بحث:
هل للعيدين خطبتين كالجمعة أم خطبة واحدة ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على بنينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى لم يتعبّدنا إلاّ بما شرعه الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ بما جاء في كتاب الله تعالى وما صح من السنّة.
ولقد كثر الاستفسار عن موضوع لم يكن هناك نص صحيح وصريح للجزم والبت فيه، ألآ وهو: خطبة العيدين؛ أهي واحدة، أم خطبتين كالجعمة؟.
ولقد كتبت هذا البحث المصغر منذ عام 1418هـ ضمن كتاب لي أسميته ( الملاحظات الحسان على بعض أئمة مساجد هذا الزمان )، وقد انتهيت منه من زمن؛ يسر الله طبعه.
فأبدأ بحثي مستعيناً بالله تعالى، وأسأله التوفيق والسداد والصواب في القول والعمل، إنه جواد كريم، فأقول:
لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرار الخطب في العيدين؛ بخلاف الجمعة، وكل من تكلم وقال بالخطبتين في العيدين؛ إنما قياساً على خطبتي الجمعة، ولم يثبتوا حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحاً صحيحاً, ولا عن احدٍ من أصحابه - رضي الله عنهم - .
وغاية ما استدلّوا به: حديث جابر - رضي الله عنه - قال : ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر ـ أو الأضحى – فخطب قائماً, ثم قعد مقعدة، ثم قام ). أخرجه: ابن ماجه: ( 1289 )، والبوصيري في "الزوائد": ( 417 )، وفي "مصباح الزجاجة": ( 1289). قال الشوكاني في "النيْل" (3/305): "وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف". انتهى.
وعلى هذا الحديث ملاحظات:
أولاً: أن قوله: "ثم قام"؛ ليس بصريح أنه قام إلى الخطبة الثانية.
ثانيا: اضطراب المتن.
فقد وقع في رواية النسائي في "الصغرى" كما ذكر البوصيرى في "الزوائد" فقال: "رواه النسائي في "الصغرى" من حديث جابر، إلاّ قوله: ( يوم فطر أو أضحى )".
و في رواية ابن ماجه (يوم فطر أو أضحى)؛ على الشّكِّ أيضاً بين العيدين .
ثالثاً : نكارة المتن والسند.(1/1)
قال الألباني في ضعيف ابن ماجه ( ص/94 )؛ عن هذا الحديث: " (منكر) ـ سنداً ومتناً، والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة, ومن حديث جابر بن سمُرة كما في (م)، والتعليق على ابن خزيمة (2/349)، وانظر الحديث المتقدم: (1105-1106)، وهما في صحيح ابن ماجه برقم (:907, 908)". انتهى كلام الألباني – حفظه الله .
أما حديث جابر بن سمره فهو من سِمَاك قال :"أنبأني جابر بن سمره: ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطُب قائماً, ثم يجلِس، ثم يقوم فيخطُب قائماً، فمن نبّأك أنه كان يخطُب جالساً فقد كذب، فقد- والله ـ صلّيتُ معه أكثر من ألفيْ صلاة ). أخرجه: مسلم ( 862 )، وابن ماجه (110، 1106)، و النسائي ( 1416)
، و ابن خزيمة (1447).
قال الألباني في تعليقه على ابن خزيمة: " قلت: هذا الحديث في خطبتي الجمعة، بدليل: رواية خالد بن الحارث: حدثنا عبيد الله به، ولفظه: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُب يوم الجمعة قائماً ...) الحديث. فقوله في الكتاب (الخطبتين)؛ اللاّم فيه للعهد وليس للاستغراق، فتنبّه".ا.هـ.
وفى لفظ من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس, ثم يقوم. قال: كما تفعلون اليوم ). مسلم (861).
رابعا : ضعف الإسناد .
أما إسناد الحديث ففيه: عبد الرحمن بن عثمان أبو بحر البصري.
