هل انتحرت حواء أم استشهدت ؟
أشرف على هذه الرسالة
فضيلة الشيخ
سيلمان بن ناصر العلوان
بسم الله الرحمن الرحيم
هل انتحرت حواء أم استشهدت ؟
تأتي هذه الدراسة الشرعية بعدما كثف المجاهدون في الآونة الأخيرة من عملياتهم والتي تسمى بالعمليات الاستشهادية لنبين فيها حكم هذه العمليات ، وليعلم الأخ القارئ أن مناقشة هذه العمليات ومدى مشروعيتها فيما إذا وقعت في أرض حرب كما هو مبين في خلاصة البحث أما العمليات التي تقع في غير أرض الحرب فلا تتناولها دراستنا هذه .
أولاً: المقدمة
ثانياً : فصل في تعريف العمليات الاستشهادية
ثالثاً : فصل في أدلة المسألة
رابعاً : فصل في أقوال العلماء فيمن هجم على العدو وحده
خامساً : فصل في مسألة التترس
سادساً : فصل في قول الجمهور فيمن أعان على القتل
سابعاً : فصل في تعريف الشهيد
ثامناً : فصل في تعريف المنتحر
تاسعاً : خلاصة البحث
عاشراً : الخاتمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ، والصلاة والسلام على إمام الهدى وسيد المرسلين القائل ( والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ) والقائل ( إعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فعليه افضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فلقد شرع الله الجهاد عزاً للأمة ورفعة لها ، مع علمه بأن الجهاد كره لنا فقال ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، لكن الأمة تقاعست عن هذه الشعيرة العظيمة وآثرت الحياة الدنيا ، وركنت لما أحبت ظناً منها أن الخير فيما أحبت ، ولو تدبرت قول الله لعلمت أن الخير في ما شرعه لها وإن كان مكروهاً للنفوس .(1/1)
ولقد منّ الله سبحانه وتعالى وتفضل علينا في أرض الشيشان بأن هيأنا لنقارع ملل الكفر ممثلة بالجيش الروسي فنسأله أن يثبتنا ويعيننا ، فإن الخير كل الخير فيما قدر لنا ، كما نحمده تعالى على أن مكننا من رقاب أعدائه فعلوناهم علواً فوق علو ، فمنا من قضى نحبه ومنا من ينتظر ، ولقد صدقنا وعده وأعزنا بالجهاد بعد الذل .
لقد سطر إخواننا الشهداء – إن شاء الله - بدمائهم تاريخاً نعتز به ونفاخر به الأمم والشعوب ، فسالت دماؤهم من أجل لا إله إلا الله – نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً - وأروت أرضنا وارضت ربنا ، وفي ذات الله قطعت أشلاء رجالنا وطارت رؤوسهم ، ولن يثنينا هذا عما نحن عليه ، بل إن ذلك لن يزيدنا إلا إقداماً وحباً للشهادة ، وغداً نلق الأحبة محمداً وصحبه ، ويافرحة من لقي الله وهو راض عنه ، فإنه سيحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
فوالله كلنا ذاك الرجل الذي يدور في نفسه قول عمير بن الحمام عندما أيقن الجنة من وراء بدر ، فقال إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فلو أننا نخشى انكسار المسلمين ، لتسابقنا لمثل ما فعل وإننا لفي شوق عظيم للقيا الأحبة ، فنسأله أن يهدينا ويثبتنا على نهجهم حتى نلقاه .
ومما سطر أبطال الشيشان من المواقف التي أذهلت الروس وأرعبتهم ، تلك العمليات الاستشهادية ، التي فدى أصحابها بأرواحهم ودفعوا بها ثمناً ليأخذوا المثمن عاجلاً ، بعدما اهتزوا شوقاً لتلك الديار وعجلوا البيع لينالوا الثمن ممن لا يخلف وعده وهو أكرم الأكرمين .(1/2)
وإن الأمة تعودت أن تسمع في تاريخها فداء الرجال لدينهم بأرواحهم ، ولكن عهدها بما سطرته النساء بدمائهن بعيد ، وإن الفتاة الشهيدة – إن شاء الله – حواء براييف هي من جملة النساء القلائل التي سيحفظ التاريخ اسمها خالداً ، فهي ضربت أروع الأمثلة بالفداء ، فحق للروس بعد عمليتها أن ينتظروا الموت من كل مكان ، وحق لهم أن تمتلئ قلوبهم رعباً من فتاة كهذه ، وحق لكل حاسد أن يموت غيظاً من بطولتها ، وآن لكل متخاذل أن يدس رأسه في التراب ، فقد فعلت ما لم يفعله كثير من الرجال ، وحق لكل مناصر أن يتحفز شوقاً ليقدّم مثلما قدمت ، وحق له أن يرفع رأسه بأن ظهر في الأمة مثل هذه النماذج ، ونحن على يقين أن أمة فيها أمثالها لن تعدم الخير بإذنه .
وبعدما فرح أنصار الجهاد بما بذلته أختنا ، وفي الوقت الذي لم تزل ألسنتنا تلهج بالدعاء لها والترحم عليها ، جاءنا عن طريق البريد ما يعكر صفو فرحتنا ، ولم يعكر صفوها ما جاءنا من عدو أو من حاسد كلا ، ولكن الذي عكر صفو فرحتنا ما جاءنا من بضعة أشخاص نحسن بهم الظن أنهم يريدون الخير والنصح ، ولكنهم أخطؤوا فوصموا سيدة المجاهدات في الشيشان حواء براييف ، وصموها بالمنتحرة وقالوا بأنها قتلت نفسها ولا يجوز لها ذلك الفعل ، كما أنه لا يجوز لنا ذكر خبرها في موقعنا بل ينبغي الإنكار عليها وأمثالها ، وذكروا من الأدلة ما فهموه خطأً واحتجوا بها علينا ، ونحن سنكتب ما يبين أن حواء براييف ، وعبد الرحمن الشيشاني والقاضي ومولادي ، وخاتم وشقيقه على ، وعبد الملك ، وغيرهم بإذن الله في جنات الخلد في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بعرش الرحمن ، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً .
وقبل أن نشرع في بيان الحكم الشرعي للعمليات الاستشهادية يحسن بنا أن نرد على من أنكر علينا العمليات برد موجز خاص ، فنقول له :(1/3)
أولاً : نقول لكم ما قاله رسول الله صلى عليه وسلم لأصحابه وهم خير منا ومنكم ( ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ) فمن جهل حكماً فلا يطلق العبارات بغير حق ويرمي غيره ظلماً قبل أن يعلم الحكم ، ولو بحث من رمانا عن حكم المسألة لتبين على أقل الأحوال بأنها مسألة خلافية فلا ينكر علينا .
ثانياً : نهيب بإخواننا الكرام الذين يطلبون الحق ألا ينكروا علينا أمراً إلا مدعماً بأقوال العلماء وفهم السلف الصالح .
ثالثاً : أيها الأحبة إن هذه المسألة حتى يصار إلى إنكارها لا بد أن يعلم ملابساتها ، فليس كل عملية استشهادية جائزة ولا كلها أيضاً محرمة على وجه الإطلاق والعموم ولكن المسألة فيها تفصيل ، والتفصيل ينبني على حال العدو ووضع الحرب وحال الشخص وملابسات العملية ، فلا يحكم على مثل هذه العملية وغيرها إلا بعد معرفة الواقع ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فكيف بكم ترموننا بالجهل وأنتم لا تعلمون وضعنا فضلاً عن وضع العملية خاصة ، علماً أن أحكام الجهاد كلها متعلقة بعلم الواقع فالجهاد فقهه ينبني على واقعه بقدر أكبر بكثير من بقية مسائل الفقه ، فمن أراد أن يحكم على قضايا معينة في الجهاد ، فليسأل أهل الجهاد عن حقيقة واقعهم أولاً ثم يحكم بعد ذلك ، وواقع الجهاد يؤخذ من المجاهدين وليس من الملحدين .
فصل في تعريف العمليات الاستشهادية وأثرها على العدو
إن العمليات الاستشهادية أو العمليات الفدائية هي نوع من العمليات التي يقوم بها فرد أو أفراد ضد عدو أكثر منهم عدداً وعدة ، علماً أنهم أقدموا على العمليات مع علمهم المسبق أن مصيرهم واحد وهو الموت وهذا ما تيقنوه أو غلب على ظنهم .(1/4)
وأكثر أسلوب يستخدم في عصرنا هذا للعمليات الاستشهادية هو تلغيم الجسم أو السيارة أو الحقيبة والدخول بها بين تجمعات العدو أو مناطقه الحيوية ومرافقه المهمة ومن ثم تفجيرها في الوقت والمكان المناسب ، محدثة بذلك أكبر عدد من الضحايا أو الخسائر في صفوف العدو ، نظراً لعنصر المفاجأة وعمق الدخول ، وبطبيعة الحال فإن منفذ العملية هو أول القتلى لأنه أقربهم إلى المادة المتفجرة غالباً .
وهناك أسلوب آخر وهو أن يقتحم المجاهد المسلح ثكنات العدو أو مناطق تجمعه ويطلق النار عليهم عن قرب ، علماً أنه دخل مسبقاً في هذه العملية ولم يفكر أصلاً بالخروج ولم يعد خطة للرجوع فهدفه واحد هو أن يقتل أكبر عدد من العدو ويموت يقيناً ، هذا هو أسلوب العمليات الاستشهادية الذي يستخدم في هذا العصر .
وما أطلقه البعض على العمليات الاستشهادية أو الفدائية بالعمليات الانتحارية فهذا خطأ ، علماً أن هذا الاسم هو الذي ارتضاه اليهود لإخواننا لينفروا من عملهم ، فما أعظم الفرق بين مشرقٍ ومغرب ، فالمنتحر عليه لعنة من الله وله نار جهنم ، ومقته الله في كتابه وأعد له عذاباً عظيما ، وهو لم يقدم على هذا إلا بسبب الجزع وعدم الصبر وضعف الإيمان أو انتفائه ، أما الفدائي فإن الله يضحك منه ويرضى عنه ويرضيه وإذا ضحك ربك لأحد فلا يبأس بعدها أبدا ، وما أقدم المجاهد على هذا إلا لقوة إيمانه ويقينه و لنصرة دين الله وفداء منه بنفسه لإعلاء كلمة الله ، وهذا ما سنبينه في هذا البحث إن شاء الله .
أما أثرها على العدو فإننا ومن خلال واقع نلمسه ونعايشه ، فقد رأينا أن أثرها على العدو عظيم ، بل لا يوجد نوع من العمليات أعظم في قلوبهم رعباً من هذا النوع ، وبأسبابها تجنبوا مخالطة السكان واستضعافهم وسلبهم وانتهاك أعراضهم خشية هذه العمليات ، بل إن نشاط قواتهم اقتصر على اكتشاف مثل هذا النوع من العمليات قبل وقوعه ، فاشتغلوا بذلك عن غيره ولله الحمد .(1/5)
وهذه العمليات أكثر الأساليب نكاية بالعدو ، وأقلها تكلفة وخسائر ، وغيرها من العمليات الهجومية خاصة ، يحشد لها الطاقات والإمكانيات ثم ينفذ الهجوم ، وربما تحدث خسائر للمهاجم بسبب تحصن المدافع ، أما العمليات الاستشهادية فخسائرها البشرية واحد من المجاهدين ، وتكلفتها لا تكاد تذكر بالنسبة للهجوم المباشر ، وغالباً لا تزيد تكلفتها عن قيمة وقود الناقلات المخصصة لنقل خمسين مجاهداً لتنفيذ الهجوم ، فمن الناحية المعنوية تأثيرها واضح على العدو ففيها كسر لقلوبهم وإرعاباً لهم وتدميراً لمعنوياتهم ، ومن الناحية المادية خسائر العدو فيها غالباً ما يكون مرتفعاً ، أما للمجاهدين فمن الناحية المادية فتكلفتها أقل من الهجوم المباشر ، ومن ناحية الخسائر البشرية فشهيد واحد بإذن الله .
