للطبقة
الحاكمة أن تتمتع بالمحتوى الحقيقي للملكية، الذي يتمثل في سيطرتها المطلقة
على مقدرات البلاد وثرواتها. وهكذا تحصل هذه الطبقة على نفس الفرص.
التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي،
إذ تقف_ فوق الأنظمة_ وراء كل عمل من أعمال الدولة، وتحتكر
لنفسها حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف في ممتلكاته، وتصبح_ في
هذه اللحظة_ أقدر من أي رأسمالي آخر على سرقة القيمة الفائضة، فما
هي الضمانات العلمية في هذا المجال؟!
وإذا أردنا أن نستعير من الماركسية لغتها، أمكننا القول: بأن التأميم في
المجتمع الاشتراكي الماركسي، يبرز تناقضاً بين الملكية الاشتراكية للمجموع
والجوهر الحقيقي للملكية الذي تتمتع به الطبقة الحاكمة. فإن الملكية_
بجوهرها الواقعي_ ليست إلا السلطة على الثروة والقدرة على التمتع بها
بمختلف الأساليب. وهذا الجوهر هو الذي تتمتع به القوى السياسية،
المهيمنة على كل كيانات المجتمع وينعكس على الصعيد القانوني بشكل(1/173)
امتيازات وحقوق ليست في الحقيقة إلا ستاراً مزيفاً، وترجمة قانونية لجوهر
الملكية الحقيقي، غير أن هذا المالك الجديد في المجتمع الاشتراكي الماركسي،
يختلف عن أي مالك سابق في نقطة، وهي أنه لا يستطيع أن يعترف بملكيته
قانونياً، لأن ذلك يناقض طبيعة موقفه السياسي. فالاشتراكية_ بحكم
طبيعتها السياسية_ تحمل بذرة هذا المالك الجديد وتخلقه عبر تجربتها، وإن
كانت تفرض عليه في نفس الوقت أن ينكر دوره الحقيقي في الحياة الإقتصادية
وتجعله أكثر حياء وخجلاً من الرأسمالي، الذي كان يعلن بكل وقاحه عن
ملكيته الخاصة.
وليس التأميم في الاشتراكية الماركسية حدثاً فريداً في التاريخ، فقد
وقعت تجارب سابقة لفكرة التأميم عبر التاريخ، إذ قامت بعض الدول
القديمة بتأميم كل وسائل الإنتاج، وحصلت بسبب ذلك على مكاسب تشابه
تماماً المكاسب، التي حصلت عليها الاشتراكية الماركسية في تجربتها. ففي
بعض الممالك الهيلينستية وفي مصر خاصة اتبعت الدولة مبدأ التأميم، وأخضعت
الإنتاج والمبادلة لإشرافها، وتولت بنفسها إدارة معظم فروع الإنتاج،
فجلب هذا النظام للدولة فوائد كبيرة، ولكنه حيث كان ينفذ في إطار
سلطة فرعونية مطلقة، لم يستطع بعد ذلك أن يخفي جوهره. فإن التأميم في
ظل سلطة مطلقة تنشيء الملكية الجماعية لتوسعة الإنتاج، لا يمكن أن يؤدي
واقعياً إلا إلى تملك السلطة نفسها، وتحكمها في الممتلكات المؤممة.. ولهذا
ظهرت في التجربة القديمة خيانة الموظفين، واستبداد السلطة التي كانت
تتجسد في شخص الملك، حتى قفز الملك إلى درجة(إله) وأصبحت القوى
الهائلة تنفق كلها لحساب هذا الإله الحاكم، وتحقيق رغباته من بناء المعابد
والقصور والقبور.
ولم يكن من الصفة أن تقترن تجربة التأميم في أقدم العهود الفرعونية...
بنفس الظواهر التي اقترنت بها تجربة التأميم الماركسية في العصر الحديث،
من التقدم السريع في حركة الإنتاج. وتمتع السلطة بقوة تشتد وتنمو بشكل(1/174)
هائل، وانحرافها واستبدادها بعد ذلك بالثروة المؤممة. فقد تقدمت حركة
الإنتاج في ظل التجربة الحديثة للتأميم، كما تقدمت في ظل التأميم الفرعوني،
لأن التسخير غير الحر، في الإنتاج، يثمر دائماً التقدم السريع الموقت في
حركة الإنتاج. ونشأ التأميم في كل من التجربتين في ظل سلطة عليا،
لا تعترف لنفسها بحدود لأن التأميم حينما يقصد منه تنمية الإنتاج فحسب،
يتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
ونتج عن ذلك في كل من التجربتين أيضاً، استفحال أمر السلطة
وتمتعها بالجوهر الحقيقي للملكية، لأن التأميم لم يقم على أساس روحي، أو
قناعة بقيم خليقة للإنسان وإنما قام على أساس مادي، لتحقيق أكبر نصيب
من الإنتاج فمن الطبيعي أن لا تجد السلطة تعارضاً بين هذا الهدف المادي،
وبين ما تحيط به نفسها من امتيازات ومتعة. ومن الطبيعي أيضاً أن لا يقر
الجهاز الحاكم الملكية العامة عملياً، إلا في حدود الدافع المادي الذي يدفعه
إلى مضاعفة الإنتاج وتنميته.
ولا يبدو غريباً بعد ذلك، أن نجد جهاز الدولة في التجربة القديمة،
وهو يضج بخيانات الموظفين وإثرائهم على حساب الممتلكات العامة، ونجد
ستالين في التجربة الحديثة، وهو يضطر إلى الاعتراف بأن كبار رجال
الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم بالحرب الأخيرة، فجمعوا
الأموال والثروات حتى أنه أذاع ذلك في منشور عممه على جميع أبناء
الشعب.
فالتشابه بين التجربتين الاشتراكيتين واضح كل الوضوح، في الظواهر
والنتائج، وبالرغم من اختلاف ظروفهما المدنية وأشكال الإنتاج فيهما.
وهذا يشير إلى أن الجوهر في كلتا التجربتين واحد مهما اختلفت الألوان
والإطارات.
وهكذا نعرف أن كل تجربة للتأميم، تمنى بنفس النتائج إذا كانت في
نفس الإطار السياسي للتجربة الماركسية، إطار السلطة المطلقة، وكان
المبرر الموضوعي لها في رأي قادة التجربة، هو نفس المبرر الذي يباشر(1/175)
قادة الماركسية تجربتهم على أساسه، وهو تنمية الإنتاج التي هي القوة الدافعة
للتاريخ على مر الزمن في مفاهيم المادية التاريخية.
* * *
وأما الركن الأخير من المرحلة الاشتراكية، فهو_ كما سبق_ مبدأ
التوزيع القائل: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.
ويرتكز هذا المبدأ_ من الناحية العلمية_ على قوانين المادية التاريخية.
فإن المجتمع بعد أن يصبح طبقة واحدة، بموجب قانون الاشتراكية الحديثة،
ولا تبقى طبقة عاملة وأخرى مالكة.. يكون من الضروري لكل فرد أن
يعمل ليعيش. كما أن القانون الماركسي للقيمة القائل: أن العمل هو أساس
القيمة.. يجعل لكل عامل نصيباً من الإنتاج، بالقدر الذي يتفق مع كمية
عمله. وهكذا يسير التوزيع على أن(من كل حسب طاقته ولكل حسب
عمله).
وهذا المبدأ يأخذ بالتناقض مع الطبيعة اللاطبقية للمرحلة الاشتراكية،
منذ أن يوضع موضع التنفيذ. فإن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف
كفاءاتهم، ولنوعية العمل ودرجة تعقيده. فهذا عامل لا يطيق من العمل
ست ساعات، وذلك عامل أقوى منه بنية، يستطيع أن يعمل عشر ساعات
في كل يوم، وهذا عامل موهوب يملك من القريحة والنباهة ما يجعله يدخل
تحسينات على طريقة الإنتاج، وينتج ضعف ما ينتجه الآخرون، وذلك
عامل لم يواته الحظ، قد خلق للتقليد لا للابتكار، وهذا عامل في مدرب
يمارس إنتاج الأجهزة الكهربائية الدقيقة، وذاك عامل بسيط لا يمكن أن
يستخدم إلا في حمل الأثقال، وثالث يعمل في الحقل السياسي ويتوقف على
عمله مصير البلاد كلها.
واختلاف هذه الأعمال يؤدي إلى تفاوت القيم التي تخلقها تلك الأعمال.
وليست هذا الألوان الصارخة من التفاوت بين نفس الأعمال، أو
القيم الناتجة عنها، مستمدة من واقع اجتماعي معين، بل إن الماركسية
نفسها تعترف بذلك، إذ تقسم العمل إلى: بسيط ومركب، وترى أن
قيمة ساعة عمل مركب شديد التعقيد، قد تفوق بأضعاف قيمة ساعة من
العمل البسيط.(1/176)
والمجتمع الاشتراكي إذ يواجه هذه المشكلة، لا يوجد أمامه إلا
سبيلان للحل.
أحدهما: أن يحتفظ بمبدأ التوزيع القائل:(لكل حسب عمله)،
فيوزع الناتج على الأفراد بدرجات مختلفة، وبذلك ينشيء الفروق الطبقية
مرة أخرى، فيمنى المجتمع الاشتراكي بالتركيب الطبقي بأسلوب جديد.
والآخر: أن يستعير المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي طريقته في
اقتطاع القيمة الفائضة، على رأي ماركس، فيساوي بين جميع الأفراد
في الأجور.
وللنظرية والتطبيق اتجاهان مختلفان في حل هذه المشكلة.
فالتطبيق_ أو واقع المجتمع الاشتراكي القائم اليوم_ يتجه إلى حل
المشكلة بسلوك السبيل الأول، الذي يدفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من
جديد ولذلك نجد أن النسبة بين الدخل المنخفض، والدخل الراقي في روسيا
تبلغ على ما قيل 5% و1.5%، تبعاً لاختلاف التقديرات، فقد وجد القادة الاشتراكيون: أن من المستحيل عملياً تنفيذ المساواة المطلقة، والنزول
بأعمال العلماء والسياسيين والعسكريين إلى مستوى العمل البسيط، لأن
ذلك يجمد النمو الفكري، ويعطل الحياة الفنية والعقلية، ويجعل أكثر
الأفراد ينصرفون إلى أتفه الأعمال ما دام الأجر هو الأجر، مهما اختلف
العمل وتعقد. ولهذا السبب نشأت الفوارق والتناقضات في ظل التجربة
الاشتراكية وقامت بعد ذلك السلطة الحاكمة بتعميق هذه الفوارق والتناقضات
وفقاً لطبيعتها السياسية، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها
الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتها لتدعيم كيانها الدكتاتوري، ولم
يستيقظ المجتمع بعد أن أسفر الصبح إلا عن نفس الواقع، الذي كانت
تمنيه الاشتراكية بالخلاص منه.
وأما اتجاه النظرية في حل المشكلة: فقد جاءت إشارة إلى تجديد هذا
الاتجاه في كتاب(ضد دوهرنك)، إذ عرض انجلز المشكلة، وكتب
في الجواب عليها.
((كيف سنحل إذن مسألة دفع أعلى الأجور عن العمل المركب، وهي مسألة هامة برمتها؟. يدفع(1/177)
الأفراد أو عائلاتهم في مجتمع المنتجين الخاصين تكاليف تدريب العامل الكفؤ، لذا فإن الثمن العالي الذي يدفع
عن القوة العاملة الكفؤة ناجم عن الأفراد أنفسهم.
فالرقيق الماهر يباع بثمن عال، وكاسب الأجر والماهر
تدفع له أجور عالية. إن المجتمع إذ يكون منظماً تنظيماً اشتراكياً فإنه هو الذي يتحمل هذه التكاليف. فإليه
إذن تعود ثمراتها وهي القيم العالية التي ينتجها العمل
المركب، ولا تكون زيادة الأجور مطلباً من مطالب العامل))(1).
وهذا الحل النظري للمشكلة الذي يقدمه انجلز، يفترض أن القيم العالية
التي يمتاز بها العمل المركب عن العمل البسيط، تعادل تكاليف تدريب
العامل الكفؤ على العمل المركب. ونظراً إلى أن الفرد في المجتمع الرأسمالي
يتحمل بنفسه تكاليف تدريبه، فيستحق تلك القيم التي نجمت عن تدريبه.
وأما في المجتمع الاشتراكي فالدولة هي التي تنفق على تدريبه، فتكون
وحدها صاحبة الحق في القيم العالية للعمل المركب، وليس للعامل الفني
حينئذ أن يطالب بأجر يزيد على أجر العامل البسيط.
ولكن هذا الافتراض يناقض الواقع، فإن القيم العالية التي يحصل عليها
العامل السياسي العسكري، في مجتمع المنتجين الخاصين_ في المجتمع
الرأسمالي_ تزيد كثيراً عن تكاليف دراسته للعلوم السياسية والعسكرية،
كما مر سابقاً.
أضعف إلى ذلك أن انجلز لم يضع معالجته للمشكلة في صيغة دقيقة،
تنفق مع الأسس العلمية المزعومة في الاقتصاد الماركسي،فقد غاب عن
ذهن انجلز أن السلعة التي ينتجها العامل الفني المدرب، لا يدخل في قيمتها
_ التي يخلقها العامل_ ثمن تدريبه وأجور دراسته، وإنما الذي يحدد قيمتها
كمية العمل المنفقة على إنتاجها فعلاً، مع كمية العمل التي أنفقها العامل
خلال الدراسة والتدريب. فمن الممكن أن ينفق العامل عشر سنوات من
العمل في التدريب، ويكلفه، ذلك ألف دينار. ويكون ثمن التدريب هذا
__________
(1) ضد دوهرنك: 2ص 96.(1/178)
_ هو ألف دينار_ معبراً عن كمية من العمل المختزن فيه، تقل عن عمل
عشر سنوات. فأجرة التدريب_ في هذا الفرض_ تصبح أقل من القيمة
التي ساهم عمل العامل خلال تدريبه في إيجادها، نظير تكاليف تجديد قوة
العمل، التي تقل عن القيمة التي يخلقها العمل نفسه، كما تزعم نظرية القيمة
الفائضة.
فما يصنع انجلز إذا أصبحت كمية العمل، الماثلة في تكاليف تدريب
العامل.. أقل من كمية العمل التي ينفقها العامل خلال التدريب؟! إن
الدولة ليس من حقها في هذه الحال_ على أساس الاقتصاد الماركسي_
أن تقتطف ثمرات التدريب، وتسلب من العامل القيمة التي خلقها بعمله.
في السلعة خلال التدريب، بوصفها قد دفعت أجرة التدريب، لأن القيمة
الزائدة التي يتمتع بها منتوج العامل الفني، لا تعبر عن تكاليف تدريبه وأجرة
دراسته، بل عن العمل الذي قضاه العامل خلال الدراسة. فإذا زاد هذا
العمل على كمية العمل المتمثلة في نفقات التدريب، كان للعامل الحق في
زيادة الأجر على إنتاجه الفني.
وشيء آخر فات انجلز أيضاً وهو: أن تعقيد العمل لا ينشأ دائماً من
التدريب، بل قد يحصل بسبب مواهب طبيعية في العامل، تجعله ينتج في
ساعة من العمل ما لا ينتج اجتماعياً إلا خلال ساعتين. فهو يخلق في الساعة
القيمة التي يخلقها غيره في ساعتين، بسبب من كفاءته الطبيعية، لا من
تدريس سابق. فهل يأخذ هذا العامل ضعف ما يأخذه غيره، فيمنى المجتمع
الاشتراكي بالفوارق والتناقضات، أو يساوى بينه وبين غيره ولا يعطي
إلا نصف ما يخلقه من القيمة. فيرتكب المجتمع الاشتراكي بذلك سرقة
القيمة الفائضة؟!
وهكذا يتلخص: أن الحكومة في المرحلة الاشتراكية الماركسية،
لا محيد لها عن أحد أمرين: فأما أن تطبق النظرية، كما يفرضه القانون
الماركسي للقيمة، فتوزع على كل فرد حسب عمله. فتخلق بذرة التناقض
الطبقي من جديد. وإما أن تنحرف عن النظرية في مجال التطبيق، وتساوي(1/179)
بين العمل البسيط والمركب، والعامل الاعتيادي والموهوب. فتكون قد
اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة، التي يتفوق بها عن العامل
البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً في حساب المادية التاريخية.
الشيوعية
وننتهي من دراسة المرحلة الاشتراكية، إلى المرحلة النهائية التي يولد
فيها المجتمع الشيوعي. ويحشر البشر إلى الفردوس الأرضي الموعود، في
نبوءات المادية التاريخية.
وللشيوعية ركنان رئيسيان:
الأول: محو الملكية الخاصة، لا في مجال الإنتاج الرأسمالي فحسب،
بل في مجال الإنتاج بصورة عامة، وفي مجال الاستهلاك أيضاً، فتؤمم كل
وسائل الإنتاج وكل البضائع الإستهلاكية.
والثاني: محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة
نهائية.
أما محو الملكية الخاصة في كل المجالات، فهو لا يستمد وجوده في
المذهب من قانون علمي للقيمة، كما كان تأميم وسائل الإنتاج الرأسمالي يقوم
على أساس نظرية القيمة الفائضة، والقانون الماركسي للقيمة.. وإنما تقوم
الفكرة في تعميم التأميم: على افتراض أن المجتمع يبلغ بفضل النظام الاشتراكي
درجة عالية من الثروة، كما تنمو القوى المنتجة نمواً هائلاً، فلا يبقى
موقع للملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك، فضلاً عن ملكية وسائل الإنتاج
لأن كل فرد سوف يحصل في المجتمع الشيوعي على ما يحتاج إليه، ويتوق
إلى استهلاكه في أي وقت شاء. فأي حاجة له في الملكية الخاصة؟!.
وعلى هذا الأساس يقوم مبدأ التوزيع في المجتمع الشيوعي، على قاعدة:
إن لكل حسب حاجته لا حسب عمله، أي أن كل فرد يعطى قدر ما يشبع
رغبة ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي يملكها المجتمع قادرة على إشباع
كل الرغبات...
ونحن لا نعرف فرضية أكثر إمعاناً في الخيال وتجنيحاً في آفاقه البعيدة،
من هذه الفرضية التي تعتبر: إن كل إنسان في المجتمع الشيوعي قادر على
إشباع جميع رغباته وحاجته إشباعاً كلياً، كما يشبع حاجاته من الهواء(1/180)
والماء، فلا تبقى ندرة ولا تزاحم على السلع، ولا حاجة إلى الاختصاص
بشيء.
ويبدو من هذا، أن الشيوعية كما تصنع المعجزات في الشخصية الإنسانية،
فتحول الناس إلى عمالقة في الإنتاج، بالرغم من انطفاء الدوافع الذاتية
والأنانية في ظل التأميم.. كذلك تصنع المعجزة مع الطبيعة نفسها، فتجردها
عن الشح والتقتير، وتمنحها روحاً كريمة تسخو دائما بكل ما يتطلبه الإنتاج
الهائل، من موارد ومعادن وأنهار.
ومن سوء الحظ أن قادة التجربة الماركسية، حاولوا أن يخلقوا الجنة
الموعودة على الأرض ففشلوا، وظلت التجربة تتأرجح بين الاشتراكية
والشيوعية، حتى أعلنت بصراحة عجزها عن تحقيق الشيوعية بالفعل،
كما تعجز كل تجربة تحاول اتجاهاً خيالياً يتناقض مع طبيعة الإنسان. فقد
اتجهت الثورة الاشتراكية في باديء الأمر اتجاهاً شيوعياً خالصاً، إذ حاول
لينين أن يكون كل شيء شائعاً بين المجموع. فانتزاع الأرض من أصحابها
وجرد الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فتمرد الفلاحون وأعلنوا إضرابهم
عن العمل والإنتاج، فنشأت المجاعة الهائلة التي زعزعت كيان البلاد،
وأرغمت السلطة على العدول عن تصميمها، فردت للفلاح حق التملك،
واستعادت البلاد حالتها الطبيعية، إلى أن جاءت سنة(28-30) فحدث
انقلاب آخر أريد به تحريم الملكية من جديد، فاستأنف الفلاحون ثورتهم
وإضرابهم، وأمعنت الحكومة في الناس قتلاً وتشريداً وغصت السجون
بالمعتقلين، وبلغت الضحايا_ على ما قيل_ مائة ألف قتيل، باعتراف
التقارير الشيوعية. وأضعاف هذا العدد في تقدير أعدائها. وراح ضحية
المجاعة الناجمة عن الاضراب والقلق سنة(1932)، ستة ملايين نسمة
باعتراف الحكومة نفسها، فاضطرت السلطة إلى التراجع، وقررت منح
الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على
أن تبقى الملكية الأساسية للدولة، وينضم الفلاح إلى جمعية(الكلخوز
الزراعية الاشتراكية) التي تتعهدها الدولة، وتستطيع أن تطرد أي عضو(1/181)
منها متى شاءت.
* * *
وأما الركن الثاني للشيوعية(زوال الحكومة)، فهو أطرف ما في
الشيوعية من طرائف. وتقوم الفكرة فيه على أساس رأي المادية التاريخية في
تفسير الحكومة القائل: بأن الحكومة وليدة التناقض الطبقي، لأنها الهيئة
التي تخلقها الطبقة المالكة لاخضاع الطبقة العاملة لها. ففي ضوء هذا التفسير
لا يبقى للحكومة أي مبرر في مجتمع لا طبقي، بعد أن يتخلص من كل
آثار الطبقية وبقاياها، ويصبح من الطبيعي أن تتلاشى الحكومة تبعاً لزوال
الأساس التاريخي لها.
ومن حقنا أن نتساءل عن هذا التحول، الذي ينقل التاريخ من مجتمع
الدولة إلى مجتمع متحرر منها، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية:
كيف يتم هذا التحول الاجتماعي؟!. وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية،
فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة، كما انتقل
من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟!. أو أن التحول يحصل بطريقة تدريجية،
فتذبل الدولة وتتقلص حتى تضمحل وتتلاشى؟!.
فإذا كان التحول ثورياً آنياً، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا
سيتم عن طريق الثورة، فمن هي الطبقة الثائرة التي سيتم على يدها هذا
التحول؟!. وقد علمتنا الماركسية أن الثورة الاجتماعية على حكومة،
إنما تنبثق دائماً من الطبقة التي لا تمثلها تلك الحكومة. فلا بد إذن في هذا
الضوء أن يتم التحول الثوري إلى الشيوعية، على أيدي غير الطبقة التي تمثلها
الحكومة الاشتراكية وهي طبقة البروليتاريا. فهل تريد الماركسية أن تقول
لنا أن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين؟!.
وإذا كان التحول من الاشتراكية وزوال الحكومة تدريجياً.. فهذا
يناقض_قبل كل شيء_ قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية.
فإن قانون الكمية والكيفية في الديالكتيك يؤكد: أن التغيرات الكيفية
ليست تدريجية، بل تحصل بصورة فجائية، وتحدث بقفزة من حالة إلى
أخرى. وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع(1/182)
كل مرحلة تاريخية، بوصفها تحولاً آنياً. فكيف بطل هذا القانون عند
تحول المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية.
والتحول التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية، كما
يناقض قوانين الديالكتيك، كذلك يناقض طبيعة الأشياء. إذ كيف يمكن
أن نتصور أن الحكومة في المجتمع الاشتراكي، تتنازل في التدريج عن
السلطة وتقلص ظلها، حتى بنفسها على نفسها، بينما كانت كل
حكومة أخرى على وجه الأرض تتمسك بمركزها، وتدافع عن وجودها
السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟!. فهل هناك أغرب من هذا التقليص
التدريجي تتبرع بتحقيقه الحكومة نفسها، فتسخو بجياتها في سبيل تطوير
المجتمع؟!، بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية،
والتجربة الواقعية التي تجسد اليوم في العالم؟! فقد عرفنا أن من ضرورات
المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان، فكيف تصبح
هذه الدكتاتورية المطلقة مقدمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائياً؟!،
وكيف يمهد استفحال السلطة واستبدادها إلى زوالها واختفائها؟!!.
وأخيراً: فلنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفترض أن المعجزة
قد تحققت، وإن المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كل شخص يعمل
حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته، أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد
هذه الحاجة، وتوفق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة
واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج.(1/183)
مع الرأسمالية
1_ الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية
2_ الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية
3_ القوانين العلمية في الإقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي
4_ دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمها الأساسية
كما يقسم الإقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك ينقسم الإقتصاد
الرأسمالي إلى هذين القسمين. ففيه الجانب العلمي، الذي تحاول الرأسمالية
فيه أن تفسر مجرى الحياة الإقتصادية وأحداثها تفسيراً موضوعياً، قائماً على
أساس الاستقرار والتحليل. وفيه أيضاً الجانب المذهبي، الذي تدعو
الرأسمالية إلى تطبيقه وتتبنى الدعوة إليه.
وقد اختلط هذان الجانبان أو الوجهان للاقتصاد الرأسمالي، في كثير
من البحوث والأفكار، مع أنهما وجهان مختلفان، ولكل منهما طبيعة
الخاصة وأسسة ومقاييسه. فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع
المميز للآخر، فنعتبر القوانين العلمية مذهباً خالصاً، أو نضفي الطابع العلمي
على المذهب، فسوف نقع في خطأ كبير كما سنرى.
والرأسمالية وإن اتفقت مع الماركسية، في تشعبها إلى جانب علمي
وجانب مذهبي ولكن العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي، والمذهب
الرأسمالي في الاقتصاد، تختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاقة بين الجانب العلمي
من الماركسية، والجانب المذهبي منها، أي بين المادية التاريخية من ناحية،
والإشتراكية والشيوعية من ناحية أخرى وهذا الاختلاف هو الذي سيجعل
طريقة بحثنا مع الرأسمالية، تختلف عن طريقة دراستنا للماركسية، كما
ينضح خلال هذا الفصل(مع الماركسية).
وسوف نستعرض فيما يلي: الإقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية،
ونعالج بعد ذلك علاقة المذهب الرأسمالي بالجانب العلمي من الرأسمالية،
وندرس أخيراً الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها.
الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية
يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان رئيسية ثلاثة، يتألف منها كيانه(1/1)
العضوي الخاص، الذي يميزه عن الكيانات المذهبية الأخرى. وهذه
الأركان هي:
أولاً: الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود. فبينما كانت
القاعدة العامة في المذهب الماركسي، هي: الملكية الاشتراكية التي لا يجوز
الخروج عنها إلا بصورة استثنائية.. تنعكس المسألة في المذهب الرأسمالي
تماماً. فالملكية الخاصة في هذا المذهب، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل
المجالات وميادين الثروة المتنوعة ولا يمكن الخروج عنها إلا بحكم ظروف
استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم هذا المشروع أو ذاك، وجعله ملكاً للدولة.
فما لم تبرهن التجربة الاجتماعية على ضرورة تأميم أي مشروع، تبقى الملكية
الخاصة هي القاعدة النافذة المفعول.
وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك، وتسمح للملكية
الخاصة بغزو جميع عناصر الإنتاج من: الأرض والآلات والمباني والمعادن،
وغير ذلك من ألوان الثروة. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية
الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
ثانياً: فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكية وامكاناته على الوجه
الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي
يتمكن منها. فإن كان بتملك أرضاً زراعية مثلاً، فله أن يستغلها بنفسه
في أي وجه من وجوه الاستغلال، وله أن يؤجرها للغير، وأن يفرض على
الغير شروطه التي تهمه، كما له أن يترك الأرض دون استغلال.
وتستهدف هذه الحرية الرأسمالية التي يمنحها المذهب الرأسمالي للمالك:
أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد
أعرف منه بمنافعه الحقيقة، ولا أقدر منه على اكتسابها. ولا يتأتى للفرد
أن يصبح كذلك ما لم يزود بالحرية في مجال استغلال المال وتهيئته ويستبعد
من طريقه التدخل الخارجي من جانب الدولة وغيرها. فبذلك يصبح لكل
فرد الفرصة الكافية، لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغل به ماله، والمهنة(1/2)
التي يتخذها، والأساليب التي يتبعها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من الثروة.
وثالثاً: ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال. فلكل
شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته، وهو
الذي يختار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع عن ذلك قيام الدولة أحياناً
بتحريم استهلاك بعض السلع، لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة، كاستهلاك المخدرات.
فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في
حريات ثلاث: حرية التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
ويظهر منذ النظرة الأولى: التناقض الصارخ بين المذهب الرأسمالي
والمذهب الماركسي، الذي يضع الملكية الاشتراكية مبدءاً بدلاً عن الملكية
الفردية، ويقضي على الحريات الرأسمالية التي ترتكز على أساس الملكية
الخاصة، ويستبدلها بسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة الإقتصادية.
ومن القول الشائع: أن اختلاف المذهبين الرأسمالي والماركسي في
معالمهما، يعكس اختلافهما في طبيعة نظرتهما إلى الفرد والمجتمع لأن المذهب
الرأسمالي مذهب فردي، يقدس الدوافع الذاتية، ويعتبر الفرد هو المحور
الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه، ويضمن مصالحه الخاصة. وأما
المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي، يرفض الدوافع الذاتية والأنانية،
ويفني الفرد في المجتمع، ويتخذ المجتمع محوراً له. وهو لأجل هذا لا يعترف
بالحريات الفردية، بل يهدرها في سبيل القضية الأساسية، قضية المجتمع
بكاملة.
والواقع: أن كلا المذهبين يرتكز على نظرة فردية، ويعتمد على
الدوافع الذاتية والأنانية. فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته،
فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترة بما سوف
يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أطلقتها لذلك الفرد
ما دام الآخرون يتمتعون بالحرية مبدئياً، كما يتمتع بها الفرد المستغل.
وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين إشباع دوافعهم الذاتية، وتنمّى نزعتهم(1/3)
الفردية.. تتجه الماركسية إلى غيرهم من الأفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك
الفرص، فتركز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية
فيهم، والتأكيد على ضرورة إشباعها. وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية
هذه الدوافع، بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه، حتى
تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثورياً. وتشرح لأولئك الذين تتصل بهم:
أن الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقروا هذه
السرقة بحال، لأنها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص.
وهكذا نجد أن الوقود الذي يعتمد عليه المذهب الماركسي، هو نفس
الدوافع الذاتية والفردية التي تتبناها الرأسمالية. فكل من المذهبين يتبنى إشباع
الدوافع الذاتية وينميها، وإنما يختلفان في نوع الأفراد، الذين تتجاوب
دوافعهم الذاتية والأنانية مع هذا المذهب أو ذاك.
وأما المذهب الجدير بصفة المذهب الجماعي، فهو المذهب الذي يعتمد
على وقود من نوع آخر، على قوى غير الأنانية والدوافع الذاتية.
إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يربي في كل فرد شعوراً
عميقاً بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه، ويفرض عليه لذلك أن يتنازل عن
شيء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصة، في سبيل المجتمع وفي سبيل
الآخرين، لا لأنه سرق الآخرين وقد ثاروا عليه لاسترداد حقوقهم الخاصة،
بل لأنه يحس بأن ذلك جزء من واجبه، وتعبير عن القيم التي يؤمن بها.
إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم
لا بإثارة دوافعهم الذاتية، بل بإثارة الدوافع الجماعية في الجميع، وتفجير
منابع الخير في نفوسهم. وسوف نرى في بحوث مقبلة ما هو هذا المذهب؟.
الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية
في فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد
الطبيعي الكلاسيكي بذور هذا العلم وبنياته الأولية، سادت الفكر الإقتصادي
يومذاك فكرتان.(1/4)
إحدهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعة محددة، تتحكم
في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع. كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى
الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة
الإقتصادية. هو استكشاف قوانينها العامة وقواعدها الأساسية، التي تصلح
لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
والفكرة الأخرى: هي أن تلك القوانين الطبيعية، التي يجب على علم
الاقتصاد استكشافها، كفيلة بضمان السعادة البشرية إذا عملت في جو حر،
وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بالحريات الرأسمالية، حريات: التملك.
والاستغلال، والاستهلاك.
وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، ووضعت
الفكرة الثانية بذرته المذهبية، غير أن الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في باديء
الأمر ارتباطاً وثيقاً، حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين يومئذ: أن تقييد
حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف
في وجه الطبيعة وقوانينها، التي كفلت للإنسانية رخاءها وحل جميع
مشاكلها... فكل محاولة لإهدار شيء من الحريات الرأسمالية، تعتبر
جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة.. وهكذا انتهى بهم هذا القول:
بأن تلك القوانين الخيرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي، وتحتم على المجتمع
ضمان الحريات الرأسمالية.
غير أن هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكاً وطفولياً إلى حد كبير،
لأن الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في
حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ القانون نفسه، وينزع عنه وصفه
العلمي الموضوعي. لأن القوانين الطبيعية لا تتخلف في ظل الشروط والظروف
اللازمة لها، وإنما قد تتغير الشروط والظروف، فمن الخطأ أن تعتبر الحريات
الرأسمالية، تعبيراً عن قوانين طبيعية، وتعتبر مخالفتها جريمة في حق تلك
القوانين. فقوانين الاقتصاد الطبيعية تعمل ولا تكف عن العمل، في جميع(1/5)
الأحوال ومهما اختلفت درجة الحرية التي يتمتع بها الأفراد في حقول
التملك والاستغلال والاستهلاك.. وإنما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك
القوانين. تبعاً لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلها، كما
تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها، طبقاً لاختلاف شروطها وظروفها.
فيجب إذن أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية
تحتمها القوانين الطبيعية من وجهة رأي الرأسماليين، حتى تكتسب بذلك
الطابع العلمي.. وإنما تدرس على أساس مدى ما تتيح للإنسان من سعادة
وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل. وهذا هو الأساس الذي اتبعه بعد ذلك
علماء الاقتصاد الرأسمالي، في دراسة الرأسمالية المذهبية.
وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الفرق الجوهري_ الذي ألمعنا إليه في
مستهل هذا الفصل_ بين الماركسية والرأسمالية، إذ تختلف العلاقة بين
الجانب العلمي والجانب المذهبي من الماركسية اختلافاً أساسياً، عن العلاقة
بين الاقتصاد العلمي والاقتصاد المذهبي للرأسمالية. فإن الماركسية المذهبية
التي تتمثل في الاشتراكية والشيوعية، تعتبر نتيجة حتمية لقوانين المادية
التاريخية التي تعبر عن القوانين الطبيعية للتاريخ، من وجهة رأي الماركسية.
فإذا كانت المادية التاريخية على صواب في تفسير التاريخ، فهي تبرهن على
الجانب المذهبي من الماركسية. ولذلك يعتبر درس الجانب العلمي من
الماركسية، أساساً لدرس الجانب المذهبي منها، وشرطاً ضرورياً للحكم
في صالح المذهب الماركسي أو ضده. ولا يمكن لباحث مذهبي أن ينقد
الاشتراكية والشيوعية، بصورة مستقلة عن أساسها العلمي، عن المادية
التاريخية.
أما الرأسمالية المذهبية، فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده
الرأسماليون، ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في
تفسير الواقع الموضوعي.. وإنما ترتكز الرأسمالية المذهبية، على قيم وأفكار
خلقية وعملية معينة، يجب أن تعتبر هي المقياس للحكم في حق المذهب
الرأسمالي.(1/6)
وهكذا يتضح أن موقفنا_ بوصفنا نؤمن بمذهب اقتصادي يتميز عن
الرأسمالية والماركسية_ تجاه الماركسية، يختلف عن موقفنا من الرأسمالية.
فنحن تجاه الماركسية أمام مذهب اقتصادي، يزعم: أنه يرتكز على قوانين
علم التاريخ (المادية التاريخية). فمن الضروري لنقد هذا المذهب، أن
نتناول تلك القوانين العلمية المزعومة، بالدرس والتمحيص. ولأجل ذلك
عرضنا المادية التاريخية بمفاهيمها، ومراحلها، تمهيداً إلى إصدار الحكم
في حق المذهب الماركسي نفسه. وأما بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسمالية
المذهبية، أي الحريات الرأسمالية.. فنحن نواجه مذهباً لا يستمد كيانه من
القوانين العلمية، ليكون المنهج الضروري لدراسته هو بحث تلك القوانين
وتدقيقها.. وإنما نواجه مذهباً يستمد كيانه من تقديرات خلقية وعملية معينة.
ولهذا فسوف لن نتحدث عن الجانب العلمي من الرأسمالية، إلا بالقدر الذي
يوضح: أن الجانب المذهبي ليس نتيجة حتمية له، ولا يحمل طابعه العلمي،
ثم ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار العملية والقيم الخلقية التي يرتكز
عليها. لأن بحوث هذا الكتاب تحمل كلها الطابع المذهبي، ولا تتسع
للجوانب العلمية إلا بمقدار ما يتطلبه الموقف المذهبي.
ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس، وإن كانت تتوقف أيضاً
على شيء من البحث العلمي، غير أن دور البحث العلمي في هذه الدراسة،
يختلف كل الاختلاف عن دوره في دراسة المذهب الماركسي. فإن البحث
العلمي في قوانين المادية التاريخية، كان وحده هو الذي يستطيع أن يصدر
الحكم النهائي في حق الماركسية المذهبية، كما سبق. وأما البحث العلمي في
مجال نقد الرأسمالية المذهبية، فليس هو المرجع الأعلى للحكم في حقها،
لأنها لا تدّعى لنفسها طابعاً علمياً.
وإنما يستعان بالبحث العلمي، لتكوين فكرة كاملة عن النتائج الواقعية (الموضوعية)، التي تتمخض عنها الرأسمالية على الصعيد الاجتماعي،(1/7)
ونوعية الاتجاهات التي تتجها قوانين الحركة الاقتصادية في ظل الرأسمالية،
لكي تقاس تلك النتائج والاتجاهات التي يسفر عنها تطبيق المذهب بالمقاييس
الخلقية والأفكار العملية التي يؤمن بها الباحث. فوظيفة البحث العلمي في
دراسة المذهب الرأسمالي، إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي
لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العملية الخاصة. وليست وضيفته تقديم البرهان
على حتمية المذهب الرأسمالي أو خطأه.
فكم يخطيء الباحث_ على هذا الأساس الذي قدمناه_ إذا تلقى المذهب
الرأسمالي من العلماء الرأسماليين، بوصفه حقيقة علمية، أو جزءاً من علم
الاقتصاد السياسي، ولم يميز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية لأولئك
الاقتصاديين. فيخيل له مثلاً، حين يحكم هؤلاء بأن توفير الحريات
الرأسمالية خير وسعادة للجميع: إن هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي
كالقانون الاقتصادي القائل مثلاً:(إذا زاد العرض انخفض الثمن)،
مع أن هذا القانون تفسير علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق. وأما
الحكم السابق بشأن الحريات الرأسمالية، فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره
بوصفهم المذهبي، ويستمدونه من القيم والأفكار الخلقية والعلمية التي
يؤمنون بها. فلا تعني صحة ذلك القانون العلمي أو غيره من القوانين العلمية:
أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحاً وإنما يتوقف هذا الحكم على صحة
القيم والأفكار التي أقيم على أساسها.
القوانين العلمية الإقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي
عرفنا فيما سبق: أن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا
يستمد مبرراته ووجوده من القوانين العلمية في الاقتصاد. ونريد هنا أن
نصل إلى نقطة أعمق في تحليل العلاقة، بين الجانب المذهبي والجانب العلمي
من الرأسمالية، لنرى: كيف أن المذهب الرأسمالي يحدد إطار القوانين
العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثر عليها في اتجاهها ومجراها؟. ومعنى
هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، قوانين علمية في إطار مذهبي(1/8)
خاص، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان،
كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء.. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين
حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية،
بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر
عليه الرأسمالية ولا تسوده أفكارها.
ولكي يتضح هذا، يجب أن نلقي ضوءاً على طبيعة القوانين الاقتصادية
التي يدرسها الاقتصاد الرأسمالي، لكي نعرف: كيف وإلى أي درجة يمكن
الاعتراف لها بصفة القانون العلمي؟.
* * *
إن القوانين العلمية للاقتصاد تنقسم إلى فئتين:
إحداهما: القوانين الطبيعية التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها
_ لا من الإرادة الإنسانية_ كقانون التحديد الكلي القائل: إن كل إنتاج كان
يتوقف على الأرض وما تشتمل عليه من مواد أولية، محدود طبقاً للكمية
المحدودة للأرض وموادها الأولية. أو قانون الغلة المتزايدة، القائل: إن
كل زيادة في الإنتاج تعوض على المنتج تعويضاً أكبر نسبياً مما زاده في
الإنفاق، حتى تبلغ الزيادة إلى درجة خاصة، فتخضع عندئذ لقانون
معاكس، وهو قانون الغلة المتناقصة، الذي ينص على أن زيادة الغلة تبدأ
بالتناقص النسبي عند درجة معينة.
وهذا القوانين لا تختلف في طبيعتها وجانبها الموضوعي عن سائر
القوانين الكونية التي تكشف عنها العلوم الطبيعية، ولذلك فهي لا تحمل
شيئاً من الطابع المذهبي، ولا تتوقف على ظروف اجتماعية أو فكرية معينة،
بل لا تختلف في شأنها أبعاد الزمان والمكان، ما دامت الطبيعة التي يتعلق
بها الإنتاج هي الطبيعة في كل زمان ومكان.
والفئة الأخرى: من القوانين العلمية للاقتصاد السياسي، تحتوي على
قوانين للحياة الاقتصادية ذات صلة بإرادة الإنسان نفسه، نظراً إلى أن الحياة
الاقتصادية ليست إلا مظهراً من مظاهر الحياة الإنسانية العامة، التي تلعب(1/9)
فيها الإرادة دوراً إيجابياً فعالاً، في مختلف شعبها ومناحيها. فقانون العرض
والطلب مثلاً_ القائل: إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور
زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب،فإن ثمن السلعة لا بد
وأن يرتفع_ ليس قانوناً موضوعياً، يعمل بصورة منفصلة عن وعي
الإنسان، كما تعمل قوانين الفيزياء والفلك، وكما تعمل القوانين الطبيعية
في الإنتاج التي عرضناها في الفئة الأولى.. وإنما يمثل قانون العرض والطلب
ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم_ في الحالة
التي ينص عليها القانون الآنف الذكر_ على شراء السلعة بثمن أكبر
من ثمنها في حالة مساواة الطلب للعرض. وإن البائع سيمتنع في تلك الحالة
عن البيع إلا بذلك الثمن.
وتدخل الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية، لا يعني إبعاد
الحياة الاقتصادية عن مجال القوانين العلمية، واستحالة البحث العلمي فيها،
كما ذهب إلى ذلك وهم بعض المفكرين، في بداية ولادة الاقتصاد السياسي،
إذ اعتقدوا: أن طابع الحتمية والضرورة للقوانين العلمية، يتنافى مع طبيعة
الحرية التي تعكسها الإرادة الإنسانية. فإذا أخضعت الحياة الإنسانية لقوانين
علمية صارمة، كان ذلك مناقضاً لما يتمتع به الإنسان في حياته من حرية
وانطلاق، إذ يصبح لدى خضوعه لتلك القوانين آلة جامدة، تسير وتتكيف
ميكانيكياً، طبقاً للقوانين الطبيعية التي تتحكم في مجرى حياته الاقتصادية.
وهذا الوهم يرتكز على مفهوم خاطىء عن الحرية الإنسانية، وإدراك
معكوس للعلاقة بين الحرية والإرادة، وبين تلك القوانين. فإن وجود
قوانين طبيعية لحياة الإنسان الاقتصادية، لا يعني أن الإنسان يفقد حريته
وإرادته، وإنما هي قوانين للإرادة البشرية تفسر: كيف يستعمل الإنسان
حريته في المجال الاقتصادي، فلا يمكن أن تعتبر إلغاء لإرادة الإنسان
وحريته.
* * *
ولكن هذه القوانين الاقتصادية، تختلف عن القوانين العلمية في مناحي(1/10)
الكون الأخرى في نقطة، وهي: أن هذه القوانين نظراً إلى علاقتها بإرادة
الإنسان تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني، وبكل العوامل
التي تتدخل في إرادة الإنسان وميوله. وبدهي أن إرادة الإنسان التي تعالجها
تلك القوانين تتحدد وتتكيف وفقاً لأفكار الإنسان ومفاهيمه، ولنوعية
المذهب السائد في المجتمع. ولون التشريعات التي تقيد سلوك الأفراد. فهذه
العوامل هي التي تملي على الإنسان إرادته وموقفه العملي، وحين تتغير تلك
العوامل يختلف إتجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة
التي تفسر مجرى الحياة الإقتصادية، فلا يمكن في كثير من الأحيان، إعطاء
قانون عام للإنسانية في الحياة الاقتصادية، بمختلف إطاراته الفكرية
والمذهبية والروحية. وليس من الصحيح علمياً أن نترقب من الإرادة
الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية أن تسير وتنشط_ دائما وفي كل
مجتمع_ كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي، الذي درسه الاقتصاديون
الرأسماليون، ووضعوا قوانين الاقتصاد السياسي في ضوئه. ما دامت
المجتمعات قد تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، بل يجب
أن تؤخذ هذه الإطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن
الطبيعي أن تتكشف نتائج البحث حينئذ عن القوانين الجارية ضمن تلك
الإطارات خاصة.
وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة الرئيسية، التي وضع في ضوئها كثير
من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي، وهي: القاعدة التي تجرد من الإنسان
الاجتماعي المحسوس: إنساناً اقتصادياً، يؤمن بالمصلحة الشخصية كهدف
أعلى له في كل ميادين النشاط الاقتصادي. فقد افترض الاقتصاديون_ منذ
البدء_ أن كل فرد في المجتمع يستوحي اتجاهه العملي في نشاطه الاقتصادي،
من مصلحته المادية الخاصة دائماً، وأخذوا يستكشفون القوانين العلمية التي
تتحكم في مثل هذا المجتمع. وقد كان افتراضهم هذا على نصيب كبير(1/11)
من الواقع، بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعة الفكري
والروحي ومقاييسه الخلقية والعملية. غير أن من الممكن أن يحدث
تحول أساسي في القوانين الاقتصادية لحياة المجتمع، بمجرد تغيير هذا
الأساس، ومواجهة مجتمع يختلف عن المجتمع الرأسمالي، في القاعدة العامة
لسلوك أفراده، وفي الأفكار والقيم التي يؤمنون بها. وليس هذا افترضاً
نفترضه، وإنما هو واقع نتحدث عنه. فإن المجتمعات تختلف في العوامل
التي تحدد لها دوافع السلوك، والقيم العملية في الحياة.
ولنأخذ مثلاً لذلك، المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الذي دعا إليه
الإسلام، وتمكن من إخراجه إلى حيز الوجود. فقد عاش في ظل الإسلام
مجتمع بشري من لحم ودم، تختلف القاعدة العامة لسلوكه ومقاييسه العملية،
ومحتوياته الروحية والفكرية.. عن المجتمع الرأسمالي كل الاختلاف.
فإن الإسلام_ بوصفه ديناً و مذهباً خاصاً في الحياة_ وإن كان لا يعالج أحداث الاقتصاد معاجلة علمية، ولكنه يؤثر على هذه الأحداث ومجراها الاجتماعي
تأثيراً كبيراً، بوصفه يعالج محور تلك الأحداث، وهو الإنسان في مفاهيمه
عن الحياة ودوافعه وغاياته، يصهره في قالبه الخاص، ويصوغه في إطاره
الروحي والفكري، وبالرغم من أن التجربة التي خاضها الإسلام في سبيل
إيجاد هذا المجتمع كانت قصيرة، فقد أسفرت عن أروع النتائج التي
شهدتها حياة الإنسان، وبرهنت على إمكان التحليق بالإنسان إلى آفاق،
لم يستطع أن يتطلع إليها أفراد المجتمع الرأسمالي، الغارقون في ضرورات
المادة ومفاهيمها إلى رؤوسهم. وفي النزر اليسير مما يحدثنا به التاريخ عن
نتائج التجربة الإسلامية وروائعها، ما يلقي ضوءاً على إمكانات الخير
المكتنزة في نفس الإنسان، ويكشف عن الطاقة الرسالية في الإسلام، التي
استطاع بها أن يجند تلك الإمكانات، ويستثمرها لصالح القضية الإنسانية
الكبرى. فقد ورد في تاريخ تلك التجربة الذهبية: إن جماعة من غير ذوي(1/12)
اليسار والثروة جاءوا إلى رسول الله(ص) قائلين)يا رسول الله ذهب
الأغنياء بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون
بفضول أموالهم. فأجاب النبي قائلاً: أو ليس قد جعل الله لكم
ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة،
وأمر بالمعروف صدفة ونهي عن المنكر صدقة). فهؤلاء المسلمون الذين
احتجوا بين يدي الرسول(ص) على واقعهم، لم يكونوا يريدون الثروة،
بوصفها أداة من أدوات المنعة والقوة أو ضماناً لإشباع الرغبات الشخصية،
وإنما عز عليهم أن يسبقهم الأغنياء في المقاييس المعنوية، بألوان البر والإحسان وبالمساهمة في المصالح العامة على الصعيد الاجتماعي. وهذا يعكس مفهوم
الثروة وطبيعة الإنسان المسلم، في ظل تجربة إسلامية كاملة للحياة.
وجاء في وصف الإجارات والتجارات في المجتمع الإسلامي، ما حدث
به الشاطبي، إذ كتب يقول:
((نجدهم في الإجارات والتجارب لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لاله. ولذلك بالغوا في
النصيحة فوق ما يلزمهم، كأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم
بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم_ وإن جازت_
كالغش لغيرهم)).
وتحدث محمد بن زياد عن شيء من مظاهر التعاون والتكافل في المجتمع
الإسلامي فقال: (ربما نزل على بعضهم الضيف، وقدر أحدهم على النار،
فيأخذ صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القدر صاحبها، فيقول: من أخذ
القدر، فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب
القدر: بارك الله لكم فيها).
وهكذا ندرك الدور الإيجابي الفعال للإسلام، في تغيير مجرى الحياة
الاقتصادية وقوانينها الطبيعية، بتغيير الإنسان نفسه وخلق شروط روحية
وفكرية جديدة له. وكذلك نعرف مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، يتمتع
بهذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي،
زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.(1/13)
ويمكننا أن نأخذ على سبيل المثال أيضاً، قوانين توزيع الدخل وقوانين
العرض والطلب. فقوانين توزيع الدخل في الإقتصاد الرأسمالي كما يشرحها
(ريكاردو) وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين تقضي: بتخصيص جزء
منه أجراً للعامل، يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية، القادرة على إعاشة العامل
والاحتفاظ بقواه، ويقسم الباقي على شكل ربح وفائدة وريع. وقد استخلص
الاقتصاد الرأسمالي من ذلك: أن للأجور قانوناً حديدياً، لا يمكن بموجبه
أن تزيد وتنقص وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل
أجره، تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها. ويتلخص هذا القانون
الحديدي: في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن
حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي
العاملة، ويتضاعف العرض، وتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي. وإذا
حدث العكس، فهبط الأجر عن مستواه الطبيعي، أدى ذلك إلى انتشار
البؤس والمرض في صفوف العمال، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض،
فترتفع الأجور.
يتقدم إلينا بهذا الاقتصاديون الكلاسيكيون، بوصفه تفسيراً علمياً
للواقع، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، وهو في الحقيقة لا ينطبق إلا
ضمن حدود خاصة، وفي مجتمعات رأسمالية لا يوجد فيها ضمان اجتماعي
عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. وأما في مجتمع يسود فيه مبدأ
الضمان العام لمستوى كريم من المعيشة، كالمجتمع الإسلامي، أو في
مجتمع يلغى فيه جهاز السوق، ويجرد عن وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً
لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي.. فلا تتحكم فيه تلك
القوانين، بالشكل الذي تعمل به في المجتمع الرأسمالي.
وهكذا يتضح أن الهيكل العلمي العام للإقتصاد الرأسمالي، ذو إطار
مذهبي خاص، وليس له قدسية القوانين العلمية المطلقة.
دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمتها الأساسية
إن المقومات الأساسية للمذهب الرأسمالي_ التي استعرضناها سابقاً_(1/14)
تدل على أن حجر الزاوية في المذهب، هو: حرية الإنسان في الحقل
الإقتصادي بمختلف مجالاته، من تملك واستغلال واستهلاك. فالحرية
_ بأشكالها المتنوعة_ هي الأساس الذي تنبثق منه كل الحقوق والقيم المذهبية،
التي تنادي بها الرأسمالية، بل إن القوانين العلمية للإقتصاد الرأسمالي نفسها،
ليست إلا تفسيراً للواقع الموضوعي المتجمد في إطار هذه الحرية كما مر بنا.
وإذا كانت فكرة الحرية هي الجوهر والمحتوى الأساسي للرأسمالية
المذهبية فيجب عند دراسة المذهب الرأسمالي، نقد هذه الفكرة وتحليلها،
ودرس بذورها الفكرية، وما ترتكز عليه من أفكار وقيم.
أول سؤال يقفز إلى مجال البحث: لماذا يجب أن يقام المجتمع على
أساس الحرية الاقتصادية؟. وكيف نشأ حق الإنسان فيها، الأمر الذي
تؤكد عليه الرأسمالية المذهبية، وترفض الاعتراف بأي تحديد أساسي له؟.
ويجب أن نعرف في سبيل الإجابة على هذا السؤال: أن الحرية في
التفكير الرأسمالي ترتبط عادة بعدة أفكار وقيم، تستمد منها وجودها
المركزي في المذهب وصفتها كضرورة اجتماعية أو إنسانية للكيان البشري.
فهي تارة: ترتبط بالفكرة القائلة: بالتوافق بين مصالح الفرد التي
يندفع إلى تحقيقها بدوافعه الذاتية، ومصالح المجتمع التي يتوقف عليها
كيانه العام. فإن مصالح الفرد والمجتمع إذا كانت متوافقة، فليس على
المذهب الاجتماعي الذي يستهدف ضمان الصالح الاجتماعي، إلا أن
يطلق الحرية للفرد، ويفسح المجال لدوافعه الذاتية أن تقوده إلى تحقيق
مصالحه الخاصة، التي تؤدي بصورة آلية توفير المصالح العامة. فالحرية
على أساس هذه الفكرة، ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة وضمان
ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه، وبصفتها أداة لذلك تكون جديرة بمركزها
القاعدي في المذهب.
وهي تارة أخرى: ترتبط بفكرة تنمية الإنتاج، وترتكز على الرأي
القائل: أن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ(1/15)
وسيلة لتفجير كل الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج العام، وبالتالي
لمضاعفة الثروة الاجتماعية في البلاد. ومرد هذا في الحقيقة إلى الفكرة
الأولى، لأنه يعبر عن جانب من جوانب الصالح العام، وهو توفير الإنتاج
الاجتماعي الذي يمكن تحقيقه عن طريق الحرية.
وهناك فكرة ثالثة: يرتبط بها مفهوم الحرية الرأسمالية، وهي فكرة
ذات طابع خلقي خالص، يستعمل الرأسماليون عادة في التعبير عنها عبارات
غائمة، أو غير واضحة كل الوضوح. فيكررون القول:بأن الحرية بوجه
عام حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور
الإنسان بها. فليست هي مجرد أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج،
وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان، ووجوده الطبيعي الصحيح.
ومن الواضح أن القيمة المذهبية للحرية الاقتصادية، على أساس الفكرتين
الأوليتين، قيمة موضوعية، مردها إلى النتائج والآثار التي تؤدي إليها
في واقع الحياة. وأما على أساس الفكرة الثالثة، فللحرية بوجه عام_ التي
تعتبر الحرية الاقتصادية جانباً منها_ قيمة ذاتية يمليها شعور الإنسان بكرامته
وإنسانيته.
هذه هي الأفكار التي تبرر الرأسمالية عادة عن طريقها مفهومها عن
الحرية، وضرورة اعتبارها قاعدة في التصميم الاجتماعي الذي يدعو إليه
المذهبيون.
فهي: وسيلة لتحقيق المصالح العامة.
وهي: سبب لتنمية الإنتاج والثروة العامة.
وهي: تعبير أصيل عن الكرامة الإنسانية وحق الإنسان في الحياة.
* * *
والآن وبعد أن استعرضنا الأسس الفكرية لفكرة الحرية الاقتصادية،
يجب أن نتناولها بالدرس والتمحيص.
أ_ الحرية وسيلة لتحقيق المصالح العامة
ترتكز هذه الفكرة: على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً
بالمصالح العامة والرفاه الاجتماعي، إذا توفرت الحرية في المجال العملي
لجميع الأفراد، فإن الإنسان في المجتمع الحر يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة،
والتي تؤدي في النهاية إلى توفير المصالح العامة.(1/16)
وعلى هذا الأساس خيل للاقتصاديين الرأسماليين في باديء الأمر:
أن ضمان سعادة المجتمع ومصالحه ليس بحاجة إلى القيم الخلقية والروحية،
وتغذية الناس بها، لأن كل إنسان_ وحتى من لا يعرف شيئاً من تلك
القيم_ يسير طبقاً لمصلحته الخاصة، إذا كفلت له الحرية في المجال العملي.
وهذه المصلحة نفسها تواكب مصلحة المجتمع، وتتفق معها في نتائجها،
وإن كان الفرد مدفوعاً نحوها بدافع خاص. وهكذا يمكن للمجتمع أن
يستغني عن الخدمات التي تقدمها القيم الخلقية والروحية، ويصل على مصالحه
بالطريقة الرأسمالية، التي توفر لكل فرد حريته، وتمنحه القدرة على تقدير
موقفه في ضوء مصالحه الخاصة، التي تلتقي في آخر الشوط بالمصالح العامة.
ولهذا السبب كانت الحرية التي تنادي بها الرأسمالية، مجردة من كل
الإطارات والقيم الخلقية والروحية، لأنها(حرية) حتى في تقدير هذه
القيم. ولا يعني هذا أن تلك القيم لا وجود لها في مجتمع رأسمالي، وإنما
يعني أن الرأسمالية لا تعترف بضرورة هذه القيم لضمان مصلحة المجتمع،
وتزعم إمكان الاستغناء عنها عن طريق توفير الحريات للأفراد، وإن كان
الناس أحرار في التقليد القيم ورفضها.
ويذكر أنصار الرأسمالية في سياق الاستدلال على ذلك: أن الحرية
الاقتصادية تفتح مجال التنافس الحر بين مختلف مشاريع الإنتاج. وصاحب
المشروع_ في ظل هذا التنافس الحر الذي يسود الحياة الاقتصادية_ يخاف
دائماً من تفوق مشروع آخر على مشروعه واكتساحه له، فيعمل بدافع
من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءاته، حتى
يستطيع أن يخوض معركة السباق مع المشاريع الأخرى، ويصمد في أتون
هذا النضال الأبدى، ومن أهم الوسائل التي تتخذ في هذا السبيل، إدخال
تحسينات فنية على المشروع. وهذا يعني: أن صاحب المشروع في المجتمع
الرأسمالي الحر يظل دائماً يتلقف كل فكرة أو تحسين جديد على الإنتاج،
أو أي شيء آخر من شأنه أن يمكنه من الإنتاج بنفقة أقل. فإذا أدخل هذه(1/17)
التحسينات، فإنه لا يلبث أن يرى باقي المشروعات قد لحقت به، فيبدأ
مرة ثانية في البحث عن فكرة أخرى جديدة، حتى يحتفظ بأسبقيته على
سائر المشروعات. وجزاء من يتخلف في هذا السباق هو إفلاس مشروعه،
فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين، يطيح
بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح. وواضح أن هذه
المنافسة تؤدي إلى مصلحة المجتمع، لأنها تدفع إلى الاستفادة الدائمة بنتاج
العقل العلمي والفني، وإشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة.
فلا ضرورة_ بعد هذا_ إلى ارهاق صاحب المشروع بتربية خلقية
معينة، وترويضه على القيم الروحية، أو ملء أذنية بالمواعظ والنصائح،
ليجعل إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، ويزيد من اتقان السلع
وجودتها. فإن مصلحته الخاصة كفيلة بدفعه إلى تحقيق ذلك، ما دام يعيش
في مجتمع حر يسوده التنافس.
كما لا حاجة له إلى مواعظ تحثه على المساهمة في أعمال البر والإحسان،
والإهتمام بمصالح المجتمع، لأنه يندفع إلى ذلك بدافع من مصلحته الخاصة
بوصفه جزءاً من المجتمع.
* * *
وقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية،
في ظل الحرية الرأسمالية.. أدعى إلى السخرية منه إلى القبول، بعد أن ضج
تاريخ الرأسمالية بفجائع وكوارث يقل نظيرها في التاريخ، وتناقضات
صارخة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وفراغ هائل أحدثه الاستغناء
عن الكيان الخلقي والروحي للمجتمع، فامتلأ بدلاً عن القيم الخلقية
والروحية، بألوان من الظلم والاستهتار والطمع والجشع.
ونستطيع بكل سهولة أن نتبين من خلال التاريخ التطبيقي للرأسمالية،
جنايات هذه الحرية الرأسمالية، التي رفضت كل التحديدات الخلقية
والروحية، وآثارها الخطيرة: في مجرى الحياة الاقتصادية أولاً، وفي
المحتوى الروحي للمجتمع ثانياً، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من(1/18)
المجتمعات ثالثاً حتى عاد الرأسماليون أنفسهم يؤمنون بحاجة الرأسمالية إلى
التعديل والتحديد، ويحاولون شيئاً من الترقيع والترميم، للتخلص من تلك
الآثار أو إخفائها عن الأبصار، وأصبحت الرأسمالية في صيغتها المذهبية
الكاملة مذهباً تاريخياً، أكثر من كونه مذهباً يعيش في واقع الحياة.
أما في مجرى الحياة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي: فليست الحرية
الرأسمالية المطلقة إلا سلاحاً جاهزاً بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد
أمامهم سبيل المجد والثروة على جماجم الآخرين. لأن الناس ما داموا
متفاوتين في حظوظهم من المواهب الفكرية والجسدية والفرص الطبيعية...
فمن الضروري أن يختلفوا في أسلوب الاستفادة من الحرية الاقتصادية الكاملة
التي يوفرها المذهب الرأسمالي لهم، وفي درجات هذه الاستفادة. ويؤدي
هذا الاختلاف المحتوم بين القوى والضعيف، إلى أن تصبح الحرية التعبير
القانوني عن حق القوي في كل شيء، بينما لا تعني بالنسبة إلى غيره شيئاً.
ولما كانت الحرية الرأسمالية لا تقر بالرقابة مهما كان لونها_ فسوف يفقد
الثانويون في معركة الحياة كل ضمان لوجودهم وكرامتهم، ويظلون في
رحمة منافسين أقوياء لا يعرفون لحرياتهم حدوداً من القيم الروحية والخلقية،
ولا يدخلون في حسابهم إلا مصالحم الخاصة.
وقد بلغ من هدر الكرامة الإنسانية، نتيجة لهذه الحرية الرأسمالية أن
بات الإنسان نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة
الإنسانية رهن هذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور.
فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج
الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك، فرصة حسنة
لامتصاص سعادته من شقاء الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى قد
لا يحفظ لهم حياتهم، ولا يمكنهم حتى من إشباع بعض ضروراتهم، كما
قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء(1/19)
إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. ولا بأس على العمال من الدمار والموت
جوعاً، ما دام الاقتصاد الرأسمالي يقدم لهم بصيصاً من الأمل، وكوة من
نور. ولكن ما هو هذا الأمل الذي يبعثه في نفوسهم؟! إنه هو الأمل في
انخفاض عددهم، بسبب تراكم البؤس والمرض. أي والله إن هذا هو
الأمل الذي يقدمه القانون الحديدي للأجور إلى العمال، قائلاً لهم: اصبروا
قليلاً، حتى يصرع الجوع والبؤس قسماً كبيراً منكم، فيقل عددكم
ويصبح العرض مساوياً للطلب، فترتفع أجوركم وتتحسن حالتكم.
هذا هو التوافق الأسطوري المزعوم، بين الدوافع الذاتية في ظل الحرية
الرأسمالية والمصالح العامة. هذا التوافق الذي اضطر الرأسماليون أنفسهم
إلى التنازل عن الإيمان به، والاتجاه إلى فكرة تحديد الحرية بالقيم والضمانات.
وإذا كان هذا هو حظ الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي من
الحرية الرأسمالية وآثارها، فإن ما يصيب المحتوى الروحي للأمة من شرارة
تلك الحرية المجردة، أقسى وأمر، حيث تتلاشى بصورة عامة مشاعر
البر والخير والإحسان، وتطغى مفاهيم الأنانية والجشع، وتسود في المجتمع
روح الصراع في سبيل البقاء، بدلاً عن روح التعاون والتكافل. وما ظنك
بفرد يتجاوب مع المفهوم المطلق للحرية الرأسمالية؟! إذا تطلبت منه القيم
الخلقية والموقف الاجتماعي شيئاً من المفاداة والتضحية بمصالحه الخاصة،
وحتى إذا دفعته مصلحته الخاصة أحياناً إلى تحقيق المصالح العامة، بوصفها
في صالحه أيضاً، فإن هذا وإن كان قد يؤدي إلى نفس النتيجة، التي
تستهدفها القيم الروحية والخلقية من ناحية موضوعية، ولكنها لا تحقق
الجانب الذاتي من تلك القيم، ولا تصنع من الإنسان إنساناً في عواطفه ومشاعره ودوافعه وبواعثه. فإن الأخلاق ليست ذات قيمة موضوعية فحسب، بل
هي ذات قيمة ذاتية أيضاً، لا تقل عن قيمتها الموضوعية في تكميل الحياة
الإنسانية، وإشاعة روح السعادة والهناء النفسي فيها. وسوف نبحث في(1/20)
الفصل المقبل مسألة الدوافع الذاتية، وعلاقتها بالمصالح العامة بصورة أوسع.
ولندع الآن آثار الحرية الرأسمالية في المحتوى الداخلي للمجتمع
الرأسمالي، ولنفترض_ مع الأسطورة الرأسمالية_: أن الدوافع الذاتية
تضمن بنفسها تحقيق المصالح العامة. فهل يمكن لهذا الخيال المجنح، أن
يقول مثل ذلك عن مصالح مختلف المجتمعات، وأن يزعم التوافق بين
المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي، وغيره من المجتمعات البشرية؟!
وماذا يمنع المجتمع الرأسمالي، إذا كان يؤمن بالحرية الرأسمالية مجردة
عن كل الإطارات الروحية والخلقية.. أن يسخّر سائر الكتل البشرية
لحسابه، ويستعبدها لقضاء مآربه؟!.
والواقع التاريخي للرأسمالية، هو الذي يجيب على هذا السؤال. فقد
قاست الإنسانية أهوالاً مروعة، على يد المجتمعات الرأسمالية، نتيجة
لخوائها الخلقي وفراغها الروحي، وطريقتها الخاصة في الحياة. وسوف
تبقى تلك الأهوال وصمة في تاريخ الحضارة المادية الحديثة، وبرهاناً على:
أن الحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، من أفتك أسلحة الإنسان
بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. فقد كان من نتاج هذه
الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر
الآمنين، وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها
صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية
لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا وفرنسا وهولنده وغيرها
باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق،
وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى
الأفريقية، ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم
وسوقهم إلى السفن التجارية، التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وبقيت هذه
الفظائع ترتكب إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت بريطانيا خلاله بحملة(1/21)
واسعة النطاق ضدها حتى استطاعت أبرام معاهدات دولة تستنكر الاتجار
في الرقيق، ولكن هذه المحاولة نفسها كانت تحمل الطابع الرأسمالي،
ولم تصدر عن إيمان روحي بالقيم الخلقية والمعنوية، بدليل أن بريطانيا التي
أقامت الدنيا في سبيل وضع حد لأعمال القرصنة، استبدلتها بأسلوب آخر
من الاستعباد المبطن، إذ أرسلت أسطولها الضخم إلى سواحل أفريقية،
لمراقبة التجارة المحرمة من أجل القضاء عليها. أي والله هكذا زعمت، من
أجل القظاء عليها. ولكنها مهدت بذلك إلى احتلال مساحات كبيرة على
الشواطيء الغربية، وبدأت عملية الاستعباد تجري في القارة نفسها، تحت
شعار الاستعمار، بدلاً عن أسواق أوروبا التجارية!!
فهل نستطيع القول بعد ذلك كله مع الرأسماليين: بأن الحرية الرأسمالية
جهاز سحري، يعمل بشكل تلقائي ودون أي اعتبار روحي وخلقي، على
تحويل سعي الناس في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة
والرفاه الاجتماعي.
ب_ الحرية سبب لتنمية الإنتاج
هذه هي الفكرة الثانية التي ترتكز عليها الحرية الرأسمالية، كما مر بنا
سابقاً وهي تقوم على خطأ في فهم نتائج الحرية الرأسمالية، وخطأ آخر في
تقدير قيمة الإنتاج.
فمشاريع الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، ليست وحدات ذرية تخوض
معترك السباق والتنافس، في درجة واحدة من التكافؤ والإمكانات...
ليكون كل مشروع كفؤاً لمنافسة المشاريع الأخرى، الأمر الذي يحافظ
على بقاء التنافس الحر، ويجعله أداة لتنمية الإنتاج وتحسينه. بل إن مشاريع
الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، تختلف في حجمها وكفاءتها وقدرتها على
الاندماج بعضها مع البعض. والحرية الرأسمالية في هذه الحال تفسح المجال
للتنافس، الذي سرعان ما يؤدي إلى صراع عنيف، تحطم فيه المشاريع
القوية غيرها، وتبدأ باحتكار الإنتاج تدريجياً، حتى تختفي كل ألوان
التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. فالتنافس الحر بالمعنى الذي ينمي الإنتاج(1/22)
لا يواكب الحرية الرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك
للاحتكار، ما دامت الحرية الرأسمالية هي التي تمتلك الموقف الإقتصادي.
أما الخطأ الآخر الأساسي في الفكرة. فهو في تقدير قيمة الإنتاج كما ذكرنا.
فهب أن الحرية الرأسمالية تؤدي إلى وفرة الإنتاج، وتنميته نوعياً وكمياً،
وإن التنافس الحر سيستمر في ظل الرأسمالية. ويحقق إنتاج السلعة بأقل
نفقة ممكنة فإن هذا لا يبرهن على قدرة الرأسمالية على توفير سعادة المجتمع،
وإنما يشير إلى قدرة المجتمع في ظلها على تحسين الإنتاج وتحقيق أكبر كمية
ممكنة من السلع والخدمات. وليست هذه القدرة هي كل شيء في حساب
الرفاه الاجتماعي، الذي يعتبر المذهب مسؤولاً عن ضمانه، وإنما هي
قدرة أو طاقة قد تنفق بالشكل الذي يكفل الرفاه والسعادة للمجتمع، كما
قد تنفق بشكل معاكس. والشيء الذي يحدد الشكل الذي تنفق به الطاقة
الاجتماعية للإنتاج، هو الأسلوب المتبع في توزيع الناتج العام على أفراد
المجتمع. فالرفاه العام إذن لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق
بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد.
والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية، التي
تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع، لأن الرأسمالية المذهبية تعتمد في
التوزيع على جهز الثمن، وهو يعني: أن من لا يملك ثمن السلعة ليس
له حق في العيش والحياة. وبذلك يقضى بالموت أو الحرمان على من كان
عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في إنتاج السلع
والخدمات، أو لعدم تهيء فرصة للمساهمة، أو لوقوعه فريسة بيد منافسين
أقوياء قد سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة
في المجتمعات الرأسمالية، من أفجع الكوارث الإنسانية، لأن العامل حين
يستغني الرأسمالي عن خدماته، لأي سبب من الأسباب، لا يجد الثمن الذي
يحصل به على ضروراته وحاجاته، ويصبح مرغماً على حياة البؤس والجوع،(1/23)
لأن الثمن هو جهاز التوزيع، وما دام لم يحصل منه على شيء في السوق فلا
نصيب له من الثروة المنتجة مهما كانت فاحشة.
فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي، وقدرته على تنمية الإنتاج،
إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، الذي يحكم في مجال التوزيع بالحرمان
والإعدام دون مبالاة على من لم يعرف كلمة السر، ولم يحصل على القطع
السحرية، على النقود.
وفي هذا الضوء، لا يمكننا أن نعتبر مجرد الإنتاج مبرراً من الناحية
الخلقية والعلمية، لمختلف الوسائل التي تتيح لحركة الإنتاج انطلاقاً أوسع،
وحقلاً أخصب لأن وفرة الإنتاج_ كما عرفنا_ ليست هي التعبير الكامل
عن الرفاه الاجتماعي العام.
ج_ الحرية تعبير أصيل عن الكرامة الإنسانية:
ولم يبق بعد هذا إلا الفكرة الثالثة عن الحرية، التي تقدر الحرية بمعيار
ذاتي وتضفي عليها قيمة معنوية وخلقية أصلية، بوصفها المظهر الجوهري
للكرامة وتحقيق الذات، اللذين لا يعود للحياة بدونهما أي معنى.
* * *
ويجب أن نشير_ قبل كل شيء_ إلى أن هناك لونين من الحرية،
وهما: الحرية الطبيعية، والحرية الاجتماعية. فالحرية الطبيعية هي: الحرية
الممنوحة من قبل الطبيعة نفسها. والحرية الاجتماعية هي: الحرية التي
يمنحها النظام الاجتماعي، ويكفلها المجتمع لأفراده، ولكل من هاتين
الحرتين طابعها الخاص. فلا بد لنا_ ونحن ندرس مفاهيم الرأسمالية عن
الحرية_ أن نميز إحدى هاتين الحريتين عن الأخرى. لئلا نمنح أحداهما
صفات الأخرى وخصائصها.
فالحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الإنسان، وظاهرة أساسية
تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعاً لمدى حيويتها. ولذلك
كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن حي آخر،
وهكذا كلما ازداد حظ الكائن من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية.
ولكي نعرف جوهر هذه الحرية الطبيعية، نبدأ بملاحظة الكائنات غير(1/24)
الحية في سلوكها. فإن الطبيعة ترسم لهذه الكائنات إتجاهات محددة، وتفرض
لكل كائن السلوك الذي لا يمكن أن يحيد عنه، فالحجر مثلاً فرضت عليه
الطبيعة سلوكاً محدداً، وفقاً لقوانين كونية عامة. فلا نترقب منه مثلاً أن
يتحرك ما لم نحركه، ولا نترقب منه إذا حركناه أن يتحرك في غير الإتجاه
الذي نحركه فيه، كما لا نتصور من الحجر أن يتراجع تفادياً للاصطدام
بجدار يعترض طريقه. فهو يفقد كل لون من القوة الإيجابية، والقدرة على
تكيفات جديدة، ولهذا لم يكن له نصيب من الحرية الطبيعية. وأما الكائن
الحي فليس موقفه تجاه البيئة والظروف سلبياً، أو مضغوطاً في اتجاه محدد
لا محيد عنه، بل يمتلك قدرة وطاقة إيجابية على تكييف نفسه، وابتداع
أسلوب جديد إذا لم يكن الأسلوب الاعتيادي، ملائماً لظروفه. وهذه
الطاقة الإيجابية هي التي توحي إلينا بمفهوم الحرية الطبيعية، نظراً إلى أن
الطبيعة وضعت بين يدي الكائن الحي بدائل متعددة، ليأخذ في كل حال
بأكثرها ملاءمة لظروفه الخاصة. فالنبات الذي يعتبر في الدرجة الدنيا من
سلم الكائنات الحية، نجد لديه تلك الطاقة أو الحرية في مستوى منخفض
وبدائي، فإن بعض النباتات تغير من اتجاهها ولمجرد اقترابها من حاجز
يصلح لمنعها عن الامتداد في ذلك الاتجاه المعين، وتسارع إلى تكييف نفسها
واتجاهها تكييفاً جديداً. وإذا أخذنا الحيوان_ بوصفه درجة ثانية في سلم
الحياة_ وجدنا عنده تلك الحرية والطاقة، في نطاق أوسع، وعلى مستوى
أعلى. إذ وضعت الطبيعة بين يديه بدائل كثيرة، ينتخب منها في كل حين
وما هو أكثر ملاءمة لشهواته وميوله.. فبينما كنا نجد الحجر لا يحيد عن
اتجاهه المعين حين نرمي به، والنبات لا يحيد عن اتجاهه، إلا في حدود
معينة.. نرى الحيوان قادراً على اتخاذ مختلف الاتجاهات في كل حين.
فالحقل الذي سمحت له الطبيعة بممارسة نشاطه الحيوي فيه، أوسع وأغنى
بالبدائل من الحقل الذي ظفر به النبات.(1/25)
وتبلغ الحرية الطبيعية ذروتها في الإنسان، لأن الحقل العملي الذي
منحته الطبيعة له أوسع الحقول جميعاً. فبينما كانت الميول والشهوات
الغريزية في الحيوان حدوداً نهائية للحقل الذي يعمل فيه فلا يستعمل الحيوان
حريته إلا في حدود تلك الميول والشهوات.. لم يعد لها في حقل النشاط
الحيوي للإنسان تلك المنزلة، لأن الإنسان ركب تركيباً نفسياً وعضوياً
خاصاً، يمكنه من قهر تلك الشهوات، أو التحديد من مفعولها. فهو حر
حتى في الانسياق مع تلك الشهوات أو معاكستها.
وهذه الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان، هي التي تعتبر بحق
إحدى المقومات الجوهرية للإنسانية، لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها.
فالإنسانية بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى.
ومن الواضح أن الحرية بهذا المعنى خارجة عن نطاق البحث المذهبي،
وليس لها أي طابع مذهبي، لأنها منحة الله للإنسان، وليست منحة مذهب
معين دون مذهب، لتدرس على أساس مذهبي.
وأما الحرية التي تحمل الطابع المذهبي، وتميز المذهب الرأسمالي،
وتحتل القاعدة الرئيسية في كيانه.. فهي الحرية الاجتماعية، أي الحرية،
التي يكسبها الفرد من المجتمع لا من الطبيعة. فإن هذه الحرية هي التي
تتصل بالوجود الاجتماعي للإنسان وتدخل ضمن نطاق الدراسات المذهبية والاجتماعية.
وإذا استطعنا أن نميز بوضوح، بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية.
أمكننا أن ندرك مدى الخطأ في منح الحرية الاجتماعية خصائص الحرية
الطبيعية وفي القول: بأن الحرية التي يوفرها المذهب الرأسمالي، مقوم
جوهري للإنسانية وعنصر حيوي في كيانها. فإن هذا القول يرتكز على
أساس: عدم التمييز بين الحرية الطبيعية بوصفها مقوماً جوهرياً للوجود
الإنساني، والحرية الاجتماعية بوصفها مسألة اجتماعية، يجب أن يدرس
مدى كفاءتها لبناء مجتمع سعيد، وانسجامها مع القيم الخلقية التي نؤمن بها.
* * *
ولنأخذ الآن الحرية الاجتماعية بهذا الوصف لندرس موقف المذهب(1/26)
الرأسمالي منها، بعد أن استبعدنا من نطاق البحث المذهبي الحرية الطبيعية،
وتعرفنا على الطابع المميز لكل من الحريتين.
ولدى تحليل هذا المفهوم، مفهوم: الحرية الاجتماعية.. نجد للحرية
الاجتماعية محتوى حقيقي، وشكلاً ظاهرياً. فهي ذات جانبين: أحدهما:
المحتوى الحقيقي للحرية أو_ كما سنعبر عنه فيما بعد_: الحرية الجوهرية.
والآخر: الشكل الظاهري للحرية، ولنطلق عليه اسم: الحرية الشكلية.
فهناك إذن الحرية الاجتماعية الجوهرية، والحرية الاجتماعية الشكلية.
أما الحرية الاجتماعية الجوهرية: فهي القدرة التي يكسبها الإنسان
من المجتمع على القيام بفعل شيء معين، وتعني هذه القدرة: أن المجتمع
يوفر للفرد كل الوسائل والشروط التي يتطلبها القيام بذلك الفعل. فإذا كفل
لك المجتمع أن تملك ثمن سلعة معينة، ووفر هذه السلعة في السوق، ولم
يسمح لأي شخص آخر بالحصول على حق احتكاري في شراء السلعة...
فأنت عندئذ حر في شراء السلعة، لأنك تتمتع اجتماعياً بكل الشروط التي
يتوقف عليها شراء تلك السلعة. وأما إذا كان المجتمع لا يوفر لك ملكية
الثمن، أو عرض السلعة في السوق، أو يمنح لغيرك وحده الحق في شرائها..
فليس لديك في الواقع حرية جوهرية، أو قدرة حقيقية عل الشراء.
وأما الحرية الشكلية: فهي لا تتطلب كل ذلك، بل قد يكون الفعل
مستحيلاً بالنسبة إلى الفرد، كشراء السلعة بالنسبة إلا من لا يملك ثمنها..
ولكنه بالرغم من ذلك يعتبر حراً اجتماعياً من الناحية الشكلية، وإن لم يكن
لهذه الحرية الشكلية أي محتوى حقيقي. لأن الحرية الشكلية في الشراء،
لا تعني القدرة على الشراء فعلاً، وإنما تعني بمدلولها الاجتماعي: سماح
المجتمع للمرء_ ضمن نطاق امكاناته وفرصه، التي يحددها موقفه في حلبة
التنافس مع الآخرين_ باتخاذ أي أسلوب يتيح له شراء تلك السلعة. فالإنسان الاعتيادي حر شكلياً في شراء قلم، كما هو حر في شراء شركة رأسمالية،(1/27)
بقدر رأسمالها بمئات الملايين.. ما دام النظام الاجتماعي يسمح له بالقيام
بأي عمل، واتخاذ أي أسلوب في سبيل شراء تلك الشركة الضخمة. أو
ذلك القلم المتواضع. وأما قلة الفرص أو الشروط التي تتيح له شراء الشركة،
أو انعدام تلك الفرص في حلبة التنافس نهائياً، وعدم توفير المجتمع لها..
فلا يتناقض مع الحرية الشكلية في إطارها الظاهري العام.
غير أن الحرية الشكلية ليست خاوية هكذا تماماً، بل إنها تعني أحياناً
معنى إيجابياً. فرجل الأعمال الذي بدأ وجوده التجاري بشكل ناجح، وإن
لم يكن قادراً بالفعل على شراء شركة ضخمة، ولكنه ما دام يتمتع بالحرية
الشكلية اجتماعياً فهو قادر على القيام بمختلف الأعمال، في سبيل الظفر
بالقدرة على شراء تلك الشركة، في المدى القريب أو البعيد. وعلى هذا
الأساس تكون الحرية الشكلية في شراء الشركة وامتلاكها، ذات معنى
إيجابي، لأنها وإن لم تسلم إليه الشركة فعلاً، ولكنها تسمح له بامتحان
مواهبه، والقيام بمختلف النشاطات في سبيل الظفر بملكية تلك الشركة.
والشيء الذي يفقده في ظل هذه الحرية الشكلية، هو ضمان المجتمع له
الحصول على الشركة، أو الحصول على ثمنها. فإن هذا الضمان الذي هو
معنى الحرية الاجتماعية الجوهرية، لا تكلفه الحرية الشكلية للأفراد.
فالحرية الشكلية اجتماعياً ليست إذن خاوية دائماً، بل هي أداة لاستثارة
القوى والطاقات في الأفراد، وتعبئتها في سبيل الوصول إلى مستويات أعلى،
وإن لم تقدم شيئاً من ضمانات الفوز والنجاح.
وفي هذا الضوء نعرف أن الحرية الشكلية، وإن لم تكن تعني القدرة
فعلاً، ولكنها شرط ضروري لتوفر هذه القدرة. فرجل الأعمال الناجح
الذي تحدثنا عنه لم يكن ليتاح له أن يحلم بامتلاك الشركة الرأسمالية الكبيرة،
وبالتالي لم يكن ليمتلكها بالفعل بعد جهد متواصل.. لو لم يكن يتمتع بالحرية الشكلية، ولو لم يكن يسمح له المجتمع بتجربة حظه وامكاناته في حلبة(1/28)
التنافس، وهكذا تكون الحرية الشكلية بالنسبة إليه أداة فعالة وشرطاً
ضرورياً، لاكتساب الحرية الجوهرية، والقدرة الحقيقية على شراء الشركة
بينما تبقى حرية الأفراد الفاشلين شكلياً في تملك الشركة، حرية اسمية
فحسب، لا تشع بذرة من الحقيقة.
* * *
والمذهب الرأسمالي يتبنى الحرية الاجتماعية الشكلية، مؤمناً بأن
الحرية الشكلية هي التجسيد الكامل لمفهوم الحرية. و(أما الحرية الجوهرية)
_ على حد تعبيرنا فيما سبق_ فهي تعني في رأيه القدرة على الاستفادة من
الحرية، وليست هي الحرية نفسها. ولذلك فهو لا يعنى بتوفير القدرة لدى
المرء ومنحه الحرية الجوهرية، وإنما يترك ذلك إلى ما تسنح له من فرص
ويظفر به من إمكانات، مكتفياً بتوفير الحرية الشكلية، بالسماح له بممارسة
مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعى إلى تحقيقها،
ورفض أي سلطة اجتماعية تمارس الضغط والإكراه، في حقل من حقول
الحياة.
فللرأسمالية موقف سلبي تجاه الحرية الجوهرية، وموقف إيجابي تجاه
الحرية الشكلية، أي أنها لا تعنى بتوفير الحرية الأولى، وإنما تكفل للأفراد
الحرية الشكلية فقط.
وتوجد في رأي الرأسمالية مبررات لذلك الموقف السلبي تجاه الحرية
الجوهرية تتلخص في أمرين:
احدهما: أن طاقة المذهب الاجتماعي_ أي مذهب كان_ قاصرة
عن توفير الحرية الجوهرية لكل شخص، وضمان القدرة على تحقيق كل
مايسعى نحوه ويهدف إليه. لأن كثيراً من الأفراد يفقدون المواهب والكفاءات
الخاصة، التي تعتبر ضرورية لتحقيق أهدافهم، وليس في إمكان المذهب
أن يجعل من المغمور نابغاً، أو من البليد عبقرياً، كما أن كثيراً من الأهداف
لا يمكن أن يضمن لكل الأفراد الفوز بها، فليس من المعقول_ مثلاً_
أن يصبح كل فرد رئيساً للدولة، وأن يضمن للأفراد جميعاً القدرة على
استلام منصب الرئاسة فعلاً، وإنما الشيء المعقول: أن يفسح المجال أمام
كل فرد ليخوض المعترك السياسي أو الاقتصادي، ويجرب مواهبه. فإما(1/29)
أن ينجح ويصل إلى الذروة وإما أن يقف في منتصف الطريق، وإما أن
يعود من المعركة خاسراً، وعلى أي يحال فهو المسؤول الأخير عن مصيره
في المعترك، ومدى نجاحه أو فشله.
والأمر الآخر: الذي تبرر به الرأسمالية تخليها عن الحرية الجوهرية:
هو أن منح الفرد هذه الحرية، بتقديم الضمانات الكافية لنجاحه في أي
سبيل يسلكه، يضعف إلى مدى بعيد شعور الفرد بالمسؤولية، ويخمد الجذوة
الحرارية فيه، التي تدفعه إلى النشاط، وتفرض عليه مزيداً من اليقظة
والانتباه. لأنه ما دام قد ضمن المذهب له نجاحه، فلا حاجة به إلى الإعتماد
على شخصه، واستثمار قدرته ومواهبه، كما كان حرياً به أن يفعل لو لم
يوفر المذهب له الحرية الجوهرية، والضمانات اللازمة.
وكلا هذين المبررين صحيح إلى حد ما، ولكن لا بالشكل الذي تقرره
الرأسمالية، وترفض على أساسه فكرة الحرية الجوهرية والضمان رفضاً تاماً.
فإن ضمان الحصول على أي شيء، يسعى إليه الفرد في مجال نشاطه الإقتصادي وإن كان حلماً خيالياً غير ممكن التحقيق، ومن الشطط أن يكلف المذهب
الاجتماعي بتحقيقه.. غير أن توفير حد أدنى من الحرية الجوهرية في المجال
الاقتصادي، وإعطاء ضمانات كافية لمستوى معين من المعيشة، مهما كانت
فرص الإنسان وشروطه.. ليس شيئاً مثالياً متعذر التحقيق، ولا سبباً في
تجميد المواهب وطاقات النمو والتكامل في الإنسان، ما دامت المستويات
الأكثر رقياً قيد التنافس الحر، فهي تتطلب من الأفراد جهداً ونشاطاً،
وتنمي فيهم الاعتماد على أنفسهم.
فالرأسمالية إذن لا تستطيع أن تستند في موقفها السلبي من الحرية
الجوهرية والضمان، إلى استحالة اعطاء مثل هذا الضمان، أو القول: بأن
هذا الضمان يشل الطاقة الحرارية في النشاط الإنساني.. مادام يمكن للمذهب
أن يوفر درجة معقولة من الضمان، ويفتح خارج حدود هذه الدرجة مجالات
للتنافس، الذي يذكي القابليات وينميها.
والحقيقة: أن موقف الرأسمالية السلبي من فكرة الضمان والحرية(1/30)
الجوهرية كان نتيجة حتمية لموقفها الايجابي من الحرية الشكلية. لأنها حين
تبنت الحرية الشكلية، وأقامت كيانها المذهبي عليها_ كان من الضروري
لها أن ترفض فكرة الضمان، وتقف موقفها السلبي من الحرية الجوهرية،
لأن الحرية الجوهرية والحرية الشكلية متعارضتان. فلا يمكن توفير الحرية
الجوهرية في مجتمع يؤمن بمبدأ الحرية الشكلية، ويحرص على توفيرها لجميع
الأفراد في مختلف المجالات، فإن حرية رجال الأعمال في استخدام العامل
ورفضه، وحرية أصحاب الثروات في التصرف في أموالهم طبقاً لمصالحهم
الخاصة، كما يقرره مبدأ الحرية الشكلية. يعني عدم إمكان وضع مبدأ
ضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع
مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات، التي يتمتع
بها أصحاب العمل وأرباب الثروة. فإما أن يسمح لأصحاب العمل أو المال
بالتصرف وفقاً لإرادتهم، فتوفر بذلك لهم الحرية الشكلية، ويصبح من
غير الممكن إعطاء ضمانات للعمل أو المعيشة. وإما أن تعطى هذه الضمانات
فلا يسمح لأصحاب العمل والمال أن يتصرفوا كما يحلو لهم، وفي ذلك
خروج على مبدأ الحرية الشكلية، القائل: بضرورة السماح لكل أحد
بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا
المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان، فكرة الحرية
الجوهرية، حفاظاً على توفير الحرية الشكلية لجميع الأفراد على السواء.
وبينما أخذ المجتمع الرأسمالي بالحرية الشكلية، وطرح الحرية الجوهرية
وفكرة الضمان جانباً، وقف المجتمع الاشتراكي موقفاً معاكساً، إذقضت
الاشتراكية الماركسية فيه على الحرية الشكلية، بإقامة جهاز دكتاتوري
يتولى السلطة المطلقة في البلاد. وزعمت أنها عوضت عن تلك الحرية الشكلية
بحرية جوهرية، أي بما تقدمه للمواطنين من ضمانات للعمل والحياة.
وهكذا أخذ كل من المذهبين بجانب من الحرية، وطرح الجانب الآخر(1/31)
ولم يحل هذا التناقض المستقطب بين الحرية الشكلية والحرية الجوهرية، أو
بين الشكل والجوهر.. إلا في الإسلام، الذي آمن بحاجة المجتمع إلى كلا
اللونين من الحرية، فوفر للمجتمع الحرية الجوهرية بوضع درجة معقولة
من الضمان تسمح لجميع أفراد المجتمع الإسلامي بالحياة الكريمة، وممارسة
متطلباتها الضرورية، ولم يعترف في حدود هذا الضمان بالحرية. وفي نفس
الوقت لم يجعل من هذا الضمان مبرراً للقضاء على الحرية الشكلية، وهدر
قيمتها الذاتية والموضوعية، بل فتح السبيل أمام كل فرد خارج حدود
الضمان، ومنحه من الحريات ما ينسجم مع مفاهيمه عن الكون والحياة
فالمرء مضمون بدرجة وفي حدود خاصة، وحر خارج هذه الحدود.
وهكذا امتزجت الحرية الجوهرية والحرية الشكلية معاً، في التصميم الإسلامي،
هذا الامتزاج الرائع الذي لم تنتجه الإنسانية_ في غير ظل الإسلام_ إلى
التفكير فيه وتحقيقه، إلا في غضون هذا القرن الأخير، إذ بدأت المحاولات
إلى إقرار مبدأ الضمان، والتوفيق بينه وبين الحرية، بعد أن فشلت تجربة
الحرية الرأسمالية فشلاً مريراً.
* * *
وعلى أي حال فقد ضحت الرأسمالية بفكرة الضمان والحرية الجوهرية
في سبيل الحرية الشكلية.
وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في دراستنا، لنتساءل: ما هي تلك القيم
التي ترتكز عليها الحرية الشكلية في المذهب الرأسمالي، والتي سمحت
للرأسمالية أن تهدر جوهر الحرية وضماناتها في سبيلها؟؟!
ويجب أن نستبعد هنا كل المحاولات الرامية، إلى تبرير الحرية الشكلية
بمبررات موضوعية اجتماعية، كوصفها بأنها أداة لتوفير الإنتاج العام،
أو لتحقيق الرفاه الاجتماعي. فقد مرت بنا هذه المبررات ودرسناها،
ولم تصمد للدرس والامتحان، وإنما نعنى الآن بمحاولة الرأسمالية، لتفسير
قيمة الحرية تفسيراً ذاتياً.
فقد يقال بهذا الصدد: إن الحرية جزء من كيان الإنسان، وإذا سلب
الإنسان حريته فقد بذلك كرامته، ومعناه الإنساني يتميز به عن سائر(1/32)
الكائنات. وهذا التعبير المهلهل لا ينطوي على تحليل علمي للقيمة الذاتية
للحرية، ولا يمكن أن يجذب سوى من يستهويه التلاعب بالألفاظ، لأن
الإنسان إنما يتميز كيانه الإنساني الخاص عن سائر الكائنات، بالحرية
الطبيعية، بوصفه كائناً طبيعياً، لا بالحرية الاجتماعية باعتباره كائناً
اجتماعياً فالحرية التي تعتبر شيئاً من كيان الإنسان: هي الحرية الطبيعية،
لا الاجتماعية التي تمنح وتسلب تبعاً للمذهب الاجتماعي السائد.
وقد يقال: أن الحرية بمدلولها الاجتماعي تعبر عن نزعة أصيلة في
نفس الإنسان، وحاجة من حاجاته الجوهرية. فالإنسان بوصفه يتمتع
بالحرية الطبيعية. يميل ذاتياً إلى أن يكون حراً، من ناحية المجتمع الذي
يعيش ضمنه في سلوكه وعلاقاته مع الآخرين، كما كان حراً من الناحية
الطبيعية. ومن وظيفة المذهب الاجتماعي أن يعترف بالنزعات والميول
الأصيلة في الإنسان، ويضمن إشباعها، لكي يصبح مذهباً واقعياً ينسجم
مع الطبيعة الإنسانية التي يعالجها ويشرّع لها فلا يمكن لمذهب إذن أن يكبت
في الإنسان نزعته الأصلية إلى الحرية.
وهذا صحيح إلى حد ما. ولكننا نقول من الناحية الأخرى: أن من
وظيفة المذهب الاجتماعي الذي يريد أن يرسي بنيانه على قواعد مكينة
من النفس البشرية: أن يعترف بمختلف النزعات الأصلية في الإنسان،
وبحاجاته الجوهرية المتنوعة. ويسعى إلى التوفيق والملائمة بينها. وليس من
المستساغ لكي يكون المذهب واقعياً وإنسانياً. أن يعترف بإحدى تلك
النزعات الأصيلة، ويضمن إشباعها إلى أقصى حد، على حساب النزعات
الأخرى. فالحرية مثلاً وإن كانت نزعة أصيلة في الإنسان، لأنه يرفض
بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لهذا الإنسان حاجات جوهرية،
وميولاً أصيلة أخرى. فهو بحاجة ماسة_ مثلاً_ إلى شيء من السكينة
والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه كما ينغصه الضغط والإكراه. فإذا
فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته،(1/33)
خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى
الاستقرار والثقة، كما أنه إذا خسر حريته تماماً، وقام جهاز اجتماعي يملي
عليه ارادته بالضغط والإكراه. كان قد فقد حاجة جوهرية أخرى، وهي
حاجته إلى الحرية التي تعبر نزعة أصيلة في نفسه، فالتوفيق الدقيق الحكيم
بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته الأصيلة إلى شيء من
الإستقرار والثقة، وسائر حاجاته الأصيلة الأخرى. هو العملية التي يجب
أن يؤديها المذهب للإنسانية، إذا حاول أن يكون واقعياً، قائماً على أسس
راسخة من الواقع الإنساني. وإما أن تطرح الميول والحاجات الأخرى
جانباً، ويضحي بها لحساب حاجة أصيلة واحدة، كي يتوفر إشباعها إلى
ابعد الحدود كما فعل المذهب الرأسمالي. فهذا يتعرض مع أبسط
الواجبات المذهبية.
* * *
وأخيراً: فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان، لئن كان خطأ
فهو مع هذا ينسجم مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي كل الانسجام. لأن
الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا
تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً، على أساس مفاهيمها
العامة عن الكون والإنسان.
وذلك أن الضغط والتحديد، قد يستمد مبرره من الضرورة التاريخية،
كما تعتقد الماركسية في ضوء المادية التاريخية، إذ ترى أن دكتاتورية
البروليتاريا، التي تمارس سياسة الضغط والتحديد من الحريات في المجتمع
الاشتراكي.. تنبع من الضرورة الحتمية لقوانين التاريخ.
ولكن الرأسمالية لا تؤمن بالمادية التاريخية، بتسلسلها الماركسي الخاص.
وقد يستمد الضغط والتحديد مبررة من الإيمان بسلطة عليا، تمتلك حق
تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات
الأفراد، كما يعتقد الدين، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن
يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة.
وهذا ما لا يمكن للرأسمالية أن تقره، في ضوء مفهومها الأساسي(1/34)
القائل: بفصل الدين عن واقع الحياة، وسحبه من كل الحقول الاجتماعية
العامة.
وقد يبرر الضغط والتحديد، بوصفه قوة نابعة من داخل الإنسان،
ومفروضة عليه من ضميره الذي يفرض عليه قيماً خلقية، وحدوداً معينة
لسلوكه مع الآخرين وموقفه من المجتمع.. ولكن الضمير ليس بمفهومه
في فلسفة الأخلاق عند الرأسمالية، إلا انعكاساً داخلياً للعرف أو العادات،
أو أي تحديد آخر يفرض على الفرد من الخارج. فالضمير في نهاية التحليل
ضغط خارجي، وليس نابعاً من الأعماق الداخلية.
وهكذا تنتهي الرأسمالية إلى العجز عن تفسير الضغط على الحرية،
عن طريق الضرورة التاريخية، أو الدين، أو الضمير.
وهكذا يرتبط موقفها من الحرية بجذورها الفكرية، ومفاهيمها الرئيسية
عن الكون والإنسان، عن التاريخ والدين والأخلاق.
وعلى هذا الأساس وضعت الرأسمالية مفهومها السياسي عن الحكومة،
ومختلف السلطات الاجتماعية. فهي لا ترى مبرراً لتدخل هذا السلطات
في حريات الأفراد، إلا بالقدر الذي يتطلبه الحفاظ عليها، وصيانتها عن
الفوضى والاصطدام، لأن هذا هو القدر الذي يسمح به الأفراد أنفسهم.
وأما التدخل خارج هذه الحدود، فلا مسوغ له من حتمية تاريخية، أو دين،
أو قيم وأخلاق. ومن الطبيعي عندئذ أن تنتهي الرأسمالية من تسلسلها
الفكري إلى: التأكيد على الحرية في المجال الاقتصادي، ورفض فكرة
قيام السلطة بوضع أي ضمانات أو تحديدات.
هذه هي مفاهيم الرأسمالية في ترابطها العام، الذي ينتهي إلى الأسس
الفكرية العامة.
وهذه هي وجهة النظر التي يجب تمحيص تلك المفاهيم، وبالتالي تفنيدها
على أساس تلك النظرة.(1/35)
إقتصادنا في معالمه الرئيسية
1_ الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
2_ الاقتصاد الإسلامي جزء من كل
3_ الإطار العام للاقتصاد الإسلامي
4_ الاقتصاد الإسلامي ليس علماً
5_ علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج
6_ المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، وحلولها
الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد
وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية
الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:
1_ مبدأ الملكية المزدوجة.
2_ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3_ مبدأ العدالة الاجتماعية.
وسوف نتناول هذه الأركان الرئيسية بالشرح والتفسير، فنكوّن
فكرة عامة عن الاقتصاد الإسلامي، كي يتاح لنا مجال البحث بصورة
أوسع، في تفاصيله وخصائصه المذهبية.
1_ مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.
فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية
الخاصة، كقاعدة عامة. فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع
الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم. ولا يعترف بالملكية العامة إلا
حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم
هذا المرفق أو ذاك. فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع
الرأسمالي_ على أساسها_ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء
مرفق أو ثروة معينة من مجالها.
والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك. فإن الملكية الاشتراكية
فيه هي المبدأ العام، الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد. وليست
الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءاً، قد يعترف
به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة.
وعلى أساس هاتين النظرتين المتعاكستين، للرأسمالية والاشتراكية،(1/1)
يطلق اسم:(المجتمع الرأسمالي)، على كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة
بوصفها المبدأ الوحيد، وبالتأميم باعتباره استثناءاً ومعالجة لضرورة اجتماعية،
كما يطلق اسم:(المجتمع الاشتراكي) على كل مجتمع يرى أن الملكية
الاشتراكية هي المبدأ، ولا يعترف بالملكية الخاصة إلا في حالات استثنائية.
وأما المجتمع الإسلامي فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل من
المجتمعين. لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن
الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية
مبدأ عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع
بذلك مبدأ الملكية المزدوجة(الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً عن
مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية.
فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص
لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا
يعبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً موقتاً اقتضته الظروف.
ولهذا كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي: مجتمعاً رأسمالياً
وإن سمح بالملكية الخاصة، لعدة من رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج،
لأن الملكية الخاصة عنده ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن
نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ
الملكية العامة، وملكية الدولة في بعض الثروات ورؤوس الأموال، لأن
الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه. وكذلك من
الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال
الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين
المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانباً.. وإنما
يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن: تصميم مذهبي أصيل، قائم على
أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم،(1/2)
تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة،
والاشتراكية الماركسية.
وليس هناك أدل على صحة الموقف الإسلامي من الملكية، القائم على
أساس مبدأ الملكية المزدوجة. من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية.
فإن كلتا التجربتين اضطرتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكية، الذي
يتعارض مع القاعدة العامة فيهما، لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة
بالشكل الواحد للملكية. فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ
بفكرة التأميم، وينزع عن بعض المرافق إطار الملكية الخاصة. وليست
حركة التأميم هذه إلا اعترافاً ضمنياً من المجتمعات الرأسمالية: بعدم
جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكية، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ
من مضاعفات وتناقضات.
كما أن المجتمع الاشتراكي من الناحية الأخرى، وجد نفسه_ بالرغم
من حداثته_ مضطراً أيضاً إلى الاعتراف بالملكية الخاصة، قانونياً حيناً
وبشكل غير قانوني أحياناً أخرى. فمن اعترافه القانوني بذلك، ماتضمنته
المادة السابعة في الدستور السوفياتي، من النص على أن لكل عائلة من عوائل
المزرعة التعاونية، بالإضافة إلى دخلها الأساسي الذي يأتيها من اقتصاد
المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن،
ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات
زراعية بسيطة.. كملكية خاصة. وكذلك سمحت المادة التاسعة بتملك
الفلاحين الفرديين والحرفيين، لمشاريع اقتصادية صغيرة، وقيام هذه
الملكيات الصغيرة إلى جانب النظام الاشتراكي السائد.
2_ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
والثاني من أركان الاقتصاد الإسلامي، السماح للأفراد على الصعيد
الاقتصادي بحرية محدودة، بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن
بها الإسلام.
وفي هذا الركن نجد أيضاً الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي،(1/3)
والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير
محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي
حريات الجميع.. يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة، فيسمح
للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب الحرية
وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.
والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته
ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والآخر: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحدد
السلوك الاجتماعي وتضبطه.