قال أحمد بن حنبل: "طرح الناسُ حديثه"، و قال يحيى بن معين: " ضعيف"، و قال ابن المديني: "ذهب حديثه"، و قال أبو حاتم: " ليس بقويّ؛ يُكتبُ حديثُه، ولا يحتج به"، و قال النسائي: " ضعيف"، و قال ابن حبّان: " يروي المقلوبات عن الأثْبات، ويأتي عن الثّقات ما لا يشبه أحاديثهم؛ فلا يجوز الاحتجاج به" و قال أبو داود: "وتركوا حديثه"، و قال ابن حجر: "ضعيف، من التاسعة"، و قال ابن عديّ: "له أحاديث غرائب عن شُعبة، وعن غيره من البصريّين".(1/2)
انظر ترجمته في: ( تاريخيْ البخاري "الكبير والصغير" على التوالي:5/331،2/253 )، و (ضعفاء النسائي: ترجمة/357)، و(جرح ابن أبي حاتم:5/264)، و (كامل ابن عدي:4/296)، و ( مجروحين ابن حبان:2/61)، و (تهذيب المزي:17/271)، و (ميزان، مغني، كاشف الذهبي على الترتيب: 2/578، 2/383، 1/363)، و (تهذيب، تقريب ابن حجر على التوالي:6/205، ترجمة/3943).
وفي الإسناد- أيضاً -: إسماعيل بن مسلم المكّي, أجمعوا على ضعفه.
قال أحمد: "منكر الحديث "، و قال يحيى القطّان: "لم يزل مخلِّطاً يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة أضراب"، و قال عمرو بن علي: " ضعيف في الحديث يَهِمُ فيه؛ وكان صدوقاً يكثر الغلط"، و قال إبراهيم بن يعقوب السعدي: "واهي الحديث جداً"، و قال أبو زُرْعة: "ضعيف الحديث"، و قال البخاري: "تركه يحيى وابن مهدي وابن مبارَك"، و قال النسائي: "متروك الحديث".
راجع ترجمته في: (ابن سعد: 7/274)، و(تاريخ البخاري:1/372)، و (الضعفاء والمتروكين، الضعفاء الصغير ؛كلاهما للنسائي على التوالي: ترجمة:36، 19)، و (ضعفاء الدارقطني: ترجمة: 77)، و (ضعفاء العقيلي: 1/91)، بالإضافة للمراجع السابقة في ترجمة "أبو بحر"، مع ملاحظ البحث عنه في الأجزاء.
وفي سند الحديث – أيضاً – أبو الزبير؛ وهو مدلس، وقد عنعن.
فالحديث ضعيف، لا تقوم به حجة.
وممّا استدل به من قال بالخطبتين في العيدين:
اثر ابن عباس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقعُد يوم الجمعة والفطر و الأضحى على المنبر, فإذا سكت المؤذن يوم الجمعة؛ قام فخطب ثم جلس، ثم يقوم فيخطُب ثم ينزل فيصلّي ). وهو: ضعيف. أخرجه: البيهقي (3/299)، وقال عقبه: "فجمع ـ إنْ كان محفوظاً ـ بين الجمعة والعيدين في القعدة، ثم رجع إلى حكاية الجمعة" انتهى.
ففي هذا الحديث؛ اضطرابٌ في المتن:
فصدرُ الحديث جمع بين الجمعة والعيدين، و عجز الخبر في الجمعة فقط .(1/3)
وأيضاً: فليس للعيدين أذان، ثم إنّ صلاه العيدين قبل الخطبة، و وقع في الخبر أنّ الصلاة بعد الخطبة !! فتنبه !.
ثانياً: ضعف الإسناد.
في سند الحديث: الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبّاس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي.
قال أحمد: " له أشياء منكرة "، و قال البخاري: "قال علي: تركتُ حديثه وتركه أحمد"، و قال أبو زرعة: "ليس بالقوي"، و قال أبو حاتم: "ضعيف لا يُحتجُّ بحديثه"، و قال الجوزجاني: "لا يُشتغل بحديثه"، و قال النسائي: " متروك"، و قال ابن حبّان: "يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل"، و قال يحيى ابن معين: "ضعيف"، و قال ابن حجر: "ضعيف، من الخامسة".
راجع ترجمته في المراجع السابقة، وتكفي عن الإعادة.
فالحديث لا يصحُّ مرفوعاً، ولا موقوفاً، ومن ثَمَّ؛ لا يصحُّ الاحتجاج به.
ومما قد يتشبّث به من تشبّت:
أثر عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أنه قال: " السنّة: أنْ يخطُب الإمام في العيدين خطبتين؛ يفصل بينهما بجلوس".