ولقد رأينا بعد تنفيذ العمليات الأخيرة حجم الخسائر المادية والبشرية المرتفعة في صفوف العدو ، فخسائرهم البشرية أكثر من 1600جندي ما بين قتيل وجريح ، ودمار كامل لأهم مباني تمركز القوات الروسية في الشيشان ، ودمار للمعدات والأسلحة والذخائر والآليات المرابطة في المباني .
ومن الناحية المعنوية إحباط شديد ورعب عظيم في قلوب ضباط وجنود القوات الروسية ، ناهيك عما حدث لهم من خلط لكثير من الخطط والبرامج المزمع تنفيذها ، وعلاوة على كل ذلك يصدر الرئيس الروسي بوتين تصريحاً شديد اللهجة وجهه إلى وزير داخليته ووزير دفاعه يحملهما مسئولية ما حدث بل إنه توعد بإجراء تغييرات على مستويات عليا في مناصب الوزارتين ، علماً أن الوزارتين قد تبادلتا قبل ذلك التهم بالخيانة و التواطئ مع المجاهدين ، ولا زالت القوات الروسية مستنفرة في الشيشان بعد هذه العمليات ، فجزء منها يحاول جاهداً اكتشاف أية عمليات أخرى يتوقعون تنفيذها قريباً ، والجزء الآخر من القوات انشغل بإخراج جثث الجنود الروس وإسعاف الجرحى وإخراج وثائق وخطط القيادة من تحت أنقاض المباني .(1/6)
أما نحن فقد شيعنا أبطالاً إلى جنات الخلد إن شاء الله ، وكلنا أمل بأن نلحق بهم فنسأل الله لنا ولهم القبول ، والسيارات والمتفجرات التي نفذت بها العمليات كانت من جملة الغنائم ، فبضاعتهم وقد رددناها إليهم بطريقتنا الخاصة ، فلله الحمد على العون والتوفيق .
كل ما ذكرنا من آثار على العدو لم يكن بسبب هجوم مكون من ألف مجاهد كلا ، بل إنهم أربعة أبطال فقط ، وعندنا من أمثالهم الكثير ، وبهذا الأسلوب لا نتوقع أن يدوم بقائهم في أرضنا طويلاً ، فعشر عمليات كهذه كفيلة بإذن الله على إرجاع عقولهم لهم ليقرروا بها الخروج صاغرين رغماً عنهم إن شاء الله ، ولو أرادوا منعنا من استخدام هذا الأسلوب فإنهم سيقعون بين قتلتين كل واحدة منهما شر من الأخرى ، فإن امتنعوا عن التجمع خشية هذه العمليات فسيصبحون هدفاً سهلاً لمجموعات الاقتحام ، وإن تجمعوا لمقاومة مجموعات الاقتحام فالعمليات الاستشهادية كفيلة بتفريق جمعهم وتمزيقهم كل ممزق ، ولو أرادوا ضبط الأمور ومنع العمليات فإنهم يحتاجون في كل مدينة وبدون مبالغة أكثر من ثلاثمائة ألف جندي ليمنعوا مثل هذه العمليات .
ولكل مبصر أن يتمعن في قضية إخواننا في فلسطين ، وكيف أثارت هذه العمليات الرعب في قلوب الصهاينة ، وليعلم الجميع أن من أعظم الأسباب التي دفعت اليهود لإعطاء الفلسطينيين حكماً ذاتياً ، هو أملهم أن تعمل السلطة الفلسطينية على كف العمليات الاستشهادية عنهم ، وذلك باحتواء المجاهدين في أرض يضيقوا فيها عليهم ليأمن اليهود ، ولكن أنى لهم ذلك ولا زالت نفوس شباب الأرض المقدسة تتوق لأن تحشر مع النبيين.
هذا مع أن النكاية بمثل هذه العمليات في الشيشان أعظم لأن تحصّن الروس أقل بكثير من تحصن اليهود ، ولأن ردة الفعل من العدو أيضاً إن كان لها أثر في فلسطين فهي لا تذكر في الشيشان .
فصل في أدلة المسألة(1/7)
وقبل الدخول في حكم العمليات وتفصيلها ، ونقل أقوال العلماء فيها ، وحل بعض إشكاليات المسألة ، يحسن بنا أن نقدم الأدلة الشرعية لها ، ونعرض بعدها توجيهات الأدلة ووجه الدلالة منها ، ونظراً لكثرة الأدلة في هذه المسألة فإننا لن ندقق في أسانيد كل دليل على حده ، إنما يكفينا أن أصل أدلة المسألة واردة في الصحيحين وما كان ضعيفاً في غيرهما فإنه يشد بما جاء فيهما ، فنقول :-
1- قال تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يُقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون ، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) .
هذه الآية هي أصل عقد البيع والشروط بين المجاهد وربه ، فكل حال أدى فيها المجاهد الثمن ليقبض المثمن فهي جائزة حتى يدل دليل على منعها خاصة .
2- قال تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ) .
هذه الآية دليل على أن مقياس الغلبة في الشرع ليست معلقة بالمقاييس الدنيوية المادية بشكل رئيسي .
3- قال تعالى ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ) . ومعنى يشري : أي يبيع ، وفي تفسير الصحابة لهذه الآية - كما سيأتي - دلالة على أن من باع نفسه لله ، لا يسمى منتحراً حتى ولو انغمس في ألف من رجال العدو حاسراً وقتل .(1/8)
4- روى مسلم في صحيحه قصة أصحاب الأخدود وفيها من الدلالة ، قوله ( ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فصعدوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له : ما فعل أصحابك ؟ قال كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحر ، فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك ، ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال بسم الله رب الغلام ، ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صغه في موضع السهم فمات ، فقال الناس آمنّا برب الغلام ، آمنّا برب الغلام ، آمنّا برب الغلام ، فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ، قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك ، فخدت وأضرمت النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ، أو قيل له اقتحم ، ففعلوا حتى أتوا على امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام يا أمّه اصبري إنك على الحق ) .
وفي هذا الحديث دلالة على أن الغلام عندما أمر بقتل نفسه فداءً للدين أن ذلك أمر مشروع ولم يسم منتحراً ، رغم أنه لم يوح إليه بذلك ولم يكن يعلم النتيجة لفعله مسبقاً .(1/9)
5- روى أحمد في مسنده 1/310 عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت علي رائحة طيبة ، فقلت : يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ فقال هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها ، قال : قلت ما شأنها ؟ قال : بينا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت لها ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : لا ولكن ربي ورب أبيك الله ، قالت : أخبره بذلك قالت نعم : فأخبرته فدعاها ، فقال : يا فلانة ، وإن لك ربّاً غيري ؟ قالت نعم ربي وربك الله ، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت – أي قدر كبير - ، ثم أمر بها أن تُلقى هي وأولادها فيها ، قالت له : إن لي إليك حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا ، قال : ذلك لك علينا من الحق ، قال : فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع ، وكأنها تقاعست من أجله ، قال : يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فاقتحمت .. ) رجاله ثقات إلا أبا عمر الضرير قال فيه الذهبي وأبو حاتم الرازي هو صدوق وقد وثقه ابن حبان .
…وفي هذا الحديث أن الله أنطق الطفل ليأمر أمه بالاقتحام في النار ، وهذا كطفل المرأة من أصحاب الأخدود ، ولو كان في قتل النفس للدين أي محظور لما أثنى الشارع على هذا الفعل ، وما إنطاق الطفل إلا آية لبيان فضل هذا الفعل .(1/10)
6- وروى أبو داود 3/27والترمذي 4/280وصححه واللفظ له ، عن أسلم أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثله ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال : أيها الناس : إنكم لتؤولون هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصاً حتى دفن بأرض الروم " صححه الحاكم و قال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، ورواه النسائي وابن حبان ، وقال البيهقي في السنن : باب جواز انفراد الرجل والرجال بالغزو في بلاد العدو ، استدلالاً بجواز التقدم على الجماعة وإن كان الأغلب أنها ستقتله ثم روى حديث أبي عمران المذكور وغيره .
وفي هذا الحديث فسر أبو أيوب رضي الله عنه بأن هذه الآية لا تنطبق على من اقتحم وحده على العدو ، حتى لو ظهر للناس أنه مهلك لنفسه ، وأقره على ذلك التفسير الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .(1/11)
7- وروى ابن أبي شيبة في مصنفه 5/338 قال : قال معاذ بن عفراء يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال )غمسه يده في العدو حاسراً ) قال : فألقى درعاً كانت عليه وقاتل حتى قتل رضي الله عنه ، قال ابن النحاس : كذا جاء في رواية ابن أبي شيبة ، عن يزيد ، والمشهور في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن الذي فعل ذلك عوف بن عفراء أخو معاذ بن عفراء أمهما ، وعوذ ومعوذ أخواهما والكل من عفراء ، وأبوهما الحارث بن رفاعة النجاري بدري ، والله أعلم .
هذا الحديث وما بعده في معناه أدلة واضحة على فضل الأعمال الجهادية التي يغلب على الظن هلاك صاحبها ، وأن الجهاد له أدلة خاصة تجيز ما كان ممنوعاً في غيره .
8- روى ابن المبارك في كتاب الجهاد 1/85 عن الأوزاعي بسند معضل ورواه غيره متصلاً عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الشهداء الذين يلقون في الصف فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة ، يضحك إليهم ربك ، إن ربك إذا ضحك إلى قوم فلا حساب عليهم ) .
9- وخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ، ويستبشر بهم ، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه ، فإما أن يقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه ، فيقول الله : انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه ، والذي له امرأة وفراش لين حسن فيقوم من الليل ، فيقول : يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد ، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام في السحر في ضراء وسراء ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/255 رجاله ثقات .(1/12)
10- وروى أحمد في مسنده 6/22 عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عجب ربنا من رجلين ، رجل ثار عن وطأته ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله عزوجل : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطأته من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وماله في الرجوع ، فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله : انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه ) قال أحمد شاكر إسناده صحيح ، وقال الهيثمي في المجمع 2/255 رواه أحمد وأبو يعلى ، والطبراني في الكبير وإسناده حسن ، ورواه أبو داود والحاكم مختصراً وقال إسناده صحيح ، قال ابن النحاس : ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس ، والله أعلم .
11- روى ابن أبي شيبة في مصنفه 5/289 عن زيد بن ظبيان ، يرفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة يحبهم الله ، فذكر أحدهم كرجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا قأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له ) ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ، ورواه ابن المبارك في كتاب الجهاد 1/84 إلا أنه قال ( رجل كان في فئة أو سرية فانكشف أصحابه فنصب نفسه ونحره حتى قتل أو يفتح له ) .
12- وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خير معاش الناس لهم ، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله ، يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه ، يبتغي القتل ، أو الموت مظانه ) .
…وهذا وما بعده دليلان على أن ابتغاء القتل والبحث عن الشهادة أمر مشروع وممدوح منفرداً .
13- ورواه أبو عوانة في مسنده 5/59 بلفظ ( يأتي على الناس زمان أحسن الناس فيهم ، رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما سمع بهيعة استوى على متنه ، ثم طلب الموت مظانه ) .(1/13)
14- وروى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر ، وجاء المشركون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه ) فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ) فقال عمير بن الحمام : يارسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال ( نعم ) قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : ( فإنك من أهلها ) فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ثم قال : إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه .
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة ألا يقاتلوا في بدر إلا صفاً وكان يسوي صدورهم بالرمح حتى لا يتقدم أحد على الصف ، فلما سمع عمير ما سمع من فضل انطلق من الصف واقتحم على العدو وحده ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رغم أن الموت كان نتيجة فعله أمر محقق .(1/14)
15- وفي الصحيحين أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني قتال المشركين ، ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون ، فقال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : ياسعد بن معاذ الجنة ورب النضر ، إني أجد ريحها دون أحد ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا به ، بضعاً وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، فقال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه ، وفي أشباهه { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) } ، هذا لفظ البخاري .