أما التحديد الذاتي: فهو يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة، التي
ينشيء الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق
حياته(المجتمع الإسلامي).فإن للإطارات الفكرية والروحية التي يصوغ
الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة
وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة،
وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتياً وطبيعياً من الحرية، الممنوحة الأفراد
المجتمع الإسلامي، وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر لأفراد
بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري،
فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم. ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً للحرية
في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءاً
معنوياً صالحاً، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة، وآثاره الكبيرة في تكوين
طبيعة المجتمع الإسلامي ومزاجه العام، وبالرغم من أن التجربة الإسلامية
الكاملة كانت قصيرة الأمد، فقد آتت ثمارها، وفجّرت في النفس البشرية
امكاناتها المثالية العالية، ومنحتها رصيداً روحياً زاخراً بمشاعر العدل(1/4)
والخير والإحسان ولو قدر لتلك التجربة أن تستمر وتمتد في عمر الإنسانية،
أكثر مما امتدت في شوطها التاريخي القصير، لاستطاعت أن تبرهن على
كفاءة الإنسانية لخلافة الأرض، ولصنعت عالماً جديداً زاخراً بمشاعر
العدل والرحمة، واجتثت من النفس البشرية أكثر ما يمكن استئصاله من
عناصر الشر، ودوافع الظلم والفساد.
وناهيك من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن الأساسي
لأعمال البر والخير في مجتمع المسلمين، منذ خسر الإسلام تجربته للحياة.
وفقد قيادته السياسية وإمامته الاجتماعية، وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن
روح تلك التجربة والقيادة، بعداً زمنياً امتد قروناً عديدة، وبعداً روحياً
يقدر بانخفاض مستوياتهم الفكرية والنفسية، واعتيادهم على ألوان أخرى
للحياة الاجتماعية والسياسية.. بالرغم من ذلك كله فقد كان للتحديد
الذاتي، الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة، دوره الإيجابي
الفعال، في ضمان أعمال البر والخير، التي تتمثل في إقدام الملايين من
المسلمين بملء حريتهم، المتبلورة في إطار ذلك التحديد، على دفع الزكاة
وغيرها من حقوق الله، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل
الاجتماعي، فماذا تقدر من نتائج في ضوء هذا الواقع، لو كان هؤلاء
المسلمون يعيشون التجربة الإسلامية الكاملة، وكان مجتمعهم تجسيداً كاملاً
للإسلام، في أفكاره وقيمه وسياسته، وتعبيراً عملياً عن مفاهيمه ومثله.
* * *
وأما التحديد الموضوعي للحرية، فنعني به: التحديد الذي يفرض على الفرد
في المجتمع الإسلامي من خارج، بقوة الشرع. ويقوم هذا التحديد
الموضوعي للحرية في الإسلام، على المبدأ القائل: إنه لا حرية للشخص
فيما نصت عليه الشريعة المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل
والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.
وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية:
أولاً: كفلت الشريعة في مصادرها العامة، النص على المنع عن(1/5)
مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة_ في نظر الإسلام_
عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك.
وثانياً: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام،
وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات
الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً
لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن.
فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف
الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه فقد يكون
القيام بعمل مضراً بالمجتمع وكيانه الضروري، في زمان دون زمان، فلا
يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح
المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة، ومحددة
لحريات الإفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع،
وفقاً للمثل الإسلامي في المجتمع.
والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في
قوله تعالى:( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). فإن
هذا النص دل بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر. ولا خلاف بين
المسلمين، في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع
الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم، فللسلطة
الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن
الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشرعية المقدسة.
فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطل
قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي.. وإنما
يسمح لولي الأمر في الإسلام، بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في
الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامي
للمجتمع. فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشق الأنهار، وغير(1/6)
ذلك من ألوان النشاط والاتجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً
عاماً ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى
ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في
حدود صلاحياته.. كان له ذلك، وفقا ًللمبدأ الآنف الذكر.
وقد كان رسول الله_ صلى الله عليه وآله_ يطبق مبدأ التدخل هذا،
حين تقضي الحاجة ويتطلب الموقف شيئاً من التدخل والتوجيه. ومن أمثلة
ذلك ما جاء في الحديث الصحيح_ عنه صلى الله عليه وآله_ من أنه قضى
بين أهل المدينة في مشارب النخل: إنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين
أهل البادية: إنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا
ضرار(1). فإن من الواضح لدى الفقهاء: أن منع نفع الشيء أو فضل
الماء، ليس محرماً بصورة عامة في الشريعة المقدسة. وفي هذا الضوء نعرف:
أن النبي لم يحرم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته
رسولاً مبلغاً للأحكام الشرعية العامة وإنما حرم ذلك بوصفه ولي الأمر،
المسؤول عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيهاً لا يتعارض
مع المصلحة العامة التي يقدرها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل
الرواية تعبر عن تحريم النبي(ص): بالقضاء لا بالنهي، نظراً إلى أن
__________
(1) الوسائل 3 كتاب إحياء الموات.(1/7)
القضاء لون من الحكم(1).
وسوف نتناول هذا المبدأ( مبدأ الأشراف والتدخل)، بشكل أوسع
وبصورة أكثر وضوحاً وتحديداً في بحث مقبل.
3_ مبدأ العدالة الاجتماعية
والركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي. هو مبدأ العدالة الاجتماعية التي
جسدها الإسلام، فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من
عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية،
وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. فإن الإسلام حين أدرج العدالة
الاجتماعية ضمن المباديء الأساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي
لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح
لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها
للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة..
وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين،
__________
(1) وقد اعتقد بعض الفقهاء، في قضاء النبي بأن لا يمنع فضل الماء أو نفع الشيء: أنه نهي كراهة لا هي تحريم. وإنما اضطروا إلى هذا اللون من التأويل وانتزاع طابع الحتم والوجوب عن قضاء النبي، اعتقاداً منهم بأن الحديث لا يتحمل إلا أحد معنيين: فإما أن يكون نهي النبي تحريماً، فيصبح منع فضل الماء والكلاء محرماً في الشريعة، كتحريم الخمر وغيره من المحرمات العامة. وإما أن يكون النهي ترجيحاً واستحساناً، لسخاء المالك بفضل ماله. ولما كان المعنى الأول غريباً عن الذهنية الفقهية، فيجب الأخذ بالتفسير الثاني. ولكن هذا في الواقع لا يبرر تأويل قضاء النبي وتفسيره بالترجيح والاستحسان، مادام من الممكن أن نحتفظ لقضاء النبي بطابع الحتم والوجوب، كما يشع به اللفظ، ونفهمه بوصفه حكماً صدر من النبي بما هو ولي الأمر، نظراً إلى الظروف الخاصة التي كان المسلمون يعيشونها وليس حكماً شرعياً عاماً كتحريم الخمر أو المسير.(1/8)
واستطاع_ بعد ذلك_ أن يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي،
تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، وإنما يجب أن نعرف أيضاً تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الإسلامي الخاص.
والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عامين،
لكل منهما خطوطه وتفصيلاته: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر:
مبدأ التوازن الاجتماعي. وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي،
تحقق القيم الاجتماعية العادلة، ويوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية،
كما سنرى في فصل قادم.
وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الأفضل،
عبر تجربته التاريخية المشعة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن
الرئيسي من اقتصاده.
وقد انعكس هذا الاهتمام_ بوضوح_ في الخطاب الأول الذي
ألقاه النبي (ص)، وفي أول عمل سياسي باشره في دولته الجديدة.
فإن الرسول الأعظم دشن بياناته التوجيهية_ كما في الرواية_ بخطابه
هذا:
((أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله
ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم
ليقولن له ربه ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً
وأفضلت عليك؟! فما قدمت لنفسك؟! فلينظرن يميناً
وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير
جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار_ ولو بشق
تمرة_ فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزي
الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته)).
وبدأ عمله السياسي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتطبيق مبدأ
التكافل بينهم، بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الإسلام.
فهذه هي الأركان الأساسية في الاقتصاد الإسلامي:
أولاً: ملكية ذات أشكال متنوعة، يتحدد التوزيع في ضوئها.
ثانياً: حرية محدودة بالقيم الإسلامية، في مجالات: الإنتاج، والتبادل،
والاستهلاك.(1/9)
ثالثاً: عدالة اجتماعية تكفل للمجتمع سعادته، قوامها التكافل والتوازن.
* * *
وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان، تشعان في مختلف
خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية، والأخلاقية. فالاقتصاد الإسلامي
اقتصاد واقعي وأخلاقي معاً، في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وفي الطريقة
التي يتخذها لذلك.
فهو اقتصاد واقعي في غايته، لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات
التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة،
ويحاول دائماً أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلق بها في
أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكاناتها.. وإنما يقيم مخططه الاقتصادي
دائماً على أساس النظرة الواقعية للإنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي
تتفق مع تلك النظرة. فقد يلذ لاقتصاد خيالي كالشيوعية مثلاً، أن يتبنى
غاية غير واقعية، ويرمي إلى تحقيق إنسانية جديدة طاهرة من كل نوازع
الأنانية، قادرة على توزيع الأعمال والأموال بينها، دون حاجة إلى أداة
حكومية تباشر التوزيع، سليمة من كل ألوان الاختلاف أو الصراع...
غير أن هذا لا يتفق مع طبيعة التشريع الإسلامي، وما اتصف به من واقعية
في غاياته وأهدافه.
وهو_ إلى هذا_ واقعي في طريقته أيضاً. فكما يستهدف غايات
واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً
مادياً، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ
والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف إلى حيز التنفيذ، فلا يقنع
بإيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلاً إيجاد التكافل
العام في المجتمع، لا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف فحسب،
وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال.
والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي، وهي الصفة الأخلاقية، تعني
_ من ناحية الغاية_: أن الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها(1/10)
في حياة المجتمع الاقتصادية، من ظروف مادية وشروط طبيعة مستقلة عن
الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة
وظروفها.. وإنما ينظر إلى تلك الغايات، بوصفها معبرة عن قيم عملية
ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً،
لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف
المادية للإنتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها، كما
سندرس ذلك بصورة مفصلة خلال بحوث هذا الفصل.
وتعني الصفة الخلقية_ من ناحية الطريقة_: أن الإسلام يهتم بالعامل
النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي
يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب_ وهو أن تحقق تلك
الغايات_ وإنما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بطريقة
التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلاً،
ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي
يتوخاها الاقتصاد الإسلامي، من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس
هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق
التكافل العام. لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع
ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في تحقيق الجانب
الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير... ولكن الإسلام لا يقر ذلك،
ما دامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، والعامل الخير
في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخل الإسلام، وجعل من الفرائض المالية
_التي استهدف منها إيجاد التكافل_ عبادات شرعية، يجب أن تنبع عن
دافع نفسي نيّر، يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد
الإسلامي، بشكل واع مقصود، طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه.
ولا غرو أن يكون للإسلام هذا الاهتمام بالعامل النفسي، وهذا
الحرص على تكوينه روحياً وفكرياً، طبقاً لغاياته ومفاهيمه، فإن لطبيعة(1/11)
العوامل الذاتية التي تعتلج في نفس الإنسان، أثرها الكبير في تكوين شخصية
الإنسان، وتحديد محتواه الروحي، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على
الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها. وقد بات من الواضح لدى الجميع
اليوم: أن العامل النفسي يلعب دوراً رئيسياً في المجال الاقتصادي، فهو
يؤثر في حدوث الأزمات الدورية، التي يضج من ويلاتها الاقتصاد
الأوروبي. ويؤثر أيضاً على منحنى العرض والطلب، وفي الكفاية الإنتاجية
للعامل إلى غير ذلك من عناصر الاقتصاد.
فالإسلام إذن لا يقتصر_ في مذهبه وتعاليمه_ على تنظيم الوجه
الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين
المحتوى الداخلي، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي. ولا يكتفي
في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته، وإنما يمزج هذا الأسلوب بالعامل
النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها.
الاقتصاد الإسلامي جزء من كل
إننا في وعينا للاقتصاد الإسلامي، لا يجوز أن ندرسه مجزءاً بعضه
عن بعض. نظير أن ندرس حكم الإسلام بحرمة الربا، أو سماحه
بالملكية الخاصة، بصورة منفصلة عن سائر أجزاء المخطط العام.
كما لا يجوز أيضاً أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي، بوصفه شيئاً
منفصلاً وكياناً مذهبياً مستقلاً، عن سائر كيانات المذهب: الاجتماعية
والسياسية، الأخرى، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات...
وإنما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي
تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع. فكما ندرك الشيء المحسوس
ضمن صيغة عامة تتألف من مجموعة أشياء، وتختلف النظرة إلى الشيء
ضمن الصيغة العامة عن النظرة إليه خارج تلك الصيغة، أو ضمن صيغة
أخرى، حتى لقد يبدو الخط قصيراً ضمن تركيب معين من الخطوط،
ويبدو أطول من ذلك إذا تغير تركيب الخطوط.. كذلك أيضاً تلعب(1/12)
الصيغ العامة للمذاهب الاجتماعية، دوراً مهماً في تقدير مخططاتها الإقتصادية.
فمن الخطأ أن لا نعير الصيغة الإسلامية العامة أهميتها، وأن ندخل في
الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر أجزاء المذهب، والتأثير المتبادل
بينها في كيانه العضوي العام.
كما يجب أيضاً أن لا نفصل بين المذهب الإسلامي بصيغته العامة، وبين
أرضيته الخاصة التي أعدت له، وهيأ فيها كل عناصر البقاء والقوة للمذهب.
فكما ندرك الصيغ المحسوسة على أرضيات مختلفة، وينسجم كل شكل مع
أرضية معينة، فقد لا تصلح أرضية لشكل آخر، ولا يصلح ذلك الشكل
لأرضية أخرى. كذلك الصيغة العامة للمذهب_ أي مذهب كان_ تحتاج
إلى أرضية وتربة، تتفق مع طبيعتها، وتمدها بالعقيدة والمفاهيم والعواطف
التي تلائمها فلا بد لدى تقدير الصيغة العامة للمذهب أن ندرسها على أساس
التربة والأرضية المعدة لها، أي ضمن إطارها العام.
وهكذا يتضح أن الاقتصاد الإسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله،
وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة، وهذه الصيغة لها أرضية خاصة
بها، ويوجد المجتمع الإسلامي الكامل حين يكتسب الصيغة والأرضية
معاً، حين يحصل على النبتة والتربة كليهما. ويستقيم منهج البحث في
الاقتصاد الإسلامي، حين يدرس الاقتصاد الإسلامي بما هو مخطط مترابط،
وبوصفه جزءاً من الصيغة الإسلامية العامة للحياة، التي ترتكز بدورها على
التربة والأرضية التي أعدها الإسلام للمجتمع الإسلامي الصحيح.
* * *
وتتكون التربة أو الأرضية للمجتمع الإسلامي، ومذهبه الاجتماعي،
من العناصر التالية:
أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي
تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.
وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء،
على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.
وثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى(1/13)
صف تلك المفاهيم، لأن المفهوم_ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين_
يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي
نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية
بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية. ولنأخذ لذلك مثلاً
من التقوى. ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى
القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان،
وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إلى التقوى والمتقين، وهي
عاطفة الإجلال والاحترام.
فهذه هي العناصر الثلاثة: العقيدة، والمفاهيم، والعواطف، التي
تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع.
ثم يأتي_ بعد التربة_ دور الصيغة الإسلامية العامة للحياة، كلاً
لا يتجزأ، يمتد إلى مختلف شعب الحياة. وعندما يستكمل المجتمع الإسلامي
تربته وصيغته العامة، عندئذ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي،
أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب
السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار. وأما أن ننتظر من الرسالة
الإسلامية الكبرى، أن تحقق كل أهدافها من جانب معين من جوانب
الحياة، إذا طبقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة
الأخرى.. فهذا خطأ. لأن الارتباط القائم في التصميم الإسلامي الجبار
للمجتمع، بين كل جانب منه وجوانبه الأخرى، يجعل شأنه شأن خريطة
يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة، فليس في إمكان هذه الخريطة
أن تعكس الجمال والروعة_ كما أراد المهندس_ إلا إذا طبقت بكاملها،
وأما إذا أخذنا بها في بناء جزء من العمارة فقط، فليس من حقنا أن نترقب
ومن هذا الجزء أن يكون كما أراد المهندس، في تصميمه للخريطة كلها.
وكذلك للتصميم الإسلامي، فإن الإسلام اشترع نهجه الخاص به، وجعل
منه الأداة الكاملة لاسعاد البشرية، على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم(1/14)
في بيئة إسلامية، قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها
وكيانها كله وإن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضاً، فعزل كل
جزء من النهج الإسلامي عن بيئته_ وعن سائر الأجزاء_ معناه عزله عن
شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الاسمى، ولا يعتبر هذا طعناً
في التوجيهات الإسلامية، أو تقليلاً من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع
فإنها في هذا بمثابة القوانين العلمية، التي تؤتى ثمارها متى توافرت
الشروط التي تقضيها هذه القوانين.
* * *
ونحن لا نستطيع في عرضنا هذا، أن نبرز جميع أوجه الارتباط في
الاقتصاد الإسلامي، وأوجه الارتباط والتفاعل بينه وبين سائر ما يتصل
به من خصائص وعناصر إسلامية أخرى، وإنما نقتصر على نماذج من ذلك
كما يلي.
1_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعقيدة، التي هي مصدر التموين
الروحي للمذهب. فإن العقيدة تدفع المسلم إلى التكيف وفقاً للمذهب،
بوصفه نابعاً من تلك العقيدة، وتضفي على المذهب طابعاً إيمانياً وقيمة ذاتية،
بقطع النظر عن نوعية النتائج الموضوعية التي يسجلها في مجال المذهب، باعتباره
منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها. فقوة ضمان التنفيذ، والطابع الإيماني
والروحي، والاطمئنان النفسي.. كل تلك الخصائص يتميز بها الاقتصاد
الإسلامي، عن طريق العقيدة الأساسية التي يرتكز عليها، ويتكون ضمن
إطارها العام. وهي لذلك لا تظهر لدى البحث، إلا إذا درس الاقتصاد
الإسلامي على ضوء العقيدة ومدى تفاعله بها.
2_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة،
وطريقة الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة
وعن الربح. فالإسلام يرى أن الملكية حق رعاية يتضمن المسؤولية، وليس
سلطاناً مطلقاً. كما يعطي للربح مفهوماً أرحب_ بمدلوله الإسلامي_ كثير من
النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي.
ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكية أثره في كيفية(1/15)
الاستفادة من حق الملكية الخاصة وتحديدها، وفقاً لإطارها الإسلامي.
كما أن من الطبيعي أيضاً أن يتأثر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن
الربح أيضاً. بالدرجة التي يحددها مدى عمق المفهوم وتركزه، وبالتالي
يؤثر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه. فلا بد أن يدرس
من خلال ذلك، ولا يجوز أن يعزل عن تأثير المفاهيم الإسلامية المختلفة
خلال التطبيق.
3_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثه الإسلام في البيئة الإسلامية من
عواطف وأحاسيس، قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة
العامة، التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعاً من الحب للآخرين، والمشاركة
لهم في آلامهم وأفراحهم. ويثرى هذا الينبوع ويتدفق، تبعاً لدرجة الشعور
العاطفي بالأخوة، وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلامية،
والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي. وهذه العواطف والمشاعر تلعب
دوراً خطيراً في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما يستهدفه
من غايات.
4_ الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، إلى درجة
تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام.
لأنها وضعت بصورة تلتقي مع السياسة الاقتصادية العامة، وتعمل لتحقيق
أهداف الاقتصاد الإسلامي. فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين
الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي
والتكافل العام. ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسة المالية جزءاً من
السياسة الاقتصادية العامة، وإدراج الأحكام المتعلقة بالتنظيم المالي للدولة
ضمن هيكل التشريع العام للحياة الاقتصادية، كما سنرى في البحوث الآتية.
5_ الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي في الإسلام،
لما تؤدي عملية الفصل بينهما في البحث إلى خطأ في الدراسة. فللسلطة
الحاكمة صلاحيات اقتصادية واسعة، وملكيات كبيرة تتصرف فيها طبقاً(1/16)
لاجتهادها. وهذه الصلاحيات والملكيات يجب أن تقرن في الدرس دائماً،
بواقع السلطة في الإسلام، والضمانات التي وضعها الإسلام لنزاهة ولي
الأمر واستقامته: من العصمة أو الشورى والعدالة، على اختلاف المذاهب
الإسلامية. ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن ندرس مكانة الدولة في
المذهب الاقتصادي، ونؤمن بصحة إعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة
لها في الإسلام.
6_ الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي، وأحكام الإسلام الأخرى
في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي. فإنه إذا درس تحريم الربا
بصورة منفردة، كان مثاراً لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية. وأما إذا
أخذناه بوصفه جزءاً من عملية واحدة مترابطة، فسوف نجد أن الإسلام
وضع لتلك المشاكل حلولها الوضاحة، التي تنسجم مع طبيعة التشريع
الإسلامي وأهدافه وغاياته، وذلك خلال أحكام المضاربة والتوازن والتكافل
والنقد، كما سنرى في موضع قادم.
7_ الارتباط بين بعض أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي،
وأحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب.
فقد سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسرى بوصفهم جزءاً من الغنيمة،
وتوزيعهم على المجاهدين كما توزع سائر عناصر الغنيمة. وقد اعتاد أعداء
الإسلام الصليبيون أن يعرضوا هذا الحكم من الشريعة الإسلامية منفصلاً
عن شروطه وملابساته، ليبرهنوا على أن الإسلام شريعة من شرائع الرق
والاستعباد، التي مني بها الإنسان منذ ظلمات التاريخ، ولم ينقذه منها
سوى الحضارات الأوروبية الحديثة، التي حررت الإنسانية لأول مرة،
ومسحت عنها الوحل والهوان.
ولكننا في دراسة مخلصة للإسلام وحكمه في الغنيمة، يجب أن نعرف
_قبل كل شيء_ متى يعتبر الشيء غنيمة في نظر الإسلام؟. ونعرف
بعد ذلك كيف وفي أي حدود سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسير
بوصفه غنيمة؟ ومن هو هذا الحاكم الذي أبيح له استرقاق الأسير بهذا(1/17)
الوصف؟ فإذا استوعبنا هذه النواحي كلها، استطعنا أن ننظر إلى حكم
الإسلام في الغنيمة نظرة صحيحة.
فالشرط الأساسي لمفهوم الغنيمة في نظر الإسلام، الحصول عليها
في حرب جهادية مشروعة، ومعركة عقائدية. فما لم تكتسب الحرب طابع
الجهاد لا يكون المال غنيمة. وهذا الطابع يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن تكون الحرب بإذن من ولي الأمر في سبيل حمل الدعوة
الإسلامية. فليس من الجهاد بشيء حروب السلب والنهب كالمعارك
الجاهلية، أو القتال في سبيل الظفر بثروات البلاد وأسواقها كالحروب
الرأسمالية.
والأمر الآخر: أن يبدأ الدعاة الإسلاميون قبل كل شيء بالاعلان
عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية معززة بالحجج والبراهين،
حتى إذا تمت للإسلام حجته. ولم يبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم،
وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور.. عند ذاك لا يوجد أمام
الدعوة الإسلامية_ بصفتها دعوة فكرية عالمية تتبنّى المصالح الحقيقة
للإنسانية_ إلا أن تشق طريقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح. وفي هذا
الظرف فقط تعتبر مكاسب الحرب غنيمة في نظر الإسلام.
وأما حكم الأسير في الغنيمة، فهو تطبيق أحد أمور ثلاثة عليه. فإما
أن يعفى عنه، وإما أن يطلق بفدية، وإما أن يسترق. فالاسترقاق هو أحد
الأمور الثلاثة التي يجب على ولي الأمر معاملة الأسير على أساسها.
وإذا عرفنا بهذا الصدد أن ولي الأمر مسؤول عن تطبيق أصلح الحالات
الثلاث على الأسير، وأوفقها بالمصلحة العامة، كما صرح بذلك الفاضل
والشهيد الثاني وغيرهما من فقهاء الإسلام. وأضفنا إلى ذلك حقيقة إسلامية
أخرى، وهي: أن الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح
بها الإسلام سماحاً عاماً، وإنما سمح بها في ظرف وجود قائد معصوم،
يتولى قيادة الغزو وتوجيه الزحف الإسلامي في معاركه الجهادية، إذا
جمعنا بين هاتين الحقيقتين، نتج عنها أن الإسلام لم يأذن باسترقاق الأسير(1/18)
إلا حين يكون أصلح من العفو والفداء معاً، ولم يسمح بذلك إلا لولي الأمر
المعصوم الذي لا يخطيء في معرفة الأصلح وتمييزه عن غيره.
وليس في هذا الحكم شيء يؤاخذ الإسلام عليه، بل هو حكم
لا تختلف فيه المذاهب الاجتماعية مهما كانت مفاهيمها فإن الاسترقاق
قد يكون أحياناً أصلح من العفو والفداء معاً، وذلك فيما إذا كان العدو
يتبع مع أسراه طريقة الاسترقاق، ففي مثل هذه الحالة يصبح من الضروري
أن يعامل العدو بالمثل، وتتبع معه نفس الطريقة. فإذا كانت توجد حالات
يصبح فيها الاسترقاق أصلح من العفو والفداء، فلماذا لا يسمح به الإسلام
حين يكون أصلح الحالات الثلاث؟ صحيح أن الإسلام لم يبين تلك الحالات
التي يكون الاسترقاق فيها أصلح من غيره، ولكنه استغنى عن ذلك بإيكال
الأمر إلى الحاكم المعصوم من الخطأ والهوى، الذي يقود معركة الجهاد
سياسياً، فهو المسؤول عن تمييز تلك الحالات والعمل وفقاً لرأيه.
ونحن إذا لاحظنا حكم الإسلام بشأن الأسير، خلال التطبيق في الحياة
السياسية للدولة الإسلامية، وجدنا أن الاسترقاق لم يحدث إلا في
تلك الحالات، التي كان الاسترقاق فيها أصلح الحالات الثلاث، لأن
العدو الذي اشتبكت معه الدولة الإسلامية في معاركها كان يتبع نفس
الطريقة مع أسراه.
فلا موضع لنقد أو اعتراض. لا موضع للنقد أو الاعتراض على الحكم
العام بجواز الاسترقاق، لأن الإسلام سمح باسترقاق الأسير حين يكون
ذلك أوفق بالمصلحة العامة في رأي الحاكم المعصوم. ولا موضع للنقد أو
الاعتراض على تطبيقه، لأن تطبيقه كان دائماً في تلك الحدود التي يكون
الاسترقاق فيها أصلح الاجراءات الثلاثة.
8_ الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الإسلام. فالتكافل
العام والضمان الاجتماعي في الإقتصاد الإسلامي، يلقيان ضوءاً على طبيعة
العقوبة التي فرضت في بعض الجنايات. فقد تكون عقوبة السارق بقطع(1/19)
يده قاسية إلى حد ما في بيئة رأسمالية، تركت فيها الكثرة الهائلة من أفراد
المجتمع لرحمة القدر وزحمة الصراع، وأما حيث تكون البيئة إسلامية،
وتوجد التربة الصالحة للاقتصاد الإسلامي، ويعيش المجتمع في كنف
الإسلام، فليس من القسوة في شيء أن يعامل السارق بصرامة، بعد أن
وفر له الاقتصاد الإسلامي أسباب الحياة الحرة الكريمة، ومحا من حياته
كل الدوافع التي تضطره إلى السرقة.
الإطار العام للاقتصاد الإسلامي
يمتاز المذهب الاقتصادي في الإسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية التي
درسناها، بإطاره الدين العام. فإن الدين هو الإطار الشامل لكل أنظمة
الحياة في الإسلام. فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج
بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته.
وهذا الإطار هو الذي يجعل النظام الإسلامي قادراً على النجاح،
وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان، لأن هذه المصالح
الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين.
ولكي يتضح ذلك يجب أن ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية،
ومدى إمكان توفيرها وضمان تحقيقها. لننتهي من ذلك إلى الحقيقة الآنفة
الذكر، وهي: أن المصالح الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن توفر ويضمن
تحقيقها إلا عن طريق نظام يتمتع بإطار ديني صحيح.
وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية، يمكننا تقسيمها إلى
فئتين:
إحداهما: مصالح الإنسان التي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصاً
كالعقاقير الطبية مثلاً فإن مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة، وليست
لهذه المصلحة صلة بعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين، بل الإنسان بوصفه
كائناً معرضاً للجراثيم الضارة، بجاجة إلى تلك العقاقير، سواء كان يعيش
منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط.
والفئة الأخرى: مصالح الإنسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي،
بوصفه كائناً اجتماعياً يرتبط بعلاقات مع الآخرين، كالمصلحة التي يجنيها(1/20)
الإنسان من النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات
الآخرين، أو حين يوفر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطل عن العمل.
وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم: المصالح الطبيعية، وعلى الفئة
الثانية اسم المصالح الاجتماعية.
ولكي يتمكن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية، يجب
أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها، وبالدافع الذي
يدفعه إلى السعي في سبيلها. فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السل مثلاً،
توجد لدى الإنسان حين يعرف أن للسل دواءاً، ويكتشف كيفية استحضاره،
ويملك الدافع الذي يحفزه على الانتفاع باكتشافه واستحضار تلك العقاقير.
كما أن ضمان المعيشة في حالات العجز_ بوصفه مصلحة اجتماعية_ يتوقف
على معرفة الإنسان بفائدة هذا الضمان، وكيفية تشريعه، وعلى الدافع الذي
يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه.
فهناك إذن شرطان أساسيان، لا يمكن بدونهما للنوع الإنساني أن يظفر
بحياة كاملة تتوفر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية: أحدهما: أن يعرف
تلك المصالح، وكيف تحقق، والآخر: أن يملك دافعاً يدفعه بعد معرفتها
إلى تحقيقها.
* * *
ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للإنسان_ كاستحضار عقاقير للعلاج
من السل_ وجدنا أن الإنسانية قد زودت بامكانات الحصول على تلك
المصالح، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة،
والمصالح التي تكمن فيها. وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مر الزمن
نمواً بطيئاً، ولكنها تسير على أي حال في خط متكامل على ضوء الخبرة
والتجارب المستجدة، وكلما نمت هذه القدرة كان الإنسان أقدر على
إدراك مصالحه، ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة.
وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً، يضمن
اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية، فإن المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي
بالدافع الذاتي لكل فرد. فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلاً مصلحة(1/21)
لفرد دون فرد. أو منفعة لجماعة دون آخرين. فالمجتمع الإنساني دائماً
يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوة من الدوافع الذاتية للأفراد،
التي تتفق كلها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها، بوصفها ذات نفع
شخصي للأفراد جميعاً.
وهكذا نعرف أن الإنسان ركب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصاً، يجعله
قادراً على توفير المصالح الطبيعية، وتكميل هذه الناحية من حياته عبر
تجربته للحياة والطبيعة..
* * *
وأما المصالح الاجتماعية فهي بدورها تتوقف أيضاً_ كما عرفنا_
على إدراك الإنسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه، وعلى الدافع النفسي
نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه. فما هو نصيب الإنسان من هذين الشرطين
بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية؟ وهل جهز الإنسان بالقدرة الفكرية على
إدراك مصالحه الاجتماعية، وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها، كما جهز
بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية؟؟
ولنأخذ الآن الشرط الأول، فمن القول الشائع: أن الإنسان لا يستطيع
أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية، وينسجم
مع طبيعته وتركيبه العام، لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف
الاجتماعي بكل خصائصه، والطبيعة الإنسانية بكل محتواها ويخلص
أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي: أن النظام الاجتماعي يجب أن يوضع
للإنسانية، ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع بنفسها النظام، ما دامت
معرفتها محدودة، وشروطها الفكرية عاجزة عن استكناه أسرار المسألة
الاجتماعية كلها.
وعلى هذا الأساس يقدمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان،
وحاجة الإنسانية إلى الرسل والأنبياء، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي
على تحديد المصالح الحقيقية للإنسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس.
غير أن المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحاً حين ندرس الشرط
الثاني.
فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي: كيف يدرك الإنسان(1/22)
المصالح الاجتماعية(1) ؟ بلى المشكلة الأساسية هي: كيف يندفع هذا
الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟ ومثار المشكلة
هو أن المصلحة الاجتماعية لا تتفق في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي،
لتناقضها مع المصالح الخاصة للأفراد. فإن الدافع الذاتي الذي كان يضمن
اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للإنسانية، لا يقف الموقف نفسه من
مصالحها الاجتماعية، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد
دواء للسل، لأن إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعاً.. نجد أن
هذا الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية، ويمنع
عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه. فضمان معيشة
العامل حال التعطل يتعارض مع مصلحة الأغنياء، الذين سيكلفون بتسديد
نفقات هذا الضمان. وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين
يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم. وهكذا كل مصلحة اجتماعية، فإنها
تمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد، الذين تختلف مصلحتهم عن
تلك المصلحة الاجتماعية العامة.
وفي هذا الضوء نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية والمصالح
الاجتماعية. فإن الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية
للإنسانية، بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا
السبيل، ولذلك كان النوع الإنساني يملك الإمكانات التي تكفل له مصالحه
الطبيعية، بصورة تدريجية وفقاً لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر
التجربة. وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية، فإن الدوافع الذاتية
التي تنبع من حب الإنسان لنفسه، وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح
__________
(1) قمنا بدراسة واسعة لتقييم امكانات الإنسان للوصول فكرياً على التنظيم الاجتماعي
الأصلح وإدراك المصالح الاجتماعية الحقيقة في كتابنا( الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية)
وشرحنا هناك دور التجارب الاجتماعية والعلمية ومدى عطائها في هذا المجال.(1/23)
الآخرين، إن تلك الدوافع تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان
استثماراً مخلصاً، في سبيل توفير المصالح الاجتماعية، وإيجاد التنظيم
الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم.
وهكذا يتضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها
الاجتماعي، هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية
وما لم تكن الإنسانية مجهزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية
والدوافع الأساسية التي تتحكم في الأفراد، لا يمكن للمجتمع الإنساني
أن يظفر بكماله الاجتماعي. فما هي تلك الإمكانات؟؟
إن الإنسانية بحاجة إلى دافع يتفق مع المصالح الاجتماعية العامة، كما
وجدت المصالح الطبيعية الدافع الذاتي حليفاً لها.
هل يمكن للعلم أن يحل المشكلة
ويتردد على بعض الشفاه أن العلم الذي تطور بشكل هائل، كفيل
بحل المشكلة الاجتماعية، لأن الإنسان هذا المارد الجبار الذي استطاع أن
يخطو خطوات العمالقة، في ميادين الفكر والحياة والطبيعة، وينفذ إلى
أعمق أسرارها، ويحل أروع ألغازها، حتى أتيح له أن يفجّر الذرة ويطلق
طاقتها الهائلة، وأن يكشف الأفلاك ويرسل إليها قذائفه، ويركب الطائرة
الصاروخية، ويسخر قوى الطبيعة لنقل ما يحدث على بعد مئات الألوف
من الأميال على شكل أصوات تسمع وصور ترى.. إن هذا الإنسان الذي
سجل في تاريخ قصير كل هذه الفتوحات العلمية، وانتصر في جميع
معاركه مع الطبيعة، لقادر بما أوتي من علم وبصيرة أن يبني المجتمع
المتماسك السعيد، ويضع التنظيم الاجتماعي الذي يكفل المصالح الاجتماعية
للإنسانية، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي
سوى العلم الذي قاده من نصر إلى نصر في كل الميادين.
وهذا الزعم في الواقع لا يعني إلا الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية،
فإن العلم مهما نما وتطور ليس إلا أداة لكشف الحقائق الموضوعية في(1/24)
مختلف الحقول، وتفسير الواقع تفسيراً محايداً يعكسه بأعلى درجة ممكنة
من الدقة والعمق. فهو يعلمنا مثلاً في المجال الاجتماعي: أن الرأسمالية
تؤدي إلي تحكم القانون الحديدي بالأجور، وخفضها إلى المستوى الضروري
للمعيشة، كما يعلمنا في المجال الطبيعي أن استعمال مادة كيمياوية معينة
يؤدي إلى تحكم مرض خطير بحياة الشخص. والعلم حين يبرز لنا هذه
الحقيقة أو تلك، يكون قد قام بوظيفته وأتحف الإنسانية بمعرفة جديدة،
ولكن شبح هذا المرض الخطير أو ذلك القانون الرهيب(قانون الأجور
الحديدي)، لا يتلاشى لمجرد أن العلم اكتشف العلاقة بين تلك المادة المعينة
والمرض، أو بين الرأسمالية والقانون الحديدي، بل إن الإنسان يتخلص
من المرض بالتجنب عما يؤدي إليه، ويتخلص من القانون الحديدي للأجور
بمحو الإطار الرأسمالي للمجتمع. وهنا نتساءل ما الذي يضمن أن يتخلص
الإنسان من ذلك المرض؟ ومن هذا الإطار؟ والجواب فيما يتصل بالمرض
واضح كل الوضوح، فإن الدافع الذاتي عند الإنسان يكفي وحده لإبعاده
عن تلك المادة الخاصة التي كشف العلم عن نتائجها الخطيرة لأنه يناقض
المصلحة الخاصة للفرد. وأما فيما يتصل بالقانون الحديدي للأجور وإزالة
الإطار الرأسمالي، فإن الحقيقة العلمية التي كشفت عن الصلة بين هذا الإطار
وذلك القانون مثلاً، ليست قوة دافعة إلى العمل وتغيير الإطار، وإنما
يحتاج العمل إلى دافع، والدوافع الذاتية للأفراد لا تلتقي دائماً، بل
تختلف تبعاً لاختلاف المصالح الخاصة.
وهكذا يجب أن نفرق بين اكتشاف الحقيقة العلمية، والعمل في
ضوئها على إسعاد المجتمع. فالعلم إنما يكشف الحقيقة بدرجة ما، وليس
هو الذي يطورها.
المادية التاريخية والمشكلة
وتقول الماركسية بهذا الصدد_ على أساس المادية التاريخية_ دعوا
المشكلة نفسها، فإن قوانين التاريخ كفيلة بحلها في يوم من الأيام، أفليست
المشكلة هي أن الدوافع الذاتية لا تستطيع أن تضمن مصالح المجتمع وسعادته،(1/25)
لأنها تنبع من المصالح الخاصة التي تختلف في أكثر الأحايين مع المصالح
الاجتماعية العامة؟ إن هذه ليست مشكلة وإنما هي حقيقة المجتمعات
البشرية منذ فجر التاريخ، فقد كان كل شيء يسير طبقاً للدافع الذاتي الذي
ينعكس في المجتمع بشكل طبقي، فيثور الصراع بين الدوافع الذاتية
للطبقات المختلفة، والغلبة دائماً تكون من حظ الدافع الذاتي للطبقة التي
تسيطر على وسائل الإنتاج، وهكذا يتحكم الدافع الذاتي بشكل محتوم،
حتى تضع قوانين التاريخ حلها الجذري للمشكلة بإنشاء المجتمع اللاطبقي،
تزول فيه الدوافع الذاتية، وتنشأ بدلاً عنها الدوافع الجماعية، وفقاً للملكية
الجماعية.
وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية، أن أمثال هذه النبوءات التي
تتنبأ بها المادية التاريخية لا تقوم على أساس علمي، ولا يمكن انتظار حل
حاسم للمشكلة من ورائها.
* * *
وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع يتحكم فيه الدافع الذاتي،
وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي الذي تمليه على كل فرد مصلحته الخاصة،
فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوة التنفيذ فمن يكفل لمصلحة
المجتمع في زحمة الانانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقاً للمصالح
الاجتماعية للإنسانية. مادام هذا القانون تعبيراً عن القوة السائدة في المجتمع؟!
ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعي كالجهاز الحكومي أن يحل
المشكلة بالقوة ويوقف الدوافع الذاتية عند حدها، لأن هذا الجهاز منبثق
عن المجتمع نفسه، فالمشكلة فيه هي المشكلة في المجتمع بأسره، لأن الدافع
الذاتي هو الذي يتحكم فيه.
ونخلص من ذلك كله إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية،
وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبه لذاته.
فهل كتب على الإنسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة الاجتماعية
النابعة من دوافعها الذاتية، وفطرتها وأن تشقى بهذه الفطرة؟!
وهل استثنيت الإنسانية من نظام الكون الذي رود كل كائن فيه(1/26)
بإمكانات التكامل، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاص،
كما دلت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي؟!.
وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحل الوحيد للمشكلة، فإن الدين هو
الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلها الصحيح.
ذلك أن الحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية
العامة، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية، لأن
الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة
التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى
التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس
إلا تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة
جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما
التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لحساب المجتمع سبيل
الربح وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة
أسمى وأرفع... وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية،
بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني.
وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة على هذا المعنى منتشرة في
كل مكان، وهي تستهدف جميعاً تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد
عن مصالحه و أرباحه فالقرآن يقول:
((ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب )).
(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها).
(يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم. فمن يعمل
مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)
(ولا تحسين الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء
عند ربهم يرزقون)(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم
من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب
ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار(1/27)
ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح
إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة
ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم
الله أحسن ما كان يعملون)).
هذه صور رائعة يقدمها الدين في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع
الذاتية وسبل الخير في الحياة ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن
بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية التي يحددها الإسلام
مترابطتان.
فالدين إذن هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية،
عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة.
وبهذا نعرف أن الدين حاجة فطرية للإنسانية، لأن الفطرة ما دامت
هي أساس الدوافع الذاتية التي نبعت منها المشكلة فلا بد أن تكون قد جهزت
بإمكانات لحل المشكلة أيضاً، لئلا يشذ الإنسان عن سائر الكائنات التي
زودت فطرتها جميعاً بالامكانات التي تسوق كل كائن إلى كماله الخاص.
وليست تلك الامكانات التي تملكها الفطرة الإنسانية لحل مشكلة إلا غريزة
التدين والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام.
فللفطرة الإنسانية إذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه
الذاتية. التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان( مشكلة
التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني).
وهي من ناحية أخرى تزود الإنسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل
الطبيعي إلى التدين، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفق بين المصالح
العامة والدوافع الذاتية. وبهذا أتمت الفطرة وظيفتها في هداية الإنسان إلى
كماله. فلو بقيت تثير المشكلة ولا تمون الطبيعة الإنسانية بحلها، لكان معنى
هذا أن الكائن الإنساني يبقى قيد المشكلة، عاجزاً عن حلها، مسوقاً بحكم
فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها وهذا ما قرره الإسلام بكل وضوح في
قوله تعالى:
((فإقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس(1/28)
عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس لا يعلمون)) (1).
فإن هذه الآية الكريمة تقرر:
أولاً: إن الدين من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها
جميعاً، ولا تبديل لخلق الله.
وثانياً: إن هذا الدين الذي فطرت الإنسانية عليه ليس هو إلا الدين
الحنيف، أي دين التوحيد الخاص، لأن دين التوحيد هو وحده الذي
يمكن أن يؤدي وظيفة الدين الكبرى، ويوجه البشرية على مقياس عملي
وتنظيم اجتماعي، تحفظ فيه المصالح الاجتماعية. وأما أديان الشرك أو
الأرباب المتفرقة على حد تعبير القرآن، فهي في الحقيقة نتيجة للمشكلة فلا
يمكن أن تكون علاجاً لها، لأنها كما قال يوسف لصاحبي السجن ((ما تعبدون
من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان))
يعني بذلك أنها وليدة الدوافع الذاتية، التي أملت على الناس أديان الشرك
طبقاً لمصالحهم الشخصية المختلفة، لتصرّف بذلك ميلهم الطبيعي إلى الدين
الحنيف تصريفاً غير طبيعي، وتحول بينهم وبين الاستجابة الصحيحة لميلهم
الديني الأصيل.
وثالثاً: إن الدين الحنيف الذي فطرت الإنسانية عليه يتميز بكونه ديناً
قيماً على الحياة(ذلك الدين القيم)، قادراً على التحكم فيها وصياغتها في
إطاره العام. وأما الدين الذي لا يتولى إمامة الحياة وتوجيهها، فهو لا يستطيع
أن يستجيب استجابة كاملة للحاجة الفطرية في الإنسان، إلى الدين، ولا
يمكنه أن يعالج المشكلة الأساسية في حياة الإنسان.
* * *
ونخلص من ذلك إلى عدة مفاهيم للإسلام عن الدين والحياة.
فالمشكلة الأساسية في حياة الإنسان نابعة من الفطرة.
لأنها مشكلة الدوافع الذاتية في اختلافاتها وتناقضاتها مع المصالح العامة.
والفطرة في نفس الوقت تمون الإنسانية بالعلاج.
وليس هذا العلاج إلا الدين الحنيف القيّم، لأنه وحده القادر على
التوفيق بين الدوافع الذاتية، وتوحيد مصالحها ومقاييسها العملية.
__________
(1) الروم: 30.(1/29)
فلا بد للحياة الاجتماعية إذن من دين حنيف قيم.
ولا بد للتنظيم الاجتماعي في مختلف شعب الحياة أن يوضع في إطار
ذلك الدين، القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة المشكلة الأساسية في
حياة الإنسان.
* * *
وفي هذا الضوء نعرف أن الاقتصاد الإسلامي بوصفه جزءاً من تنظيم
اجتماعي شامل للحياة، يجب أن يندرج ضمن الإطار العام لذلك التنظيم،
وهو الدين، فالدين هو الإطار العام لاقتصادنا المذهبي.
ووظيفة الدين_ بوصفه إطاراً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في
الإسلام_ أن يوفق بين الدوافع الذاتية والمصالح الخاصة من ناحية،
والمصالح الحقيقة العامة للمجتمع الإنساني_ من وجهة رأي الإسلام_
من ناحية أخرى.
الاقتصاد الإسلامي ليس علماً
يشكل كل واحد من مذاهب الاقتصاد التي عرضناها جزءاً من مذهب
كامل يتناول مختلف شعب الحياة ومناحيها. فالاقتصاد الإسلامي جزء من
المذهب الإسلامي الشامل لشتى فروع الحياة، والاقتصاد الرأسمالي جزء
من الديمقراطية الرأسمالية التي تستوعب بنظرتها التنظيمية المجتمع كله،
كما أن الاقتصاد الماركسي جزء أيضاً من المذهب الماركسي الذي يبلور
الحياة الاجتماعية كلها في إطاره الخاص.
وتختلف هذه المذاهب في بذورها الفكرية الأساسية، وجذورها الرئيسية
التي تستمد منها روحها وكيانها، وتبعاً لذلك تختلف في طابعها الخاص.
فالاقتصاد الماركسي يحمل في رأي الماركسية طابعاً علمياً، لأنه يعتبر
في عقيدة أنصاره نتيجة محتومة للقوانين الطبيعة التي تهيمن على التاريخ
وتتصرف فيه، وعلى العكس من ذلك المذهب الرأسمالي، فإنه لم يضعه
أصحابه_ كما مر معنا في بحث سابق_ كنتيجة ضرورية لطبيعة التاريخ
وقوانينه، وإنما عبروا به عن الصورة الاجتماعية. التي تتفق مع القيم
العلمية والمثل التي يعتنقونها.
وأما المذهب الإسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب
الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أساس عقائدي معين ونظرة رئيسية إلى(1/30)
الحياة والكون، كالرأسمالية(1).
ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي أنه ليس علماً نعني أن الإسلام
دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة
وليس علماً اقتصادياً على طراز علم الاقتصاد السياسي، وبمعنى آخر:
هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً
للواقع. فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة مثلاً، لا يزعم بذلك أنه
يفسر الواقع التاريخي لمرحلة معينة من حياة الإنسانية، أو يعكس نتائج
القوانين الطبيعية للتاريخ، كما تزعم الماركسية حين تبشر بمبدأ الملكية
الاشتراكية، بوصفه الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التاريخ والتفسير
الوحيد لها.
فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي،
في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له. فالوظيفة المذهبية تجاه
الاقتصاد الإسلامي هي: الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية
وفقاً للتشريع الإسلامي، ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشع من
وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإنتاج،
وما إليها من أفكار.
وأما الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الإسلامي فيأتي دورها بعد ذلك،
لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع إسلامي يطبق فيه
مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً. فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي
في الإسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الأحداث
فيه بعضها ببعض. فهو في هذا نظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد
الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون
الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في
المجتمع الذي تطبق عليه، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي.
__________
(1) راجع في درس الفرق بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي من هذه الناحية:
كتاب فلسفتنا: التمهيد.(1/31)
وهكذا يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم_ بعد أن يدرس
دراسة مذهبية شاملة. من خلال دراسة الواقع في هذا الإطار_ والسؤال
هو: متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي، كما وضع
الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي، أو بتعبير آخر علم الاقتصاد الذي
يفسر أحداث المجتمع الرأسمالي؟؟.
والجواب على هذا السؤال: أن التفسير العلمي لأحداث الحياة
الاقتصادية يرتكز على أحد أمرين:
الأول: جمع الأحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة،
وتنظيمها تنظيماً عليماً يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك
الحياة، وشروطها الخاصة.
الثاني: البدء في البحث العلمي من مسلّمات معينة تفترض افتراضاً،
ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الأحداث.
أما التفسير العلمي على الأساس الأول، فهو يتوقف على تجسيد المذهب
في كيان واقعي قائم، ليتاح للباحث أن يسجل أحداث هذا الواقع،
ويستخلص ظواهرها وقوانينها العامة. وهذا ما ظفر به الاقتصاديون
الرأسماليون، حين عاشوا في مجتمع يؤمن بالرأسمالية ويطبقها، فأتيح
لهم أن يضعوا نظرياتهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها.
ولكن شيئاً كهذا لا يتاح للاقتصاديين الإسلاميين، مادام الاقتصاد
الإسلامي بعيداً عن مسرح الحياة، فهم لا يملكون من حياتهم اليوم
تجارب عن الإقتصاد الإسلامي خلال التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة
القوانين التي تتحكم في حياة تقوم على أساس الإسلام.
وأما التفسير العلمي على أساس الثاني فمن الممكن استخدامه في سبيل
توضيح بعض الحقائق التي تتميز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي،
بالانطلاق من نقاط مذهبية معينة، واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض،
ووضع نظريات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الإسلامي على
ضوء تلك النقاط المذهبية.
فمثلاً يمكن للباحث الإسلامي القول: بأن مصالح التجارة متفقة في
المجتمع الإسلامي مع مصالح الماليين وأصحاب المصارف، لأن المصرف(1/32)
في المجتمع الإسلامي يقوم على أساس المضاربة لا على أساس الربا،
فهو يتجر بأموال زبائنه ويوزع الأرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معينة من
الربح، وفي النهاية يتوقف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي
يجنيه. لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون. فهذه الظاهرة_ ظاهرة
الإتفاق بين مصالح المصارف ومصالح التجارة_ هي بطبيعتها ظاهرة
موضوعية، ينطلق الباحث إلى استنتاجها من نقطة هي: إلغاء النظام
الربوي للمصارف في المجتمع الإسلامي.
ويمكن للباحث أيضاً بالانطلاق من نقطة كهذه، أن يقرر ظاهرة
موضوعية أخرى وهي: تجارة المجتمع الإسلامي من عامل رئيسي للأزمات
التي تمنى بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي، فإن دورات الإنتاج
والاستهلاك في مجتمع قائم على أساس الربا، يعرقلها هذا الجزء الكبير من
الثروة الأهلية الذي يدخر طمعاً بالفائدة الربوية، ويسحب بذلك من مجالات
الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي يؤدي إلى كساد قسم كبير من الإنتاج
الاجتماعي، للبضائع الرأسمالية والبضائع الاستهلاكية. فحين يقوم المجتمع
على أساس الاقتصاد الإسلامي، ويحرم فيه الربا تحريماً تاماً، كما يمنع عن
الاكتناز بالنهي عنه، أو يفرض ضريبة عليه، فسوف ينتج عن ذلك
إقبال الناس جميعاً على إنفاق ثرواتهم.
ففي هذه التفسيرات نفترض واقعاً اجتماعياً واقتصادياً قائماً على أسس
معينة، ونأخذ بتفسير هذا الواقع المفترض واستكشاف خصائصه العامة،
في ضوء تلك الأسس.
ولكن هذه التفسيرات لا تكوّن لنا بدقة المفهوم العلمي الشامل،
للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ما لم تجمع مواد الدراسة العلمية
من تجارب الواقع المحسوس. فكثيراً ما تقع مفارقات بين الحياة الواقعية
للنظام، وبين التفسيرات التي تقدم لهذه الحياة على أساس الافتراض، كما
اتفق للاقتصاديين الرأسماليين الذين بنوا كثيراً من نظرياتهم التحليلية على(1/33)
أساس افتراضي، فانتهوا إلى نتائج تناقض الواقع الذي يعيشونه، لانكشاف
عدة عوامل في الحقل الواقعي للحياة لم تؤخذ في مجال الافتراض.
أضف إلى ذلك أن العنصر الروحي والفكري، أو بكلمة أخرى المزاج
النفسي العام للمجتمع الإسلامي، ذو أثر كبير في مجرى الحياة الاقتصادية،
وليس لهذا المزاج درجة محدودة أو صيغة معينة، يمكن أن تفترض مسبقاً
وتقام على أساسها النظريات المختلفة.
فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقة، إلا إذا جسد
هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست
الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة.
علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج
يمارس الناس في حياتهم الاجتماعية عمليتين مختلفتين: إحداهما عملية
الإنتاج، والأخرى: عملية التوزيع، فهم من ناحية يخوضون معركة مع
الطبيعة في سبيل إخضاعها لرغباتهم ويتسلحون في هذه المعركة بما تسمح
به خبرتهم من أدوات الإنتاج، ومن ناحية أخرى يقيم هؤلاء الناس بينهم
علاقات معينة، تحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض في مختلف شؤون الحياة،
وهذه العلاقات هي التي نطلق عليها اسم: النظام الاجتماعي، وتندرج
فيها علاقات التوزيع للثروة التي ينتجها المجتمع. فالأفراد في عملية الإنتاج
يحصلون على مكاسبهم من الطبيعة، وفي النظام الاجتماعي الذي يحدد
العلاقات بينهم يتقاسمون تلك المكاسب.
وبدهي أن عملية الإنتاج في تطور وتحول أساسي دائم، وفقاً لنمو
العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في إنتاجه المحراث، أصبح
يستخدم الكهرباء والذرة، كما أن النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس
بعضهم ببعض_ بما فيها علاقات التوزيع_ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة
ثابتة في تاريخ الإنسان، بل اتخذ ألواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والسؤال الأساسي بهذا الصدد: ما هي الصلة بين تطور أشكال الإنتاج
وتطور العلاقات الاجتماعية بما فيها علاقات التوزيع( النظام الاجتماعي)؟(1/34)
وتعتبر هذه النقطة مركز الاختلاف الرئيسي بين الاقتصاد الماركسي
والاقتصاد الإسلامي، ومن النقاط المهمة للخلاف بين الماركسية والإسلام
بوجه عام.
فالاقتصاد الماركسي يرى: أن كل تطور في عمليات الإنتاج وأشكاله،
يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات التوزيع خاصة،
فلا يمكن أن يتغير شكل الإنتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها
القديم، كما لا يمكن أيضاً أن تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الإنتاج في
تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك: أن من المستحيل أن يحتفظ نظام
اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن، أو أن يصلح للحياة الإنسانية في
مراحل متعددة من الإنتاج، لأن أشكال الإنتاج تتطور خلال التجربة
البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية فالنظام الذي يصلح لمجتمع
الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية،
ما دام شكل الإنتاج مختلفاً في المجتمعين. وعلى هذا الأساس تقدم الماركسية
المذهب الاشتراكي، باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في
مرحلة تاريخية معينة، وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للإنتاج في تلك المرحلة.
وأما الإسلام فهو يرفض هذه الصلة الحتمية المزعومة، بين تطور
الإنتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى أن للإنسان حقلين: يمارس
في أحدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخرها
لإشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى
مجالات الحياة الاجتماعية. وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأول،
والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين_ بوجوده
التاريخي_ تعرّض لتطورات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعي،
ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات أشكال الإنتاج
وتطورات النظم الاجتماعية. ولأجل ذلك فهو يعتقد أن بالإمكان أن
يحتفظ نظام اجتماعي واحد، بكيانه وصلاحيته على مر الزمن مهما اختلفت(1/35)
أشكال الإنتاج.
وعلى أساس هذا المبدأ(مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال
الإنتاج)، يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي،
بوصفه نظاماً إجتماعياً صالحاً للأمة في كل مراحل إنتاجها، وقادراً على
إسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الأرض
بيدها.
* * *
ومرد هذا الاختلاف الأساسي بين الماركسية والإسلام في نظرتهما
نحو النظام الاجتماعي، إلى اختلافهما_ بوجه عام_ في تفسير الحياة الاجتماعية
التي يتكفل النظام الاجتماعي بتنظيمها وضبطها. فالحياة الاجتماعية للإنسان
وليدة القوى المنتجة في رأي الماركسية، لأن قوى الإنتاج هي القاعدة
الأساسية والعامل الأول في تاريخ الإنسان كله، فإذا تغير شكل القوى
المنتجة كان طبيعياً أن يتغير تبعاً لذلك شكل الحياة الاجتماعية، الذي يعبر
عنه النظام الاجتماعي السائد، ويولد نظام اجتماعي جديد يساير الشكل
الجديد للإنتاج.
وفي دراستنا السابقة للمادية التاريخية، ونقدنا الموسع لمفاهيمها عن
التاريخ ما يغنينا عن التعليق في هذا المجال، فقد برهنا بكل وضوح على أن
القوى المنتجة ليست هي العامل الأساسي في التاريخ.
وأما في ضوء الإسلام، فليست الحياة الاجتماعية بأشكالها نابعة من
الأشكال المتنوعة للإنتاج، وإنما هي نابعة من حاجات الإنسان نفسه، لأن
الإنسان هو القوة المحركة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة
الاجتماعية. فقد خلق الإنسان مفطوراً على حب ذاته والسعي وراء حاجاته،
وبالتالي استخدام كل ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعي أن يجد
الإنسان نفسه مضطراً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً،
لأنه لا يتمكن من إشباع حاجاته إلا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين،
فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات، واتسعت تلك
العلاقات ونمت باتساع تلك الحاجات ونموها، خلال التجربة الحياتية(1/36)
الطويلة للإنسان. فالحياة الاجتماعية إذن وليدة الحاجات الإنسانية، والنظام
الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقاً لتلك الحاجات
الإنسانية.
ونحن إذا درسنا الحاجات الإنسانية، وجدنا أن فيها جانباً رئيسياً ثابتاً
على مر الزمن، وفيها جوانب تستجد وتتطور طبقاً للظروف والأحوال.
فهذا الثبات الذي نجده في تركيب الإنسان العضوي وقواه العامة، وما أودع
فيه من أجهزة للتغذية والتوليد وامكانات للإدراك والإحساس، يعني حتماً
اشتراك الإنسانية كلها في خصائص وحاجات وصفات عامة، الأمر الذي
جعلها أمة واحدة في خطاب الله لأنبيائه )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا
ربكم فاعبدون). ومن ناحية أخرى نجد أن عدداً كبيراً من الحاجات يدخل
في نطاق الحياة الإنسانية بالتدريج، وينمو من خلال تجارب الحياة وزيادة
الخبرة بملابساتها، وخصائصها. فالحاجات الرئيسية ثابتة إذن، والحاجات
الثانوية تستجد وتتطور وفقاً لنمو الخبرة بالحياة وتعقداتها.
وإذا عرفنا إلى جانب ذلك: أن الحياة الاجتماعية نابعة من الحاجات
الإنسانية، وإن النظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية
وفقا لتلك الحاجات كما سبق.. إذا عرفنا ذلك كله، خرجنا بنتيجة وهي:
أن النظام الاجتماعي الصالح للإنسانية ليس من الضروري لكي يواكب
نمو الحياة الاجتماعية_ أن يتطور ويتغير بصورة عامة، كما أنه ليس من
المعقول أن يصوغ كليات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، بل يجب أن
يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطور
والتغير، ما دام الأساس للحياة الاجتماعية( الحاجات الإنسانية) يحتوي
على جوانب ثابتة وجوانب متغيرة فتنعكس كل من جوانبه الثابتة والمتطورة
في النظام الاجتماعي الصالح.
وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماماً، فهو يشتمل على
جانب رئيسي ثابت يتصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الإنسان،(1/37)
كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن، وما إليها من الحاجات التي
عولجت في أحكام توزيع الثروة، وأحكام الزواج والطلاق، وأحكام
الحدود والقصاص، ونحوها من الأحكام المقررة في الكتاب والسنة.
ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام أيضاً على جوانب مفتوحة للتغير
وفقاً للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام
لولي الأمر أن يجتهد فيها وفقاً للمصلحة والحاجة، على ضوء الجانب الثابت
من النظام. كما زود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها
القانونية غير أنها تتكيف في تطبيقها بالظروف والملابسات وبذلك تحدد
الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع أساليب إشباعها بالرغم
من ثباتها وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ونفي الحرج في الدين.
* * *
وهكذا_ وخلافاً للماركسية القائلة: بتبعية علاقات التوزيع، وبالتالي
النظام الاجتماعي كله لأشكال الإنتاج_ نستطيع أن نقرر: انفصال علاقات
التوزيع عن شكل الإنتاج. فمن الممكن لنظام اجتماعي واحد أن يقدم
للمجتمع الإنساني علاقات توزيع صالحة له، في مختلف ظروف الإنتاج
وأشكاله، وليس كل نوع من علاقات التوزيع مرهوناً بشكل معين من
أشكال الإنتاج، لا يسبقه ولا يتأخر عنه كما ترى الماركسية.
وعلى هذا الأساس يختلف الإسلام والماركسية في نظرتهما إلى أنظمة
التوزيع الأخرى التي طبقت في التاريخ، وحكمهما في حق تلك الأنظمة.
فالماركسية تدرس كل نظام للتوزيع من خلال ظروف الإنتاج السائدة في
المجتمع، فتحكم بأنه نظام صالح إذا كان يواكب نمو القوى المنتجة،
وبأنه نظام فاسد تجب الثورة عليه إذا كان عقبة في طريقها الصاعد. ولهذا
نجد أن الماركسية تبارك الرق على أبعد مدى وبأفظع صورة، في المجتمع الذي
يعيش على الإنتاج اليدوي للإنسان، لأن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يدفع
إلى مضاعفة النشاط المنتج، إلا إذا رفعت السياط على رؤوس الكثرة(1/38)
الكاثرة من أفراده، وأجبروا على العمل تحت وقع السياط ووخز الخناجر،
فمن يباشر عملية الارهاب الهائل ويمسك السوط بيده، هو الرجل التقدمي
والطليعة الثورية في ذلك المجتمع، لأنه الساهر دون وعي على تحقيق إدارة
التاريخ. وأما ذلك الفرد الآخر الذي يستنكف عن الاشتراك في عملية
الاسترقاق، ويترك هذه الفرصة الذهبية.. فهو جدير بكل النعوت التي
يطلقها الاشتراكيون اليوم على الرأسمالي، لأنه رجل يعارض عملية التقدم
البشري.
وأما الإسلام فهو يحكم على كل نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية
المتنوعة، التي يجب على النظام تكييف الحياة تكييفاً يضمن إشباعها، بوصفها
الأساس لنشوء الحياة الاجتماعية. ولا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال
الإنتاج، مبرراً لقيام نظام اجتماعي وعلاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك
الحاجات، لأنه ينكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال الإنتاج والنظم
الاجتماعية.
* * *
والإسلام حين ينكر هذه الصلة لا يقرر ذلك نظرياً فحسب، بل هو
يقدم الدليل العملي على ذلك من وجوده التاريخي. فقد سجل الإسلام في
تجربته الواقعية للحياة نصراً فكرياً وبرهاناً حياً، على كذب تلك الصلة
المزعومة بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج، ودلل على أن الإنسانية
تستطيع أن تكيف وجودها الاجتماعي تكييفاً انقلابياً جديداً، بينما يظل
أسلوبها في الإنتاج كما هو دونما تغيير.
فإن الواقع الإسلامي الذي عاشته الإنسانية لحظة قصيرة من عمر الزمن
المديد، وأحدث فيها أروع تطوير شهدته الأسرة البشرية..لم يكن هذا
الواقع الانقلابي الذي خلق أمة، وأقام حضارة، وعدّل من سير التاريخ..
وليد أسلوب جديد في الإنتاج، أو تغير في أشكاله وقواه. ولم يكن من
الممكن في منطق التفسير الاشتراكي للتاريخ_ الذي يربط النظام الاجتماعي
بوسائل الإنتاج_ أن يوجد هذا الانقلاب الشامل، الذي تدفق إلى كل
جوانب الحياة دون أن يسبقه أي تحول أساسي في ظروف الإنتاج.(1/39)
وهكذا تحدى الواقع الإسلامي منطق الماركسية التاريخي، في كل
حساباتها وفي كل شيء، نعم في كل شيء. فقد تحداها في فكرة المساواة،
لأن الماركسية ترى أن فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعي، الذي
يتفتح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البورجوازية، وليس من
الممكن في رأيها حمل هذا اللواء قبل أن يبلغ التطور التاريخي هذه المرحلة
الصناعية. ويقف الإسلام من هذا المنطق_ الذي يرد كل وعي وفكرة إلى
تطور الإنتاج_ هازئاً، لأنه استطاع أن يرفع لواء المساواة، وأن يفجر
في الإنسانية وعياً صحيحاً وإدراكاً شاملاً، واستطاع أيضاً أن يعكس
جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعية، بدرجة لم تصل إليها البورجوازية.
استطاع أن يقوم بذلك كله قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازية،
وقبل أن توجد شروطها المادية بعشرة قرون.. فقد نادى بالمساواة يوم لم
تكن قد وجدت الآله فقال) كلكم لآدم وآدم من تراب). و(الناس
سواسية كأسنان المشط).(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
فهل استوحى المجتمع الإسلامي هذه المساواة من وسائل الإنتاج
البورجوازي، التي لم تظهر إلا بعد ذلك بألف سنة؟! أو استوحاها من
وسائل الزراعة والتجارة البدائية التي كان المجتمع الحجازي يعيش عليها،
وهي وسائل كانت توجد بدرجة أكثر نمواً وأعظم تطوراًُ في مجتمعات
المساواة، وجندته للقيام بأروع دور تاريخي في سبيل تحقيق هذه الفكرة،
ولم تصنع، نظير ذلك مع المجتمعات العربية في اليمن أو الحيرة أو الشام؟!
وتحدى الإسلام أيضاً حسابات المادية التاريخية مرة أخرى، فبشر
بمجتمع عالمي يجمع الإنسانية كلها على صعيد واحد، وعمل جاهداً في
سبيل تحقيق هذه الفكرة، في بيئة كانت تضج بالصراع القبلي، وتزخر
بآلاف المجتمعات العشائرية المتناقضة، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة
إنسانية كبرى، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحده حدود(1/40)
الدم والقرابة والجوار، إلى فكرة المجتمع الذي لا يحده شيء من تلك
الحدود، وإنما تحده القاعدة الفكرية للإسلام. فأي أداة إنتاج حوّلت أولئك
الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي، فجعلتهم أئمة
المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصيرة؟!.
وتحدى الإسلام المنطق التاريخي المزعوم مرة ثالثة، فيما أقام من
علاقات التوزيع، التي لم يكن من الممكن في حساب الاقتصاد الاشتراكي،
أن تقوم في مجتمع قبل أن يبلغ درجة من المرحلة الصناعية والآلية في الإنتاج.
فقلّص من دائرة الملكية الخاصة، وضيق من مجالها، وهذّب من مفهومها،
ووضع لها الحدود والقيود، وفرض عليها كفالة الفقراء، ووضع إلى
جانبها الضمانات الكافية لحفظ التوازن والعدالة في التوزيع، وسبق بذلك
الشروط المادية_ في رأى الماركسية_ لهذا النوع من العلاقات. فبينما يقول
القرن الثامن عشر: (لا يجهلن سوى الأبله أن الطبقات الدنيا يجب أن تظل
فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة)(1). ويقول القرن التاسع عشر:
(ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا ما تعذر عليه الظفر
بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم
لوجوده، إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب
ولا تتوانى في تنفيذ أمرها هذا)(2)، بينما يقول العالم هذا حتى بعد مجيء
الإسلام بقرون، يقول الإسلام_ على ما جاء في الحديث_ معلناً مبدأ
الضمان الاجتماعي.( من ترك ضياعاً فعلي ضياعه، ومن ترك ديناً فعلي
دينه)، ويعلن الاقتصاد الإسلامي بوضوح: أن الفقر والحرمان ليس
نابعاً من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات
الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، فيقول_ على ما جاء في
الحديث_:( ما جاع فقير إلا بما متع غني).
__________
(1) النص لأحد كتاب القرن الثامن عشر وهو( الرثر يونج).
(2) النص ل(مالتس) الذي عاش في بداية القرن التاسع عشر.(1/41)
إن هذا الوعي الإسلامي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، الذي
لم يوجد نظيره حتى في مجتمعات أرقى من المجتمع الإسلامي في شروطه
المادية، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية أو الصناعية
اليدوية. وما إليها من وسائل المعيشة التي كانت كل المجتمعات تعرفها.
* * *
يقولون: إن هذا الوعي، أو هذا الانقلاب الاجتماعي، بل هذا المد
الإسلامي الهائل الذي امتد إلى تاريخ العام كله.. كان نتيجة للنمو التجاري
وللأوضاع التجارية في مكة، التي كانت تتطلب إنشاء دولة ثابتة وتدعيمها
بكل متطلباتها الاجتماعية والفكرية التي تلائم الوضع التجاري السائد!!
وحقاً إنه تفسير طريف، أن يفسر هذا التحول التاريخي الشامل في
حياة الإنسانية كلها بالظروف التجارية لبلدة من بلاد جزيرة العرب.
ولا أدري كيف سمحت الظروف التجارية لمكة بهذا الدور التاريخي
الجبار، دون غيرها من البلاد العالمية والعربية، التي شهدت مدنيات أضخم
وشروطاً مادية أرقى، وكانت تفوق مكة في ظروفها السياسية والاقتصادية؟!
أفلم يكن من المحتوم في المنطق المادي للتاريخ أن ينبثق التطور الاجتماعي
الجديد من تلك البلاد؟! فكيف استطاعت ظروف تجارية معينة في بلد
كمكة أن تخلق تاريخاً إنسانياً جديداً. بينما عجزت عن مثل ذلك ظروف
مشابهة، أو ظروف أكثر منها تطوراً ونمواً؟
فلئن كانت مكة تتمتع بظرف تجاري مناسب لمرور التجارة بها بين اليمن
وسوريا، فقد كان الأنباط يتمتعون بظروف تجارية مهمة حين أنشأوا
(بطرا) كمحطة للطرق التجارية، وأنشأوا فيها مدنية من أرقى المدنيات
العربية، حتى امتد نفوذهم إلى ما يجاورهم من البلاد، وأقاموا فيها حاميات
للقوافل التجارية وأماكن لاستغلال المناجم، وأصبحت مدينتهم ردحاً من
الزمن المدينة الرئيسية للقوافل ومركزاً تجارياً مهماً، وامتد نشاطهم التجاري
إلى مناطق واسعة، حتى وجدت آثار تجارتهم في سلوقية وموانيء سورية(1/42)
والإسكندرية، وكانوا يتاجرون بالأفاويه من اليمن، والحرير من الصين،
والحناء من عسقلان، والزجاج وصبغ الأرجوان من صيدا وصور،
واللؤلؤ من الخليج الفارسي، والخزف من روما، وينتجون في بلادهم
الذهب والفظة والقار، وزيت السمسم... وبالرغم من هذا المستوى
التجاري والإنتاجي الذي لم تصل إليه مكة، ظلت الانباط في علاقاتها
الاجتماعية كما هي، تنتظر دور مكة الرباني في تطوير التاريخ.
وهذه الحيرة التي شهدت على عهد المناذرة رقياً كبيراً في الصناعة
والتجارة. فقد ازدهرت فيها صناعة الأنسجة والأسلحة والخزف وأواني
الفخار والنقوش، واستطاع المناذرة أن يمدوا نفوذهم التجاري إلى أواسط
وجنوب وغربي الجزيرة العربية، وكانوا يرسلون قوافل تجارية إلى
الأسواق الرئيسية، وهي تحمل منتوجات بلادهم.
والحضارة التدمرية التي استمرت عدة قرون، وازدهرت في ظلها
التجارة وقامت علاقاتها التجارية بمختلف دول العالم، كالصين والهند
وبابل والمدن الفنيقية وبلاد الجزيرة.
والحضارات التي احتفل بها تاريخ اليمن منذ أقدم العهود...
إن دراسة تلك الحضارات والمدنيات وظروفها التجارية والاقتصادية،
ومقارنتها بمكة في واقعها الحضاري والمدني قبل الإسلام، يبرهن على أن
الانقلاب الإسلامي في العلاقات الاجتماعية والحياة الفكرية، لم يكن مسألة
شروط مادية وظروف اقتصادية وتجارية، وبالتالي إن العلاقات الاجتماعية
بما فيها علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج والوضع الاقتصادي
للقوى المنتجة.
أفليس من حق الإسلام بعد هذا كله، أن يزيّف بكل اطمئنان وثقة
تلك الحتمية التاريخية، التي تربط كل أسلوب من أساليب التوزيع بأسلوب
من أساليب الإنتاج، ويعلن بالدليل المادي المحسوس: أن النظام يقوم
على أسس فكرية وروحية، وليس على الطريقة المادية في كسب حاجات
الحياة؟!.
المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، وحلولها
ما هي المشكلة الاقتصادية؟(1/43)
تتفق التيارات الفكرية في الحقل الاقتصادي جميعاً على: أن في الحياة
الاقتصادية مشكلة يجب أن تعالج، وتختلف_ بعد ذلك_ في تحديد طبيعة
هذه المشكلة، والطريقة العامة لعلاجها.
فالرأسمالية تعتقد: أن المشكلة الاقتصادية الأساسية هي قلة الموارد
الطبيعية نسبياً، نظراً إلى أن الطبيعة محدودة. فلا يمكن أن يزاد في كمية
الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات الطبيعية المتنوعة
المخبوءة فيها، مع أن الحاجات الحياتية للإنسان تنمو باطراد، وفقاً لتقدم
المدينة وازدهارها، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك
الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الإفراد
على إشباع حاجاتهم، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.
فالمشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي: أن الموارد الطبيعية للثروة
لا تستطيع أن تواكب المدنية، وتضمن إشباع جميع ما يستجد خلال التطور
المدني من حاجات ورغبات.
والماركسية ترى: أن المشكلة الاقتصادية دائماً هي مشكلة التناقض
بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع. فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه
العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية، مهما كانت نوعية النظام
الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.
وأما الإسلام فهو لا يعتقد مع الرأسمالية: أن المشكلة مشكلة الطبيعة
وقلة مواردها، لأنه يرى أن الطبيعة قادرة على ضمان كل حاجات الحياة،
التي يؤدي عدم إشباعها إلى مشكلة حقيقة في حياة الإنسان.
كما لا يرى الإسلام أيضاً: أن المشكلة هي التناقض بين شكل الإنتاج
وعلاقات التوزيع، كما تقرر الماركسية.. وإنما المشكلة_ قبل كل شيء_
مشكلة الإنسان نفسه، لا الطبيعة، ولا أشكال الإنتاج.
وهذا ما يقرره الإسلام في الفقرات القرآنية التالية:
((الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من
السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخّر(1/44)
لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل
والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار ))(1).
فهذه الفقرات الكريمة تقرر بوضوح: أن الله تعالى قد حشد للإنسان
في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإمداده
بحياته وحاجاته المادية.. ولكن الإنسان هو الذي ضيع على نفسه هذه الفرصة
التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه( إن الإنسان لظلوم كفار). فظلم
الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأساسيان
للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان.
ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي: في سوء التوزيع.
ويتجسد كفرانه للنعمة: في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها.
فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات
الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها. تزول المشكلة الحقيقة على
الصعيد الاقتصادي.
وقد كفل الإسلام محو الظلم: بما قدمه من حلول لمسائل التوزيع
والتداول، وعالج الكفران: بما وضعه للإنتاج من مفاهيم وأحكام.
وهذا ما سنشرحه فيما يلي، بالمقدار الذي يتصل بالسبب الأول من المشكلة
الاجتماعية في نظر الإسلام وهو الظلم في مجالات التوزيع والتداول وأما موقف الإسلام من السبب الثاني وهو كفران النعمة، فسوف نتناوله
بالدرس بحث مقبل، أعددناه لعرض موقف الإسلام من الإنتاج
وأحكامه ومفاهيمه عنه.
جهاز التوزيع
فبالنسبة إلى مجالات التوزيع منيت الإنسانية على مر التاريخ بألوان من
الظلم، لقيام التوزيع تارة: على أساس فردي بحت، وأخرى على أساس
لا فردي خالص. فكان الأول تعدياً على حقوق الجماعة وكان الثاني بخساً
لحقوق الفرد.
وقد وضع الإسلام جهاز التوزيع للمجتمع الإسلامي بالشكل الذي
تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة. فلم يحل بين الفرد وحقه وإشباع
__________
(1) إبراهيم: 33-35.(1/45)
ميوله الطبيعية، كما لم يسلب الجماعة كرامتها ولم يهدد حياتها، وبذلك
امتاز عن أجهزة التوزيع المختلفة، التي جرها الإنسان على مر التاريخ.
وجهاز التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل
والحاجة. ولكل من الأداتين دورهما الفعال في الحقل العام للثروة الاجتماعية.
وسوف نتناول كلاً من الأداتين بالدرس، لنعرف دورها الذي
تؤديه في مجال التوزيع، مع المقارنة بين مكانة العمل والحاجة في جهاز
التوزيع الإسلامي للثروة، ومكانتهما في التصاميم والنظريات الأخرى
للتوزيع، التي تقوم على أسس شيوعية واشتراكية ورأسمالية.
دور العمل في التوزيع
لكي نعرف دور العمل في التوزيع، يجب أن ندرس الصلة الاجتماعية
بين العمل والثروة التي ينتجها. فالعمل ينصب على مختلف المواد الطبيعية:
فيستخرج المعدن من الأرض، ويقتطع الخشب من الأشجار، ويغوص
على اللؤلؤ في البحر، ويصطاد طائراً من الجو.. إلى غير ذلك من الثروات
والمواد التي يحصل عليها الإنسان من الطبيعة عن طريق العمل. والسؤال
الذي نعالجه بهذا الصدد هو: ماذا تكتسب المادة من طابع اجتماعي بسبب
العمل؟ وما هي علاقة العامل بالثروة التي حصل عليها عن طريق عمله؟.
فهناك الرأي القائل: بانقطاع الصلة الاجتماعية بين العمل و(العامل)
وموضوعه، فليس للعمل أو العامل من حق إلا في إشباع حاجته مهما كان
عمله، لأن العمل ليس إلا وظيفة اجتماعية يؤديها الفرد للمجتمع، فيكافئه
عليها المجتمع بضمان حاجاته.
ويتفق هذا الرأي مع وجهة نظر الاقتصاد الشيوعي، فإن الاقتصاد
الشيوعي ينظر إلى المجتمع بوصفه كائناً كبيراً يذوب فيه الأفراد، ويحتل
كل فرد منه موضع الخلية في الكائن العضوي الواحد. وعلى أساس هذه
النظرة التي تصهر الأفراد في البوتقة الاجتماعية الكبرى، وتذيبهم في
العملاق الكبير.. لا تبدو الأعمال التي يقوم بها أفراد المجتمع أعمالاً(1/46)
لأفراد، لأن الأفراد قد ذابوا جميعاً ضمن الكائن الكبير. فتنقطع بذلك
صلة العامل بنتائج عمله، ويصبح المجتمع هو العامل الحقيقي والمالك لنتاج
عمل الأفراد جميعاً، وليس للأفراد إلا إشباع حاجاتهم، وفقاً للصيغة
الشيوعية_ التي مرت بنا سابقاً في دراستنا للمادية التاريخية_:(من كل
وفقاً لطاقته ولكل وفقاً لحاجته). فالأفراد في المجتمع الشيوعي يشبهون
تماماً الأجزاء التي يتكون منها جهاز ميكانيكي، فإن كل جزء في الجهاز له
الحق في استهلاك ما يحتاجه من زيت، وعليه القيام بوظيفته الخاصة، وبذلك قد
تستهلك الأجزاء الميكانيكية جميعاً حظوظاً متساوية من الزيت بالرغم من
اختلاف وظائفها في أهميتها وتعقيدها. وكذلك أفراد المجتمع يعطى كل
منهم في نظام التوزيع الشيوعي(وفقاً لحاجته)، وإن اختلفوا في مدى
مساهمتهم العملية في إنتاج الثروة. فالشخص يعمل ولكنه لا يملك ثمرة
عمله ولا يختص بنتائجه، وإنما له الحق في إشباع حاجته سواء زاد ذلك
على عمله أم قل عنه(1).
وعلى هذا الأساس يصبح موقف العمل من التوزيع سلبياً. فهو في
ضوء المفهوم الشيوعي أداة إنتاج للسلع، وليس أداة توزيع لها، وإنما
الحاجة وحدها هي التي تقرر الطريقة التي يتم بها توزيع السلع على أفراد
المجتمع، ولهذا يختلف أفراد المجتمع في حظهم من التوزيع، وفقاً لاختلاف
حاجاتهم، لا لاختلاف أعمالهم.
وأما الاقتصاد الاشتراكي الماركسي، فهو يحدد صلة العامل بنتيجة
عمله في ضوء مفهومه الخاص عن القيمة: فهو يرى أن العامل هو الذي
يخلق القيمة التبادلية للمادة التي ينفق فيها عمله، فلا قيمة للمادة بدون العمل
البشري المتجسد فيها. وما دام العمل هو الينبوع الأساسي للقيمة، فيجب
__________
(1) هذا في الاتجاهات الشيوعية غير الماركسية، وأما الماركسية فلها طريقتها الخاصة في
تبرير ذلك على ضوء مفهومها التاريخي عن المرحلة الشيوعية، راجع ص(220_221)
من هذا الكتاب.(1/47)
أن يكون توزيع القيم المنتجة في مختلف فروع الثروة على أساس العمل،
فيملك كل عامل نتيجة عمله والمادة التي انفق عمله فيها، لأنها أصبحت
ذات قيمة بسبب العمل وينتج عن ذلك: أن(لكل حسب عمله) لا حسب
حاجته، لأن من حق كل عامل أن يحصل على ما خلق من قيم. ولما كان
العمل هو الخلاق الوحيد للقيم، فهو الأداة الوحيدة للتوزيع. فبينما كانت
أداة التوزيع في المجتمع الشيوعي هي الحاجة، يصبح العمل أداة التوزيع
الأساسية في المجتمع الاشتراكي.
وأما الإسلام فيختلف عن الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي معاً.
فهو يخالف الشيوعية في قطعها الصلة بين عمل الفرد ونتائج عمله،
وتأكيدها على المجتمع بوصفه المالك الوحيد لنتائج أعمال الأفراد جميعاً،
لأن الإسلام لا ينظر إلى المجتمع بصفته كائناً كبيراً يختفي من وراء الأفراد،
ويحركها في هذا الاتجاه وذاك، بل ليس المجتمع إلا الكثرة الكاثرة من
الإفراد فالنظرة الواقعية إنما تنصب على الأفراد بوصفهم بشراً يتحركون
ويعملون، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تنقطع الصلة بين العامل ونتيجة عمله.
ويختلف الإسلام أيضاً عن الاقتصاد الاشتراكي، القائل: أن الفرد
هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية بعمله، فالمواد الطبيعية كالخشب
والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة.. لا تستمد قيمتها_ في رأي الإسلام_
من العمل، بل قيمة كل مادة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول
عليها، كما أوضحنا ذلك في دراستنا للمادية التاريخية.
وإنما العمل في نظر الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله، وهذه
الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل، تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان
إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى شعور كل فرد بالسيطرة على
عمله، فإن هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل
ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان،(1/48)
نابعاً من مشاعره الأصيلة. وحتى المجتمعات التي تحدثنا الشيوعية عن
انعدام الملكية الخاصة فيها، لا تدحض حق الملكية القائم على أساس العمل
بوصفه تعبيراً عن ميل أصيل في الإنسان.. وإنما تعني أن العمل في تلك
المجتمعات كان يحمل طابعاً اشتراكياً، فكانت الملكية القائمة على أساسه
اشتراكية أيضاً. فالحقيقة هي الحقيقة، والميل الطبيعي إلى التملك على
أساس العمل ثابت على أي حال، وإن اختلفت نوعية الملكية لاختلاف
شكل العمل: من ناحية كونه فردياً أو اجتماعياً.
فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام، وعلى هذا الأساس
فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات
الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقاً لقاعدة: إن العمل سبب
الملكية.
وهكذا نستطيع أن نستخلص في النهاية المواقف المذهبية المختلفة،
من الصلة الاجتماعية بين الفرد العامل ونتيجة عمله.
فالقاعدة الشيوعية في هذا المجال:(إن العمل سبب لتملك المجتمع
لا الفرد).
والقاعدة الاشتراكية:( إن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب
تملك العامل لها).
والقاعدة الإسلامية:(إن العمل سبب لتملك العامل للمادة، وليس
سبباً لقيمتها). فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته
وإنما يملكه بهذا العمل.
دور الحاجة في التوزيع
إن العمل هو الأداة الرئيسية الأولى في جهاز التوزيع، بوصفه أساساً
للملكية كما عرفنا قبل لحظة. والأداة الأخرى التي تساهم في عملية التوزيع
مساهمة رئيسية هي الحاجة.
والدور المشترك الذي يؤديه العمل والحاجة معاً في هذا المجال، هو
الذي يحدد الشكل الأولي العام للتوزيع في المجتمع الإسلامي.
ويمكننا لإيضاح هذا الدور المشترك الذي تساهم فيه الحاجة أن نقسم
أفراد المجتمع إلى ثلاث فئات: فإن المجتمع يحتوي عادة على فئة: قادرة
_بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية_ على توفير معيشتها في(1/49)
مستوى مرفه غني، وفئة أخرى: تستطيع أن تعمل، ولكنها لا تنتج في
عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الأساسية، وفئة ثالثة:
لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية. وما إلى ذلك من الأسباب
التي تشل نشاط الإنسان، وتقذف به خارج نطاق العمل والإنتاج.
فعلى أساس الاقتصاد الإسلامي تعتمد الفئة الأولى في كسب نصيبها من
التوزيع على العمل، بوصفه أساساً للملكية وأداة رئيسية للتوزيع، فيحصل
كل فرد من هذه الفئة على حظه من التوزيع وفقاً لإمكاناته الخاصة، وإن
زاد ذلك على حاجاته، ما دام يستخدم إمكاناته في الحدود التي يضعها
الاقتصاد الإسلامي للنشاطات الاقتصادية للأفراد. فالحاجة إذن لا تعمل
شيئاً بالنسبة إلى هذه الفئة، وإنما العمل. هو أساس نصيبها من التوزيع.
وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده، يرتكز دخل الفئة الثالثة
وكيانها الاقتصادي في الإسلام على أساس الحاجة وحدها، لأن هذه الفئة
عاجزة عن العمل، فهي تحصل على نصيب من التوزيع يضمن حياتها كاملة
على أساس حاجتها، وفقاً لمباديء الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في
المجتمع الإسلامي.
وأما الفئة الثانية: التي ولا تجني من عملها إلا الأدنى من
المعيشة، فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معاً. فالعمل يكفل لها
معيشتها الضرورية، والحاجة تدعو_ وفقاً لمباديء الكفالة والتضامن_
إلى زيادة دخل هذه الفئة، بأساليب وطرق محددة في الاقتصاد الإسلامي
كما سيأتي، ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرفاه.
ومن خلال هذا نستطيع أن ندرك أوجه الاختلاف ببن دور الحاجة
في الاقتصاد الإسلامي بصفتها أداة توزيع ودورها في المذاهب الاقتصادية
الأخرى.
الحاجة في نظر الإسلام والشيوعية
تعتبر الحاجة في نظر الشيوعية_ القائلة: أن من كل وفقاً لطاقته ولكل
وفقاً لحاجته_ وحدها هي المعيار الأساسي في توزيع الناتج على الأفراد(1/50)
العاملين في المجتمع فلا تسمح للعمل بإيجاد ملكية أوسع نطاقاً من حاجة
العامل.. بينما يعتر الإسلام بالعمل بوصفه أداة للتوزيع إلى جانب
الحاجة، ويسند إليه دوراً إيجابياً في هذا المضمار، وبذلك يفتح المجال في
الحياة الاقتصادية لظهور كل الطاقات والمواهب ونموها، على أساس من
التنافس والسباق، ويدفع الأفراد الموهوبين إلى إنفاق كل إمكاناتهم في
مضمار المدنية والاقتصاد وعلى العكس من ذلك الشيوعية، فإنها باقامتها
للتوزيع على أساس حاجة العامل وحدها دون نوعية عمله ونشاطه، تؤدي
إلى تجميد الدوافع الطبيعية في الإنسان الباعثة على الجد والنشاط، فإن الذي
يبعث الفرد على ذلك إنما هو في الحقيقة مصلحته الخاصة، فإذا جرد العمل
عن وصفه أداة توزيع واتخذت الحاجة وحدها مقياساً لنصيب كل فرد،
كما تصنع الشيوعية، كان في ذلك القضاء على أهم قوة دافعة بالجهاز
الاقتصادي إلى الأمام، ومحركة له في اتجاه متصاعد.
الحاجة في نظر الإسلام والاشتراكية الماركسية
تعتمد الاشتراكية القائلة_: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله_
على العمل بصفته الجهاز الأساسي للتوزيع، فلكل عامل الحق في نتيجة
عمله مهما كانت هذه النتيجة ضئيلة أو كبيرة. وبذلك يلغى دور الحاجة
في التوزيع، فلا يقف نصيب العامل عند حاجته إذا كان ينتج في عمله
أكثر من حاجته، كما لا يحظى العامل بما يشبع حاجته كاملة إذا قصر به
عمله عن تقديم خدمة إنتاجية توازي ذلك، فلكل فرد إذن قيمة عمله
مهما كانت حاجته ومهما حققه العمل من قيمة.
وهذا يختلف عن وجهة نظر الإسلام في الحاجة، فإن لها في رأيه دوراً
إيجابياً مهماً، لأنها وإن لم تكن سبباً لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله
إذا زادت عن حاجته. غير أنها سبب فعال في التوزيع بالنسبة إلى الفئة
الثانية من فئات المجتمع، التي استعرضناها قبل دقائق، وهي الفئة التي
لا تملك من القدرة الفكرية والجسدية إلا الدرجة التي تسمح لها بالحصول على(1/51)
الحد الأدنى من ضرورات الحياة فإن هذه الفئة على الأسس الاشتراكية
الماركسية للإقتصاد يجب أن تقنع بثمار عملها الضئيلة، وتستسيغ الفوارق
الكبيرة بين مستوى معيشتها ومستوى المعيشة العام للفئة الأولى، القادرة على
كسب العيش المرفه، لأن العمل وحده هو الذي يمارس التوزيع في ظل
الاشتراكية، فلا يمكن للعامل أن يطمع بأكثر من العيش الذي يرشحه له
عمله. وأما في ظل الاقتصاد الإسلامي فالأمر يختلف، لأن الإسلام لم
يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين، بل جعل للحاجة
نصيباً من ذلك، واعتبر عجز الفئة الثانية عن تحقيق المستوى العام للرفاه
لوناً من الحاجة، ووضع الأساليب والطرق المعينة لمعالجة هذه الحاجة.
فالعامل الموهوب الطيب الحظ لن يحرم مما زاد على حاجته من نتاج عمله،
ولكن العامل الذي لم يمنح إلا الحد الأدنى من الطاقة العملية، سوف يحصل
على نصيب أكبر من نتاجه.
وهناك نقطة خلاف فكري أخرى بين الإسلام والاشتراكية الماركسية،
حول الفئة الثالثة من فئات المجتمع الثلاث، التي حرمت من العمل بسبب
طبيعة تكوينها الفكري والجسدي. والاختلاف بين الإسلام والاشتراكية
الماركسية حول هذه الفئة المحرومة ينبع من تناقض مفاهيمها عن علاقات
التوزيع.
وأنا لا أريد أن أتناول بهذا الصدد موقف العالم الاشتراكي اليوم من
الفئة الثالثة، ولا أحاول أن أكرر المزاعم القائلة: أن الفرد العاجز عن
العمل محكوم عليه في المجتمعات الاشتراكية بالموت جوعاً، لأنني أريد أن
أدرس المسألة من الوجهة النظرية لا التطبيقية، ولا أريد أن أتحمل مسؤولية
تلك المزاعم التي يرددها أعداء العالم الاشتراكي عنه.
فمن الناحية النظرية لا يمكن للاقتصاد الاشتراكي الماركسي أن يفسر
حق الفئة الثالثة في الحياة، ويبرر حصولها على نصيب من الناتج العام في
عملية التوزيع، لأن التوزيع لا يقوم في رأي الماركسية على أساس خلقي(1/52)
ثابت، وإنما يحدد وفقاً لحالة الصراع الطبقي في المجتمع التي يمليها شكل
الإنتاج السائد، ولذلك تؤمن الماركسية: أن الرق وموت الرقيق تحت
السياط وحرمانه من ثمرات عمله.. كان شيئاً سائغاً في ظروف الصراع
الطبقي بين السادة والعبيد.
وعلى هذا الأساس الماركسي يجب أن يدرس حظ الفئة الثالثة من
التوزيع في ضوء مركزها الطبقي، ما دامت حظوظ الأفراد في التوزيع
تحدد وفقاً لمراكزهم الطبقية في المعترك الاجتماعي.
ولما كانت الفئة الثالثة مجردة عن ملكية وسائل الإنتاج وعن طاقة العمل
المنتج، فهي لا تندرج ضمن إحدى الطبقتين المتصارعتين:(الطبقة
الرأسمالية والطبقة العاملة)، ولا تشكل جزءاً من الطبقة العاملة في دور
انتصار العمال وإنشاء المجتمع الاشتراكي.
وإذا كان الأفراد العاجزون بطبيعتهم عن العمل منفصلين عن الصراع
الطبقي بين الرأسماليين والعمال، وبالتالي عن الطبقة العاملة التي تسيطر
على وسائل الإنتاج في المرحلة الاشتراكية فلا يوجد أي تفسير علمي على
الطريقة الماركسية يبرر نصيب هؤلاء من التوزيع، وحقهم في الحياة وفي
الثروة التي سيطرت عليها الطبقة العاملة، ما داموا خارج نطاق الصراع
الطبقي... وهكذا لا تستطيع الماركسية أن تبرر بطريقتها الخاصة ضمان
حياة الفئة الثالثة ومعيشتها في المرحلة الاشتراكية.
وأما الإسلام فهو لا يحدد عملية التوزيع على أساس الصراع الطبقي في
المجتمع، وإنما يحددها في ضوء المثل الأعلى للمجتمع السعيد، وعلى أساس
من القيم الخلقية الثابتة التي تفرض توزيع الثروة بالشكل الذي يضمن تحقيق
تلك القيم وإيجاد ذلك المثل، وتقليص آلام الحرمان بأكبر درجة ممكنة.
وعملية التوزيع التي ترتكز على هذه المفاهيم تتسع بطبيعة الحال للفئة
الثالثة، بوصفها جزءاً من المجتمع الإنساني الذي يجب أن توزع فيه الثروة.
بشكل يقلص آلام الحرمان إلى أبعد حد ممكن، تحقيقاً للمثل الأعلى للمجتمع(1/53)
السعيد، وللقيم الخلقية التي يقيم الإسلام العلاقات الاجتماعية عليها.
ويصبح من الطبيعي عندئذ أن تعتبر حاجة هذه الفئة المحرومة سبباً كافياً
لحقها في الحياة، وأداة من أدوات التوزيع: (وفي أموالهم حق معلوم
للسائل والمحروم).
الحاجة في نظر الإسلام والرأسمالية
وأما الاقتصاد الرأسمالي بشكله الصريح فهو على النقيض من الإسلام
تماماً في موقفه من الحاجة، فإن الحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من
الأدوات الإيجابية للتوزيع، وإنما هي أداة ذات صفة مناقضة ودور إيجابي
معاكس لدورها في المجتمع الإسلامي. فهي كلما اشتدت عند الأفراد
إنخفض نصيبهم من التوزيع، حتى يؤدي الإنخفاض في نهاية الأمر إلى
انسحاب عدد كبير منهم عن مجال العمل والتوزيع. والسبب في ذلك:
أن انتشار الحاجة وشدتها يعني: وجود كثرة من القوى العاملة المعروضة
في السوق الرأسمالية، تزيد عن الكمية التي يطلبها أرباب الأعمال،
ونظراً إلى أن الطاقة الإنسانية سلعة رأسمالية تتحكم في مصيرها قوانين
العرض والطلب، كما تتحكم في سائر سلع السوق.. فمن الطبيعي أن
ينخفض أجر العمل تبعاً لزيادة العرض على الطلب، ويستمر الانخفاض
وفقاً لهذه الزيادة، وحين ترفض السوق الرأسمالية امتصاص كل الكمية
المعروضة من القوى العاملة، ويمنى عدد كبير من ذوي الحاجة بالبطالة
نتيجة لذلك، يتحتم على هذا العدد الكبير أن يفعل المستحيل في سبيل أن
يبقى حياً، أو يتحمل آلام الحرمان والموت جوعاً.
وهكذا فإن الحاجة لا تعني شيئاً إيجابياً في التوزيع الرأسمالي، وإنما
تعني وفرة في المعروض من القوى العاملة، وليس أمام كل سلعة تمنى بزيادة
العرض على الطلب إلا أن ينخفض ثمنها ويجمد إنتاجها حتى تستهلك،
وتصحح النسبة بين العرض والطلب.
فالحاجة في المجتمع الرأسمالي تعني: إنسجاب الفرد من مجال التوزيع
وليست أداة للتوزيع.
الملكية الخاصة
حينما قرر الإسلام: أن العمل سبب للملكية وفقاً للميل الطبيعي في(1/54)
الإنسان إلى تملك نتائج عمله، واتخذ من العمل على هذا الأساس أداة
رئيسية للتوزيع.. انتهى من ذلك إلى أمرين:
أحدهما: السماح بظهور الملكية الخاصة على الصعيد الاقتصادي. فإن
العمل إذا كان أساساً للملكية، فمن الطبيعي أن توجد للعامل ملكية خاصة
للسلع التي تدخّل في إيجادها وجعلها مالاً، مثل المزروعات والمنسوجات
وما شاكلها.
ونحن حين نقرر: أن تملك الإنسان العامل للأموال التي أنتجها. تعبير
عن ميل طبيعي فيه نعني بذلك: أن في الإنسان ميلاً طبيعياً إلى الاختصاص
بنتائج عمله عن الآخرين، الأمر الذي يعبر عنه في المدلول الاجتماعي:
بالتملك، وأما نوعية الحقوق التي تترتب على هذا الاختصاص فلا تقرر
وفقاً لميل طبيعي، وإنما يقررها النظام الاجتماعي وفقاً لما يتبناه من أفكار
ومصالح. فمثلاً: هي من حق العامل الذي تملك السلعة بالعمل، أن يبذر
بها ما دامت مالاً خاصاً به؟ أو هل من حقه أن يستبدلها بسلعة أخرى، أو
أن يتجر بها وينمي ثروته عن طريق جعلها رأس مال تجاري أو ربوي؟..
إن الجواب على هذه الأسئلة وما شاكلها يقرره النظام الاجتماعي الذي
يحدد للملكية الخاصة حقوقها، ولا يتصل بالفطرة والغريزة.
ولأجل هذا تدخل الإسلام في تحديد حقوق الاختصاص هذه، فأنكر
بعضها واعترف بالبعض الآخر، وفقاً للمثل والقيم التي تبناها. فقد أنكر
مثلاً حق المالك في التبذير بماله أو الإسراف به في مجال الإنفاق، وأقر حقه
في الاستمتاع به دون تبذير أو إسراف، وأنكر حق المالك في تنمية أمواله
التي يملكه عن طريق الربا، وأجاز له تنميتها عن طريق التجارة ضمن
حدود وشروط خاصة وتبعاً لنظرياته العامة في التوزيع التي سوف ندرسها
في الفصول المقبلة إن شاء الله.
* * *
والأمر الآخر الذي يستنتج من قاعدة: إن العمل سبب الملكية: هو
تحديد مجال الملكية الخاصة وفقاً لمقتضيات هذه القاعدة. فإن العمل إذا كان(1/55)
هو الأساس الرئيسي للملكية الخاصة، فيجب أن يقتصر نطاق الملكية الخاصة
على الأموال التي يمكن للعمل أن يتدخل في إيجادها أو تركيبها، دون
الأموال التي ليس للعمل فيها أدنى تأثير.
وعلى هذا الأساس تنقسم الأموال بحسب طبيعة تكوينها وإعدادها:
إلى ثروات خاصة وعامة.
فالثروات الخاصة: كل مال يتكون أو يتكيف طبقاً للعمل البشري
الخاص المنفق عليه، كالمزروعات والمنسوجات، والثروات التي أنفق
عمل في سبيل استخراجها من الأرض والبحر أو اقتناصها من الجو فإن
العمل البشري يتدخل هنا: إما في تكوين نفس المال كعمل الزراع بالنسبة
إلى الناتج الزراعي، وإما في تكييف وجوده وإعداده بالصورة التي تسمح
بالاستفادة منه، كالعمل المبذول في استخراج الكهرباء من القوى المنتشرة
في الطبيعة، أو إخراج الماء أو البترول من الأرض. فالطاقة الكهربائية
والكميات المستخرجة من الماء أو البترول.. ليست مخلوقة للعمل البشري،
ولكن العمل هو الذي كيفها وأعدها بالصورة التي تسمح بالاستفادة منها.
وهذه الثروات التي يدخل العمل البشري في حسابها هي المجال المحدد
في الإسلام للملكية الخاصة، أي النطاق الذي سمح الإسلام بظهور الملكية
الخاصة فيه، لأن العمل أساس الملكية، وما دامت تلك الأموال ممتزجة
بالعمل البشري فللعامل أن يتملكها، ويستعمل حقوق التملك من استمتاع
واتجار وغيرهما.
وأما الثروات العامة فهي: كل مال لم تتدخل اليد البشرية فيه كالأرض،
فإنها مال لم تصنعه اليد البشرية. والإنسان وإن كان يتدخل أحياناً في
تكييف الأرض بالكيفية التي تجعلها صالحة للزراعة والاستثمار، غير أن
هذا التكييف محدود مهما فرض أمده، فإن عمر الأرض أطول منه، فهو
لا يعدو أن يكون تكييفاً لفترة محدودة من عمر الأرض. وتشابه الأرض
في ذلك رقبة المعادن والثروات الطبيعية الكامنة فيها، فإن مادة هذه المعادن
الكامنة في الأرض ليست مدينة للعمل البشري في تكوينها أو تكييفها،(1/56)
وإنما يتدخل العمل في الكميات المستخرجة منها، التي ينفق جهد في سبيل
إخراجها وفصلها عن بقية المواد الأرضية.
وهذه الثروات العامة بحسب طبيعتها_ أو عنوانها الأولي كما يقول
الفقهاء_ ليست مملوكة ملكية خاصة لفرد من الأفراد لأن أساس الملكية
الخاصة هو العمل، فالأموال التي لا يمتزج بها العمل لا تدخل في المجال
المحدد للملكية الخاصة، وإنما هي أموال مباحة إباحة عامة أو مملوكة ملكية
عامة.