رواه الشافعي في "مسنده" (77)، وأنظره في "شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الإمام الشافعي؛ بترتيب العلامة السندي": (1/324) لأبي عمرو مجدي ابن محمد المصري، وأخرجه: البيهقي (3/299).
في هذا الأثر عدة ملاحظات:
أولا: إسناده؛ ضعيف جداً، وهو مرسل . فمثله لا يُحتجُّ به، ولا حتى في المتابعات.
فيه: إبراهيم بن محمد بن يحيى – شيخ الإمام الشافعي -: قال عنه الإمام أحمد: "قدري معتزلي جهميّ؛ كل بلاء فيه، ترك الناس حديثه"، و قال يحيى القطان: "كذاب"، و قال البخاري: "كان يرى القدر جهميّ، تركه ابن المبارك والناس"، و قال أحمدٌ مرّة: "يروى أحاديث ليس لها أصل"، و قال ابن معين: "كذابٌ رافضي قدري"، و قال ابن حبّان: "كان مالك وابن المبارك ينهيان عنه، وتركه يحيى القطّان وابن مهدي؛ وكان يري القدر، ويذهب إلى كلام جهم، ويكذب في الحديث".
انظر ترجمته في المراجع السابقة الخاصة بتراجم الرجال، حتى لا أطيل.(1/4)
ثانيا: "عبيد الله بن عبدالله من فقهاء التابعين، وليس قولٌُ التابعي (من السنّة ) ظاهراً في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يكون قولُه من السنّة؛ دليلاً على أنّها سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في الأصول". قاله الشوكاني في "نيْل الأوطار": (3/305).
وبعد أنْ عرفنا ضعف أسانيد الآثار التي جاءت بخبر خطبتين للعيدين، فإنّه لا حجّة لأحدٍ فيها؛ بتعليق الحكم عليها .
و بهذا لم تثبت خطبتين للعيدين، وكل من قال بالخطبتين إنما هو قياس على خطبتي الجمعة وإليك أقوالهم:
قال البيهقي: " ثم قيامه وخطبته بينهما جلسة خفيفة؛ قياساً على خطبتي الجمعة". (السنن الكبرى: 3/299).
قال ابن حجر متعقّباً قول الرافعي: "قوله: (ويجلس بينهما كما في الجمعة)؛ متقضاه: أنه احتجّ بالقياس". ( تلخيص الحبير: 2/86).
قال شمس الدين السرخسي: "والخطبة في العيد كهي في الجمعة، يخطُب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة". ( المبسوط: 2/37).
قال النوى في "الخلاصة" وما روي عن ابن مسعود أنه قال : (السنّة أن يخطب في العيد خطبتين يفصل بينها بجلوس)؛ ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن؛ المعتمد فيه القياس على الجمعة ". انتهى كلام النووي؛ نقلا عن الزيلعي في"نصب الراية": (2/221)، و الآبادي في "عون المعبود": (4/4).
قال الشوكاني في أثر عبيد الله بن عبدالله المتقدم: "يرجّحه القياس على الجمعة ". (النيْل:3/305).
وقد سألت شيخي ـ رحمه الله ـ الإمام عبد العزيز بن باز، وذلك على مائدته في مدينة الطائف صيف عام 1418هـ في الوقت الذي أنا أكتب وأبحث في هذه المسألة، فقلت له: يا شيخ ـ حفظك الله ـ هل صح حديث في خطبتين للعيدين ؟
فقال ـ رحمه الله ـ: "لم يصح فيها حديث".
فقلت له: إلى ماذا يذهبون في الخطبتين؟
فأجابني قائلاً: "قياساً على الجمعة، أو يقيسون على الجمعة" الشك مني.(1/5)
وقد فاتني شياً كبيراً، ـ وذلك لأن الوقت لا يسمح بكثرة الأسئلة والمناقشة؛ فقد كنّا على المائدة "غداءَ" ـ وهو أني لم أسأله ـ رحمه الله ـ:
هل هذا القياس معتبر؟ وإلى ماذا تذهب أنت ـ شيخنا الفاضل ـ؟
فالحمد لله على كل حال.