16- وروى البيهقي في السنن الكبرى 9/100 بإسناد صحيح عن مجاهد ، قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود وخباباً سرية ، وبعث دحية سرية وحده .
هذا والذي بعده دليلان على أن نسبة الخطر مهما ارتفعت في الأعمال الجهادية أنه ليس لها اعتبار بل يبقى أصل العمل مشروعاً وكلما زاد الخطر زاد الثواب وهذا سيتضح في ثنايا البحث .
17- وروى البيهقي أيضاً 9/100 قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية ، ورجلاً من الأنصار سرية ، وبعث عبدالله بن أنيس سرية وحده .(1/15)
18- وروى البيهقي في السنن الكبرى أيضاً 9/100 ، قال : قال الشافعي رضي الله عنه تخلف رجل من الأنصار عن أصحاب بئر معونة ، فرأى الطير عكوفاً على مقتلة أصحابه ، فقال لعمرو بن أمية ، سأقدم على هؤلاء العدو ، فيقتلوني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابنا ففعل ، فقتل ، فرجع عمرو بن أمية ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً ، ويقال : قال لعمرو ( فهلا تقدمت ؟ ) .
وفي هذا الحديث لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من تقدم وعلم أنه يقتل ، بل إنه حث من رجع على الإقدام حتى يقتل مثل أصحابه .
19- روى البخاري في صحيحه 3/1008 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا ، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة ، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل ، كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة ، فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا ، قال عاصم بن ثابت أمير السرية ، أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق ، منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم ، فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ، إن في هؤلاء لأسوة يريد القتلى ، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة .(1/16)
20- وروى مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رهقوه قال ( من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ؟ ) ، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً ، فقال ( من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ؟ ) فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : ( ما أنصفنا أصحابنا ) .
21- روى ابن كثير في البداية والنهاية 4/34 قال : قال ابن اسحاق وترس أبو دجانة دون رسول الله بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل .
في هذا الحديث والذي بعده أدلة على جواز فداء القائد بالنفس وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفداء القائد أقل من فداء الدين فكيف بفداء الدين ؟
22- وفي الصحيحين في مناقب أبي طلحة عن أنس رضي الله عنه قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب به عليه بحجفة له وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك .
23- روى البخاري في صحيحه قال عن قيس بن أبي حازم قال رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت .
24- وفي الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة ابن الأكوع رضي الله عنه : على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال على الموت .(1/17)
25- رواى مسلم في كتاب الجهاد وأحمد 4/52 وغيرهما عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت أنا ورباح – غلام النبي صلى الله عليه وسلم – بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أُندّيه مع الإبل ، فلما كان بغلس أغار عبدالرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل ، فقلت : يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد أغير على سرحه ، قال : وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه ، قال : ثم أتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم .. حتى قال : فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم وارتجز ، حتى ما خلق الله شيئاً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري ، فاستنقذته من أيديهم ، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً ، وأكثر من ثلاثين بردة ، يستخفون منها ، ولا يلقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا اشتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مدداً لهم في ثنية ضيفة ، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم ، فقال عيينة : ما هذا ؟ ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقينا من هذا البرح – أي الشدة – ما فارقنا بسحر حتى الآن ، وأخذ كل شيء في أيدينا وجعله وراء ظهره ، فقال عيينة : لولا أن هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم ، ليقم إليه نفر منكم ، فقام إلي نفر أربعة ، فصعدوا في الجبل فلما أسمعهم الصوت قلت : أتعرفوني ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قلت أنا ابن الأكوع والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ، ولا أطلبه فيفوتني فقال رجل منهم إني أظن ، قال : فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر ، وإذا أولهم الأخرم(1/18)
الأسدي وعلى إثره أبو قتادة فارس ، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم فأخذ عِنان فرسه فقلت : يا أخرم أنذر القوم – يعني احذرهم – فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : يا سلمه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق ، فلا تحل بيني وبين الشهادة ، قال : فخليت عِنان فرسه فيلحق بعبدالرحمن بن عيينة ، ويعطف عليه عبدالرحمن فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة ، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم ، حتى قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله خلني فأنتخب من أصحابك مائة فآخذ على الكفار بالعشوة – أي بسواد الليل – فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته ، قال ( أكنت فاعلاً ذلك يا سلمة ؟ ) قال : فلت نعم والذي أكرمك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار ، حتى قال فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة ) فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعاً .
…وفي هذا الحديث مدح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فعل سلمة ولم ينكر عليه قتاله القوم وحده والغزو دون إذنه ، وكذلك لم نكر على الأخرم قتاله للقوم وحده ، فدل ذلك على جواز الغزو بدون إذن الإمام ، وعلى جواز قتال العدو بدون ضرورة مع الفارق الكبير في العدد والعدة .(1/19)
26- روى البيهقي في سننه الكبرى كتاب السير 9/44 وغيره ، قال وفي يوم اليمامة لما تحصن بنو حنيفة في بستان مسيلمة الذي كان يعرف بحديقة الرحمن أو الموت ، قال البراء بن مالك لأصحابه : ضعوني في الجفنة – وهي ترس من جلد كانت توضع به الحجارة وتلقى على العدو – وألقوني ، فألقوه عليهم فقاتل وحده وقتل منهم عشرة وفتح الباب ، وجرح يومئذ بضعاً وثمانين جرحاً ، حتى فتح الباب للمسلمين ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
…وفي إقرار الصحابة لهذا الفعل دليل على جواز كل عمل جهادي حتى لو كانت الهلكة فيه محققة .
27- ذكر جماعة عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس لما انكشف المسلمون يوم اليمامة ، قال سالم مولى أبي حذيفة ، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحفر لنفسه حفرة وقام فيها ومعه راية المهاجرين يومئذ ، فقاتل حتى قتل يوم اليمامة شهيداً .
…هذا والذي بعده يدلان على أن الثبات مطلوب حتى لو أدى إلى الموت ، وقد رفع سالم مثل فعله هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
28- روى ابن جرير في تاريخه 2/151 في معركة مؤتة قال : ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل بها ، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه .
29- وخرّج ابن عساكر في تاريخ دمشق 67/101بإسناده عن عقبة بن قيس الكلابي أن رجلاً قال لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يوم اليرموك : إني قد أجمعت على أمري أن أشد عليهم فهل توصوني إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم بشيء ، فقال : تقرؤه السلام ، وتخبره أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً .
…هذا والذي بعده كلها أدلة تفيد بأن الاقتحام المفضي إلى الموت أمر مشتهر بين الصحابة والتابعين .(1/20)
30- روى ابن جرير الطبري في تاريخه 2/338 عند ذكر ما حدث في معركة اليرموك ولما طال القتال قال : قال عكرمة بن أبي جهل يومئذ قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن وأفر منكم اليوم – أي من الروم - ثم نادى من يبايع على الموت ، فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً وقتلوا ، إلا من برأ ومنهم ضرار بن الأزور ، قال وأتي خالد بعدما أصبحوا بعكرمة جريحا فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر في حلوقهما الماء ويقول كلا زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد .
31- وروى ابن المبارك في كتاب الجهاد 1/88 والبيهقي في سننه 9/44 عن ثابت أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ترجل يوم كذا ، فقال له خالد بن الوليد : لا تفعل فإن قتلك على المسلمين شديد ، فقال : خل عني يا خالد ، فإنه قد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة ، وإني وأبي كنا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى حتى قتل .
32- روى مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه قال : سمعت أبي وهو يحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ) فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم قال : فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو ، فضرب به حتى قتل .(1/21)
33- روى ابن جرير الطبري في تاريخه 5/194 أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما اصطرع يوم الجمل مع الأشتر النخعي ، واختلفا ضربتين ، ولما رأى عبد الله أن الأشتر سينجو منه قال كلمته المشهورة : ( اقتلوني ومالكاً ) ، قال الشعبي : إن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك ، ولو قال ابن الزبير : اقتلوني والأشتر ، وكانت للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها شيء ، ثم ما زال يضطرب في يد ابن الزبير حتى أفلت منه .
…وفي طلب الزبير رضي الله عنه من أصحابه أن يقتلوه مع الأشتر دليل على جواز قتل النفس لمصلحة الدين إذا اقتضى الحال ذلك .
34- ذكر القرطبي في تفسيره 2/363 أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس ، نفرت خيل المسلمين من الفيلة وذلك في وقعة الجسر ، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل ، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له : إنه قاتلك ، فقال لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين .(1/22)
35- روى ابن عساكر في تاريخ دمشق 24/220 بإسناد جيد عن عبدالرحمن بن الأسود عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق ، وانطلق رجل من أسد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقتل فعاب ذلك المسلمون عليه ، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو على جند من الأجناد ، فأرسل إليه عمرو فرده ، فقال له عمرو { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } وقال { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فقال له الرجل يا عمرو أذكرك الله الذي وجدك رأس كفر فجعلك رأس الإسلام ، ألا تصدني عن أمر قد جعلته في نفسي ، فإني أريد أن أمشي حتى يزول هذا وأشار إلى جبل الثلج ، فلم يزل يناشد عمراً حتى خلى عمرو عن سبيله ، فانطلق حتى أمسى وجنح الليل قبل العدو ، ثم رجع ، فقال المسلمون : الحمدلله الذي رجعك وأراك غير رأيك الذي كنت عليه ، قال : فإني والله ما انثنيت عما كان في نفسي ، ولكني رأيت المساء وخشيت أن أهلك بمضيعة ، فلما أصبح غدا إلى العدو وحده فقاتل حتى قتل رحمه الله . قال ابن النحاس : قصة عمرو بن العاص مع هذا شبيهة بقصة سلمة بن الأكوع مع الأخرم الأسدي رضي الله عنهما .(1/23)
36- وما رواه أبو الحجاج المزي الحافظ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق 10/149 ، عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن مريم عن العلاء بن سفيان الحضرمي – ذكره ابن حبان وسكت عنه – قال : غزا بسر بن أرطأة الروم – وهو مختلف في صحبته – فجعلت ساقته لا تزال تصاب فيكمن لهم الكمين ، فيصاب الكمين ، فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه ، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم ، فإذا براذين مربوطة نحو ثلاثين ، والكنيسة إلى جانبهم فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته ، فنزل عن فرسه فربطه ، ثم دخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها ، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه ، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منه ثلاثة ، وفقده أصحابه فطلبوه فأتوا فعرفوا فرسه وسمعوا الجلبة في الكنيسة ، فأتوها فإذا بابها مغلق فقلعوا بعض السقف ونزلوا عليهم ، وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده ، والسيف بيده اليمنى ، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشياً عليه ، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا ، فأقبلت عليهم الأسارى ، فقالوا : ننشدكم الله من هذا ؟ قالوا : بسر بن أرطأة ، فقالوا : والله ما ولدت النساء مثله ، فعمدوا إلى أمعائه فردوه في جوفه ولم ينخرق منها شيء ، ثم عصبوه بعمائمهم وحملوه ثم خاطوه فسلم وعوفي .
وبسر هذا من شجعان الأمة وأبطالها ، قال يزيد بن أبي حبيب كان بسر صاحب سيف ، ورب فتح قد فتحه الله على يديه .
وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص ، أن افرض لمن شهد الحديبية مائتي دينار ، وأتمها لنفسك ، وأتمها لخارجة بن حذافة لضيافته ، ولبسر بن أرطأة لشجاعته .(1/24)
37- وخرّج المزي أيضاً بإسناده عن محمد بن إسحاق وابن سمعان عن بعض مشيخة فذكر حديثاً في حصار دمشق ، قالوا وأقبل رجل من المسلمين حتى انتهى إلى نهر دون حمص مما يلي دير مسحل فانتهى فسقى فرسه ، وجاءه نحو من ثلاثين رجلاً من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد فأقبلوا نحوه فأقحم فرسه ثم عبر الماء إليهم وحمل عليهم ، فقتل أول فارس ثم الثاني ، ثم الثالث ، ثم أتبعهم يقتل واحداً واحداً حتى انتهى إلى دير مسحل ، وقد صرع منهم أحد عشر فارساً ، ثم اقتحموا في جوف الدير فاقتحم معهم ، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه رحمه الله .