فالأرض مثلاً_،بوصفها مالاً لا تدخل للعمل البشري فيه_ لا تملك
ملكية خاصة. والعمل الذي يبذل في إحياء الأرض وإعدادها، لما كان
تكييفاً مؤقتاً بمدة محدودة أقصر من عمر الأرض.. فهو لا يدرج الأرض
في مجال الملكية الخاصة، وإنما يجعل للعامل حقاً في الأرض يسمح له بالإنتفاع
بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك، لأنه يمتاز عليهم بما أنفق على
الأرض من طاقة. فمن الظلم أن يساوي بين الأيدي التي عملت وتعبت،
وبين أيد أخرى لم تعمل في الأرض ولم تتعب في سبيلها فلأجل ذلك ميز
العامل بحق في الأرض دون أن يسمح له بتملكها، ويستمر هذا الحق مادامت
الأرض متكيفة وفقاً لعمله، فإذا أهمل الأرض سقط حقه الخاص.
وهكذا يتضح أن القاعدة العامة هي: أن الملكية الخاصة لا تظهر إلا
في الأموال التي امتزجت في تكوينها وتكييفها بالعمل البشري، دون الأموال
والثروات الطبيعية التي لم تمتزج بالعمل، لأن سبب الملكية الخاصة هو
العمل، فما لم يكن المال مندرجاً ضمن نطاق العمل البشري لا يدخل في
مجال الملكية الخاصة.
وللقاعدة بالرغم من ذلك استثناءاتها، لاعتبارات تتعلق بمصلحة الدعوة
الإسلامية كما سنشير إليه فيما يأتي.
الملكية أداة ثانوية للتوزيع
ويأتي بعد العمل والحاجة دور الملكية بوصفها أداة ثانوية للتوزيع.
وذلك أن الإسلام حين سمح بظهور الملكية الخاصة على أساس العمل،
خالف الرأسمالية والماركسية معاً في الحقوق التي منحها للمالك، والمجالات(1/57)
التي فسح له بممارستها. فلم يسمح له باستخدام ماله في تنمية ثروته سماحاً
مطلقاً دون تحديد، كما صنعت الرأسمالية: فأجازت كل ألوان الربح.
ولم يغلق عليه فرصة الربح نهائياً، كما تفعل الماركسية: إذ تحرم الربح
والاستثمار الفردي للمال بمختلف أشكاله.. وإنما وقف الإسلام موقفاً
وسطاً: فحرّم بعض ألوان الربح كالربح الربوي، وسمح ببعض آخر
كالربح التجاري.
وهو في تحريمه لبعض ألوان الربح يعبر عن خلافه الأساسي مع
الرأسمالية في الحرية الاقتصادية، التي مر بنا نقدها في بحث(مع الرأسمالية)،
بوصفها أساساً للتفكير المذهبي الرأسمالي.
وسوف ندرس في بحوث مقبلة بعض ألوان الربح المحرم في الإسلام،
كالربح الربوي، ووجهة نظر الإسلام، في إلغائه.
كما أن الإسلام في سماحه بالربح التجاري يعبر عن خلافه الأساسي
مع الماركسية، في مفهومها عن القيمة والقيمة الفائضة، وطريقتها الخاصة
في تفسير الأرباح الرأسمالية، كما مر بنا في دراستنا للمادية التاريخية.
وباعتراف الإسلام بالربح التجاري أصبحت الملكية بنفسها أداة لتنمية
المال، عن طريق الاتجار وفقاً للشروط والحدود الشرعية، وبالتالي أداة
ثانوية للتوزيع، محدودة بحدود من القيم المعنوية والمصالح الاجتماعية التي
يتبناها الإسلام.
* * *
هذه هي الصورة الإسلامية للتوزيع، نستخلصها مما سبق ضمن هذه
السطور.
العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه أساساً للملكية، فمن يعمل في حقل
الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.
الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيراً عن حق إنساني ثابت في
الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي ويضمن إشباعها.
الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها
الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المباديء الإسلامية للعدالة
الاجتماعية، التي ضمن الإسلام تحقيقها كما سيأتي في شرح التفاصيل.
التداول
التداول(المبادلة) أحد الأركان الأساسية في الحياة الاقتصادية،(1/58)
وهو لا يقل أهمية عن الإنتاج والتوزيع، وإن كان متأخراً عنهما تاريخياً.
فإن الوجود التاريخي للإنتاج والتوزيع يقترن دائماً بالوجود الاجتماعي
للإنسان، فمتى وجد مجتمع إنساني فمن الضروري_ ليواصل حياته ويكسب
معيشته_ أن يمارس لوناً من ألوان الإنتاج، وأن يوزع الثروة المنتجة على
أفراده بأي شكل من أشكال التوزيع التي يتفق عليها. فلا حياة اجتماعية
للإنسان دون إنتاج وتوزيع. وأما المبادلة فليس من الضروري أن توجد
في حياة المجتمع منذ البدء. لأن المجتمعات في بداية تكوينها تعيش على
الأغلب لوناً من الاقتصاد البدائي المقفل، الذي يعني: قيام كل عائلة في
المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج إليه، دون الاستعانة بمجهودات الآخرين.
وهذا اللون من الاقتصاد المقفل لا يفسح مجالاً للمبادلة، مادام كل منتوج
يستوعب بإنتاجه كل حاجاته البسيطة ويكتفي بما ينتجه من سلع.. وإنما
تبدأ المبادلة دورها الفعال على الصعيد الاقتصادي، حين تتنوع حاجات
الإنسان وتنمو، وتتعدد السلع التي يحتاجها في حياته ويصبح كل فرد عاجزاً
بمفرده عن إنتاج كل ما يحتاجه من تلك السلع بأنواعها وأشكالها المختلفة،
فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده، ويأخذ كل منتج_ أو فئة
من المنتجين_ بالتخصص في إنتاج سلعة معينة من السلع المختلفة التي يحسن
إنتاجها أكثر من غيرها، ويشبع حاجاته الأخرى بمبادلة الفائض من السلع
التي ينتجها، بما يحتاجه من السلع التي ينتجها الآخرون، فتبدأ المبادلة في
الحياة الاقتصادية بوصفها وسيلة لإشباع حاجات المنتجين، بدلاً عن
تكليف كل منتج بإشباع حاجاته كلها بإنتاجه المباشر.
وهكذا تنشأ المبادلة تيسيراً للحياة، وتجاوباً مع اتساع الحاجات واتجاه
الإنتاج إلى التخصص والتطور.
وعلى هذا الأساس نعرف: أن المبادلة في الحقيقة تعمل في الحياة
الاقتصادية للمجتمع بوصفها واسطة بين الإنتاج والاستهلاك، أو بتعبير(1/59)
آخر بين المنتجين والمستهلكين. فالمنتج يجد دائماً عن طريق المبادلة المستهلك
الذي يحتاج إلى السلعة التي ينتجها، وهذا المستهلك بدوره ينتج سلعة من
نوع آخر ويحصل في المبادلة على المستهلك الذي يشتريها.
ولكن ظلم الإنسان_ كما يعبر القرآن الكريم_ الذي حرم الإنسانية
من بركات الحياة وخيراتها، وتدخّل في مجال التوزيع على حساب هذا
الحق أو ذاك.. سرى أيضاً إلى المبادلة حتى طوّرها وصيّرها أداة استغلال
وتعقيد، لا أداة إشباع للحاجات وتيسير للحياة، وواسطة بين الإنتاج
والادخار لا بين الإنتاج والإستهلاك. فنشأ عن الوضع الظالم للمبادلة من
المآسي وألوان الاستغلال، نظير ما نشأ عن الأوضاع الظالمة للتوزيع في
مجتمعات الرق والإقطاع، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية.
ولكي نشرح وجهة نظر الإسلام عن المبادلة لا بد لنا أن نعرف رأي
الإسلام في السبب الأساسي الذي جعل من المبادلة أداة ظالمة للاستغلال،
وما هي النتائج التي تمخض عنها، ثم ندرس الحلول التي تقدم بها الإسلام
للمشكلة، وكيف أعطى للمبادلة صيغتها العادلة وقوانينها التي تواكب
أغراضها الرشيدة في الحياة؟؟
* * *
وقبل كل شيء يجب أن نلاحظ أن للمبادلة شكلين:
أحدهما: المبادلة على أساس المقايضة.
والآخر: المبادلة على أساس النقد.
فالمبادلة على أساس المقايضة: مبادلة سلعة بأخرى وهذا الشكل هو
أسبق أشكال المبادلة تاريخياً، فقد كان كل منتج_ في المجتمعات الآخذة
بالتخصص وتقسيم العمل_ يحصل على السلع التي لا ينتجها نظير الفائض
من السلعة التي اختص بإنتاجها. فمن ينتج مائة كيلو من الحنطة يحتفظ
بنصف المبلغ مثلاً لإشباع حاجته، ويستبدل خمسين كيلو من الحنطة
بمبلغ معين من القطن الذي ينتجه غيره.
ولكن هذا الشكل من المبادلة(المقايضة)، لم يستطع أن ييسر التداول
في الحياة الاقتصادية، بل أخذ يزداد صعوبة وتعقيداً على مر الزمن كلما(1/60)
ازداد التخصص وتنوعت الحاجات، لأن المقايضة تضطر منتج الحنطة أن
يجد حاجته من القطن عند شخص يرغب في الحصول على الحنطة، وأما إذا
كان صاحب القطن بحاجة إلى فاكهة لا إلى حنطة، وليس لدى صاحب
الحنطة فاكهة.. فسوف يتعذر على صاحب الحنطة أن يحصل على حاجته
من القطن. وهكذا تتولد الصعوبات من ندرة التوافق بين حاجة المشتري
وحاجة البائع.
أضف إلى ذلك صعوبة التوافق بين قيم الأشياء المعدّة للمبادلة. فمن
كان يملك فرساً لا يستطيع أن يحصل عن طريقها على دجاجة، لأن قيمة
الدجاجة أقل من قيمة الفرس، وهو غير مستعد بطبيعة الحال للحصول
على دجاجة واحدة نظير فرس كاملة، ولا هي قابلة للقسمة حتى يحصل
على دجاجة نظير جزء منها.
وكذلك أيضاً كانت عمليات المبادلة تواجه مشكلة أخرى هي:
صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدة للمبادلة، إذ لا بد لقياس قيمة الشيء الواحد
من مقارنته بباقي الأشياء الأخرى، حتى تعرف قيمته بالنسبة إليها جميعاً.
لهذه الأسباب بدأت المجتمعات التي تعتمد على المبادلة تفكر في تعديل
المقايضة بشكل يعالج تلك المشاكل، فنشأت فكرة استعمال النقد بوصفه
أداة للمبادلة بدلاً عن السلعة نفسها. وظهر على هذا الأساس الشكل الثاني
للمبادلة، أي المبادلة على أساس النقد. فأصبح النقد وكيلاًُ عن السلعة التي
كان يضطر المشتري إلى تقديمها للبائع في المقايضة. فبدلاً عن تكليف صاحب
الحنطة_ في مثالنا_ بتقديم الفاكهة إلى صاحب القطن نظير القطن الذي
يشتريه منه.. يصبح بإمكانه أن يبيع حنطته نظير نقد، ثم يشتري بالنقد
القطن الذي يرغب فيه، وصاحب القطن بدوره يشترى الفاكهة التي يطلبها
بما حصل عليه من نقود.
* * *
ووكالة النقد عن السلعة في عمليات التداول، كفلت حل المشاكل
التي نجمت عن المقايضة وتذليل صعوباتها.
فصعوبة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع زالت، إذ لم يعد
من الضروري للمشتري أن يقدم إلى البائع السلعة التي يحتاجها، وإنما يكفي(1/61)
أن يقدم له النقد الذي يمكّنه من شراء تلك السلعة من منتجيها بعد ذلك.
وصعوبة التوافق بين قيم الأشياء قد ذللت، لأن قيمة كل سلعة أصبحت
تقدر بالنسبة للنقود وهي قابلة للقسمة.
كما أصبح من الميسور تقدير قيم الأشياء بسهولة، لأنها تقدر كلها
بالنسبة لسلعة واحدة، وهي النقد بوصفه المقياس العام للقيمة.
وكل هذه التسهيلات نتجت من وكالة النقد عن السلعة في مجالات
التداول.
وهذا هو الجانب المضيء المشرق من وكالة النقد عن السلعة، الذي
يشرح: كيف تؤدي الوكالة وظيفتها الاجتماعية التي خلقت لأجلها،
وهي تيسير عمليات التداول؟
ولكن هذه الوكالة لم تقف عند هذا الحد على مر الزمن، بل أخذت
تلعب دوراً خطيراً في الحياة الاقتصادية، حتى تمخض ذلك عن صعاب
ومشاكل لا تقل عن مشاكل المقايضة وصعابها، غير أن تلك مشاكل
طبيعية، وأما المشاكل الجديدة التي نتجت عن وكالة النقد فهي مشاكل
إنسانية، تعبر عن ألوان الظلم والاستغلال التي مهدت لها وكالة النقد عن
السلعة في مجالات التداول.
ولكي نعرف ذلك، يجب أن نلاحظ التطورات التي حصلت في عمليات
المبادلة نتيجة لتبدل شكلها، وقيامها على أساس النقد بدلاً عن قيامها على
أساس المقايضة المباشرة.
ففي المبادلة القائمة على أساس المقايضة، لم يكن يوجد حد فاصل بين
البائع والمشتري، فقد كان كل من المتعاقدين بائعاً ومشترياً في نفس الوقت،
لأنه يدفع سلعة إلى صاحبه ويتسلم نظيرها سلعة أيضاً. ولهذا كانت المقايضة
تشبع بصورة مباشرة حاجة المتعاقدين معاً، فيخرجان من عملية التداول
وقد حصل كل منهما على السلعة التي يحتاجها في استهلاكه أو إنتاجه،
كالحنطة أو المحراث. وفي هذا الضوء نعرف: أن الشخص في عصر
المقايضة لم يكن يتاح له أن يتقمص شخصية البائع، دون أن يكون مشترياً
في نفس الوقت، فلا بيع بدون شراء. والبائع يدفع بإحدى يديه سلعته إلى
المشتري بوصفه بائعاً، ليستلم منه بيده الأخرى سلعة جديدة بوصفه مشترياً.(1/62)
والبيع والشراء مزدوجان في عملية واحدة.
وأما في المبادلات القائمة على أساس النقد فالأمر يختلف اختلافاً كبيراً،
لأن النقد يضع حداً فاصلاً بين البائع والمشتري، فالبائع هو صاحب السلعة،
والمشتري هو الذي يبذل نقداً إزاء تلك السلعة. والبائع الذي يبيع حنطة
ليحصل على قطن، بينما كان يستطيع أن يبيع حنطة ويحصل على حاجته
من القطن في مبادلة واحدة، على أساس المقايضة. يصبح مضطراً الآن:
إلى القيام بمبادلتين ليحصل على طلبته، يقوم في إحداهما بدور البائع فيبيع
حنطته بنقد معين، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطناً بذلك
النقد. وهذا يعني فصل البيع عن الشراء، بينما كانا مزدوجين في المقايضة.
وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد، فسح
المجال لتأخير الشراء عن البيع. فالبائع لم يعد يمكنه أن يبيع حنطته نظير نقد
معين ويحتفظ بالنقد لنفسه، ويؤجل شراء القطن إلى وقت آخر.
وهذه الفرصة الجديدة التي وجدها البائعون بخدمتهم_ فرصة تأخير
الشراء عن البيع_ غيرت الطابع العام للبيوع والمبادلات. فبينما كان
البيع في عصر المقايضة، يستهدف منه دائماً شراء سلعة من السلع التي
يحتاجها البائع، أصبح للبيع في عصر النقد هدف جديد. فالبائع يتخلص
من سعته في المبادلة لا ليظفر بسلعة أخرى، بل ليحصل على مزيد من النقد
بوصفه الوكيل العام عن السلع، الذي يجعل بإمكانه شراء أي سلعة شاء في
كل حين.. وهكذا تحول البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود، ونشأت
عن ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجسداً في تلك النقود. لأن النقد
_ ونعني بوجه خاص النقود المعدنية والورقية_ يمتاز على سائر السلع فإن
أية سلعة أخرى لم يكن يجدي اكتنازها، لأن أكثر السلع تنقص قيمتها على
مر الزمن، وقد يتطلب الاحتفاظ بها وبجدتها إلى نفقات عديدة، ومن
ناحية أخرى: قد لا يتيسر لمالك تلك السلعة المكتنزة الظفر بما يطلبه المكتنز(1/63)
من سلع أخرى في وقت الحاجة، فلا يكون في اكتنازها ضمان الحصول
على شتى الطلبات في كل حين.
وعلى العكس من ذلك كله النقد، فإنه قابل للبقاء والادخار، ولا
يكلف اكتنازه شيئاً من النفقات، كما أنه بوصفه الوكيل العام عن السلع
يضمن للمكتنز قدرته على شراء أي سلعة شاء، في كل وقت.
وهكذا توفرت دواعي الاكتناز لدى المجتمعات التي بدأت المبادلة
فيها تقوم على أساس النقود، وعلى أساس النقود الذهبية والفضية بوجه خاص.
ونجم عن ذلك: أن تخلت المبادلة عن وظيفتها الصالحة في الحياة
الاقتصادية، كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت واسطة بين
الإنتاج والادخار. فالبائع ينتج ويبيع ويبادل منتوجه بنقد ليدخر هذا النقد
ويضمه إلى ثروته المكتنزة، والمشتري يقدم النقد إلى البائع ليحصل على
السلعة التي يبيعها، ثم لا يتمكن هو بعد ذلك أن يبيع منتوجه بدوره، لأن
البائع اكتنز النقد وسحبه من مجال التداول.
ونتج عن ذلك أيضاً اختلال كبير في التوازن بين كمية العرض وكمية
الطلب: ذلك أن العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة،
لأن كل منتج كان ينتج لإشباع حاجاته واستبدال الفائض عن حاجته بسلع
أخرى يحتاجها في حياته، من غير النوع الذي ينتجه. فالمنتوج دائماً يوازي
حاجته، أي أن العرض دائماً يجد طلباً مساوياً له. وبذلك تتجه أثمان السوق
إلى درجتها الطبيعية، التي تعبر عن القيم الحقيقية للسلع وأهميتها الواقعية في
حياة المستهلكين وبعد أن بدأ عصر النقد وسيطر النقد على التجارة، واتجه
الإنتاج والبيع اتجاهاً جديداً حتى أصبح الإنتاج والبيع لأجل اكتناز النقد
وتنمية الملك لا لأجل إشباع الحاجة. عند ذلك يختل طبعاً التوازن بين العرض
والطلب، وتلعب دواعي الاحتكار دورها الخطير في تعميق هذا التناقض
بين العرض والطلب، حتى أن المحتكر قد يخلق طلباً كاذباً فيشتري كل
أفراد السلعة من السوق لا لحاجته إليها بل ليرفع ثمنها، أو يعرض السلعة(1/64)
بأثمان دون كفلتها، بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الانسحاب
من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس.. وهكذا تتخذ الأثمان وضعاً غير
طبيعي، ويصبح السوق تحت سيطرة الاحتكار، ويتهاوى آلاف البائعين
والمنتجين الصغار كل حين، بين أيدي المحتكرين الكبار الذين سيطروا على
السوق.
ثم ماذا بعد ذلك؟! ليس بعد ذلك إلا أن نرى الأقوياء في الحقل
الاقتصادي، يغتنمون هذه الفرص التي أتاحها لهم النقد، فيتجهون نحو
الاكتناز بكل قواهم، نحو البيع لأجل الادخار، فيظلون ينتجون ويبيعون
ليسحبوا النقد المتداول في المجتمع إلى كنوزهم، ويمتصوه بالتدريج،
ويعطلوا وظيفة المبادلة كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، ويضطروا الكثرة
الكاثرة إلى مهاوي البؤس والفقر، وبالتالي يتوقف الاستهلاك، نظراً إلى
انخفاض المستوى الاقتصادي للجمهور وعجزهم عن الشراء، كما تتعطل
حركة الإنتاج، لأن انعدام القدرة الشرائية عند المستهلكين أو انخفاضها
يجرد الإنتاج من أرباحه، ويعم الكساد شعب الحياة الاقتصادية كلها.
* * *
ولا تقف مشاكل النقد عند هذا الحد، بل إن النقد قد أدى إلى مشكلة
قد تكون أخطر من المشاكل التي عرضناها. فلم يقتصر النقد على أن يكون
أداة اكتناز، بل أصبح أداة تنمية للمال عن طريق الفائدة التي يتقاضاها
الدائنون من مدينيهم، أو يتقاضاها أصحاب الأموال من المصارف الرأسمالية
التي يودعون أموالهم فيها.. وهكذا أصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية سبباً
لتنمية الثروة بدلاً عن الإنتاج، وانسحبت بذلك رؤوس أموال كثيرة
من حقل الإنتاج إلى صناديق الادخار في المصارف، وأصبح التاجر لا يقدم
على مشروع من مشاريع الإنتاج والتجارة، إلا إذا اطمأن إلى أن الربح
الذي يدرّه المشروع عادة أكثر من الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها عن
طريق إقراض ماله، أو إبداعه في المصارف.
وأخذت الأموال على أساس الفائدة الربوية تتسرب إلى الصيارفة منذ(1/65)
بداية العصر الرأسمالي، حيث أخذ هؤلاء يجذبون الكميات المكتنزة من النقد
عند مختلف الأفراد، عن طريق إغرائهم بالفائدة السنوية التي يتقاضاها
زبائن المصرف عن أموالهم التي يودعونها فيه، فتجمعت تلك الكميات
المختلفة في كنوز الصيارفة بدلاً عن استخدامها في الإنتاج المثمر، وقامت
على أساس هذا التجمع المصارف والبيوت المالية الكبيرة التي امتلكت زمام
الثروة في البلاد، وقضت على أي مظهر من مظاهر التوازن في الحياة
الاقتصادية.
* * *
هذا عرض سريع لمشاكل التداول أو المبادلة، وهو يوضح بجلاء أن
هذه المشاكل قد نبعت كلها من النقد وسوء استخدامه في مجال التداول،
إذ اتخذ أداة اكتناز وبالتالي أداة تنمية للملك.
وقد يلقي هذا ضوءاً على ما جاء في الحديث عن رسول الله (ص)
أنه قال:(الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان
قبلكم).
وعلى أي حال فقد عالج الإسلام هذه المشاكل النابعة من النقد،
واستطاع أن يعيد إلى التداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الإنتاج
والاستهلاك.
وتتلخص النقاط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول
فيما يلي:
أولاً: منع الإسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة
الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر في كل عام، حتى تستوعب النقد
المكتنز كله تقريباً إذا طال اكتنازه عدة سنين. ولهذا يعتبر القرآن اكتناز
الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار. لأن الاكتناز يعني بطبيعة الحال
التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً، لأن هذه الضريبة لدى أدائها
لا تفسح مجالاً أمام النقد للتجمع والاكتناز، فلا غرو إذا هدد القرآن
الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعدهم بالنار قائلاً: (والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى
عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنز تم
لأنفسكم فذوقوا ما كنت تكنزون).(1/66)
وعن هذا الطريق ضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والتبادل
والاستهلاك، وحال دون تسلله إلى صناديق الاكتناز والادخار.
وثانياً: حرم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه، وبذلك قضي
على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدي إليه من إخلال
بالتوازن الاقتصادي العام، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك
مستقلة بذاتها، ورده إلى دوره الطبيعي الذي يباشره بوصفه وكيلاً عاماً
عن السلع، وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها.
وقد يظن كثير ممن عاش التجربة الرأسمالية وألف ألوانها وأشكالها:
أن القضاء على الفائدة يعني القضاء على البنوك والمصارف، وتعطيل أجهزة
الحياة الاقتصادية وشل كل أعصابها وأوردتها التي تمونها تلك البنوك
والمصارف. ولكن هذا الظن إنما ينشأ عند هؤلاء نتيجة للجهل بواقع الدور
الذي تؤديه البنوك والمصارف في الحياة الاقتصادية، وبواقع الصورة
الإسلامية للتنظيم الاقتصادي الكفيل بعلاج سائر المشاكل التي تنجم عن
القضاء على الفائدة، وهذا ما سندرسه بتفصيل في بحث مقبل.
وثالثاً: أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة
على سير التداول والإشراف على الأسواق، للحيلولة دون أي تصرف
يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهد للتحكم الفردي
غير المشروع في السوق وفي مجال التداول.
وسوف نشرح هذه النقاط وندرسها بصورة موسعة في البحوث المقبلة
من الكتاب، التي نعرض فيها لتفاصيل الاقتصاد الإسلامي.(1/67)
عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي
المذهب الاقتصادي والإسلام:
من الأفضل قبل كل شيء_ ما دمنا نحاول دراسة مذهب اقتصادي
معين_ أن نتفق منذ البدء على المفهوم الذي نعنيه من كلمة(المذهب)
بالضبط، لنتبين في بداية الطريق معالم الهدف ونوعية المضمون، الذي
يجب على أي بحث في المذهب الاقتصادي أن يجليه ويحدده. فماذا تعنيه كلمة
المذهب؟. وما هو الفارق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد؟.
وما هي المجالات التي تعالج مذهبياً؟.
وعلى أساس الجواب على هذه الأسئلة، الذي يحدد معالم المذهب
الاقتصادي بشكل عام سوف نحدد طبيعة البحث الذي نمارسه في المذهب
الاقتصادي الإسلامي.
وبهذا الصدد يجب أن نستذكر ما قلناه عن مفهومي المذهب والعلم
في بحث سابق(1)، فقد جاء فيه: أن المذهب الاقتصادي للمجتمع عبارة
عن الطريقة التي يفضل المجتمع إتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها
العملية، وعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية
وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب
والعوامل العامة التي تتحكم فيها.
وهذا القدر من التمييز بين المذهب والعلم وإن كان يشير إلى الفارق
الجوهري بينهما، ولكنه لم يعد يكفي في الوقت الذي نحاول أن نكتشف
مذهباً اقتصادياً معيناً بالذات، أو أن نكوّن عنه فكرة محددة. فقد استخدمنا
ذلك التمييز الأساسي بين المذهب والعلم، لنتيح للقاريء أن يعرف نوعية
الاقتصاد الإسلامي الذي ندرسه، ويدرك في ضوء ذلك التمييز أن الاقتصاد
الإسلامي مذهب وليس علماً، لأنه الطريقة التي يفضل الإسلام إتباعها
في الحياة الاقتصادية، وليس تفسيراً يشرح فيه الإسلام أحداث الحياة
الاقتصادية وقوانينها.
ولتحقيق هذا الغرض والتأكيد على الطابع المذهبي للاقتصاد الإسلامي،
كان يكفي أن نقول عن المذهب: أنه طريقة، وعن العلم: أنه تفسير،
لنعرف أن الاقتصاد الإسلامي مذهب لا علم.
__________
(1) الكتاب الأول من اقتصادنا_ كلمة المؤلف ص 28-29.(1/1)
حسناً، ولكنا الآن يجب أن نعرف عن المذهب الاقتصادي أكثر من
هذا، لنستطيع أن نضبط في ضوء مفهومنا عنه المجالات التي يعمل فيها،
ثم نفحص كل ما يتصل من الإسلام بتلك المجالات.
ففي أي حقل يعمل المذهب الاقتصادي؟، وإلى أي مدى يمتد؟،
وما هي الصفة العامة التي نجدها في كل فكر اقتصادي مذهبي، لنجعل
من تلك الصفة علامة فارقة للأفكار المذهبية في الإسلام، التي نحاول جمعها
وتنسيقها في إطراد واحد؟
إن هذه الأسئلة تتطلب أن نعطي للمذهب المتميز عن العلم مفهوماً
محدداً، قادراً على الجواب عن كل هذه الأسئلة، ولا يكفي بهذا الصدد
القول: بأن المذهب مجرد طريقة.
* * *
إن هناك من يعتبر مجال المذهب مقتصراً على توزيع الثروة فحسب،
فلا علاقة للمذهب بالإنتاج، لأن عملية إنتاج الحنطة أو النسيج مثلاً تتحكم
فيها القوانين العلمية، ومستوى المعرفة البشرية بعناصر الإنتاج وخصائصها
وقواها، ولا تختلف عملية إنتاج الحنطة أو النسيج باختلاف طبيعة المذهب
الاقتصادي. فعلم الاقتصاد هو: علم قوانين الإنتاج. والمذهب الاقتصادي
هو: فن توزيع الثروة. وكل بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله
وتحسينها فهو من علم الاقتصاد، وذو صفة عالمية لا تتفاوت فيه الأمم
تبعاً لاختلاف مبادئها ومفاهيمها الاجتماعية، ولا يختص به مبدأ دون
مبدأ. وكل بحث يبين الثروة وتملكها والتصرف فيها فهو بحث مذهبي،
ومن النظام الاقتصادي وليس من علم الاقتصاد ولا يرتبط به، وإنما يرتبط
بإحدى وجهات النظر في الحياة التي تتبناها المذاهب المختلفة من رأسمالية
واشتراكية وإسلام.
وهذا الفصل بين العلم والمذهب_ علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي_
على أساس اختلاف المجال الذي يمارسه أحدهما عن مجال الآخر. ينطوي
على خطأ كبير، لأنه يؤدي إلى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية
نتيجتين لنوعية المجال المدروس. فإذا كان البحث في الإنتاج فهو بحث(1/2)
علمي، وإذا كان في التوزيع فهو بحث مذهبي. مع أن العلم والمذهب
مختلفان في طريقة البحث وأهدافه، لا في موضوعه ومجالاته. فالبحث
المذهبي يظل مذهبياً ومحافظاً على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصة،
ولو تناول الإنتاج نفسه. كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا
تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع العلم.
ولأجل ذلك نجد أن فكرة التخطيط المركزي للإنتاج_ التي تتيح
للدولة الحق في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه_ هي إحدى النظريات
المذهبية المهمة، التي تعتبر من مقومات بعض المذاهب أو الأنظمة الإشتراكية،
أو ذات الاتجاه الاشتراكي، مع أننا نعلم أن التخطيط المركزي للإنتاج
والسماح لهيئة عليا كالدولة بممارسة هذا التخطيط. لا يعني تملك تلك
الهيئة لوسائل الإنتاج، ولا يتصل بمسألة توزيع هذه الوسائل على الأفراد.
ففكرة التخطيط المركزي للإنتاج إذن فكرة مذهبية، تتصل بالمذهب
الاقتصادي، وليست بحثاً علمياً بالرغم من أنها تعالج الإنتاج لا التوزيع.
وعلى العكس قد نجد كثيراً من الأفكار التي تعالج قضايا التوزيع
تندرج في علم الاقتصاد، بالرغم من صلتها بالتوزيع دون الإنتاج
ف(ريكاردو) حين كان يقرر مثلاً: أن نصيب العمال من الثروة المنتجة،
الذي يتمثل فيما يتقاضونه من أجور، لا يزيد بحال من الأحوال عن القدر
الذي يتيح لهم معيشة الكفاف.. لم يكن يقصد بذلك أن يقرر شيئاً مذهبياً
ولا أن يطلب من الحكومات فرضه نظاماً اقتصادياً للأجور، كنظام الملكية
الخاصة والحرية الاقتصادية، وإنما كان يحاول أن يشرح الواقع الذي يعيشه
العمال والنتيجة الحتمية لهذا الواقع، بالرغم من عدم تبني الدولة لفرض
حد أعلى من الأجور، وإيمانها بالحرية الاقتصادية بوصفها دولة رأسمالية.
* * *
فالمذهب والعلم يدخلان في كل تلك المجالات ويدرسان الإنتاج
والتوزيع معاً، ولكن هذا يجب أن لا يؤدي بنا إلى عدم التمييز بينهما أو(1/3)
الخلط بين الطابع العلمي والمذهبي في البحث الاقتصادي، الأمر الذي
مني به بعض أولئك الذين يؤكدون على عدم وجود اقتصاد في الإسلام،
إذ لم يتح لهم أن يميزوا بشكل حاسم بين العلم والمذهب، فظنوا أن القول
بوجود اقتصاد إسلامي يستهدف ادعاء أن الإسلام سبق المفكرين الغربيين
في الإبداع العلمي للاقتصاد السياسي، وظنوا أيضاً أن القول بوجود اقتصاد
إسلامي يعني أننا سوف نجد لدى الإسلام فكراً اقتصادياً، وبحثاً علمياً في
قوانين الحياة الاقتصادية من إنتاج وتوزيع وغيرهما، نظير ما نجد في بحوث
(آدم سميث) و(ريكاردو) ومن إليهما من أقطاب الاقتصاد السياسي،
ولما كنا لا نجد في الإسلام بحوثاً من هذا القبيل، فليس الاقتصاد الإسلامي
إلا أسطورة وخيالاً مجنحاً.
ويمكن لهؤلاء أن يتنازلوا عن تأكيدهم على عدم وجود اقتصاد إسلامي
إذا عرفوا بوضوح، الفرق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد أو
ما يسمى بالاقتصاد السياسي، وعرفوا: أن الاقتصاد الإسلامي مذهب
وليس علماً.
فالمذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أساسية في الحياة الاقتصادية،
تتصل بفكرة: (العدالة الاجتماعية).
والعلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية، بصورة
منفصلة عن فكرة مسبقة أو مثل أعلى للعدالة.
ففكرة العدالة هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلاقة الفارقة
التي تميز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأن فكرة العدالة نفسها
ليست علمية، ولا أمراً حسياً قابلاً للقياس والملاحظة، أو خاضعاً للتجربة
بالوسائل العلمية، وإنما العدالة تقدير وتقويم خلقي. فأنت حين تريد أن
تعرف مدى العدالة في نظام الملكية الخاصة، أو تصدر حكماً على نظام
الفائدة الذي تقوم على أساسه المصارف بأنه نظام عادل أو ظالم.. لا تلجأ
إلى نفس الأساليب والمقاييس العلمية التي تستخدمها حينما تريد قياس
حرارة الجو، أو درجة الغليان في مائع معين، لأن الحرارة والتبخر ظاهرتان(1/4)
طبيعيتان يمكن إخضاعهما للحس العلمي، وأما العدالة فتلجأ في تقديرها إلى
قيم خلقية ومثل عليا، خارجة عن حدود القياس المادي.
فالعدالة إذن ليست فكرة علمية بذاتها، وهي لذلك حين تندمج بفكرة
تدمغها بالطابع المذهبي وتميزها عن التفكير العلمي. فمبدأ الملكية الخاصة،
أو الحرية الاقتصادية، أو إلغاء الفائدة أو تأميم وسائل الإنتاج.. كل
ذلك يندرج في المذهب، لأنه يرتبط بفكرة العدالة، وأما قانون تناقض
الغلة، وقانون العرض والطلب، أو القانون الحديدي للأجور.. فهي
قوانين علمية، لأنها ليست بصدد تقويم تلك الظواهر الاقتصادية. فقانون
تناقص الغلة لا يحكم بأن هذا التناقض عادل أو ظالم، وإنما يكشف عنه
بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة، كما أن قانون العرض والطلب لا يبرر
ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أو زيادة الطلب على أساس مفهوم معين عن
العدالة، وإنما يبرز الترابط موضوعياً بين الثمن وكمية العرض والطلب،
باعتباره ظاهرة من الظواهر الحتمية للسوق الرأسمالية، وكذلك الأمر
في قانون الأجور الحديدي، فهو يشرح الواقع المحتوم للعمال الذي يجعلهم
دائماً لا يحصلون في المجتمع الرأسمالي إلا على معيشة الكفاف، بقطع النظر
عما إذا كانت ضآلة نصيب العمال في التوزيع تتفق مع العدالة أو لا. فكل
القوانين العلمية لا ترتكز على فكرة العدالة، وإنما ترتكز على استقراء
الواقع وملاحظة مختلف ظواهره المتنوعة. وعلى العكس من ذلك القواعد
المذهبية التي تجسد دائماً فكرة معينة للعدالة.
وهذا الفصل الحاسم بين البحث المذهبي والبحث العلمي لا يمنع عن
اتخاذ المذهب إطاراً للبحث العلمي في بعض الأحيان، كما في قوانين العرض
والطلب، أو قانون الأجور الحديدي للعمال، فإن أمثال هذه القوانين إنما
تصدق علمياً وتنطبق على الواقع الذي تفسره.. في مجتمع رأسمالي يطبق
الرأسمالية المذهبية، فهي قوانين علمية ضمن إطار مذهبي معين، وليست(1/5)
عليمة ولا صحيحة ضمن إطار آخر، كما أوضحنا ذلك بكل تفصيل في
بحث سابق من هذا الكتاب(1).
وبمجرد أن نضع هذا الفصل الحاسم بين المذهب الاقتصادي وعلم
الاقتصاد، نعرف أن القول بوجود مذهب اقتصادي في الإسلام لا يعني
أن الإسلام يبحث في قوانين العرض والطلب، ويحدد مدى تأثير زيادتهما
أو انكماشهما على الثمن في السوق الحرة، وإنما يبحث بدلاً عن ذلك في
توفير الحرية للسوق، فيدعو إلى توفيرها له وصيانتها، أو إلى الإشراف
على السوق والتحديد من حريته، تبعاً للصورة التي يتبناها للعدالة.
وكذلك لا يبحث الإسلام في العلاقة وردود الفعل بين الفائدة والربح،
أو بين حركة رأس المال الربوي والتجارة، ولا في العوامل التي تؤدي إلى
زيادة الفائدة أو انخفاضها، وإنما يقوم نفس الفائدة والربح، ويصدر حكمه
على الاستثمار الربوي والتجاري، بما يتفق مع مفاهيمه عن العدالة.
ولا يبحث الإسلام أيضاً في ظاهرة تناقص إنتاج الغلة وأسبابها، وإنما
يبحث عما إذا كان من الجائز ومن العدل أن يوضح الإنتاج تحت إشراف
هيئة مركزية عليا.
* * *
نعرف من ذلك كله: أن وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول
لمشاكل الحياة الاقتصادية، ترتبط بفكرته ومثله في العدالة. وإذا أضفنا إلى
هذه الحقيقة: أن تعبيري(الحلال، والحرام) في الإسلام تجسيدان للقيم
والمثل التي يؤمن بها الإسلام، فمن الطبيعي أن ننتهي من ذلك إلى اليقين
بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي، لأن قصة الحلال والحرام في الإسلام تمتد
إلى جميع النشاطات الإنسانية، وألوان السلوك: سلوك الحاكم والمحكوم،
وسلوك البائع والمشتري، وسلوك المستأجر والأجير، وسلوك العامل والمتعطل
فكل وحدة من وحدات هذا السلوك هي إما حرام وإما حلال، وبالتالي
هي إما عدم وإما ظلم، لأن الإسلام إن كان يشتمل على نص يمنع عن
__________
(1) القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي) ص 263-270.(1/6)
سلوك معين سلبي أو إيجابي فهذا السلوك حرام، وإلا فهو حلال.
وإذا كانت كل ألوان النشاط في الحياة الاقتصادية خاضعة لقضية
الحلال والحرام، بما تعبر عنه هذه القضية من قيم ومثل، فمن حق البحث
في الإسلام أن يدعونا إلى التفكير في استخلاص وتحديد المذهب الاقتصادي،
الذي تعبر عنه قضية الحلال والحرام بقيمها ومثلها ومفاهيمها.
العلاقة بين المذهب والقانون:
كما عرفنا أن المذهب الاقتصادي يختلف عن علم الاقتصاد، كذلك
يجب أن نعرف الفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني أيضاً، فإن
المذهب هو: مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة
الاقتصادية، والقانون المدني هو: التشريع الذي ينظم تفصيلات العلاقات
المالية بين الأفراد وحقوقهم الشخصية والعينية. وعلى هذا الأساس لا يمكن
أن يعتبر المذهب الاقتصادي لمجتمع نفس قانونه المدني. فالرأسمالية مثلاً
بوصفها المذهب الاقتصادي لدول كثيرة في العالم ليست هي نفس القوانين
المدنية في تلك الدول، ولذا قد تختلف دولتان رأسماليتان في تشريعاتهما
القانونية، تبعاً لاتجاهات رومانية وجرمانية_مثلاًً_ مختلفة في التشريع
بالرغم من وحدة المذهب الاقتصادي فيهما، لأن تلك التشريعات القانونية
ليست من المذهب الرأسمالي. فليس من الرأسمالية_باعتبارها مذهباً
اقتصادياً_ الأحكام التي ينظم بها القانون المدني في الدولة الرأسمالية عقود
المقايضة من بيع وإيجار وقرض مثلاً. فلو قدمت هذه الأحكام باعتبارها
المضمون الرأسمالي للمذهب، كان ذلك ينطوي على التباس وخلط بين
النظريات الأساسية والتفصيلات التشريعية، بين المذهب والقانون، أي
بين النظريات الأساسية والتفصيلات التشريعية، بين المذهب والقانون، أي
بين النظريات الأساسية للرأسمالية في حرية التملك، وحرية التصرف،
وحرية الاستثمار، وبين التشريعات القانونية التي ترتكز على أساسها تلك
المباديء الرأسمالية في الحرية.(1/7)
ولأجل هذا يكون من الخطأ أن يقدم الباحث الإسلامي مجموعة من
أحكام الإسلام_ التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم_
ويعرضها طبقاً للنصوص التشريعية والفقهية، بوصفها مذهباً اقتصادياً
إسلامياً، كما يصنع بعض الكتّاب المسلمين، حين يحاولون دراسة المذهب
الاقتصادي في الإسلام، فيتحدثون عن مجموعة من تشريعات الإسلام التي
نظم بها الحقوق المالية والمعاملات، كالأحكام الشرعية بشأن البيع والإيجار
والشركة والغش والقمار وما إليها من تشريعات، فإن هؤلاء كمن يريد
أن يدرس ويحدد المذهب الاقتصادي للمجتمع في (انكلترة) مثلاً، فيقتصر في دراسة على القانون المدني لتلك البلاد وما يضمه من تشريعات، بدلاً
عن استعراض الرأسمالية ومبادئها الأساسية في حرية التملك والتصرف
والاستثمار، وما تعبر عنه هذه المباديء من مفاهيم وقيم.
ونحن حين نؤكد على ضرورة التمييز بين الكيان النظري للمذهب
الاقتصادي، وبين القانون المدني، لا نحاول بذلك قطع الصلة بينهما، بل
نؤكد في نفس الوقت على العلاقة المتينة التي تربط المذهب بالقانون،
بوصفهما جزئين من بناء نظري كامل للمجتمع. فليس المهم فقط أن
نرتفع إلى مستوى التمييز بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني، بل
لا بد أن ندرك باستيعاب أيضاً الروابط التي تشد أحدهما إلى الآخر،
باعتبارهما مندمجين في مركب عضوي نظري واحد.
فالمذهب الاقتصادي بنظرياته وقواعده يشكل قاعدة لبناء فوقي من
القانون، ويعتبر عاملاً مهماً في تحديد اتجاهه العام. وكون المذهب قاعدة
نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناءً علوياً لقاعدة يرتكز عليها،
فإن البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة، ويضم
طوابق متعددة يرتكز بعضها على بعض، ويعتبر كل طابق متقدم أساساً
قاعدة للطابق العلوي المشاد عليه. فالمذهب والقانون طابقان من البناء
النظري، والقانون هو الطابق العلوي منهما الذي يتكيف وفقاً للمذهب،(1/8)
ويتحدد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبر عنها ذلك المذهب.
ولنأخذ لأجل التوضيح مثالاً على ذلك من المذهب الرأسمالي الحر في
الاقتصاد، وعلاقاته بالقوانين المدنية على صعيدها النظري والواقعي،
لتتجسد لنا الصلة بين المذهب والقانون، ومدى تأثر القانون نظرياً وواقعياً
بالنظريات المذهبية.
ففي مجال الحقوق الشخصية من القانون المدني، نستطيع أن نفهم أثر
المذهب فيه، إذا عرفنا أن نظرية الالتزام_ وهي حجر الزاوية في القانون
المدني_ قد استمدت محتواها النظري من طبيعة المذهب الرأسمالي، في
الفترة التي طغت فيها الأفكار الرأسمالية على الحرية الاقتصادية، وسيطرت
مباديء الاقتصاد الحر على التفكير العام، فكان من نتيجة ذلك ظهور مبدأ
سلطان الإدارة في نظرية الالتزام، الذي يحمل الطابع المذهبي للرأسمالية
إذ يؤكد_ تبعاً لإيمان الرأسمالية بالحرية واتجاها الفردي_ على أن الإدارة
الخاصة للفرد هي وحدها مصدر جميع الالتزامات والحقوق الشخصية،
ويرفض القول بوجود أي حق لفرد على آخر، أو لجماعة على فرد، مالم
تكمن وراءه إرادة حرة يتقبل الفرد بموجبها ثبوت الحق عليه بملء حريته.
ومن الواضح أن رفض أي حق على الشخص مالم ينشيء ذلك الشخص
الحق على نفسه بملء إرادته، ليس إلا نقلاً أميناً للمضمون الفكري للمذهب
الرأسمالي_ وهو الحرية الاقتصادية_ من الحقل المذهبي الاقتصادي إلى
الحقل القانوني، ولذا نجد أن نظرية الالتزام حين تقام على أساس مذهبي
آخر في الاقتصاد، تختلف عن ذلك، وقد يتضاءل دور الإرادة فيها حينئذ
إلى حد بعيد.
ومن مظاهر نقل المضمون النظري للمذهب الرأسمالي إلى التفصيلات
التشريعية على الصعيد القانوني: سماح القانون المدني القائم على أساس
رأسمالي في تنظيماته، لعقود البيع والقرض والإيجار، ببيع كمية عاجلة
من الحنطة بكمية أكبر منها تدفع بعد ذلك، وبإقراض المال بفائدة معينة(1/9)
بنسبة مئوية، وباستئجار الرأسمالي عمالاً يستخدمهم في استخراج البترول
من الأرض بالوسائل التي يملكها لكي يتملك ذلك البترول.. إن القانون
حين يجيز كل ذلك، إنما يستمد في الحقيقة مبررات هذا الجواز من النظريات
الرأسمالية للمذهب، الذي يرتكز القانون عليه.
والأمر نفسه نجده أيضاً في مجال الحقوق العينية من القانون المدني:
فحق الملكية وهو الحق العيني الرئيسي، ينظمه القانون وفقاً للموقف العام
الذي يتخذه المذهب الاقتصادي من توزيع الثروة، فالرأسمالية المذهبية
حين آمنت بحرية التملك، وكانت تنظر إلى الملكية بوصفها حقاً مقدساً..
فرضت على الطابق الفوقي في البناء الرأسمالي، أن يسمح للأفراد بملكية
المعادن تطبيقاً لحرية التملك، وأن يقدم مصلحة الفرد في الانتفاع بما يملك
على أي اعتبار آخر، فلا يمنع الفرد عن ممارسة أمواله بالطريقة التي تحلو له
مهما كان أثر ذلك على الآخرين، ما دامت الملكية والحرية حقاً طبيعياً
للفرد، وليست وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد ضمن الجماعة.
وحين أخذ دور الحرية الاقتصادية يتضاءل، ومفهوم الملكية الخاصة
يتطور، بدأت القوانين المدنية تمنع عن تملك الفرد لبعض الثروات أو
المرافق الطبيعية، ولا تسمح له بالإساءة في استعمال حقه في التصرف
والانتفاع بماله.
فهذا كله يجلي علاقة التبعية بين القانون المدني والمذهب، إلى درجة
يجعل من الممكن التعرف على المذهب وملامحه الأصيلة عن طريق القانون
المدني. فالشخص الذي لم يتح له الإطلاع المباشر على المذهب الاقتصادي
لبلد ما، يمكنه أن يرجع إلى قانونه المدني، لا بوصفه المذهب الاقتصادي،
فإن المذهب غير القانون، بل باعتباره البناء العلوي للمذهب والطابق الفوقي
الذي يعكس محتوى المذهب وخصائصه العامة، ويمكنه عندئذ في ضوء
دراسة القانون المدني للبلد، أن يعرف بسهولة كون البلد رأسمالياً أو
اشتراكياً، بل وحتى الدرجة التي يؤمن البلد بها من الرأسمالية والاشتراكية.
تلخيص:(1/10)
تحدثنا حتى الآن عن الفرق بين المذهب الاقتصادي بشكل عام وعلم
الاقتصاد، والفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني، وعرفنا على
هذه الأساس أن من الخطأ أن نتحدث عن المذهب الاقتصادي الإسلامي
بوصفه علماً، أو باعتباره مجموعة من التشريعات في مستوى القانون المدني
الذي ينظم أحكام المعاملات وما إليها.
وليس هذا فقط، فقد عرفنا إلى ذلك أيضاً طبيعة العلاقة بين المذهب
والقانون، وسوف يكون لهذه العلاقة أثرها الكبير في العملية التي نمارسها
في هذا الكتاب، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
والآن وقد اتفقنا على وجود المذهب الاقتصادي في ألإسلام بتمييزه عن
علم الاقتصاد، وفرّقنا بين المذهب والقانون مع إدراك نوع العلاقة بينهما،
فلنتحدث عن العلمية التي نمارسها في هذا الكتاب بشأن الاقتصاد الإسلامي،
ونحدد نوعيتها ومعالمها الرئيسية، ونشرح منهجنا في ممارستها على ضوء
المعلومات السابقة عن المذهب بشكل عام وتميزه عن العلم والقانون، وعلى
ضوء نوع العلاقة التي تربط القانون المدني بالمذهب.
عملية اكتشاف وعملية تكوين:
إن العملية التي نمارسها في دراستنا للمذهب الاقتصادي الإسلامي
تختلف عن طبيعة العمل الذي مارسه الرواد المذهبيون الآخرون، فإن الباحث
الإسلامي يحس منذ البدء بالفارق الأساسي بين موقفه من المهمة التي يحاول
إنجازها، وموقف أي باحث مذهبي آخر ممن مارسوا عملية البحث المذهبي
في الاقتصاد، وبشروا بمذاهب اقتصادية معينة كالرأسمالية والاشتراكية.
وهذا الفارق الجوهري هو الذي يحدد لكل من البحثين، الإسلامي
وغيره، معالم الطريق، ونوع العملية التي يجب أن يمارسها البحث، وطابعها
المميز كما سنرى(بعد لحظات).
فالمفكر الإسلامي أمام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه
بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية،
وإبرازه بملامحه الأصيلة، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر(1/11)
الإمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإيحاءات
التجارب غير الأمينة التي مارست_ ولو إسمياً_ عملية تطبيق الإسلام،
والتحرر من أطر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكم في فهم الأشياء،
وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير.
إن محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول إلى
اقتصاد إسلامي مذهبي، هي وظيفة المفكر الإسلامي.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: بأن العملية التي نمارسها هي عملية
اكتشاف. وعلى العكس من ذلك المفكرون المذهبيون الذين بشروا بمذاهبهم
الرأسمالية والاشتراكية، فإنهم يمارسون عملية تكوين المذهب وإبداعه.
ولكل من عملية الاكتشاف وعملية التكوين خصائصها ومميزاتها،
التي تنعكس في البحث المذهبي الذي يمارسه المكتشفون الإسلاميون
والمبدعون الرأسماليون والاشتراكيون.
وأهم تلك الخصائص والمميزات تحديد سير العملية ومنطلقها.
ففي عملية تكوين المذهب الاقتصادي، وعندما يراد تشييد بناء نظري
كامل للمجتمع تأخذ الفكرة اطرادها وسيرها الطبيعي، فتمارس بصورة
مباشرة وضع النظريات العامة للمذهب الاقتصادي، وتجعل منها أساساً
لبحوث ثانوية وأبنية علوية من القوانين التي ترتكز على المذهب، وتعتبر
طابقاً فوقياً بالنسبة إليه، كالقانون المدني الذي عرفنا سابقاً تبعيته للمذهب
وقيامه على أساسه. فالتدرج في عملية تكوين البناء تدرّج طبيعي من الأساس
إلى التفريعات، ومن القاعدة إلى البناء العلوي، وبكلمة أخرى: من الطابق
المتقدم في البناء النظري العام للمجتمع إلى طابق أعلى منه.
وأما في عملية الاكتشاف للمذهب الاقتصادي، فقد ينعكس السير
ويختلف المنطلق، وذلك حينما نكون بصدد اكتشاف مذهب اقتصادي
لا نملك له أو لبعض جوانبه صورة واضحة، ولا صيغة محددة من قبل
واضعيه، كما إذا كنا لا نعرف أن المذهب يؤمن بمبدأ الملكية العامة أو
مبدأ الملكية الخاصة، أو لا نعرف الأساس النظري للملكية الخاصة في(1/12)
المذهب هل هو الحاجة أو العمل أو الحرية؟.
ففي هذه الحالة، ما دمنا لا نملك نصاً محدداً لواضعي المذهب الذي
يراد اكتشافه يبدد الغموض الذي يكتنف المذهب.. فلا بد من الفحص
عن طريقة أخرى لاستخدامها في اكتشاف المذهب، أو النواحي المظلمة منه.
وهذه الطريقة يمكننا تحديدها في ضوء علاقة التبعية التي شرحناها سابقاً
بين المذهب والقانون، فما دام القانون المدني طابقاً فوقياً بالنسبة إلى المذهب،
يرتكز عليه ويستمد منه اتجاهاته. فمن الممكن اكتشاف المذهب عن طريق
القانون، إذا كنا على علم بالقانون الذي يرتكز على ذلك المذهب المجهول.
وهكذا يصبح من الواجب على عملية الاكتشاف أن تفتش عن إشعاعات
المذهب في المجال الخارجي، أي عن أبنيته العلوية وآثاره التي ينعكس
ضمنها في مختلف الحقول، لتصل عن طريق هذه الإشعاعات والآثار إلى تقدير
محدد لنوعية الأفكار والنظريات في المذهب الاقتصادي، الذي يختفي وراء
تلك المظاهر.
وبهذا يتعين على عملية الاكتشاف أن تسلك طريقاً معاكساً للطريق الذي
سلكته عملية التكوين، فتبدأ من البناء العلوي إلى القاعدة، وتنطلق من جمع
الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورة محددة للمذهب، بدلاً عن الانطلاق من
وضع المذهب إلى تفريع الآثار.
وهذا تماماً هو موقفنا في عملية الاكتشاف التي نمارسها من الاقتصاد
الإسلامي، أو من جزء كبير منه بتعبير أصح، لأن بعض جوانب المذهب
الاقتصادي في الإسلام وإن كان بالامكان استنباطها مباشرة من النصوص،
ولكن هناك من النظريات والأفكار الأساسية التي يتكون منها المذهب
الاقتصادي ليس من الميسور الحصول عليها في النصوص مباشرة، وإنما
يتعين الحصول عليها بطريق غير مباشر، أي على أساس اللبنات الفوقية في
الصرح الإسلامي، وعلى هدى الأحكام التي نظم بها الإسلام العقود والحقوق.
فنحن ننطلق من الطابق العلوي وندرج منه إلى الطابق المتقدم لأننا(1/13)
نمارس عملية اكتشاف. وأما أولئك الذين يمارسون عملية التكوين ويحاولون
تشييد البناء لا اكتشافه، فهم يصعدون من الطابق الأول إلى الثاني، لأنهم
يمارسون عملية بناء وتكوين، والطابق الثاني لا يكون في عملية البناء
إلا أخيراً.
هكذا نختلف في موقفنا منذ البدء عن موقف الرواد المذهبيين من
الرأسماليين والاشتراكيين، بل نختلف أيضاً حتى عن أولئك الذين يدرسون
المذاهب الرأسمالية والاشتراكية دراسة اكتشاف وتحديد، لأن هؤلاء
بامكانهم دراسة هذه المذاهب عن طريق الاتصال بها مباشرة، وفقاً لصيغها
العامة التي بشر بها رواد تلك المذاهب، فليس التعرف على المذهب الاقتصادي
ل(آدم سميث) مثلاً متوقفاً على أن ندرس أفكاره القانونية في المجال المدني،
والطريقة التي يفضلها في تنظيم الالتزامات والحقوق، بل يمكننا الاندماج
ابتداءً مع فكره المذهب في المجال الاقتصادي. وعلى العكس من ذلك حين
نريد أن نتعرف على كثير من محتوى المذهب الاقتصادي الذي يؤمن به
الإسلام، فإننا ما دمنا لا نستطيع أن نجد الصيغة المحددة لذلك في مصادر
الإسلام، كما نجدها عند(آدم سميث) فسوف نضطر بطبيعة الحال إلى
تتبع الآثار، واكتشاف المذهب بصورة غير مباشرة، عن طريق معالمه
المنعكسة في لبنات فوقية من الصرح الإسلامي.
وهذا هو الذي يجعل عملية الاكتشاف التي يمارسها المفكر الإسلامي
تظهر أحياناً بشكل مقلوب، بل قد يبدو أنها لا تميز بين المذهب والقانون
المدني حين تستعرض أحكاماً إسلامية في مستوى القانون المدني، وهي
تريد أن تدرس المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنها في الواقع على
حق ما دامت تستعرض تلك الأحكام بوصفها بناءً علوياً للمذهب قادراً على
الكشف عنه، لا باعتبار أنها هي المذهب الاقتصادي والنظريات الاقتصادية
نفسها.
النظام المالي كالقانون المدني:
ومن الضروري بهذا الصدد أن نضيف إلى القانون المدني النظام المالي(1/14)
أيضاً، بوصفه أحد الأبنية العلوية للمذهب الاقتصادي، التي تعكس ملامحه
وتتكيف بمقتضياته. فكما يمكن الاستفادة في عملية الاكتشاف من إشعاعات
المذهب المنعكسة على القانون المدني، كذلك يمكن الاستفادة من إشعاعات
مذهبية مماثلة في النظام المالي.
وإذا أردنا أن نضرب مثلاً لهذا التأثير من المذهب الاقتصادي على
التنظيم المالي بوصفه بناءً علوياً للمذهب، فيمكننا أن نجد هذا المثال في صلة
المذهب الرأسمالي بالمالية العامة، كما استعنا سابقاً بتحديد صلته بالقانون
المدني على فهم العلاقة بين المذهب والقانون، فان من مظاهر الصلة بين
الرأسمالي والمالية العامة: تأثر فكرة (الدومين) (1) بالناحية المذهبية.
والدومين يعتبر في المالية أحد المصادر الرئيسية لإيرادات الدولة فقد تضاءلت
فكرة الدومين، وانكمش نطاق المشروعات التي تملكها الدولة، وكادت
أن تختفي من التنظيم المالي، تحت تأثير مبدأ الحرية الاقتصادية، حينما طغى
المذهب الرأسمالي وساد التفكير المذهبي للرأسمالية، الذي كان، من
مقتضاه عدم تدخل الدولة في النشاط الإنتاجي، حفاظاً على الحرية الاقتصادية
للأفراد، إلا في الحدود الضئيلة التي يعجز النشاط الفردي عن القيام بها.
وكان من الطبيعي لأجل ذلك أن تعتمد الدولة الرأسمالية في ماليتها العامة
على الضريبة، ونحوها من مصادر الإيرادات الأخرى. تم استأنف الدومين
وجوده بوصفه مصدراً مهماً واتسع نطاقه بعد ظهور الاتجاهات الاشتراكية
نحو التأميم، وتزلزل مبدأ الحرية الاقتصادية في التفكير الاقتصادي العام.
ومن مظاهر الصلة بين المذهب والمالية العامة: أن إيرادات الدولة
__________
(1) يراد بالدومين: تلك الأموال التي تكون مملوكة للدولة كالأراضي والغابات والمصانع
التي تملكها الدولة وتدر عليها ايراداً، كما تدر الأرضي والغايات والمصانع التي يملكه الأفراد
ملكية خاصة أرباحاً مختلفة على مالكيها.(1/15)
اختلفت وظيفتها تبعاً لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية التي تأثرت بها،
ففي الفترة التي ساد فيها المذهب الرأسمالي بأفكاره عن الحرية، كانت
الوظيفة الأساسية للإيرادات هي تغطية نفقات الدولة، بوصفها جهازاً
لحماية الأمن في البلاد والدفاع عنها، وعندما بدأت الأفكار الاشتراكية
تغزو الصعيد المذهبي أصبح للإيرادات مهمة أخرى أضخم، وهي علاج
سوء التوزيع والتقريب بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية، وفقاً للأفكار
المذهبية الجديدة. ولم تعد الدولة تكتفي من الإيرادات أو الضرائب بالقدر
الذي يغطي نفقاتها كجهاز، بل توسعت في ذلك بقدر ما تفرضه المهمة
الجديدة.
فهذه المظاهر تبرهن على تكييف المالية العامة للمجتمع تبعاً لقاعدته
المذهبية، كما يتكيف القانون المدني، الأمر الذي يجعل منها رصيداً لعملية
الاكتشاف، بوصفها طابقاً علوياً يشرف المكتشف منه على الطابق المتقدم
أي على المذهب الاقتصادي.
تلخيص واستنتاج:
على أساس ما تقدم يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام
الإسلام وتشريعاته التي تعتبر بناءً فوقياً للمذهب في نطاق عملية اكتشاف
المذهب، وإن لم تكن داخلة كلها في صميم المذهب ذاته.
ولأجل هذا سوف يتسع البحث في هذا الكتاب لكثير من أحكام
الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد
كما يتسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة
وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات، لأن هذا
الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب، وإنما هو كتاب
يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب، ويحدد لهذه العملية أسلوبها
وسيرها ومضمونها ونتائجها.
ولهذا أيضاً سوف نقتطف وننسق من أحكام الإسلام في المعاملات
والحقوق والضرائب ما يعد بناءً علوياً للمذهب، ويلقي ضوء عليه في عملية
الاكتشاف. وأما الأحكام التي لا تساهم في هذا الضوء، فهي خارجة عن
مجال البحث.(1/16)
فعلى سبيل المثال نذكر الربا، والغش، وضريبة التوازن، وضريبة
الجهاد. فإن الإسلام قد حرم الربا في المعاملة كما حرم الغش أيضاً، غير
أن تحريم الربا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف، لأنه
جزء من بناء علوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة، فهو يكشف عن القاعدة
العامة للتوزيع في الإسلام، كما سيأتي في بحث توزيع ما بعد الإنتاج. وأما
حرمة الغش فليس لها إطار مذهبي، ولذلك قد تتفق عليها قوانين جميع
البلاد المختلفة في مذاهبها الاقتصادية.
وكذلك الأمر في ضريبتي التوازن والجهاد، فإن الضريبة التي يشرعها
الإسلام لحماية التوازن_ كالزكاة مثلاً_ تدخل في عملية الاكتشاف،
دون ضريبة الجهاد التي يأمر بها الإسلام لتمويل جيش المجاهدين، فإنها
تتصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية، لا بالمذهب الاقتصادي في الإسلام.
عملية التركيب بين الأحكام:
حين نتناول مجموعة من أحكام الإسلام التي تنظم المعاملات وتحدد
الحقوق والالتزامات، لنجتازها إلا ما هو أعمق، إلى القواعد الأساسية التي
تشكل المذهب الاقتصادي في الإسلام.. يجب أن لا نكتفي بعرض أو فحص
كل واحد من تلك الأحكام، بصورة منعزلة ومستقلة عن الأحكام الأخرى،
لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحد من تلك الأحكام، إنما
تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني في أحكام الشريعة، فإن هذا
المستوى يسمح بعرض المفردات مستقلة بعضها عن البعض، لأن دراسة
أحكام الشريعة في مستوى القانون المدني لا تتخطى المجالات التفصيلية
لتلك الأحكام، وإنما تتكفل بعرض أحكام الإسلام التي تنظم عقود البيع
والإيجار والقرض والشركة مثلاً، وليست مكلفة بعد ذلك بعملية تركيب
بين هذه الأحكام، يؤدي إلى قاعدة عامة. وأما حين يكون درسنا لتلك
الأحكام وعرضنا لها جزءاً من عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، فلا
يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب، وإن اكتفت بحوث(1/17)
كثير من الإسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم علينا أن ننجز عملية تركيب
بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءاً من كل،
وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة
العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركب، وتصلح لتفسيره
وتبريره. وأما في طريقة العزل والنظرة الإنفرادية فلن نصل إلى اكتشاف.
فالغاء فائدة رأس المال في عقد القرض، والسماح بالكسب الناتج
عن إيجار وسيلة الإنتاج في عقد الإجارة، ومنع المستأجر عن أن يتملك
بسبب عقد الإجارة المادة الطبيعية التي يجوزها أجيره كل هذا الأحكام
لا بد_ بعد التأكد من صحتها شرعاً_ أن تدرس مترابطة، ويركب
بينها، ليتاح لنا الخروج منها بالقاعدة الإسلامية لتوزيع الثروة المنتجة،
التي تميز موقف الإسلام من التوزيع عن موقف المذهب الاشتراكي،
الذي يقيم توزيع الثروة المنتجة على أساس العمل وحده، وموقف المذهب
الرأسمالي الذي يقيم توزيعها على أساس العناصر المشتركة في تكوين الثروة
المنتجة، المادي منها والبشري.
المفاهيم تساهم في العملية:
ويمكننا أن نضع إلى صف الأحكام في عملية الاكتشاف: المفاهيم التي
تشكل جزءاً مهماً من الثقافة الإسلامية.
ونعني بالمفهوم: كل رأي للإسلام أو تصور إسلامي يفسر واقعاً
كونياً أو اجتماعياً أو تشريعياً. فالعقيدة بصلة الكون بالله تعالى وإرتباطه به
تعبير عن مفهوم معين للإسلام عن الكون(1). والعقيدة بأن المجتمع البشري
مرّ بمرحلة فطرة وغريزة، قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل
والتأمل تعبير عن مفهوم إسلامي عن المجتمع(2). والعقيدة بأن الملكية
__________
(1) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً)) النساء: 127.
(2) كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) البقرة: 213. (( وما
كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا)) يونس: 19.(1/18)
ليست حقاً ذاتياً، وإنما هي عملية استخلاف تعكس التصور الإسلامي
الخاص لتشريع معين، وهو الملكية للمال، فان المال في المفهوم الإسلامي
كله مال الله والله يستخلف الأفراد أحياناً للقيام بشأن المال، ويعبر عن هذا
الاستخلاف تشريعياً بالملكية.
فالمفاهيم إذن وجهات نظر، وتصورات إسلامية في تفسير الكون
وظواهره، أو المجتمع وعلاقاته، أو أي حكم من الأحكام المشترعة،
وهي لذلك لا تشتمل على أحكام بصورة مباشرة. ولكن قسماً منها بالرغم
من ذلك ينفعنا في محاولتنا للتعرف على المذهب الاقتصادي في الإسلام، وهو
ذلك القسم من المفاهيم الإسلامية الذي يتصل بالحياة الاقتصادية وظواهرها،
أو بأحكم الإسلام المشترعة فيها.
ولكي نوضح بشكل عام الدور الذي يمكن أن يؤديه هذا القسم من
المفاهيم، في سبيل تحديد معالم المذهب الاقتصادي في الإسلام، يجب أن
نتعجل النتائج التي سوف يسجلها بعض البحوث الآتية، وأن نستعير من
تلك البحوث مفهومين إسلاميين، دخلا في عملية اكتشاف المذهب التي
يمارسها هذا الكتاب.
وأحد هذين المفهومين هو: مفهوم الإسلام عن الملكية القائل بأن الله
تعالى استخلف الجماعة على المال والثروة في الطبيعة، وجعل من تشريع
الملكية الخاصة أسلوباً يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، من استثمار
المال وحمايته، وإنفاقه في مصلحة الإنسان فالملكية عملية يمارسها الفرد
لحساب الجماعة، ولحسابه ضمن الجماعة.
والمفهوم الآخر الذي نستعيره من البحوث المقبلة هو: رأي الإسلام
في التداول بوصفه ظاهرة مهمة من ظواهر الحياة الاقتصادية، فإنه يرى:
أن التداول بطبيعته الأصيلة يشكّل شعبة من الإنتاج فالتاجر حين يبيع منتجات
غيره يساهم بذلك في الإنتاج، لأن الإنتاج دائماً هو إنتاج منفعة وليس
إنتاج مادة، لأن المادة لا تخلق من جديد، والتاجر بجلبه للسلعة المنتجة
وإعدادها في متناول أيدي المستهلكين يحقق منفعة جديدة، بل لا منفعة(1/19)
للسلعة بالنسبة إلى المستهلكين بدون ذلك الإعداد. وكل اتجاه في التداول
يبعده عن واقعه الأصيل هذا، ويجعله عملية طفيلية مقصودة للاثراء فحسب،
ومؤدية إلى تطويل المسافة بين السلعة والمستهلك.. فهو اتجاه شاذ يختلف
عن الوظيفة الطبيعية للتداول.
ولنؤجل المدرك الإسلامي لهذين المفهومين وتوضيحه بشكل أوسع
إلى موضعه من الكتاب، ونقتصر على هذا القدر من العرض الذي تحتم علينا
القيام به التوضيح دور المفاهيم في العملية، بالرغم من أن ذلك يوقعنا في
شيء من التكرار.
ففي ضوء هذين النموذجين لمفاهيم الإسلام، نستطيع أن نستوعب
ونحدد الدور الذي يمكن أن تؤديه أمثال هذه المفاهيم على صعيد البحث وفي
عملية الاكتشاف.
فهناك من المفاهيم ما يقوم بدور الإشعاع على بعض الأحكام، وتيسير
مهمة فهمها من نصوصها الشرعية، والتغلب على العقبات التي تعترض
ذلك، فالمفهوم الأول_ الذي عرضناه قبل لحظات عن الملكية الخاصة_
يهيىء الذهنية الإسلامية، ويعدّها لتقبل نصوص شرعية تحد من سلطة
المالك، وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة للجماعة. لأن الملكية بموجب ذلك
المفهوم وظيفة اجتماعية، يسندها الشارع إلى الفرد، ليساهم
في حمل أعباء الخلافة التي شرف الله بها الإنسان على هذا الأرض،
وليست حقاً ذاتياً لا يقبل التخصيص والاستثناء فمن الطبيعي أن تخضع
الملكية لمتطلبات هذه الخلافة، ومن اليسير في هذا الضوء تقبّل نصوص تحد
من سلطة المالك، وتسمح بانتزاع المال من يد صاحبه في بعض الأحايين.
كالنصوص الإسلامية في الأرض، التي تؤكد على أن الأرض، إذا لم
يقم صاحبها باستثمارها ورعايتها، وفقاً لمتطلبات الخلافة.. تنتزع منه،
ويسقط حقه فيها، وتعطى لآخر.
وقد تردد كثير في الأخذ بهذه النصوص، لأنها تهدر حرمة الملكية
المقدسة. ومن الواضح أن هؤلاء المترددين، لو كانوا ينظرون إلى تلك
النصوص بمنظار المفهوم الإسلامي عن الملكية.. لما صعب عليهم الأخذ
بها، والتجاوب مع فكرتها وروحها.(1/20)
وبهذا نعرف: أن المفاهيم الإسلامية في الحقل الاقتصادي قد تشكّل
إطاراً فكرياً، يكون من الضروري اتخاذه لتتبلور ضمنه النصوص التشريعية
في الإسلام تبلوراً كاملاً، ويتيسر فهمها دون تردد.
ونحن نجد بعض تلك النصوص التشريعية قد لاحظت هذا المعنى بوضوح،
فأعطت المفهوم أو الإطار تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي فقد جاء في
الحديث بشأن الأرض وملكية الإنسان لها: (( إن الأرض لله تعالى، جعلها
وقفاً على عباده، فمن عطل أرضاً ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت
من يده، ودفعت إلى غيره )). فنحن نرى أن الحديث قد استعان بمفهوم
معيّن عن ملكية الأرض، ودور الفرد فيها، على توضيح الحكم بانتزاع
الأرض من مالكها وتبرير ذلك.
وبعض المفاهيم الإسلامية يقوم بإنشاء قاعدة يرتكز على أساسها ملء
الفراغ الذي أعطى لولي الأمر حق ملئه. فالمفهوم الإسلامي عن التداول
مثلاً الذي عرضناه سابقاً، يصح أن يكون أساسياً لاستعمال الدولة صلاحياتها
في مجالات تنظيم التداول، فتمنع_ في حدود الصلاحيات_ كل محاولة
من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج، وجعله عملية لإطالة الطريق بين
المستهلك والسلعة المنتجة، بدلاً عن أن يكون عملية إعداد للسلعة وإيصال
لها إلى يد المستهلك.
فالمفاهيم الإسلامية تقوم إذن بدور الإشعاع على النصوص التشريعية
العامة، أو بدور تموين الدولة بنوعية التشريعات الاقتصادية التي يجب أن
تملأ بها منطقة الفراغ.
منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي:
وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي، يجب أن
نعطي هذا الفراغ أهمية كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي،
لأنه يمثل جانباً من المذهب الاقتصادي في الإسلام. فان المذهب الاقتصادي
في الإسلام يشتمل على جانبين: أحدهما: قد مليء من قبل الإسلام بصورة
منجزة، لا تقبل التغيير والتبديل. والآخر: يشكّل منطقة الفراغ في
المذهب قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو(ولي الأمر) يملؤها وفقاً(1/21)
لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ومقتضياتها في كل زمان.
ونحن حين نقول: (منطقة فراغ)، فإنما نعني ذلك بالنسبة إلى
الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي
للإسلام، الذي عاشته الأمة في عهد النبوة. فان النبي الأعظم(ص)
قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي،
على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه (ص)
حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية،
الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي لذلك
الفراغ.. معبراًَ عن صيغ تشريعية ثابتة، وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر،
المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف.
ونريد أن نخلص من هذا إلى النتائج الآتية:
أولاً: أن تقويم المذهب الاقتصادي في الإسلام لا يمكن أن يتم بدون
إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدير إمكانيات هذا الفراغ، ومدى
ما يمكن أن تساهم عملية ملئه مع المنطقة التي ملئت من قبل الشريعة ابتداءً..
في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي.
وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير، فإن معنى ذلك تجزئة
إمكانيات الاقتصاد الإسلامي، والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر
الحركية.
وثانياً: أن نوعية التشريعات التي ملأ النبي(ص) بها منطقة الفراغ
من المذهب، بوصفه ولي الأمر.. ليست أحكاماً دائمية بطبيعتها، لأنها لم
تصدر من النبي بوصفه مبلغاً للأحكام العامة الثابتة، بل باعتباره حاكماً وولياً
للمسلمين. فهي إذن لا تعتبر جزءاً ثابتاً من المذهب الاقتصادي في الإسلام،
ولكنها تلقي ضوءاً إلى حد كبير على عملية ملء الفراغ التي يجب أن تمارس
في كل حين وفقاً للظروف، وتيسر فهم الأهداف الأساسية التي توخاها
النبي (ص) في سياسته الاقتصادية، الأمر الذي يساعد على ملء منطقة
الفراغ دائماً في ضوء تلك الأهداف.(1/22)
وثالثاً: إن المذهب الاقتصادي في الإسلام، يرتبط على هذا الأساس
ارتباطاً كاملاً بنظام الحكم في مجال التطبيق، فما لم يوجد حاكم أو جهاز
حاكم يتمتع بنفس ما كان الرسول الأعظم (ص) يتمتع به من الصلاحيات،
بوصفه حاكماً لا بوصفه نبياً لا يتاح ملء منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي
بما تفرضه الأهداف الإسلامية وفقاً للظروف، وبالتالي يصبح من المعتذر
تطبيق المذهب الاقتصادي كاملاً، بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه.
ومن الواضح أن هذا الكتاب ما دام يبحث في المذهب الاقتصادي،
فليس من وظيفته أن يتكلم عن نظام الحكم في الإسلام، ونوعية الشخص
أو الجهاز الذي يصح أن يخلف الرسول شرعاً في ولايته وصلاحياته، بوصفه
حاكماً ولا عن الشروط التي يجب أن تتوفر في ذلك الفرد أو الجهاز..
فان ذلك كله خارج عن الصدد. ولذا سوف نفترض في بحوث الكتاب
حاكماً شرعياً، يسمح له الإسلام بمباشرة صلاحيات النبي كحاكم،
ونستخدم هذا الافتراض في سبيل تسهيل الحديث عن المذهب الاقتصادي
ومنطقة الفراغ فيه، وتصوير ما يمكن أن يحققه من أهداف ويقدمه من ثمار.
* * *
وأما لماذا تركت في المذهب الاقتصادي الإسلامي منطقة فراغ، لم
تملأ من قبل الشريعة ابتداءً بأحكام ثابتة؟، وما هي الفكرة التي تبرر وجود
هذه المنطقة في المذهب، وترك أمر ملئها إلى الحاكم؟، وبالتالي ما هي
حدود منطقة الفراغ على ضوء الأدلة في الفقه الإسلامي؟ كل ذلك سوف
نجيب عليه في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى.
عملية الاجتهاد والذاتية:
عرفنا حتى الآن: أن الذخيرة التي نملكها في عملية اكتشاف المذهب
الاقتصادي في الإسلام هي الأحكام والمفاهيم. وقد آن لنا أن نقول كلمة
عن الطريقة التي نحصل بها على تلك الأحكام والمفاهيم، وما يحف هذه
الطريقة من مخاطر، لأننا إذا كنا سوف نكتشف المذهب الاقتصادي عن
طريق الأحكام والمفاهيم. فمن الطبيعي أن نتساءل: كيف سوف نصل إلى
هذه الأحكام. والمفاهيم نفسها؟.(1/23)
والجواب على هذا السؤال هو: أننا نلتقي بتلك الأحكام والمفاهيم
وجهاً لوجه وبصورة مباشرة في النصوص الإسلامية، التي تشتمل على
التشريع أو على وجهة نظر إسلامية معينة.
فليس علينا إلا أن نستحضر نصوص القرآن الكريم والسنة بهذا الصدد،
لنجمع العدد الكافي من الأحكام والمفاهيم، التي نصل بها في نهاية الشوط
إلى النظريات المذهبية العامة.
ولكن المسألة بالرغم من ذلك ليست مجرد تجميع نصوص فحسب،
لأن النصوص لا تبرز_ في الغالب_ مضمونها التشريعي أو المفهومي_
الحكم أو المفهوم_ إبرازاً صريحاً محدداً، لا يقبل الشك في أي جهة من
جهاته، بل كثيراً ما ينطمس المضمون أو تبدو المضامين مختلفة وغير
متسقة، وفي هذه الحالات يصبح فهم النّص واكتشاف المضمون المحدد،
من مجموع النصوص التي تعالج ذلك المضمون.. عملية اجتهاد معقدة لافهماً
بسيطاً.
ولا نحاول في هذا المجال أن نشير إلى طبيعة هذه العملية وأصولها
وقواعدها ومناهجها الفقهية، لأن ذلك كله خارج عن الصدد، وإنما
نريد في هذا الضوء أن نقرر حقيقة عن المذهب الاقتصادي، ونحذر من
خطر قد يقع خلال عملية الاكتشاف.
أما الحقيقة فهي: أن الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي،
لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم، فهي انعكاس لاجتهاد معين،
لأن تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة نتيجة لاجتهاد خاص
في فهم النصوص، وطريقة تنسيقها والجمع بينها. وما دامت الصورة التي
نكوّنها عن المذهب الاقتصادي اجتهادية. فليس من الحتم أن تكون هي
الصورة الواقعية، لأن الخطأ في الاجتهاد ممكن. ولأجل ذلك كان من
الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين. أن يقدموا صوراً مختلفة للمذهب
الاقتصادي في الإسلام، تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل تلك الصور
صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي، لأنها تعبر عن ممارسة عملية الاجتهاد
التي سمح بها الإسلام وأقرها، ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا(1/24)
تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً، بقطع النظر
عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام.
هذه هي الحقيقة. وأما الخطر الذي يحف بعملية الاكتشاف، القائمة
على أساس الاجتهاد من فهم الأحكام والمفاهيم في النصوص.. فهو خطر
العنصر الذاتي، وتسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد، لأن عملية الاكتشاف
كلما توفرت فيها الموضوعية أكثر، وابتعدت عن مظان العطاء الذاتي
كانت أدق وأنجح في تحقيق الهدف. وأما إذا أضاف الممارس خلال عملية
الاكتشاف، وفهم النصوص شيئاً من ذاته وساهم في العطاء، فإن البحث
يفقد بذلك أمانته الموضوعية، وطابعه الاكتشافي الحقيقي.
ويشتد الخطر ويتفاقم، عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص
التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة وحين تكون تلك النصوص
بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعاً مخالفاً كل المخالفة لطريقة النصوص
في علاج تلك القضايا، كالنصوص التشريعية والمفهومية المرتبطة بالجوانب
الاجتماعية من حياة الإنسان. ولأجل هذا كان خطر الذاتية على عملية
اكتشاف الاقتصاد الإسلامي أشد من خطرها على عملية الاجتهاد في أحكام
أخرى فردية: كالحكم بطهارة بول الطائر، أو حرمة البكاء في الصلاة،
أو وجوب التوبة على العاصي.
ولأجل تعاظم خطر الذاتية على العملية التي يمارسها، كان لزاماً علينا
كشف هذه النقطة بوضوح، وتحديد منابع هذا الخطر وبهذا الصدد يمكننا
أن نذكر الأسباب الأربعة التالية بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية:
أ _ تبرير الواقع.
ب _ دمج النص ضمن إطار خاص.
جـ _ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.
د _ اتخاذ موقف معني بصورة مسبقة تجاه النص.
أ_ تبرير الواقع
إن عملية تبرير الواقع هي: المحاولة التي يندفع فيها الممارس_ بقصد
أو بدون قصد_ إلى تطوير النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع
الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لامناص عنها نظير(1/25)
ما قام به بعض المفكرين المسلمين، ممن استسلم للواقع الاجتماعي الذي
يعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع
على أساس النص، فتأول أدلة حرمة الربا والفائدة. وخرج من ذلك بنتيجة
تواكب الواقع الفاسد، وهي: أن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً
مضاعفة، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً، يتعدى الحدود المعقولة
كما في الآية الكريمة: ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة،
واتقوا الله لعلكم تفلحون)). والحدود المعقولة هي: الحدود التي ألفها هذا
المتأول من واقعه في حياته ومجتمعه. وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه
الآية الكريمة، التي لم تكن تستهدف السماح بالفائدة التي لا تضاعف القرض،
وإنما كانت تريد لفت نظر المرابين إلى النتائج الفظيعة التي قد يسفر عنها
الربا، إذ يصبح المدين مثقلاً بأضعاف ما استقرضه، لتراكم فوائد الربا،
ونمو رأس المال الربوي نمواً شاذاً باستمرار يواكبه تزايد بؤس المدين
وانهياره في النهاية.
ولو أراد هذا المتأول أن يعيش القرآن خالصاً، وبعيداً عن إيحاءات
الواقع المعاش وإغرائه، لقرأ قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم
لا تظلمون ولا تظلمون) ويفهم أن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع
خاص من الربا الجاهلي، الذي يضاعف الدين أضعافاً مضاعفة، وإنما هي
مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة إلى رأس المال، التي تحدد له
مبررات نموه، وتشجب كل زيادة له منفصلة عن تلك المبررات، مهما
كانت ضئيلة، كما يقرره إلزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله، لا يظلم
ولا يُظلم.
ب_ دمج النص ضمن إطار خاص:
وأما عملية دمج النص ضمن إطار معين فهي: دراسة النص في إطار
فكري غير إسلامي. وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش،
وقد لا يكون. فيحاول الممارس أن يفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين،
فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله، واجتازه إلى نصوص(1/26)
أخرى تواكب إطاره، أو لا تصطدم به على أقل تقدير.
وقد رأينا سابقاً كيف أهملت نصوص تحد من سلطة المالك، وتسمح
أحياناً بانتزاع الأرض منه، وفضل عليها غيرها، لمجرد أن تلك النصوص
لا تتفق مع الإطار الفكري، الذي يشع بتقديس الملكية الخاصة بدرجة
يجعلها فوق سائر الاعتبارات.
وقد كتب فقيه_ معلقاً على النص القائل: بأن الأرض إذا لم يعمرها
صاحبها أخذها منه ولي الأمر واستثمرها لحساب الأمة: (( إن الأولى عندي
ترك العمل بهذه الرواية، فإنها تخالف الأصول والأدلة العقلية)) . وهو يعني
بالأدلة العقلية: الأفكار التي تؤكد قدسية الملكية. بالرغم من أن قدسية
الملكية ودرجة هذه القدسية يجب أن تؤخذ من الشريعة، وأما حين تقرر
بشكل مسبق، وبصورة تتيح لها أن تتحكم في فهم النص التشريعي.. فهذا
هو معنى الاستنباط في إطار فكري مستعار، وإلا فأي دليل عقلي على قدسية
الملكية، بدرجة تمنع عن الأخذ بالنص التشريعي الآنف الذكر؟!. وهل
الملكية الخاصة إلا علاقة اجتماعية بين الفرد والمال؟!. والعلاقة الاجتماعية
افتراض واعتبار، يشرعه المجتمع بين الفرد والمال؟!. والعلاقة الاجتماعية
افتراض واعتبار، يشرعه المجتمع أو أي مشرع آخر لتحقيق غرض معين،
فهو لا يدخل في نطاق البحث العقلي المجرد، ولا العقلي التجريبي.
وكثيراً ما نجد بعض الممارسين يستدل في مثل هذا المجال على حرمة
انتزاع المال من المالك: بأن الغصب قبيح عقلاً.. وهو استدلال عقيم،
لأن الغصب هو انتزاع المال بدون حق. والشريعة هي التي تحدد ما إذا كان
هذا الانتزاع بحق أم لا، فيجب أن نأخذ منها ذلك، دون أن نفرض عليها
فكرة سابقة. فإذا قررت: أن الانتزاع بغير حق، كان غصباً، وإذا
فرضت لشخص حقاً في الانتزاع لم يكن الانتزاع غصباً، وبالتالي لم يكن
قبيحاً.
وكتب فقيه آخر يستدل على تشريع الملكية الخاصة في الأرض:
((إن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتشتد الضرورة إليه، لأن الإنسان ليس(1/27)
كالبهائم، بل هو مدني بالطبع، لا بد له من مسكن يأوي إليه، وموضع
يختص به، فلو لم يشرع لزم الحرج العظيم، بل تكليف ما لا يطاق)).
وكلنا نعترف طبعاً: بوجود الملكية الخاصة في الإسلام، وفي الأرض
بوجه خاص أيضاً ولكن الشيء الذي لا نقرّه هو: أن يستمد الحكم في
الشريعة الإسلامية من الرسوخ التاريخي لفكرة الملكية، كما اتفق لهذا الفقيه
الذي لم تمتد أبعاده الفكرية، وتصوراته عن الماضي والحاضر والمستقبل.
خارج نطاق التاريخ الذي عاشته الملكية الخاصة، فكان يجد وراء كل
اختصاص في تاريخ حياة الإنسان، شبح الملكية الخاصة، يبرره ويفسره، حتى
لم يعد يستطيع أن يميز بين الواقع والشبح، فأخذ يعتقد أن الإنسان ما دام
بحاجة إلى الاختصاص بمسكن يأوي أليه،_ على حد تعبيره_ فهو بحاجة
إذن إلى أن يتملكه ملكية خاصة، ليختص به ويأوي إليه. ولو استطاع هذا
الممارس أن يميز بين سكنى الإنسان مسكناً خاصاً وبين تملكه لذلك المسكن
ملكية خاصة، لما خدع بالتشابك التاريخي بين الأمرين، ولأمكنه أن
يدرك بوضوح: أن تكليف ما لا يطاق إنما هو في منع الإنسان من اتخاذ
مسكن خاص، لا في عدم منحه الملكية الخاصة لذلك المسكن. فالطلاب
في مدينة جامعية، أو الأفراد في مجتمع اشتراكي.. يأوي كل منهم إلى
مسكن خاص دون أن يتملكه ملكية خاصة.
وهكذا نجد أن فقيهنا هذا اتخذ _ بدون قصد_ من الجلال التاريخي
للملكية الخاصة، وما يوحي به من أفكار عن ضرورتها للإنسانية.. إطاراً
لتفكيره الفقهي.
* * *
ومن الإطارات الفكرية التي تلعب دوراً فعالاً في عملية فهم النص:
الإطار اللغوي، كما إذا كانت الكلمة الأساسية في النص لفظاً مشحوناً
بالتاريخ أي ممتداً ومتطوراً عبر الزمن.. فمن الطبيعي أن يبادر الممارس
بصورة عفوية إلى فهم الكلمة، كما تدل عليه في واقعها، لا في تاريخها
البعيد. وقد يكون هذا المدلول حديثاً في عمر الكلمة، ونتاجاً لغوياً لمذهب(1/28)
جديد، أو حضارة ناشئة. ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النص الإنتباه
الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغوي حادث، لم يعش مع النص منذ
ولادته.
وقد يتفق أن تساهم عملية الاشراط الاجتماعي للملكية في تضليل
الممارس للنص عن الفهم الصحيح. فالكلمة حتى إذا كانت محتفظة بمعناها
الأصيل على مر الزمن، قد تصبح خلال ملابسات اجتماعية معينة بين
مدلولها فكر خاص أو سلوك معين_ مشروطة بذلك الفكر أو السلوك،
حتى ليطغى أحياناً مدلولها السيكولوجي_ على أساس عملية الاشراط التي
ينتجها وضع اجتماعي معين_ على مدلولها اللغوي الأصيل، أو يندمج
على أقل تقدير، المعطى اللغوي للكلمة بالمعطى الشرطي النفسي، الذي هو
في الحقيقة نتيجة وضع اجتماعي يعيشه الممارس، أكثر من كونه نتيجة
للكلمة ذاتها.
وخذ إليك مثلاً كلمة: (الاشتراكية) فقد أشرطت هذه الكلمة
خلال مذاهب اجتماعية حديثة عاشها الإنسان المعاصر.. بكتلة من الأفكار
والقيم والسلوك، وأصبحت هذه الكتلة تشكل إلى حد ما جزءاً مهماً من
مدلولها الاجتماعي اليوم، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرد تحمل
شيئاً من هذا الكتلة. ويناظرها كلمة: (الرعية) التي حمّلها تاريخ
الإقطاع تبعة كبيرة، وأشرطها بسلوك الإقطاعي صاحب الأرض مع
الاقنان الذين يزرعون له أرضه. فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة
الاشتراكية، أو كلمة الرعية كالنص القائل: الناس شركاء في الماء والنار
والكلأ. والنص القائل: إن للوالي على الرعية حقاً.. نواجه خطر الاستجابة
للاشراط الاجتماعي في تلك الكلمات، وإعطائها المعنى الاجتماعي الذي
عاشته بعيداً عن جو النص، بدلاً عن إعطائها المعنى اللغوي الذي ترمز إليه.
جـ _ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه:
تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، هو عملية تمديد للدليل
دون مبرر موضوعي.
وهذه العملية كثيراً ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية وهو(1/29)
ما يطلق عليه فقهياً اسم: (التقرير) ونظراً إلى أن هذا النوع من
الأدلة له أثر كبير على عملية الاجتهاد في الأحكام والمفاهيم، التي تتصل
بالمذهب الاقتصادي.. فمن الضروري أن نبرز الخطر الذي يتهدد هذا
الدليل نتيجة لتجريده عن ظروفه وشروطه.
ولنشرح أولاً معنى (التقرير): إن التقرير مظهر من مظاهر السنة
الشريعة، ونعني به سكوت النبي (ص) أو الإمام عن عمل معين يقع
على مرأى منه ومسمع، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام.
والتقرير على قسمين: لأنه تارة: يكون تقريراً لعمل معين، يقوم
به فرد خاص، كما إذا شرب أحد الفقاع أمام النبي (ص)، فسكت عنه،
فإن هذا السكوت يكشف عن جواز شربه في الإسلام. وأخرى: يكون
تقريراً لعمل عام، يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية، كما
إذا عرفنا من عادة الناس في عهد التشريع الإسلامي قيام الإفراد باستخراج
الثروات المعدنية، وتملكها بسبب استخراجها، فإن سكوت الشريعة عن
هذه العادة وعدم معارضتها.. يعتبر تقريراً منها ودليلاً على سماح الإسلام
للفرد باستخراج المادة الطبيعية وتملكها. هذا ما يطلق عليه في البحث
الفقهي اسم: العرف العام أو (السيرة العقلائية). ومرده في الحقيقة إلى
اكتشاف موافقة الشريعة على سلوك عام معاصر لعهد التشريع، عن طريق
عدم ورود النهي عنه في الشريعة، إذ لو لم تكن الشريعة موافقة على ذلك
السلوك الذي عاصرته، لنهت عنه. فعدم النهي دليل الموافقة.
ويتوقف هذا الاستدلال من الناحية الفقهية على عدة أمور:
فأولاً: يجب التأكد من وجود ذلك السلوك تاريخياً في عصر التشريع،
إذ لو كان السلوك متأخراً زمنياً عن عصر التشريع، لم يكن سكوت
الشريعة عنه دليلاً على رضاها به، وإنما يستكشف الرضا من السكوت،
إذا عاش السلوك عصر التشريع.
وثانياً: يجب التأكد من عدم صدور النهي من الشريعة عن ذلك
السلوك ولا يكفي عدم العلم بصدوره، فما لم يجزم الباحث بعدم صدور(1/30)
النهي ليس من حقه أن يستكشف سماح الإسلام بذلك السلوك، ما دام
من المحتمل أن تكون الشريعة قد نهت عنه.
وثالثاً: يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفرة في
ذلك السلوك بعين الاعتبار، لأن من الممكن أن يكون لبعض تلك الصفات
والشروط أثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه. فإذا ضبطناً جميع
الصفات والشروط، التي كانت تكتنف ذلك السلوك الذي عاصر التشريع،
أمكننا أن نستكشف من سكوت الشريعة عنه: سماحها بذلك السلوك
متى ما وجد ضمن تلك الصفات والشروط التي ضبطناها.
نستطيع الآن في ضوء هذا الشرح أن نفهم: كيف يتسرب العنصر
الذاتي إلى هذا الدليل، متمثلاً في تجريد السلوك من ظروفه وشروطه.
* * *
وعملية التجريد هذه تتخذ شكلين: ففي بعض الأحيان يجد الممارس
نفسه يعيش واقعاً عامراً بسلوك اقتصادي معين، ويحس بوضوح هذا
السلوك وأصالته وعمقه، إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على
إيجاده، والظروف الموقتة التي مهدت له. فيخيل له أن هذا السلوك أصيل،
وممتد في التاريخ إلى عصر التشريع، بينما هو وليد عوامل وظروف معينة
حادثة، أو من الممكن أن يكون كذلك على أقل تقدير. ولنذكر لذلك
على سبيل المثال: الإنتاج الرأسمالي في الأعمال والصناعات الاستخراجية.
فإن الواقع اليوم يغص بهذا اللون من الإنتاج، الذي يتمثل في عمل أجزاء
يستخرجون المواد المعدنية من ملح أو نفط، ورأسمالي يدفع إليهم الأجور،
ويعتبر نفسه لأجل ذلك مالكاً للمادة المستخرجة. وعقد الإجارة_ هذا
الذي يقوم بين الرأسمالي والعمال_ يبدو الآن طبيعياً في مضمونه ونتائجه
الآنفة الذكر_ أي تملك العامل للأجرة، وتملك الرأسمالي للمادة_ إلى
درجة قد تتيح للكثير أن يتصوروا هذا النوع من الاتفاق قديماً، بقدم
اكتشاف الإنسان للمعادن واستفادته منها، ويؤمنون على أساس هذا التصور:
بأن هذا النوع من الاجارة كان موجوداً في عصر التشريع. ومن الطبيعي(1/31)
أن ينتج عن ذلك: التفكير في الاستدلال على جواز هذه الإجارة، وتملك
الرأسمالي للمادة المستخرجة.. بدليل التقرير، فيقال: إن سكوت الشريعة
عن هذه الإجارة وعدم نهيها عنها دليل على سماح الإسلام بها.
ولا نريد هنا أن نقول شيئاً عن هذا الإجارة ومقتضياتها من الناحية
الفقهية، ولا عن أقوال الفقهاء الذين يشكون فيها أو في مقتضياتها.. فإننا
سوف ندرس الحكم الشرعي لهذه الاجارة ومقتضياتها بكل تفصيل في
بحث مقبل، ونستعرض جميع الأدلة التي يمكن الاستناد إليها في الموضوع
إيجابياً أو سلبياً.. وإنما نريد هنا أن ندرس فقط الاستدلال على تلك الإجارة
ومقتضياتها بدليل التقرير، لنبرز شكلاً من تجريد السلوك عن شروطه
وظروفه. فإن هؤلاء الذين يستدلون بدليل التقرير على صحة تلك الإجارة
ومقتضياتها لم يعيشوا عصر التشريع، ليتأكدوا من تداول هذا النوع من الإجارة
في ذلك العصر، وإنما شهدوا تداولها في واقعهم المعاش، وأدى رسوخها في
النظام الاجتماعي السائد إلى الإيمان بأنها ظاهرة مطلقة، ممتدة تاريخياً إلى
عصر التشريع. وهذا هو الذي نعنيه بتجريد السلوك من ظروفه وشروطه
دون مبرر موضوعي، وإلا فهل نملك دليلاً حقاً على أن هذا اللون من
الإجارة كان موجوداً وشائعاً في عصر التشريع الإسلامي؟! وهل يعلم
هؤلاء الذين يؤكدون على وجوده في ذلك العصر: أن هذا الإجارة هي
المظهر القانوني للإنتاج الرأسمالي، الذي لم يوجد تاريخياً على نطاق واسع
_ خصوصاً في ميادين الصناعة_ إلا متأخراً؟!
وليس معنى هذا الكلام: الجزم بنفي وجود الإنتاج الرأسمالي للمواد
المعدنية في عصر التشريع، أي العمل بأجرة في استخراجها، ولا تقديم
دليل على هذا النفي بل مجرد الشك في ذلك، وأنه كيف تتأصل ظاهرة معينة
وتبدو طبيعية حتى توحي باليقين بعمقها وقدمها، لمجرد أنها راسخة في
الواقع المعاش، مع عدم توفر أدلة منطقية كاملة على قدمها تاريخياً،
وانفصالها عن ظروف مستجدة.(1/32)
هذا هو الشكل الأول من عملية التجريد_ تجريد السلوك المعاش عن
ظروفه الواقعية_ وتمديده تاريخياً إلى عصر التشريع.
* * *
وأما الشكل الآخر من عملية التجريد في دليل التقرير فهو ما يتفق
عندما ندرس سلوكاً معاصراً لعهد التشريع حقاً، ونستكشف سماح الإسلام
به من سكوت الشريعة عنه. فان الممارس في هذه الحالة قد يقع في خطأ
التجريد، عندما يجرد ذلك السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه،
ويعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به، ويعمم القول:
بأن هذا السلوك جائز وصحيح إسلامياً في كل حال. مع أن من الضروري
لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعياً: أن ندخل في حسابنا كل
حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك. فحين تتغير
بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيماً،
فإذا قيل لك مثلاً: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلاناً_
حين مرض على عهد النبي صل الله عليه وآله_ شرب الفقاع، ولم ينه
النبي (ص) عن ذلك.. كان لك أن تقول: أن دليل التقرير هذا وحده
لا يكفي دليلاً على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكل فرد، ولو كان
سليماً، لأن من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوزة لشربه بصورة
استثنائية. فمن الخطأ إذن أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن
ظروفه وخصائصه، ونعمم حكم ذلك السلوك بدون مبرر لكل سلوك
مشابه، وإن اختلف في الخصائص التي قد يختلف الحكم بسببها. بل يجب
أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الحالات الفردية والأوضاع الاجتماعية،
التي تكتنف السلوك المعاصر لعهد التشريع.
د_ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص:
ونقصد باتخاذ موقف معين تجاه النص: الاتجاه النفسي للباحث،
فإن للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص. ولكي تتضح فكرة
الموقف، نفترض شخصين يمارسان دراسة النصوص، يتجه أحدهما نفسياً
إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة من أحكام الإسلام(1/33)
ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأحكام التي تتصل
بالسلوك الخاص للأفراد. فإن هذين الشخصين بالرغم من أنهما يباشران
نصوصاً واحدة، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما
لتلك النصوص، فيحصل كل منهما على مكاسب أكبر فيما يتصل باتجاهه
النفسي وموقفه الخاص، وقد تنطمس أمام عينيه معالم الجانب الإسلامي
الذي لم يتجه إليه نفسياً.
وهذا الموقف النفسي الذي تفرضه ذاتية الممارس لا موضوعية البحث،
لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدي أحياناً إلى
التضليل في فهم النص التشريعي، والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه،
وذلك حينما يريد الممارس أن يفرض على النص موقفه الذاتي الذي اتخذه
بصورة مسبقة، فلا يوفق حينئذ إلى تفسيره بشكل موضوعي صحيح.
والأمثلة على هذا من الفقه عديدة. وقد يكون نهي النبي عن: منع
فضل الماء، والكلأ.. أوضح مثال من النصوص على مدى تأثر عملية
الاستنباط من النص، بالموقف النفسي للممارس. فقد جاء في الرواية:
أن النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين
أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ. وهذا النهي من
النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي
عام، ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر. كما يمكن
أيضاً أن يعبر عن أجراء معين، اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن
رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً
شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها ولي الأمر.
وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب
كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره
من نصوص.
وأما أولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة، فهم
يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، وينظرون(1/34)
دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة،
ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأمر، فيفسرون النص الآنف الذكر
على أساس أنه حكم شرعي عام(1).
وهذا الموقف الخاص في تفسير النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما
نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معينة
فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً، باعتباره
مبلغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست
بالتالي ما تعبر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة.
ضرورة الذاتية أحياناً:
ويجب أن نشير في النهاية إلى المجال الوحيد، الذي يسمح به للجانب
الذاتي، لدى محاولة تكوين الفكرة العامة المحددة عن الاقتصاد الإسلامي،
وهو مجال اختيار الصورة التي يراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام، من
بين مجموع الصور التي تمثل مختلف الاجتهادات الفقهية المشروعة، فقد
مر بنا أن اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهاد في فهم
النصوص وتنسيقها، والتوفيق بين مدلولاتها في إطراد واحد، وعرفنا أن
الاجتهاد يختلف ويتنوع، تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم
للنصوص، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر،
وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها. كما عرفنا أيضاً
أن الاجتهاد يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته،
ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة، ووفقاً للشروط
العامة التي لا يجوز اجتيازها.
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي،
ووجود صور عديدة له، كلها شرعي وكلها إسلامي. ومن الممكن
حينئذ أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة،
__________
(1) ويفرعون على هذا الأساس أن النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة، لأنهم
يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شراعاً، في كل زمان ومكان.(1/35)
وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام. وهذا
مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه، ويتحرر عن وصفه
مكتشفاً فحسب، وإن كانت هذه الذاتية لا تعدو أن تكون اختياراً،
وليست إبداعاً، فهي تحرر في نطاق الاجتهادات المختلفة، وليست تحرراً
كاملاً.
وقد مارس هذا الكتاب في بحوث سابقة، وسيمارس في بحوث مقبلة
هذا المجال الذاتي، كما ألمعنا إلى ذلك في المقدمة(1). فليس كل ما يعرض
من أحكام في هذا الكتاب، ويتبنى ويستبدل عليه، نتيجة لاجتهاد المؤلف
شخصياً. بل قد يعرض في بعض النقاط لما لا يتفق مع اجتهاده،
ما دام يعبر عن وجهة نظر اجتهادية أخرى، تحمل الطابع الإسلامي والصفة
الشرعية.
وأود أن أؤكد بهذه المناسبة على: أن ممارسة هذا المجال الذاتي،
ومنح الممارس حقاً في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة..
قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعلمية الاكتشاف التي
يحاولها هذا الكتاب، وليس أمراً جائزاً فحسب، أو لوناً من الترف
والتكاسل عن تحمّل أعباء ومشاق الاجتهاد في أحكام الشريعة. فإن من
المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية
في الاقتصاد، شاملة كاملة منسجمة مع بنائها العلوي وتفصيلاتها التشريعية
وتفريعاتها الفقهية إلا على أساس المجال الذاتي للاختيار.
وأنا أقول هذا نتيجة لتجربة شخصية عشتها في فترة إعداد هذا الكتاب،
ولعل من الضروري أن أجليها هنا لأبرز إحدى المشاكل التي يعانيها البحث
في الاقتصاد الإسلامي غالباً، وطريقة تغلّب هذا الكتاب عليها بممارسة
المجال الذاتي الآنف الذكر الذي منح لنفسه حق ممارسته.
فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم: أن القليل من أحكام الشريعة
الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية،
بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد
__________
(1) كلمة المؤلف ص 34.(1/36)
لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في
المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية.
والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب
والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل
نص على نقل أحد الرواة والمحدثين_ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة
قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين_ ومهما حاولنا أن ندقق
في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فإننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة
النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام
الراوي الأمين قد يخطيء ويقدم إلينا النص محرّفاً، خصوصاً في الحالات
التي لا يصل إلينا النص فيها إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد
منهم إلى الآخر، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً
من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فإننا لن نفهمه إلا كما
نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه، واستبطان بيئته التي
كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص
التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطيء أيضاً في طريقة التوفيق، فنقدم
هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص
استثناء في نص آخر ولم يصل إلينا الاستثناء، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا
للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه.