أما الأخبار الصحيحة التي جاءت بخبر خطبته - صلى الله عليه وسلم - في العيدين فإنها لم تذكر الجلسة، ولا الخطبة الثانية:
فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: ( إن لنبي - صلى الله عليه وسلم - قام فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناس بعدُ؛ فلمّا فرغ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نزل، فأتى النساء فذكّرَهُنَّ؛ وهو يتوكّأُ على يد بلال، و بلالٌ باسطٌ ثوبه، يلقى فيه النساء صدقةً". (البخاري: 918).
وقد صرح جابر - رضي الله عنه - بـ "يوم الفطر" في لفظ الحديث الذي قبله ( رقم 915)؛ وهو حديثٌ مخرجه واحد؛ فقال: ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر ..) الحديث.
ومثل الجلسة بين الخطبتين، والخطبة الثانية؛ أمرٌ ظاهرٌ، ولا بدّ من نقل الصحابة له لو حدث ـ في العيدين ـ، فلمّا لم يفعلوا؛ عُلِمَ أنه لم يكن ثمَّ جلسة، ولا خطبة ثانية للعيدين.
وقد نقل الصحابة الكرام؛ خبر الجلسة بين الخطبتين في الجمعة، وكذا لم يفُتْهم أن يذكروا "... يخطُب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس, ثم يقوم".
وخطبة العيدين من العبادات الحولية، ولها مكانة عظيمة في نفوس الصحابة، وذو أهمية كبيرة ـ حيث يتقرر فيها من الأحكام والتشريعات؛ ما لم يكن في غيرها من الأوقات، كالتكبير ،والنهي عن صوم يومي العيدين، والندب إلى صوم يوم عرفة لغير الحاج، والأعظم من ذلك كله: تعَلُم مناسك الحج؛ دقيقها وجليلها ـ ؛ فمن المؤكد أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لو حدثت الخطبتين في العيدين؛ لما غاب ذلك عنهم، ولنقلوه لنا؛ ولو من آحادهم، كما نقلوا ما هو أدق من الخطبتين والجلسة بينهما ـ للعيدين لو حدثت ـ.(1/6)
فمن ذلك: أنهم نقلوا لنا، أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالصلاة قبل الخطبة في العيدين، وخطب على ناقته في الحج، وقام على رجليه في الفطر يتوكأ على بلال، واستقبل الناس بوجهه، وتوجهه للنساء ووعظه لهنّ. كل هذا وأكثر وأدق منه؛ نقله الصحابة الأمناء الكرام ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ، فكيف يُهمِلون نقل خبر الخطبة الثانية والجلوس قبلها في العيدين لو فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحاشاهم أن يُهملوا ذلك أو أقل منه، لأنهم هم الخيرة الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل.
ثُمّ أن هناك؛ لفتة مهمة في الحديث، في قوله: ( ثُمّ خطب الناس بعدُ، فلما فرغ نبي الله نزل)؛ وهي:
أنه لا يتبادر إلى الذهن في أول وهلة؛ إلاّ أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب خطبة واحدة، لا خطبتين.
وفي قوله: ( فأتى النساء فذكرهن ).
هل يستطيع أحداً؛ أن يقول: أنها الخطبة الثانية؟!!
وإن قلنا أنه خطب على المنبر خطبتين!!، فهل يستطيع أحداً؛ أن يقول: أن تذكيره - صلى الله عليه وسلم - النساء ووعظهنّ؛ خطبة ثالثة؟!!
وهل تذكير النساء ووعظهنّ في العيدين ـ مستقلين عن الرجال ـ واجب على الإمام؟!
وهل جرى على ذلك السلف الصالح ـ أعني؛وعْظ النساء مستقلين في العيدين ـ؟
فإذا لم يثبت حديث صحيح صريح في خطبتين للعيدين، وأن الآثار التي وردة في ذلك كلها لا تخلُ من ضعف في السند، ونكارة في المتن.
والحديث الصحيح، لم يذكر خطبتين للعيدين؛ بل وشِبه التصريح في الحديث بأنه: ثَمّ خطبة واحدة في "الفطر"؛ وذلك مفهوم قوله: ( ...خطب الناس... فلما فرغ... نزل فأتى النساء...)، فلا يُفهم من سياق هذا الحديث الصحيح إلا خطبة واحدة للعيدين. والله اعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
وكتبه
جمال بن فريحان الحارثي(1/7)