38- وخرج البيهقي بإسناده ، عن سيار بن مالك قال سمعت مالك بن دينار قال : لما كان يوم الزاوية قال عبدالله بن غالب : إني لأرى أمراً ما لي عليه صبر ، روحوا بنا إلى الجنة قال : فكسر جفن سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل ، قال : وكان يوجد من قبره ريح المسك ، قال مالك : فانطلقت إلى قبره فأخذت منه تراباً فشممته فوجدت منه ريح المسك .
39- روى الطرطوشي والقرطبي أيضاً وغيرهما ، قالوا خرج ملك الروم من القسطنطينية في ست مائة ألف خارجاً من المطوعة – أي المتطوعين للقتال – فكانوا لا يدركهم الطرف ولا يحصرهم العدد ، بل كتائب متواصلة ، وعساكر متزاحمة وكراديس يتلو بعضها بعضاً كالجبال الشوامخ ، وقد أعدوا من السلاح والكراع والآلات لفتح الحصون ما يعجز الوصف عنها ، واقتسموا الدنيا ، فجعلوا لكل مائة ألف قطراً ، العجم والعراق لملك ، وديار مضر وديار ربيعة لملك ومصر والمغرب لملك ، والحجاز واليمن لملك ، والهند والصين لملك والروم لملك ، فاضطربت ممالك الإسلام واشتد وجلهم ، وكثر جزعهم وهرب بعضهم من بين أيديهم وأخلوا لهم البلاد(1/25)
وكان الملك ألب أرسلان التركي سلطان العراق والعجم يومئذ ، قد جمع وجوه مملكته ، وقال : قد علمتم ما نزل بالمسلمين ، فما رأيكم ؟ قالوا : رأينا لرأيك تبع ، وهذه الجموع لا قبل لأحدٍ بها ، قال وأين المفر ؟ لم يبق إلا الموت ، فموتوا كراماً أحسن ، قالوا : أما إذا سمحت بنفسك فنفوسنا لك الفداء ، فعزموا على ملاقاتهم ، وقال : نلقاهم في أول بلادي فخرج في عشرين ألفاً من الأمجاد الشجعان المنتخبين ، فلما سار مرحلة عرض عسكره ، فوجدهم خمسة عشر ألفاً ، ورجعت خمسة ، فما سار مرحلة ثانية عرض عسكره فوجدهم اثنا عشر ألفاً .
فلما واجههم عند الصباح رأى ما أذهل العقول وحير الألباب ، وكان المسلمون كالشامة البيضاء في الثور الأسود ، فقال : إني هممت أن لا أقاتلهم إلا بعد الزوال ، قالوا ولم ؟ قال : لأن هذه الساعة لا يبقى على وجه الأرض منبر إلا دعوا لنا بالنصر ، وكان ذلك يوم الجمعة ، فقالوا : افعل ، فلما زالت الشمس صلى ، وقال : ليودع كل واحد صاحبه وليوصي ، ففعلوا ذلك فقال : إني عازم على أن أحمل فاحملوا معي وافعلوا كما أفعل .
فاصطف المشركون عشرين صفاً ، كل صف لا يرى طرفاه ، ثم قال بسم الله وعلى بركة الله احملوا معي ، ولا يضرب أحد منكم بسيف ولا يرمي بسهم إلى أن أفعل ، وحمل وحملوا معه حملة واحدة خرقوا صفوف المشركين ، صفا بعد صف لا يقف لهم شيء حتى انتهوا إلى سرادق الملك فوقف ، وأحاطوا به وهو لا يظن أن أحداً يصل إليه ، فما شعر حتى قبضوا عليه ، وقتلوا كل من كان حوله ، وقطعوا رأساً فرفعوها على رمح وصاحوا قتل الملك ، فولوا منهزمين لا يلوون على شيء وحكّموا السيوف فيهم أياماً ، فلم ينج منهم إلا قتيل أو أسير .(1/26)
40- ذكر الطرطوشي في سراج الملوك والقرطبي في تاريخه أن طارقاً دخل الأندلس في ألف وسبع مائة رجل ، وكان تذفير نائباً عن اللذريق فقاتلهم ثلاثة أيام ، ثم كتب إلى اللذريق ، أن قوماً وصلوا إلينا ما أعلم من الأرض هم أم من السماء ؟ وقد قاتلناهم ولا طاقة لنا بهم ، فأدركنا بنفسك فأتاه لذريق في تسعين ألف فارس – قال القرطبي سبعين ألف فارس - فقاتلهم ثلاثة أيام ، واشتد بالمسلمين البلاء فقال طارق : إنه لا ملجأ لكم غير سيوفكم ، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم ، والبحر من ورائكم محيط بكم ، وأنا فاعل شيئاً إما النصر وإما الموت ، فقالوا وما هو ؟ قال : أقصد طاغيتهم فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي ، ففعلوا ذلك ، فقتل اللذريق وجمع كثير من أصحابه ، وهزمهم الله تعالى ، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلاً ذريعاً ، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير .
فصل في أقوال العلماء فيمن هجم على العدو وحده
وبعدما أثبتنا من خلال الأدلة السابقة في الفصل المتقدم جواز الاقتحام على العدو منفرداً والهجوم عليه مع تيقن الموت ، فإننا نقول إن العمليات الاستشهادية متفرعة عن هذا الأصل ، وجوازها يتضح مما سبق من الأدلة ، بعد معرفة مناط تحريم قتل النفس المقصور على نقص الإيمان أو انتفائه ( وقد بينا المناط في فصل تعريف المنتحر ) ، إلا أن السلف رحمهم الله لم يعرفوا العمليات الاستشهادية بصورتها الحالية ، لتجدد أساليب القتال لذا لم يبحثوها بعينها ، ، ولكنهم بحثوا أشباهها من المسائل كالهجوم منفرداً للنكاية في العدو وإرهابهم مع تيقن الموت ، وقعّدوا قواعد تدخل تحتها العمليات الاستشهادية وغيرها ، ومستندهم في أقوالهم ما عرضناه في الفصل السابق من أدلة .(1/27)
إذاً فأصل هذه المسألة هو الانغماس منفرداً أو مع جماعة قليلة في جيش العدو ، رغم التيقن بالموت المحقق ، إلا أن الفارق بين الانغماس والعملية الاستشهادية هو أن المنغمس في صف العدو يقتل بيد العدو والفدائي يقتل بيده ، وهذا الفارق ليس له أثر في الحكم على المسألة ، وسنبين ذلك فيما بعد .
…وفي هذا الفصل سننقل لمريد الحق بعض أقوال السلف حول المسألة التي تتفرع عنها العمليات الاستشهادية ، وسننقل أيضاً بعض تعليقات العلماء على بعض الأدلة التي مضت ، ومنعاً للتكرار فإننا سننقل كلام العلماء ، وما كان من أقوالهم فيه من الأدلة ما أوردناه سابقاً لن نذكر الدليل بطوله في الفتوى ولكننا سنشير في فتواه إلى رقم الدليل بين قوسين على حسب ترتيبنا لها في الفصل السابق .
1- روى ابن المبارك وابن أبي شيبة 5/303 بسند صحيح عن مدرك بن عوف الأحمسي قال : كنت عند عمر رضي الله عنه ، إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن فسأله عمر عن الناس ، فقال : أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم ، فقال عمر رضي الله عنه : لكن الله يعرفهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ورجل شرى نفسه ، فقال مدرك بن عوف : ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين ، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر : كذب أولئك ، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا ، وذكر البيهقي أن ذلك كان يوم نهاوند .
2- وروى ابن أبي شيبة في مصنفه 5/322 عن ابن عون عن محمد قال : جاءت كتيبة من قبل المشرق ، من كتائب الكفار ، فلقيهم رجل من الأنصار ، فحمل عليهم ، فخرق الصف حتى خرج ، ثم كر راجعا ، فصنع مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، فإذا سعد بن هشام ، يذكر ذلك لأبي هريرة ، فتلا هذه الآية { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } .(1/28)
3- وخرج الحاكم في كتاب التفسير 2/275 وابن أبي حاتم 1/128 عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه ، قال له رجل : يا أبا عمارة ، قوله تعلى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أهو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل ؟ قال : لا ولكنه الرجل يذنب الذنب قيقول : لا يغفره الله لي . قال الحاكم صحيح على شرطهما .
4- وفي رواية لابن عساكر وغيره في هذا الحديث قال أبو إسحاق سمعت البراء وسأله رجل عن الآية { ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة } هو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف والسيف بيده ؟ قال : لا ولكنه رجل يصيب الذنب فيلقي بيده ويقول : لا توبة لي .
5- وقد روى هذا التأويل للآية ابن جرير في تفسيره 3/584 عن حذيفة و ابن عباس و عكرمة و الحسن و عطاء و سعيد ابن جبير و الضحاك و السدي و مقاتل وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
6- وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد جيد 5/331 عن مجاهد قال : إذا لقيت العدو فانهد فإنما نزلت هذه الآية في النفقة .
7- قال ابن النحاس في مشارع الأشواق 2/ 528 روى غير واحد ، عن القاسم بن مخيمرة أحد أئمة التابعين وأعلامهم ، أنه قال في قوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال : التهلكة ترك النفقة في سبيل الله ، ولو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس .
8- قال البيهقي في سننه 9/43 باب من تبرع بالتعرض للقتال : قال الشافعي رحمه الله تعالى : قد بورز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياه بما في ذلك من الخير فقتل .(1/29)
9- قال القرطبي في تفسيره 8/267 : أصل الشراء بين الخلق والخالق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم بما كان أنفع لهم ، أو مثل ما خرج منهم في النفع ، فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك وهو عوض عظيم لا يدانية المعوض ولا يقاس به ، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال ، فسُمي هذا شراءً .
10- قال ابن العربي في أحكام القرآن : لما قرأ ابن عباس هذه الآية ( إن الله اشترى من المؤمنين .. الآية ) قال : ثامنهم – والله – وأغلى الثمن ، أي أعطاهم أكثر مما يستحقون في حكم المتاجر ، ولم يأت الربح على قدر الشراء ، بل زاد عليه وأربى .
11- قال ابن العربي في تفسير أحكام القرآن 1/116 وانظر تفسير القرطبي 2/ 364 عند تفسيره لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وفي التهلكة خمسة أقوال هي : 1- لاتتركوا النفقة 2-لا تخرجوا بغير زاد 3-لا تتركوا الجهاد 4- لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها 5- لا تيئسوا من المغفرة .
ثم قال قال الطبري : هو عام في جميعها لا تناقض فيه ، قال وقد أصاب إلا في الاقتحام على العساكر – أي القول الرابع - ، فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد ، وعبدالملك من علمائنا ، لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة وكان لله بنية خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة ، وقد قيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصده واحد منهم – أي واحد من المشركين – ليقتله ، وذلك بيّن في قوله تعالى {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } ثم قال : والصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم ، لأن فيه أربعة وجوه :-(1/30)
الأول : طلب الشهادة ، الثاني : وجود النكاية ، الثالث : تجرئة المسلمين عليهم ، الرابع : ضعف نفوسهم ، ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنّك بالجمع . وكل هذه الوجوه متحققة في العمليات الاستشهادية .
12- قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير 1/297 عند تفسيره لقوله تعالى { ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال : والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا ، وبه قال ابن جرير الطبري ، ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص ، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين . فمفهوم كلامه إذا تحقق النفع جاز ذلك .