فالاجتهاد إذن عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب ومهما
كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع،
ما دام يحتمل خطأه في استناجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وإن بدأ
له صحيحا، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر
النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل
عنها الممارس أو عاثت بها القرون.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها،(1/37)
فإن الإسلام_ بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية_ قد سمح بها،
وحدد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن، ضمن قواعد
تشرح عادة في علم أصول الفقه، وليس على المجتهد إثم إذا اعتمد ظنه في
الحدود المسموح بها، سواء أخطأ أو أصاب.
وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل: أن توجد لدى كل
مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي، وإن كان
معذوراً فيها ويصبح من المعقول أيضاً: أن يكون واقع التشريع الإسلامي
في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزعاً هنا وهناك، بنسب متفاوتة في
آراء المجتهدين، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في
أخرى، ويكون الآخر على العكس.
وأمام هذا الواقع الذي شرحناه عن عملية الاجتهاد والمجتهدين،
لا يملك الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، إلا أن ينطلق في
اكتشافه من أحكام ثبتت باجتهاد ظني معين ليجتازها إلى ما هو أعمق
وأشمل، إلى نظريات الإسلام في الاقتصاد ومذهبه الاقتصادي.
ولكن علينا أن نتساءل: هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل
واحد من المجتهدين_ بما يضم من أحكام_ مذهباً اقتصادياً كاملاً،
وأسساً موحدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟.
ونجيب على هذا السؤال بالنفي، لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه
استنتاج تلك الأحكام معرض للخطأ، وما دام كذلك فمن الجائز أن يضم
اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام، قد أخطأ المجتهد
في استنتاجه، أو يفقد عنصراً تشريعياً إسلامياً لم يوفق المجتهد للظفر به في
النصوص التي مارسها. وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدى إليها اجتهاده
متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك، ويتعذر عندئذ الوصول إلى رصيد
نظري كامل يوحد بينها، أو تفسير مذهبي شامل يضعها جميعاً في إطراد
واحد.
ولهذا يجب أن نفرق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبي(ص)،(1/38)
وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين خلال ممارسته للنصوص.
فنحن نؤمن بأن واقع التشريع الإسلامي في المجالات الاقتصادية ليس
مرتجلاً، ولا وليد نظرات متفاصلة، ومنعزلة بعضها عن البعض، بل
إن التشريع الإسلامي في تلك المجالات يقوم على أساس موحد، ورصيد
مشترك من المفاهيم، وينبع من نظريات الإسلام وعمومياته في شؤون
الحياة الاقتصادية.
وإيماننا بهذا هو الذي جعلنا نعتبر الأحكام بناءً علوياً، يجب تجاوزه
إلى ما هو أعمق وأشمل، وتخطيه إلى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء
العلوي وينسجم معها، ويعبر عن عمومياتها في كل تفصيلاته وتفريعاته،
دون تناقض أو نشاز. ولولا الإيمان بأن أحكام الشريعة تقوم على أسس
موحدة، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشاف للمذهب، من وراء
الأحكام التفصيلية في الشريعة.
كل هذا صحيح بالنسبة إلى واقع التشريع الإسلامي. وأما بالنسبة إلى
هذا الاجتهاد أو ذاك من إجتهادات المجتهدين، فليس من الضروري أن
تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهباً اقتصادياً كاملاً، وأساساً
نظرياً شاملاً، ما دام من الممكن فيها أن تضم عنصراً غريباً أو تفقد عنصراً
أصيلاً بسبب خطأ المجتهد.
وقد يؤدي خطأ واحد في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في
عملية الاكتشاف رأساً على عقب، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب
الاقتصادي عن طريق تلك الأحكام.
ولهذا قد يواجه الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي محنة هي
محنة التناقض بين وصفه مكتشفاً للمذهب، ووصفه مجتهداً في استنباط
الأحكام. وذلك فيما إذا افترضنا: أن المجموعة من الأحكام التي أدى
إليها اجتهاده الخاص، غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي،
فالممارس في هذه الحالة بوصفه مجتهداً في استنباط تلك الأحكام، مدفوع
بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدى إليها اجتهاده، لينطلق
منها في اكتشافه للمذهب الاقتصادي. ولكنه بوصفه مكتشفاً للمذهب،(1/39)
يجب عليه أن يختار مجموعة متسقة من الأحكام، منسجمة في اتجاهاتها
ومدلولاتها النظرية، ليستطيع أن يكتشف على أساسها المذهب. وهو حين
لا يجد هذه المجموعة المتسقة في الأحكام، التي أدى إليها اجتهاده الشخصي،
يجد نفسه مضطراً إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى، مناسبة لعملية الاكتشاف.
ولنجسد المشكلة بصورة أوضح في المثال التالي:
مجتهد رأى أن النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل،
وتنفي تملكها بأي طريقة أخرى سوى العمل، ووجد لهذه النصوص استثناءً
واحداً في نص يقرر في بعض المجالات: التملك بطريقة أخرى غير العمل.
إن هذا المجتهد سوف تبدو له نتائج النصوص ومعطياتها_ حسب
اجتهاده_ قلقة غير متسقة. ومصدر هذا القلق وعدم الاتساق: النص
الاستثنائي، إذ لولاه لاستطاع أن يكشف على أساس مجموع النصوص
الأخرى: إن الملكية في الإسلام تقوم على أساس العمل. فماذا يصنع هذا
المجتهد، وبم يتغلب على التناقض بين موقفيه الاجتهادي والإكتشافي؟.
إن المجتهد الذي يواجه هذا التناقض يحتمل عادة تفسيرين لذلك القلق،
وعدم الاتساق بين الأحكام التي أدى إليها اجتهاده.
أحدهما: أن بعض النصوص التي مارسها غير صحيحة، كالنص
الاستثنائي في الفرضية التي افترضناها مثلاً، بالرغم من توفر الشروط التي
أمر الإسلام باتباع كل نص تتوفر فيه. وعدم صحة بعض النصوص أدى
إلى دخول عنصر تشريعي غريب في المجموعة التي يضمها اجتهاده من
أحكام، وأدى بالتالي إلى تنافر تلك الأحكام على الصعيد النظري وفي عملية
الاكتشاف.
والتفسير الآخر: أن هذا التنافر المحسوس بين عناصر المجموعة
سطحي، وليس له واقع: وإنما نتج إحساس الممارس به عن عدم قدرته
على الاهتداء إلى سر الواحدة بين تلك العناصر، وتفسيرها النظري المشترك.
وهنا يختلف موقف الممارس بوصفه مجتهداً يستنبط الأحكام، عن
موقفه بوصفه مكتشفاً للمذهب الاقتصادي فهو باعتباره مجتهداً يستنبط(1/40)
الأحكام لا يمكنه أن يتخلى في عمله عن الأحكام التي أدى إليها
اجتهاده، وإن بدت له متنافرة على الصعيد النظري، مادام يحتمل أن يكون
مرد هذا التنافر إلى عجزه عن استكناه أسرارها وأسسها المذهبية. ولكن
تمسكه بتلك الأحكام لا يعني قطعيتها، بل هي نتائج ظنية، ما دامت تقوم
على أساس الاجتهاد الظني الذي يبرر الأخذ بها، بالرغم من احتمال الخطأ.
وأما حين يريد هذا الفقيه أن يتخطى فقه الأحكام إلى فقه النظريات،
ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام..فإن طبيعة العملية
تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها، وتحتم أن تكون نقطة
الانطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام، فإن استطاع أن يجد هذه
المجموعة فيما يضمه اجتهاده الشخصي من أحكام، وينطلق منها في عملية
الاكتشاف لفهم الأسس العامة للاقتصاد الإسلامي، دون أن يمنى بتناقض
أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة.. فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية
الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً
للنظريات.
وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق
المناسبة.. فإن هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية، ولا على إيمانه: بأن
واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسر تفسيراً نظرياً متسقاً شاملاً. والسبيل
الوحيد الذي يتحتم على الممارس سلوكه في هذه الحالة: أن يستعين بالأحكام
التي أدت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين لأن في كل اجتهاد مجموعة
من الأحكام، تختلف إلى حد كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات
الأخرى.
وليس من المنطقي أن نتقرب اكتشاف مذهب اقتصادي وراء كل
مجموعة من تلك المجاميع، وإنما نؤمن بمذهب اقتصادي واحد، تقوم على
أساسه أحكام الشريعة الموجودة، ضمن تلك المجاميع، ففي حالة التنافر
بين عناصر المجموعة الواحدة، التي يتبناها اجتهاد الممارس. يتعين عليه
في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة، التي تؤدي إلى التناقض على(1/41)
الصعيد النظري، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى، أكثر
انسجاماً وتسهيلاً لعملية الاكتشاف، ويكوّن مجموعة ملفقة من اجتهادات
عديدة يتوفر فيها الانسجام، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف
الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفقة من الأحكام الشرعية.
وأقل ما يقال في تلك المجموعة: أنها صورة، من الممكن أن تكون
صادقة كل الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي. وليس إمكان
صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة، التي
يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي. وهي بعد ذلك تحمل مبرراتها الشرعية،
لأنها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة، تدور كلها في فلك الكتاب
والسنة. ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال
التطبيق، من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة، التي يجب عليه أن
يختار واحدة منها.
وهذا كل ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي،
عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق.
بل إن هذا هو كل ما نحتاج إليه تقريباً بهذا الصدد. وماذا نحتاج بعد أن
نكتشف مذهباً اقتصادياً، يتمتع بإمكان الصدق والدقة في التصوير، بدرجة
لا تقل عن حظ أي صورة اجتهادية أخرى، وتتوفر فيها مبررات النسب
الإسلامي، باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفاء، وتحمل من الإسلام رخصة
التطبيق في الحياة الإسلامية؟!.
خداع الواقع التطبيقي:
قد دخل المذهب الاقتصادي في الإسلام حياة المجتمع بوصفه النظام
السائد في عصر النبوة، وعاش على صعيد التطبيق مجسداً في واقع العلاقات
الاقتصادية، التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك. ولأجل
هذا يصبح من الممكن_ خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي_ أن
ندرسه ونبحث عنه على الصعيد التطبيقي، كما ندرسه ونبحث عنه على
الصعيد النظري. فإن التطبيق يحدد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه.
كما تحدد نصوص النظرية في مجالات التشريع.(1/42)
ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع
التطبيقي، لأن التطبيق نص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس
المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصور مغزاه الاجتماعي كاملاً،
فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص
التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس
الاكتشافية، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة.
ويكفي مثالاً على هذا الخداع: أن الممارس الذي يريد أن يتعرف
على طبيعة الاقتصاد الإسلامي من خلال التطبيق، قد يوحي إليه التطبيق
بأن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي، يؤمن بالحرية الاقتصادية، ويفسح
المجال أمام الملكية الخاصة والنشاط الفردي الحر، كما ذهب إلى ذلك_
بكل صراحة_ بعض المفكرين المسلمين، حين تراءى لهم أفراد المجتمع
الذين عاشوا تجربة الاقتصاد الإسلامي وهم أحرار في تصرفاتهم، لا يحسون
بضغط أو تحديد، ويتمتعون بحق ملكية أي ثروة يتاح لهم الاستيلاء عليها
من ثروات الطبيعة، وبحق استثمارها والتصرف فيها، وليست الرأسمالية
إلا هذا الانطلاق الحر، الذي كان أفراد المجتمع الإسلامي يمارسونه في
حياتهم الاقتصادية.
ويضيف البعض إلى ذلك: أن تطعيم الاقتصاد الإسلامي بعناصر
لا رأسمالية والقول: بأن الإسلام اشتراكي في اقتصاده، أو يحمل بذوراً
اشتراكية.. ليس عملاً أميناً من الممارس، وإنما هو مواكبة للفكر الجديد
الذي بدأ يسخط على الرأسمالية ويرفضها، ويدعو إلى تطوير الإسلام
بالشكل الذي يمكن أن يستساغ في مقاييس هذا الفكر الجديد.
وأنا لا أنكر أن الفرد في مجتمع عصر النبوة كان يمارس نشاطاً حراً،
ويملك حريته في المجال الاقتصادي إلى مدى مهم، ولا أنكر أن هذا قد
يعكس وجهاً رأسمالياً للاقتصاد الإسلامي... ولكن هذا الوجه الذي نحسه
خلال النظر من بعد إلى بعض جوانب التطبيق قد لا نحسه مطلقاً خلال دراسة
النظريات على الصعيد النظري.(1/43)
صحيح أن الفرد الذي كان يعيش عصر النبوة يبدو لنا الآن أنه كان
يتمتع بنصيب كبير من الحرية، التي قد لا يميز الممارس أحياناً بينها وبين
الحريات الرأسمالية، ولكن هذا الوهم يتبدد حين نرد التطبيق إلى النظرية
إلى النصوص التشريعية.
والسبب في هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق، بالرغم من أن كلا
منهما تعبير عن الآخر بشكل من الأشكال.. يكمن في الظروف التي كان
إنسان عصر التطبيق يعيشها، ونوع الإمكانات التي كان يملكها فإن المضمون
اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي، كان مختفياً في مجال التطبيق إلى
حد ما، بقدر ما كانت إمكانات الإنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة ويبرز
المضمون اللارأسمالي باطراد، ويتضح في مجال التطبيق الأمين للإسلام،
بقدر ما ترتفع تلك الإمكانات وتتسع تلك القدرة. فكلما امتدت قدرة
الإنسان، وتنوعت وسائله في السيطرة على الطبيعة.. انفتحت أمامه مجالات
أرحب للعمل والتملك والاستغلال، واتضح أكثر فأكثر تناقض النظرية
في الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية، وتجلى مضمونها اللارأسمالي من
خلال الحلول التي يضعها الإسلام للمشاكل المستجدة، عبر القدرة المتنامية
للإنسان على الطبيعة.
فإنسان عصر التطبيق كان يذهب مثلاً إلى منجم ملح أو غيره، ويحمل
ما يشاء من المواد المعدنية، دون منع من النظرية التي كانت لها السيادة،
ولا معرضة منها للملكية الخاصة لتلك المواد. فماذا يمكن أن توحي به هذه
الظاهرة في مجال التطبيق، إذا فصلت عن دراسة النصر التشريعي والفقهي
بشكل عام؟. إنها توحي بسيادة الحرية الاقتصادية في المجتمع، بدرجة
تشبه الوضع الرأسمالي للحرية في التملك والاستثمار.
وأما إذا نظرنا إلى النظرية من خلال النصوص، وجدنا أنها توحي
بشعور معاكس للشعور الذي أوحت به تلك الظاهرة في مجال التطبيق، لأن
النظرية في نصوصها تمنع أي فرد عن تملك المنابع المعدنية للملح أو النفط،(1/44)
ولا تسمح له باستخراج ما يزيد على حاجته منها. وهذا نقيض صريح
للرأسمالية التي تتبنى مبدأ الملكية الخاصة، وتفسح المجال أمام الفرد ليتملك
المنابع الطبيعية للثروة المعدنية، واستغلالها استغلالاً رأسمالياً، بقصد المزيد
من الأرباح. فهل يمكن لأحد أن يطلق على اقتصاد لا يعترف بحرية تملك
منابع الملح والنفط، ولا بأخذ المزيد من تلك المنابع، مما يضيق على الآخرين
ويضيع حقهم في الانتفاع بالمنبع.. هل يمكن أن يطلق على هذا الاقتصاد:
اسم الاقتصاد الرأسمالي؟!، أو أن يبعث في نفوسنا إحساساً باللون الرأسمالي
للمذهب نظير ما بعثه التطبيق من إحساس بذلك في نفوس البعض.
فيجب أن نعرف إذن: أن إنسان عصر التطبيق كان يستشعر الحرية
في مجالات العمل والاستغلال، وحتى الاستفادة من منابع الملح والبترول
مثلاً، لأجل أنه لم يكن يستطيع في الغالب_ بحكم ظروف الطبيعة،
وانخفاض مستوى وسائله وبدائيتها_ أن يعمل ويشتغل خارج الحدود
المسموح بها من قبل النظرية. فهو لا يتمكن مثلاً أن يستخرج من المادة
المعدنية كميات هائلة_ كالكميات الهائلة التي تستخرج اليوم_ لأنه لم
يكن مجهزاً ضد الطبيعة بما جهز به الإنسان الحديث، فلا يصطدم في واقع
حياته بتحديد الكمية التي يباح له استخراجها، لأنه مهما أراد أن يستخرج
بوسائله البدائية، فلن يستخرج في الغالب القدر الذي يضر بشركة الآخرين
معه في الانتفاع بالمعدن. وإنما يبرز أثر النظرية بشكل صارخ، وينعكس
تناقضها مع التفكير الرأسمالي، حين ترفع إمكانات الإنسان، وتنمو
قدرته على غزو الطبيعة ويصبح بإمكان أفراد قلائل أن يستغلوا معدناً بكامله،
ويجدوا في أسواق العامل المترابطة والمفتوحة كلها مجالاً لأعظم الأرباح.
وكذلك أيضاً نرى مثل هذا تماماً في النظرية، التي لا تسمح للفرد بأن
يملك من الثروات الطبيعية والمواد الخام_ كخشب الغابات مثلاً- إلا
ما يباشر بنفسه حيازته وإنتاجه. فإن هذه النظرية لا يمكن لإنسان عصر(1/45)
التطبيق أن يحس بها في حياته العملية إحساساً واضحاً عميقاً. ما دام العمل
في ذلك العصر يقوم بصورة عامة على أساس المباشرة وما بحكمها ولكن
حين تتضخم الكمية التي يمكن استخراجها وحيازتها تضخماً هائلاً، بسبب
الأدوات والآلات، مع كمية من النقد التي يمكن أن تسدد منها أجور
العمال. حين يتم كل ذلك، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد الاعتماد
على العمل المأجور، في استخراج وحيازة المواد الخام من ثروات الطبيعة.
وهذا ما تم فعلاً في الواقع المعاش، إذ أصبح العمل المأجور والإنتاج
الرأسمالي هو الأساس في استخراج وحيازة تلك المواد. وعند هذا فقط
يظهر بشكل بارز التناقض بين النظرية في الاقتصاد الإسلامي، وبين
الرأسمالية، ويبدو لكل ممارس_ ما لم يكن أعمى_: أن النظرية ليست
ذات طبيعة رأسمالية، وإلا فأي اقتصاد رأسمالي يحارب الأسلوب الرأسمالي
في حيازة الثروات الطبيعية؟!.
وهكذا نجد أن إنسان عصر الإنتاج الرأسمالي، الذي يملك الآلات
التي تقطع كميات هائلة من خشب الغابات في ساعة، وتوجد في محفظته
النقود التي تغري المتعطلين من العمال بالعمل عنده، واستخدام تلك الآلات
في اقتطاع الخشب، وتتوفر لديه وسائط النقل التي تنقل تلك الكميات
الضخمة إلى محلات البيع، وتوجد بانتظاره الأسواق التي تهضم كل تلك
الكميات.
إن هذا الفرد هو الذي سيشعر إذا عاش حياة إسلامية، بمدى مناقضة
لنظرية في الإسلام لمبدأ الحرية الاقتصادية في الرأسمالية، حينما لا تسمح
له النظرية بإقامة مشروع رأسمالي لاقتطاع الخشب من الغابة، وبيعه
بأغلى الأثمان.
فالنظرية إذن لم تبرز وجهها من خلال التطبيق الذي عاشته،
والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجل له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات
التي مارسها في حياته، وإنما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص
بصيغها العامة المحددة.
وأولئك الذين اعتقدوا بأن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي، يؤمن(1/46)
بالحريات الرأسمالية، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا
إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق، والقدر الذي كان يشعر
به من الحرية، ولكن هذا إحساس خادع، لأن إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً
عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها، التي تكتشف عن مضمون
لا رأسمالي.
وفي الواقع: أن الاعتقاد بوجود مضمون لا رأسمالي للنظرية الإقتصادية
في الإسلام على ضوء ما قدمناه.. ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي
جديد للنظرية، كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي،
الذين يتهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاهاً لا رأسمالياً،
ويقولون عنه: إنه اتجاه منافق، يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام،
تملقاً للمد الفكري الحديث، الذي شجب الرأسمالية في الحرية والملكية...
ونحن نملك الدليل التاريخي على تفنيد هذا الاتهام، وإثبات أمانة الاتجاه
اللارأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي، وهذا الدليل هو النصوص
التشريعية والفقهية، التي نجدها في مصادر قديمة، يرجع تاريخها إلى ما قبل
مئات السنين، وقبل أن يوجد العام الحديث والاشتراكية الحديثة، بكل
مذاهبها وأفكارها.
وحين نبرز الوجه اللارأسمالي للاقتصاد الإسلامي، الذي يعرضه هذا الكتاب،
ونؤكد على المفارقات بينه المذهب الرأسمالي في الاقتصاد.. لا نريد
بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعاً اشتراكياً، وندرجه في إطار المذاهب
الاشتراكية، بوصفها النقيض للرأسمالية. لأن التناقض المستقطب القائم
بين الرأسمالية والاشتراكية، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض،
ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتل مركز القطب الثالث، إذا أثبت
من الخصائص والملامح والسمات ما يؤهله لهذا الاستقطاب في معترك
التناقض. وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان، لأن
الاشتراكية ليست مجرد نفي للرأسمالية، حتى يكفي لكي تكون اشتراكياً(1/47)
أن ترفض الرأسمالية، وإنما هي مذهب إيجابي له أفكاره ومفاهيمه ونظرياته.
وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريات صواباً إذا كانت
الرأسمالية على خطأ. ولا أن يكون الإسلام اشتراكياً، إذا لم يكن رأسمالياً.
فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث، ونحن نمارس عملية
اكتشاف للاقتصاد الإسلامي.. أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض
الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية، ويندمج الاقتصاد الإسلامي بأحد
القطبين المتناقضين، فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسمالياً،
أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكياً.
وسوف تتجلى خلال البحوث المقبلة أصالة الاقتصاد الإسلامي، ومناقضته
للاشتراكية في موقفه من الملكية الخاصة واحترامه لها، واعترفه_ في
حدود مستمدة من نظرية العامة_ بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية
مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل. بينما لا تعترف الاشتراكية بمشروعية
الكسب الناتج عن ملكية أي مصدر من مصادر الإنتاج، إلا العمل المباشر
وهذا في الحقيقة هو التناقض بين النظرية الإسلامية والنظرية الاشتراكية في
الاقتصاد. وكل مظاهر التناقض بينهما إنما تنبع من هذا المنطلق، الذي
سيتضح أكثر فأكثر حين نباشر التفصيلات، ونضع النقاط على الحروف(1/48)
نظرية توزيع ما قبل الإنتاج
1- الأحكام
توزيع الثروة على مستوبين(1):
توزيع الثروة يتم على مستويين: أحدهما: توزيع المصادر المادية للإنتاج
والآخر توزيع الثروة المنتجة.
فمصادر الإنتاج هي: الأرض، والمواد الأولية، والأدوات اللازمة
لإنتاج السلع المختلفة. لأن هذه الأمور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو
الصناعي أو فيهما معاً.
وأما الثروة المنتجة فهي: السلع التي تنجز خلال عمل بشري مع
الطبيعة، وتنتج عن عملية تركيب بين تلك المصادر المادية للإنتاج.
فهناك إذن ثروة أولية وهي: مصادر الإنتاج، وثروة ثانوية وهي:
ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر، من متاع وسلع.
= د_ (ملكية الأمة): وهي نوع من الملكية العامة، وتعني ملكية الأمة الإسلامية بمجموعها
__________
(1) تترد في هذا الفصل عدة مصطلحات، يجب تحديد معناها منذ البدء:
أ_ (مبدأ الملكية المزدوجة) وهو المبدأ الإسلامي في الملكية، الذي يؤمن بأشكال ثلاثة
لها وهي: الملكية الخاصة، وملكية الدولة، والملكية العامة.
ب_ (ملكية الدولة): وتعني تملك المنصب الإلهي في الدولة الإسلامية الذي يمارسه النبي
أو الإمام: للمال، على نحو يخول لولي الأمر التصرف في رقبة المال نفسه وفقاً لما هو مسؤول
عنه من المصالح كتملكه للمعادن مثلاً.
جـ_ ( الملكية العامة): وهي تملك الأمة أو الناس جميعاً لمال من الأموال.
وكذلك تشمل الملكية العامة الأموال التي تكون رقبتها ملكاً للدولة ولكن لا يسمح لها بالتصرف
في رقبة المال نفسه لورود حق عام للأمة أو الناس جميعاً على المال يفرض الانتفاع به مع
الاحتفاظ برقبته فالمركب من ملكية الدولة والحق العام للأمة أو للناس جميعاً في الاحتفاظ برقبة
المال نطلق عليه اسم الملكية العامة أيضاً وبهذا يعرف أن ملكية الدولة والملكية العامة كمصطلحين
لهذا الكتاب يناظران تقريباً مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة للدولة في لغة
القانون الحديث.=(1/1)
وامتدادها التاريخي لمال من الأموال، كملكية الأمة الإسلامية للأرض العامرة المفتوحة بالجهاد.
هـ _(ملكية الناس): وهي أيضاً نوع من الملكية العامة، ونطلق هذا الاسم على كل مال
لا يسمح لفرد أو جهة خاصة بتملكه، ويسمح للجميع بالانتفاع به، فما كان من هذا القبيل من
الأموال نطلق عليه اسم: الملكية العامة للناس. فالملكية العامة للناس في مصطلح هذا الكتاب تعني:
أمراً سلبياً وهو عدم السماح للفرد أو الجهة الخاصة بتملك المال، وامرأ إيجابياً وهو السماح
للجميع بالانتفاع به، وذلك كما في البحار والأنهار الطبيعية.
و_ (الملكية العامة) أيضاً: وقد نطلق اسم الملكية العامة على ما يشمل الحقلين معاً،
حقل ملكية الدولة، وحقل الملكية العامة المتقدمين، للتعبير بذلك عما يقابل الملكية الخاصة.
ز_ (الملكية الخاصة): ونعني بها حين نطلقها في هذا الكتاب، اختصاص الفرد_ أو
أي جهة محدودة النطاق_ بمال معين، اختصاصاً يجعل له مبدئياً الحق في حرمان غيره من الانتفاع
به، بأي شكل من الأشكال، ما لم توجد ضرورة وحالة استثنائية، نظير ملكية الإنسان لما
يحتطبه من خشب الغابة أو يغترفه من ماء النهر.
حـ _(الحق الخاص): ونعني به حين نطلقه في هذا البحث: درجة من اختصاص الفرد
بالمال، تختلف عن الدرجة التي تعبر عنها الملكية في مدلولها التحليل والتشريعي. فالملكية:
اختصاص مباشر بالمال. والحق: اختصاص ناتج عن اختصاص آخر، وتابع له في استمراره.
ومن الناحية التشريعية: تؤدي الملكية إلى إعطاء المالك حق حرمان غيره من الاستفادة بملكه،
بينما لا يؤدي الحق الخاص إلى هذه النتيجة، بل يبقى للغير الاستفادة من المال بشكل تنظمه الشريعة.
ط_ (الإباحة العامة): وهي حكم شرعي، يسمح بموجبه لأي فرد بالانتفاع بالمال
وتملكه ملكية خاصة. والمال الذي تثبت فيه هذه الإباحة يعتبر من المباحات العامة، كالطير
في الجو. والسمك في البحر.(1/2)
والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين: الثرة الأم،
والثروة البنت، مصادر الإنتاج، والسلع المنتجة.
ومن الواضح أن توزيع المصادر الأساسية للإنتاج يسبق عملية الإنتاج
نفسها، لأن الأفراد إنما يمارسون نشاطهم الإنتاجي، وفقاً للطريقة التي
يقسم بها المجتمع مصادر الإنتاج. فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج،
وأما توزيع الثروة المنتجة فهو مرتبط بعملية الإنتاج، ومتوقف عليها، لأنه
يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج.
والاقتصاديون الرأسماليون، حتى يدرسون في اقتصادهم السياسي
قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي.. لا ينظرون إلى الثروة الكلية
للمجتمع، وما تضمه من مصادر إنتاج، وإنما يدرسون توزيع الثروة المنتجة
فحسب، أي الدخل الأهلي، لا مجموع الثروة الأهلية. ويقصدون بالدخل
الأهلي: مجموع السلع والخدمات المنتجة، أو بتعبير أصرح: القيمة النقدية
لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلاً، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو
بحث توزيع هذه القيمة النقدية على العناصر التي ساهمت في الإنتاج، فيحدد
لكل من رأس المال، والأرض، والمنظم، والعامل.. نصيبه على شكل
فائدة وريع، وربح وأجور.
ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع،
لأن التوزيع مادام يعني تقسيم القيمة النقدية للسلع المنتجة على مصادر الإنتاج
وعناصره.. فهو عملية تعقب الإنتاج، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها
أو توزيع قيمتها. وعلى هذا الأساس نجد أن الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج
هو الموضوع الأول من مواضيع البحث، فيدرس الإنتاج أولاً، ثم يتناول
قضايا التوزيع.
وأما الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب
أشمل، لأنه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولا يتهرب من الجانب
الأعمق للتوزيع، أي توزيع مصادر الإنتاج، كما صنعت الرأسمالية
المذهبية، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً، تحت(1/3)
شعار الحرية الاقتصادية، التي تخدم الأقوى وتمهد له السبيل إلى احتكار
الطبيعة ومرافقها بل إن الإسلام تدخّل تدخلاً إيجابياً في توزيع الطبيعة،
وما تضمنه من مصادر إنتاج، وقسمها إلى عدة أقسام، لكل قسم طابعه
المميز من الملكية الخاصة، أو الملكية العامة، وملكية الدولة، أو الإباحة
العامة.. ووضع لهذا التقسيم قواعده، كما وضع إلى صف ذلك أيضاً القواعد
التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتجة، وصمم التفصيلات في نطاق
تلك القواعد.
ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق، أو المرحلة الأولى في الاقتصاد
الإسلامي هي: التوزيع، بدلاً من الإنتاج، كما كان في الاقتصاد السياسي
التقليدي لأن توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عملية الإنتاج، وكل تنظيم
يتصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية.
وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسية،
توزيع الطبيعة بما تضمه من ثروات.
المصدر الأصيل للإنتاج:
وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتم توزيع المصادر الأساسية وفقاً لها،
يجب أن نحدد هذه المصادر.
ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أن مصادر الإنتاج هي:
1_ الطبيعة.
2_ رأس المال.
3_ العمل، ويضم التنظيم الذي يمارسه المنظم للمشروع.
غير أننا إذ نتحدث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيتها..
لابد لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين، وهما: رأس المال،
والعمل.
أما رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة، وليس مصدراً أساسياً
للإنتاج، لأنه يعبّر اقتصادياً عن كل ثروة تم إنجازها، وتبلورت خلال
عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أخرى. فالآلة التي تنتج
النسيج ليست ثروة طبيعية خالصة، وإنما هي مادة طبيعية، كيّفها العمل
الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة. ونحن إنما نبحث الآن في التفصيلات
التي تنظم توزيع ما قبل الإنتاج، أي توزيع الثروة التي منحها الله لمجتمع(1/4)
قبل أن يمارس نشاطاً اقتصادياً وعملاً إنتاجياً فيها. ومادام رأس المال وليد
إنتاج سابق، فسوف يندرج توزيعه في بحث توزيع الثروة المنتجة، بما
تضمه من سلع استهلاكية وإنتاجية.
وأما العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج، وليس ثروة
مادية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة.
وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج
موضوع درسنا الآن، لأنها تمثل العنصر المادي السابق على الإنتاج.
اختلاف المواقف المذهبية من توزيع الطبيعة:
والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة، يختلف عن الرأسمالية والماركسية،
في العموميات وفي التفاصيل.
فالرأسمالية تربط ملكية مصادر الإنتاج، ومصير توزيعها بأفراد
المجتمع أنفسهم، وما يبذله كل واحد منهم من طاقات وقوى_ داخل
نطاق الحرية الاقتصادية الموفرة للجميع_ في سبيل الحصول على أكبر
نصيب ممكن من تلك المصادر.. فتسمح لكل فرد بتملك ما ساعده الحظ
وحالفه التوفيق على الظفر به، من ثروات الطبيعة ومرافقها.
وأما الماركسية فهي ترى تبعاً لطريقتها العامة في تفسير التاريخ:
أن ملكية مصادر الإنتاج تتصل اتصالاً مباشراً بشكل الإنتاج السائد، فكل
شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرر_ في مرحلته التاريخية_ طريقة
توزيع المصادر المادية للإنتاج، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها. ويظل
هذا التوزيع قائماً حتى يدخل التاريخ في مرحلة أخرى، ويتخذ الإنتاج
شكلاً جديداً فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعاً بنظام التوزيع السابق، ويتعثر
به في طريق نموه وتطوره، حتى يتمزق نظام التوزيع القديم، بعد تناقض
مرير مع شكل الإنتاج الحديث، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج،
يحقق لشكل الإنتاج الحديث الشروط الاجتماعية التي تساعده على النمو
والتطور. فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائماً على أساس خدمة الإنتاج نفسه،
ويتكيف وفقاً لمتطلبات نموه وارتقائه.
ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التاريخ، كان شكل الإنتاج يحتم(1/5)
إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي، بينما تفرض المرحلة التاريخية
للإنتاج الصناعي الآلي، إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة
الرأسمالية لكل مصادر الإنتاج، وفي درجة معينة من نمو الإنتاج الآلي
يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسمالية بالطبقة العاملة، وإعادة التوزيع
على هذا الأساس.
والإسلام لا يتفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسمالية،
ولا مع الماركسية. فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسمالية عن الحرية الاقتصادية،
كما مر بنا بحث( مع الرأسمالية)(1). وكذلك لا يقر الصلة الحتمية،
التي تضعها الماركسية بين ملكية المصادر وشكل الإنتاج السائد، كما رأينا
في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسية)(2). وهو لذلك يحد من حرية تملك
الأفراد لمصادر الإنتاج، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج،
لأن المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج، تتطلب نظاماً للتوزيع
يلائم سيرها ونموها، لكي يتغير التوزيع كلما استجدت حاجة الإنتاج إلى
تغيير، وتوقف نموه على توزيع جديد، وإنما هي مسألة إنسان له حاجات
وميول، يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانية وينميها. والإنسان هو
الإنسان، بحاجاته العامة وميوله الأصيلة، سواء كان يحرث الأرض بيديه،
أو يستخدم قوى البخار والكهرباء، ولذا يجب أن يتم توزيع المصادر
الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول، ضمن إطار
إنساني يتيح للإنسان أن ينمي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام.
فكل فرد_ بوصفه إنساناً خاصاً_ له حاجات لا بد من إشباعها،
وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة، التي أقرها
ووضع لها أسبابها وشروطها.
وحين تقوم العلاقات بين الأفراد، ويوجد المجتمع، يكون لهذا
المجتمع حاجاته العامة أيضاً. التي تشمل كل فرد بوصفه جزءاً من المركب
__________
(1) اقتصادنا 1/251_270
(2) اقتصادنا 1/293_316.(1/6)
الاجتماعي. وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات، عن
طريق الملكية العامة لبعض مصادر الإنتاج.
وكثيراً ما لا يتمكن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق
الملكية الخاصة فيمنى هؤلاء بالحرمان. ويختل التوازن العام، وهنا يضع
الإسلام الشكل الثالث للملكية، ملكية الدولة، ليقوم ولي الأمر بحفظ
التوازن العام.
وهكذا يتم توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج، بتقسيم هذه المصادر إلى
حقول الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة.
مصادر الطبيعة للإنتاج:
ويمكننا تقسيم المصادر الطبيعية للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدة أقسام:
1_ الأرض: وهي أهم ثروات الطبيعة، التي لا يكاد الإنسان يستطيع
بدونها أن يمارس أي لون من ألوان الإنتاج.
2_ المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض، كالفحم
والكبريت والبترول المذهب والحديد، ومختلف أنواع المعادن.
3_ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادية للإنسان،
وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات.
4_ بقية الثروات الطبيعية، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات
التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللئاليء والمرجان، والثروات الطبيعية
التي تعيش على وجه الأرض من حيوان ونبات، والثروات الطبيعية المنتشرة
في الجو، كالطيور والأوكسجين، والقوى الطبيعية المنبثة في أرجاء الكون،
كقوة انحدار الشلالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى سيال كهربائي،
ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أي نقطة، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها.
الأرض
طبقت الشريعة على الأراضي التي تضمها دار الإسلام الأشكال الثلاثة
للملكية، فحكمت على قسم منها بالملكية العامة، وعلى قسم آخر بملكية
الدولة، وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث.
وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في
حوزة الإسلام، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية.(1/7)
فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في أندونيسيا، لأن
العراق وأندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامها إلى دار الإسلام كما أن
العراق نفسه مثلاً تختلف بعض أراضيه عن بعض في نوع الملكية، تبعاً
للحالة التي كانت تسود هذه الأرض وتلك، عندما دشن العراق حياته
الإسلامية.
ولكي ندخل في التفصيلات، نقسم الأرض الإسلامية إلى أقسام،
ونتحدث عن كل قسم منها ونوع الملكية في.
1_ الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح
الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح هي: كل أرض دخلت دار
الإسلام نتيجة للجهاد المسلح في سبيل الدعوة، كأراضي العراق ومصر
وإيران وسورية وأجزاء كثيرة من العالم الإسلامي.
وهذه الأراضي ليست جميعاً سواء في حالتها لحظة الفتح الإسلامي،
فقد كان فيها العامر الذي تجسدت فيه جهود بشرية سابقة، قد بذلت في
سبيل استثمار الأرض للزراعة، أو غيرها من المنافع البشرية. وكان فيها
العامر طبيعياً، دون تدخّل مباشر من الإنسان، كالغابات الغنية بأشجارها
التي استمدت غناها من الطبيعة لا من إنسان يوم الفتح. كما كان فيها أيضاً
الأرض المهملة، التي لم يمتد إليها الأعمار البشري حتى عصر الفتح، ولا
الأعمار الطبيعي، ولذا تسمى ميتة في العرف الفقهي، لأنها لا تنبض
بالحياة ولا تزخر بأي نشاط.
فهذه أنواع ثلاثة للأرض، مختلفة تبعاً لحالتها وقت دخولها في تاريخ
الإسلام.
وقد حكم الإسلام على بعض هذه الأنواع بملكية العامة، وعلى بعضها
الآخر بملكية الدولة، كما سنرى.
أ_ الأرض العامرة بشرياً وقت الفتح
إذا كانت الأرض عامرة بشرياً وقت اندمامجها في تاريخ الإسلام،
وداخلة في حيازة الإنسان ونطاق استثماره.. فهي ملك عام للمسلمين
جميعاً، من وجد منهم ومن يوجد، أي أن الأمة الإسلامية بامتدادها
التاريخي هي التي تملك هذه الأرض، دون أي امتياز لمسلم على آخر في هذه
الملكية العامة. ولا يسمح للفرد بتملك رقبة الأرض ملكية خاصة.(1/8)
وقد نقل المحقق النجفي في الجواهر_ عن عدة مصادر فقهية كالغنية
والخلاف والتذكرة_: إن فقهاء الأمامية مجمعون على هذا الحكم،
ومتفقون على تطبيق مبدأ الملكية العامة على الأرض المعمورة حال الفتح(1).
كما نقل الماوردي(2) عن الإمام مالك: القول بأن الأرض المفتوحة تكون
وقفاً على المسلمين منذ فتحها، بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها
من ولي الأمر. ولا يجوز تقسيمها بين الغانمين. وهو تعبير آخر عن الملكية
العامة للأمة.
أدلة الملكية العامة وظواهرها:
ونصوص الشريعة وتطبيقاتها واضحة في تقرير مبدأ الملكية العامة لهذا
النوع من الأرض، كما يظهر من الروايات التالية:
1_ في الحديث عن الحلبي قال: (سئل الإمام جعفر بن محمد
الصادق عن السواد ما منزلته فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن
يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد. فقلنا الشراء من الدهاقين. فقال:
لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين. فإذا شاء ولي الأمر
أن يأخذها أخذها. قلنا فإن أخذها منه؟ قال: يرد إليه رأس ماله وله ما
أكل من غلتها بما عمل)(3).
2_ وفي حديث عن أبي الربيع الشامي عن الإمام جعفر الصادق قال:
(لا تشتروا من أرض السواد شيئاً إلا من كانت له ذمة فإنما هو فيء
للمسلمين)(4) وأرض السواد في العرف السائد يومذاك هي: الجزء العامر
من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية. وإنما أطلق
المسلمون هذا الاسم على الأرض العراقية، لأنهم حين خرجوا من أرضهم
القاحلة في جزيرة العرب يحملون الدعوة إلى العالم.. ظهرت لهم خضرة
الزراع والأشجار في أراضي العراق. فسموا خضرة العراق سواداً، لأنهم
__________
(1) جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام للشيخ محمد حسن النجفي جـ 21 ص 175
الطبعة الحديثة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 132.
(3) الاستبصار للشيخ محمد بن الحسن الطوسي جـ 3 ص 109.
(4) نفس المصدر والموضوع.(1/9)
كانوا يجمعون بين الخضرة والسواد في الاسم.
3_ وفي خبر حماد أن الإمام موسى بن جعفر قال: (وليس لمن
قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر...
والأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوتة متروكة في يدي
من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من
الحق النصف والثلث والثلثين على قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضرهم)(1).
ويعني بذلك أن ولي الأمر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين
على استثمارها من أفراد المجتمع الإسلامي، ويتقاضى منهم أجرة على
الأرض لأنها ملك مجموع الأمة، فحينما ينتفع الزارعون باستثمارها يجب
عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الأمة. وهذا الثمن أو الأجرة هو الذي أطلق
عليه في الخبر اسم: الخراج.
4_ وجاء في الحديث: أن أبا بردة سأل الإمام جعفر عن شراء
الأرض من أرض الخراج، فقال: ((ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين)) (2).
وأرض الخراج تعبير فقهي عن الأرض التي نتحدث عنها، لأن
الأرض التي تفتح وهي عامرة يفرض عليها خراج، كما مر في الخبر
السابق، وتسمىلأجل ذلك أرضاً خراجية.
5_ وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الإمام علي بن
موسى الرضا عليه السلام وهو يشرح أقسام الأرض وأحكامها: ((وما أخذ
بالسيف فذلك إلى الإمام، يقبله بالذي يرى)) (3).
6_ وفي تاريخ الفتوح الإسلامية: أن الخلفية الثاني طولب بتقسيم
الأرض المفتوحة بين المحاربين من الجيش الإسلامي، على أساس مبدأ
الملكية الخاصة، فاستشار الصحابة، فأشار عليه علي عليه السلام بعدم
التقسيم، وقال له معاذ بن جبل: ((إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في
أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، أو المرأة، ثم
__________
(1) فروع الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني جـ 5 ص45.
(2) الاستبصار للشيخ محمد بن الحسن الطوسي جـ 3 ص109.
(3) تهذيب الأحكام للشيخ محمد بن الحسن الطوسي جـ 4 ص 119.(1/10)
يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً ، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر
أمراً يسع أولهم وآخرهم فقضى عمر بتطبيق مبدأ الملكية العامة، وكتب
إلى سعد بن أبي وقاص: ((أما بعد فقد بلغني كتابك أن الناس قد سألوا
أن تقسم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم، فنظر ما أجلبوا به عليك في
العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك
الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنا لو
قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء)).
وقد ذهب جماعة في تفسير إجراءات الخلفية الثاني إلى القول: بأن
السواد ملك لأهله_ كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد_ لأنه حين
رده عليهم عمر صارت لهم رقاب الأرض، وتعين حق المسلمين في الخراج،
فالملكية العامة تعلقت بالخراج لا برقبة الأرض.
وقد قال بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، ممن أخذ بهذا التفسير
أن هذا تأميم للخراج وليس تأميماً للأرض.
ولكن الحقيقة: أن قيام إجراءات عمر على أساس الإيمان بمبدأ الملكية
العامة، وتطبيقه على رقبة الأرض.. كان واضحاً كل الوضوح، ولم يكن
ترك الأرض لأهلها اعترافاً منه بحقهم في ملكيتها الخاصة، وإنما دفعها
إليهم مزارعة أو إجارة، ليعملوا في أراضي المسلمين وينتفعوا بها، نظير
خراج يقدمونه إليهم.
والدليل على ذلك ما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد، من أن عتبة
ابن فرقد اشترى أرضاً على شاطىء الفرات، ليتخذ فيها قضباً، فذكر
ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتها؟، قال: من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون
والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلها، فهل اشتريت منهم شيئاً؟،
قال: لا، قال: فارددها على من اشتريتها منه، وخذ مالك.
7_ وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال، أنه قال: أسلم دهقان
على عهد علي(ع) ، فقام الإمام عليه الصلاة والسلام وقال: ((أما أنت فلا
جزية عليك، وأما أرضك فلنا)).
8_ وفي البخاري عن عبد الله قال: ((أعطى النبي خيبراً ليهود أن(1/11)
يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها)). وهذا الحديث يشع بتطبيق
رسول الله صلى الله عليه وآله لمبدأ الملكية العامة على خيبر، بوصفها مفتوحة
في الجهاد، بالرغم من وجود روايات معارضة. لأن النبي (ص) لو
كان قد قسم الأرض بين المحاربين خاصة، على أساس مبدأ الملكية الخاصة،
بدلاً عن تطبيق مبدأ الملكية العامة.. لما دخل مع اليهود في عقد مزارعة
بوصفه حاكماً. فإن دخوله بهذا الوصف في العقد، يشير إلى أن الأرض
كان أمرها موكولاً إلى الدولة، لا إلى الإفراد الغانمين أنفسهم.
وقد ذكر بعض المفكرين الإسلاميين: أن حادثة معاملة خيبر هذه
دليل قطعي، على أن من حق الدولة أن تمتلك أموال الأفراد، الأمر الذي
يقرر جواز التأميم في الإسلام. لأن القاعدة العامة في الفيء تقسيمه على
المقاتلين، فالاحتفاظ به للدولة دون تقسيم على مستحقيه، تحويل للدولة
في أن تضع يدها على حقوق رعاياها، متى رأت في ذلك مصلحة تقتضيها
سعادة المجموع فصح إذن: إن للدولة حق تأميم الملكيات الخاصة.
ولكن الحقيقة أن احتفاظ الدولة بالأراضي المفتوحة، وعدم تقسيمها
بين المقاتلين كما تقسم سائر الغنائم، ليس تطبيقاً لمبدأ التأميم، وإنما هو
تطبيق لمبدأ الملكية العامة. فإن الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة،
وتقسيم الفيء: (الغنيمة) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط.
فالملكية العامة للأرض المفتوحة إذن طابع أصيل لها في التشريع الإسلامي،
وليست تأميماً وتشريعاً ثانوياً، بعد تقرير مبدأ الملكية الخاصة.
وعلى أي حال، فإن أكثر النصوص التي قدمناها تقرر: أن رقبة
الأرض_ أي نفس الأرض_ ملك لمجموع الأمة، يتولى الإمام رعايتها
بوصفه ولي الأمر، ويتقاضى من المنتفعين بها خراجاً خاصاً، يقدمه
المزارعون أجرة على انتفاعهم بالأرض. والأمة هي التي تملك الخراج،
لأنها ما دامت تملك رقبة الأرض، فمن الطبيعي أن تملك منافعها وخراجها
أيضاً.
مناقشة لأدلة الملكية الخاصة:(1/12)
وفي الباحثين الإسلاميين_ معاصرين وغير معاصرين_ من يتجه إلى
القول بخضوع الأرض المفتوحة عنوة لمبدأ التقسيم بين المقاتلين، على أساس
الملكية الخاصة، كما تقسم سائر الغنائم بينهم.
ويعتمد هؤلاء فقهياً على أمرين: أحدهما: آية الغنيمة. والآخر،
ما هو المأثور من سيرة رسول الله (ص) في تقسيم غنائم خيبر.
أما آية الغنيمة فهي قوله في سورة الأنفال: (( واعلموا أن ما
غنمتم من شيء، فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل.. الآية)).
وهي في رأي هؤلاء تقتضي بظاهرها: أن كل ما غنم يخمس وبالتالي
يقسم الباقي منه على الغانمين، دون فرق بين الأرض وغيرها من الغنائم.
ولكن الحقيقة أن قصارى ما تدل عليه الآية الكريمة هو وجوب اقتطاع
خمس الغنيمة بوصفها ضريبة تتقاظاها الدولة لصالح: ذي القربى
والمساكين، والأيتام، وابن السبيل. ولنفترض أن هذه الضريبة تقتطع
من الأرض أيضاً، فإن ذلك لا يشرح بحال من الأحوال مصير الأخماس
الأربعة الأخرى، ولا نوع الملكية التي يجب أن تطبق عليها. لأن الخمس _
باعتباره ضريبة لصالح فئات معينة من الفقراء وأشباههم_ كما يمكن أن
يفرض لحساب هذه الفئات، على ما يملكه المحاربون ملكية خاصة من
الغنائم المنقولة، كذلك يمكن أن يفرض لحساب تلك الفئات أيضاً، على
ما تملكه الأمة ملكية عامة من الأرض المفتوحة. فلا توجد إطلاقاً صلة بين
التخميس والتقسيم. فقد يخضع مال لمبدأ التخميس، ولكن ليس من
الضروري أن يقسم بين المحاربين على أساس الملكية الخاصة فآية التخميس
لا تدل على التقسيم بين المحاربين إذن. وبكلمة أخرى أن الغنيمة التي
تتحدث عنها آية الغنيمة إما أن تكون بمعنى الغنيمة الحربية أي ما تم الإستيلاء
عليه بالحرب وإما أن تكون بمعنى الغنيمة الشرعية أي ما تملكه الإنسان بحكم
الشارع من أموال. فإذا فسرنا الكلمة بالمعنى الأول فليس في الآية الكريمة(1/13)
أي دلالة على أن غير الخمس من الغنيمة يعتبر ملكاً للمحاربين في كل
الحالات، وإذا فسرنا الكلمة بالمعنى الثاني كانت الآية بنفسها تفترض
ملكية المخاطبين للمال كموضوع لها فكأنها قالت: إذا ملكتم مالاً فالخمس
ثابت فيه وفي هذه الحالة لا يمكن أن تعتبر الآية دليلاً على ملكية المحاربين
للغنيمة لأنها لا تحقق موضوعها ولا تثبت شرطها.
وأما المأثور من سيرة النبي صلى الله عليه وآله في تقسيم غنائم خيبر،
فهو الدليل الثاني الذي استند إليه هؤلاء المؤمنون بتقسيم الأرض بين
المحاربين خاصة، اعتقاداً منهم بأن النبي (ص) طبق على أراضي خيبر
مبدأ الملكية الخاصة، وقسمها بين المحاربين الذين فتحوها.
ولكنا نشك في صواب هذا الاعتقاد كل الشك، حتى لو افترضنا
صحة الروايات التاريخية التي تحدثت عن تقسيم النبي (ص) خيبراً على
المقاتلين. لأن التاريخ العام الذي ينقل هذا، يحدثنا عن ظواهر أخرى في
سيرته الرائدة، تساهم في فهم القواعد التي طبقها النبي (ص) على غنائم
خيبر.
فهناك ظاهرة احتفاظ النبي (ص) بجزء كبير من خيبر لمصالح الدولة
والأمة فقد جاء في سنن أبي داود، عن سهل بن أبي حشمة أن: رسول الله
(ص) قسم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجاته، ونصفاً بين المسلمين،
قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً )).
وعن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبي
(ص) ((أن رسول الله (ص) لما ظهر على خيبر، قسمها على ستة وثلاثين
سهماً، جمع كل سهم مئة سهم، فكان لرسول الله (ص) وللمسلمين
النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور
ونوائب الناس )).
وعن ابن يسار أنه قال: (( لما أفاء الله عه نبيه خيبر، قسمها على ستة
وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مئة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل
به: (الوطيحة) و(الكتيبة) وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر
فقسمه بين المسلمين: (الشق) و(النطأة) وما أحيز معهما، وكان سهم
رسول الله فيما أحيز معهما )).(1/14)
وهناك ظاهرة أخرى وهي: أن رسول الله (ص) كان يمارس بنفسه
السيطرة على أراضي خيبر، بالرغم من تقسيم جزء منها على الأفراد، إذ
باشر الاتفاق مع اليهود على مزارعة الأرض، ونص على أن له الخيار في
إخراجهم متى شاء.
فقد جاء في سنن أبي داود: ((أن النبي (ص) أراد أن يجلي اليهود
عن خيبر، فقالوا: يا محمد دعنا نعمل في هذه الأرض، ولنا الشطر ما بدا
لك ولكم الشطر)).
وفي سنن أبي داود أيضاً عن عبد الله بن عمر: ((أن عمر قال أيها
الناس إن رسول الله (ص) كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا
شئنا فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود خيبر، فأخرجهم )).
وعن عبد الله بن عمر أيضاً أنه قال: ((لما افتتحت خيبر سألت يهود
رسول الله (ص) : أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها،
فقال رسول الله: أقركم فيها على ذلك ما شئنا، فكانوا على ذلك، وكان
التمر يقسم على السهمان في نصف خيبر، ويأخذ رسول الله الخمس )).
ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن عباس أنه قال: ((دفع
رسول الله (ص) خيبر_ أرضها ونخلها_ إلى أهلها، مقاسمة على النصف )).
ونحن إذا جمعنا بين هاتين الظاهرتين من سيرة النبي (ص) : بين
احتفاظه بجزء كبير من خيبر لمصالح المسلمين وشؤون الدولة، وبين
ممارسته بوصفه ولي الأمر لشؤون الجزء الآخر أيضاً، الذي نفترض أنه قد
قسمه بين المقاتلين.. إذا جمعنا بين ذلك كله، نستطيع أن نضع للسيرة
النبوية تفسيراً ينسجم مع النصوص التشريعية السابقة، التي تقرر مبدأ
الملكية العامة في الأرض المفتوحة، فإن من الممكن أن يكون رسول الله (ص)
قد طبق على أرض خيبر مبدأ الملكية العامة، الذي يقتضي تملك الأمة لرقبة
الأرض، ويحتم لزوم استخدامها في مصالح الأمة وحاجاتها العامة.
والحاجات العامة للأمة يومئذ كانت من نوعين: أحدهما تيسير نفقات
الحكومة، التي تنفقها خلال ممارستها لواجبها في المجتمع الإسلامي.(1/15)
والآخر: إيجاد التوازن الاجتماعي ورفع المستوى العام، الذي كان متردياً
إلى درجة قالت السيدة عائشة في وصفه: ((إنا لم نشبع من التمر حتى فتح
الله خيبر )). فإن هذه الدرجة من التردي التي تقف حائلاً دون تقدم المجتمع
الفتي، وتحقيق مثله في الحياة، يعتبر علاجها حاجة عامة للأمة.
وقد حققت السيرة النبوية إشباع كلا النوعين من الحاجات العامة للأمة
فالنوع الأول ضمن النبي إشباعه بالنصف الذي حدثتنا الروايات السابقة
عن تخصيصه للنوائب والوفود ونحو ذلك. والنوع الثاني من الحاجات عولج
عن طريق تخصيص ريع النصف الآخر من ارض خيبر لمجموعة كبيرة
من المسلمين، ليساعد ذلك على تجنيد الطاقات العامة في المجتمع الإسلامي،
وفسح المجال أمامها لمستوى أرفع. فلم يكن يعني تقسيم نصف خيبر على
عدد كبير من المسلمين منحهم ملكية رقبة الأرض، وإخضاعها لمبدأ
الملكية الخاصة، وإنما هو تقسيم للأرض باعتبار ريعها ومنافعها مع بقاء
رقبتها ملكاً عاماً.
وهذا هو الذي يفسر لنا مباشرة ولي الأمر للتصرفات التي تتصل بأرض
خيبر، بما فيها سهام الأفراد، لأن رقبة الأرض ما دامت ملكاً للأمة فيجب
أن يكون وليها هو الذي يتولى شؤونها.
كما يفسّر لنا شمول التقسيم لبعض الأفراد، ممن لم يساهم في معركة خيبر.
كما نص على ذلك عدد من المحدثين والمؤرخين فإن هذا يعزز موقفنا في
تفسير هذا التقسيم على أساس محاولة إيجاد التوازن في المجتمع بدلاً عن
تفسيره بوصفه تطبيقاً لمبدأ توزيع الغنيمة على المقاتلين الذي لا يسمح بمشاركة
غيرهم، وتوجد آية أخرى استدل بها بعض القائلين بالملكية الخاصة وهي
قوله تعالى ((وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها )) (1)
على أساس أن الآية اعتبرت الأرض ميراثاً للجماعة التي خاطبتهم وهم
المؤمنون المعاصرون لنزول الآية وهذا ينفي ملكيتها للأمة على امتدادها وقد
ساوت الآية بين الأرض والأموال وساقتها مساقاً واحداً وهذا يعني أن
__________
(1) 27:33.(1/16)
الوارث للأموال هو الوارث للأرض ومن الواضح أن الأموال تختص
بالمقاتلين فكذلك الأرض. ونلاحظ بهذا الصدد أن الآية الكريمة قد عطفت
على أرضهم وأموالهم أرضاً وصفتها بأنها لم يطأها المسلمون والمقصود بهذه
الأرض إما الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وفرّ أهلها خوفاً
من المسلمين وأما الأرض التي كانت من المقدر أن تفتح بعد ذلك كأراضي
الفرس والروم كما قيل في كتب التفسير. فإذا أخذنا بالفرضية الأولى في
تفسير هذه الفقرة_ كما هو الظاهر لأن الآية تدل على أنها قد تم توريثها
فعلاً للمسلمين _ كانت تعبيراً عن نوع من الأنفال الذي ترجع ملكية إلى
الله ورسوله لا إلى المسلمين وهذا يشكّل قرينة على أن المقصود بإرث
المسلمين لتلك الأشياء انتقال السيطرة والاستيلاء إليهم لا انتقال الملكية
بالمعنى الشرعي فلا تكون في الآية دلالة على نوع الملكية للأرض.
وإذ أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير تلك الفقرة كانت قرينة على أن
الآية ليست متجهة نحو المعاصرين نزولها فحسب بل نحو الأمة على امتدادها
لأن فتح الأراضي في المعارك المستقبلة قد لا يشهده المعاصرون بوصفهم
أفراداً وإنما يشهدونه بوصفهم تعبيراً عن الأمة الممتدة تاريخياً فيتناسب
توريث الأرض في الآية الكريمة عندئذ مع الملكية العامة للمسلمين. وأما
الاستناد إلى وحدة السياق لإثبات أن من ملكوا الأرض هم بعينهم من
ملكوا الأموال_ أي المقاتلين خاصة_ فهو غير صحيح لأنه يؤدي إلى
جعل الآية خطاباً للمقاتلين خاصة مع أن ظاهر الآية الكريمة الاتجاه نحو
الجماعة المسلمة المعاصرة كلها فلا بد من إعطاء التوريث معنى غير التمليك
بالمعنى الحرفي الذي يختص بالمقاتلين في الأموال المغتنمة وهو إما السيطرة أو
دخول ملكية تلك الأشياء في حوزتهم سواء اتخذت شكل الملكية الخاصة
أو العامة فتكون الآية الكريمة في قوة قولنا: ومكنكم من أرضهم وأموالهم،(1/17)
أو قولنا: وضممنا ملكية أرضهم وأموالهم إلى حوزتكم، فلا تكون
في الآية دلالة على أن المالك بالمعنى الحرفي للكلمة واحد في الأموال وفي
الأراضي.
والنتيجة التي نخرج بها من كل ذلك هي: أن الأرض المفتوحة مملوكة
بالملكية العامة للمسلمين، إذا كانت عامة حال الفتح ( * ). وهي باعتبارها
ملكاً عاماً للأمة ووقفاً على مصالحها العامة. لا تخضع لأحكام الإرث،
ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منها_ بوصفه فرداً من الأمة _إلى ورثته،
بل لكل مسلم الحق فيها بوصفه مسلماً فحسب. وكما لا تورث الأرض
الخراجية لا تباع أيضاً، لأن الوقف لا يجوز بيعه. فقد قال الشيخ الطوسي
في المبسوط: أنه ((لا يصح التصرف ببيع فيها وشراء، ولا هبة، ولا
معارضة، ولا تمليك، ولا إجارة ولا إرث )). وقال مالك: ((لا تقسم
الأرض، وتكون وقفاً يصرف خراجها في مصالح المسلمين: من أرزاق
المقاتلة وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير )).
وحين تسلم الأرض إلى المزارعين لاستثمارها، لا يكتسب المزارع
حقاً شخصياً ثابتاً في رقبة الأرض، وإنما هو مستأجر يزرع الأرض ويدفع
الأجرة أو الخراج، وفقاً للشروط المتفق عليها في العقد. وإذا انتهت المدة
( * ) راجع الملحق رقم 1.
المقررة انقطعت صلته بالأرض، ولم يجز له استثمارها والتصرف فيها إلا
بتجديد العقد، والاتفاق مع ولي الأمر مرة أخرى.
وقد أكد ذلك بكل وضوح الفقيه الاصفهاني في تعليقه على المكاسب:
نافياً اكتساب الفرد أي حق شخصي في الأرض الخراجية، زائداً على
حدود إذن ولي الأمر في عقد الإجارة الذي يسمح له بالانتفاع بالأرض
واستثمارها نظير أجرة خلال مدة محددة.
وإذا أهملت الأرض الخراجية حتى خربت وزالت عمارتها، لم تفقد
بذلك صفة الملكية العامة للأمة. ولذلك لا يسمح لفرد بإحيائها إلا بإذن من
ولي الأمر، ولا ينتج عن إحياء الفرد لها حق خاص في رقبة الأرض، لأن
الحق الخاص بسبب الأحياء إنما يوجد في أراضي الدولة التي سنتحدث عنها(1/18)
فيما يأتي، لا في الأرض الخراجية التي تملكها الأمة ملكية عامة كما صرح
بذلك المحقق صاحب البلغة في كتابه.
فالمساحات التي لحقها الخراب من الأراضي الخراجية، تظل خراجية
وملكاً للمسلمين، ولا تصبح ملكاً خاصاً للفرد، بسبب إحيائه وأعماره لها.
ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض: أن كل ارض تضم إلى دار
الإسلام بالجهاد، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح.. تطبق عليها
الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: تكون ملكاً عاماً للأمة، ولا يباح لأي فرد تملكها والاختصاص
بها.
ثانياً: يعتبر لكل مسلم حق في الأرض، بوصفه جزءاً من الأمة،
ولا يتلقى نصيب أقربائه بالوراثة.
ثالثاً: لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض، من بيع
وهبة ونحوها.
رابعاً: يعتبر ولي الأمر هو المسؤول عن رعاية الأرض واستثمارها،
وفرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين.
خامساً: الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر، يتبع الأرض
في نوع الملكية فهو ملك للأمة كالأرض نفسها.
سادساًً: تنقطع صلة المستأجر بالأرض عن انتهاء مدة الإجارة،
ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك.
سابعاً: إن الأرض الخراجية إذا زال عنها العمران وأصبحت مواتاً
لا تخرج عن وصفها ملكاً عاماً، ولا يجوز للفرد تملكها عن طريق إحيائها
وإعادة عمرانها من جديد.
ثامناً: يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها
السابقين.. شرطاً أساسياً للملكية العامة، والأحكام الآنفة الذكر فما لم تكن
معمورة بجهد بشري معين، لا يحكم عليها بهذه الأحكام.
وعلى هذا الأساس، نصبح اليوم في مجال التطبيق، بحاجة إلى معلومات
تاريخية واسعة عن الأراضي الإسلامية، ومدى عمرانها، لنستطيع أن
نميز في ضوئها المواضع التي كانت عامرة وقت الفتح، عن غيرها من
المواضع المغمورة ونظراً إلى صعوبة توفر المعلومات الحاسمة بهذا الصدد
اكتفى كثير من الفقهاء بالظن، فكل أرض يغلب على الظن أنها كانت(1/19)
معمورة حال الفتح الإسلامي تعتبر ملكاً للمسلمين.
ولنذكر على سبيل المثال، محاولات بعض الفقهاء لتحديد نطاق الأرض
الخراجية المملوكة ملكية عامة من أراضي العراق، التي فتحت في العقد
الثاني من الهجرة: فقد جاء في كتاب المنتهى للعلامة الحلي: ((أن أرض
السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس، التي فتحها عمر بن الخطاب،
وهي سواد العراق، وحده في العرض: من مقطع الجبال بحلوان إلى طرف
القادسية، المتصل بالعذيب من أرض العرب. ومن تخوم الموصل طولا
إلى ساحل البحر ببلاد عبادان، من شرقي دجلة. وأما الغربي الذي يليه
البصرة فإنما هو إسلامي، مثل شط عمرو بن العاص... وهذه الأرض
(أي الحدود التي حددها) فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب، ثم بعث
إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس: عمار بن ياسر على صلاتهم أميراً، وابن
مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض.
وفرض لهم في كل يوم شاة، شطرها مع السواقط لعمار، وشطرها
للآخرين وقال: ما أرى قرية تؤخذ منها كل يوم شاة إلا سرع خرابها.
ومسح عثمان أرض الخراج، واختلفوا في مبلغها فقال المسّاح: اثنان
وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف
جريب )).
وجاء في كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ((إن حدّ السواد
طولا: من حديثة الموصل إلى عبادان. وعرضاً من عذيب القادسية إلى
حلوان. يكون طوله (160) فرسخاً وعرضه(80) فرسخاً، إلا قريات
_قد سماها أحمد، وذكرها أبو عبيد: الحيرة، ويانقيا، وأرض بني
صلوبا، وقرية أخرى_ كانوا صلحاً )).
وروى أبو بكر باسناده عن عمر أنه كتب: أن الله عز وجل فتح
مابين العذيب إلى حلوان )).
((وأما العراق فهو في العرض مستوعب لعرض السواد عرفاً، ويقصر
عن طوله في العرض، لأن أوله في شرقي دجلة:(العلث). وعن غربيها
(حربي)، ثم يمتد إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبادان، فيكون
طوله(125) فرسخاً يقصر عن طول السواد بـ (35) فرسخاً، وعرضه
((1/20)
80) فرسخاً كالسواد)).
((قال قدامة بن جعفر: يكون ذلك مكسراً عشرة آلاف فرسخ وطول
الفرسخ: (12) ألف ذراع بالذراع المرسلة. ويكون بذارع المساحة:
تسعة آلاف ذراع: فيكون ذلك إذا ضرب في مثله، وهو تكسير فرسخ
في فرسخ: (22) ألف جريب و(500) جريب، فإذا ضرب ذلك في
عدد الفراسخ وهي (10000) فرسخاً بلغ: مائتي ألف ألف وخمسة
وعشرين ألف ألف جريب، يسقط منها بالتخمين: مواضع التلال،
والآكام، والسباخ، والآجام، ومدارس الطرق والمجال، ومجاري
الأنهار، وعراص المدن والقرى، ومواضع الارحاء والبحيرات، والقناطر،
والشاذروانات والبيادر ومطارح القصب وأتانين الآجر وغير
ذلك، وهو 75 ألف ألف جريب يصير الباقي من مساحة العراق: مائة
ألف ألف جريب وخمسين ألف ألف جريب، يراح منها النصف ويكون
النصف مزروعاً، مع ما في الجميع من النخل والكرم والأشجار )). وإذا
أضفت إلى ما ذكره قدامة في مساحة العراق: ما زاد عليها من بقية السواد،
وهو(35) فرسخاً.. كانت الزيادة على تلك المساحة قدر ربعها، فيصير
ذلك مساحة جميع ما يصلح للزرع والغرس من أرض السواد. وقد يتعطل
منه بالعوارض والحوادث ما لا ينحصر )).
ب_ الأرض الميتة حال الفتح
وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشرياً ولا طبيعياً..
فهي ملك للإمام_ وهذا ما نصطلح عليه باسم: ملكية الدولة_ وليست
داخلة ضمن نطاق الملكية الخاصة، وبذلك كانت تتفق مع الأرض الخراجية
في عدم الخضوع لمبدأ الملكية الخاصة. ولكنها تختلف عنها مع ذلك في
شكل الملكية. فالأرض العامرة حال الفتح تعتبر حين ضمها إلى حوزة
الإسلام ملكاً عاماً، للأمة، والأرض الميتة تعتبر حين دخولها في دار
الإسلام ملكاً للدولة.
الدليل على ملكية الدولة للأرض الميتة:
والدليل التشريعي على ملكية الدولة للأرض الميتة حين الفتح هو:
أنها من الأنفال، كما جاء في الحديث. والأنفال عبارة: عن مجموعة من(1/21)
الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله: ((يسألونك عن
الأنفال، قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم،
وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )). وقد روى الشيخ الطوسي في
التهذيب بشأن نزول هذه الآية أن بعض الأفراد سألوا رسول الله (ص)
أن يعطيهم شيئاً من الأنفال، فنزلت الآية تؤكد مبدأ ملكية الدولة،
وترفض تقسيم الأنفال بين الأفراد، على أساس الملكية الخاصة.
وتملّك الرسول للأنفال، يعبر عن تملك المنصب الإلهي في الدولة لها،
ولهذا تستمر ملكية الدولة للأنفال وتمتد بامتداد الإمامه من بعده، كما ورد
في الحديث عن علي (ع): أنه قال: ((إن للقائم بأمور المسلمين الأنفال
التي كانت لرسول الله قال الله عز وجل: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال
لله والرسول، فما كان لله ولرسوله فهو للإمام ))(1). فإذا كانت الأنفال
ملكاً للدولة_ كما يقرره القرآن الكريم_ وكانت الأرض غير العامرة
حال الفتح من الأنفال.. فمن الطبيعي أن تندرج هذه الأرض في نطاق
ملكية الدولة. وعلى هذا الأساس ورد عن الصادق (ع) ، بصدد تحديد
ملكية الدولة (الإمام): أن الموات كلها هي له، وهو قوله تعالى ((يسألونك
عن الأنفال (أن تعطيهم منه) قل الأنفال لله والرسول )).
ومما قد يشير إلى ملكية الدولة للأراضي الموات أيضاً، ما ورد في
الحديث: من أن النبي (ص) قال: ((ليس للمرء إلا ما طابت به نفس
إمامه )). وقد استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على: أن الموات لا يجوز
احياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام(2)، وهذا يتفق تماماً مع ملكية
الإمام للموات، أو ملكية الدولة بتعبير آخر( * ). ويدل على ذلك أيضاً:
ما ورد في كتاب الأموال لأبي عبيد، عن ابن طاوس، عن أبيه: ((أن
رسول الله (ص) قال: عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم )). فقد
__________
(1) الوسائل للشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن جـ 6 ص370.
(2) يراجع المحلى لابن حزم جـ 8 ص 234.
( * ) راجع الملحق رقم 2.(1/22)
حكم هذا النص بملكية الرسول لعادي الأرض، والجملة الأخيرة:
(ثم هي لكم) تقرر حق الأحياء الذي سنشير إليه فيما بعد.
وقد جاء في كتاب الأموال: أن عادي الأرض هي كل أرض كان
لها ساكن في آباد الدهر، فلم يبق منها أنيس، فصار حكمها إلى الإمام
وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد، ولم يملكها مسلك ولا معاهد.
وفي كتاب الأموال أيضاً، عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) لما
قدم المدينة جعلوا له كل أرض لا يبلغها الماء، يصنع بها ما يشاء. وهذا
النص لا يؤكد مبدأ ملكية الدولة للأراضي الموات البعيدة عن الماء فحسب،
بل يؤكد ممارسة النبي السيطرة الفعلية على الأراضي الموات الأمر الذي
ما يؤكد ممارسة النبي السيطرة الفعلية على الأراضي الموات الأمر الذي
تعتبر تطبيقاً عملياً لمبدأ ملكية الدولة لها، فقد ورد في كتاب الإمام الشافعي
أنه (لما قدم رسول الله (ص) المدينة أقطع الناس الدور فقال حي من نبي
زهرة يقال لهم بنو عبد بن زهرة نكب عنا ابن أم عبد فقال رسول الله (ص)
(فلم ابتعثني الله إذا إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه)
وقد علق الشافعي على ذلك قائلاً (وفي هذا دلالة على أن ما قارب العامر وكان
بين ظهرانيه وما لم يقارب من الموات سواء في أنه لا مالك له فعلى السلطان
إقطاعه ممن سأله من المسلمين)(1).
فالأرضان_ العامرة والموات من أراضي الفتح_ طبق عليهما شكلان
تشريعيان من أشكال الملكية، وهما: الملكية العامة للأرض العامرة
وملكية الدولة للموات.
نتيجة اختلاف شكلي الملكية!
وهاتان الملكيتان_ الملكية العامة للأمة، وملكية الدولة_ وإن اتفقتا
في المغزى الاجتماعي إلا أنهما يعتبران شكلين تشريعيين مختلفين، لأن
المالك في أحد الشكلين هو الأمة، والمالك في الشكل الآخر هو المنصب،
الذي يباشر حكم تلك الأمة من قبل الله. وينعكس الفرق بين الشكلين في
الأمور التالية:
__________
(1) الأم جـ 4 ص 50.(1/23)
أولاً: طريقة استثمار كل من الملكيتين ودالور الذي تؤديه للمساهمة
في بناء المجتمع الإسلامي فالأراضي والثروات التي تملك ملكية عامة لمجموع
الأمة يجب على ولي الأمر استثمارها للمساهمة في إشباع حاجات مجموع
الأمة وتحقيق مصالحها العامة التي ترتبط بها ككل نحو إنشاء المستشفيات
وتوفير وتهيئة مستلزمات التعليم وغير ذلك من المؤسسات الاجتماعية العامة
التي تخدم مجموع الأمة ولا يجوز استخدام الملكية العامة لمصلحة جزء معين
من الأمة ما لم ترتبط مصلحته بمصلحة المجموع فلا يسمح بإيجاد رؤوس
أموال_ مثلاً_ لبعض الفقراء من ثمار تلك الملكية ما لم يصبح ذلك مصلحة
وحاجة لمجموع الأمة كما إذا توقف حفظ التوازن الاجتماعي على الاستفادة
من الملكية العامة في هذا السبي، وكذلك لا يسمح بالصرف من ريع الملكية
العامة للأمة على النواحي التي يعتبر ولي الأمر مسؤولاً عنها من حياة
المواطنين الذين في المجتمع الإسلامي. وأما أملاك الدولة فهي كما يمكن
أن تستثمر في مجال المصالح العامة لمجموع الأمة كذلك يمكن استثمارها
لمصلحة معينة مشروعة كإيجاد رؤوس أموال منها لمن هو بحاجة إلى ذلك
من أفراد المجتمع الإسلامي أو أي مصلحة أخرى من المصالح التي يعتبر
ولى الأمر مسؤولاً عنها.
ثانياً: إن الملكية العامة لا تسمح بظهور حق خاص للفرد فقد رأينا
فيما سبق أن الأرض المفتوحة عنوة والتي تعود ملكيتها للأمة لا يكسب
الفرد فيها حقاً خاصاً ولو مارس عليها عملية الأحياء، خلافاً لملك الدولة
فإن الفرد قد يكتسب في ممتلكاتها حقاً خاصاً على أساس العمل بالقدر الذي
تأذن به الدولة فمن يحيي أرضاً ميتة للدولة بإذن من الإمام يكتسب حقاً
خاصاً فيها وإن لم يملك رقبتها وإنما هو حق يجعله أولى من الآخرين بها مع
بقاء رقبتها ملكاً للدولة على ما يأتي.
ثالثاً_ إن ما يدخل في نطاق الملكية العامة للأمة لا يجوز لولي الأمر(1/24)
بوصفه ولياً للأمر نقل ملكيته إلى الأفراد ببيع أو هبة ونحو ذلك خلافاً لما
يدخل في نطاق ملكية الدولة فإنه يجوز فيه ذلك وفقاً لما يقدره الإمام من
المصلحة العامة. وهذا الفارق بين الملكيتين يقرب هذين المصطلحين الفقهيين
نحو مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة لها في لغة القانون
الحديث، فما نطلق عليه اسم ملكية الدولة يوازي من هذه الناحية ما يعبر
عنه قانونياً بالأموال الخاصة للدولة بينما يناظر الملكية العامة للأمة ما يطلق
عليه القانون اسم الأموال العامة للدولة. غير إن مصطلح الملكية العامة للأمة
يتميز عن مصطلح الأموال العامة للدولة بأنه يستبطن النص على أن الأموال
العامة التي يشملها هي ملك الأمة ودور الدولة فيها دور الحارس الأمين بينما
ينسجم التعبير القانوني بالأموال العامة للدولة مع هذا كما ينسجم مع كونها
ملكاً للدولة نفسها.
دور الاحياء في الأراضي الميتة:
وكما تختلف الأرض الميتة والأرض العامرة في شكل الملكية، كذلك
تختلفان أيضاً من ناحية الحقوق التي يسمح للأفراد باكتسابها في الأرض.
فالشريعة لا تمنح الفرد حقاً خاصاً في رقبة الأرض العامرة حال الفتح،
ولو جدد عمرانها بعد خراب، كما مر بنا سابقاً.
وأما الأرض الميتة عند الفتح، فقد سمحت الشريعة للأفراد بممارسة
إحيائها واعمارها، ومنحتهم حقاً خاصاً فيها، على أساس ما يبذلون من
جهد في سبيل إحياء الأرض وعمارتها. وفي الروايات ما يقرر هذه الحقيقة
إذ جاء عن أهل البيت: أن ((من أحيا أرضاً فهي له وهو أحق بها )).
وورود في صحيح البخاري عن عائشة: أن النبي (ص) قال: ((من أعمر
أرضاً ليست لأحد فهو أحق )).
وعلى هذا الأساس نعرف: أن الملكية العامة للأرض في الشريعة
لا تنسجم مع الحق الخاص للفرد، فلا يحصل الفرد علي حق خاص في أرض
الملكية العامة، مهما قدم لها من خدمات أو جدد عمرانها بعد الخراب،(1/25)
بينما نجد ملكية الدولة للأرض تنسجم مع اكتساب الأفراد حقاً خاصاً فيها.
والمصدر الأساسي للحقوق الخاصة في أراضي الدولة هو الأحياء
والتعبير. فممارسة هذا العمل أو البدء بالعمليات التمهيدية له يمنح الممارس
حقاً خاصاً في الأرض، وبدون ذلك لا تعترف الشريعة بالحق الخاص
إطلاقاً( * ) بوصفه عملية مستقلة منفصلة عن الاحياء لا تكون سبباً لاكتساب
حق خاص في الأرض وقد جاء في الرواية عن عمر بن الخطاب أنه قال:
ليس لأحد أن يتحجر(1).
والسؤال المهم فقهياً بهذا الشأن، يرتبط بطبيعة الحق الذي يستمده
الفرد من عملية الاحياء: فما هو هذا الحق الذي يحصل عليه الفرد، نتيجة
لعمله في الأرض الميتة وإحيائها؟
هذا هو السؤال الذي يجب علينا أن نجيب عليه، في ضوء مجموع
النصوص التي تناولت عملية الإحياء، وشرحت أحكامها الشرعية.
وجواب الكثير من الفقهاء على هذا السؤال: أن مرد الحق الذي
يستمده الفرد من إحياء الأرض، إلى تملكه لها ملكية خاصة، فتخرج
الأرض بسبب الاحياء عن نطاق ملكية الدولة إلى نطاق الملكية الخاصة،
ويملك الفرد الأرض التي أحياها نتيجة لعمله المنفق عليها، الذي بعث فيها
الحياة.
وهناك رأي فقهي آخر يبدو أكثر انسجاماً مع النصوص التشريعية،
يقول: إن عملية الاحياء لا تغير من شكل ملكية الأرض، بل تظل الأرض
ملكاً للإمام أو لمنصب الإمامة، ولا يسمح للفرد بتملك رقبتها وإن أحياها،
وإنما يكتسب بالإحياء حقاً في الأرض دون مستوى الملكية، ويخول له
بموجب هذا الحق استثمار الأرض والاستفادة منها، ومنع غيره ممن لم
يشاركه جهده وعمله من مزاحمته وانتزاع الأرض منه، ما دام قائماً
بواجبها. وهذا القدر من الحق لا يعفيه من واجباته تجاه منصب الإمامة،
بوصفه المالك الشرعي لرقبة الأرض، فللإمام أن يفرض عليه الأجرة أو
الطسق_ كما جاء في الحديث_ بالقدر الذي يتناسب مع المنافع التي يجنيها
__________
(1) * ) راجع الملحق رقم 3.
(1) الأم للشافعي جـ 4 ص 46.(1/26)
الفرد من الأرض التي أحياها.
وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه الكبير الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في
بحوث الجهاد، من كتابه المبسوط في الفقه، إذ ذكر: أن الفرد لا يملك
رقبة الأرض بالإحياء وإنما يملك التصرف، بشرط أن يؤدي إلى الإمام
ما يلزمه عليها.. وإليكم نص عبارته.
((فأما الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من
المسلمين كان أولى بالتصرف فيها، ويكون للإمام طسقها )) (1).
ونفس الرأي نجده في بلغة المحقق الفقيه السيد محمد بحر العلوم، إذ
مال إلى: (منع إفادة الاحياء التملك المجاني، من دون أن يكون فيه حق،
فيكون للإمام فيه بحسب ما يقاطع المجبي عليها في زمان حضوره وبسط
يده، ومع عدمه فله أجرة المثل. ولا ينافي ذلك نسبة الملكية إلى المحيي في
أخبار الأحياء_ أي في قولهم: من أحيى أرضاً فهي له_ وإن هي إلا
جارية مجرى كلام الملاكين للفلاحين، في العرف العام، عند تحريضهم
على تعمير الملك: من عمرها أو حفر أنهارها وكرى سواقيها فهي له،
الدالة على أحقيته من غيره، وتقدمه على من سواه، لا على نفي الملكية من
نفسه، وسلب الملكية عن شخصه. فالحصة الراجعة إلى الملاك المعبر عنها
بالملاكة مستحقة له غير منفية عنه، وإن أضاف الملك إليهم عند الترخيص
والإذن العمومي)(2).
وهذا الرأي الفقهي الذي يقرره الشيخ الطوسي والفقيه بحر العلوم،
يستند إلى عدة نصوص ثابتة بطرق صحيحة عن أئمة أهل البيت، علي
وآله عليهم السلام. فقد جاء في بعضها: ((من أحيى أرضاً من المؤمنين
فهي له وعليه طسقها ))(3). وجاء في بعضها الآخر ((من أحيى من
الأرض من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى الإمام وله ما أكل
منها ))(4).
__________
(1) المبسوط للشيخ الطوسي جـ 2 ص 29 الطبعة الجديدة.
(2) بلغة الفقيه للسيد محمد بحر العلوم ص 98.
(3) الوسائل الحر العاملي جـ 6 ص 383.
(4) تهذيب الأحكام للشيخ محمد بن الحسن الطوسي جـ 7 ص 152، والفروع من الكافي
الكليني جـ 5 ص 279.(1/27)
فالأرض في ضوء هذه النصوص لا تصبح ملكاً خاصاً لمن أحياها وإلا
لما صح أن يكلف بدفع أجرة عن الأرض للدولة، وإنما تبقى رقبة الأرض
ملكاً للإمام، ويتمتع الفرد بحق في رقبة الأرض، يمكنه من الانتفاع بها
ومنع الآخرين عن انتزاعها منه وللإمام في مقابل ذلك فرض الطسق عليه ( * )
وهذا الرأي الفقهي الذي يعطي لملكية الإمام مدلولها الواقعي، ويسمح
له بفرض الطسق على أراضي الدولة لا نجده لدى فقهاء من شيعة أهل
البيت_ كالشيخ الطوسي فحسب، بل إن له بذوراً وصيغاً متنوعة في
مختلف المذاهب الفقهية في الإسلام فقد ذهب أحمد بن حنبل إلى أن الغامر
الميت من أرض السواد يعتبر أرضاً خراجية أيضاً وللدولة فرض الخراج
عليه بوصفه ملكاً لعامة المسلمين واستند في ذلك إلى ما صنعه عمر من مسح
العامر والغامر من أرض السواد ووضع الخراج عليهما معاً. وبعض الفقهاء
جعل موات المفتوح عنوة مطلقاً للمسلمين.
وذكر الماوردي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الفرد إذا أحيا أرضاً
من الموات وساق إليها ماء الخراج كانت أرض خراج وكان للدولة فرض
الخراج عليها ويريدان بماء الخراج الأنهار التي فتحت عنوة كدجلة والفرات
والنيل، فكل أرض ميتة تحيا بماء الخراج تصبح خراجية وداخلة في نطاق
ولاية الدولة على وضع الخراج وإن لم تكن الأرض نفسها مفتوحة عنوة.
وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد أن أبا حنيفة كان يقول: أرض الخراج
هي كل أرض بلغها ماء الخراج.
وأما محمد بن الحسن الشيباني فقد اعترف بدوره أيضاً بمبدأ فرض
الخراج على ما يحيى من الأرض الموات ولكنه اختار تفصيلاً آخر غير
ما سبق عن أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد قال: إن كانت الأرض المحياة
على أنهار حفرتها الأعاجم فهي أرض خراج وإن كانت على أنهار أجراها
الله عز وجل فهي أرض عشر.
( * ) راجع الملحق رقم 4.
وعلى أي حال فان مبدأ فرض الخراج على الأرض المحياة تجده بصورة
أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة.(1/28)
ونلاحظ أن كلمات الفقهاء غير الأماميين هذه لم تصل إلى الدرجة التي
بلغتها فتوى الشيخ الطوسي وعدد آخر من فقهاء الامامية لأنها لم تتجاوز
بصورة صريحة عن كونها تعبيرات متفاوتة عن حدود الأرض الخراجية
وأنها تشمل قسماً من الأراضي الموات كموات السواد أو الموات التي تحيى
بماء الخراج غير أنها على أي حال تجعلنا نجد مبدأ فرض الخراج على الأرض
المحياة بصورة أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة ولا يوجد ما يمنع عن
اعتباره مبرراً مبدئياً في الشريعة الإسلامية لفرض الخراج من الإمام على
الأراضي المحياة.
ومن المواقف الفقهية الملتقية إلى درجة كبيرة مع رأي الشيخ الطوسي
وغيره من علماء الامامية موقف لبعض فقهاء المذهب الحنفي كأبي القاسم
البلخي وغيره ممن تكلم عن الأرض التي أحياها شخص ثم خربت فاستأنف
أحياءها شخص آخر، إذ قالوا بأن الثاني أحق بها لأن الأول ملك استغلالها
لا رقبتها فإذا تركها كان الثاني أحق بها(1) وهذا الكلام وإن كان لا ينص
على ملكية الدولة للأرض الميتة وحقها في فرض الخراج على ما يحيى منها
ولكنه يلتقي مع موقف الشيخ الطوسي وغيره من علماء الامامية في القول
بأن الأرض الميتة لا تملك ملكية خاصة ولا تدخل رقبتها في نطاق ملكية
المستولي عليها ولو مارس فيها عملية الاحياء والاستثمار.
ونحن حين نقتبس من فقه الشيخ الطوسي مبدأ ملكية الإمام، بهذا
المعنى الذي يسمح له بفرض الخراج على ما يحيى من الأراضي الميتة...
إنما ندرس الموقف على الصعيد النظري فحسب، إذ توجد من الناحية النظرية
_كما عرفنا_ مبررات لاستنباط هذا المبدأ من النصوص التشريعية.
وأما على صعيد التطبيق فلم يؤخذ بهذا المبدأ عملياً في الإسلام، بل جمد
في المجال التطبيقي ورفع بصورة استثنائية عن بعض الأشخاص وفي بعض
__________
(1) 20) راجع تكملة شرح فتح القدير جـ 8 ص 137 وشرح العناية على الهداية في هامش
الصفحة نفسها(1/29)
الأزمنة، كما تدل عليه أخبار التحليل. وتجميد المبدأ هذا على صعيد التطبيق
وفي السيرة النبوية المقدسة.. لا يمكن أن يعتبر دليلاً على عدم صحته نظرياً.
فإن من حق النبي (ص) العفو عن الطسق وممارسته لهذا الحق لا تعني عدم
السماح لإمام متأخر بالعمل بهذا المبدأ أو تطبيقه، حين تزول الظروف التي
كانت تمنع عن ذلك. كما أن النصوص التي ترفع مفعول هذا المبدأ عن بعض
الأشخاص بصورة استثنائية لا تمنع عن اعتباره قاعدة يمكن الأخذ بها في غير
مجالات استثنائها، التي شرحتها أخبار التحليل.
وما دمنا في دراستنا هذه نحاول التعرف على النظرية الاقتصادية في
الإسلام. فمن حقنا أن نستوعب في دراستنا هذا المبدأ، ما دام له أساس
إسلامي من الناحية النظرية، فهو جزء من الصورة الكاملة التي تعبر عن
النظرية الإسلامية في المجال الذي ندرسه سواء أخذ نصيبه من التطبيق أو
اضطرت ظروف قاهرة أو مصلحية لإهماله.
* * *
وعلى ضوء ما قدمناه، يتبين الفرق بين المزارع الذي يعمل في قطاع
الملكية العامة، والمزارع الذي يعمل في قطاع ملكية الدولة. فإنهما وإن كانا
معاً لا يملكان رقبة الأرض، ولكنهما يختلفان في مدى علاقتهما بالأرض
فالمزارع الأول ليس إلا مستأجر فحسب_ كما أكد الفقيه المحقق الاصفهاني في
تعليقه على المكاسب_ فمن حق الإمام أن ينتزع منه الأرض، ويعطيها لفرد
آخر متى انتهت مدة الإجارة، وأما المزارع الثاني، فهو يتمتع بحق في الأرض
يخوله الانتفاع بها، ويمنع الآخرين من انتزاعها منه، ما دام قائماً بحقها
وعمارتها.
وعملية الاحياء في قطاع الدولة حرة، يجوز لكل فرد ممارستها دون إذن
خاص من ولي الله لأن النصوص الآنفة الذكر أذنت لجميع الأفراد بالاحياء، دون
تخصيص، فيعتبر هذا الإذن نافذ المفعول، ما لم تر الدولة في بعض الاحايين
المصلحة في المنع. وهناك في الفقهاء من يرى أن الاحياء لا يجوز، ولا يمنح(1/30)
حقاً.. ما لم يكن بإذن خاص من ولي الأمر، ولا يكفي الإذن الصادر من
النبي (ص) في قوله: ((من أعمر أرضاً فهو أحق بها ))، لأن هذا الإذن
صدر من النبي بوصفه حاكما ورئيساً للدولة الإسلامية، لا باعتباره نبياً، فلا
يمتد مفعوله مع الزمن، بل ينتهي بإنتهاء حكمه.
جـ _ الأرض العامرة طبيعيا حال الفتح
يرى كثير من الفقهاء: أن الأراضي العامرة طبيعياً_ بما فيها الأراضي
العامرة طبيعياً حال الفتح_ كالغابات وأمثالها تشترك مع الأراضي الموات التي
مر الحديث عنها قبل لحظة في الشكل التشريعي للملكية. فهم يرون أنها ملك
للإمام، ويستندون في ذلك إلى النص التشريعي المأثور عن الأئمة عليهم
السلام الذي يقرر أن: ((كل أرض لا رب لها هي للإمام)). فإن هذا النص
يعطي للإمام ملكية كل أرض ليس لها صاحب، والغابات وأمثالها من هذا
القبيل، لأن الأرض لا يكون لها صاحب إلا بسبب الإحياء، والغابات حية
طبيعياً دون تدّخل إنسان معين في ذلك، فهي لا صاحب لها في الشريعة بل
تندرج في نطاق الأراضي التي لا رب لها، وتخضع بالتالي لمبدأ ملكية الدولة.
وقد يلاحظ على هذا الرأي. أن تطبيق مبدأ ملكية الدولة(الإمام) على
الغابات ونظائرها من الأراضي العامرة بطبيعتها، إنما يصح في الغابات التي
دخلت دار الإسلام بدون حرب، لأنها لا رب لها. وأما الغابات والأراضي
العامرة بطبيعتها، التي تفتح عنوة وتنتزع من أيدي الكفار.. فهي ملك عام
للمسلمين، لأنها تندرج في النصوص التشريعية التي اعطت المسلمين ملكية
الأرض المفتوحة عنوة. وإذا دخلت الغابات في نطاق الملكية العامة بموجب
هذه النصوص، أصبحت أرضاً لها صاحب، وصاحبها هو مجموع الأمة،
ولا يوجد مبرر بعد ذلك لإدراجها ضمن الأراضي التي لا رب لها، لكي
يستوعبها النص القائل: ((كل أرض لا رب لها للإمام)). وبتعبير آخر. إن
نصوص الأراضي الخراجية باطلاقها، حاكمة على نصوص الأرض التي لا(1/31)
رب لها، وهذا الحكومة تتوقف على أن يكون موضوع نصوص الأرض
الخراجية(ما أخذ بالسيف مما كان تحت استيلاء الكفار) لا خصوص ما أخذ
مما كان ملكاً للكفار إذ على التقدير الثاني لا يكون موضوعها شاملاً للغابات
بخلافه على الأول كما هو واضح. كما تتوقف الحكومة أيضاً على أن يكون عدم
المالك المأخوذ في نص مالكيه الإمام ملحوظاً حدوثاً وبقاءً. والظاهر من
النصوص التي تجعل الأرض التي لا رب لها ملكاً للإمام أنها تتناول كل أرض
ليس لها مالك بطبيعتها فيكفي عدم المالك حدوثاً لكي تكون ملكاً للإمام.
فالصحيح أن الأرض العامرة بطبيعتها ملك للدولة دون فرق بين ما كان
منها مفتوحاً عنوة وما لم يكن كذلك.
وعلى هذا الأساس لا يتكون للفرد حق خاص في رقبة الأرض المفتوحة
عنوة من الغابات وما إليها، كما لا يتكون الحق الخاص في رقبة الأرض
الخراجية العامرة بالاحياء قبل الفتح. وقد يقال: أن الأرض العامرة بطبيعتها
تمتلك على أساس الحيازة، بمعنى أن الحيازة تقوم في الأراضي العامرة طبيعياً
بنفس الدور الذي يقوم به الاحياء في الأراضي الميتة بطبيعتها، ويستند هذا
القول في إثبات الملكية بسبب الحيازة إلى الأخبار الدالة على أن من حاز ملك،
ويلاحظ على هذا القول:
أولاً: إن بعض هذه الأخبار ضعيف السند، ولهذا لا حجية له، ومنها
ما لا يدل على هذا القول لأنه مسوق لبيان امارية اليد، وجعل الحيازة امارة
ظاهرية على الملكية لا سبباً لها. ومنها ما كان وارداً في موارد خاصة كقوله
((لليد ما أخذت وللعين ما رأت)) الوارد في الصيد.
وثانياً: أن أخبار الحيازة. لو سلمت مختصة بالمباحات الأولية مما لا يكون
مملوكاً شرعاً لجهة أو فرد، فلا تشمل المقام، إذ المفروض أن الغابة ملك الأمة
أو الإمام.
وانطلاقاً مع هذا يجب أن يطبق على المفتوح عنوة من الغابات والأراضي
العامرة بطبيعتها، نفس الأحكام التي تطبق على أراضي الفتح التي كانت
عامرة بالاحياء والجهد البشري.(1/32)
2_ الأرض المسلمة بالدعوة
الأراضي المسلمة بالدعوة هي كل أرض دخل أهلها في الإسلام،
واستجابوا للدعوة دون أن يخوضوا معركة مسلحة ضدها، كأرض المدينة
المنورة، وأندونيسيا، وعدة نقاط متفرقة في العالم الإسلامي.
وتنقسم الأراضي المسلمة بالدعوة_ كما تنقسم الأراضي المسلمة بالفتح_
إلى أرض عامرة قد أحياها أهلها وأسلموا عليها طوعاً، وأرض عامرة طبيعياً
كالغابات، وأرض دخلت في الإسلام طوعاً وهي ميتة.
أما الموات من الأرض المسلمة بالدعوة فهي كالموات من أراضي الفتح،
يطبق عليها مبدأ ملكية الدولة، وجميع الأحكام التي مرت بنا في موات
الفتح، لأن الأرض الميتة بشكل عام تعتبر من الأنفال، والأنفال ملك
الدولة.
وكذلك الأرض العامرة طبيعياً المنضمة إلى حوزة الإسلام بالاستجابة
السلمية، فهي ملك للدولة أيضاً، تطبيقاً للمبدأ الفقهي القائل ((كل أرض لا
رب لها هي من الأنفال)).
ولكن الفرق بين هذين القسمين، الميتة والعامرة طبيعياً_ بالرغم من
كونهما معاً ملكاً للدولة_ هو أن الفرد يمكنه أن يكتسب حقاً خاصاً في الأرض
الميتة عن طريق إحيائها، وتثبت له من الأحكام ما مر من تفصيلات تشريعية
عن عملية الأحياء، التي يمارسها الفرد في الميت من أراضي الفتح، وأما
الأراضي العامرة بطبيعتها، التي دخلت في دار الإسلام طوعاً فلا سبيل إلى
إكتساب الفرد حقاً فيها بسبب الاحياء، لأنها عامرة وحية بطبيعتها، وإنما
يباح للأفراد الانتفاع بتلك الأرض. وإذا مارس الفرد انتفاعه، فلا تنتزع
الأرض منه لحساب فرد آخر، ما دام يمارس الأول انتفاعه، إذ لا ترجيح لفرد
على فرد، ويسمح للآخر بالانتفاع في حدود لا تزاحم انتفاع الأول، أو فيما
إذا كف الأول عن انتفاعه بالأرض واستثماره لها.
وأما الأرض العامرة التي أسلم عليها أهلها طوعاً فهي لهم، لأن الإسلام
يمنح المسلم على أرضه وماله طوعاً، جميع الحقوق التي كان يتمتع بها في الأرض(1/33)
والمال قبل إسلامه. فيتمتع أصحاب الأرض المسلمون طوعاً بالحق في
الاحتفاظ بأرضهم، وتملكها ملكية خاصة، ولا خراج عليهم كما كانوا قبل
الدخول في الإسلام تماماً ( * ).
وعلى أي حال: فلا شك أن لولي الأمر أن يمنع عن إحياء بعض أراضي
الدولة، وأن يحدد الكمية التي يباح لكل فرد أحياؤها من تلك الأراضي، إذا
اقتضت المصلحة العامة ذلك.
( * ) راجع الملحق رقم 6.
ونخلص من أحكام الأراضي الموات على النقاط الآتية:
أولاً: أنها تعتبر ملكاً للدولة.
وثانياً: أن أحياءها من قبل الأفراد جائز مبدئياً، ما لم يمنع عنه ولي
الأمر.
ثالثاً: أن الفرد إذا أحيى أرضاً للدولة وعمرها، كان له فيها الحق الذي
يخوله الانتفاع بها، ويمنع الآخرين من مزاحمته فيها، دون أن تصبح الأرض
ملكاً خاصاً له.
رابعاً: للإمام أن يتقاضى من الفرد المحيي للأرض لأن رقبة
الأرض ملكه. ويفرض هذا الخراج وفقاً للمصلحة العامة، والتوازن
الاجتماعي. وللإمام أيضاً أن يعفو عن الخراج في ظروف معينة،
ولإعتبارات استثنائية نجد ذلك في السيرة النبوية المقدسة. وعلى ضوء ما تقدم
يمكننا أن نميز بوضوح بين الحق الخاص الذي ذكرنا أن الفرد يكسبه بالاحياء
وبين الملكية الخاصة لرقبة الأرض التي نفينا حصولها بالأحياء. ويمكن تلخيص
أهم ما يميز هذا الحق عن ملكية رقبة الأرض فيها يلي:
أولاً_ إن هذا الحق يسمح للدولة بأخذ الأجرة من الفرد صاحب الحق
لقاء انتفاعه بالأرض لأن رقبتها تظل ملكاً للدولة بينما لا مبرر لهذه الأجرة في
حالة قيام ملكية خاصة لرقبة الأرض.
ثانياً_ إن هذا الحق حق الأولوية من الآخرين، بمعنى أن المحيي أولى
بالأرض التي أحياها ممن لم يحيها ولا يعني ذلك أنه أولى بها من الإمام نفسه
المالك الشرعي للأرض فهو حق نسبي يتمتع به المحيي أمام الآخرين لا أمام
المالك نفسه ولهذا كان من حق الإمام أن ينتزعها منه وفقاً لما يقدره من المصلحة
العامة كما تشير إلى ذلك رواية الكابلي.(1/34)
ثالثاً: قد يقال أن هذا الحق يختلف عن الملكية موضوعاً فإن الملكية
الخاصة لرقبة الأرض موضوعها الأرض نفسها وأما هذا الحق فهو حق الاحياء
وبهذه المناسبة يكون حقاً في حياة الأرض التي أوجدها المحيي فيها لا في الأرض
نفسها. ويترتب على ذلك أن هذه الحياة إذا زالت وعادت الأرض ميتة سقط
هذا الحق بصورة طبيعية إذ ينتفي موضوعه، وأما الملكية المتعلقة برقبة الأرض
فيحتاج سقوطها إلى دليل لأن موضوعها لا يزال ثابتاً.
3_ أرض الصلح
وهي الأرض التي هجم عليها المسلمون لفتحها، فلم يسلم أهلها،
ولا قاوموا الدعوة بشكل مسلح، وإنما ظلوا على دينهم، ورضوا أن يعيشوا في
كنف الدولة الإسلامية مسالمين. فالأرض تصبح أرض صلح في العرف
الفقهي، ويجب تطبيق ما تم عليه الصلح بشأنها، فإذا كان عقد الصلح ينص
على أن الأرض لأهلها، فهي على هذا الأساس، تعتبر ملكاً لهم، وليس
لمجموع الأمة حق فيها، وإذا تم الصلح على تملك الأمة للأرض ملكية عامة
وجب التقيد بذلك، وخضعت الأرض لمبدأ الملكية العامة، وفرض عليها
الخراج.
ولا يجوز الخروج عن مقررات عقد الصلح. فقد جاء في كتاب الأموال
عن رسول الله (ص)، ((أنكم لعلكم تقاتلون قوماً فيتقونكم بأموالهم،
دون أنفسهم وأبنائهم، ويصالحونكم على صلح، فلا تأخذوا منهم فوق
ذلك، فإنه لا يحل لكم)). وورد في سنن أبي داود عن النبي(ص) ((ألا من
ظلم معاهداً أو نقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب
نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة)).
وأما موات أرض الصلح، فالقاعدة فيها هي ملكية الدعوة، كموات
الأراضي المفتوحة، وموات الأراضي المسلمة بالدعوة. وكذلك أيضاً
الغابات من أراضي الصلح وما إليها من الأراضي العامرة طبيعياً، ما لم يكن
قد أدرجها النبي صلى الله عليه وآله في عقد الصلح، فتطبق عليها حينئذ
مقتضيات العقد.
4_أراضي أخرى للدولة
وتوجد أنواع أخرى من الأرض تخضع لمبدأ ملكية الدولة، كالأراضي(1/35)
التي سلمها أهلها للدولة الإسلامية، دون هجوم من المسلمين، تسليماً
ابتدائياً. فإن هذه الأراضي من الأنفال التي تختص بها الدولة، أو النبي
(ص) والإمام بتعبير آخر، كما قرّره القرآن الكريم في قوله تعالى:(وما أفاء
الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط
رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير). وقد نص الماوردي على أن
هذه الأراضي التي يتم انجلاء الكفار عنها خوفاً تصير بالاستيلاء عليها وقفاً(1)
وهذا يعني دخولها في نطاق الملكية العامة.
ومن أراضي الدولة أيضاً الأرض التي باد أهلها وانقرضوا، كما جاء في
حديث حماد بن عيسى عن الإمام موسى بن جعفر (ع): ((إن للإمام
الانفال، والانفال، كل أرض باد أهلها.. الخ)).
وكذلك أيضاً الأراضي المستجدة في دار الإسلام، كما إذا ظهرت جزيرة
في البحر أو النهر، مثلاً، فإنها تندرج في نطاق ملكية الدولة، تطبيقاً للقاعدة
الفقهية القائلة، أن كل أرض لا رب لها هي للإمام. وذكر الخرشي في شرحه
على المختصر الجليل(2) أن الأرض إذا كانت غير مملوكة لأحد كالفيافي أو ما
انجلى عنها أهلها فحكمها أنها للإمام اتفاقاً قال البعض يريد أهل المذهب ما
انجلى منها أهلها الكفار وأما المسلمون فلا يسقط ملكهم عن أراضيهم
بانجلائهم.