13- قال القرطبي في تفسيره 2/364 : قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمه الله : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين ، وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة ، أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين ، فمن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو ، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر ، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى المؤمنين بقوله { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه .
14- قال القرطبي في تفسيره 2/364 ، قال ابن خويز منداد : فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص أو المحاربين والخوارج فلذلك حالتان :(1/31)
الأولى : إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن ، وكذلك لو علم أو غلب على ظنه أنه يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً ، ثم ساق دليلاً على ذلك ( الدليل 34 ) .
15- قال الجزري المالكي في القوانين الفقهية 165 : إن علم المسلمون أنهم مقتولون ، فالانصراف أولى ، وإن علموا مع ذلك أنهم لا تأثير لهم في نكاية العدو وجب الفرار .
16- قال ابن عابدين في حاشيته 4/303 : لا بأس أن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يصنع شيئاً بقتل أو بجرح أو يهزم ، فقد نقل ذلك عن جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك ، فأما إن علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم ، لأنه لا يحصل بحمله عليه شيء من إعزاز الدين .
17- وجاء في مغني المحتاج 4/219 قول الخطيب الشربيني عن حديثه عن هجوم الكفار على بلد مسلم بغتة : …وإلا بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة ، فمن قُصد من المكلفين ولو عبداً أو امرأةً أو مريضاً أو نحوه ، دفع عن نفسه الكفار بالممكن له إن علم أنه إن أُخذ قُتل ، وإن جوّز المكلف لنفسه الأسر كان الأمر يحتمل الخلاف ، هذا إن علم أنه إن امتنع من الاستسلام قُتل وإلا امتنع عليه الاستسلام .(1/32)
18- وفي تكملة المجموع للمطيعي 19/291 : أشار أنه إذا كان عدد الكفار دون مثلي عدد المسلمين ولم يخشوا العطب ، وجب الثبات ثم قال : فإن غلب على ظنهم الهلاك قال فيه وجهان : الأول : أن لهم أن يولوا لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثاني : أنه ليس لهم أن يولوا ، وهو الصحيح لقوله تعالى { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ولأن المجاهد إنما يجاهد ليقتل أو يُقتل ، وإذا زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا ، وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون ، وإن غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان : الأول : أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثاني يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم ، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة .
19- قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين 7/26 : لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل ، وإن علم أنه يقتل ، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز – أيضاً – ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار ، كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز ، فذلك حرام ، وداخل تحت عموم آية التهلكة ، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقتل حتى يقتِل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل الله ، فتكسر بذلك شوكتهم " انتهى .(1/33)
20- قال ابن حزم في المحلى 7/294 :لم ينكر أبو أيوب الأنصاري ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ويثبت حتى يقتل ، وقد ذكروا حديثاً مرسلاً من طريق الحسن أن المسلمين لقوا المشركين ، فقال رجل يا رسول الله أشد عليهم أو أحمل عليهم ؟ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتراك قاتل هؤلاء كلهم إجلس فإذا نهض أصحابك فانهض وإذا شدوا فشد ) ، وهذا مرسل لا حجة فيه ، بل قد صح عنه عليه السلام أن رجلاً من أصحابه سأله ما يضحك الله من عبده قال ( غمسه يده في العدو حاسراً ) فنزع الرجل درعه ودخل في العدو حتى قتل رضي الله عنه .
21- قال الرفاعي والنووي وغيرهما في شرح النووي على مسلم 12/187 " التغرير بالنفس في الجهاد جائز ، ونقل في شرح مسلم الاتفاق عليه ، ذكره في غزوة ذي قرد .
…وقال في قصة عمير بن الحمام ( دليل 14 ) ، قال النووي في شرحه على مسلم 13/46 : فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز لا كراهية فيه عند جماهير العلماء " انتهى .
22- قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 1/111 : التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة ، لكنه واجب إن علم أنه يُقتل في غير نكاية في الكفار ، لأن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين ، فإذا لم تحصل النكاية ، وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار ، وإرغام أهل الإسلام ، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة .(1/34)
23- قال ابن قدامة في المغني 9/309 : وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر ، فالأولى الثبات لما في ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب ، والحكم علق على مظنته ، وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف ، وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه ، ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضاً في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضاً ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الانصراف والإقامة ، فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلِبوا أيضاً .
24- قال ابن النحاس في مشارع الأشواق 1/539 وفي هذا الحديث ( أي الحديث رقم 25 ) الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده ، وإن غلب على ظنه أن يقتل ، وإذا كان مخلصاً في طلب الشهادة ، كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه ، ولم يعب النبي ذلك عليه ، ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده ، ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون .
وفيه أن للإمام وغيره ممن له على الحامل دالة المحبة أن يمنعه شفقة عليه ، وله أن يطلقة إذا علم منه صدق القصد وتصميم العزم وإخلاص النية في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأكوع مع الأخرم الأسدي ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم منعه ولا إطلاقه ، وكما فعل عمرو بن العاص رضي الله عنه مع الرجل في الحديث المتقدم ( الدليل 35 ) .(1/35)
وفي طلب سلمة انتخاب مائة من الصحابة ليلقى بهم الكفار دليل واضح على أن الكفار كانوا جمعاً كثيراً وإلا لم يستدع الحال أن يتوجه إليهم مائة من الصحابة المنتخبين ، ولم أر من ذكر هذا الحديث في هذا الباب وهو أوضح من كل دليل واضح ، والله أعلم .
25- قال السيوطي في شرح السير الكبير 1/125 : لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلم من العدو ما لايطيقه ، ولا بأس بالصبر أيضاً بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، بل في هذا تحقيق بذل النفس في سبيل الله تعالى ، فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ، منهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه حمي الدبر ( الدليل 19 ) ، وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فعلمنا أنه لا بأس به .
26- قال الصنعاني في سبل السلام 4/51 : حديث أبي أيوب الأنصاري في تأويل آية البقرة ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ثم ذكر ما أورده ابن جرير في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، قال ما نصه : من حديث أسلم بن يزيد بن أبي عمران ثم ذكر نص ( الدليل 6 ) ، ثم نقل عن ابن حجر في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير ما نصه قال " صرح الجمهور : أنه إذا كان لفرط شجاعته ، وظنه أنه يرهب العدو الكثير بذلك أو يجرّي المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهور فممنوع لا سيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين .(1/36)
27- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 28/540 : وقد روى مسلم في صحيحه قصة أصحاب الأخدود ( الدليل 4 ) وفيها ( أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين ) ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار ، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه ، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد ، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره : كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين ، التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك . انتهى كلامه
وحديث الغلام هو من أقوى الأدلة في المسألة ، وهذا الحديث يبين أن الغلام لما رأى أن في قتله على وجهة معينة سيكون سبباً لنشر الدين ودخول الناس فيه أقدم على فعل هذا السبب الذي يؤدي إلى قتله ، فأشار على الملك بطريقة قتله ، التي لا يمكن أن يقتل إلا بها ، وهو الذي قد سلمه الله منهم وحماه ، إلا أن نشر الدين وإدخال الناس فيه كان أعظم عنده من بقائه على قيد الحياة ، وهو بذلك يكون شريكاً في إزهاق نفسه ، صحيح أنه لم يزهقها بيده ، ولكن رأيه هو السبب الوحيد لقتله ، كما لو أن رجلاً طلب من آخر أن يقتله بسبب جزعه من الدنيا ، لقلنا أنه منتحر بالاتفاق ولا عبرة بمن قتل ، لأنه هو الذي طلب من الآخر أن يقتله وتساعد معه على ذلك ، والمتسبب بالقتل شريك للقاتل وعليه القود عند جمهور العلماء كما سيأتي .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أثنى على هذا الغلام ، دل ذلك أن الفرق بين الفعلين هو النية ، فمدح الغلام الذي تسبب بقتل نفسه لإعزاز الدين ، وهذا دليل واضح جلي على جواز ذلك ، وجواز العمليات الاستشهادية .(1/37)
وكذلك أثنى الله على الذين آمنوا برب الغلام ، وكان يقال لهم ارجعوا عن دينكم أو ألقوا أنفسكم في النار ، فكانوا يقتحمون في النار ، نصراً للدين وإيثاراً لدينهم على دنياهم ، بل إن الرضيع نطق يحث أمه على الإقدام لما ترددت عن اقتحام النار ، وما أنطق الله الطفل إلا بالحق ، وأنزل الله فيهم سورة تتلى ونعتهم بقوله { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز العظيم } فهم فدوا الدين بأنفسهم وفازوا .
وفعل الغلام وأصحاب الأخدود ، نضير لقصة ماشطة ابنة فرعون ( الدليل 5 ) ، وكلهم أثنى على فعلهم الشارع ، وأقدمت الماشطة على الموت وآثرت ما عند الله وأنطق الله رضيعها ليحثها على الإقدام لما تقاعست من أجله .
ولقد سقنا من الأدلة ما يؤيد هذين الحديثين من شرعنا ، ولم يأت من شرعنا ما يعارض بذل النفس لأجل إعلاء كلمة الله ، فكان ما في مضمون الحديثين شرعاً لنا على قول الجمهور .(1/38)
28- وفي قصة عبدالله ابن الزبير في تصارعه مع الأشتر التي رواها الطبري ( دليل 33 ) ، شاهد على رسوخ مسألة فداء الدين بالنفس إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك ، علماً أن الأشتر كان باغياً ولم يكن كافراً ، ولكنه هو الذي ألب الناس على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، فلما ظفر عبد الله بن الزبير به يوم الجمل رأى أن قتله سيخمد الفتنة ، لذا أراد أن يفدي بنفسه من أجل إخماد الفتنة ، فلما حاول الأشتر التفلت من بين يدي ابن الزبير قال ابن الزبير قولته المشهورة ( اقتلوني ومالكاً ) – أي الأشتر - ، لأن من أراد أن يقتل الأشتر من أصحاب عبدالله أثناء الصراع لا يمكن أن يفرد الأشتر بضربة تقتله ، فعلم عبدالله أن هذا مانع لأصحابه من عدم قتل الأشتر وحده ، فأمرهم بذلك ، وأراد أن يفدي بنفسه من أجل قتل باغ هو رأس في الفتنة كل ذلك لمصلحة الدين ، وما أظن من كان هذا فقهه لنصر الدين أن يتردد لحظة بتفجير نفسه إذا كان في ذلك مصلحة للدين كهذه ، ولم ينقل لنا أن أحداً اعترض على ابن الزبير طلبه أن يقتل مع الأشتر درءً للفتنة وتخليصاً للمسلمين من رجل واحد ، ونعلم أن عدم النقل لا يعني نفي الاعتراض ، ولكن هذا مما يستأنس به .
29- وفي قصة إلقاء البراء بن مالك من فوق حصن اليمامة ( دليل 26 ) دليل على عدم اعتراض الصحابة على هذا النوع من العمليات ، فإن البراء حمل في الترس وألقي من فوق الحصن على العدو ، ومعلوم أن الإلقاء وحده من فوق الحصن ربما يسبب الهلاك فكيف إذا كان في الحصن جملة من الجند وقد تأهبوا وتسلحوا ، وفعل البراء هذا لا يساور من سمع به الشك أن فاعله سيهلك إما من إلقائه أو من الجند الذين تأهبوا له ، ورغم ذلك لم يعترض لا أمير الجيش ولا أحد من الصحابة ، على ذلك رغم غلبة الظن بهلاكه .(1/39)
30- وفي حديث مما يضحك الرب ( دليل 7 ) دليل أوضح على غلبة الظن بالهلاك ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عوف بن عفراء أن الذي يضحك الرب هو أن يغمس يده في العدو حاسراً ، أي بلا درع ولا شيء يقيه ضربة الأعداء ، فنزع عوف درعاً كانت عليه وقاتل حتى قتل ، ولا شك أنه يغلب على الظن قطعاً أن الرجل إذا أراد أن يقاتل جمعاً كثيراً من الأعداء بغير درع لا شك أن الجزم بهلاكه محقق إلا أن يشاء الله ، ولكن الحكم في هذه المسألة على غلبة الظن كما قال ابن قدامة فيما قدمنا .
…وهذا الأسلوب في الحرب لم يحدث بين يدي الرسول مرة واحدة بل أقدم على ذلك عمير بن الحمام يوم بدر ( دليل 14 ) وكذلك أنس بن النضر في أحد ( دليل 15 ) وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي نجا من بئر معونة يحثه على الإقدام ( دليل 18 ) وحدث ذلك أيضاً بين يدي الصحابة كما حدث لأبي موسى ( دليل 32 ) ولعمرو بن العاص ( دليل 35 ) وعقر جعفر لفرسه يدل على ذلك أيضاً ( دليل 28 ) والرجل الذي تصدى للفيل يوم الجسر ( دليل 34 ) ، كل هذه الأدلة تفيد بأن مسألة الاقتحام على العدو مع تيقن الموت كانت مسألة مشتهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي زمن أصحابه ، إلا أنه لم ينقل لنا أحد من العلماء ما يفيد بمنع مثل ذلك إذا تيقن المهاجم الموت ، فدل ذلك على الجواز .(1/40)
31- إن حماية الدين أعظم ما يقوم به المجاهد لإعلاء كلمة الله ، ولقد جاءنا مالا يدع مجالاً للشك بجواز فداء المجاهد لدينه بنفسه ، إلا أننا نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حمي بأنفس الصحابة يوم أحد ولم ينكر ذلك ، ولم يدل دليل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهذ الفعل ، ففي قصة حماية أبي دجانة للرسول بنفسه ليكون ترساً له من النبل ( دليل 21 ) وقول أبي طلحة للرسول صلى الله عليه وسلم : نحري دون نحرك ( دليل 22 ) ودفاعه عنه حتى شلت يده التي وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دليل 23 ) كل هذا يفيد أيضاً جواز فداء الأشخاص بالأنفس إذا كان يحدث من قتلهم ضرر على المسلمين أو الدين.
خلاصة أقوال أهل العلم وشروط جواز العمليات الاستشهادية
…تبين لنا من أقوال العلماء في مسألة الاقتحام على العدو منفرداً تعليقهم المسألة بغلبة الظن ، أي أن من غلب على ظنه أنه يقتل في هذا الاقتحام ، أخذ حكم من سيقتل قطعاً ، فمن أجاز الاقتحام مع غلبة الظن كمن أجاز الاقتحام مع اليقين الجازم بالقتل .
وأيضاً فإن جمهور العلماء علقوا جواز الاقتحام بشروط الأولى : الإخلاص ، والثاني وجود النكاية بالعدو ، الثالث : إرهابهم ، الرابع : تقوية قلوب المسلمين .(1/41)
وأجاز القرطبي وابن قدامة الاقتحام بنية خالصة طلباً للشهادة فقط لأن طلب الشهادة أمر مشروع ، و للمجاهد فيه غرض ، وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يشترطوا ما اشترطه الجمهور في جواز الاقتحام ، فإن المصير لقول القرطبي وابن قدامة لا يبعد استحسانه ، لأننا لو أردنا أن نخرج من الأدلة التي جاءت بجواز هذا الفعل ما يعضد قول الجمهور بأن العمل الفاقد للشروط ممنوع لم تستقم لهم دلالة الأدلة ، إلا أنهم أخذوا ذلك من القواعد العامة للجهاد والعام لا يقضي على الخاص ، نعم نحن نقول بأن ما لا فائدة فيه لا ينبغي عمله ، ولكن القول لمن لم يحقق الشروط المذكورة أن عمله غير صحيح ولا محمود هذا ظلم ، لا سيما وأن هذه الشروط لم تأت بنصوص واضحة ولا آثار صحيحة ولا قياس جلي ، فأصل الجواز مع فقدها موجود ولكنه خلاف الأولى ، فلا ينبغي الإقدام على الشهادة فحسب بلا مقصود آخر يفيد المسلمين والمجاهدين .
فصل في مسألة التترس
لما كان الإقدام على العدو والانغماس فيه حاسراً ، نوع من التسبب الممحمود بقتل النفس ، كانت مسألة العمليات الاستشهادية نوعاً محموداً آخر إذا خلصت النية ، لأن التسبب بالقتل كالقتل على رأي الجمهور ، كما سنبينه إن شاء الله .
ومسألة التترس التي أجازها العلماء ، هي مسألة شبيهة بمسألة العمليات الاستشهادية إلا أن بينهما فارقاً سنبينه فيما بعد ، لأن من أجاز قتل المسلمين المتترس بهم لا شك أنه يجيز قتل النفس بالعمليات الاستشهادية إذا كان في ذلك مصلحة للدين ، فحرمة إزهاق نفس المسلم كحرمة إزهاق نفسه بل أعظم وهي من الكبائر ، قال القرطبي في تفسيره 10/183 أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره ، أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ، ولايحل له أن يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .(1/42)
فمن أجاز قتل المسلم للمصلحة ، لا بد له من أن يجيز قتل النفس للمصلحة طرداً لأصله ، إلا أن الفقهاء لم يبحثوا العمليات الاستشهادية بوضعها الحالي التي عرفناها في أول البحث ، لأن الوسائل تغييرت وأساليب الحرب تطورت .
والفارق الذي لا بد أن يؤخذ بالاعتبار ويفهم به كلام السلف الذين أجازوا قتل المتترس بهم ، هو أن السلف أجازوا قتل المتترس بهم حال الضرورة ، أما العمليات الاستشهادية فلا يقتضي جوازها إلى ضرورة ملحة كمسألة التترس ، فإن المسألتين متشابهتان من وجه مختلفتان من وجه آخر ، لأن قتل الغير لم ترد به نصوص تجيزه أبداً ، ولكن غلبت المصلحة العامة على الخاصة للضرورة ، والقاعدة تقول الضرورات تبيح المحضورات ، والقاعدة الأخرى تقول إذا تعارضت مفسدتان ارتكب أدناهما ، ولكن في العمليات الاستشهادية لا نحتاج إلى إجازتها بالقواعد كتعارض المفاسد أو إجازتها حال الضرورة ، لأن عندنا نصوصاً تحث على الإقدام على العدو وتثني على من اقتحم على العدو رغم تيقنه الموت فيها ، بشرط أن تكون نيته خالصة لإعلاء كلمة الله ، فهنا الفارق بين المسألتين الأولى على المنع وأجيزت للضرورة والثانية ليس فيها منع بل فيها حث على الإقدام ، ومن قال بجواز أمر محرم ولم تأت النصوص بجوازه مطلقاً وهو قتل المسلم ، فلا شك أنه سيجيز نظيره وهو أقل حرمة في الأصل ، وجاءت النصوص على إباحته والأمر به والحث عليه ومدح فاعله ، فتنبه أخي الكريم للفرق ، فما يباح للضرورة غير ما يباح للمصلحة ، والقول بجواز قتل الترس أصعب من القول بجواز قتل النفس وقد تواردت الأدلة على جواز الثانية .(1/43)
ووجه الشبه بين المسألتين ، أنه في كلا الحالتين تم إزهاق نفس مسلمة لمصلحة الدين ، فمن أخرج قتل المسلم في مسألة التترس عن أصلها من الحرمة فأجازه لسبب ما ، فلا شك أيضاً أن الاقتحام على العدو والعمليات الاستشهادية لها اعتبارات شرعية تخرجها عن أصل حرمة قتل النفس وتجعلها ممدوحة مثني على فاعلها و موصوف بالشهادة ، هذا لو سلمنا أنه لا يوجد أدلة تحث على فعله .
أما تعريف التترس : فقد جاء في مختار الصحاح 63 قال : التترس هو التستر بالترس ، وفي المصباح المنير 43 قال : الترس معروف .. تترس بالشيء جعله كالترس ، وتستر به .
والمراد بالترس في هذا الفصل هو أن يتخذ العدو طائفة من الناس بمثابة الترس يحمي بهم نفسه ، لأنه يعرف أن خصمه بسبب محافظته على أرواح هذه الطائفة المُتترس بها لن يقدم على ضربه أو الهجوم عليه .
ومن الصور التي تستخدم في هذا العصر لهذا الغرض ، ما يسمى بالدروع البشرية أو يطلق عليه رهائن الحرب ، فتعمد الدولة التي أسرت رعايا خصومها إلى سجنهم في المرافق الحيوية ، والمقار الاستراتيجية والوزارات وغيرها ، لتتفادى بهم ضربة الخصوم ، فيحجم الخصم عن ضرب مرافقها الحيوية حفاظاً على أرواح رعاياه .(1/44)
وبالنسبة لامتناع جيش المسلمين عن قتل من تترس بهم ، فإنه لا يلزم أن يكون الدرع البشري أو المتترس بهم من المسلمين فقط ، بل إن الجيش الإسلامي مأمور باتقاء قتل معصومي الدم حتى من الكفار أمثال النساء والصبيان والشيوخ ، فلو تترس الكفار برعاياهم من المعصومين أمثال النساء والأطفال والشيوخ وأهل الذمة ، فإن الجيش الإسلامي مأمور بالكف عنهم إلا إذا حدث من الكف ضرر على المسلمين فالمصلحة تبيحه ، وإذا كان الدرع البشري من المسلمين فالمنع أشد ولا يجوز الإقدام على ضرب العدو مع وجود الدرع من المسلمين إلا لضرورة ، فخرج لنا تفصيل وهو أن الدرع إذا كان من المعصومين من الكفار لا يجوز رميهم إلا لمصلحة ، وإذا كان الدرع من المسلمين فلا يجوز رميهم إلا لضرورة .
والتفريق بين الأمرين ظاهر بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم قال مر بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودان وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال ( هم منهم ) ، ورأي الجمهور أن نساء الكفار وذراريهم لا يقتلون قصداً ولكن إذا لم يتوصل إلى قتل الأباء إلا بإصابة هؤلاء جاز ذلك ، وعندما أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك للصحابة لم يضع له ضوابط أخرى تفيد أنه لا يجيزه إلا لضرورة ، بل حاجة المسلمين في الإغارة على الكفار بالليل تجيز ذلك رغم أنه صلى الله عليه وسلم في حروبه يبيت القوم حتى يطلع الفجر فإذا سمع آذانا وإلا أغار ، فعلم من ذلك أنه بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم الامتناع عن الإغارة بالليل لما فيها من قتل النساء والصبيان ، وجعل الهجوم بالنهار ، إلا أن المصلحة تبيح ذلك .
أما لو كان المتترس بهم من المسلمين فلا يجوز ذلك بحال إلا إذا أفضى الامتناع إلى تضرر عموم المسلمين والمجاهدين بترك قتال الكفار حتى لو زهقت أرواح المسلمين ، فالمسلم مأجور على فعله والمقتول يبعثه الله على نيته .(1/45)
والضرورة المقصودة التي تجيز استهداف الكافرين حتى لو تترسوا بالمسلمين : هي أن يهجم العدو على المسلمين فيقتل منهم أكثر ممن تترس بهم ، أو يستبيح أرض المسلمين ويدخل ديارهم أو أن يخشى على المسلمين أن يحاط بهم أو يستأصلوا أو يهزموا ، إذا امتنعوا وكفوا عن القتال لأجل المتترس بهم ، والضرورة يقدرها أمير المسلمين في وقته ومن له السلطان في بدء الحرب وإيقافها فهو يرى ويعرف مالا يعرفه آحاد الناس أو البعيدين وليس الخبر كالمعاينة .