الحد من السلطة الخاصة على الأرض
يمكننا أن نستخلص من التفصيلات السابقة، أن اختصاص الفرد
بالأرض والحق الشخصي فيها ينشأ من أحد أسباب ثلاثة.
1_ أحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة.
2_ إسلام أهل البلاد، واستجابتهم للدعوة طوعاً.
3_ دخول الأرض في دار الإسلام، بعقد صلح ينص على منح الأرض
للمصالحين.
ويختلف السبب الأول عن الأخيرين، في نوع العلاقة الخاصة التي تنجم
عنه. فالسبب الأول وهو إحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة، لا يدرج
الأرض في نطاق الملكية الخاصة، ولا ينزع عنها طابع ملكية الدولة ولا يمنع
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 133.
(2) جـ 2 ص 208.(1/36)
الإمام من فرض الخراج والأجرة على الأرض. وإنما ينتج عن الاحياء حق
للفرد الذي يسمح له بالانتفاع من الأرض، ومنع الآخرين من مزاحمته، كما
مر بنا سابقاً. وأما السببان الأخيران، فإنهما يمنحان الفرد المسلم أو المصالح
ملكية الأرض، فتصبح بذلك مندرجة في نطاق الملكية الخاصة.
والاختصاص الشخصي للفرد بالأرض_ سواء كان على مستوى حق أو
على مستوى ملكية_، ليس اختصاصاً مطلقاً من الناحية الزمنية، بل هو
اختصاص وتفويض محدود بقيام الفرد بمسؤولية تجاه الأرض، فإذا أخل
بمسؤولية، بالصورة التي سوف توضحها الروايات الآتية. سقط حقه في
الأرض، ولم يجز له احتكارها وتحجيرها، ومنع الآخرين من اعمارها
واستثمارها. وبذلك اتخذ المفهوم القائل بأن الملكية وظيفة اجتماعية يمارسها
الفرد.. أقوى تعبير في مجال الأرض و حقوق الأفراد فيها.
والدليل على ذلك من الشريعة عدة نصوص تشريعية: فقد جاء
حديث أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الإمام على بن موسى الرضا (ع)،
قال: ((من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر، مما سقت المساء
والأنهار، ونصف العشر مما كان بالرشا، فيما عمروه منها، وما لم يعمر منها
أخذه الإمام فقبله من يعمره، وكان للمسلمين، وعلى المتقبلين في حصصهم
العشر أو نصف العشر)).
وورد في صحيح معاوية بن وهب: أن الإمام جعفر(ع)قال ((أيما رجل
أتى خربة بائرة فاستخرجها، وكرى أنهارها وعمرها، فإن عليه فيها الصدقة
(الزكاة). فإن كانت لرجل قبله، فغاب عنها تركها فأخربها، ثم جاء بعد
يطلبها، فإن الأرض لله ولمن عمرها)).
وفي صحيح الكابلي، جاء النص عن أمير المؤمنين علي(ع)، ((بأن من
أحيى أرضاً ميتة من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل
بيتي، وله ما أكل منها. فإن تركها أو أخربها، فأخذها رجل من المسلمين من
بعده فعمرها وأحياها، فهو أحق بها من الذي تركها فليؤد خراجها إلى(1/37)
الإمام))(1).
ففي ضوء هذه النصوص نعرف، أن حق الفرد في الأرض الذي يخوله
منع غيره من استثمارها، يزول بخراب الأرض وإهماله لها، وامتناعه عن
عمارتها، فلا يجوز له بعد إهمال الأرض على هذا الشكل، أن يمنع غيره من
السيطرة عليها واستثمارها ما دام مهملاً لها.
ولا فرق في ذلك، بين الفرد الذي مارس إحياء الأرض وغيره ممن حصل
على الأرض بأسباب أخرى، فإنه لا يسمح له باحتكار الأرض بعد خرابها
وإهمالها، مهما كان السبب في حصوله عليها.
وللشهيد الثاني رحمة الله نص يوضح هذا المعنى في المسالك إذ كتب
يقول، ((إن هذه الأرض_ أي الأرض التي أحياها الفرد ثم خربت_ أصلها
مباح فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه، وصارت مباحة، وإن العلة في
تملك هذه الأرض الاحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال المعلول)).
فإذا كانت الأرض من أراضي الدولة( الإمام)، وأهملها الشخص
الذي عمرها حتى أخرجها، عادت بعد خرابها حرة طليقة، تطبق عليها نفس
الأحكام التي تطبق على سائر الأراضي الميتة التي تملكها الدولة فيفسح المجال
لإحيائها من جديد، ويترتب على إحيائها نفس الأحكام التي تترتب على
إحيائها الأول.
ويريد بذلك، أن الحق الذي يحصل عليه الفرد في الأرض إنما هو نتيجة
للإحياء ومعلول له، فيبقى حقه ما دامت العلة باقية والأرض عامرة، فإذا
= قال: الصدقة. قلت: فإن كان يعرف صاحبها. قال: فليؤد إليه حقه)).
وذلك، لأن الجواب في رواية الحلبي، لم يفرض فيه إلا مجرد كون الأرض خربة قد زال عمرانها، هذا
العنوان أعم من كون الخراب مستنداً إلى إهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام بحقها. وحيث أن صحيحة
معاوية بن وهب أخذ في موضوعها، أن صاحب الأرض السابق ترك الأرض وأخربها، فهي أخص مطلقاً من
__________
(1) ولا يمكن أن يعارض صحيحاً الكابلي ومعاوية بن وهب، برواية الحلبي عن الإمام الصادق
(ع) : (( أنه سأله عن الرجل يأتي الأرض الخربة، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ما عليه؟=(1/38)
رواية الحلي. ومقتضى التخصيص: أن علاقة صاحب الأرض بأرضه تزول بخراب الأرض وامتناعه عن
أحيائها.
زالت معالم الحياة عن الأرض سقط حقه، لزوال العلة(1).
__________
(1) ويلاحظ لدى مقارنة هذا النص الفقهي بالنصوص التشريعية التي مرت بنا في رواية معاوية بن
وهب ورواية الكابلي، أن النص للشهيد واضح كل الوضوح في انقطاع صلة الفرد بالأرض نهائياً، إذا خربت
وزال عمرانها، لأن العلة إذا زالت زال المعلول. وأما النصوص التشريعية السابقة، فهي تسمح عند
خراب الأرض وإهمال صاحبها لها بأحيائها من أي فرد آخر، وتمنحه الأرض بدلاً عن صاحبها السابق،
ولكنها لا تدل على انقطاع صلة صاحب الأرض بأرضه انقطاعاً نهائياً، بسبب خرابها، فمن الممكن في حدود
المعطى التشريعي لهذه النصوص، إن يفترض لصاحب الأرض حق فيها، وعلاقة بها حتى بعد خرابها،
بدرجة يجعل له حق السبق إلى تجديد إحيائها، إذا نافسه غيره على ذلك، ويستمر هذا الحق ما لم يسبقه
شخص آخر إلى احياء الأرض، فإن إحياءها فرد آخر فعلاً، حال إهمال صاحبها الأول، انقطعت صلة
الأرض بصاحبها القديم.
فعل أساس النص الفقهي للشهيد، يزول حق الفرد في الأرض لدى خرابها بصورة كاملة.
وعلى أساس النصوص الأخرى، يمكن أن نفترض بقاء علاقة الفرد الأول بأرضه، وحقه فيها بعد
الخراب بدرجة ما وزوال حق الاحتكار فقط أي حق منع الآخرين عن استثمار الأرض والانتفاع بها.
وينعكس الفرق عملياً بين هاتين الفرضيتين، فيما إذا إهمل الفرد أرضه وخربت، ثم مات قبل أحياء
فرد آخر لها، فإن الإنطلاق مع رأي الشهيد، يؤدي إلى القول بعدم انتقال الأرض إلى الورثة، لأن
صاحبها انقطعت صلته بها نهائياً بعد خرابها، فلا معنى لاندراجها في تركته التي تورث. وأما على الأساس
الثاني، فالأرض تورث بمعنى أن الورثة يتمتعون بنفس الدرجة من الحق، التي بقيت للميت بعد خراب
الأرض.
وسوف تتجه بحوث الكتاب المقبلة إلى تبني رأي الشهيد الثاني.(1/39)
وقد ذكر المحقق الثاني في(جامع المقاصد)، أن زوال اختصاص
المحيي بالأرض بعد خرابها، وجواز اخذ الغير لها، واختصاصه بها،
هو المشهور بين الأصحاب والرأي الفقهي السائد في كلماتهم(1). وقال
الإمام مالك (ولو أن رجلاً أحيا أرضاً مواتاً ثم أهملها بعد حتى تهدمت
آبارها وهلكت أشجارها وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك
وصارت إلى حالها الأول ثم أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي
أحياها أول مرة(2).
وقال بعض فقهاء الاحناف بهذا أيضاً معللين ذلك بأن الأول ملك
استغلال الأرض لا رقبتها فإذا تركها كان الثاني أحق بها(3).
وإذا كانت الأرض التي أهملها صاحبها، مندرجة في نطاق الملكية
الخاصة، كالأراضي التي أسلم عليها أهلها، طوعاً.. فإن ملكية صاحبها
لها، لا تحول دون سقوط حقه فيها، بإهمالها الامتناع عن القيام بحقها،
كما عرفنا. وتعود_ في رأي ابن البراج وابن حمزة وغيرهما_ ملكاً
للمسلمين وتدخل في نطاق الملكية العامة.
وهكذا نعرف، أن الاختصاص بالأرض_ حقاً أو ملكاً_ محدود
بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعية في الأرض. فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها
حتى خربت، انقطعت صلته بها، وتحررت الأرض من قيوده. وعادت
ملكاً طليقاً للدولة، إن كانت مواتاً بطبيعتها، وأصبحت ملكاً عاماً
للمسلمين، إن كان الفرد الذي أهملها وسقط حقه فيها قد ملكها بسبب
شرعي، كما في الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً.
نظرة الإسلام العامة إلى الأرض
في ضوء الأحكام المتنوعة التي شرعها الإسلام للأرض، ووقفنا على
__________
(1)
(2) ولا فرق في سقوط الاختصاص بسبب الحزاب والإهمال، بين أن يكون المهمل نفس المحيي
للأرض أو شخصاً آخر، انتقلت إليه الأرض من المحيي، لإطلاق الدليل بالنحو الذي تقدم. وقد مال إلى
ذلك المحققان الفقيهان صاحب الكفاية وصاحب المفاتيح.
(2) 26) المدونة الكبرى 15/195.
(3) 27) الهداية للمرغيناني 8/137.(1/40)
تفصيلاتها يمكننا أن نستخلص النظرة العامة للإسلام إلى الأرض، ومصيرها
في ظل الإسلام، الذي يمارس النبي(ص)تطبيقه أو خليفته الشرعي،
وسوف نحدد الآن النظرة العامة للإسلام إلى الأرض. فإذا استعرضنا بعد
ذلك أحكام الإسلام، التي تتصل بسائر ثروات الطبيعة، ومصادر الإنتاج
الأساسية، عدنا إلى هذه النظرة الإسلامية العامة عن الأرض، لنضعها في
موضعها من نظرة أشمل وأوسع، تشكل الأساس والقاعدة المذهبية لتوزيع
ما قبل الإنتاج.
لكي نستطيع تجلية الموقف، وفحص المضمون الاقتصادي للنظرة
الإسلامية في الأرض، وعزله عن سائر العوامل والاعتبارات الأخرى،
ذات الصفة السياسية التي سنأتي على ذكرها بعد ذلك. لكي يتأتى لنا ذلك
كله، يحسن بنا أن ننطلق_ في تحديد نظرة الإسلام العامة_ من فرضية
تساعدنا على إبراز المضمون الاقتصادي للنظرية، مستقلاً عن الاعتبارات
السياسية.
فلنفترض، أن جماعة من المسلمين قررت أن تستوطن منطقة من
الأرض كانت لا تزال غير مستثمرة، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعاً
إسلامياً وأقامت علاقتها على أساس الإسلام، ولنتصور أن الحاكم الشرعي،
النبي(ص)أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات، وتجسيد الإسلام
في ذلك المجتمع بكل خصائصه ومقوماته الفكرية والحضارية والتشريعية..
فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض؟، وكيف تنظم
ملكيتها؟.
والجواب على هذا السؤال جاهز، في ضوء التفصيلات التي قدمناها.
فان الأرض التي قدّر لها في فرضيتنا أن تصبح وطناً للمجتمع الإسلامي،
وتنمو على تربتها حضارة السماء، قد افترضناها أرضاً طبيعية غير مستثمرة
لم يتدخل العنصر الإنساني فيها بعد، ومعنى هذا أن هذه الأرض تواجه
الإنسان وتدخل في حياته لأول مرة في الفترة المنظورة من التاريخ.
ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين، ففيها
الأراضي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء(1/41)
ومرونة في التربة، وما إلى ذلك، فهي عامرة طبيعياً، وفيها الأراضي التي
لم تظفر بهذه المميزات من الطبيعة، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها
تلك الشروط، وهي الأرض الميتة في العرف الفقهي، فالأرض التي
افترضنا أنها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي، هي إذن: إما أرض
عامرة طبيعياً وإما أرض ميتة ولا يوجد قسم ثالث.
والعامر طبيعياً من تلك الأرض ملك للدولة، أو بتعبير آخر، ملك
المنصب الذي يمارسه النبي(ص)وخلفاؤه الشرعيون، كما مر بنا، وفقاً
للنصوص التشريعية والفقهية، حتى جاء في تذكرة العلامة الحلي، أن
إجماع العلماء قائم على ذلك.
وكذلك أيضاً الأرض الميتة، كما عرفنا سابقاًَ، وهو واضح أيضاً في
النصوص التشريعية والفقهية. حتى ذكر الشيخ الإمام المجدد الأنصاري
في المكاسب، أن النصوص بذلك مستفيضة، بل قيل أنها متواترة.
فالأرض كلها إذن، يطبق عليها الإسلام_ حين ينظر إليها في وضعها
الطبيعي_ مبدأ ملكية الإمام، وبالتالي ملكية ذات طابع عام.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم النصوص التشريعية، المنقولة عن
أئمة أهل البيت بأسانيد صحيحة، التي تؤكد أن الأرض كلها ملك
الإمام، فإنها حين تقرر ملكية الإمام للأرض، تنظر إلى الأرض بوضعها
الطبيعي كما تقدم(1).
__________
(1) وبهذا نعرف. أن في الإمكان تفسير ملكية الإمام للأرض كلها_ في هذه النصوص_
على أساس كونها حكماً شرعياً وملكية اعتبارية، ما دامت منصبة على الوضع الطبيعي للأرض
من حيث هي ولا تتعارض مع تملك غير الإمام لشيء من الأرض، بأسباب شرعية طارئة على
الوضع الطبيعي للأرض، من إحياء أو غيره. فلا ضرورة لتأويل الملكية في تلك النصوص
واعتبارها أمراً معنوياً لا حكماً شرعياً مع أن هذا التأويل يعارض سياق تلك النصوص بوضوح.
فلاحظ رواية الكابلي كيف قررت أن الأرض كلها ملك الإمام، وانتهت من ذلك إلى القول
بأن للإمام حق الطسق على أن يحيي شيئاً من الأرض، فان فرض الطسق أو الأجرة للإمام،
تفريعاً على ملكيته.. يدل بوضوح، على أن الملكية هنا بمعناها التشريعي، الذي تترتب عليه
هذه الآثار، لا بمعنى آخر روحي بحت.(1/42)
ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع_ الذي افترضناه_
من ألوان الاختصاص بالأرض. وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة
والاستيلاء المجرد، بوصفه مبرراً أصيلاً لاختصاص الفرد بالأرض التي
يجوزها ويستولي عليها، لأنا لا نملك نصاً صحيحاً يؤكد ذلك في الشريعة،
كما ألمعنا سابقاً، وإنما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنه يبرر الاختصاص
شرعاً: هو الإحياء، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، من
أجل بعث الحياة فيها.
فان ممارسة هذا العمل، أو العمليات التمهيدية له تعتبر في الشريعة
سبباً للاختصاص. ولكنه بالرغم من ذلك لا يكون سبباً لتملّك الفرد رقبة
الأرض ملكية خاصة تخرج بها عن مبدأها الأول، وإنما ينتج حقاً للفرد،
يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره، بسبب الجهود
التي بذلها في الأرض. ويظل للإمام ملكية الرقبة، وحق فرض الضريبة على
المحيي، وفقاً للنص الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير، محمد بن
الحسن الطوسي، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط، ((فأما
الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام فان أحياها أحد كان أولى بالتصرف
فيها، ويكون للإمام طسقها)). وقد مر بنا النص سابقاً.
ويستمر الحق الذي يمنح للفرد بالإحياء، ما دام عمله مجسداً في الأرض،
فإذا استهلك عمله، واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على
عمرانها، فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقه، إلا بمواصلة أعمارها وتقديم
الجهود اللازمة لذلك، أما إذا أهملها وامتنع عن عمرانها، حتى خربت
سقط حقه فيها.
نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة، وأن نحدد النظرة العامة
فالأرض بطبيعتها ملك الإمام، ولا يملك الفرد رقبتها، ولا يصلح أي
اختصاص فردي بها، إلا على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل
لأجل إعدادها واستثمارها. وهذا الاختصاص أو الحق الذي يكسبه الفرد
نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطسق أو الضريبة على الأرض(1/43)
المحياة لتساهم الإنسانية الصالحة كلها في الاستفادة منها، ولا يتعارض
هذا مع العفو عن الطسق أو الضريبة أحياناً، لظروف استثنائية، كما جاء
في أخبار التحليل.
هذه هي نظرة الإسلام نحو الأرض، كما تبدو لنا_ حتى الآن_ قبل
إبراز العنصر السياسي منها. وفي الواقع أنها جديرة بحل التناقض القائم بين
أنصار ملكية الأرض وخصومها، فإن ملكية الأرض من القضايا الاجتماعية،
التي لعبت دوراً مهماً في التفكير البشري، تبعاً لأهميتها بوصفها ظاهرة
عاشت في حياة الإنسان منذ آلاف السنين.
وأكبر الظن أن هذه الظاهرة ولدت في تاريخ الإنسان أو اتسعت بعد
اكتشافه للزراعة واعتماده في حياته عليها إذ وجد الإنسان المزارع نفسه
بحاجة إلى الاستقرار في ارض خاصة مدة من الزمان، لما يتطلبه هذا الإنتاج من
وقت. فكان من الطبيعي أن يرتبط إلى حد ما بمساحة معينة من الأرض،
ويمارس فيها عمله، ويقيم له فيها مأوى ومسكناً يسكنه قريباً من زرعه،
ليكون قادراً على مراقبته والمحافظة عليه، وفي النهاية، وجد الإنسان
المزارع_ أي مزارع_ نفسه مشدوداً إلى مساحة من الأرض ومرتبطاً
بها عدة روابط تنبع كلها أخيراً من عمله الذي أنفقه على الأرض، وجهده
الذي اختلط بتربتها كل ذرة من ذراتها، فكان من أثر ذلك أن نشأت
فكرة الاختصاص، لأنها كانت تعكس من ناحية: هذا الارتباط الذي
يجده المزارع بينه وبين عمله المنفصل، الذي جسده في الأرض، ومزجه
بوجودها. ومن ناحية أخرى كانت فكرة الاختصاص تحقق الاستقرار،
وتسفر عن تقسيم الأرض على أساس الكفاءة إذ يحتفظ كل فرد بالمساحة
التي عمل فيها، وأثبت كفاءته إلى درجة ما في استثمارها.
وعلى هذا الأساس نرجح أن تكون الحقوق الخاصة في الأرض نشأت
تاريخياً في أكبر الظن نتيجة للعمل، واتخذت هذه الحقوق على مر الزمن
شكل الملكية.
مع خصوم ملكية الأرض:
والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكية الأرض حولها، تتجه تارة(1/44)
إلى اتهام واقعها التاريخي وجذورها الممتدة في أعماق الزمن، وتذهب تارة
أخرى إلى أكثر من ذلك، فتدين نفس فكرة الملكية وحق الفرد في الأرض،
بمجافاتها لمباديء العدالة الاجتماعية.
أما اتهام واقع ملكية الأرض، والسند التاريخي لهذه الملكية.. فينصب
في الغالب على أسباب القوة والسيطرة، التي تقول عنها التهمة أنها لعبت
دورها الرئيسي على مرّ التاريخ، في توزيع الأرض توزيعاً غير عادل، ومنح
الأفراد حقوقاً خاصة فيها، وإذا كانت القوة والإغتصاب وعوامل العنف،
هي المبررات الواقعية والسند التاريخي لملكية الأرض، والحقوق الخاصة
التي شهدها تاريخ الإنسان.. فمن الطبيعي أن تشجب هذه الحقوق
وتعتبر ملكية الأرض في التاريخ لوناً من السرقة.
ونحن لا ننكر عوامل القوة والاغتصاب، ودورها في التأريخ، ولكن
هذه العوامل لا تفسر ظهور ملكية الأرض وحقوقها الخاصة في التاريخ،
إذ يجب لكي تستولي على الأرض بالعنف والاغتصاب، أن يكون هناك
من تغتصب منه الأرض، وتطرده بالقوة لتضمها إلى أراضيك. وهذا
يفترض مسبقاً أن تكون تلك الأرض التي تعرضت للاغتصاب والعنف،
قد دخلت في حيازة شخص أو أشخاص قبل ذلك، وأصبح لهم حق فيها.
وحين نريد أن نفسر هذا الحق السابق على عمليات الاغتصاب، يجب
أن ندع جانباً التفسير بالقوة والعنف، لنفتش عن سببه، في نوع العلاقة
التي كانت قائمة بين الأرض وأصحاب الحق فيها. ومن ناحية أخرى أن
هذا الشخص الغاصب، الذي نفترض أنه كان يستولي على الأرض بالقوة..
لم يكن على الأكثر شخصاً طريداً لا مأوى له ولا أرض، بل هو_ في
أقرب صورة إلى القبول_ شخص استطاع أن يعمل في مساحة من الأرض
ويستثمرها، واتسعت امكاناته بالتدرج، فأخذ يفكر في الاستيلاء بالعنف
على مساحات جديدة من الأرض. فهناك إذن قبل العنف والقوة العمل
المثمر والحق القائم على أساس العمل والاستثمار.
وأقرب الأشياء إلى القبول، حين نتصور طائفة بدائية تسكن في أرض(1/45)
وتدخل الحياة الزراعية.. أن يشغل كل فرد فيها مساحة من تلك الأرض،
تبعاً لإمكاناته، ويعمل لاستثمارها. ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه
تقسيماً للعمل_ إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كل شبر_ تنشأ
الحقوق الخاصة للأفراد، ويصبح لكل فرد حقه في الأرض، التي أجهدته
وامتصت عمله وأتعابه. وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوة، حين
يأخذ الأكثر قدرة وقوة يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم.
ولسنا نريد بهذا أن نبرر الحقوق والملكيات الخاصة للأرض، التي
مرت في تاريخ الإنسان، وإنما نستهدف القول. بأن الاحياء_ العمل في
الأرض_ هو_ في أكبر الظن_ السبب الأول الوحيد، الذي اعترفت
به المجتمعات الفطرية، بوصفه مصدراً لحق الفرد في الأرض، التي أحياها
وعمل فيها، والأسباب الأخرى كلها عوامل ثانوية، ولدتها الظروف
والتعقيدات، التي كانت تبتعد بالمجتمعات الأولى عن وضعها الفطري
والهامها الطبيعي.
وقد فقد السبب الأول اعتباره تاريخياً بالتدريج، خلال نمو هذه
العوامل الثانوية، وتزايد سيطرة الهوى على الفطرة، حتى امتلأ تاريخ
الملكية الخاصة للأرض بألوان من الظلم والاحتكار، وضاقت الأرض
على جماهير الناس، بقدر ما اتسعت للمحظوظين منهم.
والإسلام_ كما رأينا_ قد أعاد إلى هذا السبب الفطري اعتباره، إذ
جعل الاحياء المصدر الوحيد لاكتساب الحق من الأرض، وشجب الأسباب
الأخرى كلها. وبهذا أحيى الإسلام سنة الفطرة، التي كاد الإنسان
المصطنع أن يطمس معالمها.
هذا فيما يتصل باتهام السند التاريخي لملكية الأرض. ولكن الاتهام
الأوسع والأخطر من ذلك، هو اتهام نفس فكرة الملكية والحق الخاص
بالأرض بالذات، وبشكل مطلق، كما تؤكد عليه بعض الاتجاهات
المذهبية الحديثة، أو نصف الحديثة_ إن صح هذا التعبير_ كالاشتراكية
الزراعية وغالباً ما نسمع بهذا الصدد: أن الأرض ثروة طبيعية لم يصنعها
إنسان، وإنما هي هبة من هبات الله، فلا يجوز لأحد أن يستأثر بها دون(1/46)
الآخرين.
ومهما قيل في هذا الصدد، فان الصورة الإسلامية_ التي قدمناها في
مستهل هذا الحديث_ سوف تبقى فوق كل تهمة منطقية. لأننا رأينا
أن الأرض_ منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلمت
الإنسانية هذه الهبة من الله تعالى_، ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد من
الأفراد، وإنما هي ملك الإمام_ باعتبار المنصب لا الشخص_ ولا تزول
_ بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض_ ملكية الإمام لها، ولا
تصبح الأرض ملكاً للفرد بالعنف والاستيلاء، بل وحتى بالإحياء، وإنما
يعتبر الإحياء مصدراً لحق الفرد في الأرض فإذا بادر شخص بصورة مشروعة
إلى إحياء مساحة من الأرض، وأنفق فيها جهوده، كان من الظلم أن
يساوي في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد، الذي لم يمنحوا تلك الأرض
شيئاً من جهودهم، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها.
فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقاً يجعله من غيره، ويسمح من
الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة أو الطسق عليه، لتساهم الإنسانية
الصالحة كلها في الاستفادة من الأرض، عن طريق الانتفاع بهذا الطسق.
ولما كان الحق في نظر الإسلام يقوم على أساس العمل، الذي أنفقه
الفرد على الأرض، فهو يزول_ بطبيعة الحال_ إذا استهلكت الأرض ذلك
العمل، وتطلبت المزيد من الجهد، لمواصلة نشاطها وإنتاجها، فامتنع
صاحب الأرض من عمرانها وأهملها حتى خربت، والأرض_ في هذه
الحالة_ تنقطع صلتها بالفرد الذي كان يمارسها لزوال المبرر الشرعي
الذي كان يستمد منه حقه الخاص فيها، وهو عمله المتجسد في عمران
الأرض وحياتها.
العنصر السياسي في ملكية الأرض:
والآن وقد استوعبنا النظرية الاقتصادية للإسلام نحو الأرض، يتحتم
علينا أن نبرز العنصر السياسي، الذي يكمن في نظرة الإسلام العامة إلى
الأرض، فان الإسلام قد اعترف إلى جانب الاحياء، الذي هو عمل
اقتصادي بطبيعة.. بالعمل السياسي. والعمل السياسي الذي يتجسد في(1/47)
الأرض ويمنح العامل حقاً فيها، هو العمل الذي يتم بموجبه ضم الأرض
إلى حوزة الإسلام، وجعلها مساهمة بالفعل في الحياة الإسلامية، وتوفير
إمكاناتها المادية.
وفي الواقع: أن مساهمة الأرض فعلاً في الحياة الإسلامية وتوفير
إمكاناتها المادية، تنشأ تارة عن سبب اقتصادي، وهو عملية الاحياء التي
ينفقها الفرد، على أرض داخلة في حوزة الإسلام، لتدب فيها الحياة
وتساهم في الإنتاج، كما تنشأ_ تارة أخرى_ عن سبب سياسي، وهو
العمل الذي يتم بموجبه، ضم أرض حية عامرة إلى حوزة الإسلام. وكل
من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام.
وهذا العمل الذي ينتج ضم أرض حية عامرة إلى حوزة الإسلام على
نوعين: لأن الأرض تارة تفتح فتحاً جهادياً، وعلى يد جيش الدعوة،
وأخرى يسلم عليها أهلها طوعاً.
فان كان ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، ومساهمتها في الحياة
الإسلامية نتيجة للفتح، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأمة، لا عمل
فرد من الأفراد، ولذلك تكون الأمة هي صاحبة الأرض، ويطبق على
الأرض_ لأجل ذلك_ مبدأ الملكية العامة.
وإن كان ضم الأرض العامرة، وإسهامها في الحياة الإسلامية، عن
طريق إسلام أهلها عليها، كان العمل السياسي هنا عمل الأفراد، لا عمل
الأمة. ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقهم في الأرض العامرة، التي
أسلموا عليها، وسمح لهم بالاحتفاظ بها.
وهكذا نعرف. أن العمل السياسي يقوم بدور، في النظرة الإسلامية
العامة إلى الأرض، ولكنه لا ينتزع طابع اللافردية في الملكية، إذا كان
عملاً جماعياً، تشترك فيه الأمة بمختلف ألوان الاشتراك، كالفتح،
بل تصبح الأرض عندئذ ملكاً عاماً للأمة. والملكية العامة للأمة تتفق في
الجوهر والمغزى الاجتماعي مع ملكية الدولة، وإن كانت ملكية الدولة
أرحب منها وأوسع، لأن ملكية الأمة بالرغم من كونها عامة داخل نطاق
الأمة، لكنها خاصة بالأمة على أي حال، ولا يجوز استخدامها إلا في(1/48)
مصالحها العامة. وأما ملكية الدولة، فيمكن للإمام استثمارها في نطاق
أوسع. فالعمل السياسي الجماعي بالنسبة إلى الأراضي العامرة التي فتحها
المسلمون، أنتج وضعها في نطاق إسلامي، بدلاً عن نطاق إنساني أوسع،
ولم يخرجها عن طابع اللافردية في الملكية على أي حال وإنما تخرج الأرض
عن هذا الطابع، وتخضع لمبدأ الملكية الخاصة، حين يكون العمل السياسي
عملاً فردياً، كإسلام الأفراد على أراضيهم طوعاً.
وفي هذه الضوء نعرف. أن المجال الأساسي للملكية الخاصة لرقبة
الأرض في التشريع الإسلامي.. هو ذلك القسم من الأرض، الذي كان
ملكاً لأصحابه، وفقاً لأنظمة عاشوها قبل الإسلام، ثم استجابوا للدعوة
ودخلوا في الإسلام طوعاً أو صالحوا، فان الشريعة تحترم ملكياتهم،
وتقرهم على أموالهم.
وأما في غير هذا المجال، فالأرض تعتبر ملكاً للإمام. ولا تعترف
الشريعة بتملك الفرد لرقبتها، وإنما يمكن للفرد الحصول على حق خاص
فيها، عن طريق الأعمار والاستثمار، كما مر في رأي الشيخ الطوسي.
وهذا الحق وإن كان لا يختلف عملياً في واقعنا المعاش عن المكية، ولكنه
يختلف عنها نظرياً، لأن الفرد ما دام لا يملك رقبة الأرض، ولا ينتزعها
من نطاق ملكية الإمام فللإمام أن يفرض عليه الخراج، كما قرره الشيخ
الطوسي وإن كنا غير مسؤولين فعلاً عن هذا الخراج من الناحية العملية،
لأجل اخبار التحليل التي رفعته بصور استثنائية، مع اعترافها به نظرياً.
فالشريعة على الصعيد النظري إذن لم تعترف بالملكية الخاصة لرقبة
الأرض، إلا في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض، قبل دخولها
في حوزة الإسلام طوعاً وصلحاً.
ويمكننا بسهولة أن نجد المبررات السياسية لهذا الاعتراف، إذا ربطناه
باعتبارات الدعوة ومصلحتها الرئيسية، بدلاً عن ربطه بالمضمون الاقتصادي
للنظرة الإسلامية. لأن أولئك الذين أسلموا على أراضيهم طوعاً، أو دخلوا
في حوزة الإسلام صلحاً، كان من الضروري أن تترك المساحات التي(1/49)
عمروها في أيديهم، وإن لا يطالبوا بتقديمها إلى دولة الدعوة، التي دخلوا
فيها أن انضموا إلى سلطانها، وإلا لشكّل ذلك عقبة كبيرة في وجه الدعوة
وامتدادها في مختلف مراحلها.
وبالرغم من إعطاء الإسلام لهؤلاء حق الملكية الخاصة، فانه لم يمنحها
بشكل مطلق، وإنما حددها باستمرار هؤلاء الأفراد في استثمار أراضيهم،
والعمل لا سهامها في الحياة الإسلامية. وأما إذا أهملوا الأرض حتى خربت
فان عدداً من الفقهاء كابن البراج وابن حمزة يرى أنها تعود عندئذ ملكاً
للأمة.
نظرة الإسلام في ضوء جديد:
ويمكننا أن نتجاوز ما وصلنا إليه من استنتاجات حتى الآن عن نظرة
الإسلام التشريعية إلى الأرض لنضع هذه النظرة في إطار أكثر اتساقاً على
ضوء بعض المواقف الفقهية الخاصة من النصوص ويتمثل ذلك في المحاولة
التالية:
إننا لاحظنا قبل لحظات أن الأرض حينما ينظر إليها ضمن وضعها
الطبيعي وبصورة مستقلة عن الاعتبارات السياسية تعتبر إسلامياً ملكاً للدولة
لأنها إما ميتة بطبيعتها أو حية، وكلا القسمين ملك للإمام. كما رأينا أن
الفرد بممارسة الاحياء للأرض الميتة يكتسب حقاً خاصاً يجعله أولى بها من
الآخرين ما دامت حية، وبممارسته للانتفاع بالأرض العامرة يكتسب حقاً
يجعله أولى بالانتفاع بها ما دام مواصلاً لذلك.
والآن نريد أن نجد ما إذا كانت هناك تعديلات يجب إدخالها على هذه
الصورة التشريعية وما هي حدود هذه التعديلات، وذلك ضمن النقاط
التالية:
أولاً: الأرض المفتوحة عنوة العامرة حين الفتح.
وقد تقدم أن هذه الأرض يحكم بأنها ملك عام للمسلمين ولهذا قلنا
إنها تدخل في نطاق الملكية العامة للأمة لا في نطاق ملكية الدولة. ولكن
يمكن أن نقول بهذا الصدد إن هذه الأرض إذا نظرنا إليها قبل الفتح نجد
أنها أرض ميتة قد أحياها كافر فتكون رقبتها على ضوء ما تقدم ملكاً للإمام
أو الدولة وللكافر المحيي لها أو لمن انتقلت إليه من المحيي حق الاحياء،(1/50)
والروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) بشأن الأرض المفتوحة
وأنها للمسلمين لا يفهم منها سوى أن ما كان للكافر من حق في الأرض
ينتقل بالفتح إلى الأمة ويصبح حقاً عاماً ولا تدل على أن حق الإمام يسقط
بالفتح لأن المسلمين إنما يغنمون من أعدائهم لا من إمامهم، وعلى هذا
فسوف تظل رقبة الأرض ملكاً للإمام ويتحول ما فيها من حق خاص إلى
حق عام للأمة.
ثانياً: الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً.
وقد تقدم أن هذه الأرض ملك خاص لأصحابها غير أن بالإمكان
القول بأن الروايات الواردة لبيان حكم هذه الأرض كانت متجهة إلى
الأمر بتركها في أيدي أصحابها في مقابل ما يصنع بالأرض المفتوحة من
تجريد أصحابها من حقوقهم فيها فما يترك لمن أسلم طوعاً هو نفس ما ينتزع
من حق ممن قهر عنوة وهذا هو الحق الخاص دون ملكية رقبة الأرض.
وبكلمة أخرى: أن الأرض قبل إسلام أهلها عليها طوعاً كانت ملكاً للدولة
بحكم دليل الأنفال وكان لصاحبها حق خاص فيها هو حق الاحياء والإسلام
يحقن ماله من حقوق لا أنه يمنحه من الحقوق ما لم يكن له وعليه فيظل
محتفظاً بحق الاحياء مع بقاء الأرض ملكاً للدولة، ولذا وجدنا انه إذا
أخل بواجبة وأهمل الأرض ولم يعمرها كان على الإمام أن يبادر إلى
الاستيلاء عليها واستثمارها لأن رقبتها لا تزال ضمن نطاق ملكية الدولة.
ثالثاً: الأرض التي صولح أهلها على أن تكون لهم.
وهنا في الحقيقة عقد تنقل الدولة بموجبه ملكية هذه الأرض إلى
المصالحين في مقابل امتيازات معينة تكسبها كالجزية مثلاً، وقد سبق أن
الأراضي التي تملكها الدولة تعتبر من الأموال الخاصة للدولة التي يمكن
لها أن تتصرف فيها بمعاوضة ونحوها. ولكن عقد الصلح هذا عقد سياسي
بطبيعته وليس عقد معوضة فهو لا يعني حقاً إسقاط ملكية الدولة أو النبي
والإمام لرقبة الأرض ونقلها إليهم وإنما يعني رفع اليد عن أرضهم وتركها(1/51)
لهم في مقابل امتيازات معينة، ووجوب الوفاء بهذا العقد يحتم على الإمام
ألا يفرض عليهم أجرة في مقابل انتفاعهم بالأرض وهذا غير نقل ملكية
الرقبة، فالمصالحة على أن تكون الأرض لهم تعني المدلول العملي لهذه العبارة،
لا المدلول التشريعي، لأن المدلول العملي هو كل ما يهم الكفار المصالحين،
فهي نظير عقد الذمة الذي هو عقد سياسي تتنازل فيه الدولة عن جباية
الزكاة والخمس من الذمي في مقابل إعطاء الجزية فان هذا لا يعني سقوط
الزكاة عن الكافر من الوجهة التشريعية وإنما يعني إلزام الدولة بأن لا تمارس
جباية هذه الضريبة وإن كانت ثابتة تشريعاً.
فإذا تم كل ما تقدم أمكن القول بأن الأرض كلها ملك الدولة أو
المنصب الذي يمثله النبي أو الإمام ولا استثناء لذلك إطلاقاً وعلى هذا الضوء
نفهم قول الإمام علي في رواية أبي خالد الكابلي عن محمد بن علي الباقر(ع)
عنه (ع): (والأرض كلها لنا فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها
وليؤد خراجها إلى الإمام)...(1).
فالمبدأ في الأرض هو ملكية الدولة وإلى جانب هذا المبدأ يوجد حق
الاحياء وهو الحق الذي يجعل المحيي أو من انتقلت إليه الأرض من المحيي
أولى بالأرض من غيره وهذا الحق يكسبه الفرد إذا مارس الاحياء في حالة
عدم منع الإمام منه سواء كان مسلماً أو كافراً ويكون حقاً خاصاً غير
أنه إذا كان كافراً واحتل المسلمون أرضه عنوة في حرب جهاد تحوّل هذا
الحق الخاص إلى حق عام وأصبح قائماً بالأمة الإسلامية ككل.
وإذا لوحظ أن الأرض الخراجية لا يجوز للإمام اخراجها عن كونها
خراجية ببيع رقبتها أو هبتها أمكن القول بأن هذا الحق العام وإن كان
لا يقطع صلة الدولة برقبة الأرض وملكيتها لها ولكنه يحوّل الأرض من
الأموال الخاصة للدولة إلى الأموال العامة لها التي لا بد أن تستثمرها في
__________
(1) وسائل الشيعة للحر العاملي. باب 2 من أبواب إحياء الموات ص143 جـ2 من (الطبعة
الحديدة).(1/52)
المصالح المقررة لها مع الاحتفاظ بها. وهذا ما يؤكده التعبير عن الأرض
الخراجية بأنها موقوفة ولأجل ذلك سوف نعبر بالملكية العامة عن كل حالة
من هذا القبيل تمييزاً لها عن حالات ملكية الدولة البحتة وهي حالات كون
الرقبة ملكاً للدولة مع عدم وجود حق عام من هذا النوع.
المواد الأولية في الأرض
تأتي المواد الأولية، التي تحويلها الطبقة اليابسة في الأرض، والثروات
المعدنية الموجودة فيها.. بعد الأرض مباشرة في الأهمية، وخطورة الدور
الذي تمارسه في حياة الإنسان الإنتاجية والاقتصادية، لأن كل ما يتمتع به
الإنسان في الحقيقة، من سلع وطيبات مادية، مردها في النهاية إلى الأرض،
وما تزخر به من مواد وثروات معدنية، ولذلك كانت جل فروع الصناعة
تعتمد وتتوقف على الصناعات الاستخراجية، التي يمارس الإنسان فيها
الحصول على تلك المواد والمعادن.
ويقسم الفقهاء عادة المعادن إلى قسمين: وهما المعادن الظاهرة، والمعادن
الباطنة.
فالمعادن الظاهرة هي: المواد التي لا تحتاج إلى مزيد عمل وتطوير
لكي تبدو على حقيقتها، ويتجلى جوهرها المعدني، كالملح والنفط مثلاً.
فنحن إذا نفذنا إلى آبار النفط، فسوف نجد المعدن بوجهه الحقيقي، ولن
نحتاج إلى جهد في تحويله إلى نفط وإن كنا بحاجة إلى جهود كبيرة، في
الوصول إلى آبار النفط واكتشافها، وفي تصفية النفط بعد ذلك.
فالمعدن الظاهر في العرف الفقهي، ليس هو ما يبدو من معنى اللفظ
لغة، أي الظاهر الذي لا يحتاج إلى حفر ومؤنة في التوصل إليه، بل هو
كل معدن تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواء احتاج الإنسان إلى حفر
وجهد كبير، للوصول إلى آباره وعيونه في أعماق الطبيعة، أو وجده
بيسر وسهولة على سطح الأرض.
وأما المعادن الباطنية فهي: كل معدن احتاج في إبراز خصائصه
المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب. فإن مناجم الحديد والذهب،
لا تحتوي على حديد أو ذهب ناجز، ينتظر أن يصل الإنسان إلى أعماقه(1/53)
ليأخذ منه ما شاء، وإنما تضم تلك المناجم مواداً يجب أن ينفق عليها كثير
من الجهد والعمل، لكي تصبح حديداً وذهباً، كما يفهمه بائعو الحديد
والذهب.
فظهور المعدن وبطونه في المصطلح الفقهي، يرتبطان بطبيعة المادة
ودرجة أنجاز الطبيعة لها، لا بمكانها ووجودها قريباً من سطح الأرض،
أو في أعماقها وأغوارها.
وقد قال العلامة الحلي في التذكرة، لإيضاح هذا المصطلح الفقهي الذي
شرحناه: ((إن المراد بالظاهر: ما يبدو جوهرها من غير عمل، وإنما
السعي والعمل لتحصيله، إما سهلاً أو متعباً، ولا يفتقر إلى إظهار،
كالملح، والنفط، والقار، والقطران، والموميا، والكبريت، وأحجار
الرحى، والبرمة، والكحل، ولياقوت، ومقالع الطين، وأشباهها.
والمعادن الباطنة هي: التي لا تظهر إلا بالعمل، ولا يوصل إليها إلا بعد
المعالجة والمؤونة. عليها، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد،
والنحاس، والرصاص.. الخ)).
المعادن الظاهرة:
أما المعادن الظاهرة_ كالملح والنفط_ فالرأي الفقهي السائد فيها هو:
أنها من المشتركات العامة بين كل الناس. فلا يعترف الإسلام لأحد
بالاختصاص بها، وتملكها ملكية خاصة، لأنها مندرجة عنده ضمن نطاق
الملكية العامة، وخاضعة لهذا المبدأ وإنما يسمح للأفراد بالحصول على قدر
حاجتهم من تلك الثروة المعدنية، دون أن يستأثروا بها، أو يتملكوا
ينابيعها الطبيعية.
وعلى هذا الأساس يصبح للدولة وحدها_ أو للإمام بوصفه ولي أمر
الناس، الذين يملكون تلك الثروات الطبيعية ملكية عامة_ أن يستثمرها
بقدر ما توفره الشروط المادية للإنتاج والاستخراج، من إمكانات، ويضع
ثمارها في خدمة الناس.
وأما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعادن، فتمنع
منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر، للوصول إلى المعدن،
واكتشافه في أعماق الأرض.. لم يكن لها حق تملك المعدن، وإخراجه عن
نطاق الملكية العامة، وإنما يسمح لكل مشروع فردي بالحصول على قدر(1/54)
حاجة الفرد الخاصة، من تلك المادة المعدنية.
وقد قال العلامة الحلي في التذكرة_ توضيحاً لهذا المبدأ التشريعي في
المعادن الظاهرة، بعد أن استعرض أمثلة كثيرة لها_: ((إن هذه المعادن
لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة، وإن أراد بها(النيل) إجماعا))(1).
ويعني (بالنيل): الطبقة التي تحتوي على المعدن من الأرض. أي أن الفرد
لا يسمح له بتملك تلك المعادن، ولو حفر حتى وصل إلى آبار النفط،
أي إلى الطبقة المعدنية في أعماق الأرض.
وقال أيضاً في القواعد_ عند الحديث عن المعادن_ ما يلي:
((المعادن وهي قسمان: ظاهرة وباطنة. أما الظاهرة، وهي التي لا تفتقر
في الوصلة إليها إلى موونة، كالملح والنفط، والكبريت، والقار،
والموميا، والكحل والبرام، والياقوت،... إلا قرب اشتراك المسلمين
فيها، فحينئذ لا تملك بالإحياء، ولا يختص بها المحجر، ولا يجوز إقطاعها،
ولا يختص المقطع بها. والسابق إلى موضع منه لا يزعج قبل قضاء وطره.
فإن تسابق اثنان أقرع مع تعذر الجمع، ويحتمل القسمة، وتقديم الأحوج))(2).
وقد نصت على مبدأ الملكية العامة، وعدم السماح بالملكية الخاصة
للمعادن الظاهرة، كثير من المصادر الفقهية، كالمبسوط، والمهذب،
والسرائر والتحرير، الدروس، واللعمة، والروضة(3).
وجاء في جامع الشرائع والإيضاح: (أنه لو قام الفرد لأخذ الزيادة
عن حاجته منع)(4).
وفي المبسوط، والسرائر، والشرائع، والإرشاد، واللعمة، ما يؤكد
هذا المنع، إذ جاء في هذه المصادر: أن من سبق أخذ قدر حاجته(5).
وقال العلامة في التذكرة: ((إن هذا هو رأي أكثر أصحابنا، ولم
__________
(1) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي الحسن بن يوسف المجلد الثاني.
(2) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ص 222 من الطبعة الحجرية كتاب إحياء الموات المطلب الثاني.
(3) لاحظ في ذلك مفتاح الكرامة للسيد العاملي جـ 7 ص 29
(4) مفتاح الكرامة جـ 7 ص 43.
(5) مفتاح الكرامة جـ 7 ص 43.(1/55)
يبينوا لنا حاجة يومه أو سنته))(1).
ويريد بذلك، أن الفقهاء منعوا من أخذ الزائد على قدر الحاجة،
ولم يحددوا الحاجة التي تسوّغ الأخذ، هل هي حاجة اليوم أو السنة؟.
وفي هذا تبلغ الشريعة قمة الصراحة، في التأكيد على عدم جواز الاستغلال
الفردي، لتلك الثروات الطبيعية.
وجاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: أن المعدن الظاهر وهو
وهو ما يخرج بلا علاج كنفط وكبريت لا يملك ولا يثبت فيه اختصاص
بتحجير ولا إقطاع فان ضاق نيله قدم السابق بقدر حاجته فان طلب زيادة
فالأصح إزعاجه(2).
وقال الشافعي يوضح حكم المعادن الظاهرة: وأصل المعادن صنفان
ما كان ظاهراً كالملح في الجبال تنتابه الناس فهذا لا يصلح لأحد أن يقطعه
بحال الناس فيه شرع وهكذا النهر والماء الظاهر والنبات فيما لا يملك لأحد،
وقد سأل الأبيض بن حمال النبي (ص) أن يقطعه ملح مأرب فأقطعه
إياه أو أراد. فقيل له: إنه كالماء العد فقال: فلا إذن: قال: ومثل
هذا كل عين ظاهرة كنفط أو قير أو كبريت أو موميا أو حجارة ظاهرة
في غير ذلك أحد فهو كالماء والكلأ الناس فيه سواء(3).
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية يتحدث عن المعادن الظاهرة:
فأما الظاهرة فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً كمعادن الكحل
والملح والقار والنفط وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء
يأخذه من ورد إليه.. فان اقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها
حكم وكان المقطع وغيره فيها سواء وجميع من ورد إليها أسوة مشتركون
فيها فإن منعهم المقطع منها كان بالمنع متعدياً(4).
فالمعادن الظاهرة في ضوء ما قدمناه من النصوص الفقهية خاضعة لمبدأ
__________
(1) تذكرة الفقهاء جـ 2 كتاب إحياء الموات المطلب الثاني.
(2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ 4 ص 346.
(3) الأم جـ 2 ص 131.
(4) الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ص 189_190.(1/56)
الملكية العامة. والملكية العامة هنا تختلف عن الملكية العامة لأراضي الفتح
العامرة، التي سبق الحديث عنها، لأن الملكية العامة لتلك الأرض كانت نتيجة
لعمل سياسي قامت به الأمة وهو الفتح، فلم تكن لتنفتح لأكثر من ذلك،
فهي ملكية عامة للأمة الإسلامية. وأما المعادن هنا، فالناس فيها جميعاً
سواء، بموجب كثير من المصادر الفقهية، التي جاء التعبير فيها بكلمة
الناس بدلاً عن كلمة المسلمين، كما في المبسوط، والمهذب، والوسيلة،
والسرائر والأم. إذ لا دليل في رأي أصحاب هذه المصادر على اختصاص
المسلمين بالمعادن، فهي إذن ملك عام للمسلمين، ولكل من يعيش في
كنفهم.
المعادن الباطنة
وأما المعادن الباطنة: وهي في العرف الفقهي كما عرفنا، كل معدن
لا ينجز بشكله الكامل إلا بالعمل، كالذهب الذي لا يصبح ذهباً إلا
بالعمل والتطوير.. فهذه بدورها أيضاً نوعان، لأن المادة المعدنية من هذا
القبيل قد توجد قريباً من سطح الأرض، وقد توجد في أعماقها بشكل
لا يمكن الوصول إليها، بدون حفر وجهد كبير.
المعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض:
أما ما كان من المعادن الباطنة قريباً من سطح الأرض، فهو كالمعادن
الظاهرة التي مرت بنا أحكامها الآن.
قال العلامة الحلي في التذكرة: ((فالمعادن الباطنة إما أن تكون ظاهرة_
أي قريبة من سطح الأرض أو في متناول اليد_ أولاً، فإن كانت ظاهرة
لم تملك بالإحياء أيضاً، كما تقدم في المعادن الظاهرة))(1).
والشيء نفسه ذكره ابن قدامة حيث كتب يقول: (إن المعادن
الظاهرة وهي التي يوصل ما فيها من غير مؤونة ينتابها الناس وينتفعون بها.
لا تملك بالاحياء ولا يجوز اقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون
المسلمين... فاما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصف إليها إلا بالعمل والمؤونة
كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج
__________
(1) تذكرة الفقهاء المجلد الثاني في كتاب إحياء الموات المطلب الثاني.(1/57)
فإذا كانت ظاهرة لم تملك أيضاً بالاحياء)(1).
فالإسلام لا يسمح في المواد المعدنية التي تقع قريباً من سطح الأرض
بتملكها، وهي في مكانها ملكية خاصة، وإنما يأذن لكل فرد أن يمتلك
الكمية التي يأخذها ويجوزها من تلك المواد، على أن لا يتجاوز الكمية حداً
معقولاً، ولا تبلغ الدرجة التي يصبح استيلاء الفرد عليها وحيازته لها سبباً
للضرر الاجتماعي، والضيق على الآخرين، كما نص على ذلك الفقيه
الاصفهاني في الوسيلة. لأننا لا نملك نصاً صحيحاً من الشريعة، يدل على
أن الحيازة_ دائماً وفي جميع الأحوال_ تكون سبباً لملكية الثروة المعدنية
المحازة، مهما كان قدر تلك الثروة، ومدى أثر حيازتها على الآخرين.
وإنما الشيء الوحيد الذي نعلمه هو، أن الناس كانوا قد اعتادوا في عصر
التشريع على إشباع حاجاتهم، من المواد المعدنية التي توجد على سطح
الأرض أو قريباً منه، بحيازة كميات من تلك المواد لسد حاجاتهم. وكانت
الكميات ضئيلة بطبيعة الحال، تبعاً لانخفاض إمكاناتهم الاستخراجية
والإنتاجية. وهذه العادة التي سمحت بها الشريعة وقتئذ، لا يمكن أن
تصبح دليلاً على سماح الشريعة بتملك الفرد لما يجوزه من الكميات وإن
اختلفت حيازته في الكم_ أي في قدر المادة المحازة_ وفي الكيف_ أي
أثر الحيازة على الآخرين_ عن الحيازة التي جرت عليها عادة الناس في
عصر التشريع.
وحتى الآن، وفي حدود المعادن الظاهرة_ بالمعنى الفقهي_ والمعادن
الباطنة القريبة من سطح الأرض.. نجد أن الفقهاء لم يسمحوا بالملكية الخاصة
لرقبة المعدن، وإنما أجازوا للفرد أن يأخذ من تلك المعادن، القدر المعقول
من حاجته. وبذلك ترك مجال استثمار هذه الثروات الطبيعية في نطاق أوسع.
بدلاً عن ممارسة المشاريع الفردية الخاصة لها على سبيل الاحتكار.
المعادن الباطنة المستترة:
وأما المعادن الباطنة، التي تختفي في أعماق الأرض فهي تتطلب نوعين
__________
(1) المغني لا بن قدامة جـ 5 ص 467_ 468.(1/58)
من الجهود: أحدهما: جهد التفتيش والحفر، للوصول إلى طبقاتها في
أغوار الأرض. والآخر: الجهد الذي يبذل على نفس المادة لتطويرها،
وإبراز خصائصها المعدنية، وذلك كمعادن الذهب والحديد. ولنطلق على
هذه الفئة من المعادن اسم: (المعادن الباطنة المستترة).
وهذه المعادن الباطنة المستترة، تتقاذفها عدة نظريات في الفقه الإسلامي،
فهناك من يرى أنها ملك الدولة، أو الإمام باعتبار المنصب لا الشخص،
كالكليني والقمي، والمفيد، والديلمي، القاضي، وغيرهم إيماناً منهم
بأن المعادن من الأنفال، والأنفال ملك الدولة. وهناك من يرى أنها من
المشتركات العامة، التي يملكها الناس جميعاً ملكية عامة، كما نقل عن
الإمام الشافعي وعن كثير من العلماء الحنابلة.
وقد ذكر الماوردي الفقيه الشافعي: أنه أحد القولين في المسألة إذ
كتب يقول: وأما المعادن الباطنة فهي ما كان جوهرها مستكناً فيما
لا يوصف إليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد فهذه
وما أشبهها معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم
يحتج. وفي جواز إقطاعها قولان أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة وكل
الناس فيها شرع(1).
كما يبدو من ابن قدامة الفقيه الحنبلي أن المعادن الباطنية المستترة هي من
المشتركات العامة أيضاً في ظاهر المذهب الحنبلي وظاهر مذهب الشافعي فلا
فرق بينها وبين المعادن الظاهرة أو الباطنة غير المستقرة من هذه الناحية(2).
وليس من المهم فعلاً، بالنسبة إلى عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي
التي نمارسها، أن ندرس الشكل التشريعي لملكية هذه المعادن، وهل هو
شكل الملكية العامة أو ملكية الدولة، أو أي شكل آخر؟.. مادام من المسلّم
به أن هذه المعادن بحسب وضعها الطبيعي ذات طابع اجتماعي عام، ولا
يختص بها فرد دون فرد. فتبقى دراسة نوع الملكية بحثاً شكلياً، لا يتصل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 190.
(2) لاحظ المغني لابن قدامة جـ 5 ص 486.(1/59)
بأهدافنا فعلاً. وإنما المهم الجدير بالبحث، أن نعرف ما إذا كان الإسلام يسمح
بخروج معدن الذهب والفضة مثلاً عن حقل الثروات العامة، ويمنح الفرد
الذي حفر الأرض المعدنية واكتشف المادة، ملكية المعدن الذي اكتشفه.
ونحن قد رأينا في المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة التي تقرب من
سطح الأرض، أن الشريعة_ في رأي جمهور الفقهاء_ لم تسمح بتملكها
ملكية خاصة، وإنما أجازت لكل فرد أن يأخذ من مواردها المعدنية وفقاً
لحاجته، دون إضرار بالآخرين. فمن الضروري أن نعرف موقف الشريعة
من المعادن الباطنة المستترة، ونتبين مدى اتفاقه أو اختلافه، مع موقفها
من المعادن الأخرى.
فالمسألة إذن هي: هل يمكن للفرد أن يملك مناجم الذهب والحديد،
ملكية خاصة، باكتشافها عن طريق الحفر، أو لا؟
ويجيب كثير من الفقهاء على هذا السؤال بالأيجاب، فهم يرون أن
المعدن يملك بالاكتشاف خلال عمليات الحفر.
ويستندون في ذلك إلى أن اكتشاف المعدن بالحفر، لون من ألوان
الإحياء، والموارد الطبيعية تملك بالإحياء. كما أنه أسلوب للحيازة،
والحيازة تعتبر سبباً لتملك ثروات الطبيعة على اختلافها.
ونحن حين ندرس هذا الرأي من الناحية المذهبية، يجب أن لا نفصله
عن التحفظات التي أحيط بها، والحدود التي فرضت فيه على ملكية المعدن
حين سمح بها لمن يكتشفه.
فملكية المعدن التي يظفر بها المكتشف_ على هذا الرأي_ لا تمتد في
أعماق الأرض، إلى عروق المادة المعدنية وجذورها.
وإنما تشمل المادة التي كشف عنها الحفر. كما أنها لا تمتد أفقياً خارج
حدود الحفرة، التي أنشأها المكتشف، إلا بالقدر الذي يتوقف عليه ممارسته
لاستخراج المادة من الحفرة، وهو ما يسمى فقهياً بحريم المعدن.
ومن الواضح، أن هذه الأبعاد للملكية محدودة وضيقة إلى حد كبير
وتسمح لأي فرد آخر أن يمارس عمليات الحفر، في موضع آخر من نفس
ذلك المعدن، ولو كان يمتص في الحقيقة نفس الينابيع والجذور، التي يمتصها(1/60)
المكتشف الأول، لأن الأول لا يملك العروق والينابيع.
وهذا التحديد في ملكية المعدن الباطن، لدى القائلين بها، واضح في
عدة نصوص فقهية. فقد قال العلامة الحلي في القواعد: ((ولو حفر فبلغ
المعدن، لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى. فإذا وصل_
الغير_ إلى العرق، لم يكن له_ أي للحافر الأول_ منعه، لأنه يملك
المكان الذي حفره وحريمه))(1).
وقال في التذكرة_ وهو يحدد نطاق الملكية_: ((وإذا اتسع الحفر،
ولم يوجد النيل إلا في الوسط، أو بعض الأطراف، لم يقتصر الملك على
محل النيل، بل كما يملكه يملك ما حواليه، ما يليق بحريمه، وهو قدر ما
تقف الأعوان والدواب.
ومن جواز ذلك الحفر_ أي من حفر في موضع آخر_ لم يمنع، وإن
وصل إلى العرق، سواء قلنا أن المعدن يملك بحفره أو لم نقل. لأنه لو كان
يملك، فإنما يملك المكان الذي حفره، وأما العرق الذي في الأرض فلا
يملكه))(2).
وهذه النصوص تحدد الملكية، ضمن حدود الحفرة وما حواليها،
بالقدر الذي يتيح ممارسة استخراج المادة منها. ولا تعترف بامتدادها،
عمودياً وأفقياً، أكثر من ذلك.
ونحن إذا جمعنا إلى هذا التحديد، الذي يقرره القائلون بملكية المعدن
من الفقهاء مبدأ عدم جواز التعطيل، الذي يمنع الأفراد الممارسين للحفر
وعملية الكشف، من تجميد المعدن وتعطيله، ويحكم بانتزاعه منهم إذا
هجروه وعطلوه.
إذا جمعنا بين كل هذه التحفظات، وجدنا القول بالملكية، الذي
يسمح للفرد بتملك المعدن ضمن تلك الحدود، في قوة إنكار الملكية الخاصة
للمناجم، من ناحية النتائج الحاسمة، والأضواء التي يلقيها على البحث
النظري في الاقتصاد الإسلامي. لأن الفرد بحكم تلك التحفظات، لا يسمح
له إلا بتملك المادة المعدنية الواقعة في حدود حفرياته فقط ويواجه منذ البدء
__________
(1) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ص 222.
(2) تذكرة الفقهاء المجلد الثاني كتاب إحياء الموات المطلب الثاني.(1/61)
في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجر المنجم، وقطع العمل،
وجمد الثروة المعدنية.
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية
في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن
كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى
إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي
ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم،
وما تضم من ثروات.
وخلافاً للقول بالملكية، يوجد اتجاه فقهي آخر، ينكر تملك الفرد
للمعدن، ضمن تلك الحدود التي اعترف بها الفقهاء، القائلون بالملكية.
وقد جاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج قوله: (والمعدن الباطن
وهو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب وفضة وحديد ونحاس لا يملك بالحفر
والعمل في الأظهر)(1).
وجاء في المغني لابن قدامة الفقيه الحنبلي قوله عن المعادن: (وإن لم
تكن ظاهرة فحفرها إنسان وأظهرها لم تملك بذلك في ظاهر المذهب وظاهر
مذهب الشافعي)(2).
ويستمد هذا الاتجاه الفقهي مبررات الإنكار، من مناقشة أدلة الملكية
ومستمسكات القائلين بها. فهو لا يقر هؤلاء على أن المكتشف للمعدن
يملكه، على أساس إحيائه للمعدن بالاكتشاف، أو على أساس حيازته له
وسيطرته عليه. لأن الإحياء لم يثبت في الشريعة حق خاص على أساسه،
إلا في الأرض، للنص التشريعي القائل ((من أحيى أرضاً فهي له)).
والمعدن ليس أرضاً، حتى يشمله النص، بدليل أن الفقهاء حين بحثوا
أحكام أراضي الفتح العامرة، وقالوا: أنها ملك عام للمسلمين، لم يلحقوا
معادن تلك الأراضي بها في هذه الملكية، معترفين بأن المعدن ليس أرضاً.
كما أن الحيازة لا يوجد دليل في الشريعة، على أنها سبب لتملك المصادر
الطبيعية.
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ 5 ص 348.
(2) المغني لابن قدامة جـ 5 ص 468.(1/62)
وعلى ضوء هذا الاتجاه الفقهي، لا يتاح للفرد أن يملك شيئاً من المنجم،
مادام في موضعه الطبيعي، وإنما يملك المادة التي يستخرجها خاصة وهذا
لا يعني أن علاقته بالمنجم، لا تختلف من الناحية التشريعية عن علاقة أي
فرد آخر، بل هو بالرغم من أنه لا يملك المعدن، يعتبر تشريعياً أولى من
غيره بالاستفادة من المعدن، وممارسة العمل فيه عن طريق الحفرة التي
حفرها لاكتشافه، لأنه هو الذي خلق فرصة الاستفادة من المعدن، عن
طريق تلك الحفرة التي انفق عليها جهده وعمله، ونفذ منها إلى المواد
المعدنية في أعماق الأرض. فمن حقه أن يمنع الآخرين عن استغلال الحفرة،
في الحدود التي تزاحمه، ولا يجوز لأي فرد آخر استخدام تلك الحفرة،
في سبيل الحصول على مواد معدنية، بشكل يزاحم صاحب الحفرة.
وفي ضوء ما مر بنا من نصوص فقهية ونظريات عن المناجم، يمكننا
أن نستخلص: أن المناجم_ في الرأي الفقهي السائد_ من المشتركات
العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها
وينابيعها المتوغلة في الأرض. وأما تملك الفرد للمادة المعدنية في الأرض،
بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عمودياً وأفقياً فهو موضع خلاف، بين
رأي فقهي سائد، واتجاه فقهي آخر. ففي الرأي السائد فقهياً: يمنح
الفرد حق تملك المعدن في تلك الحدود، إذا كان المعدن باطناً مستتراً.
وفي الاتجاه الفقهي المعاكس: يعطى الفرد حق تملك ما يستخرجه من المادة
المعدنية فحسب، ويعتبر أولى بالاستفادة من المعدن، واستخدام حفرته
في هذا السبيل من أي شخص آخر.
هل تملك المعادن تبعاً للأرض؟
كنا نريد بالمعادن حتى الآن: المناجم التي توجد في أرض حرة،
لا يختص بها أحد من الأفراد. وقد أسفر البحث عن النتيجة التي استخلصناها
قبل لحظة. ويجب أن نلاحظ الآن أن هذه النتيجة، هل تستوعب المناجم
التي توجد في أرض يختص بها فرد معين، أو أن هذه المناجم تصبح ملكاً
لذلك الفرد، باعتبار وجودها في أرضه؟.(1/63)
والحقيقة: أنا لا نجد مانعاً من تطبيق النتيجة التي أسفر عنها البحث على
هذه المناجم_ ما لم يوجد إجماع تعبدي_ لأن وجودها في أرض فرد
معين، ليس سبباً كافياً من الناحية الفقهية، لتملك ذلك الفرد لها، لأننا
عرفنا في بحث سابق: أن اختصاص الفرد بالأرض لا ينشأ إلا من أحد
سببين: وهما الإحياء، ودخول الأرض في دار الإسلام بإسلام أهلها عليها
طوعاً فالإحياء ينتج حقاً للمحيي في الأرض التي أحياها، وإسلام الشخص
على أرضه طوعاً يجعل الأرض ملكاً له. وكل من هذين السببين لا يمتد
أثره إلى المناجم الموجودة في أعماق الأرض، وإنما يقتصر أثره على الأرض
نفسها، وفقاً للدليل الشرعي الوارد بشأن كل منهما. فالدليل الشرعي بالنسبة
إلى الإحياء هو النص التشريعي القائل: ((أن من أحياء أرضاً فهي له وهو
أحق بها وعليه طسقها)). ومن الواضح أن هذا النص يمنح المحيي حقاً في
الأرض التي أحياها، لا فيما تضم الأرض من ثروات لا تزال في الأعماق.
وأما الدليل الشرعي على ملكية الفرد للأرض التي أسلم عليها أهلها
طوعاً، فهو أن الإسلام يحقن الدم والمال، فمن أسلم حقن دمه وسلمت
أمواله التي كان يملكها قبل الإسلام. وهذا المبدأ ينطبق على الأرض نفسها،
ولا ينطبق على المناجم التي تضمها، لأن الشخص الذي أسلم لم يكن قبل
إسلامه يملك تلك المناجم فتحفظ له. وبكلمة أخرى: أن مبدأ حقن الدم
والمال بالإسلام، لا يشرع ملكية جديدة، وإنما يحفظ للشخص بسبب
دخوله في الإسلام، ما كان يملكه من أموال قبل ذلك. وليست المناجم
من تلك الأموال ليملكها بالإسلام، وإنما يحفظ له إسلامه أرضه التي
كانت له سابقاً، فيظل مالكاً لها بعد الإسلام، ولا تنتزع منه.
ولا يوجد في الشريعة نص على: أن ملكية الأرض تمتد إلى كل مافيها
من ثروات.
وهكذا نعرف: أن بالامكان فقهياً_ إذا لم يوجد إجماع تعبدي_
القول، بأن المناجم التي توجد في الأراضي المملوكة أو المختصة، ليست(1/64)
ملكاً لأصحاب الأراضي، وإن وجب لدى استثمارها أن يلاحظ حق
صاحب الأرض في أرضه لأن إحياء تلك المناجم واستخراجها يتوقف على
التصرف في الأرض.
ويبدو أن الإمام مالك ذهب إلى هذا القول وأفتى بأن المعدن الذي يظهر
في أرض مملوكة لشخص لا يكون تابعاً للأرض بل هو للإمام. فقد جاء
في مواهب الجليل ما يلي:(قال ابن بشير: وإن وجد في ارض مملوكة
لمالك معين ففيها ثلاثة أقوال: أحدها، أنه للإمام. والثاني، لمالك الأرض.
والثالث إن كان عينا للإمام وإن كان غير ذلك من الجواهر فلمالك الأرض.
وقال اللخمي: اختلف في معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص
تظهر في ملك الرجل فقال مالك: الأمر فيها للإمام يقطعه لمن رآه)(1).
الإقطاع في الإسلام
توجد في مصطلحات الشريعة الإسلامية، فيما يتصل بالأراضي
والمعادن كلمة، (الإقطاع). فنحن نجد في كلام كثير من الفقهاء القول،
بأن للإمام إقطاع هذه الأرض، أو هذا المعدن على خلاف بينهم في
الحدود المسموح بها من الإقطاع للإمام.
وكلمة: (الإقطاع) أشرطت في تاريخ القرون الوسطى_ وبخاصة
في تاريخ أوروبا_ بمفاهيم ونظم معينة، حتى أصبحت نتيجة لذلك تثير
في الذهن لدى استماعها كل تلك المفاهيم والنظم، التي كانت تحدد علاقات
المزارع بصاحب الأرض وتنظم حقوقهما، في العصور التي ساد فيها نظام
الإقطاع في أوروبا، ومناطق مختلفة من العالم.
وفي الواقع: أن هذه الإثارة والاشراط باعتبارهما نتاجاً لغوياً لحضارات
ومذاهب اجتماعية لم يعشها الإسلام ولم يعرفها_ سواء عرفها المسلمون في
بعض أجزاء الوطن الإسلامي، حينما فقدوا أصالتهم وقاعدتهم، واندمجوا
في تيارات العالم الكافر أولا_ فمن غير المعقول أن نحمّل الكلمة الإسلامية،
هذا النتاج اللغوي الغريب عنها.
ونحن لا نريد ولا يهمنا الحديث عن رواسب الكلمة التاريخية، والتركة
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب جـ 2 ص 335.(1/65)
التي تحملتها نتيجة لعصور معينة من التاريخ الإسلامي، لأننا لسنا بصدد
المقارنة بين مدلولين للكلمة، بل لا نجد مبرراً لهذه المقارنة اطلاقاً، بين
مفهوم الإقطاع في الإسلام، ومفهومه الذي تعكسه النظم الإقطاعية على
اللفظ، لانقطاع الصلة بين المفهومين نظرياً كانفصال احدهما عن الآخر
تاريخياً. وإنما نستهدف في هذا البحث شرح الكلمة، من وجهة نظر الفقه
الإسلامي، من أجل تحديد الصورة الكاملة لأحكام الشريعة في التوزيع،
التي تتحدد وتتبلور خلال عملية الاكتشاف، التي نمارسها في هذا الكتاب.
فالإقطاع كما يحدده الشيخ الطوسي في المبسوط وابن قدامة في المغني،
والماوردي في أحكامه والعلامة الحلي، هو في الحقيقة: منح الإمام لشخص
من الأشخاص، حق العمل في مصدر من مصادر الثروة الطبيعية، التي
يعبر العمل فيها سبباً لتملكها أو اكتساب حق خاص فيها(1).
ولكي نستوعب هذا التعريف، يجب أن نعرف: أن جميع مصادر
الثروة الطبيعية الخام(2) في الإسلام لا يجوز للفرد العمل فيها وإحياؤها
__________
(1) فقد كتب الطوسي يقول: (إذا أقطع السلطان رجلا من الرعية قطعة من الموات صار
أحق به من غيره بإقطاع السلطان إياه بلا خلاف، وكذلك إذا تحجر أرضاً من الموات والتحجير
أن يؤثر فيها أثراً لم يبلغ به حد الأحياء مثل أن ينضب فيها المروز أو يحوط عليها حائطاً وما أشبه
ذلك من آثار الإحياء فانه يكون أحق بها من غيره فإقطاع السلطان بمنزلة التحجير) المبسوط للشيخ
الطوسي جـ 3 ص 273).
وكتب ابن قدامة يقول: (إن من أقطعه الإمام شيئاً من الموات لم يملكه بذلك لكن يصير
أحق به كالمتحجر للشارع في الإحياء) المغني جـ 5 ص 473.
وكتب الماوردي يقول: (فمن خصه الإمام به وصار بالإقطاع أحق الناس به لم يستقر
ملكه عليه قبل الإحياء). الأحكام السلطانية ص 184.
وقال العلامة الحلي: فائدة الإقطاع تصيير المقطع أحق بإحيائه.
(2) أي الموات التي لم تستثمر بعد.(1/66)
ما لم يسمح الإمام أو الدولة بذلك، سماحاً خاصاً أو عاماً، كما سيأتي
_ في فصل مقبل_ عند دراسة مبدأ تدخّل الدولة، الذي يتيح لها الإشراف
على الإنتاج، وتوزيع العمل والفرص بشكل سليم. فمن الطبيعي للإمام
على أساس هذا المبدأ، أن يقوم باستثمار تلك المصادر، بممارسة ذلك
مباشرة، أو بإيجاد مشاريع جماعية، أو بمنح فرص استثمارها للأفراد،
تبعاً للشروط الموضوعية والامكانات الإنتاجية، التي تتوفر في المجتمع من
ناحية، ومتطلبات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام من ناحية
أخرى.
فبالنسبة إلى معدن خام_ مثلاً_ كالذهب قد يرى من الأفضل أن
تمارس الدولة استخراجه، وإعداد الكميات المستخرجة في خدمة الناس.
وقد يجد الإمام ذلك غير ممكن عملياًً، لعدم توفر امكانات الإنتاج المادية،
لاستخراج الكميات الضخمة من قبل الدولة ابتداءً، فيرجح إنتاج الأسلوب
الآخر، بالسماح للأفراد أو الجماعات، بإحياء منجم الذهب واستخراجه،
لتفاهة الكميات التي يمكن استخراجها. وهكذا يقرر الإمام أسلوب استثمار
الخام من المصادر الطبيعية، وسياسة الإنتاج العامة، في ضوء الواقع
الموضوعي، والمثل المتبنى للعدالة.
وفي هذا الضوء، نستطيع أن نفهم دور الإقطاع ومصطلحه الفقهي،
فهو أسلوب من أساليب استثمار المواد الخام، يتخذه الإمام حين يرى أن
السماح للأفراد باستثمار تلك الثروات، أفضل الأساليب للاستفادة منها
في ظرف معين. فإقطاع الإمام منجم الذهب لشخص، معناه السماح له
بإحياء ذلك المنجم، واستخراج المادة منه. ولذلك لا يجوز للإمام إقطاع
الفرد ما يزيد على طاقته، ويعجز عن استثماره، كما نص على ذلك العلامة
الحلي في (التحرير) و(التذكرة)(1) وفقهاء شافعيون وحنابلة(2) لأن
__________
(1) تذكرة الفقهاء المجلد الثاني إحياء الموات الشرط الخامس من شروط الإحياء.
(2) راجع نهاية المحتاج للرملي جـ 5 ص 337 والمغني لابن قدامة جـ 5 ص474.(1/67)
الإقطاع الإسلامي هو السماح للفرد باستثمار الثروة المقطعة، والعمل عليها،
فإذا لم يكن الفرد قادراً على العمل لم يكن الإقطاع مشروعاً. فهذا التحديد
من الإقطاع، يعكس بوضوح طبيعة الإقطاع، بوصفه أسلوباً من أساليب
تقسيم العمل واستثمار الطبيعة.
ولم يعتبر الإسلام الإقطاع سبباً لتملك الفرد المقطع المصدر الطبيعي،
الذي أقطعه الإمام إياه لأن هذا مما يحرفه عن وصفه أسلوباً من أساليب
الاستثمار، وتقسم الطاقات العملية. وإنما جعل للفرد المقطع حقاً في
استثمار المصدر الطبيعي، وهذا الحق يعني أن له العمل في ذلك المصدر،
ولا يجوز لغيره انتزاعه منه والعمل فيه بدلاً عنه، كما صرح بذلك العلامة
الحلي في (القواعد)، قائلاً: بأن الإقطاع يفيد الاختصاص(1)، وكذلك
الشيخ الطوسي في (المبسوط) إذ كتب يقول: ((إذا أقطع السلطان رجلاً
من الرعية، قطعة من الموات، صار أحق بها من غيره، بإقطاع السلطان،
بلا خلاف))(2).
وقال الحطاب في مواهب الجليل يتحدث عن إقطاع الإمام للمعدن
حيث يكون نظر المعدن للإمام فانه ينظر فيه بالأصلح جباية وإقطاعاً...
إنما يقطعه انتفاعاً لا تمليكاً فلا يجوز بيعه من أقطعه... ولا يورث عمن
أقطعه لأن ما لا يملك لا يورث وفي إرث نيل أدرك قول(3).
فالإقطاع إذن ليس عملية تمليك، وإنما هو حق يمنحه الإمام للفرد
في مصدر طبيعي خام، فيجعله أولى من غيره باستثمار الجزء الذي حدد
له من الأرض أو المعدن، تبعاً لقدرته وامكاناته.
ومن الواضح، أن منح هذا الحق ضروري، مادام الإقطاع كما عرفنا
أسلوباً من أساليب تقسيم الطاقات والقوى العامة، على المصادر الطبيعية
بقصد استثمارها، لأن الإقطاع لا يمكن أن يقوم بدوره هذا، وينجز
تقسيم القوى العاملة على المصادر الطبيعية، وفقاً لمخطط عام.. ما لم يتمتع
__________
(1) قواعد الأحكام للعلامة الحلي الطبعة الحجرية ص 221.
(2) المبسوط جـ 3 ص 273.
(3) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء جـ 2 ص 336.(1/68)
كل فرد بحق استثمار ما أقطع من تلك المصادر: يكون بموجبه أولى من
غيره باحيائه والعمل فيه. فمرد هذا الحق إلى ضمان ضبط التقسيم، وإنجاح
الإقطاع بوصفه أسلوباً لاستثمار المصادر الطبيعية، وتقسيمها بين القوى
العاملة على أساس الكفاءة.
وهكذا نجد أن الفرد من حين إقطاع الإمام له أرضاً أو شيئاً من المعدن،
وحتى يمارس العمل، أي في فترة الاستعداد وتهيئة الشروط اللازمة، التي
تتخلل بين الإقطاع والبدء في العمل.. ليس له أي حق سوى العمل في تلك
المساحة المحددة من الأرض، أو ذلك الجزء المعين من المنجم، الذي يسمح
له بالإحياء والاستثمار، ويمنع الآخرين من مزاحمته في ذلك. لئلا يضطرب
الأسلوب الذي اتبعه الإمام في استثمار المصادر الطبيعية، وتقسيم الطاقات
عليها وفقاً لكفايتها.
وهذه الفترة التي تتخل بين الإقطاع والبدء في العمل، يجب أن
لا تطول، لأن الإقطاع لم يكن معناه تمليك الفرد أرضاً أو معدناً، وإنما هو
تقسيم للعمل الكلي على المصادر الطبيعية، على أساس الكفاءة. فليس من
حق الفرد المقطع أن يؤجل موعد العمل دون مبرر، لأن مسامحته في البدء
بالعمل تعيق عن إنحاج الإقطاع، بوصفه استثماراً للمصادر على أساس
تقسيم العمل، كما كانت مزاحمة الغير له في العمل_ بعد أن وظف من
قبل الدولة، باستثمار ذلك الجزء الخاص الذي تم إقطاعه له. معيقة أيضاً
عن أداء الإقطاع لدوره الإسلامي.
ولهذا نجد الشيخ الطوسي في المبسوط، يقول عن الفرد المقطع: ((إن
أخّر الإحياء قال له السلطان: اما أن تحييها أو تخلي بينها وبين غيرك حتى
يحييها. فإن ذكر عذراً في التأخير واستأجل في ذلك أجله السلطان، وإن لم يكن
له عذر في ذلك، وخيره السلطان بين الأمرين، فلم يفعل، أخرجها من يده))(1).
وجاء في مفتاح الكرامة: ((أنه لو اعتذر بالإعسار، فطلب الإمهال إلى
اليسار، لم يجب إلى طلبه، لأنه لعدم الأمد، يستلزم التطويل، فيفضي إلى
__________
(1) المبسوط للشيخ الطوسي جـ 3 ص 273.(1/69)
التعطيل))(1).
وقال الإمام الشافعي: ومن أقطع أرضاً أو تحجرها فلم يعمرها رأيت
للسلطان أن يقول له إن احييتها وإلا خلّينا بينها وبين من يحييها فان تأجله
رأيت أن يفعل(2).
وجاء في الرواية عن الحرث بن بلال بن الحرث أن رسول الله(ص)
أقطع بلال بن الحرث العقيق فلما ولي عمر بن الخطاب قال ما أقطعك
لتحتجنه باقطعة الناس(3).
هذا هو كل دور الإقطاع واثره في الفترة المتخللة بينه وبين العمل،
وهي الفترة التي يؤثر فيها الإقطاع من الناحية التشريعية اثره. وهذا الأثر
لا يتجاوز_ كما عرفنا_ حق العمل، الذي يجعل من الإقطاع أسلوباً
تستعمله الدولة في بعض الظروف، لاستثمار المصادر الطبيعية وتقسيم
الطاقات العاملة على تلك المصادر، تبعاً لمدى كفاءتها.
وأما بعد ممارسة الفرد للعمل في الأرض أو المعدن، فان الإقطاع لايبقى
له أثر من الناحية التشريعية بل يحل العمل محله، فيصبح للفرد من الحق في
الأرض أو المعدن، ما تقرره طبيعة العمل، وفقاً للتفصيلات التي مرت بنا.
وهذه الحقيقة عن الإقطاع، التي تبرزه بوصفه أسلوباً إسلامياً لتقسيم العمل،
نجد ما يبرهن عليها إضافة إلى ما سبق، من نصوص وأحكام.. في التحديد
الذي وضعته الشريعة للإقطاع، فقد حدد الإقطاع المسموح به في الشريعة:
بالمصادر الطبيعية التي من شأن العمل فيها أن يمنح العامل حقاً أو لوناً من
الاختصاص بها، وهي الموات في العرف الفقهي. فلا يجوز إقطاع المرافق
الطبيعية التي لا يتولد فيها عن العمل أي حق أو اختصاص كما نص على
ذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط)، ممثلاً لهذا النوع من المرافق: بالمواضع
الواسعة في الطرقات. فان المنع عن إقطاع هذا النوع من المرافق وتحديد
الإقطاع بالموات خاصة، يدل بكل وضوح على الحقيقة التي تبيناها ويثبت:
__________
(1) مفتاح الكرامة للسيد جواد العاملي جـ 7 ص 47.
(2) الأم جـ 8 ص 131.
(3) المغني لابن قدامة جـ 5 ص 466.(1/70)
أن وظيفة الإقطاع من الناحية التشريعية، ليست إلا إعطاء حق العمل في
مصدر طبيعي معين لغرض خاص بوصفه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل
على المصادر الطبيعية التي هي بحاجة إلى إحياء وعمل. واما حق الفرد في
نفس المصدر الطبيعي، فيقوم على أساس العمل لا الاقطاع.
فإذا كان المصدر الطبيعي من المرافق التي ليست بحاجة إلى إحياء وعمل،
ولا يؤدي فيها العمل إلى حق خاص للعامل فلا يجوز الاقطاع، لأن الاقطاع
بالنسبة إلى هذه المرافق يفقد معناه الإسلامي، لأنها ليست بحاجة إلى عمل،
ولا أثر للعمل فيها، حتى يمنح حق العمل فيها لفرد من الأفراد. بل يعود
الإقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق. مظهراً من مظاهر احتكار الطبيعة واستغلالها،
وهذا لا يتفق مع المفهوم الإسلامي للاقطاع، ووظيفته الأصيلة ولهذا منعت
منه الشريعة، وحددت الاقطاع الجائز بذلك النوع من المصادر الطبيعية،
التي هي بحاجة إلى عمل.
الإقطاع في الأرض الخراجية:
بقي شيء آخر، قد يطلق عليه اسم: (الاقطاع) في العرف الفقهي،
وليس هو اقطاعاً في الحقيقة، وإنما هو تسديد لأجرة على خدمة.
وموضع هذا الإقطاع هو الأرض الخارجية، التي تعتبر ملكاً للأمة،
إذ قد يتفق للحاكم أن يمنح فرداً شيئاً من الأرض الخراجية، ويسمح له
بالسيطرة على خراجها.
وهذا التصرف من الحاكم، وإن عبر في مدلوله التاريخي أحياناً،
وبدون حق، عن عملية تمليك سافرة لرقبة الأرض، ولكنه في مدلوله
الفقهي وحدوده المشروعة، لا يعني شيئاً من ذلك وإنما يعتبر أسلوباً في
تسديد الأجور والمكافآت، التي تلتزم الدولة بدفعها إلى الأفراد نظير
ما يقدمون من أعمال وخدمات عامة.
ولكي نعرف ذلك، يجب أن نستذكر أن الخراج_ وهو المال الذي
تتقاضاه الدولة من المزارعين_ يعتبر ملكاً للأمة، تبعاً لملكية الأرض نفسها.
ولهذا يجب على الدولة أن تصرف أموال الخارج في المصالح العامة للأمة،
كما نص على ذلك الفقهاء، ممثلين لتلك المصالح بمؤنة الولاة والقضاة،(1/71)
وبناء المساجد والقناطر، وغير ذلك لأن الولاة والقضاة يقدمون خدمة للأمة،
فيجب أن تقوم الأمة بمؤنتهم، كما أن المساجد والقناطر من المرافق العامة،
التي ترتبط بحياة الناس جميعاً، فيجوز إنشاؤها من أموال الأمة وحقوقها
في الخراج.
وواضح أن قيام الدولة بمؤنة الوالي والقاضي أو مكافأة أي فرد قدم
خدمة عامة لمجموع الأمة، قد يكون بإعطاء الدولة له من بيت المال مباشرة،
وقد يكون أيضاً بالسماح له بالحصول مباشرة على ريع بعض أملاك الأمة.
والدولة تتبع عادة الأسلوب الثاني، إذا كانت لا تتمتع بإدارة مركزية قوية.
ففي المجتمع الإسلامي قد تسدد أجور ونفقات الأفراد، الذي يقدمون
خدمات عامة للأمة، بصورة نقدية، كما قد ينفق_ تبعاً لظروف الإدارة
في الدولة الإسلامية_ أن تسدد تلك الأجور والنفقات، عن طريق منح
الدولة للفرد الحق في السيطرة على خراج أرض محدودة من أراضي الأمة،
وأخذه من المزارع مباشرة، باعتباره أجرة للفرد على الخدمة التي يقدمها
للأمة، فيطلق على هذا اسم: (الاقطاع). ولكنه ليس إقطاعاً في الحقيقة،
وإنما هو تكليف للفرد بأن يتقاضى أجره من خراج مساحة معينة من الأرض،
يحصل عليه عن طريق الاتصال بالمزارع.
فالفرد المقطع يملك الخارج، بوصفه أجرة على خدمة عامة قدمها
للأمة، ولا يملك الأرض، ولا يوجد له أي حق أصيل في رقبتها ولا في
منافعها، ولا تخرج بذلك الأرض عن كونها ملكاً للمسلمين، ولا عن
وصفها أرضاً خراجية كما نص على ذلك المحقق الفقيه السيد محمد بحر
العلوم في (بلغته). وهو يحدد هذا النوع من الإقطاع_ أي إقطاع الأرض
الخراجية_ فقد كتب يقول: ((إن هذا الإقطاع لا يخرج الأرض عن
كونها خراجية، لأن معناه كون خراجها للفرد المقطع، لا خروجها عن
الخراجية))(1).
الحمى في الإسلام
(الحمي) مفهوم قديم عند العرب، يعبر عن المساحات الشاسعة من
__________
(1) بلغة الفقيه الطبعة الثانية جـ 1 ص 249.(1/72)
موات الأرض، يحتكرها الأفراد والاقوياء لأنفسهم، ولا يسمحون للآخرين
بالاستفادة منها، ويعتبرونها وكل ما تضم من طاقات وثروات، ملكاً
خالصاً لهم، بسبب استيلائهم عليها، وقدرتهم على منع الآخرين من
الانتفاع بها. وقد جاء في كتاب الجواهر للمحقق النجفي: ((أن هؤلاء
كان من عادة أحدهم في الجاهلية، إذا انتجع بلداً مخصباً، أن يستعوي كلباً
على جبل أو سهل، ثم يعلن تملكه لمجموع المساحة التي امتد إليها صوت
الكب من سائر الجهات، وحمايته لها من الآخرين، ولذلك يطلق عليها
اسم: (الحمى).
وقال الشافعي في كتابه_ بعد أن نقل بسنده عن الصعب أن رسول الله
(ص) قال لا حمي إلا لله ورسوله_ (كان الرجل العزيز من العرب إذا
انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلب على جبل إن كان به أو نشز إن لم يكن جبل
ثم استعواه و أوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث بلغ صوته حماه
من كل ناحية فيرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته
وما أراد قرنه معها فيرعى معها فترى أو قول رسول الله(ص)ولا حمى
إلا لله ورسوله لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله كل محمي وغيره
ورسوله إن رسول الله(ص) إنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما
يحمي له غيره من حاجة نفسه)(1).
ومن الطبيعي أن ينكر الإسلام الحمى، لأن الحق الخاص فيه يقوم على
أساس السيطرة، لا على أساس العمل. ولهذا لا يسمح بذلك لأحد من
المسلمين وجاء النص يؤكد شجب هذا الأسلوب من التملك والاحتكار
للمصادر الطبيعية، ويقول ((لا حمى إلا لله ولرسوله)). وورد في بعض
الرويات ((أن شخصاً سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل المسلم،
قد تكون له الضيعة، فيها جبل مما يباع، يأتيه أخوه المسلم، وله غنم،
قد احتاج إلى جبل، يحل به أن يبيعه الجبل، كما يبيع من غيره،
أو يمنعه من إن طلبه بغير ثمن، وكيف حاله فيه وما يأخذ؟ فقال: لا
__________
(1) الأم جـ 4 ص 47.(1/73)
يجوز له بيع جبله من أخيه))(1).
فمجرد وقوع مصدر طبيعي في سيطرة فرد، لا يعتبر في الإسلام سبباً
لإيجاد حق للفرد في ذلك المصدر. والحمى الوحيد الذي سمح به الإسلام،
هو حمى الرسول، فقد حمى النبي صلى الله عليه وآله بعض المواضع
من موات الأرض. لمصالح عامة، كالبقيع إذ خصصه لإبل الصدقة،
ونعم الجزية، وخيل المجاهدين.
المياه الطبيعية
مصادر المياه الطبيعية على قسمين: أحدهما المصادر المكشوفة التي أعدها
الله للإنسان على سطح الأرض، كالبحار والأنهار، والعيون الطبيعية.
والآخر المصادر المكنوزة في أعماق الطبيعة، التي يتوقف وصول الإنسان
إليها على جهد وعمل، كمياه الآبار التي يحفرها الإنسان ليصل إلى ينابيع الماء.
فالقسم الأول_ من المياه يعتبر من المشتركات العامة بين الناس،
والمشتركات هي الثروات الطبيعية التي لا يأذن الإسلام لفرد خاص بتملكها
وإنما يسمح للأفراد جميعاً بالاستفادة منها مع احتفاظ أصل المال ورقبته
بصفة الاشتراك والعموم، فالبحر أو النهر الطبيعي من الماء لا يملكه أحد
ملكية خاصة، ويباح للجميع الانتفاع به، وعلى هذا الأساس نعرف أن
المصادر الطبيعية المكشوفة للمياه تخضع لمبدأ الملكية العامة(2). وإذا حاز
الشخص منها كمية في أي ظرف مهما كان نوعه، ملك الكمية التي حازها،
فلو اغترف من النهر باناء، أو سحب منه بآلة، أو حفر حفيرة بشكل
مشروع، وأصلها بالنهر. أصبح الماء غرقه الإناء، أو سحبته الآلة
أو اجتذبته الحفيرة ملكاً بالحيازة، وبدون الحيازة والعمل لا يملك من الماء
شيئاً، كما أكد على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط، إذ قال: أن المباح
من ماء البحر والنهر الكبير. مثل دجلة والفرات، ومثل العيون النابعة في
__________
(1) الوسائل للشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن جـ 12 ص 276_277.
(2) وهناك رأي فقهي مشهور، يستثني من تلك المصادر ما كان نابعاً في أرض تختص
بفرد خاص، راجع بهذا الصدد ملحق رقم 8.(1/74)
موات السهل والجبل، فكل هذا مباح، ولكل واحد أن يستعمل منه ما أراد
وكيف شاء بلا خلاف، لخبر ابن عباس المتقدم عن رسول الله(ص):
((إن الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ)) وإن زاد هذا الماء فدخل
إلى أملاك الناس واجتمع فيها لم يملكوه.
فالعمل إذن هو: أساس تملك ما يسيطر عليه الشخص من مياه تلك
المصادر. وأما دخول شيء من تلك المياه في سيطرة الشخص، بتسرب
الماء من النهر إلى منطقة دون عمل منه، فلا يبرر تملكه له، بل يبقى الماء
على إباحته العامة، ما لم يبذل عمل في حيازته.
وأما القسم الثاني من المصادر الطبيعية للماء، وهو ما كان مكنوزاً
ومستتراً في باطن الأرض، فلا يختص به أحد ما لم يعمل للوصول إليه،
والحفر لأجل كشفه، فإذا كشفه إنسان بالعمل والحفر، أصبح له حق في
العين المكتشفة، يجيز له الاستفادة منها، ويمنع الآخرين من مزاحمته،
لأنه هو الذي خلق بعمله فرصة الانتفاع بتلك العين، فمن حقه أن ينفق
بهذه الفرصة، وليس للآخر ممن لم يشاركه جهده في خلقها أن يزاحمه في
الاستفادة منها، ولذلك يصبح أولى بالعين من غيره، ويملك ما يتجدد من
مائها لأنه لون من ألوان الحيازة، ولكنه لا يملك نفس العين الموجودة في
أعماق الطبيعة قبل عمله(1)، ولذا كان يجب عليه، إذا أشبع حاجته من
الماء بذل الزائد للآخرين، ولا يجوز له أن يطالبهم بمال عوضاً عن شربهم
وسقي حيواناتهم، لأن المادة لا تزال من المشتركات العامة، وإنما حصل
للمكتشف بعمله حق الأولوية بها، فإذا أشبع حاجته، كان للآخرين الانتفاع
بها، فقد جاء في حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أن
رسول الله (ص) نهي عن النطاف، والأربعاء، وقال: لاتبعه، ولكن
أعره جارك، أو أخاك والأربعاء أن يسني مسناة فيحمل الماء فيسقي به
الأرض ثم يستغني عنه. والنطاف أن يكون له الشرب فيستغني عنه. وفي
حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنه قال: (النطاف شرب
__________
(1) راجع ملحق رقم 9.(1/75)
الماء ليس لك إذا استغنيت عنه أن تبعه جارك تدعه له، والأربعاء المسناة
تكون بين القوم فيستغني عنها صاحبها، قال: يدعها لجاره، ولا يبيعها
إياه)(1).
والشيخ الطوسي في المبسوط يقرر أيضاً ما ذكرناه، فيوضح: أن
علاقة الفرد بعين الماء علاقة حق لا ملك، بالرغم من أنه يملك في رأيه البئر،
أي الحفرة التي حفرها وتوصل عن طريقها إلى الماء: فقد قال: ((إن في
كل موضع قلنا أنه يملك البئر، فإنه أحق من مائها بقدر حاجته لشربه،
وشرب ماشيته، وسقي زرعه فإذا فضل بعد ذلك شيء، وجب عليه بذله
بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه، وشرب ماشيته.. فأما الماء الذي حازه
وجمعه في حبه، أو جرته، أو كوزه، أو بركته، أو بئره_ أي حفرة
غير ذات مادة_ أو مصنعه، أو غير ذلك، فإنه لا يجب عليه بذل شيء
منه وإن كان فضلاً عن حاجته، بلا خلاف لأنه لا مادة له )).
فالمادة إذن بوصفها مصدراً طبيعياً لا يمكن للفرد أن يمنع عنها الآخرين
في الحدود التي لا تتعارض مع حقه، لأنه لا يملك المادة على هذا الرأي وإنما
هو أحق بها نتيجة لخلقه الفرصة التي أتاحت الانتفاع بتلك المادة، فما
لا يتعارض مع حقه في الانتفاع بالمادة يجب السماح به للآخرين.
بقيّه الثروات الطبيعّية
وأما الثروات الطبيعية الأخرى فتعتبر من المباحات العامة.
والمباحات العامة هي: الثروات التي يباح للأفراد الانتفاع بها، وتلك
رقبتها، فالإباحة في المباحات العامة إباحة تملّك لا مجرد إباحة انتفاع.
وقد أقام الإسلام الملكية الخاصة للمباحات العامة علي أساس العمل
لحيازتها على اختلاف ألوانه، فالعمل لحيازة الطير هو الصيد، والعمل
لحيازة الخشب هو الاحتطاب، والعمل لحيازة اللؤلؤ والمرجان هو الغوص
في أعماق البحار مثلاً، والعمل لحيازة الطاقة الكهربائية الكامنة في قوة
انحدار الشلالات هو بتحويل هذه القوة إلى سيال كهربائي. وهكذا تملك
الثروات المباحة بإنفاق العمل الذي تتطلبه حيازتها.
__________
(1) راجع ملحق رقم 10.(1/76)
ولا تملك هذا الثروات ملكية خاصة بدون العمل، فلا يكفي دخولها
في حدود سيطرة الإنسان لتصبح ملكاً له ما لم ينفق عملاً إيجابياً في حيازتها
فقد جاء في التذكرة للعلامة الحلي هذا النص: (لو زاد الماء المباح فدخل
شيء منه ملك إنسان، قال الشيخ: لا يملكه كما لو وقع في ملك الغير مطر
أو ثلج ومكث في ملكه، أو فرخ طائر في بستانه، أو توحل ضبي في
أرضه، أو وقعت سمكة في سفينته، لم يملكه بذلك بل بالأخذ والحيازة)(1).
وجاء في كتاب القواعد للعلامة في أحكام الصيد: إن الصيد لا يتملك بتوحله
في أرضه، ولا بتعشيشه في داره، ولا بوثوب السمكة إلى سفينة.
وهذا هو أصح القوانين عند الفقهاء الشافعيين كما نقله العلامة عنهم في
التذكرة(2).
__________
(1) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي المجلد الثاني كتاب إحياء الموات المطلب الرابع.
(2) وذلك في تفاصيل النص المتقدم.(1/77)
نظرية توزيع ما قبل الإنتاج
2_ النظريّة
انتهينا الآن من تحديد صورة دقيقة لبناء علوي شامل من التشريع
الإسلامي، يضم مجموعة مهمة من الأحكام، التي تم وفقاً لها توزيع ما قبل
الإنتاج، وتنظيم حقوق الأفراد والمجتمع والدولة، في الثروات الطبيعية،
التي يزخر بها الكون.
وباستيعاب هذا البناء العلوي من التصميم الإسلامي نكون قد قطعنا
نصف المسافة في طريق اكتشاف النظرية، وبقي علينا البحث الأساسي من
الناحية المذهبية، الذي يجب أن نكشف فيه القواعد والنظريات العامة، التي
يقوم على أساسها البناء العلوي، ويرتكز عليها ذلك الحشد من الأحكام التي
مرت بنا، وهذا هو النصف الثاني من عملية الاكتشاف التي تنطلق من البناء
العلوي إلى القاعدة، ومن التفصيلات التشريعية إلى العموميات النظرية.
وقد اتبعنا دائماً في عرض تلك التشريعات، والأحكام، والتعبير عنها،
طريقة تعكس باستمرار ووضوح الترابط النظري الوثيق بين هذه الأحكام،
الأمر الذي سوف يساهم في هذه المرحلة الجديدة من عملية الاكتشاف،
ويساعد على استخدام تلك الأحكام في المهمة المذهبية التي نحاولها الآن.
وسوف نجزّىء النظرية المذهبية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج، وندرسها على
مراحل، ونتناول في كل مرحلة جانباً منها، ونجمع من البحوث السابقة
النصوص التشريعية، والفقهية، والأحكام، التي تكشف عن ذلك الجانب
وتبرهن عليه.
وبعد أن نستوعب الجوانب المختلفة للنظرية في ضوء الأبنية العلوية التي
يختص كل واحد منا بأحد تلك الجوانب، نجمع في النهاية خيوط النظرية
كلها في مركّب واحد، ونعطيها صيغتها العامة.
1_ الجانب السلبي من النظرية
ولنبدأ بالجانب السلبي من النظرية. ومحتوى هذا الجانب_ كما
سنعرف_ الايمان بعدم وجود ملكيات وحقوق خاصة ابتدائية في الثروة
الطبيعية الخام بدون عمل.
بناؤه العلوي:
1_ ألغى الإسلام الحمى، وقال: لا حمي إلا لله وللرسول، وبذلك(1/1)
نفي أي حق خاص للفرد في الأرض بمجرد السيطرة عليها، وحمايتها بالقوة.
2_ إذا أقطع ولى الأمر أرضاً لفرد، اكتسب الفرد بسبب ذلك حق
العمل في تلك الأرض، دون أن يمنحه الإقطاع حقاً في ملكية الأرض،
أو أي حق آخر فيها، ما لم يعمل، وينفق جهده على تربتها.
3_ لا تملك الينابيع، والجذور العميقة للمنجم ملكية خاصة ولا
يوجد لأي فرد حق خاص فيها، كما أوضح العلامة الحلي ذلك في التذكرة
قائلاً: (وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك ومن وصل إليه من
جهة أخرى فله أخذه).
4_ المياه الطبيعية المكشوفة كالبحار والأنهار لا تملك ملكية خاصة
لأحد، ولا يوجد لفرد حق خاص فيها. قال الشيخ الطوسي في المبسوط:
(ماء البحر والنهر، والعيون النابعة في موات السهل والجبل، كل هذا
مباح، ولكل واحد أن يستعمل منه ما أراد، كيف شاء، لخبر ابن عباس
عن النبي: الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ).
5_ إذا زاد الماء الطبيعي فدخل أملاك الناس واجتمع دون أن يحوزوه
بعمل خاص، لم يملكوه، كما قال الشيخ في المبسوط.
6_ إذا لم ينفق الفرد جهداً في الصيد، بل دخل الحيوان في سيطرته
لم يملكه، ففي قواعد العلامة الحلي يقول: (لا يملك الصيد بدخوله في
أرضه ولا بوثوب السمكة إلى السفينة).
7_ وكذلك الحال في الثروات الطبيعية الأخرى، فإن دخولها في
سيطرة الشخص دون عمل لا يبرر تملكها، ولذا جاء في التذكرة: (أن
الشخص لا يملك الثلج الذي يتساقط في حوزته بمجرد سقوطه على أرضه).
الاستنتاج:
من هذه الأحكام ونظائرها في المجموعة التي مرت بنا من التشريع
الإسلامي، نستطيع أن نعرف أن الفرد لا يوجد له بصورة ابتدائية حق
خاص في الثروة الطبيعية يمتاز به عن الآخرين على الصعيد التشريعي، ما لم
يكن ذلك انعكاساً لعمل خاص فيها، يميزه عن غيره في واقع الحياة، فلا
يختص الفرد بأرض إذا لم يحيها، ولا بمعدن إذا لم يكشف عنه، ولا بعين(1/2)
ماء إذا لم يستنبطها ولا بالحيوانات النافرة إلا إذا صادها، ولا بثروة على
وجه الأرض أو في السماء إلا إذا حازها، وأنفق جهده في ذلك.
ونحن نرى من خلال هذه الأمثلة أن العمل الذي اعتبر في النظرية
الأساس الوحيد لاكتساب الحقوق الخاصة بصورة ابتدائية في ثروات
الطبيعة يختلف مفهومه النظري، حسب اختلاف طبيعة الثروة ونوعها،
فما يعتبر عملاً بالنسبة إلى بعض الثروات الطبيعية، وسبباً كافياً لقيام
الحقوق الخاصة على أساسه، لا يعتبر كذلك بالنسبة إلى نوع آخر من الثروة
فالحجر في الصحراء يمكنك أن تمتلكه بالحيازة، فالحيازة بالنسبة إلى الحجر
عمل تعترف به النظرية، وتسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسه،
ولكنها لا تعترف بالحيازة بوصفها عملا، ولا تسمح بقيام الحقوق الخاصة
على أساسها، في الأرض الميتة والمنجم والينابيع الطبيعية للماء، فلا يكفي
لكي تختص بأرض أو منجم أو عين ماء في أعماق الأرض أن تسيطر على
تلك الثروات وتضمها إلى حوزتك، بل لا بد لك في سبيل اكتساب حقوق
خاصة فيها أن تجسد جهودك في الأرض والمنجم والعين فتحيي الأرض
وتكشف المنجم وتستنبط الماء وسوف نحدد في النواحي الإيجابية من النظرية
مفهومها عن العمل والمقياس الذي تتبعه في منح صفة العمل للجهود المتنوعة
التي يمارسها الإنسان في حقول الطبيعة وثرواتها وحين نستوعب ذلك المقياس
نستطيع أن ندرك حينئذ لماذا كانت حيازة الحجر سبباً كافياً لتملكه، ولم
تكن حيازة الأرض عملاً، ولا مبرراً، لاكتساب أي حق خاص في
تلك الأرض.
2_ الجانب الإيجابي من النظرية
والجانب الإيجابي من النظرية يوازي جانبها السلبي ويكمله فهو
يؤمن بأن العمل أساس مشروع، لاكتساب الحقوق والملكيات الخاصة في
الثروات الطبيعية.
فرفض أ يحق ابتدائي في الثروات الطبيعية منفصل عن العمل هو
الصيغة السلبية للنظرية.
والإيمان بالحق الخاص فيها على أساس العمل هو الصيغة الإيجابية الموازية.
بناؤه العلوي:(1/3)
1_ من أحيى أرضاً فهي له، كما جاء في الحديث.
2_ من حف معدناً حتى كشفه كان أحق به، وملك الكمية التي
كشفت عنها الحفرة، وما إليها من مواد.
3_ من كشف بالحفر عيناً طبيعية للماء، فهو أحق بها.
4_ إذا حاز الفرد الحيوان النافر بالصيد، والخشب بالاحتطاب،
والحجر الطبيعي بجمله، والماء من النهر باغترافه، في آنية وغيرها. ملكه
بالحيازة. كما نص على ذلك الفقهاء جميعاً.
الاستنتاج:
كل هذه الأحكام تشترك في ظاهرة واحدة، وهي أن العمل مصدر
للحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية، التي تكتنف الإنسان من
كل جانب، وبالرغم من أن هذه الظاهرة التشريعية نجدها في كل تلك
الأحكام فإننا بالتدقيق فيها، وفي نصوصها التشريعية. وأدلتها يمكننا أن
نكتشف عنصراً ثابتاً في هذه الظاهرة، وعنصرين متغيرين يختلفان باختلاف
أنواع الثروة وأقسامها، فالعنصر الثابت هو: ربط الحقوق الخاصة للفرد
في الثروات الطبيعية الخام بالعمل، فما لم يقدم عملاً لا يحصل على شيء،
وإذا اندمج مع ثروة طبيعية في عملية من العمليات، استطاع أن يظفر بحق
خاص فيها، فالعلاقة بين العمل والحقوق الخاصة بشكل عام، هي المضمون
المشترك لكل تلك الأحكام والعنصر الثابت فيها.
وأما العنصران المتغيران فهما: نوع العمل، ونوع الحقوق الخاصة
التي يخلقها العمل، فنحن نرى أن الأحكام التي شرعت الحقوق الخاصة
على أساس العمل، يختلف بعضها عن البعض في نوع العمل، الذي جعلته
مصدراً للحق الخاص، وفي نوع الحقوق الخاصة التي تنجم عن الأرض،
فالأرض لا تعتبر حيازتها عملاً، بينما يعتبر العمل لحيازة الحجر في
الصحراء سبباً كافياً لتملكه كما ألمعناه إلى ذلك قبل لحظات، وكذلك نرى
الإحياء الذي يعتبر عملاً بالنسبة إلى الأرض والمعدن، لا يؤدي إلا إلى حق
خاص للفرد في رقبة الأرض والمعدن، يكون الفرد بموجبه أولى من غيره
بهما، ولا يصبح مالكاً للأرض والمعدن نفسهما، بينما نجد أن العمل لحيازة(1/4)
الحجر من الصحراء واغتراف الماء من النهر، يكفي سبباً من الناحية الشرعية
لا لاكتساب حق الأولوية في الحجر والماء فحسب، بل لتملكهما
ملكية خاصة.
فهناك اختلاف بين الأحكام التي ربطت الحقوق الخاصة للفرد بعمله
وجهده في تحديد نوع العمل الذي ينتج تلك الحقوق، وفي تحديد طبيعة
تلك الحقوق التي ترتكز على العمل، ولأجل ذلك سوف يثير هذا الاختلاف
عدة أسئلة يجب الجواب عليها. فلماذا_ مثلاً_ كان العمل لحيازة الحجر
والماء من النهر كافياً لاكتساب العامل حقاً فيه، ولم يكن هذا النوع
من العمل في الأرض والمعدن_ مثلاً_ سبباً لأي حق خاص فيها؟
وكيف ارتفع الحق الذي كسبه الفرد في الماء عن طريق حيازته من النهر إلى
مستوى الملكية بينما لم يتح لمن أحيى أرضاً أو اكتشف منجماً أن يملك
الأرض أو المنجم، وإنما منح حق الأولوية في المرفق الطبيعي الذي أحياه؟.
ثم إذا كان العمل سبباً للحقوق الخاصة، فما بال الفرد إذا وجد أرضاً عامرة
بطبيعتها، فاغتنم الفرصة الممنوحة لها طبيعياً وزرعها وأنفق على زراعتها جهداً
لا يحصل على حقوق مماثلة لحقوق الإحياء، مع أنه قدم على تربتها كثيراً
من الجهود والأعمال؟ وكيف أصبح إحياء الأرض الميتة سبباً لحق الفرد
في رقبة الأرض ولم يصبح استغلال الأرض العامرة وزراعتها مبرراً لحق
مماثل للفرد؟
إن الجواب على كل هذه الأسئلة التي أثارها اختلاف أحكام الإسلام
بشأن العمل وحقوقه، ليتوقف على تحديد الجانب الثالث من النظرية الذي
يشرح الأساس العام لتقييم العمل في النظرية ولكي نحدد هذا الجانب، يجب
أن نجمع تلك الأحكام المختلفة بشأن العمل وحقوقه، التي أثارت هذه
الأسئلة ونضيف إليها سائر الأحكام المماثلة التي تشابهها، ونكوّن منها
بناءً علوياً نصل عن طريقه إلى تحديد معالم النظرية، بوضوح، لأن مجموعة
هذه الأحكام المختلفة تعكس في الحقيقة المعالم المحددة للنظرية، وسوف
ننجز ذلك كله الآن.
3_ تقييم العمل في النظرية(1/5)
البناء العلوي:
1_ إذا مارس الفرد أرضاً ميتة فأحياها كان له الحق فيها، وعليه
طسقها، يؤديه إلى الإمام ما لم يعف عنه، كما جاء في مبسوط الشيخ الطوسي
في كتاب الجهاد، وفقاً للنصوص الصحيحة الدالة على أن من أحيى أرضاً
فهو أحق بها وعليه طسقها، وبموجب الحق الذي يكسبه، لا يجوز لآخر
انتزاع الأرض منه ما دام قائماً بحقها، بالرغم من أنه لا يملك رقبة الأرض
نفسها.
2_ إذا مارس الفرد أرضاً عامرة بطبيعتها، فزرعها واستغلها، كان
من حقه الاحتفاظ بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ما دام يمارس
انتفاعه بالأرض، ولا يحصل على حق أوسع من ذلك، يخوله احتكارها
ومنع الآخرين عنها حتى في حالة عدم ممارسته للانتفاع. ومن أجل هذا كان
الحق الناتج عن استثمار أرض عامرة بطبيعتها يختلف عن الحق الناتج عن
إحياء أرض ميتة، فإن حق الإحياء يمنع أي فرد آخر من الاستيلاء عليها
بدون إذن المحيي ما دامت معالم الحياة باقية فيها، سواء كان المحيي يمارس
الانتفاع بالأرض فعلاً أم لا. وأما الحق الذي يكسبه الفرد نتيجة لزراعته
أرضاً حية بطبيعتها فهو لا يعدو أن يكون حق الأولوية بالأرض مادام
يمارس انتفاعه بها، فإذا كف عن ذلك، كان لأي فرد آخر أن يستفيد
من الفرصة الممنوحة طبيعياً للأرض ويقوم بدور الأول.
3_ إذا حفر الفرد أرضاً لاكتشاف منجم، فوصل إليه، كان لآخر
أن يستفيد من نفس المنجم إذا لم يزاحمه. وذلك بأن يحفر في موضع آخر
_ مثلاً _ ويصل إلى ما يريد من المواد المعدنية. كما نص على هذا العلامة
في القواعد قائلاً: (ولو حفر فبلغ المعدن لم يكن له منع غيره من الحفر
من ناحية أخرى، فإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه)(1).
4_ يقول الشهيد الثاني في المسالك، عن الأرض التي أحياها الفرد
ثم خربت (إن هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها عادت إلى ما
__________
(1) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ص 222 الطبعة الحجرية.(1/6)
كانت عله، وصارت مباحة، كما لو أخذ من ماء دجلة ثم رده إليها.
وإن العلة في تملك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال
المعلول وهو الملك)(1). ومعنى هذه أن الأرض إذا أحياها الفرد تصبح
حقاً له، ويبقى حقه فيها ما دام إحياؤها متجسداً فيها، فإذا زال الإحياء
سقط الحق.
5_ وعلى هذا الضوء إذا حفر الفرد في أرض لاكتشاف منجم، أو
عين ماء، فوصل إليها، ثم أهمل اكتشافه، حتى طمت الحفرة، أو
التحمت الأرض بسبب طبيعي، فجاء شخص آخر فبدأ العمل من جديد
حتى اكتشف المنجم، كان له الحق في ذلك، وليس للأول حق منعه ( * )
6_ الحيازة بمجردها ليست سبباً للتملك، أو الحق، في المصادر
الطبيعية من الأرض، والمنجم، وعيون الماء، وهي نوع من الحمى،
ولا حمى إلا لله وللرسول.
7_ الحيوانات النافرة المتمردة على الإنسان تملك بالقضاء على مقاومتها،
واصطيادها. ولو لم يحزها الصائد بيده، أو شبكته، فلا يجب في تملك
الصيد الاستيلاء الفعلي. فقد قال العلامة الحلي في القواعد: (إن أسباب
ملك الصيد أربعة: إبطال منعته، وإثبات اليد عليه، واثخانه، والوقوع
فيما نصب آلة للصيد، وكل من رمى صيداً لا يد لأحد عليه، ولا أثر
ملك فانه يملكه إذا صيّره غير ممتنع وإن لم يقبضه)(2).
وقال ابن قدامة: (ولو رمى طائراً على شجرة في دار قوم فطرحه
في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم لأن ملكه بإزالة امتناعه)(3).
ونفس الشيء صرّح به جعفر بن الحسن المحقق الحلي في شرائع
الإسلام(4).
8_ من حفر بئراً حتى وصل إلى الماء، كان أحق بمائها بقدر حاجته
__________
(1) المسالك في شرح شرائع الإسلام للشهيد الثاني على بن أحمد العاملي، المجلد الثاني
كتاب إحياء الموات الطرف الأول.
( * ) راجع ملحق رقم 11.
(2) قواعد الأحكام للعلامة الحلي ص 152 الطبعة الحجرية.
(3) المغني لابن قدامة جـ 9 ص 382.
(4) شرائع الإسلام للمحقق الحلي جـ 3 ص 203.(1/7)
لشربه وشرب ماشيته وسقى زرعه، فإذا فضل بعد ذلك، وجب عليه بذله
بلا عوض لمن احتاج إليه، كما نص على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط،
وقد مر بنا النص سابقاً.
9_ إذا ملك شخص مالاً بالحيازة ثم أهمله وسيّبه، زال حقه فيه
وعاد مباحاً طلقاً، كما كان قبل الحيازة، وجاز لآخر تملكه لأن اعراض
المالك عن الانتفاع بملكه وتسييبه له يقطع صلته به ، كما جاء في حديث
صحيح لعبدالله بن سنان، عن أهل البيت عليهم السلام أنهم قالوا: (من
أصاب مالاً أو بعيراً في فلاة من الأرض كلت وتاهت وسيبها صاحبها
لما لم يتبعه، فأخذها غيره، فأقام عليها، وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال
ومن الموات، فهي له ولا سبيل له عليها، إنما هي مثل الشيء المباح)(1)
والحديث وإن كان يدور حول بعير مسيّب، ولكنه حين عطف البعير على
المال عرفنا أن القاعدة عامة في كل الأحوال.
10_ لا يوجد للفرد حق في رقبة الأرض التي يرعى فيها غنمه، ولا
بتملك المرعى بممارسته للرعي فيه، وإنما يكتسب حقاً فيه بالإحياء فقط.
ولذا لا يجوز للشخص أن يبيع مرعاه إذا لم يكن قد اكتسب حقاً فيه قبل
ذلك بالإحياء أو الإرث من المحيي ونحو ذلك.
وقد جاء عن زيد بن إدريس أنه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام وقال له إن لنا ضياعاً ولها حدود، ولنا الدواب وفيها مراعي،
وللرجل منا غنم وإبل ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه، أيحل له أن
يحمي المراعي لحاجته إليها. فأجاب الإمام: بأن الأرض إذا كانت
أرضه فله أن يحمي ويصير ذلك إلى ما يحتاج إليه. ثم سأله عن الرجل يبيع
المراعي، فقال له، إذا كانت الأرض، أرضه فلا بأس(2). فإن هذا
الجواب يدل على أن نفس عملية اتخاذ الأرض مرعى لا توجد حقاً للراعي
في الأرض يسوّغ له نقل هذا الحق إلى غيره بالبيع.
الاستنتاج:
__________
(1) الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني جـ 5 ص 140.
(2) الوسائل للحر العاملي الشيخ محمد بن الحسن كتاب التجارة أبواب عقد البيع الباب 22.(1/8)
في ضوء هذا البناء العلوي، وإشعاعه الخاص من القاعدة المذهبية نستطيع
أن ندرك معالم النظرية، وبالتالي أن نجيب على الأسئلة التي قدمناها سابقاً.
العمل الاقتصادي أساس الحقوق في النظرية:
فالنظرية تميز بين نوعين من الأعمال، أحدهما: الانتفاع والاستثمار،
والآخر: الاحتكار والاستئثار. فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة
اقتصادية بطبيعتها. وأعمال الاحتكار والاستئثار تقوم على أساس القوة
ولا تحقق انتفاعاً ولا استثماراً مباشراً.
ومصدر الحقوق الخاصة في النظرية، هو العمل الذي ينتمي إلى النوع
الأول، كاحتطاب الخشب من الغابة ونقل الأحجار من الصحراء، وإحياء
الأرض الميتة. وأما النوع الثاني من العمل فلا قيمة له لأنه مظهر من مظاهر
القوة وليس نشاطاً اقتصادياً من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها.
والقوة لا تكون مصدراً للحقوق الخاصة ولا مبرراً كافياً لها. وعلى هذا
الأساس ألغت النظرية العامة العمل لحيازة الأرض والاستيلاء عليها ولم تقم
على أساسه أي حق من الحقوق الخاصة، لأنه في الحقيقة، من أعمال القوة،
لا من أعمال الانتفاع والاستثمار.
الحيازة ذات طابع مزدوج:
ونحن حين نقرر هذا، قد نواجه السؤال عن الفرق بين حيازة الأرض،
وحيازة الحجر بحمله من الصحراء، والخشب باحتطابه من الغابة، والماء
باغترافه من النهر، فإذا كانت الحيازة مظهر قوة وليست ذات صفة
اقتصادية كأعمال الانتفاع والاستثمار فكيف جاز للإسلام أن يفرق بين
حيازة الأرض وحيازة الخشب، ويمنح الأخيرة حقوقاً خاصة، بينما يلغي
الأولى ويجردها من كل الحقوق؟.
وجواباً على هذا السؤال: أن التمييز بين أعمال الانتفاع والاستثمار
وأعمال الاحتكار والاستثمار، في النظرية الإسلامية، لا يقوم على أساس
شكل العمل. بل قد يتخذ الشكل الواحد للعمل طابع الانتفاع والاستثمار
تارة وطابع الاحتكار والاستئثار، تارة أخرى، تبعاً لطبيعة المجال الذي(1/9)
يشتغل فيه العامل، ونوع الثروة التي يمارسها، فالحيازة_ مثلاً_ وإن
كانت من الناحية الشكلية نوعاً واحداً من العمل، ولكنها تختلف في حساب
النظرية العامة باختلاف نوع الثروة التي يسيطر عليها الفرد، لأن حيازة
الخشب بالاحتطاب، والحجر بنقله من الصحراء_ مثلاً_ عمل من
أعمال الانتفاع والاستثمار. وأما حيازة الأرض والاستيلاء على منجم أو
على عين ماء فليس من تلك الأعمال، بل هو مظهر من مظاهر القوة
والتحكم في الآخرين.
ولكي نبرهن على ذلك، يمكننا أن نفترض إنساناً، يعيش بمفرده في
مساحة كبيرة من الأرض، غنية بالعيون والمناجم والثروات الطبيعية،
بعيداً عن المنافسة والمزاحمة، وندرس سلوكه، وما يمارسه من ألوان
الحيازة.
إن إنساناً كهذا لن يفكر في الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأرض،
وما فيها من مناجم وعيون، وحمايتها، لأنه لا يجد داعياً إلى هذا الحماية،
ولا فائدة يجنيها منها في حياته، مادامت الأرض بخدمته في كل حين،
لا ينافسه فيها أحد، وإنما ينصرف مباشرة إلى إحياء جزء من الأرض
يتناسب مع مستوى قدرته على الاستثمار.
ولكنه بالرغم من أنه لا يفكر في حيازة مساحات كبيرة من الأرض،
يمارس دائماً حيازة الماء بنقله إلى كوزه، والحجر يحمله إلى كوخه، والخشب
يوقد عليه النار، لأنه لا يتاح له الانتفاع بهذه الأشياء في حياته إلا بحيازتها،
وإعدادها في متناول يده.
فحيازة الأرض وغيرها من مصادر الطبيعة لا معنى لها إذن عندما تنعدم
المنافسة، بل الإحياء وحده في هذا الحال هو العمل الذي يمارسه الفرد
في الطبيعة لاستثمارها والانتفاع بها. وإنما تكتسب حيازة الأرض قيمتها
عندما توجد المنافسة على الأرض، وتشتد، فينطلق كل فرد للاستيلاء على
أوسع مساحة ممكنة من الأرض وحمايتها من الآخرين. وهذا يعني أن
حيازة الأرض وما إليها من مصادر الطبيعة ليست عملاً ذا صفة اقتصادية
من أعمال الانتفاع والاستثمار وإنما هي عملية تحصين لمورد طبيعي وحمايته(1/10)
من تدخل الآخرين فيه.
وعلى العكس من ذلك حيازة الخشب والحجر والماء، فإنها ليست عمل
قوة، وإنما هي بطبيعتها عمل اقتصادي من أعمال الانتفاع والاستثمار.
ولهذا رأينا أن الإنسان المنفرد في حياته يمارس هذا اللون من الحيازة بالرغم
من تحرره عن كل دافع من دوافع القوة واستعمال العنف وهكذا نعرف
أن حيازة الأشياء المنقولة من ثروات الطبيعة ليست مجرد عمل من أعمال
القوة وإنما هي في الأصل عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار يمارسه
الإنسان ولو لم يوجد لديه أي مبرر لاستعمال القوة.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرج حيازة المصادر الطبيعية من أراضي
ومناجم وعيون، في أعمال الاحتكار والقوة، التي لا قيمة لها في النظرية،
وندرج حيازة الثروات التي تنقل وتحمل، في أعمال الانتفاع والاستثمار،
التي هي المصدر الوحيد للحقوق الخاصة في الثروات الطبيعية.
ونخرج من ذلك بنتيجة وهي: أن الصفة الاقتصادية للعمل شرط
ضروري في إنتاجه للحقوق الخاصة، فلا يكون العمل مصدراً لتملك المال
ما لم يكن بطبيعته من أعمال الانتفاع والاستثمار.
النظرية تميز بين الأعمال ذات الصفة الاقتصادية:
ولنأخذ الآن أعمال الانتفاع والاستثمار، التي تحمل الطابع الاقتصادي
لندرس موقف النظرية من تقييمها، ونوع الحقوق التي تقيمها على أساسها.
ولا نحتاج في هذا المجال إلى أكثر من تتبع الفقرة الثانية والفقرة العاشرة
من البناء العلوي السابق، لنعرف أن الشريعة لا تمنح الفرد دائماً الحق
والملكية في مصادر الثروة الطبيعية، من أرض ومناجم وعيون، بمجرد
ممارسة الفرد فيها لعمل خاص من أعمال الانتفاع والاستثمار. فنحن نرى،
مثلاً في الفقرة الثانية، أن ممارسة الزراعة في ارض عامرة بطبيعتها لا يمنح
الفرد الزارع من الحق فيها، ما يمنحه الإحياء في أرض ميتة. ونلاحظ في
الفقرة العاشرة أيضاً، أن الانتفاع بالأرض باتخاذها مرعى لا يعطي الراعي(1/11)
حقاً في تملك الأرض، مع أن استخدامه لها في الرعي عمل من أعمال الانتفاع
والإستثمار. فهناك إذن فارق يجب اكتشافه، بين إحياء الأرض وما إليه
من أعمال، وبين استثمار الأرض العامرة في الزراعة والرعي، بالرغم
من أن هذه الأعمال، تبدو جميعاً ذات صفة اقتصادية وألواناً من الانتفاع
والاستثمار لمصادر الثروة الطبيعية. وباكتشاف ذلك الفارق نتقدم مرحلة
جديدة في تحديد النظرية العامة واستيعابها.
كيف تقوم الحقوق الخاصة على أساس العمل:
والحقيقة أن هذا الفارق يرتبط كل الارتباط بالمبررات التي آمنت بها
النظرية لمنح الفرد حقوقاً خاصة في الثروة الطبيعية على أساس العمل.
فلكي نفهم باستيعاب الفرق نظرياً بين المجموعة التي عرضناها من أعمال
الانتفاع والاستثمار ذات الصفة الاقتصادية، يجب أن نعرف التكييف النظري
للحقوق الخاصة التي ربطت بالعمل، وكيف وإلى أي مدى يلعب العمل
دوره الإيجابي في النظرية؟ وما هو المبدأ الذي ينشىء العمل على أساسه
حقوقاً خاصة للعامل في الثروة التي يمارسها بعمله؟ فإذا عرفنا هذا المبدأ
استطعنا في ضوئه أن نميز بين تلك المجموعة من أعمال الانتفاع.
ويمكننا تلخيص هذا المبدأ على ضوء البناء العلوي الكامل للنظرية في
الصيغة التالية: إن العامل يملك نتيجة عمله التي يخلقها بجهده وطاقته في المواد
الطبيعية الخام. وهذا المبدأ يسري على كل أعمال الانتفاع والاستثمار التي
يمارسها الفرد في الطبيعة ومصادرها الخام، من دون تمييز بين عملية إحياء
الأرض الميتة، أو كشف المنجم، أو استنباط الماء، أو زراعة الأرض
العامرة بطبيعتها، أو استخدامها في رعي الحيوانات وتربيتها، كل ذلك
عمل وكل عمل مع مادة خام من حق العامل أن يقطف ثماره ويمتلك نتيجته.
ولكن حق العامل في امتلاك نتيجة عمله في مصدر طبيعي، لا يعني
أن جميع هذه الأعمال تتفق في نتائجها لكي تتفق في نوع الحقوق التي تسفر(1/12)
عنها، بل إنها تختلف في نتائجها وعلى هذا الأساس تختلف في نوع
الحقوق الخاصة التي تنشأ عنها، فإحياء الأرض مثلاً عملية يمارسها الفرد
في أرض ميتة لا تصلح لإنتاج وانتفاع، فيزيل عن وجهها الصخور الصماء
ويوفر كل الشروط التي تجعلها قابلة للانتفاع أو الإنتاج، ويحقق عن طريق
ذلك نتيجة مهمة بسبب إحيائه للأرض لم تكن موجودة قبل الإحياء، وليست
هذه النتيجة وجود الأرض نفسها، لأن عملية الإحياء لا تخلق الأرض،
وإنما هي الفرصة التي خلقها الفرد بعمله وجهده، فإن إحياء الأرض الميتة
يؤدي إلى خلق فرصة الانتفاع بالأرض واستثمارها، إذ لم تكن هذه الفرصة
متاحة قبل إحيائها وإنما نتجت عن عملية الإحياء. والعامل يملك وفقاً للنظرية
العامة هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله وملكيته للفرصة تؤدي إلى منع
الآخرين عن سرقة هذه الفرصة منه، وتضييعها عليه، بإنتزاع الأرض منه،
والانتفاع بها بدلاً عنه، لأنهم بذلك يحرمونه من الفرصة التي خلقها بجهده
في عملية الإحياء، وملكها بعمل مشروع. ولأجل ذلك يصبح الفرد بإحيائه
الأرض أولى بها من غيره، ليتاح له الانتفاع بالفرصة التي انتجها، وهذه
الأولوية هي كل حقه في الأرض. وهكذا نعرف أن حق الفرد في الأرض
التي أحياها، مرده نظرياً إلى عدم جواز سرقة الآخرين نتيجة عمله وتضييع
الفرصة التي خلقها بعمله المشروع.
وإحياء المنجم أو عين الماء المستترة في أعماق الأرض، كإحياء الأرض
الميتة، في هذا تماماً. فان العامل الذي يمارس عملية الإحياء، يخلق فرصة
الانتفاع بالمرفق الطبيعي الذي أحياه، ويملك هذه الفرصة بوصفها ثمرة
لجهده، فلا يجوز لغيره تضييع الفرصة عليه. وللعامل الحق في منع الآخرين
إذا حاولوا انتزاع المرفق منه. ويعتبر هذا حقاً في الأرض والمنجم والعين،
مع فوارق سوف ندسها بعد لحظات.
وأما ممارسة الفرد للزراعة، في أرض عامرة بطبيعتها، أو استخدام
أرض لرعي الحيوانات، فهذه الأعمال وإن كانت من أعمال الانتفاع(1/13)
والاستثمار في المصادر الطبيعية، ولكنها لا تبرر وجود حق للزارع والراعي
في الأرض، لأنه لم ينتج الأرض نفسها، ولا فرصة عامة كالفرصة التي
أنتجها إحياء الأرض الميتة. صحيح أن الزارع أو الراعي أنتج زرعاً، أو
ربّي ثروة حيوانية، عن طريق عمله في الأرض ولكن هذا يبرر تملكه
للزرع الذي أنتجه، أو للثروة الحيوانية التي تعاهدها، ولا يبرر تملكه
للأرض وحقه فيها.
فالفرق إذن بين هذه الأعمال، وعمليات الإحياء، أن تلك العمليات
تخلق فرصة للاستفادة من الأرض أو المنجم أو العين، لم تكن قبل الإحياء
فيملكها الفرد، ويكتسب عن طريق تملكه لهذه الفرصة حقه في المصدر
الذي أحياه. وأما الأرض العامرة بطبيعتها، أو الأرض الخضراء بطبيعتها
التي يمارس فيها الفرد عملية الزرع أو الرعي، فقد كانت فرصة الانتفاع
بها في الزرع والرعي، موجودة قبل ذلك، ولم تنتج عن العمل الخاص،
وإنما الشيء الذي نتج عن عمل الزارع_ مثلاً_ هو الزرع، ولا شك
أنه من حقه الخاص، لأنه نتيجة عمله.
وفي هذا الضوء نستطيع الآن أن نستنتج شرطاً جديداً في العمل الذي
يتيح حقاً خاصاً في المصادر الطبيعية. فقد اكتشفنا آنفاً الشرط الأول وهو
أن يكون العمل ذا صفة اقتصادية، ونستنتج الآن الشرط الثاني وهو أن
يخلق هذا العمل حالة أو فرصة معينة جديدة يملكها العامل، ويكتسب عن
طريقها حقه في المصدر الطبيعي.
وإلى هذه الحقيقة كان الإمام الشافعي يشير حينما استدل على أن المعدن
الباطن المستتر لا يملك بالإحياء بأن المحيا ما يتكرر الانتفاع به بعد عمارته
بالإحياء من غير إحداث عمارة وهذا لا يمكن في المعادن بمعنى أن الفرصة
التي يخلقها الإحياء في المعدن محدودة فيكون الحق محدوداً تبعاً لذلك.
وهذا الاكتشاف للترابط بين حق العامل في المصدر الطبيعي، والفرصة
التي ينتجها العمل في ذلك المصدر، يترتب عليه منطقياً أن يزول حق الفرد(1/14)
في المصدر إذا تلاشت تلك الفرصة التي أنتجها، لأن حقه في المصدر الطبيعي
كان يقوم كما عرفنا على أساس تملكه لتلك الفرصة، فإذا زالت سقط حقه.
وهذا ما نجده تماماً في الفقرة الرابعة والخامسة من البناء العلوي الذي
قدمناه.
ولنأخذ الآن أعمال الإحياء هذه التي تمنح الفرد العامل حقاً خاصاً في
المصدر الطبيعي، كإحياء الأرض واستخراج المنجم واستنباط العين،
لكي ندرس بدقة موقف النظرية منها. ونرى ما إذا كانت نفس هذه
الأعمال تختلف في الحقوق التي تنتجها بعد أن درسنا الفرق بينها وبين سائر
أعمال الانتفاع والاستثمار، وعرفنا قبل ذلك الفرق بين أعمال الانتفاع
والاستثمار بشكل عام. وأعمال الاحتكار والاستئثار.
ونحن إذا استعرضنا من البناء العلوي المتقدم الحقوق التي تقوم على أساس
أعمال الإحياء، وجدنا أنها تختلف من عمل لآخر. فالأرض التي أحياها
الفرد لا يجوز لفرد آخر بدون إذنه استثمارها، والتصرف فيها، مادام الفرد
الذي أحياها يتمتع بحقه في الأرض، بينما نجد ان الفرد إذا استنبط عيناً،
كان له الحق في مائها بقدر حاجته، وجاز للآخرين الاستفادة من العين فيما
زاد على حاجة صاحبها.
ولهذا كان على النظرية أن تشرح أن تشرح السبب الذي أدى إلى اختلاف حق
العامل في أرضه التي أحياها، عن حق العامل في العين التي استنبطها، ولماذا
سمح لأي فرد بالاستفادة من ماء العين إذا زاد على حاجة صاحبها. ولم
يسمح لأحد بزراعة الأرض التي أحياها العامل بدون إذنه، ولو لم يستغلها
العامل في الزراعة فعلاً؟
والواقع أن الجواب على هذا جاهز في ضوء معلوماتنا التي اكتشفناها
حتى الآن عن النظرية فإن العامل يملك قبل كل شيء نتيجة عمله، وهي
فرصة الاستفاد من المصدر الطبيعي، وملكيته لهذه الفرصة تحتم على
الآخرين الإمتناع عن سرقتها منه وتضييعها عليه، وبذلك يحصل على الحق
الخاص في المصادر الذي أحياه. وهذا كله يطرد في سائر المصادر دون(1/15)
فرق في ذلك بين الأرض والمنجم والعين. فالحقوق التي تنتج عن إحياء
تلك المصادر الطبيعية متساوية.
والسماح للغير بالاستفادة من عين الماء فيما زاد على حاجة العامل دون
الأرض لا ينشأ من اختلاف الحقوق، بل ينبع عن طبيعة تلك الأشياء فان
الفرصة التي يملكها الفرد نتيجة لحفره العين، واكتشافه للماء، لاتضيع عليه
بمشاركة شخص آخر له في الانتفاع بالماء، ما دامت العين غزيرة تفيض
عن حاجته، فالعين الثرية بالماء لا تضيق عادة عن تزويد فردين بالماء وإشباع
حاجتهما. وبهذا يظل العامل محتفظاً بالفرصة التي خلقها دون أن يؤدي
انتفاع الآخر بالعين في شربه وشرب ماشيته إلى فوات تلك الفرصة منه.
وعلى العكس من ذلك الأرض التي يحييها الفرد، ويخلق فيها فرصة
الانتفاع بها عن طريق إحيائه لها، فإن الأرض بطبيعتها لا تتسع لاستثمارين
في وقت واحد، فلو بادر شخص إلى أرض محياة واستثمرها لانتزع بذلك
من العامل الذي أحياها الفرصة التي خلقها، لأن الأرض إذا وظفت في
إنتاج زراعي لا يمكن أن تقوم بدور مماثل، ولا أن تستغل لأغراض الإنتاج
من قبل فرد آخر.
وهكذا نعرف أن الأرض المحياة لا يجوز لغير العامل الذي أحياها أن
يستثمرها وينتفع بها، لأنه يضيع على العامل الفرصة التي يملكها بعمله.
فلكي يحتفظ العامل بهذه الفرصة لا يسمح لغيره باستثمار الأرض، سواء
كان العامل يفكر في استغلال الفرصة فعلاً أولاً، لأنها على أي حال فرصته
التي خلقها، ومن حقه الاحتفاظ بها ما دامت جهوده التي أنفقها لإحياء
الأرض مجسدة فيها. وخلافاً لذلك يسمح في عيون الماء لغير العامل الذي
اكتشفها أن يستفيد منها فيما زاد على حاجة العامل، لأن ذلك لا يجرد
المكتشف من الفرصة التي خلقها، لقدرة العين على تلبية طلبات العامل الذي
اكتشفها، وإشباع حاجة الآخرين في وقت واحد، فاختلاف الأرض عن
العين في طبيعتها وطريقة استغلالها هو السبب الذي يفسر السماح للآخرين
بالاستفادة من العين دون الأرض.(1/16)
وأما المنجم المكتشف، فقد أجاز الإسلام لأي فرد أن يستفيد منه،
بالطريقة التي لا تؤدي إلى حرمان المكتشف من الفرصة التي خلقها. وذلك
بالحفر في موضع آخر من المنجم، أو بالاستفادة من نفس الحفرة التي
أنشأها المكتشف الأول، إذا كانت واسعة تتيح للغير أن يستفيد منها دون
أن ينتزع من المكتشف فرصة الانتفاع.
فالمقياس العام للسماح لغير العامل، أو منعه عن الانتفاع بالمرفق
الطبيعي الذي أحياه العامل وخلق فيه فرصة الانتفاع، هو: مدى تأثير ذلك
على الفرصة التي خلقها العامل بإحيائه للمصدر الطبيعي.
أساس التملك في الثروات المنقولة:
وحتى الآن كنا نحصر الحديث تقريباً بالعمل في المصادر الطبيعية
كالأراضي والمناجم وعيون الماء. ولا بد لكي نستوعب المحتوى الكامل
للنظرية، أن نفحص بتدقيق تطبيقات النظرية على غير المصادر الطبيعية من
الثروات المنقولة، وأوجه الفرق بينها وبين المصادر، والمبررات النظرية
لهذه الفروق.
والشيء الوحيد الذي مر بنا عن موقف النظرية من الثروات المنقولة،
أن حيازة هذه الثروات تعتبر نظرياً عملاً ذا صفة اقتصادية من أعمال
الانتفاع والاستثمار، خلافاً لحيازة المصدر الطبيعي التي تحمل طابع الاحتكار
والاستئثار، ولا تتسم بالصفة الاقتصادية.
وقد استخدمنا فرضية الإنسان المنفرد، للتدليل بها على هذا الفرق بين
حيازة المصادر الطبيعية وحيازة الثورات المنقولة.
فالاستيلاء_ إذن_ على كمية من الماء أو من خشب الغابة أو أي
ثروة طبيعية أخرى بالامكان نقلها يعتبر قبل كل شيء عملاً من أعمال
الانتفاع والاستثمار. ولهذا تدخل حيازة الثروات المنقولة في حساب النظرية،
التي لا تعترف بعمل سوى أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية.
ولكن الحيازة ليست هي العمل الوحيد الذي تعترف به النظرية،
وتقيمه في مجال الثروات المنقولة. فهناك نوع آخر من العمل في هذا المجال،
يشبه أعمال الإحياء في المصادر الطبيعية، وهو العمل لإيجاد فرصة الانتفاع(1/17)
بالثروة الطبيعية المنقولة، إذا كانت تشتمل بطبيعتها على مقاومة للانتفاع بها،
كصيد الحيوان النافر، فان العمل الذي يشل به الصياد مقاومة الحيوان الذي
يصطاده يخلق فرصة الانتفاع بذلك الحيوان بسبب القضاء على مقاومته كما
يخلق العامل فرصة الانتفاع بالأرض الميتة عن طريق إحيائها والقضاء على
مقاومتها وتذليل تربتها.
فالحيازة والعمل لإيجاد فرصة الانتفاع نوعان من العمل، يحملان معاً
الطابع الاقتصادي في مجال الثروات المنقولة ولكن العمل لإيجاد فرصة جديدة
للانتفاع بالثروة كالصيد، يمتاز عن الحيازة بدوره الايجابي في خلق هذه
الفرصة، إذ أن الحيازة ذات دور سلبي من هذه الناحية لأنها بوصفها مجرد
عملية استيلاء على الثروة لا تخلق فيها فرصة جديدة للانتفاع بها بشكل عام.
فأنت حين تحوز حجراً من الطريق العام، أو ماءً من البئر، لا تخلق في
الحجر والماء فرصة جديدة للانتفاع بهما بشكل عام لم تكن من قبل، لأن
الحجر أو الماء كان معروضاً للجميع، ولم تزد على أن سيطرت عليه وادخرته
لحاجتك. صحيح أنك نقلت الحجر إلى بيتك والماء إلى آنيتك ولكن هذا
لا يخلق فرصة لم تكن من قبل للانتفاع بالمال بشكل عام، لأن هذا النقل
إنما يمهد لانتفاعك بالحجر أو الماء، ولا يذلل عقبة عامة في هذا السبيل، ولا
يمنح المال صفة تجعل أكثر استعداداً أو لياقة للنفع بصورة عامة كإحياء
الأرض الذي يقضي على مقاومة الأرض للانتفاع بها بشكل عام، ويمنحها
كفاءة جديدة للقيام بدورها العام في حياة الإنسان.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقارن الصيد، وما إليه من أعمال كخلق
فرصة جديدة في الثروات المنقولة، بعملية إحياء الأرض، لأن الصيد
والإحياء يتفقان في خلق فرصة عامة لم تكن متاحة من قبل. ونقارن حيازة
الثروة المنقولة بعملية زراعة الأرض العامرة بطبيعتها، فكما أن زراعة
الأرض العامرة طبيعياً لا تخلق في الأرض فرصة جديدة ، وإنما هي عمل(1/18)
من أعمال الانتفاع والاستثمار، كذلك حيازة الماء من العيون الطبيعية(1).
وهذا التمييز بين حيازة الثروات المنقولة، وبين العمل فيها لإيجاد
فرصة الانتفاع، كالصيد وما إليه من أعمال، لا يعني انفصال هذين
الأمرين أحدهما عن الآخر دائماً فان الحيازة كثيراً ما تقترن بخلق فرصة
جديدة في الثروة، فتندمج الحيازة مع خلق الفرصة الجديدة عملية
واحدة. كما قد يوجد كل منهما بصورة منفصلة عملياً عن الآخر.
فهناك من الثروات ما يحتوي على درجة من المقاومة الطبيعية للانتفاع
به، كالسمك في البحر والفائض من ماء النهر الذي يجري بطبيعته ليتلاشى
في نهاية الشوط في أعماق البحر، فإذا قضى الصياد على مقاومة السمك
باغرائه بدخول شبكته التي يصطاد بها، فقد حازه وخلق فيه أيضاً
فرصة الانتفاع، نتيجة لمنعه من الهروب إلى البحر والتسلل إليه.
وقد يمارس الفرد عملاً لخلق فرصة جديدة في الثروة والقضاء على
مقاومتها الطبيعية، دون أن تتحقق خلال ذلك حيازة الثروة، كما إذا رمى
الصائد بحجر على طائر محلق في الجو، فشل حركته، واضطره إلى الهبوط
في منطقة بعيدة عن موضع الصائد، وأصبح في وضع لا يسمح له إلا
بالمشي كالدواجن، فالفرصة الجديدة للانتفاع قد انجزت في هذه العملية
عن طريق اصطياد الطائر والقضاء على مقاومته بقذف الحجر عليه، ولكن
الطير وهو يمشي بعيداً عن موضع الصائد لا يعتبر في حيازته وتحت يده،
وإنما تتم حيازته له إذا تعقبه الصائد وأخذه.
وقد يحوز الفرد ثروة دون أن يمارس عملاً لخلق فرصة جديدة فيها،
__________
(1) يلاحظ هنا أنا لم نقارن بين حيازة الماء المباح وحيازة الأرض العامرة بطبيعتها؛ وإنما
قارنا بين حيازة الماء وزراعة الأرض العامرة، وذلك لأن حيازة الأرض ليست عملاً من أعمال
الانتفاع والاستثمار، _كما مر سابقاً_ أما حيازة الماء فهي من أعمال الانتفاع ذات الصفة
الاقتصادية، كزراعة الأرض العامرة بطبيعتها.(1/19)
كما إذا كانت الثروة مستعدة بطبيعتها للانتفاع بها، ولا تشتمل على مقاومة
تحول دون ذلك، كحيازة الماء من العيون والحجر من الأرض.
فالحيازة وخلق الفرصة لونان من العمل قد يندمجان في عملية واحدة
وقد يفترقان.
ولنعبر عن اللون الثاني من العمل الذي يخلق الفرصة بالصيد، بوصفه
المثال البارز للعمل المنتج لفرصة جديدة في الثروات المنقولة.
ولكي ندرس هذين اللونين من العمل على صعيد النظرية، سوف
نتناول كلا من الحيازة والصيد بصورة منفصلة عن الآخر، لاكتشاف
الأحكام المختصة به، وطبيعة الحقوق التي تنتج عن كل من العملين،
والأساس النظري لها.
دور الأعمال المنتجة في النظرية:
فالصيد إذا درسناه بصورة منفصلة عن الحيازة، نجد أنه عمل ينتج
فرصة معينة. فمن الطبيعي أن يمنح العامل حق تملك الفرصة التي نتجت عن
عمله، كما يملك العامل في الأرض فرصة الانتفاع التي نجمت عن إحيائه
للأرض، وفقاً للمبدأ الآنف الذكر في النظرية، الذي يمنح كل عامل في
الثروة الطبيعية الخام حق تملك النتيجة التي يسفر عنها العمل.
وعن طريق تملك الصائد لهذه الفرصة، يصبح له حق خاص في الطير
الذي اصطاده واضطره إلى الهبوط والمشي على الأرض، ولو لم يحزه كما
يدل عليه اطلاق النصوص التشريعية ( * ) فلا يسمح لفرد آخر آن يبادر إلى
الطير ويستولي عليه، أو يغتنم فرصة اشتغال الصياد عن حيازته بمواصلة
عملية الصيد مثلاً، فيسبقه إليه، لأن ذلك يؤدي إلى حرمان العامل من
الفرصة التي خلقها بالصيد.
فحق الصياد في الطائر الذي اصطاده، لا يتوقف على حيازته له أو
البدء في الانتفاع به فعلاً، بل مجرد الفرصة التي خلقها بعمله يخوله الحق فيه،
لأن هذه الفرصة ملك للعامل الذي خلقها، سواء فكر فعلاً في الانتفاع
بصيده وبادر إلى حيازته أو لا.
وبهذا كان الصياد نظير العامل الذي يحيي الأرض، فكما لا يجوز
لفرد آخر أن يستثمر الأرض ويزرعها، ولو لم يمارس المحيي الانتفاع بها(1/20)
فعلاً، كذلك لا يصح لغير العامل الذي ذلل الصيد وقضى على مقاومته أخذ
الصيد ما دام الصياد محتفظاً بحقه، ولو لم يبادر إلى حيازته فعلاً.
ولكن الطير الذي شلت حركته نتيجة لاصطياده، إذا استطاع قبل
أن يبادر الصياد إلى حيازته، أن يسترجع قواه، أو يتغلب على الصدمة،
ويحلّق في الجو من جديد، زال عنه حق الصياد، لأن هذا الحق كان يعتمد
على تملك العامل للفرصة التي انتجها بالصيد، وهذه الفرصة تتلاشى بهروب
الطائر في الجو، فلا يبقى للصائد حق الطير ( * ) وهو في هذا يشبه أيضاً
العامل الذي يحيي الأرض ويكتسب حقه فيها على هذا الأساس، إذ يفقد
حقه في الأرض، إذا انطفأت فيها الحياة ورجعت مواتاً من جديد والسبب
نظرياً واحد في الحالتين، وهو أن حق الفرد في الثروة يرتبط بتملكه
للفرصة التي تنتج عن عمله فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل
زال حقه في الثروة.
فالصيد في أحكامه إذن حين ينظر إليه بصورة مستقلة عن الحيازة يشابه
إحياء المصادر الطبيعية. وهذا التشابه ينبع_ كما رأينا_ من وحدة التفسير
النظري لحق العامل في صيده، وحق العامل في الأرض الميتة التي أحياها.
دور الحيازة للثروات المنقولة:
وأما الحيازة، فهي تختلف عن الصيد المجرد في أحكامها. ولهذا نجد
أن الفرد إذا ملك طيراً بالحيازة ودخل في حوزته، أصبح من حقه استرجاعه
إذا طار وامتنع، فاصطاده آخر، وليس للآخر الاحتفاظ به، بل يجب
عليه رده إلى من كان الطير في حوزته، لأن الحق المستند إلى الحيازة حق مباشر
بمعنى أن الحيازة سبب مباشر لتملك الطير، وليس تملك الطير مرتبطاً بتملك
فرصة معينة ليزول بزوالها.
وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليات التي مرت بنا فالصيد
كان سبباً لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها، وقام على هذا الأساس حقه
في الطير، والإحياء كان سبباً لامتلاك العامل للفرصة التي نجمت عن الإحياء
ونتيجة لذلك حصل على حقه في المرفق الذي أحياه. وأما حيازة الثروات(1/21)
المنقولة، فهي بمجردها سبب أصيل ومباشر لتملك الثروة.
وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال، يحتّم علينا مواجهة
السؤال التالي على الصعيد النظري: إذا كان حق الفرد في المصدر الطبيعي
الذي أحياه، أو في الصيد الذي اصطاده، يقوم على أساس امتلاكه نتيجة
عمله، وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر، فعلى أي أساس يقوم حق
الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق، فيأخذه لنفسه؟ أو حقه في الماء
الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعية؟ مع أن حيازته هذه للحجر أو للماء
لم تنتج فرصة عامة جديدة في المال كما ينتج الصيد وإحياء الأرض؟.
والجواب على هذا السؤال: أن حق الفرد هذا، لا يستمد مبرره من
تملك الفرد لفرصة نتجت عن عمله، وإنما يبرره انتفاع الفرد بذلك المال،
فكما أن من حق كل عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله، كذلك من
حقه أن ينتفع بالفرصة التي هيأتها له الطبيعة بعناية الله تعالى. فالماء مثلاً إذا
كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر، فقد خلق فرصة الانتفاع به
وأصبح جديراً بامتلاك هذه الفرصة. وأما إذا كان الماء مجتمعاً طبيعياً على
سطح الأرض، وكانت فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الإنسان،
فلا بد أن يتاح لكل فرد أن يمارس انتفاعه بذلك الماء، ما دامت الطبيعة قد
كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع.
فإذا افترضنا فردا اغترف بانائه من الماء المجتمع طبيعياً على وجه
الأرض فقد مارس عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار، في مفهوم النظرية
كما مر بنا في مستهل البحث. وما دام من حق كل فرد أن ينتفع بالثروة
التي تقدمها الطبيعة بين يدي الإنسان، فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة
الماء المكشوف على وجه الأرض، من مصادره الطبيعية، لأنها عمل من
أعمال الانتفاع والاستثمار وليست عملاً من أعمال الاحتكار والقوة.
وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه، كان له ذلك، ولا يجوز لآخر(1/22)
أن ينازعه فيه، أو ينتزعه منه وينتفع به لأن النظرية ترى حيازة الماء وما
إليه من الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع، فما دامت الحيازة مستمرة
فالانتفاع مستمر إذن من قبل الحائز، وما دام الحائز مواصلا لانتفاعه بالثروة،
فلا مبرر لتقديم فرد آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد.
وهكذا يظل الفرد متمتعاً بحقه في الثروة المنقولة التي حازها، ما دامت
الحيازة مستمرة حقيقة أو حكماً(1). فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال
المال والأعراض عنه، انقطع انتفاعه به، وسقط بسبب ذلك حقه في المال،
وأصبح لأي فرد آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به.
وهكذا يتضح أن حق الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة، أو الحجر
الذي أخذه من الطريق العام، لا يستند إلى تملكه لفرصة عامة ناجمة عن
عمله وإنما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعية عن
طريق حيازته لها.
وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف، إلى المبدأ المتقدم في النظرية القائل:
إن كل عامل يملك نتيجة عمله، مبدأ جديداً وهو: أن ممارسة الفرد للانتفاع
بثروة طبيعية، يجعل له حقاً فيها، مادام مواصلاً لانتفاعه بتلك الثروة.
ولما كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع،
فيستوعبها هذا المبدأ، ويقيم على أساسها حقاً للفرد في الثروة التي حازها.
تعميم المبدأ النظري للحيازة:
وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب، بل ينطبق على
المصادر الطبيعية أيضاً، إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع، كما إذا
زرع أرضاً عامرة بطبيعتها، فان زراعته لها عمل من الأعمال الانتفاع،
فيكسب على أساس ذلك حقاً في الأرض، يمنع الآخرين من مزاحمته،
__________
(1) نريد باستمرار الحيازة حكماً: الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري،
كالنسيان والضياع والاغتصاب، ونحو ذلك، فان الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع=(1/23)
وانتزاع الأرض منه، مادام يواصل انتفاعه بها، ولكن ليس معنى هذا أن
مجرد حيازة الأرض مثلاً تكفي لاكتساب هذا الحق فيه كحيازة الماء، لأن
حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار، وإنما ينتفع بالأرض
العامرة عن طريق زراعتها مثلاً، فإذا باشر العامل الزراعة في ارض عامرة
بطبيعتها، وواصل هذا النوع من الانتفاع بها، لم يجز لآخر انتزاع الأرض
منه، مادام العامل مستمراً في زراعتها، لأن الآخر ليس أولى بها ممن ينتفع
بها فعلاً. وأما إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها، فلا يبقى له الحق في
الاحتفاظ بها، ويجوز عندئذ لفرد آخر ممارستها في عمل من أعمال الانتفاع
والاستثمار.
ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض، الفرق بين المبدأين،
فحق الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثروة طبيعية يزول
بمجرد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته، بينما يظل الحق القائم
على أساس تملك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتاً، ما دامت الفرصة باقية
وجهود العامل مجسدة في الأرض، ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض
فعلاً.
تلخيص النتائج النظرية:
يمكننا أن نستنتج الآن، من دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج
مبدأين أساسين في هذه النظرية:
أحدهما: أن العامل الذي يمارس شيئاً من ثروات الطبيعة الخام يملك
نتيجة عمله، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة. ونتيجة لتملك
العامل هذه الفرصة يكون له الحق في نفس المال تبعاً لما تفرضه ملكيته للفرصة
التي أنتجها عمله ويرتبط حقه في المال بملكية هذه الفرصة، فإذا انعدمت
وزالت الفرصة التي خلقها، سقط حقه في المال.
والمبدأ الآخر: أن ممارسة الانتفاع بأي ثروة طبيعية تمنح الفرد الممارس
حقاً، يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه، مادام يواصل استفادته منها،
ويمارس أعمال الانتفاع والاستثمار، لأن غيره ليس أولى منه بالثروة التي
يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير.(1/24)
وعلى أساس المبدأ الأول تقوم الأحكام التي نظمت الحقوق في عمليات
الإحياء والصيد. وعلى أساس المبدأ الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات
المنقولة، التي وفرت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للإنسان.
فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعية، والانتفاع المستمر بثروة توفرت
فيها الفرصة طبيعياً، هما المصدران الأساسيان للحق الخاص في الثروات
الطبيعية.
والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصادية، فان كلاً من خلق
فرصة جديدة، أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعياً، يعتبر
ذا صفة اقتصادية، وليس من أعمال القوة والاستئثار.
* * *(1/25)
ملاحَظات
1_ دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية
رأينا أن الشريعة تسمح للأفراد باكتساب الحقوق الخاصة، في المصادر
الطبيعية، ضمن الحدود التي تقررها النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج
والتصميم النظري لهذه الحقوق يختلف عن تصميمها في النظريات الرأسمالية
والماركسية.
ففي المذهب الرأسمالي يسمح لكل فرد بتملك المصادر الطبيعية على
أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، فكل ثروة يسيطر عليها الفرد يمكنه أن
يعتبرها ملكاً له، ما لم يتعارض ذلك مع حرية التملك الممنوحة للآخرين.
فالمجال المسموح به من الملكية الخاصة لكل فرد، لا يحدده إلا صيانة
حق الأفراد الآخرين في حرية التملك. وهكذا يستمد الفرد مبرر ملكيته
من كونه حراً، وغير مزاحم للآخرين في حرياتهم.
وأما النظرية العامة للتوزيع التي درسناها فلا تعترف بحرية التملك
بمفهومها الرأسمالي، وإنما تعتبر حق الفرد في المصدر الطبيعي الخام مرتبطاً.
بتملكه لنتيجة عمله، أو انتفاعه المباشر المستمر بذلك المصدر ولهذا
يزول الحق، إذا فقد كلا هذين الأساسين.
فالحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تعتبر رأسمالياً مظهراً من مظاهر
حرية الإنسان، التي يتمتع بها في ظل النظام الرأسمالي، بينما هي في الإسلام
مظهر من مظاهر نشاط الإنسان، وممارسته لأعمال الانتفاع والاستثمار.
وأما الماركسية فهي تؤمن بالغاء كل لون من ألوان الملكية الخاصة،
للمصادر الطبيعية وسائر وسائل الإنتاج، وتدعو إلى تحرير تلك الوسائل من
الحقوق الخاصة، إذ لم يعد لها مبرر، منذ دخل التاريخ المرحلة المحددة التي
دقت الصناعة الآلية أجراسها، في عصر الإنسان الرأسمالي الحديث.
وإيمان الماركسية بضرورة هذا الإلغاء لا يعني، من الناحية النظرية
التحليلية، إن الملكية الخاصة لا مبرر لها في المفهوم الماركسي إطلاقاً، وإنما
يعبر عن إيمانها مذهبياً بأن الملكية الخاصة قد استنفدت كل أغراضها في(1/1)
حركة التاريخ، ولم يبق لها مجال في تيار التاريخ الحديث، بعد أن فقدت
مبرراتها وأصبحت قوة معاكسة للتيار.
ولكي نقارن بين النظرية الماركسية والإسلام، يجب أن نعرف ما هي
المبررات في النظرية الماركسية للملكية الخاصة؟ وكيف فقدت في عصر
الإنتاج الرأسمالي هذه المبررات (1)؟
إن الماركسية ترى: أن جميع الثروات الطبيعية الخام ليس لها بطبيعتها قيمة
تبادلية، وإنما لها منافع استعمالية كثيرة، لأن القيمة التبادلية لا توجد في
ثروة إلا نتيجة لعمل بشري متجسد فيها. فالعمل هو الذي يخلق القيمة
التبادلية في الأشياء، والثروات الخام في وضعها الطبيعي لم تندمج مع عمل
إنساني محدد فلا قيمة لها من الناحية التبادلية. وبهذا تربط الماركسية بين
القيمة التبادلية والعمل، وتقرر أن العامل الذي يمارس مصدراً طبيعياً، أو
ثروة من ثروات الطبيعة، يمنح المال الذي يمارسه قيمة تبادلية بقدر كمية العمل الذي ينفقه عليه.
وكما تربط الماركسية بين العمل والقيمة التبادلية، تربط أيضاً بين القيمة
التبادلية والملكية، فتمنح الفرد الذي يخلق بعمله قيمة تبادلية في المال حق
ملكية ذلك المال، والتمتع بتلك القيمة التي خلقها فيه. فتملك الفرد للثروة
يستمد مبرره النظري في الماركسية من وصفه خالقاً للقيمة التبادلية في تلك
__________
(1) نريد هنا بالنظرية الماركسية، النظرية الاقتصادية للمذهب الماركسي لا نظرية ماركس
في تفسير التاريخ وتحليله.
فان الملكية تدرس تارة بوصفها ظاهرة تاريخية، وهي بهذا الوصف تبرر ماركسياً
على أساس نظرية ماركس في التاريخ، بظروف التناقض الطبقي، وشكل الإنتاج ونوع القوى
المنتجة.
وتدرس الملكية الخاصة تارة أخرى على أساس اقتصادي بحت لاكتشاف مبرراتها التشريعية
لا المبرر التاريخي لوجودها. وفي هذه المرة يجب التفتيش عن مبرراتها الماركسية في نظرية
ماركس في القيمة والعمل والقيمة الفائضة.(1/2)
الثروة، نتيجة لما بذله عليها من عمل. وهكذا يصبح للفرد على أساس
النظرية هذه حق تملك المصدر الطبيعي ووسائل الإنتاج الطبيعية، إذا استطاع
أن ينفق عليها شيئاً من الجهد، ويمنحها قيمة تبادلية معينة. وهذه الملكية
تبدو في الحقيقة على ضوء النظرية الماركسية ملكية للنتيجة التي يسفر عنها
العمل، لا للمصدر الطبيعي منفصلاً عن تلك النتيجة، ولكن هذه النتيجة
التي يملكها العامل ليست هي فرصة الانتفاع بوصفها حالة ناتجة عن العمل،
كما رأينا في النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج، بل هي القيمة
التبادلية التي تنشأ عن العمل في رأي الماركسية. فالعامل يمنح المصدر الطبيعي
قيمة معينة، ويتملك هذه القيمة التي أسبغها على المال.
وتعلية على هذا الأساس الماركسي لتبرير الملكية الخاصة تقرر الماركسية:
إن هذه الملكية تظل مشروعة ما لم تدخل في عصر الإنتاج الرأسمالي، الذي
يدفع فيه المالكون المصادر والوسائل التي يملكونها إلى من لا يملكون شيئاً،
ليعملوا فيها بأجور ويسلموا الأرباح إلى مالكي تلك المصادر والوسائل، فان
هذه الأرباح سوف تعادل قيمتها خلال زمن قصير نسبياً القيمة التبادلية
للمصادر والوسائل. وبذلك يكون المالك قد استوفى كل حقه في تلك
المصادر والوسائل، لأن حقه كان مرتبطاً بالقيمة التي نتجت عن عمله في
تلك المصادر، مادام قد حصل على هذه القيمة مجسدة في الأرباح التي
تقاضاها، فقد انقطعت بذلك صلته بالمصادر والوسائل التي كان يملكها.
وهكذا تفقد الملكية الخاصة مبرراتها، وتصبح غير مشروعة في النظرية
الماركسية، بدخول عصر الإنتاج الرأسمالي أو العمل المأجور.
وعلى هذا الأساس الذي يربط ملكية العامل بالقيمة التبادلية، تفسح
الماركسية لعامل آخر_ إذا مارس الثروة_ أن يملك القيمة الجديدة التي
تنتج عن عمله فإذا ذهب فرد إلى الغابة واقتطع من أخشابها وأنفق على
الخشب جهداً حتى جعله لوحاً، ثم جاء آخر فجعل من اللوح سريراً،(1/3)
أصبح كل منهما مالكاً بقدر القيمة التبادلية التي أنتجها عمله. ولهذا تعتبر
الماركسية الأجير في النظام الرأسمالي هو المالك لكل القيمة التبادلية التي
تكتسبها المادة عن طريق عمله، ويكون اقتطاع مالك المادة جزءاً من هذه
القيمة باسم الأرباح سرقة من الأجير.
فالقيمة مرتبطة بالعمل. والملكية إنما هي في حدود القيمة التي تنتج عن
عمل المالك.
هذه هي المبررات الماركسية للملكية الخاصة، التي يمكن تلخيصها في
القضيتين التاليتين:
1_ القيمة التبادلية مرتبطة بالعمل وناتجة عنه.
2_ وملكية العامل مرتبطة بالقيمة التبادلية التي يخلقها عمله.
ونحن نختلف عن الماركسية في كلتا القضيتين.
أما القضية الأولى التي تربط القيمة التبادلية بالعمل، وتجعل منه المقياس
الأساسي الوحيد لها، فقد درسناها بكل تفصيل في بحوثنا مع الماركسية من
هذا الكتاب، واستطعنا أن نبرهن على أن القيمة التبادلية لا تنبع بصورة
أساسية من العمل. وبذلك تنهار جميع اللبنات الفوقية التي شادتها الماركسية
على أساس هذه القضية(1).
وأما القضية الأخرى التي تربط ملكية الفرد بالقيمة التبادلية التي تتولد
عن العمل، فهي تتعارض مع اتجاه النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل
الإنتاج، لأن الحقوق الخاصة للأفراد في المصادر الطبيعية وإن كانت تقوم
في الإسلام على أساس امتلاك الفرد نتيجة عمله، ولكن نتيجة العمل التي
يمتلكها العامل الذي أحيى قطعة من الأرض خلال عمل أسبوع مثلاً ليست
هي القيمة التبادلية التي ينتجها عمل أسبوع كما ترى الماركسية، بل النتيجة
التي يملكها العامل في الأرض التي أحياها هي فرصة الانتفاع بتلك الأرض،
وعن طريق تملّك هذه الفرصة ينشأ حقه الخاص في الأرض نفسها، وما
دامت هذه الفرصة قائمة يعتبر حقه في الأرض ثابتاً، ولا يجوز لآخر أن
يتملك الأرض بإنفاق عمل جديد عليها ولو ضاعف العمل الجديد قيمتها
__________
(1) راجع الكتاب الأول ص: 192_ 206.(1/4)
التبادلية، لأن فرصة الانتفاع بالأرض ملك الأول ولا يجوز مزاحمته فيها.
وهذا هو الفارق الأساسي من الناحية النظرية، بين الأساس الماركسي
الخاص في المصدر الطبيعي، وبين الأساس الإسلامي. فمرد الحق الخاص
على الأساس الأول إلى امتلاك العامل القيمة التبادلية التي اكتسبتها الأرض من
عمله فحسب، ومرده على الأساس الثاني إلى امتلاك العامل الفرصة الحقيقية
التي أنتجها العمل في الأرض.
فالمبدأ القائل: إن الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تقوم على أساس
العلم، وإن العامل يتملك النتيجة الواقعية لعمله، يعكس النظرية الإسلامية.
والمبدأ القائل: أن القيمة التبادلية لمصادر الطبيعة تقوم على أساس العمل
وملكية العامل تحددها القيمة التبادلية التي خلقها، يعكس النظرية الماركسية.
والفرق الرئيسي بين هذين المبدأين هو مصدر كل الاختلافات، التي
سوف نجدها بين الإسلام والماركسية في توزيع ما بعد الإنتاج.
2_ ظاهرة الطسق وتفسيرها نظرياً
نجد في البناء العلوي، الذي ينظم توزيع ما قبل الإنتاج في الإسلام،
ظاهرة خاصة قد يبدو أنها تميز الأرض عن غيرها من المصادر الطبيعية،
فلا بد من دراستها بصورة خاصة، وتفسيرها في ضوء النظرية العامة
للتوزيع، أو ربطها بنظرية أخرى من المذهب الاقتصادي في الإسلام.
وهذه الظاهرة هي الطسق الذي سمحت الشريعة للإمام بأخذه من
الفرد، إذا أحيى أرضاً وانتفع بها. فقد جاء في الحديث الصحيح وفي
بعض النصوص الفقهية للشيخ الطوسي: أن للفرد أن يحيي أرضاً ميتة وعليه
طسقها: (أجرتها) يؤديه للإمام.
فما هو المبرر النظري لهذا الطسق؟ ولماذا اختصت به الأرض دون غيرها
من منابع الثروة فلم يكلف الذين يحيون المنابع الأخرى بدفع شيء من غلتها؟
والحقيقة أن هذا الطسق الذي سمح للإمام بفرضه على الأرض الميتة عند
إحياء الفرد لها يمكن تكييفه مذهبياً وتفسيره من الناحية النظرية على أساسين:(1/5)
الأول: على أساس النظرية العامة في التوزيع نفسها، فنحن إذا لاحظنا
أن الطسق أجرة يتقاضاها الإمام على الأرض بوصفها من الأنفال، وعرفنا
إضافة إلى ذلك أن الأنفال يستخدمها الإمام في مصالح الجماعة كما سيأتي في
بحث مقبل، وقارنا بين إلزام صاحب الأرض بالطسق، وإلزام صاحب
العين والمنجم بالسماح للآخرين بما زاد على حاجته من العين وما لا يتعارض
مع حقه في المنجم، إذا جمعنا كل ذلك، تكامل لدينا بناء علوي من
التشريع يسمح لنا باستنتاج مبدأ جديد في النظرية، يمنح الجماعة حقاً عاماً
في الاستفادة من مصادر الطبيعة، لأنها موضوعة في خدمة الإنسانية بشكل
عام (خلق لكم ما في الأرض جميعاً). وهذا الحق العام للجماعة لا يزول
باكتساب المصادر الطبيعية طابع الحقوق الخاصة، وإنما تحدد الشريعة طريقة
استفادة الجماعة من هذا الحق، بالشكل الذي لا يتعارض مع تلك الحقوق
الخاصة. ففي المناجم والعيون التي يحييها الأفراد يتاح للجميع الاستفادة منها
بشكل مباشر، لأن لكل فرد أن يستفيد من عروق المنجم، إذا حفر من
موضع آخر، كما أن له أن يستقي من عين الماء إذا زادت على حاجة مستنبطها.
وأما الأرض فلما كانت بطبيعتها لا تسمح لانتفاع فردين بها في وقت واحد،
فقد شرع الطسق الذي ينفقه الإمام على مصالح الجماعة ليتاح للآخرين
الاستفادة عن هذا الطريق، بعد أن حال الحق الخاص لصاحب الأرض
الذي أحياها عن انتفاع الآخرين بتلك الأرض انتفاعاً مباشراً.
الثاني: أن نفسر الطسق بصورة منفصلة عن النظرية العامة للتوزيع،
وذلك على أساس أنه ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح العدالة الاجتماعية،
لأننا سوف نرى عند دراسة الأنفال ووظيفتها في الاقتصاد الإسلامي أن من
أهم أغراض الأنفال في الشريعة الضمان الاجتماعي وحماية التوازن العام.
وما دام الطسق يعتبر تشريعياً من الانفال فمن المعقول أن يعتبر ضريبة نابعة(1/6)
من النظرية العامة في العدالة الاجتماعية وما تضم من مبادىء الضمان والتوازن
العام. وإنما اختصت الأرض بهذه الضريبة الضخمة لأهميتها ولخطورة
دورها في الحياة الاقتصادية، فشرعت هذه الضريبة وقاية للمجتمع الإسلامي
من أعراض الملكية الخاصة للأرض، التي منيت بها المجتمعات غير
الإسلامية، ومقاومة لمآسي الريع العقاري التي ضج بها تاريخ الأنظمة
البشرية، ودوره في إشاعة الفروق والتناقضات وتعميقها. ويشابه الطسق
على هذا الأساس الخمس الذي فرض ضريبة على ما يستخرج من المعدن.
وفي النهاية وقد قدمنا هذين التفسيرين النظريين للطسق، يمكننا أن
نردّ أحدهما إلى الآخر في نظرة أشمل وأوسع، فنفسر الطسق بأنه ضريبة
سمح للإمام بفرضها لأغراض الضمان والتوازن وحماية الأفراد الضعفاء
في الجماعة، ونفسر هذه الأغراض نفسها وحتمية تنفيذها على الأفراد الأقوياء
بما للجماعة من حق عام مسبق في مصادر الطبيعة، يجعل لها على الأفراد
الذين يحيون تلك المصادر ويستثمرونها الحق في حماية مصالحها وانقاذ
ضعفائها.
3_ التفسير الخلقي للملكية في الإسلام
كنا ندرس الملكية والحقوق الخاصة حتى الآن، على ضوء النظرية
العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج، فالبحث كان يقوم على أساس المذهب
الاقتصادي. وفي خلال البحث استطعنا أن نقدم للملكية والحقوق الخاصة
تفسيراً نظرياً يعكس وجهة نظر المذهب الاقتصادي في الإسلام. ونريد الآن
أن نقدم للملكية تفسيرها الخلقي في الإسلام. وأريد بالتفسير الخلقي للملكية
الخاصة: استعراض التصورات المعنوية التي أعطاها الإسلام عن الملكية،
ودورها وأهدافها، وعمل لإشاعتها بين الأفراد لتصبح قوى موجهة
للسلوك، ومؤثرة على تصرفات الأفراد التي تتصل بملكياتهم وحقوقهم
الخاصة.
وقبل أن نأخذ بالتفصيلات في التفسير الخلقي للملكية يجب أن نميز بكل
وضوح بينه، وبين التفسير المذهبي للملكية الذي عالجناه فيما تقدم من(1/7)
وجهة نظر اقتصادية. ولكي يتاح لنا هذا التمييز يمكننا أن نستعير من
تفصيلات التفسير الخلقي الآتية مفهوم الخلافة، لنقارن بينه وبين النظرية
العامة في التوزيع، التي فسرنا الحقوق الخاصة على أساسها من وجهة نظر
المذهب الاقتصادي.
فالخلافة تضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة، وتجعل من المالك
أميناً على الثروة، ووكيلاً عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع
ما يضم من ثروات. وهذا التصور الإسلامي الخاص لجوهر الملكية متى
تركز وسيطر على ذهنية المالك المسلم، أصبح قوة موجهة في مجال السلوك،
وقيداً صارماً يفرض على المالك التزام التعليمات والحدود المرسومة من قبل
الله عز وجل، كما يلتزم الوكيل الخليفة دائماً بإرادة الموكل والمستخلف.
ونحن إذا فحصنا هذا المفهوم، وجدنا أنه لا يفسر مبررات الملكية
الخاصة من وجهة نظر مذهبية في الاقتصاد، لأن الملكية الخاصة سواء كانت
خلافة أم أي شيء آخر تثير السؤال عن مبرراتها المذهبية التي تفسرها،
فلماذا جعلت هذه الخلافة والوكالة لهذا الفرد دون سواه؟ ومجرد كونها
وكالة ليس جواباً كافياً على هذا السؤال، وإنما نجد الجواب عليه في
التفسير الاقتصادي للملكية الخاصة على أسس معينة، كأساس العمل وصلة
العالم بنتائج عمله.
وهكذا نعرف أن اسباغ طابع الوكالة والخلافة على الملكية الخاصة
مثلاً لا يكفي لصوغ نظرية عامة في التوزيع، لأنه لا يفسر هذه الظاهرة
تفسيراً اقتصادياً، وإنما يخلق هذا الطابع نظرة خاصة إلى الملكية، تقوم على
أساس أنها مجرد وكالة أو خلافة. وهذه النظرة إذا نشأت وسادت وأصبحت
عامة لدى أفراد المجتمع الإسلامي، أصبح لها من القوة ما يحدد سلوك
الأفراد، ويعدل من الانعكاسات النفسية للملكية ويطور من المشاعر التي
توحي بها الثروة إلى نفوس الأغنياء. وبذلك يصب مفهوم الخلافة قوة
محركة موجهة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.(1/8)
فالتفسير الخلقي للملكية إذن يبرر تلك التصورات عن الملكية التي
يتلقاها كل مسلم عادة من الإسلام، ويتكيف بها نفسياً وروحياً، ويحدد
مشاعره ونشاطه وفقاً لها.
وأساس هذه التصورات هو مفهوم الخلافة الذي أشرنا إليه، فالمال
مال الله وهو المالك الحقيقي، والناس خلفاؤه في الأرض، وأمناؤه عليها
وعلى ما فيها من أموال وثروات. قال الله تعالى: ( هو الذي جعلكم
خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند
ربهم إلا مقتاً).
والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة، ولو شاء لانتزعها منه
(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء).
وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة
المستخلف عليها ممن منحه تلك الخلافة. قال الله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله
وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير)
كما أن من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسؤولاً بين يدي من
استخلفه خاضعاً لرقابته في كل تصرفاته وأعماله، قال الله تعالى: (ثم
جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون).
والخلافة في الأصل هي للجماعة كلها، لأن هذه الخلافة عبرت عن
نفسها عملياً في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان.
والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعاً، ولذا قال تعالى: (هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).
وأشكال الملكية بما فيها الملكية والحقوق الخاصة إنما هي أساليب تتيح
للجماعة بأتباعها أداء رسالتها في أعمار الكون واستثماره. قال الله تعالى:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات
ليبلوكم فيما آتاكم) فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون
بعض فاختلفت بذلك درجاتهم في الخلافة، هي ضرب من الامتحان
لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء، وقوة دافعة لها على إنجاز
مهام الخلافة، والسباق في هذا المضمار. وهكذا تصبح الملكية الخاصة في(1/9)
هذا الضوء أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة، وتتخذ
طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة، لا طابع الحق
المطلق والسيطرة الأصيلة وقد جاء عن الإمام الصادق أنه قال: إنما أعطاكم
الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ولم يعطكموها
لتكنزوها.
ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً
لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها، فلا تنقطع صلة الجماعة
ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرد تملك الفرد له، بل يجب على الجماعة
أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيداً لأن السفيه لا يستطيع أن يقوم
بدور صالح في الخلافة. ولذا قال الله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً)
ووجّه الخطاب إلى الجماعة، لأن الخلافة في الأصل لها، ونهاها عن تسليم
أموال السفهاء إليهم، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منا على
أصحابها. وبالرغم من أنه يتحدث إلى الجماعة عن أموال السفهاء، فقد
أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم).
وفي هذا اشعاع بأن الخلافة في الأصل للجماعة، وأن الأموال أموالها
بالخلافة، وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة. وقد عقبت الآية
على هذا الإشعاع بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها، فوصفت الأموال
قائلة: (أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) فالأموال قد جعله الله للجماعة،
يعني أنه استخلف الجماعة عليها، لا ليبذروها أو يجمدوها، وإنما ليقوموا
بحقها ويستثمروها ويحافظوا عليه فإذا لم يتحقق ذلك عن طريق الفرد،
فلتقم الجماعة بمسؤوليتها(1).
وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد المسؤولية في تصرفاته المالية أمام الله
__________
(1) اتبعنا هنا في فهم الآية أحد الوجوه المحتملة التي ذكرها المفسرون في تفسيرها.(1/10)
تعالى، لأنه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال، كما يحس بالمسؤولية أمام
الجماعة أيضاً لأن الخلافة لها بالأصل، والملكية للمال إنما هي مظهر من
مظاهر تلك الخلافة وأساليبها، ولهذا كان من حق الجماعة أن تحجر عليه،
إذا لم يكن أهلاً للتصرف في ماله لصغر أو سفه، وإن تمنعه عن التصرف في
ماله بشكل يؤدي إلى ضرر بليغ بسواه، وكذلك أن تضرب على يده إذا
جعل من ماله مادة للفساد والإفساد كما ضرب رسول الله (ص) على يد سمرة
ابن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصة ورميها حين اتخذها مادة فساد وقال له:
إنك رجل مضار.
وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة جردها عن كل
الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مر الزمن، ولم يسمح للمسلم
بأن ينظر إليها بوصفها مقياساً للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي،
ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة، حتى جاء
في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا أن(من لقي فقيراً مسلماً فسلم
عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو عليه غضبان)
وندد القرآن الكريم تنديداً رائعاً بالأفراد الذين يقيسون احترامهم للآخرين
وعنايتهم بهم بمقاييس الثروة والغني فقال: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى
وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له
تصدى وما عليك الا يزّكى واما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى)
وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصيل بوصفها لوناً
من ألوان الخلافة وصممها ضمن الإطار الإسلامي العام بشكل لا يسمح لها
بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص، أو تخلق مقاييس مادية
للاحترام والتقدير لأنها خلافة وليست حقاً ذاتياً.
وفي الصور الرائعة التي يتحدث فيها القرآن الكريم عن مشاعر الملكية
الخاصة وانعكاساتها في النفس البشرية، ما يكشف بوضوح عن إيمان(1/11)
الإسلام بأن مشاعر الامتياز ومحاولات التمديد للملكية الخاصة إلى غير مجالها
الأصيل تنبع في النهاية من الخطأ في مفهوم الملكية واعتبارها حقاً ذاتياً
لا خلافة لها مسؤولياتها ومنافعها.
ولعل من أروع تلك الصور قصة الرجلين اللذين أغنى الله أحدهما
واستخلفه على جنتين من جنات الطبيعة (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر
منك مالاً وأعز نفراً) إيماناً منه بأن ملكيته تبرر هذا اللون من التعالي والتسامي
الذي واجه به صاحبه (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) لأنه كان يهيء بهذا
الانحراف في فهم وظيفة ملكيته وطبيعتها عوامل فنائها ودمارها (قال ما أظن
أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً
منها منقلباً قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم
من نطفة ثم سواك رجلاً لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً ولولا إذ
دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) واستشعرت أنها خلافة أمدّك
الله بها لتقوم بواجباتها لما أحسست بالتسامي والتعالي ولا خالجتك مشاعر
الكبرياء والزهو (ان ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتينِ
خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقا أو يصبح
ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على
ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً).
وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على
أساس مفهوم الخلافة تحولت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية، فالمسلم
الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها
وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة،
وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرها لا يرتوي ولا يشبع
وقد جاء في تصوير هذه النظرة الطريقية إلى الملكية_ النظرة إليها بما هي(1/12)
أداة_ عن رسول الله (ص) أنه قال: ليس لك من مالك إلا ما أكلت
فأفنيت وليست فأبليت وتصدقت فأبقيت. وقال في نص آخر: يقول العبد
مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى وما
سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.
وقد قاوم الإسلام النظرة الغائية إلى الملكية_ النظرة إليها بما هي غاية_
لا بالتعديل من مفهومها وتجريدها عن امتيازاتها في غير مجالها الأصيل فحسب
بل قام إلى صف ذلك بعمل إيجابي لمقاومة تلك النظرة، ففتح بين يدي
الفرد المسلم أفقاً أرحب من المجال المحدود والمنطق المادي العاجل، وخطا
أطول من الشوط القصير للملكية الخاصة الذي ينتهي بالموت، وبشر المسلم
بمكاسب من نوع آخر: أكثر بقاءً وأقوى اغراءً وأعظم نفعاً لمن آمن بها
وعلى أساس تلك المكاسب الأخروية الباقية قد تصبح الملكية الخاصة أحياناً
حرماناً وخسارة إذا حالت دون الظفر بتلك المكاسب، كما قد يصبح التنازل
عن الملكية عملية رابحة إذا أدّت إلى تعويض أضخم من مكاسب الحياة
الآخرة. وواضح أن الإيمان بهذا التعويض وبالمنطلق الأوسع والمدى
الأرحب للمكاسب والارباح يقوم بدور إيجابي كبير في إطفاء البواعث
الأنانية للملكية وتطوير النظرة الغائية إلى نظرة طريقية. قال الله تعالى:
(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) (وما تنفقوا من خير
فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم
وأنتم لا تظلمون) (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) (يوم
تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه
والله عليم بالمتقين).
وقد قارن القرآن الكريم بين النظرة المنفتحة للأرباح والخسائر التي
لا تقيسها بمقاييس الحس العاجل فحسب، وبين النظرة الرأسمالية الضيقة
التي لا تملك سوى هذه المقاييس فيتهددها شبح الفقر دائماً وتفزع بمجرد
التفكير في تسخير الملكية الخاصة لأغراض أعم وأوسع من دوافع الشره(1/13)
والأنانية، لأن شبح الفقر المرعب والخسارة يبدو لها من وراء هذا اللون من
التفكير. ونسب القرآن هذه النظرة الرأسمالية الضيقة إلى الشيطان فقال:
(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً
والله واسع عليم).
4_ التحديد الزمني للحقوق الخاصة
النظرية العامة في التوزيع التي قررت الحقوق الخاصة بالطريقة
التي عرفناها تفرض على هذه الحقوق تحديداً زمنياً بشكل عام، فكل ملكية
وحق في الإسلام فهو محدد زمنياً بحياة المالك ولم يسمح له بالامتداد بشكل
مطلق، ولهذا لا يملك الفرد في الإسلام الحق في تقرير مصير الثروة التي
يملكها بعد وفاته، وإنما يقرر مصيرها القانون ابتداءاً ضمن أحكام الميراث
والتشريعات التي تنظم توزيع التركة بين الأقرباء، وفي هذا يختلف الإسلام
عن المجتمعات الرأسمالية التي تؤمن عادة بامتداد سلطة المالك على أمواله إلى
أبعد مدى، وتفوض إليه الحق في تقرير مستقبل الثروة بعد وفاته ومنحها
لمن يشاء بالطريقة التي تحلو له.
وهذا التحديد الزمني للحقوق الخاصة هو في الحقيقة من نتائج النظرية
العامة في توزيع ما قبل الإنتاج التي هي الأساس لتشريع تلك الحقوق الخاصة
فقد عرفنا سابقاً في ضوء النظرية أن الحقوق الخاصة ترتكز على أساسين:
أحدهما خلق الفرد فرصة الانتفاع بمصدر طبيعي بالإحياء فيملك هذه الفرصة
بوصفها نتيجة لعمله، وعن طريقها يوجد له حق في المال لا يسمح لآخر
بانتزاع تلك الفرصة. والآخر الانتفاع المتواصل بثروة معينة فإنه يعطي
المنتفع حق الأولوية بتلك الثروة من غيره ما دام منتفعاً بها. وهذان الأساسان
لا يظلان ثابتين بعد الوفاة، ففرصة الانتفاع التي يملكها من أحيى أرضاً
ميتة مثلاً تتلاشى بوفاته طبعاً إذ تنعدم فرصة الانتفاع بالنسبة إليه نهائياً، ولا
تكون استفادة فرد آخر منها سرقة لها منه ما دامت قد ضاعت عليه الفرصة(1/14)
طبيعياً بوفاته، وكذلك الانتفاع المستمر بالموت وتفقد بذلك الحقوق الخاصة
مبرراتها التي تقررها النظرية العامة.
فالتحديد الزمني للحقوق والملكيات الخاصة وفقاً لأحكام الشريعة في
الميراث جزء من بناء المذهب الاقتصادي، ومرتبط بالنظرية العامة في
التوزيع.
وهذا التحديد الزمني يعبر عن الجانب السلبي من أحكام الميراث،
الذي يقرر انقطاع صلة المالك بثروته عند الموت. وأما الجانب الإيجابي من
أحكام الميراث الذي يحدد المالكين الجدد وينظم طريقة توزيع الثروة عليهم،
فهو ليس نتيجة للنظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج، وإنما يرتبط بنظريات
أخرى من الاقتصاد الإسلامي كما سنرى في بحوث مقبلة.
والإسلام حين حدد الملكية الخاصة تحديداً زمنياً بحياة المالك ومنعه من
الوصية بماله والتحكم بمصير ثروته بعد وفاته، استثنى من ذلك ثلث التركة
فسمح للمالك بأن يقرر بنفسه مصير ثلث ماله، وهذا لا يتعارض مع
الحقيقة التي عرفناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة، لأن
النصوص التشريعية التي دلت على السماح للمالك بالثلث من التركة تشير
بوضوح إلى أن هذا السماح ذو صفة استثنائية، يقوم على أساس مصالح
معينة، فقد جاء في الحديث عن علي بن يقطين أنه سأل الإمام موسى
ما للرجل من ماله عند موته فأجابه: الثلث والثلث كثير. وجاء عن الإمام
الصادق أو الوصية بالربع والخمس أفضل من الوصية بالثلث. وورد في
الحديث أيضاً أن الله تعالى يقول لابن آدم قد تطولت عليك بثلاثة: سترت
عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم
تقدم خيراً، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيراً.
فالثلث في ضوء هذه الأحاديث حق يرجح للمالك عدم استخدامه
ويستكثر عليه ويعتبر منحة قد تفضل بها الله على عبده عند موته وليس
امتداداً طبيعياً لحقوقه التي كسبها حال الحياة فكل ذلك يشير إلى أن السماح(1/15)
بالثلث للميت حكم استثنائي وفي هذا اعتراف ضمني بالحقيقة التي قدمناها
عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة.
وقد استهدفت الشريعة من تشريع هذا الحكم الاستثنائي الحصول على
مكاسب جديدة للعدالة الاجتماعية، لأنه يتيح للفرد وهو يودع دنياه كلها
ويستقبل عالماً جديداً أن يستفيد من ثروته لعالمه الجديد، والغالب في لحظات
الانتقال الحاسمة من حياة الفرد المسلم أن تنطفىء فيها شعلة الدوافع المادية
والشهوات الموقوتة، الأمر الذي يساعد الإنسان على التفكير في ألوان
جديدة من الانفاق تتصل بمستقبله وحياته المنتظرة التي يتأهب للانتقال إليها.
وهذه الألوان الجديدة هي التي أطلق عليها في الحديث السابق اسم الخير
وعوتب الفرد الذي لم يستفد من حقه في الوصية على عدم تحقيقه للغرض
الذي من أجله منح ذلك الحق.
وقد حث الإسلام في نفس الوقت الذي سمح فيه بالثلث على استغلال
الفرد لفرصته الأخيرة هذه في سبيل حماية مستقبله وآخرته بتخصيص الثلث
لمختلف سبل الخير والمصالح العامة التي تساهم في تدعيم العدالة الاجتماعية.
فالتحديد الزمني للملكية هو القاعدة إذن، والسماح بالثلث استثناء
فرضته أغراض ترتبط بجوانب أخرى من الاقتصاد الإسلامي.(1/16)
نظرية التوزيع ما بعد الإنتاج
1_ الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج(1)
البناء العلوي:
1_ ذكر المحقق الحلي في كتاب الوكالة من الشرائع: أن الاحتطاب
وما إليه من ألوان العمل في الطبيعة لا تصح فيه الوكالة، فلو وكل فرد
شخصاً آخر في الاحتطاب له من أخشاب الغابة مثلاً، كانت الوكالة باطلة،
فلا يملك الموكل الخشب الذي احتطبه العامل، لأن الاحتطاب وغيره من
ألوان العمل في الطبيعة لا ينتج أثراً أو حقاً خاصاً لشخص ما لم يمارس العمل
بنفسه وينفق جهداً مباشراً في عمليات الاحتطاب والاحتشاش ونحوهما،
فقد تعلق غرض الشارع_ على حد تعبير المحقق_ بإيقاع هذه الأعمال من
المكلف مباشرة.
وإليكم نص كلامه (وأما ما تدخل النيابة فيه فضابطه ما تعلق قصد
الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة كالطهارة... والصلاة الواجبة ما دام
حياً والصوم والاعتكاف والحج الواجب مع القدرة والإيمان والنذر والغصب
والقسم بين الزوجات لأنه يتضمن استمتاعاً والظهار واللعان وقضاء العدة
والجناية والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش)(2).
2_ وجاء في الوكالة من كتاب التذكرة للعلامة الحلي: أن في صحة
التوكيل في المباحات كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش وإحياء الموات
وحيازة الماء وشبهه إشكالاً. ونقل القوم بعدم صحة ذلك إلى بعض فقهاء
__________
(1) كنا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاح نحاول أن نحدد الحقوق التي يكسبها الأفراد في
الثروات الطبيعية الخام بوصفها مظهراً من مظاهر توزيعها. ولما كانت هذه الحقوق نتيجة للعمل
اتجه البحث إلى تحديد دور العمل في تلك الثروات الطبيعية. والثروة الطبيعية التي يطورها العمل
هي بهذا الاعتبار تندرج في ثروة ما بعد الإنتاج_ بصورة جزئية، وكان لا بد من هذا التداخل حفاظاً
على الوضوح في إعطاء الأفكار عن كل من حقلي التوزيع.
(2) شرائع الإسلام للمحقق نجم الدين جعفر بن الحسن جـ 2 ص 195: من الطبع الجديدة(1/1)
الشافعية(1).
3_ وفي كتاب القواعد: أن في التوكيل بإثبات اليد على المباحات
كالالتقاط والاصطياد والإحتشاش والاحتطاب نظراً(2).
4_ وقد شاركت في هذا النظر عدة مصادر فقهية أخرى كالتحرير
والإرشاد والإيضاح وغيرها(3).
5_ ولم تكتف عدة مصادر فقهية أخرى بالنظر والإشكال، بل أعلنت
بصراحة عن عدم جواز الوكالة وفاقاً للشرائع كالجامع في الفقه، وكذلك
السرائر أيضاً بالنسبة إلى الاصطياد، كما نقل عن الشيخ الطوسي في كتاب
المبسوط_ في بعض نسخه_ المنع عن التوكيل في الإحياء. ونقل عنه أيضاً
المنع من التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش(4).
وقال أبو حنيفة_ بصدد الاستدلال على أن الشركة لا تصح في اكتساب
المباح كالاحتشاش_ لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في
هذه الأشياء لأن من أخذها ملكها(5).
6_ وربط العلامة الحلي بين الوكالة والإجارة فذكر أن الوكالة في
تلك الأعمال إذا كانت غير منتجة، فالإجارة مثلها أيضاً، فكما لا يملك
الموكل ما يحصل عليه الوكيل في الاحتطاب والاصطياد وإحياء الموات،
كذلك لا يملك المستأجر مكاسب عمل الأجير في الطبيعة ( * ). والنص في
كتاب التذكرة إذ كتب يقول: إن جوزنا التوكيل فيه جوزنا الإجارة عليه.
فإذا استأجر ليحتطب أو يستقي الماء أو يحيي الأرض، جاز وكان
ذلك للمستأجر. وإن قلنا بالمنع هناك. منعنا هنا فيقع الفعل للأجير(6).
__________
(1) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر المجلد الثاني من الطبعة الحجرية
كتاب الوكالة البحث الرابع النظر الثاني المسألة الخامسة.
(2) قواعد الأحكام للعلامة الحلي المقصد السادس الوكالة الركن الرابع في متعلق الوكالة.
(3) لاحظ مفتاح الكرامة للسيد جواد العاملي جـ 7 ص 559.
(4) لاحظ مفتاح الكرامة للسيد جواد العاملي جـ 7 ص 559.
(5) لاحظ المغني لابن قدامة جـ 5 ص 5.
(6) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي نفس الموضع المشار إليه سابقاً.(1/2)
وقد أكد المحقق الاصفهاني في كتاب الإجارة إن الإجارة لا أثر لها
في تملك المستأجر_ أي باذل الأجرة_ لما يجوزه الأجير ويحصل عليه بعمله
في الطبيعة، فإذا حاز الأجير لنفسه، ملك المال المجاز ولم يكن للمستأجر
شيء(1).
والشيء نفسه ذهب إليه الشهيد الثاني في مسالكه إذ كتب يقول: (وبقي
في المسألة بحث آخر وهو أنه على القول بصحة الإجارة على أحد القولين
(أي الإجارة للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد) إنما يقع الملك
للمستأجر مع نية الأجير الملك له أما مع نية الملك لنفسه فيجب أن يقع له
لحصول الشرط على جميع الأقوال واستحقاق المستأجر منافعه تلك المدة
لا ينافي ذلك)(2).
7_ ذكر العلامة الحلي في القواعد: إن الإنسان لو صاد أو احتطب أو
احتش وحاز بنية أنه له ولغيره، لم تؤثر تلك النية وكان بأجمعه له(3).
8_ وفي مفتاح الكرامة: أن الشيخ الطوسي والمحقق والعلامة حكموا
جميعاً بأن الشخص إذا حاز ثروة طبيعية بنية أنه له ولغيره كانت كلها له(4).
9_ وجاء في قواعد العلامة: أن الشخص لو دفع شبكة للصائد
بحصة، فالصيد للصائد وعليه أجرة الشبكة(5). وأكدت ذلك عدة مصادر
فقهية أخرى كالمبسوط والمهذب والجامع والشرائع(6).
10_ وقال المحقق الحلي في الشرائع: الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام
ولا يحرم الصيد ويملكه الصائد دون صاحب الآلة وعليه أجرة مثلها(7).
__________
(1) كتاب الإجارة للشيخ محمد حسين الاصفهاني ص 120_ 122.
(2) المسالك المجلد الثاني الطبعة الحجرية كتاب الشركة الفصل الثالث في اللواحق.
( * ) راجع الملحق رقم 14.
(3) قواعد الإحكام للعلامة الحلي المقصد السادس الوكالة الركن الرابع في متعلق الوكالة.
(4) جـ 7 ص 420.
(5) قواعد الاحكام للعلامة الحسن بن يوسف الحلي المقصد الخامس القراض الفصل الثالث.
(6) لاحظ مفتاح الكرامة للعاملي جـ 7 ص 441.
(7) شرائع الإسلام للمحقق الحلي جـ 3 ص 203.(1/3)
وقد علق المحقق النجفي في الجواهر على الحكم المذكور بتملك الصائد
للصيد دون صاحب الآلة قائلاً: (لأن الصيد من المباحات التي تملك
بالمباشرة المتحققة من الغاصب وإن حرم استعماله للآلة... نعم عليه_ أي
الصائد_ أجرة مثلها للمالك كباقي الأعيان المغصوبة بل لو لم يصد بها كان
عليه الأجر لفوات المنفعة تحت يده)(1).
وجاء نظير ذلك في المبسوط للفقيه الحنفي السرخسي إذ كتب يقول:
(وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن ما صاد بها من شيء
فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً فجميع ذلك للذي صاد... لأن الآخذ
هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط
العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد)(2)
وهذا يعني أن الآلة ليس لها حصة في السلعة المنتجة.
11_ وللشيخ الطوسي في الشركة من كتاب المبسوط هذا النص الآتي
(إذا أذن رجل لرجل أن يصطاد له صيداً فاصطاد الصيد بنية أن يكون للآمر
دونه فلمن يكون هذا الصيد، قيل فيه: إن ذلك بمنزلة الماء المباح إذا استقاه
السقّا بنية أن يكون بينهم وإن الثمن يكون له_ أي للسقا_ دون شريكه
فهاهنا يكون الصيد للصياد دون الآمر لأنه انفرد بالحيازة. وقيل: إنه
يكون للآمر لأنه اصطاده بنيته فاعتبرت النية: والأول أصح(3).
12_ ذكر المحقق الحلي في الشرائع: إن إنساناً لو دفع دابة مثلاً
وآخر راوية إلى سقاء على الاشتراك الحاصل لم تنعقد الشركة فكان ما يحصل
حينئذ للسقا وعليه مثل أجرة الدابة والراوية(4). والشيء نفسه ذكره العلامة
__________
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للفقهية المحقق محمد حسن النجفي جـ 6 من
الطبعة الحجرية لواحق كتاب الصيد.
(2) المبسوط السرخسي جـ 22 ص 35.
(3) المبسوط في فقه الإمامية الشيخ الطوسي جـ 2 ص 346.
(4) شرائع الإسلام للمحقق جعفر بن الحسن الحلي جـ 2 ص 132_ 133.(1/4)
الحلي في القواعد(1).
وجاءت المسألة نفسها في كتاب المغني لابن قدامة ونقل عن القاضي
والشافعي نفس الحكم المذكور وهو أن ما يحصل للسقا وعليه لصاحبه أجرة
المثل(2).
وكذلك نص على الحكم المذكور الشيخ الطوسي مشيراً في مقابل ذلك
إلى القول باقتسام الربح أثلاثاً بين صاحب الدابة وصاحب الرواية والسقا مع
عدم ارتضائه(3).
وهذا يعني أن وسائل الإنتاج التي استخدمها السقا ليس لها نصيب في
منتوج العملية وإنما لها أجرة المثل على العامل.
من النظرية:
كل هذا البناء العلوي يكشف عن الحقيقة الاساسية في النظرية العامة
لتوزيع ما بعد الإنتاج، وبالتالي عن خلافات جوهرية بين النظرية الإسلامية،
والنظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد المذهبي للرأسمالية.
وقد يكون من الافضل بدلاً عن البدء في استنتاج النظرية من البناء
العلوي المتقدم، أن نكوّن فكرة قبل ذلك عن طبيعة نظرية توزيع
ما بعد الإنتاج، وصورة عامة عن طريق تقديم نموذج لها من المذهب
الرأسمالي، لكي نعرف نوع المجال الذي لابد لنظرية مذهبية في توزيع
ما بعد الإنتاج أن تمارسه.
وبعد تقديم النظرية في إطارها الرأسمالي نستعرض النظرية الإسلامية في
توزيع ما بعد الإنتاج ما نؤمن بها، حتى إذا أعطينا الصورة المحددة لها
أبرزنا بوضوح الفوارق بين النظريتين، عدنا إلى البناء العلوي المتقدم،
لندعم افتراضنا للنظرية الإسلامية، ونشرح طريقة استنتاجنا لها من ذلك
البناء الذي تنعكس فيه معالمها الأساسية وهكذا سوف يكون البحث على
مراحل ثلاث:
1_ نموذج للنظرية من الاقتصاد الرأسمالي:
تحلل عملية الإنتاج عادة في المذهب الرأسمالي التقليدي إلى عناصرها
الأصلية المتشابكة في العملية. وتقوم الفكرة العامة في توزيع الثروة المنتجة
__________
(1) قواعد الأحكام للعلامة الحلي الحسن بن يوسف المقصد الرابع الشركة.
(2) المغني لابن قدامة جـ 5 ص 11.
(3) المبسوط جـ 2 ص 346.(1/5)
على أساس اشتراك تلك العناصر في الثروة التي أنتجتها، فلكل عنصر نصيبه
من الإنتاج وفقاً لدوره في العملية.
وعلى هذا الأساس تقسم الرأسمالية الثروة المنتجة أو القيمة النقدية لهذه
الثروة إلى حصص أربع وهي:
1_ الفائدة.
2_ الأجور.
3_ الريع.
4_ الربح.
فالأجور هي نصيب العمل الإنساني، أو الإنسان العامل بوصفه عنصراً
مهماً في عملية الإنتاج الرأسمالي. والفائدة هي نصيب رأس المال المسلف
والربح هو نصيب رأس المال المشترك فعلاً في الإنتاج. والريع يعبر عن
حصة الطبيعة أو حصة الأرض بتعبير أخص.
وجرت عدة تعديلات على هذه الطريقة الرأسمالية في التوزيع من
الناحية الشكلية، فأدرج الربح والأجر في فئة واحدة، اعتقاداً بأن الربح
في الحقيقة نوع من الأجر على عمل خاص، وهو عمل التنظيم الذي يباشره
صاحب المشروع، بتهيئة عناصر الإنتاج المختلفة من رأس مال وطبيعة
عمل، وتوفيقه بينها وتنظيمها في عملية الإنتاج.
ومن ناحية أخرى أعطت النظرية الحديثة في التوزيع للريع مفهوماً
أوسع يتعدى به حدود الأرض، ويكشف عن ألوان عديدة من الريع في
مختلف المجالات. كما رجح البعض أخذ رأس المال بمعنى شامل يضم
جميع القوى الطبيعية بما فيها الأرض.
وبالرغم من التعديلات الشكلية فإن النظرة الجوهرية في التوزيع
الرأسمالي ظلت ثابتة خلال جميع التعديلات ولم تتغير من الناحية المذهبية.
وهذه النظرة هي ملاحظة جميع عناصر الإنتاج على مستوى واحد، إعطاء
كل واحد من تلك العناصر نصيبه من الثروة المنتجة، بوصفه مساهماً في
العملية، وفي حدود مشاركته لسائر العناصر في إنجاز تلك الثروة وإنتاجها،
فالعامل يحصل على الأجر بنفس الطريقة وعلى أساس نفس النظرة المذهبية
التي يحصل رأس المال بموجبها على فائدة مثلاً، لأن كلا منهما في العرف
الرأسمالي عامل إنتاج وقوة مساهمة في التركيب العضوي للعملية، فمن
الطبيعي أن توزع المنتجات على عناصر إنتاجها بنسب تقررها قوانين العرض(1/6)
والطلب، وما إليها من القوى التي تتحكم في التوزيع.
2_ النظرية الإسلامية ومقارنتها بالرأسمالية:
وأما الإسلام فهو يرفض هذه النظرة الجوهرية في المذهب الرأسمالي
رفضاً تاماً، ويختلف عنها اختلافاً أساسياً، لأنه لا يضع عناصر الإنتاج
المتعددة على مستوى واحد، ولا ينظر إليها بصورة متكافئة، ليقر توزيع
الثروة المنتجة على تلك العناصر بالنسب التي تقررها قوانين العرض والطلب
كما تصنع الرأسمالية، بل إن النظرية الإسلامية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج
تعتبر أن الثروة التي تنتج من الطبيعة الخام ملك للإنسان المنتج وحده_ العامل_
وأما وسائل الإنتاج المادية التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج من أرض
ورأس مال ومختلف الأدوات والآلات فلا نصيب لها من الثروة المنتجة
نفسها، وإنما هي وسائل تقدم للإنسان خدمات في تذليل الطبيعة وإخضاعها
لأغراض الإنتاج، فإذا كانت تلك الوسائل ملكاً لفرد آخر غير العامل
المنتج، كان على الإنسان المنتج أن يكافىء الفرد الذي يملك تلك الوسائل
على الخدمات التي جناها المنتج عن طريق تلك الوسائل، فالمال الذي يعطى
لصاحب الأرض، أو لمالك الأداة، أو صاحب الآلة التي تساهم في أعمال
الإنتاج، لا يعبر عن نصيب الأرض والأداة والآلة نفسها في المنتوج
بوصفها عنصراً من عناصر إنتاجه، وإنما يعني مكافأة لمالكي تلك الوسائل
على الخدمات التي قدموها بالسماح للعامل المنتج باستخدام وسائلهم، وأما
إذا لم يكن للوسائل مالك معين سوى الانسان المنتج، فلا معنى للمكافأة لأنها
عندئذ منحة الطبيعة لا منحة إنسان آخر. فالإنسان المنتج في النظرية الإسلامية
لتوزيع ما بعد الإنتاج هو المالك الأصيل للثروة المنتجة من الطبيعة الخام،
ولاحظّ لعناصر الإنتاج المادية في تلك الثروة، وإنما يعتبر الإنسان المنتج
مديناً لأصحاب الوسائل التي يستخدمها في إنتاجه فيكلف بإبراء ذمته(1/7)
ومكافأتهم على الخدمات التي قدمتها وسائلهم، فنصيب الوسائل المادية
المساهمة في عملية الإنتاج يحمل طابع المكافأة على خدمة، ويعبر عن دين
في ذمة الإنسان المنتج، ولا يعني التسوية بين الوسيلة المادية والعمل الإنساني
أو الشركة بينهما في الثروة الناتجة على أساس موحد.
ومن خلال مواصلتنا لاكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج،
سنعرف المبرر النظري لتلك المكافأة التي يظفر بها أصحاب الوسائل المادية
من الإنسان المنتج لقاء استخدامه للوسائل التي يملكونها في عملية الإنتاج.
فالفارق كبير بين النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج والنظرية
الرأسمالية بهذا الشأن.
ومرد هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين الرأسمالية والإسلامية في
تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج، فإن دور الإنسان في النظرة
الرأسمالية هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج لا الغاية التي يخدمها الإنتاج،
فهو في صف سائر القوى المساهمة في الإنتاج من طبيعة ورأس مال، ولهذا
يتلقى الإنسان المنتج نصيبه من ثروة الطبيعة، بوصفه مساهماً في الإنتاج
وخادماً له، ويصبح الأساس النظري للتوزيع على الإنسان العامل والوسائل
المادية التي تساهم معه في عملية الإنتاج واحداً.
وأما مركز الإنسان في النظرة الإسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة،
فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادية لتوزيع الثروة المنتجة بين الإنسان
وتلك الوسائل جميعاً على نسق واحد، بل إن الوسائل المادية تعتبر خادمة
للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج لأن عملية الإنتاج نفسها إنما هي لأجل
الإنسان وبذلك يختلف نصيب الإنسان المنتج عن نصيب الوسائل المادية في
الأساس النظري، فالوسائل المادية إذا كانت ملكاً لغير العامل وقدّمها
صاحبها لخدمة الإنتاج، كان من حقه على الإنسان المنتج أن يكافئه على
خدمته، فالمكافأة هنا دين على ذمة المنتج يسدده لقاء خدمة، ولا تعني
نظرياً مشاركة الوسيلة المادية في الثروة المنتجة.(1/8)
وهكذا يفرض مركز الوسائل المادية_ في النظرة الإسلامية_ عليها
تتقاضى مكافأتها من الإنسان المنتج بوصفها خادمة له، لا من الثروة المنتجة
بوصفها مساهمة في إنتاجها، كما يفرض مركز الإنسان في عملية الإنتاج
بوصفه الغاية لها أن يكون وحده صاحب الحق في الثروة الطبيعية التي أعدها
الله تعالى لخدمة الإنسان.