قال الشوكاني في فتح القدير 5/447 والدسوقي 2/178وصاحب مغني المحتاج 4/244 وابن قدامة في المغني 10/505 كل هؤلاء نقلوا عن الجمهور قولهم بوجوب قتال العدو إذا دعت الضرورة إلى ذلك حتى لو أدى ذلك إلى هلاك الدرع الذي يحتمي به العدو ، وذكر صاحب مغني المحتاج لذلك شرطين 1- أن يتحاشى المجاهدون ضرب الدرع ما أمكنهم ، إلا إذا حدث هذا الضرب بحكم الخطأ أو بحكم الاضطرار .
2- عدم وجود قصد قلبي إلى ضرب أفراد هذا الدرع ، وإن وجد القصد الحسي اضطراراً .
قال ابن النحاس في مشارع الأشواق 2/1029 : لو تترس الكفار في قلعتهم بأسرى المسلمين وأطفالهم ، فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم ، تركناهم صيانة للمسلمين ، وإلا فإن دعت ضرورة بأن تترسوا بهم في حال التحام الحرب ، وكان بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا ، أو كثرت نكايتهم ، أو تعذر أخذ قلعتهم ، جاز رميهم في الأصح ، ويُتوقى المسلم بحسب الإمكان هذا مذهب الشافعي وأحمد وأجاز أبو حنيفة رميهم مطلقاً – أي بلا ضرورة – بالمنجنيق والنبل وغير ذلك ، بشرط توقي المسلم مهما أمكن ، وعلى هذا لو تترسوا في مركب ونحوه بالمسلمين والله أعلم .(1/46)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 10/376 لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم ، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة المصائب ، كما قيل في بعضهم القاتل مجاهد والمقتول شهيد .
وقد توسع جمهور الأحناف والمالكية والإمام الثوري كما جاء في فتح القدير 5/448 وأحكام القرآن للجصاص 5/273 ومنح الجليل 3/151 فأجازوا قتال العدو إذا تترس بالمسلمين حتى لو أدى ذلك إلى قتل المسلمين ، سواءً علموا أنهم إذا كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم ينهزموا ، حدث بالكف ضرر أو لم يحدث ، وحجتهم في ذلك أن المسلمين لو كفوا عن كل من يتترس بالمسلمين لتعطل الجهاد .
وهذا القول ظاهر الضعف فحرمة دم المسلم أعظم من أن تنتهك لمثل هذه الجحة غير المسلمة لهم ، ولا يلزم أن يتعطل الجهاد بسبب تترس الكفار بالمسلمين ، بل أساليب الجهاد كثيرة ، ولا يمكن أن يمنعها الكفار بعملية التترس فقط ، علماً أن التترس لن يكون في كل مكان من جبهات العدو ونقاطه ومرافقه الحيوية .
أما لو تترس العدو بنساء الكفار وصبيانهم وشيوخهم ومن هو معصوم الدم ولا يقصد بالقتل ، فقال صاحب السير الكبير 4/1554 وصاحب مغني المحتاج 4/224 وابن قدامة في المغني 10/504 ، بأن جمهور الأحناف والشافعية والحنابلة يجيزون قتلهم حتى لو لم تدع ضرورة لقتالهم ، وحتى لو لم يحصل ضرر على المسلمين بتوقف القتال .
وخالف في ذلك المالكية كما جاء في الشرح الكبير للدردير 2/178 ومنح الجليل 3/150 ، رغم أنهم يجيزون قتال الكفار إذا تترسوا بالمسلمين حتى لو لم تدع لذلك ضرورة وأفضى ذلك إلى قتل من تترسوا بهم من المسلمين ، وهذا تباين عجيب ، ولهم في ذلك تعليل لا نطيل بنقله .
قول الجمهور فيمن أعان على القتل(1/47)
الاقتحام على الأعداء على وجه لا ترجى معه النجاة هو أعظم سبب يدلي به المجاهد إلى العدو لقتل نفسه ، والمتسبب في قتل النفس مثل المباشر لقتلها ، كما أن التسبب لقتل الغير مساو لقتله ، حتى أن جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة رتبوا على قتل الغير بالتسبب القصاص من المتسبب كما يقتص من المباشر للقتل ، وخالف في ذلك الحنفية .
روى البخاري في كتاب الديات عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قُتل غلام غيلة فقال عمر : لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به .
روى ابن أبي شيبة في مصنفه 5/429 قال : عن سعيد بن وهب قال خرج رجال في سفر فصحبهم رجل فقدموا وليس معهم ، قال فاتهمهم أهله ، فقال شريح شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلا حلفوا بالله ما قتلوه ، فأتوا بهم عليا وأنا عنده ففرق بينهم فاعترفوا فسمعت عليا يقول أنا أبو الحسن القرم فأمر بهم فقتلوا .
وروى أيضاً في مصنفه 5/429 قال : حدثنا أبو بكر قال حدثنا محمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت سليمان بن موسى قال في القوم يدلون جميعاً في الرجل يقتلهم جميعا به .
وروى أيضاً في مصنفه 5/429 قال : حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن مجالد عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة أنه قتل سبعة برجل .
قال الصنعاني في سبل السلام 3/493 : ذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى أنهم يقتلون جميعاً إذا اشتركوا في قتله ، وقال : وهذا ما ذهب إليه جماهير فقهاء الأمصار وهو مروي عن علي رضي الله عنه وغيره ، ثم ذكر الأقوال الأخرى وقال : وقد قوي لنا قتل الجماعة بالواحد وحررنا دليله في حواشي ضوء النهار وفي ذيلنا على الأبحاث المسددة .(1/48)
قال الشوكاني في السيل الجرار 4/397 : قوله أي صاحب المتن ( وجماعة بواحد ) أقول قد علمنا من الحكمة في مشروعية القصاص بين العباد أن فيه للناس حياة كما قال عز وجل { ولكم في القصاص حياة }ولو كان اجتماع جماعة على قتل واحد لا يقتضي ثبوت القصاص منهم لكان هذا سببا يُتذرع به إلى قتل النفوس ، فإن الزاجر الأعظم إنما هو القتل لا الدية ، فإن ذلك يسهل على أهل الأموال ويسهل أيضا على الفقراء لأنهم يعذرون عن الدية بسبب فقرهم ، فإذا كان القتيل ثبت قتله بفعلهم جميعا كما سيذكره المصنف فالاقتصاص منهم هو الذي تقتضيه الحكمة الشرعية الثابتة في كتاب الله عز وجل ، ولهذا شبه الله سبحانه قاتل النفس بمن قتل الناس جميعا ، ورحم الله عمر بن الخطاب ورضي عنه ما كان أبصره بالمسالك الشرعية وأعرفه بما فيه المصلحة الدينية العائدة على العباد بأعظم الفائدة فقد ثبت عنه أنه قتل سبعة بواحد تمالوا على قتله وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ، وهو في الموطأ بأطول من هذا ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف عمر في ذلك والعجب ممن يعتمد في دفع هذه المسألة ويلزم سقوط القصاص لمسألة مقدور بين قادرين وهي أهون على المتشرع من شراك نعله .
قال القرطبي في تفسيره 2/251 : وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا ، وقتل علي رضي الله عنه الحرورية بعبدالله بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا ، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة وأخبر علي بذلك قال الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب ، فقالوا كلنا قتله ثلاث مرات فقال علي لأصحابه دونكم القوم ، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ، خرج الحديثين الدارقطني في سننه .(1/49)
وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ) قال فيه حديث غريب ، وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم ، وبلغوا الأمل من التشفي ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ والله أعلم . انتهى كلام القرطبي .
قال ابن تيمية في الفتاوى 20/382 قال : عمر لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به فإن كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع ، وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلي القتل غالبا كالمكره وشاهد الزور إذا رجع والحاكم الجائر إذا رجع فقد سلم له الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء ، كما قال علي رضي الله عنه في الرجلين اللذين شهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ، ثم رجعا وقالا أخطأنا قال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما فدل على قطع الأيدي باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور .
قال صاحب البحر الرائق 8/354 : قال رحمه الله ( ويقتل الجمع بالمفرد) لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا واحدا فقتلهم عمر به وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولأن القتل بطريق التغالب والقصاص شرع حكمه للزجر فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد به فيجري القصاص عليهم جميعاً ، تحقيقا لمعنى الإحياء ولولا ذلك لسد باب القصاص .
قال السمعاني في قواطع الأدلة في الأصول 2/243 : تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على المشتركين في القتل ، وقال بعض أصحابنا إن قتل الشركاء في القتل الواحد خارج عن القياس وإنما هو ثابت بقول عمر رضى الله عنه لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ، قال والمسلك الحق عندي أن المشتركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج آحادهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص عنهم هرج ظاهر ومفسدة عظيمة . انتهى(1/50)
وما احتج به أصحاب القول بقتل المباشر وحبس المعاونين ، هو مارواه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك ) فهذا كما قال البيهقي ورجح الصنعاني إرساله فلا حجة فيه .
وكذلك القياس على قول الله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالأمر بالمساواة ولا مساواة بين الواحد والجماعة ، وهذا الإيراد ليس فيه تعارض مع المقاصد الشرعية والله أعلم .
فإذا أجاز الشارع ومدح المتسبب بقتل نفسه أمام العدو بالاقتحام عليهم بنية خالصة لإعلاء كلمة الله ، دل ذلك على أن المدح والثواب المعطى للمقتحم ليس له تعلق بأداة القتل أو كيف قتل ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أذن لعوف بن عفراء و لعمير بن الحمام وأنس بن النضر ( الديل 7-14-15 ) بذلك لم يسألهم عن طريقة أو صفة اقتحامهم ولم يشترط عليهم شروطاً للاقتحام ، والقاعدة تقول " ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال " فكم من عملية حدثت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورغم ذلك لم ينقل لنا أي شرط وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل هذا النوع من الإقدام والنكاية في العدو ، وإذا جاز التسبب بقتل النفس لمصلحة المسلمين ولإعلاء كلمة الله ، بالانغماس في العدو حاسراً ، فجواز مباشرة قتلها لا شك في فيه لا سيما إذا كان فيه مصلحة أعظم لا تتحقق إلا به ، لأن المعين على القتل والقاتل في الجناية سواء ، إلا أن النصوص وقد أخرجت المجاهد عن هذا الأصل بأدلة خاصة ، فمن تبين له أن الشرع يعامل القاتل والمعين بحكم واحد ، علم أن المجاهد لا يدخل تحت النصوص العامة إذا أعان العدو على قتل نفسه أو قتل نفسه هو لمصلحة الدين .
فصل في تعريف الشهيد(1/51)
ذكر ابن حجر في الفتح 6/43 أربعة عشر وجهاً لسبب تسمية الشهيد بذلك ثم قال " وبعض هذا يختص بمن قتل في سبيل الله ، وبعضها يعم غيره وبعضها قد ينازع فيه .
وعد النووي في المجموع 1/277 وشرح مسلم 1/515 سبعة أوجه فقال : هي 1- لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شهدا له بالجنة ، 2- لأنه حي عند ربه ، 3- لأن ملائكة الرحمة تشهده فتقبض روحه ، 4- لأنه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم ، 5- لأنه شُهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله ، 6- لأن له شاهداً بقتله وهو دمه ، 7- لأن روحه تشهد دار السلام – أي الجنة - ، وروح غيره لا تشهدها إلا يوم القيامة .
أما تعريفه الشهيد في اللغة كما جاء في القاموس الفقهي لسعيد أبو حبيب 202 هو : من شهد ويأتي بمعنى الشاهد ومن قتل في سبيل الله تعالى ويجمع على شهداء ، وأشهاد ، ومنه الشاهد : الحاضر ويجمع على شهود وأشهاد ، وهو أيضاً من يؤدي الشهادة .
أما الشهيد في الاصطلاح فهو
عند الحنفية : قال صاحب العناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 2/142 وحاشية ابن عابدين 2/268 قال : هو من قتله المشركون أو وجد مقتولاً في المعركة وبه أثر أية جراحة ظاهرة أو باطنة كخروج الدم من العين أو نحوها .