ومن أهم الظواهر التي يعكسها هذا الفرق الجوهري بين النظريتين_
الإسلامية والرأسمالية_ موقف المذهبين من الإنتاج الرأسمالي في مجالات
الثروة الطبيعية الخام، فالرأسمالية المذهبية تسمح لرأس المال بممارسة هذا
اللون من الإنتاج، فيكون بمقدور رأس المال أن يستأجر عمالاً لاحتطاب
الخشب من أشجار الغابة أو استخراج البترول من آباره، ويسدد إليهم
أجورهم_ وهي كل نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع_ ويصبح
رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الإجراء من أخشاب أو معادن
طبيعية، ومن حقه بيعها بالثمن الذي يحلو له.
وأما النظرية الإسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج(1)،
لأن رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الإجراء لاحتطاب الخشب
واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم، مادامت النظرية الإسلامية
تجعل مباشرة العمل شرطاً في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده
حق ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه. وبذلك يقضي
على تملك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور، وتختفي سيطرة
رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد
__________
(1) لما عرفنا في البناء العلوي من منع المحقق الحلي في الشرائع عن التوكيل في الاحتطاب وما
إليه من حيازة المباحات، ومنع الشيخ الطوسي على ما حكي عن بعض نسخ المبسوط من التوكيل
في إحياء الأرض، وتأكيد المحقق الاصفهاني في كتاب الإجارة على أن المستأجر لا يملك
بسبب عقد الإجارة ما يحوزه أجيره من الثروات الطبيعية.(1/9)
قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له، وتحل محلها
سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة.
واختفاء طريقة الإنتاج الرأسمالي هذا في مجال الثروات الطبيعية الخام
ليس حادثاً عرضياً أو ظاهرة عابرة وفارقاً جانبياً بين النظرية الإسلامية
والمذهب الرأسمالي، وإنما يعبر بشكل واضح وعلى أساس نظري_ كما
عرفنا_ عن التناقض المستقطب بينهما وأصالة المضمون النظري للاقتصاد
الإسلامي.
3_ استنتاج النظرية من البناء العلوي:
عرضنا حتى الآن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج ونحن نفترضها
افتراضاً، بالقدر الذي تتطلبه المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في
أساسها النظري لتوزيع الثروة على عناصر الإنتاج.
ولا بد لكي نبرهن على صحة تصورنا للنظرية، أن نعود الآن إلى البناء
العلوي المتقدم في مستهل البحث، لنستنبط منه الجانب الذي افترضناه من
النظرية الإسلامية، ونبرز مدلوله المذهبي ومدى انسجامه مع الصورة التي
قدمناها.
إن الأحكام التي استعرضناها في البناء العلوي تقرر:
أولاً: إن الموكل لا يجوز له أن يقطف ثمرات عمل الوكيل في ثروات
الطبيعة الخام، فلو وكل فرداً في الاحتطاب له من خشب الغابة مثلاً، لم يجز
له أن يمتلك الخشب الذي يظفر به وكيله ما دام لم يباشر بنفسه العمل
والاحتطاب، لأن الملكية التي تنتج عن العمل هي من نصيب العامل وحده.
وهذا واضح من الفقرات الثمانية الأولى في البناء العلوي.
وثانياً: إن عقد الأجارة كعقد الوكالة، فكما لا يملك الموكل الثروات
التي يظفر بها وكيله من الطبيعة كذلك لا يملك المستأجر الثروات الطبيعية التي
يحوزها أجيره لمجرد أنه سدد الأجر اللازم له لأن تلك الثروات لا تملك إلا
بالعمل المباشر. وهذا واضح من الفقرة السادسة.
وثالثاً: أن الإنسان المنتج الذي يمارس ثروات الطبيعة إذا استخدم في
عمله أداة أو آلة إنتاج يملكها غيره، لم يكن للأداة نصيب من الثروة التي(1/10)
يحصل عليها من الطبيعة، وإنما يصبح الإنسان المنتج مديناً لصاحب الأداة
بمكافأة على الخدمة التي أسداها له خلال عملية الإنتاج، وأما المنتج فهو ملك
العامل كله. وهذا واضح في الفقرة 9و10و12.
وهذه النقاط الثلاث تكفي لاكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد
الإنتاج التي يقوم على أساسها البناء العلوي لتلك الأحكام كلها، كما أنها تكفي
أيضاً للتدليل على صحة اكتشافنا للنظرية وإعطائها نفس المضمون والملامح
التي حددناها.
فالإنسان المنتج يملك الثروة المنتجة من الطبيعة الخام لا بوصفه مساهماً
في الإنتاج وخادماً له بل لأجل أنه هو الغرض الذي يخدمه الإنتاج، ولذلك
فهو يستأثر بكل الثروة المنتجة، ولا تشاركه فيها القوى والوسائل الأخرى
التي خدمت الإنتاج وساهمت فيه.
وأما تلك الوسائل المادية فلها أجرها على خدماتها من الإنسان العامل
الذي يمارس الإنتاج، لأنها تعتبر خادمة له وليست في مستواه(1).
__________
(1) ويكفينا في الحصول على هذه النتائج من الناحية النظرية بناء البحث على أساس النقطتين
الأخيرتين من النقاط الثلاث التي لخصنا فيها مدلول البناء العلوي، فحتى إذا لم نعترف بالنقطة
الأولى كان البناء النظري الذي شيدناه صحيحاً، فلنفترض أن الوكيل إذا انتج لموكله شيئاً من
ثروات الطبيعة الخام لم يملك تلك الثروة التي انتجها بل ملكها الموكل_ وهذا ما أرجحه بوصفي
الفقهي (راجع ملحق رقم 15) فان هذا لا يتعارض مع المبدأ القائل: إن الإنسان المنتج هو
وحده صاحب الحق في الثروة التي ينتجها، لأن الإنسان المنتج هنا يتنازل بنفسه عن هذا الحق
ويمنح الثروة شخصاً آخر حين يقصد الحصول على الثروة التي ينتجها إنما يرتبط بالنقطة القائلة من البناء
العلوي: بأن وسيلة الإنتاج المادية لا تشارك العامل في الثروة المنتجة، وبالنقطة الأخرى التي
تقول: إن الرأسمالي ليس له أن يمتلك الثروة التي يحوزها العامل المجرد شراء العمل منه وتجهيزه
بالمعدات اللازمة للإنتاج.
وهكذا يتضح الفرق جوهرياً بين فكرة تملك الموكل الثروة التي يحوزها وكيله، وبين
فكرة تملك الفرد الثروة التي يحوزها أجيره، فإن الفكرة الثانية رأسمالية بطبيعتها لأنها تمنح
رأس المال النقدي والإنتاجي الحق المباشر في تملك الثروة بدلاً عن العمل الإنساني، وعلى عكس
ذلك الفكرة الأولى التي تعترف للعامل بحقه في الثروة، وتعتبر وكالته عن فرد آخر في احتطاب
الخشب من الغابة مثلاً تعبيراً ضمنياً عن منح العامل ملكية الخشب الفرد الآخر وتنازله له عن
الثروة.(1/11)
وهكذا نحصل باستخدام البناء العلوي المتقدم على الأساس الإسلامي
لتوزيع ما بعد الإنتاج، ونبرهن في ضوئه على صدق الصورة التي قدمناها
عن النظرية الإسلامية عند مقارنتها بالنظرية الرأسمالية.
ولنواصل الآن اكتشافنا، ولنأخذ بدراسة جانب آخر من النظرية
وإبرازه عن طريق مقارنتها بالماركسية وتحديد أوجه الفرق بينهما.
2_ أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية
البناء العلوي:
1_ في كتاب الإجارة من الشرائع كتب المحقق الحلي يقول: إذا دفع
سلعة إلى غيره ليعمل له فيها عملاً، فان كان من عادته أن يستأجر لذلك
العمل كالغسال والقصار، فله أجرة مثل عمله وإن لم يكن له_ أي للعامل_
عادة وكان العمل مما له أجرة، فللعامل المطالبة لأنه أبصر بنيته، وإذا لم يكن
مما له أجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدعيها(1).
وعلّق الشراح على ذلك إن العامل إذا عرف من نيته التبرع لم يجز له
المطالبة بالأجرة.
2_ في كتاب الغصب من الجواهر ذكر المحقق النجفي: إن شخصاً
(إذا غصب حبا فزرعه أو بيضاً فاستفرخه، فالأكثر يرون إنه للمغصوب
منه بل عن الناصرية نفي الخلاف بل عن السرائر الإجماع عليه وهو أشبه
بأصول المذهب والقواعد)(2).
وذكر قولاً فقهياً آخر يزعم: إن الزرع والفرخ للغاصب لأن البذر
والبيض الذي كان يملكه المغصوب منه يعتبر متلاشياً ومضمحلاً، فيكون
الزرع والفرخ شيئاً جديداً يملكه الغاصب بعمله فيهما.
وإلى هذا القول ذهب المرغيناني حيث قال: (وإذا تغيرت العين
المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال الملك المغصوب
منه عنها وملكها الغاصب)(3).
وقال السرخسي: (وإن غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد
__________
(1) شرائع الإسلام للمحقق الحلي جعفر بن الحسن جـ 2 ص 188.
(2) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام المجلد السادس من الطبعة القديمة كتاب الغصب
اللواحق المسألة السادسة.
(3) راجع شرح فتح القدير جـ 7 ص 375.(1/12)
أدرك الزرع أو هو بقل فعليه حنطة مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا
وعند الشافعي الزرع له لأنه متولد من ملكه)(1).
3_ وفي نفس الكتاب(2) جاء: إن شخصاً (إذ غصب أرضاً فزرعها
أو غرسها، فالزرع ونماؤه للزارع بلا خلاف أجده بل في التنقيح أنعقد
الإجماع عليه وعلى الزارع أجرة الأرض).
وقد أكدت ذلك عدة أحاديث، ففي رواية عقبة بن خالد أنه سأل
الإمام الصادق عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير اذنه، حتى إذا بلغ الزرع
جاء صاحب الأرض فقال زرعت بغير إذني فزرعك لي وعلي ما أنفقت أله
ذلك أم لا؟ فقال الإمام: للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه(3).
وقال ابن قدامة: (وإن غصب أرضاً فغرسها فأثمرت فأدركها ربها
بعد أخذ الغاصب ثمرتها فهي له وإن أدركها والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة
شجرة فكانت له كما لو كانت في أرضه)(4).
4_ جاء في كتاب المزارعة من الجواهر (أنه في كل موضع يحكم
فيه ببطلان المزارعة يجب لصاحب الأرض أجرة المثل، ويكون الزرع ملكاً
للعامل نفسه إن كان البذر من العامل، وأما إذا كان البذر من صاحب
الأرض فالزرع له أيضاً_ أي لصاحب الأرض_ وعليه أجرة مثل العامل
والعوامل_ أي وسائل الإنتاج_، ولو كان البذر منهما_ أي من العامل
وصاحب الأرض_ فالحاصل بينهما على النسبة)(5).
ويستخلص من هذا التفصيل أن الزرع يملكه صاحب البذر سواء كان
هو الزارع أم صاحب الأرض لأن البذر هو الذي يكوّن المادة الأساسية
للزرع وفي حالة كون البذر من الزارع لا يوجد للأرض حق في الزرع وإنما
تجب الأجرة لصاحب الأرض على العامل الزارع الذي استخدم أرضه في
زراعة بذره.
__________
(1) المبسوط السرخسي جـ 11 ص 95.
(2) في نفس الموضع السابق المسألة السابعة.
(3) الوسائل للحر العاملي محمد بن الحسن جـ 17 ص 310.
(4) المغني لابن قدامة جـ 5 ص 212.
(5) جواهر الكلام في شرائع الإسلام المجلد الرابع من الطبعة الحجرية كتاب المزارعة
المسألة السادسة من أحكامها.(1/13)
ويستفاد الشيء نفسه أيضاً من فقه المبسوط للسرخسي إذ ربط ملكية
صاحب الأرض للنماء كله في حالة بطلان عقد المزارعة بأنه نماء بذره
فصاحب الأرض يملك الحاصل بوصفه مالكاً للبذر لا بوصفه مالكاً للأرض(1).
وقد صرح الشيخ الطوسي في حالة المزارعة الفاسدة بأن الزرع لصاحب
البذر معللا ذلك بأن الزرع هو نفس البذر غير أنه نما وزاد ويرجع صاحب
الأرض على الزارع بمثل أجرة أرضه(2).
5_ وفي كتاب المساقاة من الجواهر أنه في كل موضع تفسد فيه
المساقاة فللعامل أجرة المثل والثمرة لصاحب الأصل لأن النماء يتبع الأصل
في الملكية(3).
وبيان ذلك أن شخصاً إذا كان يملك أشجاراً تحتاج إلى السقي والملاحظة
لتؤتي ثمارها، فيمكنه دفع تلك الأشجار إلى عامل والارتباط معه بعقد،
يتعهد فيه العامل برعايتها وسقايتها ويصبح في مقابل ذلك شريكاً لصاحب
الأشجار في الثمرة بنسبة تحدد في العقد. ويطلق على هذا النوع من الانفاق
بين صاحب الأشجار والعامل فقهياً أسم المساقاة. وينص الفقهاء على وجوب
تقيد الطرفين المتعاقدين بمحتوى العقد، إذا توفرت فيه الشروط بشكل
كامل وأما إذا فقد العقد أحد مقوماته وشروطه، فلا يكون له أثر من
الناحية الشرعية، وفي هذه الحالة يقرر النص الفقهي الذي قدمناه أن الثمرة
في حال بطلان العقد تكون كلها ملكاً لصاحب الأشجار، وليس للعامل
إلا الأجرة المناسبة التي يطلق عليهما فقهياً اسم أجرة المثل جزاءً له على
خدماته وجهوده التي بذلها في استثمار الأشجار.
6_ عقد المضاربة هو عقد خاص يتفق فيه العامل مع صاحب العامل
على الاتجار بماله ومشاركته في الأرباح فإذا لم يستوف العقد عناصر صحته
لأي اعتبار من الاعتبارات يصبح الربح كله للمالك كما نص على ذلك
__________
(1) راجع المبسوط السرخسي جـ 23 ص 116.
(2) المبسوط للشيخ جـ 2 ص 359.
(3) جواهر الكلام المجلد الرابع من الطبعة الحجرية كتاب المساقاة الأولى من أحكامها.(1/14)
الفقهاء في الجواهر وغيرها وليس للعامل إلا الأجرة المناسبة في بعض
الحالات(1).
من النظرية:
كشفنا حتى الآن عن النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام،
بالقدر الذي تطلبته المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في الأساس النظري
للتوزيع. ونريد الآن أن نواصل اكتشافنا لمعالم النظرية الإسلامية ومميزاتها
من خلال مقارنتها بالنظرية الماركسية لتوزيع ما بعد الإنتاج وتحديد أوجه
الفرق بين النظريتين.
وسوف نبدأ_ كما صنعنا في المرحلة السابقة_ بإعطاء الصورة وإبراز
أوجه الفرق بين النظريتين كما نؤمن بها قبل أن نتناول البناء العلوي بالبحث
حتى إذا أتيح لنا أن نتصور بوضوح جوانب الاختلاف والمدلول المذهبي
لهذا الاختلاف، عدنا إلى فحص النباء العلوي لنستخرج منه الأدلة التي
تدعم تصورنا وتدل فقهياً على صوابه.
1_ ظاهرة ثبات الملكية في النظرية:
ونستطيع أن نلخص الفرق بين النظرية الإسلامية والنظرية الماركسية في
نقطتين جوهريتين:
وإحدى هاتين النقطتين هي: أن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد
الإنتاج إنما تمنح الإنسان العامل كل الثروة التي أنتجها إذا كانت المادة
الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد
آخر، كالخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة، أو الأسماك والطيور
في البحر والجو التي يصطادها الصائد من الطبيعة، أو المواد المعدنية التي
يستخرجها المنتج من مناجمها، أو الأرض الميتة التي يحييها الزارع ويعدها
للإنتاج، أو عين الماء التي يستنبطها الشخص من أعماق الأرض، فان كل
هذه الثروات ليست في وضعها الطبيعي ملكاً لأحد فعملية الإنتاج تعطي
الإنسان المنتج حقاً خاصاً فيها، ولا تشترك معه الوسائل المادية للإنتاج في
تملك تلك الثروات كما عرفنا سابقاً.
__________
(1) لاحظ مفتاح الكرامة للسيد العاملي جـ 8 ص 437 والمبسوط للسرخسي جـ 22 ص 22.(1/15)
وأما إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها الإنسان في عملية الإنتاج
ملكاً أو حقاً لفرد آخر نتيجة لأحد الأسس التي عرضناها في النظرية العامة
لتوزيع ما قبل الإنتاج، فهذا يعني أن المادة قد تم تملكها أو الاختصاص بها
في توزيع سابق، فلا مجال لمنحها على أساس الإنتاج الجديد للإنسان العامل،
ولا لأي عامل من العوامل التي استخدمها في العملية، فمن غزل ونسج
كمية من الصوف الذي يملكه الراعي، ليس له الحق في امتلاك الصوف
الذي نسجه، أو مشاركة الراعي في ملكيته على أساس عمله الذي أنفقه
فيه بل يعتبر النسيج كله ملكاً للراعي ما دام هو الذي يملك مادته الأساسية
وهي الصوف، فملكية الراعي للصوف الذي أنتجه لا تزول ولا تتضاءل
بانفاق عمل جديد من فرد آخر في غزل الصوف ونسجه. وهذا ما نطلق
عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية.
والماركسية على عكس ذلك، فهي ترى: أن العامل الذي يتسلم المواد
من الرأسمالي وينفق جهده عليها يملك من المادة بمقدار ما منحها بعمله من
قيمة تبادلية جديدة، ولأجل هذا كان العامل في رأي الماركسية صاحب
الحق الشرعي في السلعة المنتجة باستثناء قيمة المادة التي تسلمها العامل من
الرأسمالي قبل عملية الإنتاج.
ومرد هذا الاختلاف يبن الماركسية والإسلام إلى ربط الماركسي بين
الملكية والقيمة التبادلية من ناحية وربطها بين القيمة التبادلية والعمل من
ناحية أخرى، فأن الماركسية تعتقد_ من الناحية العلمية_ أن القيمة التبادلية
وليدة العمل(1)، وتفسر_ من الناحية المذهبية_ ملكية العامل للمادة التي
يمارسها على أساس القيمة التبادلية التي ينتجها عمله في المادة. ونتيجة لذلك
يصبح من حق أي عامل إذا منح المادة قيمة جديدة أن يملك هذه القيمة التي
جسدها في المادة.
وخلافاً للماركسية يفصل الإسلام بين الملكية والقيمة التبادلية، ولا
__________
(1) لتوضيح ذلك راجع اقتصادنا الكتاب الأول ص 193.(1/16)
يمنح العامل حق الملكية في المادة على أساس القيمة الجديدة التي أعطاها العامل
للمادة وإنما يضع العمل أساساً مباشراً للملكية كما مر بنا في بحث نظرية توزيع
ما قبل الإنتاج، فإذا ملك فرد المادة على أساس العمل وكان الأساس لا يزال
قائماً، فلا يسمح لشخص آخر أن يحصل على ملكية جديدة في المادة وإن
منحها بعمله قيمة جديدة.
وهكذا نستطيع أن نلخص النظرية الإسلامية كما يلي: إن المادة التي
يمارسها الإنسان المنتج إذا لم تكن مملوكة سابقاً فالثروة المنتجة كلها للإنسان
وجميع القوى الأخرى المساهمة في الإنتاج تعتبر خادمة للإنسان وتتلقى
المكافأة منه، لا شريكة في الناتج على أساس مساهمتها في صف واحد مع
الإنسان، وأما إذا كانت المادة مملوكة سابقاً لفرد خاص فهي ملكه مهما
طرأ عليها من تطوير طبقاً لظاهرة الثبات كما رأينا في مثال الصفوف.
وقد يخيل للبعض أن هذه الملكية_ أي تملك صاحب الصوف لنسيج
صوفه واحتفاظ مالك المادة بملكيته لها مهما طرأ عليها من تطوير نتيجة لعمل
غيره فيها_ تعني أن الثروة المنتجة يستأثر بها رأس المال والقوى المادية في
الإنتاج نظراً إلى أن مادة السلعة المنتجة_ وهي الصوف في مثالنا_ تعتبر
من الناحية الاقتصادية نوعاً من رأس المال في عملية الغزل والنسيج لأن المادة
الخام لكل سلعة منتجة تشكل نوعاً من رأس المال في عملية انتاجها. ولكن
تفسير ظاهرة الثبات على أساس رأسمالي خطأ لأن منح مالك الصوف ملكية
النسيج الذي نسجه العامل من صوفه لا يقوم على أساس الطابع الرأسمالي
للصوف، ولا يعني أن رأس المال يكون له الحق في امتلاك السلعة المنتجة
_ النسيج_ بوصفه مساهماً أو أساساً في عملية إنتاج النسيج.
فان الصوف وإن كان رأس مال في عملية إنتاج الغزل والنسيج بوصفه
المادة الخام لهذا الإنتاج ولكن الأدوات التي تستخدم في غزله ونسجه هي
الأخرى أيضاً تحمل الطابع الرأسمالي وتساهم في العملية بوصفها نوعاً آخر(1/17)
من رأس المال، مع أنها لا تمنح صاحبها ملكية الثروة المنتجة، ولا يسمح
لمالك تلك الأدوات أن يشارك مالك الصوف في ملكية، النسيج، وهذا يبرهن
على أن النظرية الإسلامية حين تحتفظ للراعي بملكية الصوف بعد إنتاج العامل
منه نسيجاً لا تستهدف بذلك أن تخص رأس المال وحده بالحق في تملك
الثروة المنتجة، بدليل أنها لا تعطي هذا الحق لرأس المال المتمثل في الأدوات
والآلات، وإنما يعبر ذلك عن احترام النظرية للملكية الخاصة التي كانت
ثابتة للمادة قبل الغزل والنسج. فالنظرية ترى أن مجرد تطوير المال لا يخرجه
عن كونه ملكاً لصاحبه الأول وأن أدى هذا التطوير إلى خلق قيمة جديدة
فيه. وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية.
فرأس المال والقوى المادية المساهمة في الإنتاج لا تمنح في النظرية الإسلامية
الحق في الثروة المنتجة بوصفها رأس مال وقوى مساهمة في الإنتاج لأنها
بهذا الوصف لا ينظر إليها إلا باعتبارها خادمة للإنسان الذي هو المحور
الرئيس في عملية الإنتاج، وتتلقى بهذا الاعتبار مكافأتها منه، وإنما يظفر
الراعي الذي يملك الصوف في مثالنا بحق ملكية النسيج لأجل أن النسيج هو
نفس الصوف الذي كان يملكه الراعي، لا بما الصوف رأس مال من
عملية إنتاج النسيج.
2_ فصل النظرية للمكية عن القيمة التبادلية:
وأما النقطة الأخرى التي تختلف فيها النظرية الإسلامية عن النظرية
الماركسية فهي: أن الماركسية التي تعطي كل فرد الحق في الملكية بقدر ما
جسده في الثروة من قيمة تبادلية، تؤمن_ على أساس ربطها بين الملكية
والقيمة التبادلية_ بأن مالك القوى والوسائل المادية في الإنتاج يتمتع بنصيب
في الثروة المنتجة، لأن تلك القوى والوسائل تدخل في تكوين قيمة السلعة
المنتجة بقدر ما يستهلك منها خلال عملية الإنتاج، فيصبح مالك الأداة
المستهلكة مالكاً في الثروة المنتجة التي استهلكت الأداة لحسابها بقدر ما ساهمت
أداته في تكوين قيمة تلك الثروة.(1/18)
وأما الإسلام فهو كما عرفنا يفصل الملكية عن القيمة التبادلية، فحتى
إذا افترضنا علمياً أن أداة الإنتاج تدخل في تكوين قيمة المنتج بقدر استهلاكها،
فلا يعني هذا بالضرورة أن يمنح مالك الأداة حق الملكية في الثروة المنتجة،
لأن الأداة لا ينظر إليها في النظرية الإسلامية دائماً إلا خادمة للإنسان في
عملية الإنتاج، ولا يقوم حقها إلا على هذا الأساس، وهذا كله من نتائج
الفصل بين الملكية والقيمة التبادلية، فالقوى المادية التي تساهم في الإنتاج
تتلقى دائماً_ على أساس هذا الفصل_ جزاءها من الإنسان بوصفها خادمة
له لا من نفس الثروة المنتجة بوصفها داخلة في تكوين قيمتها التبادلية.
استنتاج النظرية من البناء العلوي:
والآن بعد أن استعرضنا أوجه الفرق بين النظرتين الإسلامية والماركسية
كما نتصورها ونفترضها، يمكننا أن نضع أصابعنا بتحديد على أدلة هذه
الفروق ومبرراتها من البناء العلوي الذي قدمناه، كما هي طريقتنا في اكتشاف
النظرية من صرحها التشريعي الفوقي.
إن كل الفقرات التي سبقت في البناء العلوي تشترك في ظاهرة واحدة
وهي: أن المادة التي تدخل في عملية الإنتاج ملك لفرد معين قبل ذلك،
ولأجل هذا تؤكد الفقرات جميعاً على بقاء المادة بعد تطويرها في عملية
الإنتاج ملكاً لصاحبها السابق.
فالسلعة التي يدفعها صاحبها إلى أجير لكي يعمل فيها ويطورها في
الفقرة الأولى تظل ملكاً له وليس للأجير أن يملكها بسبب عمله وإن طورها
وخلق فيها قيمة جديدة، لأنها مملوكة بملكية سابقة.
والعامل الذي يغتصب أرض غيره فيزرعها ببذره ويمتلك الزرع الناتج
كما نصت عليه الفقرة الثالثة، ولا نصيب لصاحب الأرض في الزرع،
وذلك لأن الزارع هو المالك للبذر والبذر هو العنصر الأساسي من المادة التي
تطورت خلال الإنتاج الزراعي إلى زرع. وأما الأرض فهي بوصفها قوة
مادية مساهمة في الإنتاج تعتبر في النظرية الإسلامية خادمة للإنسان الزارع،(1/19)
فعليه مكافأتها_ أي مكافأة صاحبها_ فالإسلام يفرق إذن بين البذر والأرض
فيمنح حق ملكية الزرع لصاحب البذر دون صاحب الأرض، بالرغم من
أن كلاً منهما رأس مال بالمعنى الاقتصادي وقوة مادية مساهمة في الإنتاج،
وهذا يكشف بوضوح عن الحقيقة التي قررناها سابقاً وهي أن صاحب المادة
الخام التي يمارسها الإنتاج ويطورها إنما يملك تلك المادة بعد تطويرها لأنها
هي نفس المادة التي كان يملكها، لا لأن المادة الخام تحمل الطابع الرأسمالي
في عملية الإنتاج، وإلا لما ميز الإسلام بين البذر والأرض وحرم صاحب
الأرض من ملكية الزرع بينما منحها لصاحب البذر، بالرغم من اشتراك
البذر والأرض في الطابع الرأسمالي بالمعنى العام لرأس المال الذي يشمل كل
القوى المادية للإنتاج.
والفقرة الرابعة والخامسة تتفقان معاً على تقرير المبدأ الذي قررته الفقرة
الثالثة، وهو أن ملكية الزرع أو الثمرة تمنح لمن يملك المادة التي تطورات
خلال الإنتاج إلى زرع أو ثمرة، ولا تمنح لصاحب الأرض ولا لمالك أي
قوة أخرى من القوى التي تساهم في عملية الإنتاج الزراعي وتحمل الطابع
الرأسمالي في العملية.
والفقرة الأخيرة تمنح ملكية الربح لصاحب المال إذا بطل عقد المضاربة،
ولا تسمح للعامل بتملكه أو الاشتراك في ملكيته، لأن هذا الربح وإن كان
_ في الغالب_ نتيجة للجهد الذي يبذله العامل في شراء السلعة وإعدادها بين
يدي المستهلكين بشكل يتيح بيعها بثمن أكبر، ولكن هذا الجهد ليس إلا
نظير جهد العامل في غزل الصوف الذي يملكه الراعي أو نسجه لا أثر له
في النظرية ما دامت المادة_ مال المضاربة أو الصوف_ مملوكة بملكية سابقة.
بقي علينا أن نشير إلى الفقرة الثانية من البناء العلوي بصورة خاصة،
وهي الفقرة التي تتحدث عن الشخص إذا غصب من آخر بيضاً فاستغله في
الإنتاج الحيواني أو بذراً فاستثمره في الإنتاج الزراعي، فإن الفقرة تنص(1/20)
على أن الرأي السائد فقهياً هو: أن الناتج_ الفرخ أو الزرع_ ملك لصاحب
البيض والبذر، وتشير إلى رأي فقهي آخر يقول: أن الغاصب الذي
مارس عملية الإنتاج هو الذي يملك الناتج.
وقد رأينا في تلك الفقرة التي استعرضت هذين الرأيين أن مردّهما فقهياً
إلى الاختلاف بين الفقهاء في تحديد نوع العلاقة بين البيض والطائر الذي
خرج من أحشائه. وكذلك بين البذر والزرع الذي نتج عنه. فمن يؤمن
بوحدتهما وإن الفرق بينهما فرق درجة كالفرق بين ألواح الخشب والسرير
المتكون منها يأخذ بالرأي الأول، ويعتبر الشخص الذي اغتصب منه
بيضه وبذره هو المالك للناتج. ومن يرى أن المادة_البيض والبذر_ قد
تلاشت في عملية الإنتاج وإن الناتج شيء جديد في تصور العرف العام قام
على أنقاض المادة الأولى بسبب عمل الغاصب وجهده الذي بذله خلال
عملية الإنتاج، فالمالك للناتج في رأيه هو الغاصب، لأنه شيء جديد لم
يملكه صاحب البيض والبذر قبل ذلك، فمن حق العامل_ وإن كان غاصباً_
أن يمتلكه على أساس عمله.
وليس المهم هنا حل هذا التناقض فقهياً بين هذين الرأيين وتمحيص
وجهات النظر فيهما، وإنما نستهدف الاستفادة من مدلوله النظري في موقفنا
المذهبي من النظرية لأن هذا النزاع الفقهي يكشف بوضوح أكثر عن
الحقيقة التي كشف عنها فقرات أخرى في البناء العلوي، وهي أن منح
صاحب الصوف ملكية النسيج وصاحب كل مادة ملكية تلك المادة بعد
ممارستها في عملية الإنتاج لا يقوم على أساس أن الصوف والمادة الأولية
نوع من رأس المال في عملية الغزل والنسيج. وإنما يقوم على أساس ظاهرة
الثبات في الملكية التي تقرر أن من يملك مادة يظل محتفظاً بملكية لها مادامت
المادة قائمة والمبررات الإسلامية للملكية باقية، فإن الفقهاء حين اختلفوا في
ملكية الناتج من البيض أو البذر، ربطوا موقفهم الفقهي من ذلك بوجهة
نظرهم في طبيعة الصلة بين المادة والنتيجة. وهذا يعني أن من منح المغصوب(1/21)
منه ملكية الناتج لم يقل بذلك على أساس مفهوم رأسمالي، ولم يرجح ملكية
صاحب البيض والبذر لأنه هو المالك لرأس المال أو النوع منه في عملية
الإنتاج، إذ لو كان هذا هو الأساس في الترجيح لما اختلفت النتيجة الفقهية
في رأي الفقهاء تبعاً لوحدة المادة والنتيجة وتعددهما، لأن المادة رأس مال
في عملية الإنتاج على كل حال، سواء استهلكت خلال العملية أم تجسدت
في المنتوج الذي أسفر عنه العمل، فكان لزاماً على الفقهاء من وجهة نظر
الرأسمالية أن يمنحوا مالك المادة_ البيض أو البذر_ حق ملكية الناتج مهما
كانت العلاقة بينه وبين المادة ولكنهم خلافاً لوجهة النظر هذه لم يمنحوا
مالك المادة_ كالبذر مثلاً_ حق ملكية الزرع إلا إذا ثبت في العرف العام
أن المنتوج هو نفس المادة في حالة معينة من التطور، وهذا يقرر بوضوح أن
منح ملكية السلعة المنتجة لمالك المادة لا العامل يقوم على أساس ما أطلقنا عليه
اسم ظاهرة الثبات في الملكية ولا يستمد مبرره الإسلامي من وجهة النظر
الرأسمالية التي تقوم: إن السلعة المنتجة يملكها رأس المال، وإن العامل
أجير لدى رأس المال يتقاضى أجره على عمله منه.
وهكذا ندرك بوضوح مدى الفرق النظري بين التفسير الإسلامي لمنح
صاحب المادة الأولية في الإنتاج ملكية الثروة المنتجة، وبين تفسيرها على
أساس وجهة نظر رأسمالية.
3_ القانون العام لمكافأة المصادر المادية للإنتاج
البناء العلوي:
1_ يجوز للإنسان المنتج أن يستأجر إحدى أدوات الإنتاج وآلاته
من غيره ليستخدمها في عملياته، ويدفع إلى مالك الأداة مكافأة يتفق عليها معه
وتعتبر هذه المكافأة أجرة لمالك الأداة على الدور الذي لعبته في عملية الإنتاج
وديناً في ذمة الإنسان المنتج يجب عليه تسديده، بقطع النظر عن مدى ونوع
المكاسب التي يحصل عليها في عملية الإنتاج، وهذا كله مما اتفق عليه
الفقاء.
2_ كما يجوز استئجار أداة من أدوات الإنتاج كمحراث أو معمل(1/22)
نسيج كذلك يجوز للإنسان المنتج أن يستأجر أرضاً بأجرة معينة من صاحبها
الذي يختص بها اختصاص حق أو ملكية. فإذا كنت مزارعاً مثلاً، أمكنك
أن تستخدم أرض غيرك بالاتفاق معه، وتدفع له نظير ذلك أجرة مكافأة
له على الخدمة التي قدمتها أرضه في عملية الإنتاج.
وهذا الحكم يتفق عليه أكثر الفقهاء المسلمين، ولا خلاف فيه إلا من
بعض الصحابة، وعدد قليل من المفكرين الإسلاميين الذين أنكروا جواز
إجارة الأرض، استناداً إلى روايات عن النبي (ص) سوف ندسها في
بحث مقبل إن شاء الله تعالى، ونوضح عدم تناقضها مع الرأي الفقهي السائد.
وكذلك يجوز للإنسان أيضاً أن يستأجر عاملاً لخياطة الثوب وغزل
الصوف وبيع الكتاب وشراء صفقة تجارية، فإذا أنجز الأجير المهمة التي
كلف بها وجب على من استأجره دفع الأجرة المحددة له.
3_ شرع الإسلام عقد المزارعة كأسلوب لتنظيم شركة معينة بين
صاحب الأرض والزارع، يتعهد بموجبه الزارع بزرع الأرض ويقاسم
صاحب الأرض الناتج الذي يسفر عنه العمل. ويحدد نصيب كل منهما
بنسبة مئوية من مجموع الناتج.
ولنأخذ فكرتنا عن عقد المزارعة من نص للشيخ الطوسي في كتاب
الخلاف شرح فيه مفهوم المزارعة، وحدودها المشروعة، إذ كتب يقول:
(يجوز يكون منه الأرض والبذر، ومن المتقبل(1) القيام بها بالزراعة والسقي
ومراعاتها)(2).
ففي هذا الضوء نعرف أن عقد المزارعة شركة بين عنصرين:
أحدهما العمل من العامل الزارع، والآخر: الأرض والبذر من صاحب
الأرض. وعلى أساس هذا التحديد الذي كتبه الشيخ الطوسي، يصبح من
غير المشروع إنجاز عقد المزارعة بمجرد تقديم صاحب الأرض لأرضه
وتكليف العامل بالعمل والبذر معاً، لأن مساهمة صاحب الأرض بالبذر
أخذت شرطاً أساسياً لعد المزارعة في النص السابق، وإذا تم ما يقرره هذا
__________
(1) المتقبل، هو العامل الذي يستخدم أرض غيره.
(2) الخلاف في الفقه للشيخ الطوسي محمد بن الحسن جـ 1 ص 705.(1/23)
النص بشأن البذر، فعلى ضوئه يمكننا أن نفهم ما جاء عن النبي (ص) من
النهي عن المخابرة، لأن المخابرة هي نوع من المزارعة يكلف فيه صاحب
الأرض بتسليم الأرض دون البذر. وهكذا نعرف من حدود النص الذي
كتبه الشيخ الطوسي: أن تعهد صاحب الأرض بدفع البذر للعامل يعتبر
عنصراً أساسياً في عقد المزارعة، ولا يصح العقد بدون ذلك.
وهذا ما ذهب إليه جملة من الفقهاء أيضاً فقد كتب ابن قدامة يقول:
(ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض
والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختاره عامة الأصحاب
وهو مذهب ابن سيرين والشافعي وإسحاق)(1).
4_ المساقاة عقد آخر يشابه عقد المزارعة، وهو لون من الاتفاق بين
شخصين: أحدهما يملك أشجاراً وأغصاناً، والآخر قادر على ممارسة سقيها
حتى تؤتي ثمارها.
ويتعهد العامل في هذا العقد بسقي تلك الأشجار والأغصان حتى تثمر
وفي مقابل ذلك يشارك المالك في الثمار بنسبة مئوية تحدد ضمن العقد.
وقد أجاز الإسلام هذا العقد، كما جاء في كثير من النصوص الفقهية.
5_ ولا تنحصر مسؤولية صاحب الأرض بتقديم الأرض فحسب
بل إن عليه أيضاً الإنفاق على تسميد الأرض إذا احتاجت إلى ذلك فقد قال
العلامة الحلي في القواعد: (لو احتاجت الأرض إلى التسميد فعلى المالك
شراؤه وعلى العامل تفريقه). وأكدت ذلك عدة مصادر فقهية كالتذكرة
والتحرير وجامع المقاصد(2).
6_ المضاربة عقد مشروع في الإسلام، يتفق فيه العامل مع صاحب
المال على الاتجار بأمواله والمشاركة في الأرباح بنسبة مئوية، فإذا استطاع
العامل أن يظفر بأرباح في تجارته، قسمها بينه وبين صاحب المال وفقاً لما تم
عليه الاتفاق في العقد وأما إذا مني بخسارة فإن المالك هو الذي يتحملها
وحده، ويكفي العامل بضياع جهوده وأتعابه دون نتيجة، ولا يجوز
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 5 ص 348.
(2) لاحظ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة للسيد العاملي جـ 8 ص 360.(1/24)
للمالك أن يحمل العامل هذه الخسارة. وإذا ضمن العامل الخسارة في حالة
من الحالات، لم يكن لصاحب المال شيء من الربح، كما جاء في الحديث
عن علي عليه الصلاة والسلام: من ضمن تاجراً فليس له إلا رأس ماله،
وليس له من الربح شيء. وفي حديث آخر: (من ضمن مضاربة_ أي
جعل العامل المضارب ضامناً لرأس المال_، فليس له إلا رأس المال،
وليس له من الربح شيء) فتوفر عنصر المخاطرة بالنسبة إلى صاحب المال
وعدم ضمان العامل لماله شرط أساسي في صحة عقد المضاربة، وبدونه
تصبح العملية قرضاً لا مضاربة ويكون الربح كله للعامل.
ولا يجوز للعامل بعد الاتفاق مع صاحب المال على أساس المضاربة أن
يظفر بعامل آخر يكتفي بنسبة مئوية أقل من الربح، فيدفع إليه المال ليتجر
به ويحصل في النهاية على التفاوت بين النسبتين دون عمل منه، كما إذا كان
متفقاً مع صاحب المال على مناصفة الأرباح، واكتفى منه العامل الآخر
بالربع، فإنه سوف يفوز بربع الأرباح عن هذا الطريق دون أن يتكلف جهداً.
وقد كتب المحقق الحلي في فصل المضاربة من كتاب الشرائع يحرم
ذلك قائلاً: إذا قارض_ أي ضارب_ العامل غيره، فإن كان بإذنه
_ بإذن المالك_، وشرط الربح بين العامل الثاني والمالك صح، ولو
شرط لنفسه شيئاً من الربح لم يصح، لأنه لا عمل له(1). وجاء في الحديث:
أن الإمام (ع) سئل عن رجل أخذ مالاً مضاربة أيحل له أن يعينه غيره
بأقل مما أخذ؟ قال: لا(2).
وجاء في كتاب المغني لابن قدامة بهذا الصدد ما يلي: (وإن أذن رب
المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك... فإذا دفعه إلى آخر ولم يشترط لنفسه
شيئاً من الربح كان صحيحاً وإن شرط لنفسه شيئاً من الربح لم يصح لأنه
ليس من جهة مال ولا عمل والربح إنما يستحق بواحد منهما)(3).
__________
(1) شرائع الإسلام جـ 2 ص 143(الطبعة الجديدة).
(2) وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي جـ 13 ص 101 (الطبعة الجديدة) باب 14 من أبواب
كتاب المضاربة.
(3) المغني جـ 5 ص 42.(1/25)
7_ الربا في القرض حرام في الإسلام، وهو: أن تقرض غيرك
مالاً إلى موعد بفائدة يدفعها المدين عند تسليم المال في الموعد المتفق عليه.
فلا يجوز القرض إلا مجرداً عن الفائدة، وليس للدائن إلا استرجاع ماله
الأصيل دون زيادة، مهما كانت ضئيلة. وهذا الحكم يعتبر في درجة
وضوحه إسلامياً في مصاف الضروريات من التشريع الإسلامي.
ويكفي في التدليل عليه، الآيات الكريمة التالية:
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من
المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا،
فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن
عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من
الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون).
8_ والجملة القرآنية الأخيرة التي تحصر حق الدائن في رأس المال
الذي أقرضه، ولا تسمح له، إذا تاب، إلا باسترجاع ماله الأصيل،
دليل واضح على المنع من القرض بفائدة، وتحريم الفائدة بمختلف ألوانها
مهما كانت تافهة أو ضئيلة، لأنها تعتبر على أي حال ظلماً في المفهوم
القرآني من الدائن للمدين. وفقهاء الأمامية متفقون جميعاً على هذا الحكم
كما يظهر من مراجعة جميع مصادرهم الفقهية.
وقد نقل الجزيري عن الفقهاء المالكيين أنه يجرم على المقرض أن يشترط
في القرض شرطاً يجر منفعة كما نقل عن الفقهاء الشافعيين أن القرض يفسد
بشرط يجر منفعة للمقرض وكذلك نقل عن الحنابلة قولهم بعدم جواز
اشتراط ما يجر منفعة للمقرض في عقد القرض(1).
وقال ابن قدامة: (إن شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئاً
أو أن يقرض المقترض مرة أخرى لم يجز... وروى البخاري عن أبي بردة
عن أبي موسى قال قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام_ وذكر حديثاً_
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 2 ص 342_345.(1/26)
وفيه، ثم قال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل دين
فأهدى إليك حمل تين أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فانه ربا)(1).
9_ وجاء في الحديث النبوي: إن شر المكاسب الربا، ومن أكله
ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل، وإن اكتسب مالاً لم يقبل الله شيئاً
من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة، ما كان عنده قيراط.
10_ الجعالة صحيحة في الشريعة وهي: الالتزام من الشخص بمكافأة
على عمل سائغ مقصود. كما إذا قال: من فتش عن كتابي الضائع فله
دينار، ومن خاط ثوبي فله درهم. فالدينار أو الدرهم، عوض التزم
مالك الكتاب أو الثوب بدفعه إلى من يحقق عملاً خاصاً يتصل بماله.
ولا يجب أن يكون العوض محدداً كدرهم ودينار، بل يجوز للإنسان أن
يجعل عوضاً غير محدد بطبيعته فيقول: من زرع أرضي هذه، فله نصف
النتاج، ومن رد علىّ قلمي الضائع فهو شريكي في نصفه، كما نص على
ذلك العلامة الحلي في التذكرة(2)، وابنه في الايضاح، والشهيد في المسالك،
والمحقق النجفي في الجواهر.
والفرق من الناحية الفقهية بين الجعالة والإجارة هو أنك إذا استأجرت
شخصاً بأجرة لخياطة ثوبك مثلاً، أصبحت بموجب عقد الإجارة مالكاً
لمنفعة معينة من منافع الأجير، وهي منفعة عمله في خياطة الثوب، كما
يملك الأجير الأجرة التي نص عليه العقد. وأما إذا جعلت درهماً لمن يخيط
ثوبك، فلا تملك شيئاً من عمل الخياطة، كما لا يملك الخياط شيئاً على
ذمتك، ما لم يباشر العمل، فإذا أنجز الخياطة، كان له عليك الدرهم الذي
جعلته مكافأة على الخياطة.
11_ المضاربة التي سبق الحديث عنها، في الفقرة السادسة محددة
تشريعياً في نطاق العمليات التجارية بالبيع والشراء، فكل من يملك سلعة أو
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 4 ص 286_ 287.
(2) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي كتاب الجعالة الركن الرابع المسألة الأولى وقواعد الأحكام
الطبعة الحجرية ص 200 ولاحظ بقية المصادر.(1/27)
نقوداً، يتاح له الاتفاق مع عامل معين على الاتجار بماله وبيع سلعته، أو
شراء سلعة بنقوده ثم بيعها، والاشتراك مع العامل في الأرباح، بنسبة
مئوية كما ذكرناه في الفقرة السادسة.
وأما في غير النطاق التجاري الذي تحدده فقهياً عمليات البيع والشراء
فلا تصح المضاربة، فمن يملك أداة إنتاج مثلاً ليس له أن ينشيء عقد
مضاربة مع العامل على أساسها. وإذا دفعها إلى العامل ليستثمرها، فليس
من حقه أن يفرض لنفسه نصيباً من الأرباح التي تسفر عنها عملية الإنتاج،
ولا نسبة مئوية في الناتج.
ولأجل هذا كتب المحقق الحلي في كتاب المضاربة من الشرائع
يقول: إن المالك لو دفع إلى العامل آلة الصيد بحصة ثلث مثلاً، فاصطاد
العامل، لم يكن مضاربة، وكان الصيد للصائد الذي حازة، وليس لصاحب
الآلة شيء منه، وإنما على الصائد الأجرة لقاء انتفاعه بالآلة(1).
ونص على الحكم نفسه الفقيه الحنفي السرخسي إذ كتب يقول:
(وإذ دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون ما صاد بها من
شيء فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً فجميع ذلك للذي صاد... لأن
الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد استعمل فيه آلة الغير
بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على
الصياد)(2).
وبهذا نعرف أن مجرد الاشتراك في عملية إنتاج، بأداة من الأدوات،
لا يبرر اشتراك مالك الأداة في الأرباح، وإنما يسمح للمالك بمشاركة العامل
في الربح، إذا قدم سلعة أو نقوداً، وكلفه بالاتجار بها عن طريق البيع
والشراء على أساس الاشتراك في الأرباح.
وكما لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الأرباح على أساس أداة
الإنتاج، كذلك لم يسمح بقيام عقد المزارعة_ وهو العقد الذي مر بنا في
الفقرة الثالثة_ على هذا الأساس أيضاً. فلا يجوز لشخص أن يشارك الإنسان
__________
(1) شرائع الإسلام للمحقق الحلي جـ 2 ص 139 (الطبعة الجديدة).
(2) المبسوط للسرخسي جـ 22 ص 35.(1/28)
العامل في منتوجه الزراعي لمجرد تقديم أدوات الإنتاج إليه، من محراث
وبقر وآلات، وإنما تتاح هذه المشاركة لمن يسهم بالأرض والبذر معاً كما
عرفنا من نص للشيخ الطوسي سبق ذكره.
12_ لا يجوز للإنسان أن يستأجر أرضاً أو أداة إنتاج، بأجرة معينة،
ثم يؤجرها بأكثر من ذلك ما لم يعمل في الأرض أو الأداة عملاً يبرر
حصوله على الزيادة. فإذا كنت قد استأجرت أرضاً، بعشرة دنانير، فلا
يجوز لك أن تدفعها إلى شخص وتتقاضى منه عوضاً أضخم من تلك الأجرة
التي سددتها لصاحب الأرض، ما لم تنفق على الأرض وإصلاحها وإعداد
تربتها جهداً يبرر الفارق الذي تكسبه.
وقد نص على هذا الحكم بصورة وأخرى جماعة من كبار الفقهاء،
كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ
الطوسي(1)، وفقاً لأحاديث كثيرة وردت بهذا الصدد، ننقل فيما يلي
بعضها:
(أ) حديث سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
أني لأكره أن أستأجر الرحى وحدها ثم أؤاجرها بأكثر مما استأجرتها،
إلا أن أحدث فيها حدثاً(2).
(ب) عن الحلبي قال قلت للصادق عليه السلام: أتقبل الأرض
بالثلث أو الربع، فاقبلها بالنصف، قال: لابأس. قلت: فأتقبلها بألف
درهم، واقبلها بألفين. قال: لا يحوز. قلت: لِم. قال: لأن هذا
مضمون وذاك غير مضمون(3).
__________
(1) لاحظ المبسوط للشيخ الطوسي جـ 3 ص 226.
(2) الوسائل للحر العاملي جـ 13 ص 259 ولاحظ سائر الروايات الأخرى في الصفحات
التالية لذلك الموضع.
(3) خلاصة التفصيل الذي يعرضه هذا النص، والنص التالي، هو التفرقة بين حالتي
الإجارة والمزارعة: ففي حالة الإجارة، عندما يستأجر الفرد بمئة دينار مثلاً،
لا يجوز له أن يؤجرها بأكثر من مئة، ما لم يكن قد عمل في الأرض. وفي حالة المزارعة،
عندما يتفق العامل مع صاحب الأرض والبذر، على زرع أرضه والاشتراك معه في الناتج بنسبة
خمسين بالمئة مثلاً يجوز للعامل بعد ذلك أن يعطي الأرض لعامل آخر يباشر زراعتها، على أن
يدفع له ثلاثين بالمئة مثلاً، ويحتفظ في النتيجة بعشرين بالمئة.
وقد حاول النص أن يفسر هذا الفرق بين حالتي الإجارة والمزارعة فذكر في تبرير ذلك:
(أن هذا مضمون وذلك غير مضمون). والنص يريد بهذا التعليل: أن المستأجر الثاني للأرض
الذي يستأجرها ممن كان قد استأجرها قبله_ أي من المستأجر الأول_ يضمن في عقد الإجارة
المستأجر الأول الأجرة المتفق عليها، فهي مضمونة بنفس العقد. وأما المزارع الذي يتسلم
الأرض من المستأجر بموجب عقد مزارعة ليعمل فيها. فهو لا يضمن في عقد المزارعة شيئاً
للمستأجر الأول فما يحصل عليه المستأجر الأول نتيجة لعقد المزارعة ليس مضموناً له في
نفس عقد المزارعة. فكأن النص أراد أن يقول أن التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر الأول
حين يؤجر الأرض بأكثر مما استأجرها به، مضمون لا تقر مكسباً مضموناً إلا في مقابل
عمل. وأما التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر، إذا زارع على الأرض بالنصف مثلاً، فهو
ليس مضموناً له بنفس عقد المزارعة، فلا يجب أن يسبق عقد المزارعة عمل المستأجر الأول في
الأرض يبرر هذا المكسب.(1/29)
(جـ) حديث إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام أنه قال:
إذا تقبلت أرضاً بذهب أو فضة، فلا تقبلها بأكثر من ذلك ، وإن تقبلتها
بالنصف والثلث، فلك أن تقبلها بأكثر مما تقبلتها به، لأن الذهب والفضة
مضمونان.
(د) عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت جعفر بن محمد
الصادق عليه السلام عن الرجل، استأجر من السلطان من أرض الخراج
بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه
النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح
له ذلك؟ قال نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل شيئاً يعينهم بذلك، فله
ذلك(1).
__________
(1) وتوضيح هذا النص: أن الشخص إذا كان قد استأجر أرضاً بمئة درهم، ودفعها إلى
زارع ليزرعها على أساس المشاركة في الناتج بنسبة مئوية ولنفرضها النصف، وزاد النصف
على مئة درهم، لم يجز للمستأجر أن يأخذ الزيادة ما لم يتفق عملاً في الأرض كحفر النهر ونحوه.
وقد لاحظ كثير من الفقهاء: أن هذا النص يؤدي إلى الغاء الفرق بين المزارعة والإجارة.
فكما لا يجوز للمستأجر إيجار الأرض بأقل والاستفادة من الفارق بين الأجرتين بدون عمل،
كذلك لا يجوز له_ بموجب هذا النص_ أن يحصل على الفارق نتيجة لعقد مزارعة أيضا.
ولأجل ذلك كان هذا النص يتعارض في رأيهم، مع النصين السابقين، إذ أكدا على الفرق
بين المزارعة والإجارة، وأن الفارق الناتج عن تفاوت أجرتين لا يجوز بغير عمل. وأما الفارق
الناتج عن تفاوت نسبتين مئويتين في مزارعتين فهو جائز.
ولكن الواقع هو أن النصوص متسقة، ولا تناقض بينها. وتوضيح ذلك بأساليب البحث
الفقهي: أن النصين السابقين يعالجان ناحية معينة، وهي التفاوت بين التفاوت بين اتفاق المستأجر مع المالك
واتفاقه مع عامله، والربح الذي يحصل عليه المستأجر الوسيط بين المالك والعامل المباشر نتيجة
لهذا التفاوت. ومعالجة النصين لهذه الناحية هي: أن الربح الذي يحصل عليه الشخص الوسيط
بين مالك الأرض والعامل المباشر فيها كان نتيجة للتفاوت بين مزارعتين، فهو مشروع ولو لم=(1/30)
قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم
. ... . ... . ... . ... . ... . ... . ... . ... .
= يكن الشخص الوسيط قد قام بأي عمل في الأرض قبل أن يزارع عامله بنسبة أقل. وأما إذا
كان نتيجة للتفاوت بين الاجارتين، فهو غير مشروع ما لم يكن المستأجر قد قام بعمل خاص
في الأرض قبل أن يؤجرها بأقل.
وأما النص الأخير في خبر الهاشمي فهو يعتبر عمل المستأجر الوسيط في الأرض_ كحفر
النهر ونحوه_ شرطاً في صحة المزارعة التي يتفق عليها مع العامل، وشرطاً بالتالي في جواز
تملك هذا المستأجر الوسيط للزيادة الناجمة عن التفاوت بين ما يعطي لمالك الأرض وما يأخذ من
العمل المباشر.
ولكي نعرف عدم تعارض هذا مع مدلول النصين السابقين يجب أن نعرف:
أولاً: أن العمل الذي اعتبره النص_ في خبر الهاشمي_ شرطاً لصحة المزارعة التي يتفق
عليها المستأجر الوسيط مع عامله إنما هو العمل بعد عقد المزارعة لا قبل ذلك، بدليل قوله:
(نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك). فإن الحفر لهم والعمل لهم
وإعانتهم بذلك معناه أن هذه الأعمال تتم بعد الاتفاق معهم على المزارعة. وأما إذا حفر المستأجر
في الأرض قبل أن يجد الأشخاص الذين يزارعهم، فلا يوصف هذا الحفر بأنه إعانة لهم وعمل
لحسابهم، فالعبارة تدل على أن العمل الذي جعل شرطاً في هذا النص هو العمل بعد العقد وأما
العمل الذي جعل شرطاً في النصين السابقين لصحة الإجارة يأجره أكبر فهو العمل من المستأجر
قبل أن يؤاجر الأرض بأزيد مما استأجرها به.
ثانياً: أن هذا النص لم تفترض فيه زيادة في العقد، وإنما حصلت الزيادة اتفاقاً، لأن
المستأجر كان قد استأجر الأرض بأجرة محددة، ثم اتفق مع عامل على أن يزرعها، ولكل
منهما النصف، والنصف قدر غير محدد بطبيعته وكان من الممكن أن ينقص عن الأجرة التي
دفعها المستأجر، كما كان بالامكان أن يساويها أو يزيد عليها فالزيادة التي يتحدث عنها النص(1/31)
ليست مفروضة في طبيعة العقد، لأن العقد بطبيعته لم يفرض على العامل المباشر أن يدفع إلى
المستأجر الوسيط أكثر من الأجرة التي دفعها هذا إلى المالك وإنما ألزم العامل في العقد بدفع نسبة
مئوية معينة من الناتج إلى المالك بقطع النظر عن كميتها، وزيادتها ونقصانها عن الأجرة التي
تسلمها المالك من المستأجر الوسيط. =
مسماة أو بطعام معلوم، فيؤاجرها قطعة أو جريباً لشيء معلوم،
فيكون له مضل فيما استأجر من السلطان ولا ينفق شيئاً، أو يؤاجر تلك
الأرض قطعاً على أن يعطيهم البذر والنفقة، فيكون له في ذلك فضل على
إجارته، وله تربة الأرض أو ليست له. فقال له: إذا استأجرت أرضاً،
فأنفقت فيها شيئاً، أو رممت فيها، فلا بأس بما ذكرت.
= وإذا لاحظنا هذين الأمرين، أمكننا القول بأن اشتراط العمل في هذا النص_ نص الهاشمي_
على المستأجر الوسيط بين المالك والعامل، ليس لأجل تبرير التي يحصل عليها المستأجر
الوسيط، نتيجة للفرق بين الأجرة التي دفعها إلى صاحب الأرض، والنسبة المئوية التي يتسلمها
من العامل المباشر ولنفرضها النصف مثلاً. بل إن اشتراط العمل على المستأجر الوسيط إنما هو
لتصحيح عقد المزارعة، وتوفير مقوماته الشرعية بما هو عقد خاص بقطع النظر عن الزيادة
والنقيصة. وذلك بناء على الزعم الفقهي القائل: إن المزارعة لا يكفي فيها أن يقدم صاحب
الأرض أرضه، بل لا بد لكي تكون صحيحة أن يتعهد بشيء آخر غير الأرض كما دل على ذلك
النص الفقهي الذي نقلناه عن الشيخ الطوسي في الفقرة الثالثة، إذ جعل البذر في هذا النص
الفقهي على صاحب الأرض. وفي الفرضية التي يعالجها النص الوارد في خبر الهاشمي لم يفترض
أن المستأجر الوسيط تعهد للعامل الذي زارعه بالبذر فكان لا بد أن يكلف بالمساهمة مع العامل
الذي يزارعه في العمل.
وينتج عن ذلك أن صاحب الأرض_ المالك لها رقبة أو منفعة_ حينما يزارع عاملاً،(1/32)
لا بد له من المساهمة مع العامل في العمل أو في البذر ونحوه من النفقة، ولا يكفي مجرد إعطائه
للأرض.
وتفسير نص الهاشمي في هذا الضوء لا يتعارض مع ظهوره اطلاقاً، ويحافظ على الفرق
بين المزارعة والإجارة كما قرره النصان السابقان، لأن العمل الذي يسوغ المستأجر أن يؤجر
الأرض بأكثر مما استأجرها هو العمل السابق على عقد الإجارة، وشأنه تصحيح التفاوت بين
الأجرتين. وأما العمل الذي يسوغ المستأجر أن يزارع غيره على الأرض بالنصف مثلاً، فهو
عمل يقوم به المستأجر الوسيط، بعد المزارعة، وشأنه تصحيح أصل المزارعة، لا تصحيح
التفاوت فحسب.
(هـ) حديث أبي بصير عن الصادق عليه السلام، أنه قال: إذا
تقبلت أرضاً بذهب أو فضة، فلا تقبلها بأكثر مما قبلتها به، لأن الذهب
والفضة مضمونان.
(و) حديث الحلبي عن الصادق عليه السلام، في الرجل يستأجر
الدار ثم يؤآجرها بأكثر مما استأجرها به. قال: لا يصلح ذلك إلا أن يحدث
فيها شيئاً.
(ز) في حديث إسحاق بن عمار، أن الإمام محمد الباقر عليه السلام
كان يقول: لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة، ثم
يؤآجرها بأكثر مما استأجرها به، إذا أصلح فيها شيئاً.
(حـ) روى سماعة قال: سألته (ع)، عن رجل اشترى مرعى
يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقل أو أكثر، فأراد أن يدخل معه من يرعى
معه فيه، قبل أن يدخله منهم الثمن؟ قال فليدخل من شاء ببعض ما أعطى،
وإن أدخل معه بتسعة وأربعين، وكانت غنمه بدرهم، فلا بأس وإن هو
رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك، بعد أن يبيّن
لهم، فلا بأس. وليس له أن يبيعه بخمسين درهما ويرعى معهم، ولا بأكثر
من خمسين درهما ولا يرعى معهم، إلا أن يكون قد عمل في المرعى عملاً،
حفر بئراً أو شق نهراً، تعنى فيه برضا أصحاب المرعى، فلا بأس ببيعه(1/33)
بأكثر مما اشتراه لأنه قد عمل فيه عملاً. فبذلك يصلح له(1).
وقد نقل الجزيري عن الفقهاء الاحناف أن الشخص إذا استأجر داراً
أو دكاناً بمبلغ معين كجنيه في الشهر فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة(2)
وهذا هو نفس الموقف الذي رأيناه لدى الفقهاء الأماميين.
وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه عن الشعبي في رجل استأجر بيتاً
وآجره بأكثر مما استأجره به إنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه
ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل وعلّق السرخسي على ذلك بقوله: بيّن أنه
إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً نحو فتح الباب وإخراج
المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف... وكان
إبراهيم يكره الفضل إلا أن يزيد فيه شيئاً فإن زاد فيه شيئاً طالب له الفضل
أخذنا بقول إبراهيم(3).
وكما لا يجوز لمن استأجر أرضاً أو أداة إنتاج أن يؤآجرها بأجرة أكبر،
كذلك لا يسمح له أيضاً أن يتفق مع شخص على إنجاز عمل بأجرة معينة
ثم يستأجر للقيام بذلك العمل أجيراً آخر لقاء مبلغ أقل من الأجرة التي ظفر
بها في الاتفاق الأول، ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأجرتين.
ففي رواية محمد بن مسلم أنه سأل الصادق عليه السلام عن الرجل
يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه، ويدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال: لا، إلا
أن يكون قد عمل شيئاً. وفي حديث آخر أن أبا حمزة سأل الإمام الباقر (ع)
عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه، ويدفعه إلى آخر يربح فيه؟ قال:
__________
(1) ليس المقصود بالبيع هنا المدلول الحقيقي الخاص لكلمة البيع، وذلك بقرينة قوله:
(إلا أن يكون قد عمل في المرعى.. برضا أصحاب المرعى). فإنه يدل على أن للمرعى أصحابه،
وهذا يتنافى مع افتراض أن الراعي قد اشتراه حقيقة. فيجب أن تفهم كلمة البيع بمعنى عام،
يمكن أن ينطبق على الإجارة.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 3 ص 117.
(3) المبسوط للسرخسي جـ 15 ص 78.(1/34)
لا وفي نص ثالث، سئل الإمام عليه السلام: عن الرجل الخياط يتقبل العمل
فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل؟ قال الإمام لا بأس قد عمل فيه. وعن
مجمع أنه قال: قلت لأبى عبد الله الصادق عليه السلام: أتقبل الثياب،
أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين؟ فقال: أليس تعمل فيها؟ فقلت:
اقطعها واشتري لها الخيوط. قال: لا بأس. وفي حديث أن صائغاً قال
لأبي عبد الله الصادق عليه السلام أتقبل العمل ثم اقبله من غلمان يعملون
معي بالثلثين؟ فأجاب الإمام عليه السلام: أن ذلك لا يصلح إلا بأن تعالج
معهم فيه(1).
النظرية:
درسنا في المجال النظري سابقاً العمل حين يمارس مادة غير مملوكة
بصوره مسبقة لشخص آخر، فاستطعنا أن نكتشف بكل وضوح أن النظرية
الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج تمنح الإنسان العامل في هذه الحالة كل
الثروة التي مارسها في عملية الإنتاج، ولا تشرك فيها العناصر المادية،
لأنها قوى تخدم الإنسان المنتج، وليست في مستواه فهي تتلقى مكافأتها من
الإنسان ولا تشترك معه في المنتوج.
ودرسنا أيضاً العمل حين يمارس مادة مملوكة لفرد آخر، كما إذا غزل
العامل الصوف الذي يملكه الراعي وعرفنا من رأي النظرية في هذه الحالة
أن المادة تظل ملكاً لصاحبها، وليس للعمل ولا لكل العناصر المادية التي
تساهم في عملية الإنتاج نصيب فيها، وإنما يجب على مالك المادة مكافأة تلك
العناصر على الخدمات التي قدمتها إليه في تطوير المادة وتحسينها.
ونريد الآن من خلال البناء العلوي الجديد أن ندرس هذه المكافأة التي
تحصل عليها العناصر أو مصادر الإنتاج في هذه الحالة، ونكتشف حدودها
ونوعيتها، وبالتالي أساسها النظري.
وبتحديد نوع المكافأة التي يسمح لمصادر الإنتاج_ من عمل وأرض
وأداة إنتاج ورأس مال_ بالحصول عليها نعرف المدى الذي سمح به
الإسلام من الكسب نتيجة لملكية أحد مصادر الإنتاج، وما هي المبررات
__________
(1) لاحظ هذه الأحاديث في الوسائل للحر العاملي جـ 13 ص 265_266.(1/35)
النظرية في الإسلام لهذا الكسب القائم على أساس ملكية تلك المصادر.
1_ تنسيق البناء العلوي:
ولنستخلص في عملية تنسيق للبناء العلوي الجديد النتائج العامة التي
يؤدي إليها، ثم نوحد بين تلك النتائج في مركب نظري مترابط.
فالعمل وفقاً لهذا البناء العلوي من التشريع الإسلامي قد سمح له بأسلوبين
لتحديد المكافأة التي يستحقها، وترك للعامل الحق في اختيار أيهما شاء.
أحدهما: أسلوب الأجرة. والآخر: أسلوب المشاركة في الأرباح أو
الناتج فمن حق العامل أن يطلب مالاً محدداً نوعاً وكماً مكافأة له على عمله،
كما يحق له أني طالب بإشراكه في الربح والناتج، ويتفق مع صاحب المال
على نسبة مئوية من الربح أو الناتج، تحدد لتكون مكافأة له على عمله،
ويمتاز الأسلوب الأول بعنصر الضمان، فالعامل إذا اقتنع، بأن يكافأ بقدر
محدد من المال_ وهذا القدر المحدد له بقطع النظر عن نتائج العمل وما يسفر عنه
الإنتاج في مكاسب أو خسائر. وإما إذا اقترح العامل أن يشارك صاحب
المال في الناتج والأرباح بنسبة مئوية بأمل الحصول عن هذا الطريق على
مكافأة أكبر، فقد ربط مصيره بالعملية التي يمارسها، وفقد بذلك الضمان،
إذ من المحتمل أن لا يحصل على شيء إذا لم يوجد ربح، ولكنه في مقابل
تنازله عن الضمان يفوز بمكافأة منفتحة، غير محددة تفوق الأجر المحدد
في أكثر الأحيان، لأن الربح أو الناتج كمية قد تزيد وقد تنقص، فتعيين
المكافأة على العمل في الربح أو الناتج بنسبة مئوية يعني تبعيتها في الزيادة
والنقصان. فلكل من الأسلوبين مزيته الخاصة.
وقد نظم الإسلام الأسلوب الأول_ الأجر_ بتشريع أحكام الإجارة،
كما رأينا في الفقرة الأولى. ونظم الأسلوب الثاني_ المشاركة في الربح أو
الناتج_ بتشريع أحكام المزارعة والمساقاة والمضاربة والجعالة، كما مر
في الفقرات 3و4و6و0، ففي عقد المزارعة يمكن للعامل أن يتفق مع صاحب
الأرض والبذر على استخدام الأرض في زراعة ذلك البذر، ومقاسمة الناتج(1/36)
بينهما. وفي عقد المساقاة يمكن للعامل أن يعقد مع صاحب الأشجار عقداً
يتعهد فيه بسقيها في مقابل منحه نسبة مئوية في الثمرة. وفي عقد المضاربة
يسمح للعامل بأن يتجر لصاحب المال ببضاعته على أن يقاسمه أرباح تلك
البضاعة. وفي الجعالة يجوز لتاجر الأخشاب مثلاً أن يعلن استعداده لمنح
أي شخص يصنع سريراً من تلك الأخشاب نصف قيمة السرير، فتصبح
مكافأة العامل بموجب ذلك مرتبطة بمصير العملية التي يمارسها.
وفي كلا الأسلوبين لتحديد مكافأة العامل لا يجوز لصاحب المال أن
يضع عليه شيئاً من الخسارة، بل يتحمل صاحب المال الخسارة كلها،
وحسب العامل من الخسارة إذا ارتبط معه على أساس المضاربة أن تضيع
جهوده سدى.
وأما أدوات الإنتاج_ أي الأشياء والآلات التي تستخدم خلال
العملية، كالمغزل والمحراث مثلاً إذ يستعملان في غزل الصوف وحرث
الأرض_ فمكافأتها تنحصر شرعاً في أسلوب واحد وهو الأجر، فإذا
أردت أن تستخدم محراثاً يملكه غيرك أو شبكة توجد عند شخص خاص،
فلك أن تستأجر المحراث أو الشبكة من صاحبها كما مر في الفقرة الثانية من
البناء العلوي المتقدم، وليس لصاحب المحراث أو الشبكة أن يطالب بمكافأة
عن طريق إشراكه في الأرباح. فالتمتع بنسبة مئوية من الربح الذي سمح
به للعمل حرمت منه أدوات الإنتاج فليس من حق مالك الأداة أن يضارب
عاملا عليها أي أن يدفع إليه شبكة الصيد مثلا ليصطاد بها ويشاركه في
الأرباح، كما رأينا في الفقرة (10) من البناء العلوي، كما لا يصلح لمن
يملك محراثاً وبقراً آلة زراعية أن يزارع عليها، فيدفعها إلى المزارع
ليستخدمها في عملياته ويقاسمه الناتج، كما سبق في الفقرة (3) من البناء،
إذ عرفنا من نص فقهي للشيخ الطوسي أن عقد المزارعة إنما يقوم بين
فردين، أحدهما يتقدم بالأرض والبذر والآخر يتقدم بالعمل، فلا يكفي
لإنجازه أن يقوم الأول بدفع أداة الإنتاج فحسب وكذلك الأمر في الجعالة(1/37)
أيضاً، التي كانت تسمح لصانع الأسرّة الخشبية أن يشارك صاحب الخشب
في الأرباح، كما تقدم في فقرة (10) فان صاحب الخشب يمكنه أن يجعل
نصف الأرباح لكل من يعمل من خشبه أسرة، ولكن لم يسمح له بجعالة
يمنح فيها نصف الأرباح لمن يزوده بأدوات الإنتاج، التي يحتاجها في تقطيع
الخشب وتركيب السرير منه، لأن الجعالة في الإسلام عبارة عن مكافأة
يحددها الشخص مسبقاً على عمل يودّ تحقيقه، وليس مكافأة على أي خدمة
مهما كان نوعها.
وعلى أي حال فأداة الإنتاج لا تساهم في الأرباح وإنما تتقاضى الأجور
فقط. فالكسب الناتج عن ملكية الأداة أضيق حدوداً من الكسب الناتج
عن العمل، لأنه ذو لون واحد بينما سمح للعمل بأسلوبين من الكسب.
وعلى العكس من أدوات الإنتاج رأس المال التجاري، فإنه لم يسمح
له بالكسب على أساس الأجور، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض نقده
بفائدة، أي أن يدفعه للعامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجراً على ذلك،
لأن الأجر يتمتع بميزة الضمان، وعدم الارتباط بنتائج العملية وما تكتنفها
من خسائر وأرباح، وهذا هو الربا المحرم شرعاً كما مر في فقرة (7) وإنما
يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن يدفع ماله إلى العامل ليتاجر به ويتحمل
وحده الخسارة بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت العملية ربحاً
فالمشاركة في الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي
سمح لرأس المال التجاري باتخاذه.
وبهذا نعرف أن أداة الإنتاج ورأس المال التجاري متعاكسان في الأسلوب
المشروع للكسب، فلكل منهما أسلوبه بينما يجمع العامل الاسلوبين.
وأما الأرض فهي كأداة الإنتاج يسمح لها بالكسب على أساس الأجور
ولا يسمح لها بالمشاركة في الناتج وأرباح العملية الزراعية.
صحيح أن صاحب الأرض في عقد المزارعة يساهم في الأرباح بنسبة
مئوية، ولكنا عرفنا من النص الفقهي للشيخ الطوسي في الفقرة (3) أن عقد
المزارعة إنما يسمح به بين شخصين أحدهما العامل والآخر هو الذي يقدم(1/38)
الأرض والبذر، فصاحب الأرض في عقد المزارعة هو مالك البذر أيضاً
على رأي الشيخ الطوسي_ كما يبدو من النص المتقدم_ وليست مشاركته
في الناتج على أساس الأرض، بل على أساس ملكيته للمادة وهي البذر.
2_ الكسب يقوم على أساس العمل المنفق:
ومن اليسير علينا بعد تنسيق البناء العلوي وتلخيص ظواهره العامة أن
نصل إلى الجانب المذهبي من النظرية، الذي يربط بين تلك الظواهر،
ويوحد بينها، وان نعرف القاعدة التي تفسر ألوان الكسب الناتج عن
ملكية مصادر الإنتاج، وتبرر السماح ببعضهما والمنع عن البعض الآخر.
والقاعدة التي تجمع كل تشريعات البناء العلوي على الكشف عنها أو
مواكبتها، وهي أن الكسب لا يقوم إلا على أساس إنفاق عمل خلال المشروع،
ويوحد بينها، وإن نعرف القاعدة التي تفسر ألوان الكسب الناتج عن
ملكية مصادر الإنتاج، وتبرر السماح ببعضهما والمنع عن البعض الآخر.
ولهذه القاعدة مدلولها الايجابي ومدلولها السلبي. فهي تقرر من ناحية
إيجابية أن الكسب على أساس العمل المنفق جائز. وتقرر من ناحية سلبية الغاء
الكسب الذي لا يقوم على أساس إنفاق عمل في المشروع.
3_ الناحية الايجابية من القاعدة:
والناحية الايجابية تعكس في أحكام الإجارة_ فقرة (1_2)_ فقد
سمح للأجير الذي يستأجر للعمل في مشروع معين، أن يحصل على أجرة
مكافأة له على عمله المنفق في ذلك المشروع.
وسمح لمن يملك أداة إنتاج أن يدفعها إلى فرد آخر لاستخدامها في
مشروعه لقاء أجر معين يحصل عليه مالك الأداة من صاحب المشروع،
نظراً إلى أن الأداة تجسد عملاً مختزناً يتحلل ويتفتت خلال استخدامها في
عملية الإنتاج، فالمغزل مثلاً تجسيد لعمل معين جعل من قطعة الخشب
الاعتيادية أداة للغزل. وهذا العمل المختزن فيه ينفق ويستهلك تدريجياً خلال
عمليات الغزل، فيكون لصاحب المغزل الحق في الحصول على كسب نتيجة
لاستهلاك العمل المختزن في الأداة، فالأجرة التي يحصل علهيا مالك الأداة(1/39)
هي من نوع الأجرة التي يحصل عليها الأجير. ومرد الأجرتين معاً إلى
كسب يقوم على أساس إنفاق عمل خلال المشروع مع فارق في نوع العمل
لأن العمل الذي ينفقه الأجير خلال المشروع عمل مباشر متصل به في لحظة
إنفاقه، فهو ينجز وينفق في وقت واحد وإما العمل الذي يستهلك وينفق
خلال استخدام أداة الإنتاج فهو عمل منفصل عن صاحب الأداة، قد تم
إنجازه وإعداده سابقاً لكي ينفق ويستهلك بعد ذلك في عمليات الإنتاج.
وبهذا نعرف أن العمل المنفق الذي اعتبرته النظرية مصدراً وحيداً للكسب
ليس هو العمل المباشر فحسب بل يشمل العمل المختزن أيضاً، فما دام هناك
إنفاق واستهلاك للعمل فمن حق صاحب العمل المنفق أن يحصل على المكافأة
التي يتفق عليها مع صاحب المشروع، سواء كان العمل الذي يستهلكه
المشروع مباشراً أم منفصلاً.
وعلى أساس هذا التحديد للعمل المنفق الذي يضم كلا النوعين نستطيع
أن نضيف إلى أدوات الإنتاج الدار التي سمح الإسلام لصاحبها بإيجارها
والحصول على كسب نظير انتفاع الآخرين بها، فإن الدار هي الأخرى
أيضاًُ مختزن لعمل سابق ناجز يستهلكه ويبدده الانتفاع بالدار ولو في مدى
بعيد فيكون لصاحب الدار الحق في الحصول على مكافأة لقاء العمل المختزن
في الدار الذي يستهلكه المستأجر خلال الانتفاع بها.
وكذلك أيضاً الأرض الزراعية التي يدفعها صاحبها إلى المزارع نظير
أجرة، فإن صاحب الأرض، يستمد حقه فيها من العمل الذي بذله عليها
لإحيائها وتذليل تربتها وإعدادها، ويزول حقه حين يستهلك هذا العمل
وتزول آثاره، كما مر في نصوص: فقهية متقدمة، فمن حقه مادام له
عمل مجسد وجهد مختزن في الأرض أن يتقاضى أجرة من المزارع لقاء
انتفاعه بها واستثماره لها لأن استغلال المزارع للأرض يستهلك شيئاً من
العمل الذي بذل فيها خلال عمليات الإحياء.
فالأجرة في الحدود المسموح بها في النظرية تقوم دائماً على أساس عمل(1/40)
لفرد يستهلكه آخر خلال مشروع فيدفع أجرة لصاحب العمل المستهلك في
مقابل ذلك، ولا فرق بين أجرة العمل وأجرة أدوات الإنتاج والعقار والأرض
الزراعية في هذا الأساس، وإن اختلفت طبيعة الصلة التي تربط صاحب
الأجرة بالعمل، فالعمل المأجور جهد مباشر يقوم الأجير بإيجاده واستهلاكه
لحساب صاحب المشروع خلال عملية الإنتاج، وأما العمل المختزن في أداة
الإنتاج مثلاً فهو جهد قد تم انفصاله عن العامل، واختزانه
في الأداة في زمان سابق، ولهذا يباشر استهلاكه خلال المشروع
شخص آخر غير العامل. فالأجرة التي يتسلمها الأجير هي أجرة على عمل
آني حققه واستهلكه الأجير بنفسه. والأجرة التي يتسلمها صاحب الأداة
هي في الحقيقة أجرة علي عمل سابق، اختزنه صاحب الأداة في أداته،
واستهلكه صاحب المشروع في عمليته.
هذا هو المدلول الايجابي للقاعدة التي تفسر الكسب الناتج عن ملكية
مصادر الإنتاج. وقد عرفنا أن هذا المدلول ينعكس في جميع المجالات التي
يسمح فيها بالأجرة والكسب نتيجة لملكية المصادر المنتجة.
4_ الناحية السلبية من القاعدة:
وأما المدلول السلبي الذي يلغي كل كسب لا يبرره عمل منفق خلال
العملية فهو واضح في النصوص والأحكام، فقد سبق في النص التشريعي
(ح) من الفقرة الثانية عشرة أن الراعي إذا اشترى مرعى بخمسين درهماً،
فليس له أن يبيعه بأكثر من خمسين، إلا أن يكون قد عمل في المرعى
عملاً، حفر بئراً أو شق نهراً أو تغنى فيه برضا أصحاب المرعى، فلا بأس
ببيعه بأكثر مما اشتراه، لأنه قد عمل فيه عملا فبذلك يصلح له.
وهذا النص يقرر المدلول السلبي للقاعدة بوضوح، لأنه يمنع الراعي
من الحصول على كسب نتيجة لبيع المرعى أو إيجاره بثمن يزيد على ما دفعه
إلى أصحاب المرعى الأولين بدون عمل ينفقه على المرعى، ولا يسمح له
بهذا الكسب أو الأجر ما لم يبذل جهداً يبرر حصوله عليه من حفر بئر أو
شق نهر وما إليها من أعمال.(1/41)
ويؤكد النص في النهاية أنه إذا عمل في المرعى عملا، فهو يستمد
مبرر كسبه والتفاوت الذي يحصل عليه من العمل الذي قدمه. (لأنه قد
عمل فيه عملا فبذلك يصلح له).
وكأن النص بهذا التعليل والربط بين الكسب والعمل أراد التأكيد على
المدلول السلبي للقاعدة، فبالعمل يصلح للراعي الحصول على كسب جديد
في مرعاه، ولا يصلح له ذلك بدون العمل. ومن الواضح أن هذا التعليل
يعطي النص معنى القاعدة، ولا يبقى مجرد حكم في قصة راعي ومرعى،
بل يمد مدلوله حتى يجعله أساساً عاماً للكسب(1).
فالكسب بموجب هذا النص لا يجوز بدون عمل مباشر، كعمل الأجير
أو منفصل مختزن، كما في أدوات الإنتاج والعقارات ونحوها.
وتشع هذه الحقيقة نفسها في النص_ ب_ من الفقرة (12) إذ منع
الشخص الذي يستأجر الأرض بألف درهم أن يؤآجرها بألفين من دون
عمل يبذله فيها. وأردف المنع بالقاعدة التي تفسره، والعلة العامة التي
يقوم على أساسها المنع، فقال: لأن هذا مضمون(2).
وبموجب هذا التعليل والتفسير، الذي يرتفع بالحكم عن وصفه حكماً
__________
(1) فهو نظير قول القائل لا تتبع زيداً في فتواه إلا إذا كان مجتهداًُ فإذا كان مجتهداً جاز
لك إتباع رأيه لأنه مجتهد فبسبب اجتهاده جاز لك إتباعه فان المفهوم عرفاً من هذا القول أن جواز
إتباع الرأي مرتبط دائماً بالاجتهاد فكما لا يجوز إتباع رأي زيد إذا لم يكن مجتهداً كذلك
لا يجوز إتباع رأي غيره في هذه الحالة وبكلمة أخرى أن العرف يلغي خصوصية مورد الحكم
المعلل بقرينة التعليل ويجعل الربط بين الكسب والعمل أو بين الإتباع والاجتهاد قاعدة عامة.
(2) : ومفصل النص كما يلي عن الحلبي قال: قلت للصادق اتقبل الأرض بالثلث أو الربع
فاقبلها بالنصف قال لا بأس به. قلت: فاتقبلها بألف درهم واقبلها بألفين قال لا يجوز لأن
هذا مضمون وذلك غير مضمون وقد سبق هذا النص في البناء العلوي.
( * ) راجع الملحق رقم (13).(1/42)
في واقعه إلى مستوى قاعدة عامة، لا يسمح لأي فرد بأن يضمن لنفسه
كسباً بدون عمل لأن العمل هو المبرر الأساسي للكسب في النظرية ( * ).
فالمدلول السلبي للقاعدة تقرره النصوص مباشرة، كما ترتبط به عدة
أحكام من البناء العلوي المتقدم.
فمن تلك الأحكام منع المستأجر للأرض أو الدار أو أي أداة إنتاج عن
إيجارها بأجرة أكبر مما كلفه استئجارها ما لم ينفق عليها عملاً، لأن ذلك
يجعله يكسب التفاوت بدون عمل منفق متصل أو منفصل. فإذا استأجر
الشخص داراً بعشرة دنانير وآجرها بعشرين، خرج من ذلك بعشرة دنانير
مكسباً خالصاً بدون عمل منفق فكان من الطبيعي الغاؤه على أساس القاعدة
التي اكتشفناها.
ومن الأحكام التي ترتبط بالقاعدة أيضاً منع الأجير عن استئجار غيره
للقيام بالمهمة التي استؤجر عليها بأجرة أقل مما حصل عليه كما مر في الفقرة
(12). فمن استؤجر لخياطة ثوب مثلا بعشرة دراهم لا يجوز له أن
يستأجر شخصاً آخر لهذه المهمة نظير ثمانية دراهم، لأن هذا يؤدى إلى
احتفاظه بالتفاوت بين الأجرتين، والحصول على درهمين بدون عمل،
فحرّمت الشريعة ذلك تطبيقاً للقاعدة بمدلولها السلبي، الذي يرفض ألوان
الكسب التي لا تقوم على أساس العمل. وإنما أجيز للخياط الذي استأجره
صاحب الثوب أن يستأجره غيره بثمانية دراهم للقيام بالمهمة ويحتفظ لنفسه
بدرهمين في حالة واحدة وهي ما إذا كان قد مارس بنفسه جزءاً من العملية،
وانجز مرحلة من الخياطة التي استؤجر عليها، ليكون الظفر بدرهمين نتيجة
لعمل منفق على الثوب.
وحكم ثالث نجده في البناء العلوي مرتبطاً أيضاً بالقاعدة ومدلولها السلبي،
وهو ما مر بنا في الفقرة السادسة من منع صاحب المال عن تضمين العامل في
عقد المضاربة، بمعنى أن التاجر إذا أراد أن يدفع رأس ماله التجاري_
كنقود وسلعة_ إلى عامل يتجر به على أساس اشتراكهما في الأرباح فليس
له أن يكلف العامل بتعويض عن الخسارة إذا اتفق وقوعها.(1/43)
وتوضيح هذا المعنى أن صاحب المال في سلوكه مع العامل بين طريقين:
أحدهما: أن يمنح ملكية المال التجاري للعامل بعوض محدد يدفعه العامل
بعد انتهائه من العملية التجارية، وفي هذه الحالة يصبح العامل ضامناً للعوض
المتفق عليه، ومسؤولاً عن دفعه_ مع توفر سائر الشروط الشرعية_
سواء أسفر عمله التجاري عن ربح أم مني بخسارة، لكن صاحب المال في
هذه الحالة لا يشارك العامل في الأرباح، وليس له حق إلا في العوض المتفق
عليه، لأن المال التجاري أصبح ملكاً للعامل، فالربح كله يعود إليه لأنه
هو الذي يملك المادة. ولهذا جاء في الحديث كما سبق في ف (12) أن من
ضمن تاجراً_ أي عاملاً يتجر بالمال_ فليس له إلا رأس ماله.
والطريق الآخر هو أن يحتفظ صاحب المال لنفسه بملكية المال التجاري
ويستخدم العامل للاتجار به على أساس اشتراكه في الربح. وفي هذه الحالة
يصبح لصاحب المال حق في الربح، لأن المال ماله، ولكن لا يجوز له
أن يكلف العامل في العقد بتعويض عن الخسارة. وهذا هو الحكم الذي
أشرنا إلى ارتباطه بالقاعدة التي نمارس الآن اكتشافها من خلال البناء
العلوي، وذلك لأن الخسارة في التجارة لا تعني استهلاك العامل خلال
العملية التجارية لعمل منفصل لصحاب المال كان قد اختزنه في ماله، كما
هي الحال بالنسبة إلى صاحب الدار أو أداة الإنتاج، الذي يجوز له السماح
لك بالانتفاع بداره أو أدواته واعتبارك ضامنا لما تستهلكه منها خلال الانتفاع،
فأنت شيئاً، وبالتالي تستهلك قسطاً من العمل المختزن فيها، فلصاحب الدار،
والأداة أن يطالبك بتعويض عما استهلكته، ويكون هذا التعويض الذي
يظفر به المالك منك قائماً على أساس عمل منفق. وأما حين تتسلم من
صاحب المال مئة دينار للاتجار بها على أساس اشتراكك في الربح، فتشتري
بها مئة قلم، ثم تضطر لهبوط ثمن القلم أو قيمته لأي سبب من الأسباب
إلى بيع الأقلام بتسعين ديناراً، فأنت غير مسؤول عن هذه الخسارة،(1/44)
ولا مكلف بدفع تعويض عن القدر الذي تفتت من المال، لأن هذا التفتت
ليس نتيجة لاستهلاكك شيئاً من المال ومن العمل المخزون فيه خلال العملية
التجارية، وإنما هو نتيجة لهبوط القيمة التبادلية للأقلام، أو تنزل أسعارها
في السوق، فليست المسألة هنا مسألة عمل مختزن لشخص استهلكته وأنفقته
خلال انتفاعك به لكي يجب عليك تعويضه عنه، بل العمل المختزن
في المال التجاري لا يزال كما هو لم يتفتت ولم يستهلك، وإنما نقصت قيمته،
أو انخفض سعره، فليس لصاحب المال عليك أن تعوّضه، إذ لو حصل
على شيء منك نظير ذلك لكان كسباً بدون عمل منفق، ولأدى إلى حصوله
على كسب منك بدون أن تستهلك من عمله شيئاً خلال الانتفاع، وهذا
ما ترفضه القاعدة في مدلولها السلبي.
5_ ربط حرمة الربا بالناحية السلبية:
وكما يرتبط المنع عن فرض الضمان على العامل بالمدلول السلبي للقاعدة
التي ندرسها، كذلك يمكننا أن نعتبر أيضاً حرمة الربا لبنة العلوي الذي
يرتكز على هذا المدلول السلبي للقاعدة، بل إن حرمة الربا من أهم أجزاء
ذلك البناء، وقد مرت بنا حرمة الربا في فقرة (9) من البناء العلوي المتقدم
التي شرحت لنا تحريم الإسلام كل لون من ألوان القرض بفائدة. والفائدة
تعتبر في العرف الرأسمالي الذي يسمح بها أجرة رأس المال النقدي الذي
يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها لقاء أجر سنوي يحدد بنسبة
مئوية من المال المسلف، ويطلق على هذا الأجر إسم الفائدة. ولا يختلف
في مفهومه القانوني كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات
وأدوات الإنتاج نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات. فكما يمكنك أن
تستأجر داراً تسكنها برهة من الوقت ثم تدفعها إلى صاحبها مع أجرة معينة،
كذلك يسمح لك في العرف الذي يؤمن بالفائدة أن تقترض كمية من النقد
لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثم تدفع نفس الكمية أو كمية
مماثلة مع أجرة محددة إلى الشخص الذي استقرضت المال منه.(1/45)
والإسلام بتحريمه لقرض الفائدة وسماحه بالكسب الناتج عن إيجار
العقارات وأدوات الإنتاج كشف لنا عن فرق نظري بين رأس المال النقدي
وبين أدوات الإنتاج والعقارات. وهذا الفرق يجب تفسيره في ضوء النظرية،
وعلى أساس القاعدة التي نمارس الآن اكتشافها، لنعرف السبب الذي دعا
المذهب الاقتصادي إلى إلغاء أجرة رأس المال أو بكلمة أخرى الغاء الكسب
المضمون الناتج من ملكية رأس المال النقدي، بينما يسمح بأجرة أدوات
الإنتاج ويبيح الكسب المضمون الناتج عن ملكية هذه الأدوات. فلماذا
جاز لمالك الأداة أن يجني من ورائها وعن طريق إيجارها كسباً مضموناً دون
عناء، ولم يجز للرأسمالي أن يجني من وراء نقده وعن طريق إقراضه كسباً
مضموناً دون عناء؟ هذا السؤال الذي تحتم علينا الجواب عنه فعلاً.
والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال لا يتوقف على أكثر من الرجوع
إلى القاعدة بصيغتها التي اكتشفناها وبمدلولها الإيجابي والسلبي. فالكسب
المضمون_ الأجر_ الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج يندرج في المدلول
الإيجابي للقاعدة لأن الأداة مختزن لعمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق
في استهلاك قسط منه خلال استخدام الأداة في عملية الإنتاج التي يباشرها
فالأجرة التي يدفعها إلى صاحب الأداة في الحقيقة هي أجرة على عمل سابق
وبالتالي تعتبر كسباً يقوم على أساس عمل منفق، فيجوز وفقاً للقاعدة في
مدلولها الإيجابي. وأما الكسب المضمون الناتج عن ملكية رأس المال النقدي
_ الفائدة_ فليس ما يبرره نظرياً، لأن التاجر الذي يستقرض ألف دينار
لمشروع تجاري بفائدة معينة سوف يدفع ألف دينار في الوقت المحدد إلى
الدائن دون أن يستهلك منها ذرة. وفي هذه الحال تصبح الفائدة كسباً غير
مشروع لأنه لا يقوم على أساس أي عمل منفق فيندرج في المدلول السلبي
للقائدة.
وهكذا نعرف أن الفرق بين الفائدة على رأس المال النقدي وبين الأجرة
على أدوات الإنتاج في التشريع الإسلامي ناتج عن اختلاف بين طبيعة(1/46)
الانتفاع برأس المال المسلف وطبيعة الانتفاع بأدوات الإنتاج المستأجرة.
فانتفاع المقترض برأس المال لا يؤدي بطبيعته إلى استهلاك شيء منه أومن العمل
المتجسد فيه، لأنه مسؤول بحكم عقد القرض عن دفع المبلغ في الوقت
المحدد والنقد الذي يدفع وفاء القرض في قوة النقد المقترض دون أي تفاوت.
وأما انتفاع المستأجر بالأداة التي استأجرها خلال عملية الإنتاج مثلا فهو
يؤدى إلى استهلاكها بدرجة ما، استهلاك العمل المجسد فيها، ولأجل
ذلك كان لصاحب الأداة أن يحصل على كسب عن طريق إيجار الأداة
بسبب العمل المنفق والجهد المستهلك خلال استخدام الأداة، ولم يكن
للرأسمالي أن يحصل على كسب من هذا القبيل لأنه يسترجع ماله كما هو
بدون استهلاك.
ويمكننا أن نضيف إلى مجموعة الأحكام التي قدمناها للكشف عن
الترابط بين البناء والنظرية حكماً آخر، سبق أن تقدم في فقرة (6)، وهو
الحكم الذي يقضي بعدم السماح للعامل في عقد المضاربة بالانفاق مع عامل
آخر على أن يقوم الأخير بالعمل لقاء نسبة مئوية من الأرباح أقل من النسبة
التي حصل عليها العامل الأول. ومن الواضح أن المنع عن هذه العملية يتفق
كل الاتفاق مع المدلول السلبي للقاعدة التي نمارس اكتشافها، وهو رفض
الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل المنفق، لأن العامل الأول حين
ينجز العملية الآنفة الذكر كسباً بدون عمل منفق، فمن الطبيعي أن يلغى وفقاً
للقاعدة العامة.
6_ لماذا لا تشترك وسائل الإنتاج في الربح:
بقي علينا أن نواجه سؤالاً أخيراً بشأن أحكام المشاركة في الأرباح
من البناء العلوي المتقدم. ولنمهد لهذا السؤال باستخلاص المعلومات التي
اكتشفناها حتى الآن. فقد عرفنا أن الكسب لا يسمح به في نظرية توزيع
ما بعد الإنتاج في الإسلام إلا على أساس العمل المنفق. والعمل المنفق
نوعان: عمل مباشر يوجد وينفق في وقت واحد كعمل الأجير وعمل
منفصل مختزن يوجد بصورة مسبقة وينفق خلال انفتاع المستأجر به،(1/47)
كالعمل المختزن في الدار أو أداة الإنتاج الذي ينفق ويستهلك خلال سكنى
المستأجر فيها والانتفاع بها. وعرفنا أيضاً أن ملكية رأس المال النقدي ليست
مصدراً للكسب، ولأجل ذلك كان القرض بالفائدة محرماً لأن الفائدة
لا تقوم على أساس عمل منفق واستطعنا أن نستوعب جميع ألوان الأجور
الثابتة، ما كان منها جائزاً كأجرة الدار، وما كان منها محرماً كالفائدة
الربوية، ونطبق القاعدة بنجاح عليها بمدلولها الإيجابي والسلبي، ولكنا لم
نقل حتى الآن شيئاً عن تفسير غير الأجور الثابتة من ألوان الكسب التي
عرضها البناء العلوي المتقدم، وأعني بذلك المشاركة في الربح، وربط
المصير بنتائج العملية من فوز أو خسران، فالعامل في عقد المضاربة ليس له
أجر ثابت يتقاضاه على كل حال من صاحب المال، وإنما هو شريك في
الأرباح، فكسبه يتحدد ويتمدد وفقاً لنتائج العملية، وكذلك العامل في
عقد المزارعة أو في عقد المساقاة، فقد سمح له بالكسب على أساس المشاركة
في الأرباح أو الناتج، كما سبق في فقرات (6‚3‚4) ولأجل هذا قلنا
في مستهل البحث أن العمل قد سمح له بنوعين من الكسب: أحدهما الأجر
والآخر المشاركة في الربح.
كما أن صاحب المال التجاري في عقد المضاربة، وصاحب الأرض
في عقد المزارعة، وصاحب الشجر والاغصان في عقد المساقاة، قد سمح
لهم أيضاً بالكسب على أساس الربح، فلكل منهم نصيبه من الربح تبعاً
لما يتفق عليه في تلك العقود كما سبق في الفقرات التي أشرنا إليها آنفاً.
وفي مقابل هذا حرمت أدوات الإنتاج من المشاركة في الربح، ولم
تسمح لها الشريعة بالكسب على هذا الأساس، وإنما أعطتها فرصة الكسب على
أساس الأجر الثابت. فمن يملك أداة الإنتاج ليس له أن يدفعها إلى العامل
على أساس المشاركة في الناتج أو الربح كما سبق في فقرة (11) من البناء
العلوي المتقدم، التي جاء فيها أن من يملك شبكة صيد أو أي آلة أخرى(1/48)
لا يجوز دفعها إلى العامل على أساس المشاركة فيما يصطاد، فإذا اصطاد بها
العامل شيئاً كان الصيد كله له ولم يكن لصاحب الشبكة شيء منه.
فهذه ظواهر واضحة في البناء العلوي. ومن حق البحث علينا أن نطرح
بشأنها السؤال التالي:
لماذا سمح للعمل بالكسب على أساس المشاركة في الربح، ولم يسمح
بذلك لأدوات الإنتاج؟ وكيف حرمت أدوات الإنتاج من هذا اللون من
الكسب بينما أتيح لصاحب المال التجاري أو صاحب الأرض أو صاحب
الشجر أن يحصل عليه؟
والحقيقة أن الفرق بين العمل وأدوات الإنتاج، الذي يسمح للعمل
بالمشاركة في الناتج دون وسائل الإنتاج ينبع من نظرية توزيع ما قبل الإنتاج،
فقد عرفنا في تلك النظرية أن العمل_ ممارسة أعمال الانتفاع والاستثمار_
هو السبب العام للحقوق الخاصة في ثروات الطبيعة الخام، ولا يوجد من
وجهة نظر المذهب الاقتصادي سبب آخر للملكية واكتساب الحق الخاص
فيها. كما عرفنا أيضاً أن الثروة الطبيعية إذا اكتسب فيها الفرد حقاً خاصاً
بممارسة العمل ظل حقه ثابتاً مادام نوع العمل الذي اكتسب على أساسه
الحق باقياً. وفي هذه الحال لا يسمح لفرد آخر باكتساب حق خاص في
تلك الثروة بإنفاق عمل جديد كما شرحته نظرية توزيع ما قبل الإنتاج بكل
تفصيل. ولكن هذا لا يعني أن العمل الجديد يختلف بطبيعته عن العمل الأول
بل إن كلا منهما يعتبر بمفرده سبباً كافياً لتملك العامل للمادة التي عمل
فيها. وإنما جرد العمل الجديد من التأثير باعتباره سبق العمل الأول زمنياً
وتأثيره قبل ذلك في تملك العامل الأول للمادة فحق العامل الأول بسبب
سبقه الزمني هو الذي يعزل العمل الثاني عن التأثير. ولأجل هذا يصبح
من الطبيعي أن يستعيد العمل الثاني تأثيره ويؤدي مفعوله إذا تخلى العامل عن
حقه وهذا هو ما يحدث تماماً في عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة والجعالة
ففي عقد المزارعة مثلا ينفق العامل جهداً ويمارس عملا في استغلال البذر(1/49)
وتطويره إلى زرع. وهذا العمل الذي يمارسه إنما لا يعطيه حق ملكية الزرع
لأن المادة التي يمارس عمله فيها_ البذر_ مملوكة لشخص سابق، وهو
صاحب الأرض. فإذا سمح صاحب الأرض للعامل في عقد المزارعة بأن
يقتطف ثمار عمله وتنازل عن حقه في نصف المادة مثلاً، لم يبق ما يحول
عن تملك العامل لنصف الزرع.
وعلى هذا الأساس نعرف أن مشاركة العامل في الناتج هي في الحقيقة
تعبير عن دور العمل الذي يمارسه في المادة_ البذر أو الشجر أو المال
التجاري مثلا_ وعن الحق الذي ينتج عن ممارسته بموجب النظرية العامة
لتوزيع ما قبل الإنتاج. وإنما يعطل هذا الدور أو الحق أحياناً بسبب دور أو
حق سابق زمنياً يتمتع به شخص آخر. فإذا تنازل هذا الشخص عن حقه في
عقد كعقد المزارعة وغيرها من عقود الشركة بين العامل وصاحب المال،
لم يعد ما يمنع عن إعطاء العامل حقه في المادة_ وفي حدود تنازل مالكها
السابق_ نتيجة لممارسة العمل فيها.
وأما أدوات الإنتاج فهي تختلف أساسياً عن العمل الذي يمارسه العامل
بموجب تلك العقود. فإن الزارع الذي ارتبط مع صاحب الأرض والبذر
بعقد مزارعة يمارس عملاً وينفق جهداً حلال عملية الزرع، فيكون من
حقه أن يملكه في الحدود التي سمح بها في العقد، وأما مالك الشبكة الذي
يدفعها إلى الصياد ليصطاد بها فهو لا يمارس عملاً في عملية الصيد، ولا
ينفق جهداً في الاستيلاء على الحيوان، وإنما الذي يمارس العمل وينفق الجهد
هو الصياد وحده، فلا يوجد إذن مبرر لاكتساب صاحب الشبكة حق
ملكية الصيد، لأن المبرر لذلك هو ممارسة العمل، وصاحب الشبكة لم
يمارس عملاً في الصيد ليحصل على هذا الحق وسماح الصياد له بهذا الحق
لا يكفي لمنحه إياه ما دام لا ينطبق على النظرية العامة في التوزيع، فليس
حق الصياد هنا هو الذي يحول دون تملك صاحب الشبكة للصيد وإنما الذي
يحول دون ذلك هو عدم وجود المبرر النظري.(1/50)
وهكذا نعرف الفرق من هذه الناحية بين العمل المباشر والعمل المختزن
فالعمل المباشر ممارسة من العامل للمادة تبرر تملكه لشيء منها، إذا تنازل
مالكها السابق عن حق السبق الزمني. وأما العمل المخزن في أداة الإنتاج
فهو ليس ممارسة من صاحب الأداة في العملية، فلا يكون له حق الملكية في
المادة سواء تنازل الممارس للعمل_ الصياد مثلاً_ عن حقه أم لا وإنما
له حق الأجرة كمكافأة وتعويض عما تبدد من عمله المختزن خلال العملية.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن ندرك أيضاً الفرق بين أصحاب أدوات
الإنتاج الذين لم يسمح لهم بالمشاركة في الناتج، وبين صاحب الأرض في
عقد المزارعة، وصاحب المال التجاري في عقد المضاربة، ونحوهما ممن
يسمح له بنصيب من الربح، فإن هؤلاء المالكين الذين سمح لهم بنصيب
من الربح أو الناتج يملكون في الحقيقة المادة التي يمارسها العامل. فصاحب
الأرض يملك البذر الذي يزرعه العامل(1) وصاحب المال التجاري
يملك السلعة التي يتجر بها العامل، وقد عرفنا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج
أن ملكية شخص للمادة لا تزول بتطوير تلك المادة من قبل شخص آخر أو
منحها منافع جديدة. فمن الطبيعي أن يصبح لصاحب البذر أو المال حقه
في الناتج أو الربح مادام يملك المادة التي يمارسها العامل.
واستقراء الحالات التي سمح فيها للمالك بتملك الناتج والربح كما في
المزارعة والمضاربة والمساقاة ونحوها يدعم صحة التفسير الذي نتقدم به لهذه
الملكية لأن جميع تلك الحالات تشترك في ظاهرة واحدة وهي أن المادة
التي يمارسها العامل ملك لصاحب المال بصورة مسبقة.
__________
(1) بموجب النص الفقهي المتقدم عن الشيخ الطوسي.(1/51)
الملاحظات
1_ دور المخاطرة في الاقتصاد الإسلامي
إن الاكتشافات التي مرت عن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج، تقرر
بوضوح أن النظرية لا تعترف بالمخاطرة بوصفها عاملاً من عوامل الكسب،
وليس في ألوان الكسب التي سمحت بها النظرية ما يستمد مبرره النظري
من عنصر المخاطرة.
فان المخاطرة في الحقيقة ليست سلعة يقدمها المخاطر إلى غير ليطالب
بثمنها، ولا عملاً ينفقه الخاطر على مادة ليكون من حقه تملكها أو المطالبة
بأجر على ذلك من مالكها، وإنما هي حالة شعورية خاصة تغمر الإنسان
وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه، فإما أن يتراجع انسياقاً مع
خوفه، وإما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه، فيكون هو
الذي رسم لنفسه الطريق، واختار بملء ارادته تحمل مشاكل الخوف
بالإقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلاً، فليس من حقه أن يطالب بعد
ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتياً وليس عملا مجسداً
في مادة ولا سلعة منتجة.
صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الأحيان، قد يكون ذا أهمية
كبيرة من الناحية النفسية والخلقية، ولكن التقييم الخلقي شيء، والتقييم
الاقتصادي شيء آخر.
وقد وقع الكثير في الخطأ تأثراً بالتفكير الرأسمالي المذهبي، الذي
يتجه إلى تفسير الربح وتبريره على أساس المخاطرة، فقالوا: إن الربح
المسموح به لصاحب المال به عقد المضاربة يقوم على أساس الخاطرة نظرياً
لأن صاحب المال وإن كان لم ينفق عملا ولكنه تحمل أعباء المخاطرة وعرض
نفسه للخسارة بدفعه المال إلى العامل ليتجر به فكان على العامل أن يكافئه
على مخاطرته بنسبة مئوية من الربح يتفقان عليها في عقد المضاربة.
ولكن الحقيقة كما جلتها البحوث السابقة، هي أن الربح الذي يحصل
عليه المالك نتيجة لاتجار العامل بأمواله، ليس قائماً على أساس المخاطرة
وإنما يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للسعلة التي اتجر بها العامل. فان(1/1)
هذه السلعة وإن كانت قيمتها تزداد غالباً بالعمل التجاري الذي ينفقه العامل
عليها، من نقلها إلى السوق وإعدادها بين أيدي المستهلكين، ولكنها تبقى
مع ذلك ملكاً لصاحب المال، لأن كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها
بتطوير شخص آخر لها. وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية.
فحق صاحب المال في الربح نتيجة لملكيته للمادة التي مارسها العامل
وربح عن طريق بيعها، فهو نظير حق مالك اللوح في السرير الذي يصنع من
لوحه.
ولأجل هذا يعتبر الربح من حق صاحب المال ولو لم يمارس نفسياً أي
لون من ألوان الخاطرة، كما إذا أتجر شخص بأموال فرد آخر دون علمه
وربح في تجارته، فإن بامكان صاحب المال في هذه الحالة أن يوافق على
ذلك ويستولي على الأرباح، كما أن من حقه أن يعترض ويستحصل على
ماله أو ما يساويه من العامل.
فاستيلاء المالك على الأرباح في هذا المثال لا يقوم على أساس المخاطرة
لأن ماله مضمون على أي حال. وإنما خاطر العامل باقدامه على ضمان المال
والتعويض عنه في حالة الخسارة.
وهذا يعني أن حق صاحب المال في الربح ليس من الناحية النظرية
نتيجة للمخاطرة، ولا تعويضاً عنها، أو مكافأة لصاحب المال على مقاومته
لمخاوفه، كما نقرأ عادة لكتّاب الرأسمالية التقليدية الذين يحاولون أن يضفوا
على المخاطرة سمات البطولة، ويجعلوا منها سبباً مبرراً للحصول على كسب
في مستوى هذه البطولة.
وهناك عدة ظواهر في الشريعة تبرهن على موقفها السلبي من المخاطرة،
وعدم الاعتراف لها بدور إيجابي في تبرير الكسب.
فالفائدة الربوية مثلا قد اعتاد الكثير على تبريرها وتفسيرها بعنصر
المخاطرة، الذي يشتمل عليه القرض_ كما سنتناول ذلك في الملاحظة الآتية_
لأن إقراض الدائن لماله نوع من المغامرة التي قد تفقده ماله، إذا عجز المدين
في المستقبل عن الوفاء وتنكب له الحظ، فلا يظفر الدائن بشيء. فكان من
حقه أن يحصل على أجر ومكافأة له على مغامرته بماله لأجل المدين. وهذه(1/2)
المكافأة هي الفائدة.
والإسلام لم يقر هذا اللون من التفكير، ولم يجد في المخاطرة المزعومة
مبرراً للفائدة التي يحصل عليها صاحب المال من المدين. ولهذا حرّمها
تحريماً حاسماً.
وحرمة القمار وتحريم الكسب القائم على أساسه جانب آخر من جوانب
الشريعة التي تبرهن على موقفها السلبي من عنصر المخاطرة. لأن الكسب
الناتج عن المقامرة لا يقوم على أساس عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار،
وإنما يرتكز على أساس المخاطرة وحدها، فالفائز يحصل على الرهان لأنه
غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه، إذا خسر الصفقة.
ويمكننا أن نضيف إلى إلغاء القمار، والغاء الشركة في الابدان أيضاً،
فقد نص كثير من الفقهاء على بطلانها، كالمحقق الحلي في الشرائع وابن
حزم في المحلى.
ويريدون بهذه الشركة أن يتفق اثنان أو أكثر على ممارسة كل واحد
منهم عمله الخاص، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب، كما إذا
قرر طبيبان أن يمارس كل واحد منهما عمله في عيادته، ويحصل في نهاية
الشهر مثلاً على نصف مجموع الأجور التي كسبها الطبيبان معاً خلال
ذلك الشهر.
والغاء هذه الشركة يتفق مع الموقف السلبي العام للشريعة من عنصر
المخاطرة: لأن الكسب فيها يقوم على أساس المخاطرة لا العمل. فالطبيبان
في المثال المتقدم إنما يقدمان على هذا النوع من الشركة، لأنهما لا يعلمان
سلفاً كمية الأجور التي سوف يحصلان عليها. فكل واحد منهما يحتمل أن
أجور صاحبه سوف تزيد على أجوره. كما يحتمل العكس، ولهذا يقدم
على الشركة موطناً نفسه على التنازل عن شيء من أجوره إذا زادت على
أجور صاحبه في سبيل أن يحصل على شيء من أجور صاحبه في حالة تفوق
شريكه عليه. ونتيجة لذلك يكون من حق الطبيب الأقل دخلاً أن يحصل
على جزء من كسب الطبيب الآخر وثمار عمله، لأنه غامر في البدء وأقدم
على دفع شيء من كسبه، إذا اختلفت النتيجة. وهذا يعني أن كسب
الطبيب الأقل دخلا ينبع من عنصر المخاطرة، ولا يرتكز على عمل منفق(1/3)
فالغاء الشريعة له وحكمها ببطلان شركة الابدان تؤكد مفهومها السلبي
عن المخاطرة.
2_ المبررات الرأسمالية للفائدة ونقدها
مر بنا قبل لحظة أن المخاطرة التي يقف منها الإسلام موقفاً سلبياً، هي
أحد المبررات التي استندت إليها الرأسمالية لتفسير الفائدة وحق الرأسمالي
في فرضها على المدين.
وعرفنا أيضاً أن تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة خطأ من الأساس في
نظر الإسلام. لأنه لا يعتبر المخاطرة أساساً مشروعاً للكسب، وإنما يربط
الكسب بالعمل المباشر أو المختزن.
والرأسمالية في تبريرها هذا للفائدة تتناسى دور الرهن في ضمان المال
للدائن وازالة عنصر الخاطرة من علمية القرض، فما رأيها في القروض
المدعمة برهن وضمانات كافية؟.
ولم يقتصر المفكرون الرأسماليون على ربط الفائدة بعنصر المخاطرة
وتفسيرها في هذا الضوء، بل قدموا لها عدة تفسيرات لتبريرها من الناحية
المذهبية.
فقد قال بعض المفكرين الرأسماليين، أن الفائدة يدفعها المدين إلى
الرأسمالي تعويضاً له عن حرمانه من الانتفاع بالمال المسلف، ومكافأة له
على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرة يتقاضاها الرأسمالي نظير
انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجرة التي يحصل عليها مالك
الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.
ونحن ندرك في ضوء النظرية الإسلامية_ كما حددناها_ التناقض
بين هذه المحاولة وطريقة التفكير الإسلامي في التوزيع. لأننا عرفنا أن
الإسلام لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلا على أساس انفاق
عمل مباشر أو مختزن. وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه
المقترض ليدفع إليه أجرة ذلك، مادام المال المقترض سوف يعود إلى
الرأسمالي، دون أن يتفتت أو يستهلك منه شيء، فلا مبرر إسلامياً للاعتراف
بالفائدة، لأن الكسب بدون عمل منفق يتعارض مع تصورات الإسلام
عن العدالة.
وهناك من يبرر الفائدة بوصفها تعبيراً عن حق الرأسمالي في شيء من(1/4)
الأرباح، التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال.
وهذا القول لا موضع له في القروض التي ينفقها المدين على حاجاته
الشخصية، ولا يربح بسببها شيئاً، وإنما يبرهن على جواز حصول الرأسمالي
على شيء من الأرباح حين يدفع المال إلى من يتجر به ويستثمره. وفي هذه
الحالة يقر الإسلام حق الرأسمالي في ذلك، ولكن هذا الحق يعني اشتراك
صاحب المال والعامل في الأرباح، وربط حق الرأسمالي بنتائج العملية.
وهو معنى المضاربة في الإسلام التي يتحمل فيها الرأسمالي الخسارة وحدها،
ويشارك العامل في الأرباح، إذا حصلت بنسبة مئوية يتفقان عليها في العقد.
وهذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي
تضمن له أجر منفصلاً عن نتائج العملية التجارية.
وجاءت الرأسمالية أخيراً على يد بعض رجالاتها بأقوى مبرراتها للفائدة،
إذ فسرتها بوصفها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع
المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً إيجابياً في تكوين القيمة، فالقيمة
التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل، فإذا أقرضت
غيرك ديناراً إلى سنة، كان من حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من
دينار، لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته،
وكلما بعد ميعاد الوفاء ازدادت الفائدة التي يستحقها الرأسمالي تبعاً لازدياد
الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل، بامتداد الفاصل الزمني بينها وابتعاده.
والفكرة في هذا التبرير الرأسمالي، تقوم على أساس خاطىء. وهو
ربط توزيع ما بعد الإنتاج بنظرية القيمة. فإن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج
في الإسلام منفصلة عن نظرية القيمة. ولهذا رأينا أن كثيراً من العناصر التي
تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة، ليس لها نصيب من تلك السلعة
في التوزيع الإسلامي، وإنما لها أجور تتقاضاها من صاحب السلعة، نظير
خدماتها له في عملية الإنتاج.(1/5)
فالتوزيع على الأفراد في الإسلام لا يرتكز على أساس القيمة التبادلية،
لكي يمنح كل عنصر من عناصر الإنتاج نصيباً من الناتج يتفق مع دوره في
تكوين القيمة التبادلية، وإنما يرتبط توزيع الثروة المنتجة في الإسلام بمفاهيمه
المذهبية وتصوراته عن العدالة.
فلا يجب من وجهة نظر الإسلام أن يدفع إلى الرأسمالي فائدة على
القرض حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل، لأن
هذا لا يكفي مذهبياً لتبرير الفائدة الربوية التي تعبر عن الفارق بين القيمتين،
ما لم تنفق الفائدة مع التصورات التي يتبناها المذهب عن العدالة.
وقد عرفنا سابقاً أن الإسلام لا يقر من الناحية المذهبية كسباً لا يبرره انفاق
عمل مباشر أو مختزن. والفائدة من هذا القبيل لأنها تبعاً للتفسير الرأسمالي
الأخير نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق. فمن حق المذهب أن
يمنع الرأسمالي عن استغلال الزمن في الحصول على كسب ربوي حتى لو
اعترف المذهب بدور إيجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة.
وهكذا نعرف أن ربط عدالة التوزيع والنظرية القيمة خطأ، وهذا الخطأ
يعبر عن عدم التمييز بين البحث المذهبي والبحث العلمي.
3_ التحديد من سيطرة المالك على الانتفاع
في الإسلام تحديدات متعددة لسيطرة المالك على التصرف في ماله وهذه
التحديدات تختلف مصادرها النظرية، فبعضها نابع عن نظرية توزع ما قبل
الإنتاج، كالتحديد الزمني لسيطرة المالك على ماله بامتداد حياته، ومنعه
عن تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته، كما سبق في بحوث تلك
النظرية.
وبعض تلك التحديدات، نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج، كالتحديد
من سيطرة الرأسمالي على رأس المال الذي يملكه، بمنعه من الاكتساب به
على أساس ربوي، وعدم السماح له بقروض الفائدة، فإن هذا التحديد قد
نشأ نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج، التي اشتملت على ربط الكسب
بالعمل المنفق_ المباشر أو المختزن_ كما رأينا قبل قليل.(1/6)
وهناك تحديدات في الاقتصاد الإسلامي، ترتبط بالمفهوم الديني والخلقي عن
الملكية الخاصة، فإن حق الفرد في التملك ينظر إليه دينياً وخلقياً بوصفه
نتيجة لعضوية الفرد في الجماعة التي أعد الله الطبيعة وثرواتها لها وفي خدمتها،
فلا يجوز أن تنتقض الملكية الخاصة على أساسها، وتصبح عاملا من عوامل
الاضرار بالجماعة وسوء حالها، لأنها بذلك تخرج عن وصفها مظهراً من
مظاهر انتفاع الجماعة، وحقاً للفرد بوصفه عضواً في الجماعة التي أعدت
ثروات الكون لانتفاعها، فمن الطبيعي على هذا الأساس أن تحدد سيطرة
المالك على التصرف في ماله، بعدم استغلالها فيما يضر الآخرين ويسيء
إلى الجماعة.
وعلى العكس من ذلك حق الملكية على أساس رأسمالي، فإنه لا ينظر
إليه بوصفه مظهراً من مظاهر انتفاع الجماعة، وإنما يعبر رأسمالياً عن حق
الفرد في أكبر نصيب ممكن من الحرية في جميع المجالات، فمن الطبيعي أن
لا يحدد إلا بحرية الآخرين، فللفرد أن يستغل أمواله كيف يشاء ما لم يسلب
الآخرين حريتهم الشكلية(1).
فإذا كنت تملك مثلاً مشروعاً ضخماً، فبإمكانك على أساس المفهوم
الرأسمالي عن الملكية الخاصة أن تتبع في مشروعك مختلف الأساليب التي
تتيح لك القضاء على المشاريع الصغيرة، والقذف بها خارج نطاق السوق،
بشكل يؤدي إلى دمارها وضرر أصحابها، لأن ذلك لا يتعارض مع
حريتهم الشكلية التي تحرص الرأسمالية على توفيرها للجميع(2).
__________
(1) لتوضيح معنى الحرية الشكلية والحرية الحقيقة راجع ص 283 من هذا الكتاب.
(2) تصرف المالك في ماله بشكل يؤدى إلى الإضرار بالآخرين على نوعين:
أحدهما: التصرف الذي يضر شخصاً آخر ضرراً مالياً مباشراً، بانقاص شيء من أمواله،
كما إذا حفرت في أرض لك حفيرة تؤدى إلى انهدام دار مجاورة لفرد آخر.
والآخر: التصرف المضر بشكل غير مباشر الذي يؤدي إلى سوء حال الآخرين، دون أن
ينقص فعلا شيئاً من أموالهم، كالأساليب التي يتبعها المشروع الرأسمالي الكبير في تدمير المشاريع
الصغيرة، فإن هذه الأساليب لا تفقد صاحب المشروع الصغير شيئاً من بضاعته التي يملكها فعلا،
وإنما قد تضطره إلى تصريفها بأرخص الأثمان والانسحاب من الميدان والعجز عن مواصلة
العمل.
أما النوع الأول فهو يندرج في القاعدة الإسلامية العامة(لا ضرر ولا ضرار) فيمنع المالك
وفقاً لهذه القاعدة من ممارسة ذلك النوع التصرف.
وأما النوع الثاني فاندراجه في تلك القاعدة العامة يرتبط بتحديد مفهوم القاعدة عن الضرر.
فإذا كان الضرر يعني النقص المباشر في المال أو النفس كما يرى كثير من الفقهاء_ فلا يندرج
هذا النوع في القاعدة، لأنه ليس اضراراً بهذا المعنى. وإذا كان الضرر بمعنى سوء الحال كما جاء
في كتب اللغة فهو مفهوم أوسع من النقص المالي المباشر، ويمكن على هذا الأساس إدراج
النوع الثاني في هذا المفهوم، والقول بتحديد سلطة المالك على ماله، ومنعه من ممارسة كلا النوعين
المتقدمين من التصرفات المضرة، لأنها جميعاً تؤدي إلى سوء حال الآخرين ومرد سوء الحال
إلى النقص أيضاً كما أوضحناه في بحوثنا الأصولية ودللنا على شمول القاعدة له.(1/7)
وقد جاء المبدأ التشريعي الذي يحدد إسلامياً تصرفات المالك في ماله
بعدم إضرار الآخرين في مجموعة من الروايات والأحاديث نذكر منها مايلي:
1_ جاء في عدة روايات أن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه
إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيىء ويدخل إلى عذقه بغير
إذن من الأنصاري. فقال الأنصاري: ياسمرة لا تزال تفجأنا على حال لانحب
أن تفجأنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن فقال: لا أستأذن في طريق، وهو
طريقي إلى عذقي فشكاه الأنصاري إلى رسول الله (ص) فأرسل إليه
رسول الله فأتاه فقال: إن فلاناً قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله
بغير إذن، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل فقال: يا رسول الله استأذن
في طريقي إلى عذقي؟! فقال له النبي (ص): خل عنه ولك مكانه عذق
في مكان كذا وكذا فقال: لا... فقال له رسول الله(ص) إنك رجل
مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، ثم أمر بها رسول الله فقامت ورمى
بها إليه(1).
2_ وعن الصادق (ع) أن رسول الله قضى بين أهل المدينة في
مشارب النخل: أنه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية: أنه
لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا ضرار(2).
وروى الشافعي بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: من منع
فضول الماء ليمنع به الكلأ منع الله فضل رحمته يوم القيامة وعلق على
الحديث قائلاً: (ففي هذا الحديث مادل على أنه ليس لأحد أن يمنع فضل
مائه وإنما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله فلما كان منع فض الماء معصية
لم يكن لأحد منع فضل الماء)(3).
3_ وعن الصادق (ع) أيضاً أنه سئل عن جدار الرجل وهو ستره
بينه وبين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه. قال ليس يجبر على ذلك، إلا
أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق، أو شرط في أصل الملك
__________
(1) الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني جـ 5 ص 294.
(2) الكافي للكليني جـ 5 ص 293.
(3) الام للإمام بن ادريس الشافعي جـ 4 ص 49.(1/8)
ولكن يقال لصاحب المنزل: اشتر على نفسك حقك إن شئت، قيل له:
فان كان الجدار لم يسقط، ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضراراً بجاره بغير
حاجة منه إلى هدمه؟ قال لا يترك وذلك أن رسول الله قال: لا ضرر ولا
ضرار وإن هدمه كلفه أن يبنيه.
4_ وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة أنه قال: عن رسول الله قضى:
أن لا ضرر ولا ضرار وقضى: أنه ليس لعرق ظالم حق، و قضى بين أهل
المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. و قضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل
ماء لمنع فضل الكلاء.(1/9)
نظرية الإنتاج
صلة المذهب بالإنتاج
عملية الإنتاج لها جانبان:
أحدهما: الجانب الموضوعي المتمثل في الوسيلة التي تستخدم. والطبيعة
التي تمارس، والعمل الذي ينفق خلال الإنتاج.
والآخر: الجانب الذاتي الذي يتمثل في الدافع النفسي، والغاية التي
تستهدف من تلك العملية، وتقييم العملية تبعاً للتصورات المتبناة عن العدالة.
والجانب الموضوعي من العملية هو الموضوع الذي يدرسه علم الإقتصاد
بمفرده، أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية، لاكتشاف القوانين العامة التي
تسيطر على الوسيلة وتطبيعه لكي يتاح للإنسان التحكم في تلك القوانين بعد اكتشافها، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيماً أفضل وأكثر نجاحاً.
فعلم الاقتصاد يكشف مثلاً عن قانون الغلة المتناقضة في الزراعة القائل:
إن زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معينة، تقابلها زيادة
في النتائج بنسبة أقل، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة
زيادة النتائج، وبالتالي تستمر زيادة الغلة في التناقض حتى تتعادل زيادة
الغلة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال، وحينذاك لا تكون ثمة
مصلحة للزارع في أن يزيد في الإنفاق على الأرض من جديد. وهذا القانون
يلقي ضوءاً على العملية وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير
بالعمل ورأس المال ويحدد عناصر الإنتاج تحديداً يكفل له أكبر قدر ممكن
من الناتج.
ونظير هذا القانون الحقيقة القائلة: أن تقسيم العمل يؤدي إلى تحسين
الإنتاج ووفرته. فانها حقيقة موضوعية من حق العلم الكشف عنها،
ووضعها في خدمة المنتجين، للاستفادة منها في تحسين الإنتاج وتنميته.
فوظيفة علم الاقتصاد التي يؤديها إلى الإنتاج، هي اكتشاف تلك
القوانين التي يتاح للمنتج عن طريق معرفتها، تنظيم الجانب الموضوعي
لعملية الإنتاج بالشكل الذي يؤدي إلى نتيجة أضخم وإنتاج أوفر وأجود.
وفي هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي مهما كان نوعه، أي دور(1/1)
إيجابي. لأن الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر
الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم، ولا يدخل في صلاحيات المذهب
إطلاقاً. ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية، أن تلتقي
على الصعيد العلمي وتتفق على استخدام معطيات علم الإقتصاد وسائر
العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج.
وإنما يظهر الدور الايجابي للمذهب في الجانب الذاتي من عملية الإنتاج
ففي هذا الجانب ينعكس التناقض المذهبي بين المجتمعات التي تختلف في
مذاهبها الاقتصادية. فلكل مجتمع وجهة نظره الخاص إلى عملية الإنتاج،
وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوراته العامة، وطريقته المذهبية، في
تحديد الدوافع وإعطاء المثل العليا للحياة.
فلماذا ننتج؟ وإلى أي مدى؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف
من وراء الإنتاج؟ وما هو نوع السلعة المنتجة؟ وهل هناك قوة مركزية
تشرف على الإنتاج وتخطيطه؟. هذه الأسئلة التي يجيب عليها المذهب
الاقتصادي.
تنمية الإنتاج
قد تكون النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية
والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي، هي تنمية الإنتاج، والاستفادة
من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع
الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب، كما أنها ترفض
ما لا يتفق مع إطارها المذهبي، نتيجة للترابط العضوي في المذهب الواحد.
فإن مبدأ تنمية الإنتاج والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حد، هو جزء من كل
فيتفاعل في كل مذهب مع بقية الأجزاء. ويتكيف وفقاً لموقعه من المركب
وعلاقاته مع سائر الأجزاء. فالرأسمالية ترفض مثلا من الأساليب في تنمية
الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام
يرفض من تلك الأساليب ما لا يتفق مع نظرياته في التوزيع ومثله في العدالة،(1/2)
وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل
يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات
الإنتاج وشكل التوزيع كما سيأتي.
وعلى أي حال، فسوف ننطلق في دراسة النظرية الإسلامية للإنتاج،
من مبدأ تنمية الإنتاج الذي آمن به الإسلام. وفرض على المجتمع الإسلامي
السير وفقاً له، وجعل تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حد
ممكن مذهبياً هدفاً للمجتمع، يضع في ضوئه سياسته الاقتصادية، التي
يحددها الإطار المذهبي العام من ناحية، والظروف والشروط الموضوعية
للمجتمع من ناحية أخرى. وتمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود.
ومبدأ تنمية الإنتاج هذا يمكننا أن نلمحه بوضوح من خلال التطبيق في
عهد الدولة الإسلامية، وفي التعليمات الإسلامية الرسمية التي لا يزال
التاريخ يحتفظ بشيء منها حتى الآن، فمن تلك التعليمات البرنامج الذي
وضعه أمير المؤمنين علي (ع) لواليه على مصر محمد بن أبي بكر. وأمره
بالسير عليه وتطبيقه. ففي أمالي الشيخ الطوسي أن أمير المؤمنين لما ولّى محمد
ابن أبي بكر مصر، كتب له كتاباً وأمره أن يقرأه على أهل مصر. وأن
يعمل بما احتواه وقد كتب الإمام في هذا الكتاب يقول:
(يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا
في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم
به وأغناهم، قال الله عز وجل: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده
والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة؟
كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)) سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها
بأفضل ما أكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات
ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون،
وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا(1/3)
لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون،
لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله
يشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وهذا الكتاب التاريخي الرائع، لم يكن قصة يتحدث فيها الإمام عن
واقع المتقين على وجه الأرض، أو واقعهم في التاريخ، وإنما كان يستهدف
التعبير عن نظرية المتقين في الحياة، والمثل الذي يجب أن يحققه مجتمع المتقين
على هذه الأرض، ولذا أمر بتطبيق ما في الكتاب، ورسم سياسته في ضوء
ما جاء فيه من وصايا وتعليمات، فالكتاب إذن واضح كل الوضوح،
في أن اليسر المادي الذي يحققه نمو الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد،
هدف يسعى إليه مجتمع المتقين، وتفرضه النظرية التي يتبناها هذا المجتمع
ويسير على ضوئها في الحياة.
والهدف في نفس الوقت مغلف بالإطار المذهبي، ومحدد بحدود المذهب
كما يقرره القرآن الكريم: ((يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)).
فالنهي عن الاعتداء في مجال الانتفاع بالطبيعة واستثمارها تعبير بالطريقة
القرآنية عن ذلك الإطار المذهبي العام.
وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج:
والإسلام حين تبنى هذا المبدأ ووضع تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة
هدفاً للمجتمع الإسلامي، جند كل إمكاناته المذهبية، لتحقيق هذا الهدف
وإيجاد المقومات والوسائل التي يتوقف عليها.
ووسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين:
فهناك وسائل مذهبية، من وظيفة المذهب الاجتماعي إيجادها وضمانها،
وهناك وسائل تطبيقية بحتة، تمارسها الدولة التي تتبنى ذلك المذهب الاجتماعي،
برسم سياسة عملية تواكب الاتجاه المذهبي العام.
وقد وفر الإسلام الوسائل التي تدخل في نطاقه بوصفه مذهباً اجتماعياً
ومركباً حضارياً شاملاً.
أ- وسائل الإسلام من الناحية الفكرية:(1/4)
فمن الناحية الفكرية حث الإسلام على العمل والإنتاج، وقيّمه بقيمة
كبيرة، وربط به كرامة الإنسان وشأنه عند الله وحتى عقله. وبذلك خلق
الأرضية البشرية الصالحة لدفع الإنتاج وتنمية الثروة، وأعطى مقاييس
خلقية وتقديرات معينة عن العمل والبطالة لم تكن معروفة من قبله وأصبح
العمل في ضوء تلك المقاييس والتقديرات عبادة يثاب عليها المرء... وأصبح
العامل في سبيل قوته أفضل عند الله من المتعبد الذي لا يعمل وصار الخمول
أو الترفع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته.
ففي الحديث أن الإمام جعفر سأل عن رجل فقيل: إصابته الحاجة،
وهو في البيت يعبد ربه، وإخوانه يقومون بمعيشته، فقال عليه السلام:
الذي يقوته اشد عبادة منه.
وعن الرسول الأعظم (ص) أنه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلها،
وقال: طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة. ومن أكل من كد
يده مر على الصراط كالبرق الخاطف. ومن أكل من كد يده نظر الله
إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبداً. ومن أكل من كد يده حلالاً فتح له أبواب
الجنة يدخل من أيها شاء.
وفي رواية أخرى أن شخصاً مرّ بالإمام محمد بن علي الباقر، وهو
يمارس العمل في أرض له، ويجهد في ذلك حتى يتصابّ عرقاً: فقال له:
أصلحك الله أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة، فأجابه الإمام،
وهو يعبّر عن مفهوم العمل في الإسلام: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال
جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عز وجل...
وكان رسول الله (ص) كما جاء في سيرته الشريفة يسأل عن الشخص
إذا أعجبه مظهره، فإن قيل له ليست له حرفة ولا عمل يمارسه، سقط
من عينه ، ويقول: إن المؤمن إذا لم تكن له حرفة يعيش بدينه.
وفي عدة أحاديث جعل العمل جزءاً من الإيمان وقيل((إن إصلاح
المال من الإيمان)) وقيل في حديث نبوي آخر: ((ما من مسلم يزرع زرعاً
أو يغرس غرساً فيأكل منه الإنسان أو دابته إلا وكتب له به صدقة)).(1/5)
وفي خبر عن الإمام جعفر أنه قال لمعاذ_ وهو أحد أصحابه ممن كان
قد اعتزل العمل_ يا معاذ أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ فقال معاذ:
ما ضعفت عنها ولا زهدت فيها، عندي مال كثير، وهو في يدي وليس
لأحد عليّ شيء، ولا أراني آكله حتى أموت. فقال له الإمام: لا تتركها
فان تركها مذهبة للعقل.
وفي محاورة أخرى رد الإمام على من طلب منه الدعاء له بالرزق في
دعة، فقال له: لا أدعو لك أطلب كما أمرك الله عز وجل.
ويروى عن جماعة من الصحابة أنهم اعتكفوا في بيوتهم وانصرفوا
إلى العبادة. عند نزول قوله تعالى «ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه
من حيث لا يحتسب» وقالوا قد كفانا. فأرسل إليهم النبي قائلاً: إن من
فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب.
وكما قاوم الإسلام فكرة البطالة وحث على العمل، كذلك قاوم فكرة
تعطيل بعض ثروات الطبيعة، وتجميد بعض الأموال، وسحبها عن مجال
الانتفاع والاستثمار، ودفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن من قوى الطبيعة
وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر
الإسلام فكرة التعطيل أو اهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها ، لوناً من
الجحود وكفراناً بالنعمة، التي أنعم الله تعالى بها على عباده.
قال الله تعالى: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات
من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم
القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون... )).
وقال يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية: ((ما جعل الله
من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على
الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون)).
وقال وهو يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات ((وهو الذي جعل
لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه واليه النشور)).
وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي، على الإنفاق الاستهلاكي، حرصاً
منه على تنمية الإنتاج، وزيادة الثروة كما جاء في النصوص المنقولة عن النبي
((1/6)
ص) والأئمة، التي تنهي عن بيع العقار والدار، وتبديد ثمن ذلك في
الاستهلاك.
ب- وسائل الإسلام من الناحية التشريعية:
وأما من الناحية التشريعية، فقد جاءت تشريعات الإسلام في كثير من
الحقول، تتفق مع مبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي،
وتساعد على تطبيقه.
وفيما يلي نستعرض شيئاً من تلك التشريعات والأحكام:
1- حكم الإسلام بانتزاع الأرض من صاحبها، إذا عطلها وأهملها
حتى خربت، وامتنع عن اعمارها، وعلى هذا الأساس يستولي ولي الأمر
في هذه الحالة على الأرض، ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره، لأن
الأرض لا يجوز أن يعطل دورها الايجابي في الإنتاج، بل يجب أن تظل
دائماً عاملاً قوياً يساهم في رخاء الإنسان، ويسر الحياة، فإذا حال الحق
الخاص دون قيامها بهذا الدور، الغي هذا الحق وكيفت بالشكل الذي
يتيح لها الإنتاج(1).
2- منع الإسلام عن الحمى وهو: السيطرة على مساحة الأرض
الغامرة وحمايتها بالقوة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها، وربط
الحق في الأرض بعملية الإحياء وما إليها دون أعمال القوة التي لا شأن لها في
الإنتاج وفي استثمار الأرض لصالح الإنسان(2).
3- لم يعط الإسلام للأفراد الذين يبدأون عملية إحياء المصادر الطبيعية
الحق في تجميد تلك المصادر وتعطيل العمل لإحيائها، ولم يسمح لهم
بالاحتفاظ بها في حالة توقفهم عن مواصلة العمل في هذا السبيل. لأن
استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدي إلى حرمان الإنتاج من طاقات
تلك المصادر وامكاناتها.
ولهذا كلف ولي الأمر في الإسلام بانتزاع المصادر من أصحابها، إذا
أوقفوا أعمالهم في إحيائها، ولم يمكن اغراؤهم بمواصلة العمل فيها.
4- لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة
إلا بالقدر الذي يتمكن الفرد من استثماره والعمل فيه(3)، لأن إقطاع
__________
(1) و (2) لاحظ البناء العلوي لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج.
(3) لاحظ في ذلك نفس البناء المتقدم.(1/7)
ما يزيد على قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية.
5- حرم الإسلام الكسب بدون عمل ، عن طريق استئجار الفرد
أرضاً بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين وما
يشابه ذلك من الفروض التي تحدثنا عنها سابقاً.
ومن الواضح أن إلغاء دور هذا الوسيط بين مالك الأرض والفلاح
المباشر لزراعتها، يوفر على الإنتاج، لأن هذا الوسيط لا يقوم بأي دور
إيجابي للإنتاج، وإنما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يقدمها إليه.
6- حرم الإسلام الفائدة، وألغى رأس المال الربوي، وبذلك ضمن
تحول رأس المال هذا في المجتمع الإسلامي إلى رأس مال منتج يساهم في
المشاريع الصناعية والتجارية.
وهذا التحول يحقق مكسبين للإنتاج:
أحدهما القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة، والصناعة،
ومصالح رأس المال الربوي، فإن الرأسماليين في المجتمعات التي تؤمن
بالفائدة، ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتد حاجة رجال الأعمال
في التجارة والصناعة إلى المال، ويزيد طلبهم عليه لكي يرفعوا سعر الفائدة
ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكن لها.
وأما حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال وتقل حاجتهم
إليه، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة، فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون
أموالهم بكل سخاء وبأزهد الأجور، ومن الواضح أن إلغاء الفائدة يضع
حداً لهذا التناقض، الذي تعيشه طبقة المرابين، وطبقة التجار في المجتمع
الرأسمالي، لأن إلغاء الفائدة سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى تحويل الرأسماليين
الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة، إلى مضاربين يساهمون في مشاريع
صناعية، وتجارية، على أساس الاشتراك في الأرباح، وبذلك يتحدد
الموقف ويصبح راس المال في خدمة التجارة والصناعة يلبي حاجاتها
ويواكب نشاطها.
والمكسب الآخر للإنتاج، هو أن تلك الأموال التي حولت إلى ميادين
الصناعة والتجارة، سوف تستخدم بعزم وطمأنينة في مشاريع ضخمة(1/8)
وأعمال طويلة الأمد، لأن صاحب المال سوف لن يبقى أمامه بعد إلغاء
الفائدة إلا أمل الربح، وهو يحركه نحو اقتحام تلك المشاريع الضخمة المغرية
بأرباحها ونتائجها خلافاً لحاله في مجتمع يسيطر عليه نظام الفائدة، فانه
يفضل أقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع، لأن الفائدة
مضمونة على أي حال وسوف يفضل أيضاً أن يقرض المال لأجل قصير،
ويتحاشى. الأقراض لمدة طويلة لئلا يفوته شيء من سعر الفائدة، إذا
ارتفع في المستقبل البعيد سعرها وبذلك سوف يضطر المقترضون مادام أجل
الوفاء قريباً إلى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد، ليكون في
إمكانهم إعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها إلى الرأسمالي
الدائن وعلاوة على هذا فان رجال الأعمال في ظل نظام الفائدة، سوف
لن يقدموا على اقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري
أو صناعي، ما لم تبرهن الظروف على أن بإمكانهم الحصول على ربح يزيد
عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من
ألوان النشاط في كثير من الظروف، كما يجمد المال في جيوب الرأسماليين
ويحرمه من المساهمة في الحقل الإقتصادي، ولا يسمح له بأي لون من ألوان
الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي، الأمر الذي يؤدي إلى عدم إمكان تصريف
كل المنتجات، وكساد السوق، وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الإقتصادية،
وأما عند إلغاء الفائدة، وتحول الرأسماليين المرابين إلى تجار
مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية، فإنهم سوف
يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقل من الربح لأنهم لن يضطروا إلى
تسليم جزء منه باسم فوائد، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف
الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع الإنتاج والتجارة، وبذلك يتم
إنفاق الناتج كله إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياًن بدلاً من تجميد جزء منه في
جيوب المرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه، وتوقف تصريف(1/9)
جزء من المنتجات على إنفاقه.
7- حرم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية،
كالمقامرة والسحر والشعوذة، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من
هذا القبيل، بأخذ أجرة على القيام بها (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
فان هذه الأعمال تبديد للطاقات الصالحة المنتجة في الإنسان، والأجور
الباطلة التي تدفع لأصحابها هدر لتلك الأموال التي كان بالإمكان تحويلها
إلى عامل تنمية وإنتاج. ونظرة شاملة في التاريخ والواقع المعاش، يكشف لنا
عن مدى التبذير الذي ينتج عن هذا النوع من الأعمال والاكتساب بها،
وفداحة الخسارة التي يمنى بها الإنتاج، وكل الأهداف الصالحة، بسبب
تبديد تلك الطاقات والجهود والأموال.
8_ منع الإسلام من اكتناز النقود، وسحبها عن مجال التداول
وتجميدها، وذلك عن طريق فرض ضريبة على ما يكنز من النقود الذهبية
والفضية، التي كانت الدولة الإسلامية تجري على أساسها، وهي: ضريبة
الزكاة التي تستنفد المال المدخر على مر الزمن لأنها تتكرر في كل عام،
وتقطع كل مرة ربع العشر من المال المدخر، ولا تتركه الضريبة حتى
تنخفض به إلى عشرين ديناراً. ولأجل هذا تعتبر الزكاة مصادرة تدريجية
للمال الذي يكنز ويجمد عن العمل، وبالقضاء على الاكتناز هذا، تندفع
جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي وتمارس دوراً إيجابياً في الحياة
الاقتصادية، وبذلك يكسب الإنتاج كثيراً من تلك الأموال التي كانت
تؤثر بطبيعتها، لولا ضريبة المال المكتنز، أن تختفي في جيوب أصحابها
بدلا عن المساهمة في المشاريع الصناعية والزراعية وما إليها.
والواقع أن منع الإسلام من اكتناز النقود ليس مجرد ظاهرة عرضية
في التشريع الإسلامي، بل إنه يعبر عن أحد أوجه الخلاف الخطير بين
المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي، ويعكس الطريقة التي استطاع
الإسلام بها أن يتخلص من مشاكل الرأسمالية الناجمة عن شذوذ الدور(1/10)
الرأسمالي للنقد الذي يؤدي إلى أخطر المضاعفات، ويهدد حركة الإنتاج
ويعصف بالمجتمع الرأسمالي باستمرار.
ولكي يتضح الخلاف الخطير بين المذهبين، في هذه النقطة، يجب
أن نميز بين الدور الأصيل للنقد والدور الطارىء الذي يمارسه في ظل
الرأسمالية، وندرك اختلاف هذين الدورين في نتائجهما وآثارهما على
حركة الإنتاج وغيرها.
فالنقد بطبيعته أداة للتبادل، وقد استخدمه الإنسان في المبادلة تفادياً
من مشاكل المقايضة، التي كانت تتولد عن مبادلة المنتجات بشكل مباشر.
فقد وجد المنتجون الأوائل بعد تقسيم العمل، وإقامة حياتهم على أساس
المبادلة، إن من الصعب عليهم تبادل منتوجاتهم مباشرة، لأن منتج الحنطة
إذا احتاج في حياته إلى صوف، فلا يستطيع الحصول عليه من منتج الصوف
في مقابل الحنطة، إلا إذا كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى حنطة.
والراعي إذا أراد الحصول على حاجته اليومية من الحنطة، فسوف لن يقدر
على ذلك عن طريق المقايضة، لأن الغنم الذي يرعاه تزيد قيمته على قيمة
الحنطة التي يود الحصول عليها لحاجته اليومية، لا يمكنه تجزئة الغنم لأجل
ذلك. وإضافة إلى هذا فان المبادلة المباشرة للمنتجات، كانت تواجه
صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدة للمبادلة. إذ كان لا بد لمعرفة قيمة السلعة
من مقارنتها بجميع السلع الأخرى، حتى تعرف قيمتها بالنسبة إليها جميعاً
(راجع الكتاب الأول من اقتصادنا ص 348) فكان اختراع النقد علاجاً
لهذه المشاكل كلها. إذ قام بدور المقياس العام للقيمة من ناحية، وأصبح
أداة للمبادلة من ناحية أخرى، فهو من الناحية الأولى يستخدم كمحدد لقيم
الأشياء، فبمقارنة سائر السلع بالسلعة التي أنتجت لتكون نقداً تحدد قيمتها
ومن الناحية الثانية يستعمل النقد وسيلة للتداول، فبعد أن كان التداول يقوم
على أساس المقايضة، وبيع حنطة بصوف، جاءت النقود فحوّلت عملية
البيع هذه إلى عمليتين وهما البيع والشراء، فصاحب الحنطة يبيع الحنطة بمئة(1/11)
درهم، ثم يمارس عملية أخرى، فيشتري بهذا النقد حاجته من الصوف.
وبهذا قامت مبادلتان مقام المبادلة المباشرة بين المنتجات، وزالت بسبب
ذلك كل الصعوبات التي كانت تنجم عن نظام المقايضة.
وهكذا نعرف أن الدور الأصيل الذي وجد النقد ليمارسه، هو دور
المقياس العام للقيمة، والأداة العامة في التداول.
ولكن النقد بعد ذلك لم يقتصر على أداء دوره، وممارسة وظيفته في
التغلب على الصعوبات المقايضة ومشاكلها، بل استخدم للقيام بدور آخر
طارىء لا يمت إلى التغلب على تلك الصعاب والمشاكل بصلة، وهو دور
الاكتناز والادخار. وذلك أن دخول النقد في مجال التداول، حوّل العملية
الواحدة_ بيع الحنطة بصوف_ إلى عمليتين، وأصبح منتج الحنطة يبيع
منتوجة ثم يشتري الصوف، بعد أن كان يبيع الحنطة ويشتري الصوف في
مبادلة واحدة وهذا الفصل بين عمليتي بيع الحنطة وشراء الصوف، أتاح
لبائع الحنطة أن يؤجل شراء الصوف، بل جعل في ميسوره أن يبيع الحنطة
لا لشيء إلا لرغبة في تحويل الحنطة إلى نقد، والاحتفاظ بالنقد إلى وقت
الحاجة. فنشأ عن ذلك دور النقد بوصفه أداة لاكتناز المال وادخاره.
وقد لعب هذا الدور الطارىء للنقد كأداة للاكتناز، أخطر لعبة في
ظل الرأسمالية التي شجعت الادخار، وجعلت من الفائدة أكبر قوة للاغراء
بذلك، فأدى هذا إلى اختلال التوازن بين الطلب الكلي والعرض الكلي
لمجموع السلع الإنتاجية والاستهلاكية، بينما كان هذا التوازن مضموناً
في عهد المقايضة التي تقوم على أساس المبادلة المباشرة بين المنتجات، لأن
المنتج في تلك العهود لم يكن ينتج إلا ليستهلك ما ينتجه، أو يستبدله
بسلعة أخرى يستهلكها، فالسلعة التي تنتج تضمن دائماً طلباً بقدرها فيتساوى
الإنتاج والاستهلاك. أو العرض الكلي مع مجموع الطلب. وأما في عصر
النقد، بعد انفصال عملية الشراء عن البيع، فليس من الضروري للمنتج أن
يكون لديه طلب يساوي السلعة التي ينتجها، إذ قد ينتج بقصد أن يبيع(1/12)
ويحصل على نقد ليضيفه إلى ما ادخره من نقود، لا ليشتري به سلعة من منتج
آخر فيوجد في هذه الحال عرض لا يقابله طلب، ويختل لأجل ذلك التوازن
بين العرض العام والطلب العام، ويتعمق هذا الاختلال بقدر ما تبرز إرادة
الاكتناز وتتسع ظاهرة الادخار لدى المنتجين والبائعين، ونتيجة لذلك يظل
جزء كبير من الثروة المنتجة دون تصريف، وتعاني السوق الرأسمالية مشكلة
تصريفها وأزمة تكدسها، وتتعرض حركة الإنتاج وبالتالي الحياة الاقتصادية
عموماً لأشد الأخطار.
وقد ظلت الرأسمالية ردحاً من الزمن لا تدرك حقيقة هذه المشاكل التي
تنجم عن دور الاكتناز الذي يمارسه النقد انسياقاً منها مع نظرية التصريف،
التي تقول: إن الشخص عندما يريد بيع سلعة معينة لا يرغب في النقود لذاتها بل
للحصول على سلعة أخرى تشبع حاجاته، وهذا يعني أن إنتاج أية سلعة
يخلق طلباً مماثلاً على سلعة أخرى، فيتساوى العرض والطلب دائماً.
فالنظرية تفترض أن بائع السلعة يستهدف دائماً من ذلك الحصول على
سلعة أخرى، مع أن هذا الافتراض إنما يصح في عصر المقايضة الذي
تزدوج فيه عملية الشراء وعملية البيع، ولا يصدق على عصر النقد الذي
يتيح للتاجر أن يبيع السلعة بقصد الحصول على المزيد من النقد وادخاره
واكتنازه، لأجل توظيفه بعد ذلك في عمليات القرض بفائدة.
وفي هذه المعلومات عن النقود ودورها الأصيل ودورها الطارىء
ونتائجهما، نستطيع أن ندرك الاختلاف الجوهري بين الإسلام والرأسمالية
فبينما تقر الرأسمالية استعمال النقد أداة للاكتناز، وتشجع عليه بتشريع
نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على النقد المكتنز، ويحث على
إنفاق المال في المجالات الاستهلاكية والإنتاجية، حتى جاء في الحديث عن
الإمام جعفر بن محمد الصادق: (إن الله إنما أعطاكم هذه الفضول من
الأموال، لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها).
والإسلام بمحاربته للاكتناز يقضي على مشكلة من أهم مشاكل الإنتاج(1/13)
التي تمنى بها الرأسمالية وهو على علم بأن المجتمع الإسلامي الذي ينظمه
ليس مضطراً إلى الاكتناز والادخار في سبيل تنمية الإنتاج فيه، وإقامة
المشاريع الكبيرة، كما هي الحال بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي، الذي تمكن
عن طريق الاكتناز والادخار من تكوين رؤوس أموال ضخمة، نتيجة
لتجميع المدخرات عن طريق المصارف وغيرها، واستطاع أن يستخدم
تلك الكميات الهائلة المتجمعة من النقد في أضخم مشاريع الإنتاج. فان
المجتمع الرأسمالي لما كانت الملكية الخاصة هي التي تسيطر عليه، فكان
لا بد له من ملكيات خاصة ضخمة للاستعانة بها في مشاريع الإنتاج الكبرى،
وحيث لم يكن من الميسور تكوين تلك الملكيات إلا بالتشجيع على الادخار
وتجميع المدخرات بعد ذلك عن طريق المصارف الرأسمالية، فكان المجتمع
الرأسمالي مضطراً إلى اتخاذ هذه الخطوات لأجل تنمية الإنتاج وتضخيمه
وأما المجتمع الإسلامي فيمكنه الاعتماد على حقول الملكية العامة وملكية
الدولة في مشاريع الإنتاج الكبرى، ويبقى للملكيات الخاصة المجالات التي
تتسع لها امكاناتها.
9_ تحريم اللهو والمجون، فقد جاء في الأحاديث النهي عما يلهو عن
ذكر الله، والمنع عن عدة ألوان من اللهو التي تؤدي إلى تذويب الشخصية
الحدية للإنسان وميوعته، وبالتالي إلى عزله عن مجال الإنتاج والعمل الحقيقي
المثمر، وإيثاره حياة اللعب واللهو بقدر ماتؤاتيه الظروف على حياة الجلد
والعمل، وألوان الإنتاج المادي والمعنوي.
10_ محاولة المنع من تركز الثروة وفقاً للنص القرآني الكريم (لئلا
يكون دولة بين الأغنياء منكم) كما سنشرح ذلك في دراستنا لنظرية التوازن
الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي. وهذا المنع عن التركز وإن كان يرتبط
بصورة مباشرة بالتوزيع، ولكنه يرتبط أيضاً بشكل غير مباشر بالإنتاج،
ويؤدي إلى الاضرار به. لأن الثروة حين تتركز في أيد قليلة، يعم البؤس
وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة. ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور(1/14)
عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم من السلع لإنخفاض قوتهم الشرائية. فتتكدس
المنتجات دون تصريف ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقف
الإنتاج.
11_ التقليص من مناورات التجارة، واعتبارها من حيث المبدأ شعبة
من الإنتاج، كما سيأتي في مرحلة أخرى من مراحل الكشف عن نظرية
الإنتاج وسوف نرى عندئذ مدى تأثير ذلك على الإنتاج وتنمية.
12_ منح الإسلام ملكية المال بعد موت المالك إلى أقربائه. وهذا هو
الجانب الإيجابي من أحكام الإرث، الذي يمكن اعتباره في القطاع الخاص
عاملاً دافعاً للإنسان نحو العمل وممارسته ألوان النشاط الاقتصادي،
بل عاملاً أساسياً في الأشواط الأخيرة من حياة الإنسان التي تتضاءل فيها
فكرة المستقبل عنده وتحتل موضعها فكرة الأبناء والقربى، فيجد في
أحكام الإرث التي توزع أمواله بعده بين أقربائه الادنين ما يغريه بالعمل
ويدفعه إلى تنمية الثروة حرصاً على مصالح أهليه بوصفهم امتداداً لوجوده.
وأما الجانب السلبي من أحكام الإرث، الذي يقطع صلة المالك بماله
بعد موته، ولا يسمح له أن يقرر مصير ثروته بنفسه فهو نتيجة لنظرية
توزيع ما قبل الإنتاج ومرتبط بها كما عرفنا سابقاً.
13_ وضع الإسلام المبادىء التشريعية للضمان الاجتماعي، كما
سنشرحه في بحث مقبل. والضمان الاجتماعي يقوم بدور كبير في القطاع
الخاص، لأن إحساس الفرد بأنه مضمون من قبل الدولة وإن مستوى كريماً
من الحياة مكفول له ولو خسر في مشروعه، رصيد نفسي كبير، يزيد
من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج، وينمي فيه عنصر
الإبداع والابتكار خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان، ولا يحس بتلك الكفالة،
فانه كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد، خوفاً من
الخسارة المحتملة التي لا تهدد ماله فحسب، بل تهدد حياته وكرامته مادام
لن يجد من يكفله ويوفر له أسباب الحياة الكريمة، إذا خسر ماله وضاع
في خضم التيار. ولأجل ذلك لن تواتيه تلك الشجاعة وذلك العزم الذي(1/15)
يبعثه الضمان الاجتماعي في نفوس الأفراد الذين يعيشون في كنفه.
14_ حرم الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من
الضمان الاجتماعي، ومنعهم من الاستجداء، وبذلك سد عليهم منافد
التهرب من العمل المثمر. وهذا يؤدي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج
والاستثمار.
15_ حرّم الإسلام الاسراف والتبذير وهذا التحريم يحد من الحاجات
الاستهلاكية، ويهيء كثيراً من الأموال للأنفاق الإنتاجي، بدلاً عن
الإنفاق الاستهلاكي في مجالات الإسراف والتبذير.
16_ أوجب الإسلام على المسلمين كفاية تعلم جميع الفنون والصناعات
التي تنتظم بها الحياة.
17_ بل إن الإسلام لم يكتف بذلك، بل أوجب على المسلمين الحصول
على أكبر قدر ممكن وأعلى مستوى من الخبرة الحياتية العامة في كل الميادين،
ليتاح للمجتمع الإسلامي امتلاك جميع الوسائل المعنوية والعلمية والمادية التي
تساعده على دوره القيادي للعالم، بما فيها وسائل الإنتاج وإمكاناته المتنوعة.
قال الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).
والقوة هنا جاءت في النص مطلقة دون تحديد، فهي تشمل كل ألوان
القوة التي تزيد من قدرة الأمة القائدة على حمل رسالتها إلى كل شعوب
العالم. وفي طليعة تلك القوى الوسائل المعنوية والمادية لتنمية الثروة، ووضع
الطبيعة في خدمة الإنسان.
18_ مكّن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن
طريق ممارستها للقطاع العام، ومن الواضح أن وضع مجال كبير من ملكية
الدولة والملكية العامة في تجربة تمارسها الدولة سوف يجعل من هذه التجربة
قوة موجهة وقائدة للحقول الأخرى، ويتيح لمشاريع الإنتاج المماثلة
الاسترشاد بتلك التجربة واتباع أفضل الأساليب في تحسين الإنتاج وتنمية
الثروة.
19_ منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى
البشرية العاملة، والاستفادة منها في مجالات القطاع العام. وبذلك يمكن
للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجة القطاع الخاص من تلك القوى(1/16)
البشرية وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلي.
20_ وأخيراً فقد أعطيت الدولة_ على أساس أحكام معينة سندرسها
في المراحل الآتية من نظرية الإنتاج_ الحق في الاشراف على الإنتاج،
وتخطيطه مركزياً، لتفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج،
وتعصف بالحياة الاقتصادية.
جـ_ السياسة الاقتصادية لتنمية الإنتاج:
هذه هي الخدمات التي قدمها الإسلام بوصفه المذهبي لتنمية الإنتاج
وزيادة الثروة. وترك بعد ذلك للدولة أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة
الاقتصادية، وتحصي ما في البلاد من ثروات طبيعية، وتستوعب ما يختزنه
للمجتمع من طاقات، وما يعيشه من مشاكل، وتضع على ضوء ذلك كله،
وفي الحدود المذهبية، السياسة الاقتصادية التي تؤدي إلىُ زيادة الإنتاج ونموّ
الثروة، وتضمن يسر الحياة ورخاء المعيشة.
وعلى هذا الأساس نعرف علاقة المذهب بالسياسة الاقتصادية، التي
ترسمها الدولة وتحددها إلى مدى خمس سنوات أو سبع أو أكثر أو أقل
للوصول إلى أهداف معينة في نهاية تلك المدة. فان هذه السياسة ليست جزءاً
من المذهب، ولا من وظيفة المذهب وضعها وتحديدها، لأنها تختلف
باختلاف الظروف الموضوعية، ونوع الإمكانات التي يملكها المجتمع وطبيعة
المشاكل والصعاب التي لابد من التغلب عليها. فالبلاد الكثيفة السكان
بدرجة كبيرة مثلاً تختلف عن البلاد القليلة السكان الواسعة الأرجاء في
إمكاناتها ومشاكلها وأساليب التغلب على هذه المشاكل وتعبئة تلك الإمكانات
وهكذا يكون لكل ظرف موضوعي أثره في تحديد السياسة التي يجب إنتاجها.
ولهذا كان لزاماً على المذهب أن يترك رسم تفاصيل هذه السياسة إلى
الدولة، لتصنع التصميم الذي يتفق مع الظروف التي تكتنفها، ويقتصر
المذهب على وضع الأهداف الرئيسية للسياسة الاقتصادية، وحدودها العامة
وإطارها المذهبي الشامل، الذي يجب على الدولة التقيد به ووضع سياستها
ضمنه.
لماذا ننتج(1/17)
كنا ندرس من نظرية الإنتاج النقطة المتفق عليها مذهبياً بين مختلف
الاتجاهات الفكرية للمذاهب الاقتصادية، بدأنا بها لنجعل منها المحور الذي
ننطلق منه لدراسة الخلافات المذهبية وتفاصيلها.
فقد عرفنا أن مبدأ تنمية الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أبعد حد من
المبادىء الأساسية في النظرية الإسلامية، ومن الأهداف التي يتفق فيها
الإسلام مع سائر المذاهب.
ولكن هذه المذاهب بالرغم من اتفاقها على هذا المبدأ تختلف في مواجهة
التفصيلات، وطريقة التفكير فيها تبعاً لاختلاف قواعدها الفكرية وإطارها
الحضاري العام، ومفاهيمها عن الكون والحياة والمجتمع.
فهناك مثلاً الاختلاف بين تلك المذاهب في الهدف الأصيل من تنمية
الثروة، ودورها في حياة الإنسان، فسؤال لماذا ننتج؟ وما هو دور الثروة؟
يجيب عليه كل مذهب بطريقته الخاصة، وفقاً لأساسه الفكري والنظرة
العامة التي يتبناها.
ونحن في دراستنا للمذهب في الإسلام، أو حين ندرس أي مذهب
اقتصادي آخر، وموقفه من الإنتاج لا يكفينا أن نعرف إيمان المذهب بمبدأ
تنمية الإنتاج والثروة، بل يجب أن نستوعب الأساس الفكري لذلك، الذي
يشرح مفهوم المذهب عن الثروة ودورها وأهدافها. فان تنمية الثروة تتكيف
وفقاً لأساسها الفكري والنظرة العامة التي ترتبط بها. فقد تختلف تنمية الثروة
على أساس فكري معين عن تنميتها على أساس فكري آخر، تبعاً لما يفرضه
الأساس الفكري من إطار للتنمية وأساليب لتحقيقها.
وفي سبيل تحديد الأساس الفكري للتنمية لا يمكن أن نفصل المذهب
الاقتصادي، بوصفه جزءاً من مركب حضاري كامل، عن الحضارة
التي ينتمي إليها ومفاهيمها عن الحياة والكون.
وعلى هذا الأساس سوف نأخذ الرأسمالية والاقتصاد الإسلامي،
وندرس مفاهيمها عن الإنتاج ودوره وأهدافه، لا بوصفها مذهبين
اقتصاديين فحسب، بل بوصفها_ إضافة إلى ذلك_ واجهتين لحضارتين
مختلفتين، لنقدم الأساس الفكري لتنمية الإنتاج من وجهة نظر الإسلام،(1/18)
مقارناً بالأساس الفكري لتنمية الثروة في الرأسمالية.
ففي الحضارة المادية الحديثة التي مثلت الرأسمالية تاريخياً واجهتها
المذهبية الاقتصادية، تعتبر تنمية الثروة عادة هدفاً أصيلاً وغاية أساسية،
لأن المادة هي كل شيء في المقاييس التي يسير عليها إنسان هذه الحضارة
في حياته فهو لا يرى غاية وراءها ولهذا يسعى إلى تنمية لأجل الثروة
نفسها وتحقيقاً لأكبر قدر ممكن من الرخاء المادي.
كما أن الرأسمالية تنظر في الأساليب التي تتبعها لتحقيق هذا الهدف
إلى تنمية الثروة بوضعها الكلي، وبشكل منفصل عن التوزيع فهي ترى
أن الهدف يتحقق، إذا ازداد مجموع ثروة المجتمع، بقطع النظر عن مدى
انتشار هذه الثروة في المجتمع، وعن نصيب أفراده من اليسر والرخاء الذي
توفره تلك الثروة ولهذا شجع المذهب الرأسمالي على استخدام الآلة الصناعية
في عهد الصناعة الآلية، لأنها تساهم في زيادة الثروة الكلية للمجتمع ولو
عطلت الآلاف ممن لم يكن يملك الآلة الجديدة، وأدت إلى انهيار مشاريعهم.
فالثروة في الحضارة المادية هدف أصيل، ونمو الثروة في المفهوم
الرأسمالي يقاس بازدياد مجموع الثروة الكلية في المجتمع.
والمشكلة الاقتصادية ترتبط في التفكير الرأسمالي بندرة الإنتاج،
وعدم سخاء الطبيعة، واحجامها عن تلبية كل الطلبات. ولأجل هذا كان
علاج المشكلة مرتبطاً بتنمية الإنتاج، واستغلال قوى الطبيعة وكنوزها إلى
أبعد حد، بالقضاء على مقاومتها ومضاعفة اخضاعها للإنسان.
وللإسلام موقفه المختلف في كل ذلك.
فلا نمو الثروة هو الهدف الأصيل في الإسلام وإن كان مما يستهدفه.
ولا ينظر الإسلام إلى نمو الثروة بشكل منفصل عن التوزيع وعلى أساس
الثروة الكلية.
ولا المشكلة الاقتصادية تنبع من ندرة الإنتاج، ليكون علاجها الأساسي
بتنمية مجموع الثروة الكلية.
وفيما يلي تفصيل الموقف الإسلامي.
1_ مفهوم الإسلام عن الثروة:
ففيما يتصل بالنظر إلى الثروة كهدف أصيل يمكننا أن نحدد نظرة(1/19)
الإسلام إلى الثروة في ضوء النصوص التي عالجت هذه الناحية وحاولت
أن تشرح المفهوم الإسلامي للثروة.
وهذه النصوص يمكن تصنيفها إلى فئتين. وقد يجد الدارس لأول وهلة
تناقضاً بينهما في معطلياتهما الفكرية عن الثروة وأهدافها ودورها، ولكن
عملية التركيب بين تلك المعطيات تحل التناقض، وتبلور المفهوم الكامل
للإسلام عن تنمية الثروة بكلاحديه.
ففي إحدى الفئتين تندرج النصوص التالية:
( أ ) قال رسول الله (ص): نعم العون على تقوى الله الغنى.
(ب) وعن الإمام الصادق (ع): إن نعم العون على الآخرة الدنيا.
(ج) وعن الإمام الباقر (ع): إن نعم العون الدنيا على طلب الآخرة.
(د) وعن الرسول الله (ص): اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرق
بيننا وبينه، ولولا الخبز ما صليّنا، ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا.
(هـ) وعن الصادق (ع): لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال،
يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه.
(و) وقال رجل للصادق (ع): والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن
نؤتاها فقال له: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال أعود بها على نفسي وعيالي
وأصل بها وأتصدق بها واحج واعتمر فقال له الإمام: ليس هذا طلب
الدنيا هذا طلب الآخرة.
(ز) وفي الحديث: ليس منا من ترك دنياه لآخرته أو آخرته لدنياه.
وتضم الفئة الثانية النصوص الآتية.
أ_ عن الرسول (ص): من أحب دنياه أضر بآخرته.
ب_ وعن الصادق (ع): رأس كل خطيئة حب الدنيا.
جـ_ وعن الصادق أيضاً: أبعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمه إلا
بطنه وفرجه.
د_ وعن أمير المؤمنين علي (ع): إن من أعون الأخلاق على الدين
الزهد في الدنيا.
ومن اليسير لكل أحد أن يلاحظ التفاوت بين الفئتين، فالدنيا والثروة
والغنى نعم العون على الآخرة في الفئة الأولى، بينما هي رأس كل
خطيئة في الفئة الثانية.
ولكن هذا التناقض يمكن حله بعملية تركيب، فالثروة وتنميتها نعم
العون على الآخرة وهي رأس كل خطيئة لأنها ذات حدين. وإطارها النفسي(1/20)
هو الذي يبرز هذا الحد أو ذاك. فالثروة في رأى الإسلام وتنميتها
هدف من الأهداف المهمة ولكنه هدف طريق لا هدف غاية فليست الثروة
هي الهدف الأصيل الذي تضعه السماء للإنسان الإسلامي على وجه الأرض،
وإنما هي وسيلة يؤدي بها الإنسان الإسلامي دور الخلافة، ويستخدمها في
سبيل تنمية جميع الطاقات البشرية والتسامي بإنسانية الإنسان في مجالاتها
المعنوية والمادية فتنمية الثروة والإنتاج لتحقيق الهدف الأساسي من خلافة
الإنسان في الأرض هي نعم العون على الآخرة، ولا خير فيمن لا يسعى
إليها، وليس من المسلمين بوصفهم حملة رسالة في الحياة من تركها
وأهملها. وأما تنمية الثروة والإنتاج لأجل الثروة بذاتها، وبوصفها المجال
الأساسي الذي يمارس الإنسان فيه حياته ويغرق فيه، فهي رأس كل
خطيئة، وهي التي تبعد الإنسان عن ربه، ويجب الزهد فيها.
فالإسلام يريد من الإنسان الإسلامي أن ينمي الثروة ليسيطر عليها،
وينتفع بها في تنمية وجوده ككل، لا لتسيطر عليه الثروة، وتستلم منه
زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى.
فالثروة وأساليب تنميتها التي تحجب الإنسان الإسلامي عن ربه،
وتنسيه أشواقه الروحية، وتعطل رسالته الكبرى في إقامة العدل على هذا
الكوكب، وتشده إلى الأرض لا يقرها الإسلام، والثروة وأساليب التنمية
التي تؤكد صلة الإنسان الإسلامي بربه المنعم عليه، وتهيء له عبادته في
يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام كل مواهبه وطاقته للنمو والتكامل،
وتساعد على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة هي الهدف الذي يضعه
الإسلام أمام الإنسان الإسلامي، ويدفعه نحوه.
2_ ربط تنمية الإنتاج بالتوزيع:
وفيما يتصل بالفكرة الرأسمالية عن إنماء الإنتاج التي تنظر إلى عملية
تنمية الثروة بصورة منفصلة عن نوع توزيعها فإن الإسلام يرفض هذه
النظرة ويربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحقق نمو الثروة(1/21)
لأفراد الأمة من يسر ورخاء، لأن تنمية الثروة في مفهوم الإسلام هدف
طريق لا هدف غاية كما عرفنا في الفقرة السابقة، فما لم تساهم عمليات
التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي
تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيّرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي
تنمية الثروة ودورها الصالح في حياة الإنسان.
ولهذا نجد أن كتاب الإمام على (ع) إلى حاكم مصر_ الذي حدد
فيه الإمام لواليه البرنامج الإسلامي الذي يجب عليه تطبيقه_ حين أراد
أن يتحدث عن تنمية الثروة بوصفها هدفاً من أهداف مجتمع المتقين_ على
حد تعبير الكتاب_ لم يصور تكديساً هائلاً للثروة، وإنما صور اليسر
والرخاء يعم حياة الأفراد جميعاً في مجتمع المتقين. وهذا تأكيد على أن
تنمية الثروة ليست هدفاً إلا بمقدار ما تنعكس في حياة الناس ومعيشتهم
وأما حين تنمو الثروة بشكل منفصل عن حياة الناس، ويكون الجمهور
في خدمة هذه التنمية لا التنمية في خدمة الجمهور، فسوف تكتسب الثروة
نوعاً من الصنمية، وتصبح هدف غاية لا هدف طريق، ويصدق عليها قول
النبي (ص) وهو يعبر عن هذا اللون من الثروة ويحذر من أخطارها:
إن الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان قبلكم.
وعلى هذا الأساس فالإسلام حين يضع تنمية الإنتاج هدفاً للمجتمع
يجعل نصب عينيه ارتباط هذه التنمية باليسر والرخاء العام. ولهذا يرفض
من أساليب التنمية ما يتعارض مع ذلك، ويضر بالناس بدلاً عن تيسير
الحياة لهم.
ويمكننا أن نقدر على هذا الضوء أن الإسلام لو كان قد استلم زمام
القيادة بدلاً عن الرأسمالية في عصر ولادة الآلة البخارية، لما سمح
باستعمال الآلة الجديدة، التي ضاعفت الإنتاج بقدر ما أطاحت بالآلاف
من الصناع اليدويين، إلا بعد أن يتغلب على المشاكل والإضرار التي تجلبها
الآلة لهؤلاء، لأن التنمية التي تحققها الآلة قبل التغلب على تلك المشاكل
والإضرار سوف لن تكون هدف طريق بل هدف غاية.(1/22)
3_ تصور الإسلام للمشكلة الاقتصادية:
وأخيراً فان الإسلام يرى أن المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصور
واقعي للأمور لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبخل الطبيعة.
صحيح أن موارد الإنتاج في الطبيعة محدودة، وحاجات البشر كثيرة
ومتنوعة.
وحقاً أن مجتمعاً أسطورياً يتمتع بموارد غير محدودة وافرة وفرة الهواء
يظل سليماً من المشاكل الاقتصادية، ولا يوجد فيه فقير، لأن كل فرد فيه
قادر على إشباع جميع رغباته في هذا الفردوس.
ولكن هذا لا يعني أن المشكلة الاقتصادية التي تعانيها البشرية في الواقع
نابعة من عدم وجود هذا الفردوس. بل ليست محاولة تفسيرها على هذا
الأساس إلا لوناً من التهرب عن مواجهة الوجه الواقعي للمشكلة القابل للحل
بإبراز وجهها الأسطوري الذي لا يمكن حله بحال من الأحوال، ليكون
ذلك مبرراً للاعتراف بحتمية المشكلة وحصر علاجها النسبي في تنمية الإنتاج
بوصفها عملية مقصودة بذاتها، وبالتالي يؤدي ذلك إلى وضع النظام
الاقتصادي في إطار المشكلة_ بدلاً عن اكتشاف النظام الذي يقضي عليها
كما صنعت الرأسمالية حين أبرزت الوجه الأسطوري للمشكلة، فخيل لها
أن الطبيعة ما دامت بخيلة أو عاجزة عن إشباع حاجات الإنسان جميعاً فمن
الطبيعي أن تتصادم هذه الحاجات وتتعارض، وعندئذ لابد من وضع نظام
اقتصادي ينسق تلك الحاجات ويحدد ما يجب إشباعه منها.
إن الإسلام لا يقر ذلك كله، وينظر إلى المشكلة من ناحيتها الواقعية
القابلة للحل كما نجد ذلك في قوله تعالى:
(الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج
به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره،
وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم
الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
إن الإنسان لظلوم كفار).
فإن هذا الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم(1/23)
الله تعالى بها على الإنسان أكدت أنها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق سؤله
(وآتاكم من كل ما سألتموه) فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بخل الطبيعة،
أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان. وإنما نشأت من الإنسان نفسه كما
تقرره الآية الأخيرة (إن الإنسان لظلوم كفار). فظلم الإنسان في توزيع
الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه
استغلالاً تاماً هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ
أبعد عصور التاريخ. وبمجرد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح
بالإمكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات
توزيع عادلة، وتعبئة كل القوى المادية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف
كل كنوزها(1).
الصلة بين الإنتاج والتوزيع
هل توجد صلة بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع؟.
هذا هو السؤال الذي يختلف في الإجابة عليه الإسلام والماركسية،
اختلافاً أساسياً على الصعيد المذهبي للاقتصاد.
فالماركسية تؤكد وجود هذه الصلة، وتؤمن بأن كل شكل من
أشكال الإنتاج يفرض وفقاً لقانون التطور_ نوعاً خاصاً من التوزيع،
وهو النوع الذي ينسجم مع ذلك الشكل من الإنتاج، ويواكب نموه
وتطوره. وإذا اتخذ الإنتاج شكلاً جديداً لا يتفق في حركته مع علاقات
التوزيع، التي فرضها الشكل السابق.. تحتم على علاقات التوزيع هذه أن
تخلي مكانها_ بعد تناقض وصراع مرير_ لعلاقات جديدة في التوزيع،
تلائم الشكل السائد من الإنتاج، وتساعده على النمو والتحرك. وهكذا
ترى الماركسية: أن نظام التوزيع يتبع دائماً شكل الإنتاج، ويتكيف وفقاً
لحاجاته. وهذه التبعية قانون طبيعي صارم للتاريخ، لا يمكن تبديله أو
تعديله. فالقضية الأساسية في حياة الإنسان هي أن ينتج، وأن يسير الإنتاج
وينمو باطراد. أما كيف يوزع الناتج؟. ومن هم الذين يمنحون حق
ملكية الوسائل المنتجة؟ وهل يتم التوزيع على أساس ملكية الرقيق؟..
__________
(1) راجع الكتاب ص 346.(1/24)
أو الملكية الإقطاعية، أو الملكية البرجوازية أو ملكية البروليتاريا.؟
فكل هذا تقرره مصلحة الإنتاج نفسه. فالإنتاج يتخذ في كل مرحلة
تاريخية الأسلوب الموقت من التوزيع الذي يمكنه من النمو في إطاره.
وقد درسنا هذه النظرية الماركسية بإسهاب، في الكتاب الأول من
اقتصادنا، واستطعنا أن نخرج من دراستنا بنتائج معاكسة للنظرية، تدينها
فلسفياً وعلمياً، وتبرهن على عجزها عن تفسير التاريخ(1). كما عرفنا في
بعض البحوث السابقة موقف الإسلام من هذه النظرية، ورفضه تبعية التوزيع لشكل
الإنتاج(2).
توجيه الإنتاج لضمان عدالة التوزيع:
والإسلام حين ينكر تبعية التوزيع لأشكال الإنتاج، وتكيفه تبعاً لها
بقوة القانون الطبيعي للتاريخ، كما تزعم الماركسية، لا يقطع الصلة بالمرة
بين التوزيع وشكل الإنتاج. ولكن الصلة في رأي الإسلام بين التوزيع
والإنتاج ليست علاقة تبعية وفقاً لقانون طبيعي، وإنما هي صلة يفرضها
المذهب، ويحدد فيها الإنتاج لحساب التوزيع، بدلاً عن تكييف التوزيع
طبقاً لحاجات الإنتاج، كما تقرره النظرية الماركسية.
وتقوم الفكرة في هذه الصلة على أساس النقاط التالية:
أولاً: إن الاقتصاد الإسلامي يعتبر قواعد التوزيع التي جاء بها ثابتة
وصالحة في كل زمان ومكان، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرة عن
عصر البخار، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي.
فعلى كل هذه العصور مثلا_ تصح القاعدة القائلة: إن من حق العامل
أن يقطف ثمار عمله.
وثانياً: إن عمليات الإنتاج التي يمارسها الفرد، تعتبر مرحلة تطبيق
لتلك القواعد العامة في التوزيع. فإحياء الأرض الميتة، واستنباط عين الماء
واقتطاع الخشب، واستخراج المعادن، كلها عمليات إنتاج. وهي في
نفس الوقت تؤدي إلى تطبيق القواعد العامة للتوزيع على الثروات المنتجة.
فمجال الإنتاج إذن هو ظرف تطبيق قواعد التوزيع.
__________
(1) راجع الكتاب: ص 37_250.
(2) راجع الكتاب: ص 335_345.(1/25)
وثالثاً: إن الإنتاج إذا ارتفع مستواه، وازدادت وسائله وإمكاناته..
نمت سيطرة الإنسان على الطبيعة، وأصبح بإمكان الفرد المجهز بقوى الإنتاج
أن يمارس نشاطه في نطاق أوسع من المجالات التي كانت تتاح له قبل نمو
الإنتاج وارتفاع مستواه.
وتعلية على هذه النقاط نعرف: إن تطور الإنتاج ونمو قواه، يتيح
للإنسان أكثر فأكثر استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق،
خلال عمليات الإنتاج التي يمارسها. وقد يبلغ هذا الاستغلال إلى درجة
تشكل خطراً على التوازن العام، ومثل العدالة الاجتماعية في الإسلام.
ولنأخذ مثالاً على ذلك من إحياء الأرض: فإن الإنسان في عصور
العمل اليدوي، لم يكن يستطيع أن يحيي مساحات شاسعة من الأرض،
لأن النظرية لا تأذن له باستخدام الأجرة في هذا السبيل، وهو لا يمكنه
بأدوات عصر ما قبل الآلة أن يباشر الإحياء إلا في حدود خاصة، ولهذا
لم يكن في مقدوره أن يسيء استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة
التطبيق ولا أن يمتلك مساحات خطيرة من الأرض، وفقاً للقاعدة التي
تمنح المحيي حقاً في الأرض التي أحياها. ولكن عصر الآلة يمد الفرد
بالقدرة على إحياء تلك المساحات الخطيرة، وإساءة استغلال القواعد العامة
للتوزيع في مرحلة التطبيق، فلا بد في هذه الحالة من توجيه التطبيق الوجهة
التي تتفق مع مثل العدالة الاجتماعية في الإسلام.
ومن هنا نشأت الصلة المذهبية في الإسلام، بين الإنتاج والتوزيع،
ومردها في الحقيقة إلى فكرة التطبيق الموجه، التي تحدد الإنتاج، بوصفه
عملية تطبيق لقواعد التوزيع، تحديداً يضمن عدالة التوزيع واتساقه مع
مثل الإسلام وأهدافه.
وقد جسد الإسلام فكرة التطبيق الموجه التي تحدد الإنتاج لحساب
التوزيع، في إعطاء ولي الأمر الحق في التدخل للحد من تطبيق القاعدة والمنع
عن الأعمال التي تؤدي إلى استغلال قواعد التوزيع استغلالاً سيئاً، ففي
مثال الأرض الذي قدمناه، يملك ولي الأمر الحق في منع الفرد من ممارسة(1/26)
الإحياء، إلا في حدود تعين وفقاً لتصور الإسلام للعدالة الاجتماعية كما
يقرره مبدأ تدخل الدولة الذي سوف ندرسه بتفصيل في بحث مقبل.
وهكذا نعرف أن تطور الإنتاج ونموه، قد يفرض على ولي الأمر
التدخل في توجيه الإنتاج، والتحديد من مجالات تطبيق القواعد العامة
للتوزيع، دون أن يمس جوهر القواعد نفسها.
وهذا يعني أن مبدأ تدخل الدولة الذي يسمح لها بتوجيه التطبيق،
هو القاعدة التي ضمن بها الإسلام صلاحية قواعده العامة في التوزيع،
وانسجامها مع تصوراته للعدالة الاجتماعية في كل زمان ومكان.
الصلة بين الإنتاج والتداول
الإنتاج كما نعرف هو: عملية تطوير الطبيعة إلى شكل أفضل بالنسبة
إلى حاجات الإنسان(1).
والتداول بمعناه المادي: نقل الأشياء من مكان إلى آخر، وبمعناه
__________
(1) وبالتعبير التقليدي في الاقتصاد هو: خلق منفعة جديدة:
وإنما آثرنا التعبير الأول في تعريف الإنتاج، لأن الذي يعرفونه بالصيغة الثانية، يقعون
في تعميم غير مقصود، لأنهم يفسرون المنفعة بأنها صفة في الشيء، تجعله صالحاً لإشباع أي حاجة
كانت. ويقولون: إن هذه الصفة ليست صفة ذاتية أو موضوعية في الشيء، وإنما تتولد عن
مجرد الرغبة فيه، ولو كانت الرغبة تقوم على خطأ في تقدير الموقف، كالرغبة في عقاقير
نتيجة لاعتقاد خاطىء بأثرها في الوقاية من الوباء.
وتعريف الإنتاج والمنفعة بهذا الشكل، يدرج في الإنتاج: عمل الفرد في اقناع الجمهور
بفائدة مادة معينة في الوقاية أو العلاج لأن هذا العمل يخلق منفعة جديدة ويؤدى إلى تمتع تلك المادة
بصفة إشباع لرغبة عامة، بالرغم من أن الفرد لم يمارس المادة في أي نشاط اقتصادي.
وهذا هو التعميم الذي يمنى به التعريف التقليدي. ولهذا قلنا: إن الإنتاج هو تطوير الطبيعة
إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان. وبهذا يتوقف اكتساب العمل طابع الإنتاج على خلقه
المنفعة وممارسته الطبيعة بلون من الألوان.(1/27)
القانوني_ وهو الذي نقصده بهذا البحث_ يعبر عن: مجموع عمليات
التجارة التي تتم عن طريق عقود المقايضة، من بيع ونحوه.
ومن الواضح: أن التداول بمعناه المادي نوع من عمليات الإنتاج. لأن
نقل الثروة من مكان إلى مكان يخلق في كثير من الأحيان منفعة جديدة
ويعتبر تطويراً للمادة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان، سواء
كان النقل عمودياً_ كما في الصناعات الاستخراجية، التي يمارس الإنتاج
فيها عملية نقل المواد الأولية من أعماق الأرض إلى سطحها_ أو أفقياً
كما في نقل السلع المنتجة إلى الأماكن القريبة من المستهلكين، وإعدادها في
متناول أيديهم، فإن نقلها بهذا الشكل نوع من التطوير إلى شكل أفضل،
بالنسبة إلى حاجات الإنسان.
وأما التداول بمعناه القانوني، ونقل الحقوق أو الملكية من فرد لآخر،
كما نشاهد في عمليات التجارة، فهو بوصفه عملية قانونية لابد أن يكتسب
مفهومه، وتحدد علاقته بالإنتاج على أساس مذهبي.
ولهذا يمكننا أن ندرس رأي الإسلام في الصلة بين الإنتاج والتداول
وطبيعة العلاقة التي يقيمها بينها في مخططه المذهبي العام.
ومفهوم الإسلام عن التداول وصلته بالإنتاج مذهبياً لا يساهم في تصور
مذهبي شامل فحسب، بل يلعب أيضاً دوراً مهماً في وضع السياسة العامة
في مجال التوزيع وملء الفراغ الذي تركه الإسلام للدولة لكي تملأ حسب
الظروف.
مفهوم الإسلام عن التداول:
والذي يبدو من دراسة نصوص المفاهيم والأحكام، واتجاهها التشريعي
العام: أن التداول في نظر الإسلام من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج،
ولا ينبغي أن ينفصل عن مجاله العام.
وهذا المفهوم الإسلامي، الذي سوف نلمحه في عدة نصوص وأحكام
يتفق تماماً مع قصة التداول تاريخياً ونشوئه، والحاجات الموضوعية التي ولدته.
فان التداول في أكبر الظن لم يكن موجوداً على نطاق واسع في المجتمعات
التي كان كل فرد فيها يكتفي عادة بما ينتجه مباشرة، في اشباع حاجاته(1/28)
البسيطة. لأن الإنسان الذي يعيش هذا الاكتفاء الذاتي لا يشعر بحاجة غالباً،
إلى الحصول على منتجات فرد آخر ليمارس مع ذلك الفرد لوناً من ألوان
التداول والتبادل. وإنما نشأ التداول في حياة الإنسان نتيجة لتقسيم العمل،
الذي أصبح كل فرد بموجبه يمارس فرعاً خالصاً من فروع الإنتاج، وينتج
في ذلك الفرع كمية أكبر من حاجته ويحصل على سائر السلع التي يحتاجها
من منتجي تلك السلع عن طريق التبادل، واعطائهم حاجاتهم من منتوجه
لقاء الحصول على منتوجاتهم فان تنوع الحاجات وكثرتها فرض تقسيم
العمل بهذا الشكل وبالتالي أدى إلى انتشار التداول ووجوده في حياة
الإنسان على نطاق واسع.
فمنتج الحنطة مثلاً يقتصر على انتاجها ويسد حاجته من الصوف بحمل
كمية من الحنطة الفائضة عن الحاجة، إلى منتج الصوف الذي يحتاج
بدوره إلى حنطة، فيدفع إليه حاجته من الحنطة ويتسلم منه مقابل ذلك
الكمية التي يريدها من الصوف.
ونلاحظ في هذه الصورة: أن منتج الحنطة التقى بالمستهلك مباشرة،
كما أن الراعي بوصفه منتجاً للصوف اتصل في عملية التداول بالمستهلك
للصوف، دون وسيط فالمستهلك_ وفقاً لهذه الصورة_: هو دائماً منتج
باعتبار آخر.
وتطور التداول بعد ذلك، فوجد الوسيط بين المنتج والمستهلك،
وأصبح منتج الصوف لا يبيع الصوف مباشرة لمنتج الحنطة في مثالنا السابق
بل أخذ شخص ثالث يقوم بدور الوساطة بينهما، فيشتري الكميات المنتجة من
الصوف، لا لاستهلاكها في حاجته الخاصة، بل لإعدادها وجعلها في متناول أيدي
المستهلكين. فبدلا عن أن يتصل منتج الحنطة بمنتج الصوف ابتداءً، أصبح
يلتقي بهذا الوسيط الذي أعد الصوف في السوق وهيأه للبيع، ويتفق معه
على الشراء. ومن هنا نشأت عمليات التجارة، وأصبح الوسيط يوفر
كثيراً من الوقت والجهد على المنتجين والمستهلكين.
وفي هذا الضوء نعرف: أن التداول أو نقل الملكية في كلا الدورين_(1/29)
دور التقاء المنتجين مباشرة ودور الوسيط التاجر_ كان يسبقه عمل من
أعمال الإنتاج، ممن ينقل ملكية المال إلى غيره ويحصل على ثمنه. ففي
الدور الأول: كان منتج الصوف يمارس بنفسه عملية إنتاج الصوف، ثم
يبيعه وينقل ملكيته إلى آخر بعوض. وفي الدور الثاني: كان الوسيط
يمارس عملية نقل الصوف إلى السوق، والمحافظة عليه وإعداده في متناول
يد المستهلك متى أراد. وهذا لون من الإنتاج كما عرفنا قبل لحظات.
وهذا يعني أن الفوائد التي يجنيها البائع من نقل ملكية المال إلى غيره
بعوض_ وهي ما نسميه الآن بالارباح_ كانت نتيجة لعمل إنتاجي،
يمارسه البائع، ولم تكن نتيجة لنفس عملية نقل الملكية.
ولكن سيطرة الدوافع الانانية على التجارة أدت إلى تطويرها، وانحرافها
عن وضعها الطبيعي، الذي كان ناتجاً عن حاجة موضوعية سليمة، وبخاصة
في عصر الرأسمالية الحديثة ونتج عن ذلك انفصال التداول والتبادل في
كثير من الأحيان عن الإنتاج، وأصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها،
دون أن يسبقها أي عمل إنتاجي من الناقل وتمارس لأجل الحصول على
فوائد وأرباح. فبينما كانت التجارة مصدراً لهذه الفوائد والأرباح،
بوصفها شعبة من الإنتاج، أصبحت مصدراً لذلك لمجرد كونها عملية
قانونية لنقل الملكية. ولهذا نجد في تجارة الرأسمالية: أن العمليات القانونية
لنقل الملكية قد تتعدد على مال واحد، تبعاً لتعدد الوسطاء بين المنتج
والمستهلك، لا لشيء، إلا لكي يحصل اكبر عدد ممكن من التجار الرأسماليين
على أرباح تلك العمليات ومكاسبها.
ومن الطبيعي يرفض الإسلام هذا الانحراف الرأسمالي في عمليات
التداول، لأنه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة ونظرته إليها بوصفها جزءاً
من الإنتاج كما قلنا آنفاً. ولهذا فهو يعالج قضايا التداول وينظّمها دائماً في
ضوء نظرته الخاصة إليه، ويتجه إلى عدم فصل التداول تشريعياً، في
التنظيمات القانونية لعقود المقايضة.. عن الإنتاج فصلا حاسماً.(1/30)
النصوص المذهبية للمفهوم:
ومن اليسير الآن_ بعد أن اتضحت معالم المفهوم الإسلامي عن التداول(1)
_ أن نلمح هذا المفهوم في النصوص المذهبية للإسلام، وفي مجموعة عن
الأحكام والتشريعات التي يضمها البناء العلوي للشريعة.
فمن النصوص المذهبية التي تعكس هذا المفهوم، وتحدد النظرة
الإسلامية إلى التداول، ما جاء في كتاب علي عليه السلام إلى واليه على مصر،
مالك الأشتر، وهو يضع له برنامج العمل، ويحدد له مفاهيم الإسلام (( ثم
استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً. المقيم منهم والمضطرب
بماله والمترفق ببدنه. فانهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من
المباعد والمطارح، في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس
لمواضعها ولا يجترون عليها)).
وواضح من هذا النص أن فئة التجار جعلت في صف واحد مع ذوي
الصناعات، أي المنتجين، وأطلق عليهم جميعاً أنهم مواد المنافع، فالتاجر
يخلق منفعة كما يخلق الصانع وعقب ذلك بشرح المنافع التي يخلقها التجار،
والعمليات التي يمارسونها، في جلب المال من المباعد والمطارح، ومن
حيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها.
فالتجارة في نظر الإسلام_ إذن_ نوع من الإنتاج والعمل المثمر
ومكاسبها إنما هي في الأصل نتيجة لذلك، لا للعملية في نطاقها القانوني
فحسب.
وهذا المفهوم الإسلامي عن التداول ليس مجرد تصور نظري فحسب،
وإنما يعبر عن اتجاه عملي عام لأنه يقدم الأساس الذي تملأ الدولة على
ضوئه الفراغ المتروك لها في حدود صلاحياتها، كما ألمعنا إلى ذلك سابقاً.
الاتجاه التشريعي الذي يعكس المفهوم:
وأما الأحكام والتشريعات التي تعكس المفهوم الإسلامي في التداول،
فيمكننا أن نجدها في عدد من النصوص التشريعية، والآراء الفقهية كما يلي:
__________
(1) قد يكون من الأفضل أن نعبر عن هذا اللون من المفاهيم بكلمة: اتجاه إسلامي، تمييزاً
لها عن الأحكام الإسلامية.(1/31)
1_ في رأي عدد من الفقهاء كالعماني والصدوق والشهيد الثاني
والشافعي وغيرهم: إن التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يقبضها لا يسمح له
أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن أكبر، وإنما يجوز له ذلك بعد قبضها
مع أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بنفس العقد، ولا تتوقف
على أي عمل بعده. فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد وإن لم يقبضها،
ولكنه بالرغم من ذلك لا يسمح له بالاتجار بها، والحصول على ربح ما لم
يقبض المال، حرصاً على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة
عن كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحاً.
وفي عدة نصوص تشريعية ما يشير إلى هذا الرأي_ ففي خبر علي بن
جعفر: (( أنه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: عن الرجل
يشتري الطعام، أيصلح بيعه قبل أن يقبضه؟ قال (ع): إذا ربح لم يصلح
حتى يقبض، وإن كان تولية_ أي باعه بنفس الثمن الذي اشتراه به بدون
ربح_ فلا بأس))(1).
وقال العلامة الحلي في التذكرة: (منع جماعة من علمائنا بيع ما لم
يقبض في سائر المبيعات(2).
وقال الإمام الشافعي: (وبهذا نأخذ فمن ابتاع شيئاً كائناً ما كان
فليس له أن يبيعه حتى يقبضه)(3).
وإلى ذلك ذهب الفقهاء الاحناف أيضاً(4).
2_ في رأي الاسكافي، والعماني، والقاضي، وابن زهرة،
والحلبي، وابن حمزة ومالك، وكثير من الفقهاء: أن التاجر إذا ابتاع
مالاً مؤجلاً بثمن يدفعه فعلاً، فليس له حين حلول الأجل أن يبيع ما اشتراه
_ قبل قبضه_ بثمن أكبر(5)
__________
(1) الوسائل للحر العاملي محمد بن الحسن جـ 12 ص 389.
(2) تذكرة الفقهاء المجلد الأول من الطبعة الحجرية كتاب البيع خاتمة في مسائل القبض
المسألة الأول .
(3) الأم للشافعي جـ 3 ص 69.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري جـ 20 ص 224. والهداية في شرح بداية المبتدي
للمرغيناني جـ 3 ص 59.
(5) لاحظ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للفقيه النجفي الشيخ محمد حسن المجلد
الرابع من الطبع الحجرية كتاب البيع الفصل العاشر وبالنسبة إلى مالك لاحظ المغني لا بن قدامة.(1/32)
فإذا اشتريت حنطة من الزارع، واتفقت
معه على أن يسلمك الحنطة بعد شهر، ودفعت له الثمن فعلا، فلا يجوز لك
بعد مرور شهر أن بيع تلك الحنطة بزيادة قبل أن تقبضها، وتستغل عملية
النقل القانوني في سبيل الحصول على ربح جديد، وإنما لك أن تبيع المال
بنفس الثمن الذي اشتريته به.
وقد كتب ابن قدامة يقول: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم
في تحريمه خلافاً)(1).
وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى عدة روايات ففي الحديث: أن
أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: من اشترى طعاماً أو علفاً إلى أجل،
فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقاً، فلا يأخذ إلا رأس ماله لا يظلمون ولا
يظلمون))(2). وفي حديث آخر: ((عن يعقوب بن شعيب أنه سأل
الإمام الصادق (ع): عن الرجل يسلف في الحنطة والتمر بمأة درهم،
فيأتي صاحبه حين يحل له الذي له، فيقول: والله ما عندي إلا نصف الذي
لك، فخذ مني إن شئت بنصف الذي لك حنطة وبنصفه ورقاً،_أي
نقداً_ فقال: لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه_ أي بقدر مائة
درهم))(3) (4).
3_ جاء في نصوص نبوية كثيرة النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع
الحاضر للبادي. ففي الحديث: ((أن رسول الله (ص) قال: لا يتلقى
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 4 ص 270.
(2) الوسائل للشيخ العاملي جـ 13 ص 76.
(3) و (4) هذه النصوص إنما تدل على الحكم المقصود، إذا كانت تستهدف بالنهي الوارد فيها،
منع المشتري عن بيع ما اشتراه سلفاً قبل قبضه وبعد حلول أجله بثمن أكبر. وأما إذا كانت
النصوص تريد بيان ما للمشتري المطالبة به، إذا فسخ العقد استناداً إلى حقه في الخيار، نتيجة
لعدم تسليم البائع له السلعة في الوقت المحدد، فيكون معنى النهي فيها أن المشتري إذا لم يتسلم
السلعة التي اشتراها سلفاً في الوقت المحدد، وفسخ العقد، فليس له إلا استرجاع نفس الثمن
الذي سلمه البائع سابقاً. وعلى هذا التقدير لا تبقى في النصوص دلالة على النهي عن البيع بثمن
أكبر قبل القبض.(1/33)
أحدكم تجارة خارجاً من المصر، ولا يبيع حاضر لباد))(1).
وروى الشافعي بسنده إلى جابر أن رسول الله (ص) قال: (لا يبيع
حاضر لباد دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض) كما روى بسنده إلى أبي
هريرة أن رسول الله (ص) قال (لا تلقّوا السلع)(2).
وتلقي الركبان هو: خروج التاجر إلى خارج البلد، ليستقبل أصحاب
البضائع، ويشتري منه بضائعهم، قبل أن يدخلوا البلد، ويرجع إلى
المدينة فيبيع السلع على الناس. وبيع الحاضر لأهل البادية: أن يتولى تاجر
المدينة شأن القرويين، الذين يقدمون المدينة وهم يحملون منتجاتهم من
فواكه وألبان وغيرها، فيشتريها منهم ثم يبيعها ويتجر بها. وواضح أن
النهي عن هاتين العمليتين يحمل طابع الاتجاه الإسلامي الذي نحاول إثباته،
لأن النهي يستهدف الاستغناء عن الوسيط ودوره الطفيلي، الذي يحول به
دون مواجهة صاحب السلعة للمستهلك مباشرة، لا لشيء إلا ليربح الوسيط
على أساس اقحام نفسه بينهما. فالوساطة هنا لا يرحب بها الإسلام، لأنها
وساطة متكلفة لا تعبر عن أي محتوى إنتاجي لعمليات التجارة، بل عن
هدف في مجرد المبادلة لأجل الربح.
لمن ننتج؟
أود البدء بإبراز موقف الرأسمالية من هذا السؤال، ليتاح عن طريق
مقارنة الموقف الإسلامي به، إعطاء الجواب من وجهة نظر الإسلام،
بملامحه المحددة، وسماته المميزة.
الموقف الرأسمالي:
المذهب الرأسمالي يعتمد في توجيه الإنتاج على جهاز الثمن، الذي
تحدده قوانين العرض والطلب في السوق الحرة، لأن الاقتصاد الرأسمالي
الحر يقوم على أساس المشاريع الخاصة، التي يديرها الأفراد وتخضع
لإرادتهم وكل واحد من هؤلاء يدير مشروعه ويخطط إنتاجه، وفقاً
لمصلحته ورغبته في أكبر قدر ممكن من الربح. فحاسة الربح هي التي تكيف
لدى كل فرد إنتاجه وتوجه نشاطه. والربح يتبع حركة الثمن في السوق،
__________
(1) الوسائل للحر العاملي جـ 12 ص 326_327.
(2) الام الشافعي جـ 3 ص 92_93.(1/34)
فكلما اطلع صاحب المشروع على ارتفاع ثمن سلعة، اتجه إلى إنتاجها بقدر
كبير، أملا في الحصول على الوفير من الربح. ومن الواضح أن ارتفاع
ثمن السلعة في السوق يعكس في الظرف السليمة زيادة الطلب عليها. وبهذا
تضمن الرأسمالية ربط الإنتاج بالطلب، لأن الربح هو الذي يحرك الإنتاج،
وارتفاع الثمن هو الذي يغري المشاريع الرأسمالية بالربح، وزيادة الطلب
هي التي تؤدي إلى ارتفاع الثمن، فيكون الإنتاج في النهاية موجهاً من قبل
المستهلكين ومكيفاً طبقاً لحاجاتهم، التي تعبر عن نفسها في زيادة الطلب
وارتفاع الثمن. وفي هذا الضوء تجيب الرأسمالية على سؤال: لمن ننتج؟
إن الإنتاج لأجل المستهلكين وحاجاتهم. ويتناسب طرداً وعكساً واتجاهاً
مع هذه الحاجات.
نقد الموقف الرأسمالي:
هذه هي الصورة الظاهرية للإنتاج الرأسمالية، أو هي الصورة المشرقة
التي يحاول الرأسماليون إبراز الإنتاج الرأسمالي في إطارها الزاهي، ليبرهنوا
على التوافق والتلاقي في ظل النظام الرأسمالي بين خطي الإنتاج والطلب،
وحركتيهما العامتين.
ولكن هذه الصورة، بالرغم من صدقها جزئياً، لا تستطيع أن تخفي
التناقض الصارخ في ظل النظام الرأسمالي بين الإنتاج والطلب. فهي تشرح
الترابط في تسلسل متعدد الحلقات بين الإنتاج والطلب، ولكنها لا تحدد
مدلول الطلب، ولا تكتشف عن مفهوم الرأسمالية عن هذا الطلب، الذي
يتحكم في الإنتاج ويواجهه بواسطة رفع ثمن السلع.
والحقيقة أن الطلب في المفهوم الرأسمالي هو تعبير نقدي أكثر من كونه
تعبيراً بشرياً عن حاجة من الحاجات، لأنه لا يشمل إلا قسماً خاصاً من
الطلب وهو ذلك الطلب الذي يؤدي إلى ارتفاع ثمن السلعة في السوق، أي
الطلب الذي يتمتع بالقوة الشرائية، ويمتلك رصيداً نقدياً قادراً على اشباعه
وأما تلك الطلبات المجردة عن تلك القوة النقدية، التي لا تستطيع أن تغزو
السوق الرأسمالية ولا تؤدي إلى رفع ثمن السلعة لعدم امتلاكها الثمن،(1/35)
فنصيبها الإهمال مهما كانت ملحَّة وضرورية، ومهما عمَّت واستوعبت،
لأن الطلب لا بد أن يبرهن عليه الطالب بالنقد الذي يقدمه، وما لم يقدم
هذا البرهان فلا حق توجيه الإنتاج، ولا كلمة له في الحياة الاقتصادية
الرأسمالية، وإن نبع من صميم الواقع البشري وضروراته الملحة.
وبمجرد أن نعرف مفهوم الرأسمالية هذا عن الطلب، تتبدد فجأة كل
تلك الأحكام الذهبية التي نسجها أنصار الاقتصاد الحر، حول الإنتاج
الرأسمالي وتكيفه وفقاً للحاجة والطلب، لأن القوة الشرائية في المجتمع
الرأسمالي تتوفر_ بدرجات عالية_ في القلة المحظوظة التي تسيطر على
ثروات البلاد، وتنخفض لدى غيرهم، وتهبط هبوطاً كبيراً في مستوى
القاعدة التي تتكون منها أكثرية المجتمع الرأسمالي ونتيجة هذا التفاوت
الهائل في القوة الشرائية_ من وجهة نظر المذهب الرأسمالي_ أن تحتكر
الطلبات ذات القوة الشرائية الضخمة توجيه الإنتاج، وتملي ارادتها عليه،
لأنها هي التي تغري أصحاب المشاريع، وتسيل لعابهم بما تؤدي إليه من
ارتفاع الأثمان وتحرم الطلبات الحياتية للجمهور من ذلك لعدم تمتعها بقوة
شرائية مغرية.
ولما كانت الطلبات التي تتمتع بالقوة الشرائية الضخمة، قادرة على
جلب كل السلع الضرورية والكمالية، وأدوات اللهو ووسائل الترف من
السوق الرأسمالي، بينما تعجز الطلبات الفقيرة حتى عن جلب السلع
الضرورية بصورة كاملة، فسوف يؤدي ذلك إلى تجنيد المشاريع الرأسمالية
كل طاقاتها لإشباع تلك الطلبات المترفة، والرغبات النهمة التي لا تكف عن
التفنن في إشباع نهمها، وتطلب الجديد تلو الجديد من أدوات البطر ووسائل
المتعة واللذة، وتبقى طلبات الكثرة الكاثرة من الناس على السلع الضرورية
ومواد الحياة قائمة دون أن تلقى عناية من الإنتاج الرأسمالي، اللهم إلا في
الحدود التي توفر للكبار الأيدي العاملة. وهكذا تمتلىء الأسواق الرأسمالية(1/36)
بالوان من سلع الترف والكماليات، بينما تفقد أحياناً الكمية الكافية من
السلع الضرورية التي تستطيع أن تشبع الجميع إشباعاً كاملاً.
هذه هي الرأسمالية في موقفها من الإنتاج، والطريقة التي تعتمد عليها
في تحديد حركته.
الموقف الإسلامي:
1_ يحتم الإسلام على الإنتاج الاجتماعي أن يوفر إشباع الحاجات
الضرورية لجميع أفراد المجتمع، بإنتاج كمية من السلع القادرة على إشباع
تلك الحاجات الحياتية، بدرجة من الكفاية التي تسمح لكل فرد بتناول
حاجته الضرورية منها. وما لم يتوفر مستوى الكفاية والحد الأدنى من السلع
الضرورية، لا يجوز توجيه الطاقات القادرة على توفير ذلك إلى حقل آخر
من حقول الإنتاج. فالحاجة نفسها ذات دور إيجابي في حركة الإنتاج،
بقطع النظر عن القدرة الاقتصادية لهذه الحاجة ورصيدها النقدي.
2_ كما يحتم الإسلام أيضاً على الإنتاج الاجتماعي أن لا يؤدى إلى
الإسراف، لأن الإسراف محرم في الشريعة، سواء حصل بتصرف شخصي
من الفرد أو بتصرف عام من المجتمع خلال حركة الإنتاج، فكما يحرّم
على الفرد أن يستعمل العطور الثمينة في غسل ساحة داه، لأنه إسراف،
كذلك يحرم على المجتمع أو على منتجي العطور_ بتعبير آخر_ أن ينتجوا
من العطور كمية تزيد على حاجة المجتمع وقدرته الاستهلاكية والتجارية،
لأن إنتاج الفائض لون من الإسراف، وتبديد الأموال بدون مبرر.
3_ يسمح الإسلام للإمام بتدخل في الإنتاج، للمبررات الآتية:
أولاً: لكي تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية،
والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه لأن من الواضح أن سير مشاريع
الإنتاج الخاصة، وفقاً لإرادة أصحابها، دون توجيه مركزي من قبل
السلطة الشرعية يؤدي في عصور الإنتاج المعقد والضخم إلى تسيب الإنتاج
الاجتماعي، وتعرضه للإسراف والإفراط من جانب، وللتفريط بالحد
الأدنى من جانب آخر. فلا بد لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدين
من الأشراف والتوجيه.(1/37)
وثانياً: لأجل أن تملأ منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف. فان
منطقة الفراغ تضم جميع ألوان النشاط المباحة بطبيعتها فلولي الأمر أن
يتدخل في هذه الألوان من النشاط، ويحدد منها في ضوء الأهداف
العامة للاقتصاد الإسلامي. وسوف نتحدث بتفصيل عن منطقة الفراغ
هذه، وحدودها ودورها في البحث المقبل. والذي نعينه هنا أن الصلاحيات
الممنوحة لولي الأمر في ملء منطقة الفراغ، تجعل من حقه التدخل في حركة
الإنتاج والأشراف عليها، وتحديدها ضمن منطقة الفراغ المتروكة للدولة.
وثالثاً: إن التشريع الإسلامي بشأن توزيع الثروات الطبيعة الخام
يفسح المجال بطبيعته للدولة لكي تتدخل، وتهيمن على الحياة الاقتصادية
كلها، لأن تشريع الإسلام بهذا الشأن يجعل من المباشرة في العمل، شرطاً
أساسياً في تملك الثروة الطبيعية الخام، واكتساب الحق الخاص فيها_
على قول فقهي سبق في بعض الأبنية العلوية_ وهذا يعني بطبيعته عدم
إمكان قيام الفرد، مهما كانت إمكاناته بالمشاريع الكبرى في استثمار
الطبيعة وثرواتها العامة، مادام لا يكتسب حقه فيها إلا بالمباشرة. فيتعين
على إنتاج الثروات الطبيعية الخام والصناعات الاستخراجية، أن تتم بتنظيم
من السلطة الشرعية، ليتاح عن طريقها إقامة مشاريع كبرى لاستثمار تلك
وإذا تمت للدولة الهيمنة على الصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد
الأولية الخام، كان لها بالتالي السيطرة وبصورة غير مباشرة.. على مختلف
فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية، لأنها تتوقف غالباً على الصناعات
الاستخراجية، وإنتاج المواد الأولية، فيمكن لولي الأمر أن يتدخل في
مختلف تلك الفروع بصورة غير مباشرة، عن طريق هيمنته على المرحلة
الأولى والأساسية من الإنتاج، أي إنتاج المواد الطبيعة.(1/38)