وقالوا أيضاً في تبيين الحقائق للزيلعي 1/247: كل من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة أو قطاع الطريق بمعنى مضاف إلى العدو كان شهيداً ، بالمباشرة أو التسبب ، وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً .(1/52)
قال في البحر الرائق 2/211 : وفي التجنيس رجل قصد العدو ليضربه فأخطأ فأصاب نفسه فمات يغسل ، لأنه ما صار مقتولا بفعل مضاف إلى العدو ولكنه شهيد فيما ينال من الثواب في الآخرة لأنه قصد العدو لا نفسه ، وأطلق في قتله فشمل القتل مباشرة أو تسببا لأن موته مضاف إليهم ، حتى لو أوطؤا دابتهم مسلما أو انفروا دابة مسلم فرمته أو رموه من السور أو ألقوا عليه حائطا أو رموا بنار فأحرقوا سفنهم أو ما أشبه ذلك من الأسباب كان شهيدا ، ولو انفلتت دابة مشرك ليس عليها أحد فوطئت مسلما أو رمي مسلم إلى الكفار فأصاب مسلما ، أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار أو نفر المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار أو نحوه أو جعلوا حولهم الشوك فمشى عليها مسلم فمات بذلك لم يكن شهيدا ، خلافا لأبي يوسف لأن فعله يقطع النسبة إليهم وكذا فعل الدابة دون حامل ، وإنما لم يكن جعل الشوك حولهم تسبيبا لأن ما قصد به القتل فهو تسبيبي وما لا فلا وهم إنما قصدوا به الدفع لا القتل .
عند المالكية : قال الدردير في الشرح الكبير 1/425 هو : من قتل في قتال الحربيين فقط ، ولو قتل ببلد الإسلام بأن غزا الحربيون المسلمين ، أو لم يقاتل بأن كان غافلاً أو نائماً ، أو قتله مسلم يظنه كافراً ، أو داسته الخيل ، أو رجع عليه سيفه أو سهمه ، أو سقط في بئر أو سقط من شاهق حال القتال .
عند الشافعية : قال ابن حجر في الفتح 6/129 هو : من قتل في حرب الكفار مقبلاً غير مدبر مخلصاً .
وقال في مغني المحتاج 1/350 : هو الذي يقتل في قتال الكفار مقبلاً غير مدبر لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى دون عرض من أعراض الدنيا .
عند الحنابلة : قال صاحب كشاف القناع 2/113 بتصرف هو : الذي يموت في المعترك مع الكفار ، رجلاً كان أو امرأة بالغاً أو غير بالغ ، سواء قتله الكفار ، أو عاد عليه سلاحه فقتله ، أو سقط عن دابته ، أو وجد ميتاً ولا أثر به إذا كان مخلصاً .(1/53)
قال ابن قدامة في المغني 2/206 : فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو ، وقال القاضي يغسل ويصلى عليه لأنه مات بغير أيدي المشركين أشبه ما لو أصابه ذلك في غير المعترك ، ولنا ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه ، فأصاب نفسه بالسيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخوكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ) فقالوا يا رسول الله أشهيد هو ؟ قال ( نعم وأنا له شهيد ) وعامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فذهب يسفل له فرجع سيفه على نفسه فكانت فيها نفسه ، فلم يفرد عن الشهداء بحكم ولأنه شهيد المعركة فأشبه ما لو قتله الكفار .
ومما تقدم من تعريف الشهيد يتبين أن الجمهور خلافاً للحنفية لم يجعلوا لليد الفاعلة للقتل دوراً في تحقق الشهادة ، سوى ما جاء عند الحنفية بأن الشهيد الذي قتله المشركون أو وجد قتيلاً في أرض المعركة .(1/54)
وقول الجمهور هو الراجح ، وقول الحنفية يرده ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر.. ثم ذكر الحديث .. وفيه ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق قالوا عامر بن الأكوع – أخو سلمة - قال يرحمه الله ، قال رجل من القوم وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به ، فلما تصاف القوم كان سيف عامر قصيراً ، فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه ، قال فلما قفلوا قال سلمة رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحباً وهو آخذ بيدي قال ( ما لك ؟ ) قلت له فداك أبي وأمي زعموا أن عامراً حبط عمله ، قال ( من قاله ؟ ) قلت قاله فلان وفلان وفلان وأسيد بن الحضير الأنصاري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كذب من قاله إن له لأجرين وجمع بين إصبعيه إنه لجاهد مجاهد ) .
وروى أبو داود في سننه حديث 2539 عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : أغرنا على حي من جهينة ، فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فأخطأه ، وأصاب نفسه بالسيف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخوكم يا معشر المسلمين ) فابتدره الناس فوجدوه قد مات ، فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه ، فقالوا يا رسول الله ، أشهيد هو ؟ قال ( نعم وأنا عليه شهيد ) .
وبهذا يتبين أنه ليس شرطاً أن يقتل المجاهد بسلاح العدو حتى يقال عنه شهيد ، إنما الشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وقتل في أرض المعركة بأية طريقة كانت فإنه ينطبق عليه وصف الشهيد .
ومن توقف عن القول بجواز العمليات الاستشهادية شبهته فيها أن المجاهد يقتل نفسه ، فتوقفه ليس له ما يبرره ، فإن كان توقف لهذه الشبهة فليعلم أنه لا تأثير لها في استحقاق الشهيد للشهادة .(1/55)
فالشرع يفرق بين حكم متماثلين ظاهراً بسبب القصد والنية ، فهذا زواج المحلِل محرم والزواج الشرعي مباح ، والسبب أن قصد المحلِل التحليل أو هو قصد للطرفين سواءً سراً أو علانية ، فأثرت النية في العقد فأبطلته ، وحينما فارقت النية المنهي عنها العقد في الزواج الشرعي جاز ذلك العقد ، وكذلك اللفظ أو العرف أو الإشارة تؤثر بالعقود ، فلو أن رجلاً اقترض من آخر ألف روبل وأراد أن يردها له ألفاً ومائة بدون اتفاق جزاءً له بالحسنى فهذا جائز ، ولكنه لو اتفق معه أو أشار له أو تعارف أهل البلد بأنه لا بد من رد القرض أكثر من أصله لكان ذلك رباً محرماً ، وأيضاً لو صلى إمام رياءً وخلفه مأموم مخلص ، لبطلت صلاة الإمام وقبلت صلاة المأموم ، فالعمدة في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء عن عمر في الصحيحين ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
فالنية هي مناط تغير الحكم والتفريق بين المتماثلين ظاهراً في الأحكام الشرعية ، ومن المتماثلات لقتيل المعركة التي فرق بينها الشارع ، قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) فهذا بينه وبين من قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فرق رغم تشابه الظاهر ، وهو ما جاء عند مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أول ثلاثة تسعر بهم النار فذكر منهم مجاهد وقال : ( فيؤتى به فيعرف نعمة الله فيعرفها فيقال ماذا فعلت فيقول قاتلت فيك فيقول كذبت بل قاتلت ليقال شجاع فيؤخذ فيلقى في النار على وجهه ) ، فهذا ظاهره يشبه ظاهر من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولكنه لاختلاف الباطن استحق النار والأول استحق الجنة .(1/56)
وجاء أيضاً في التفريق بين المتشابهين في الظاهر ، ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة غزاها ( من أحب أن ينظر إلى الرجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ) ، فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه ، فأقبل الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً فقال أشهد أنك رسول الله فقال ( وما ذاك ؟ ) قال قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه ، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنه لا يموت على ذلك فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك ( إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم ) ، ومثيل لهذا ظاهراً ما جاء في الصحيحين وقد قدمناه بأن عامر ابن الأكوع ارتد عليه سيفه فقُتل بسيفه وفعل نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ( إنه شهيد وأنا عليه شهيد ) ، فالأول قُتل بسلاحه في أرض المعركة جزعاً فوجبت له النار ، والثاني قتل بسلاحه في أرض المعركة خطأ فوجبت له الجنة
هذه الأمثلة تدل دلالة واضحة على أن الحكم الشرعي للشهيد لا يتغير ولا يعتبر باليد القاتلة للمجاهد ، ولا بأداة القتل إذا كان ذلك لوجه الله و بنية خالصة لإعلاء كلمة الله ، فالذي قتله العدو مع سوء نيته كان في النار ، وآخر قتله العدو مع إخلاصه فهو في الجنة ، وآخر قتل نفسه جزعاً فهو في النار ، والرابع قتل نفسه خطأً فهو في الجنة ، والذي أعان على قتل نفسه لنشر الدين فهو في الجنة كالغلام ، وفيما قدمنا من أدلة عبرة للمعتبر وبيان لمن أراد الحق .
فصل في تعريف المنتحر
الانتحار في اللغة : هو قتل النفس كما جاء في القاموس المحيط 616.(1/57)
وفي الشرع : هو أن يقتل الإنسان نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال ، أو قتل النفس في غضب أو ضجر أو جزع ، أو يقال كل قتل للنفس بغير دافع ديني مجاز بالنصوص .
وهذا العمل لا خلاف بين العلماء على تحريمه وأن صاحبه مرتكب لكبيرة مستحق للنار إما خالداً فيها إذا استحل ذلك ، أو يمكث فيها بغير خلود .
قال تعالى{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيرا } .
قال القرطبي في تفسيره 5/156 { ولا تقتلوا } أنفسكم فيه مسألة واحدة قرأ الحسن تقتلوا على التكثير ، وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه ، بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال أن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ، ويحتمل أن يقال ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفاً على نفسه منه فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا . انتهى
وفي الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ، فجزع فأخذ سكيناً فجز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، قال تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ) . فهذا جزع من الجرح وضجر وفر من الألم والأذى الذي لحق به فلم يصبر ، فتعجل وقتل نفسه ليخلصها من ألم الدنيا ، فكان جزاؤه أن حرم الله عليه الجنة ، على اختلاف بين العلماء في تفسير هذا التحريم أهو أبدي أم لا .
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الذي يخنق نفسه يخنقها في النار ، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار ) .(1/58)
والأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا المعنى كثيرة ، بل إن الشرع قد نهانا عما هو أقل من ذلك ، فنهى الرجل أن يتمنى الموت لضر نزل به ، فإذا كان تمني الموت منهي عنه محرم ، فكيف بقتل النفس بسبب ضر نزل به ؟ .
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ، فإن كان ولا بد فاعلاً ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .
وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسناً فلعله يزداد ، وإما مسيئاً فلعله يستعتب ) .
كل هذه النصوص التي وردت بحرمة قتل النفس أو تمني الموت علقت بسبب الضر أو الجزع أو عدم الصبر وكل ذلك حرصاً على الدنيا ، وليس لأجل مصلحة الدين وإعلاء كلمة الله ، فعموم هذه الأدلة لا تصلح لأن تجرى على من اقتحم على العدو وحده وكان سبباً رئيسياً بقتل نفسه ، لأن الأدلة التي تجيز الانغماس في العدو حاسراً مع تيقن الموت و سقناها في أول البحث تخرج من ابتغى وجه الله وأراد الآخرة وقصد إعلاء كلمة الله من عموم نصوص النهي عن قتل النفس ففرق بين المنتحر للدنيا ومن غمس يده في العدو لإعلاء كلمة الدين مع تيقن الموت .
لذا هل يقال عمن قتل نفسه لإعلاء كلمة الله ونكاية في أعداء الله وإرهاباً لهم بنية خالصة فهل من العدل أن يقال عنه أنه منتحر ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
ولقد سقنا هذا الفصل لما رأينا أن أعظم سبب توقف من أجله الممتنعون عن القول بجواز العمليات الاستشهادية هو أن منفذ العملية الاستشهادية يقتل نفسه بالمباشرة ، ويتبين ضعف هذا المانع إذا عرفنا مناط تحريم قتل النفس أو تمني الموت .……………(1/59)
فنقول إن الله سبحانه وتعالى حينما حرم قتل النفس كان ذلك التحريم لأن قتل النفس هو نتيجة للجزع وعدم الصبر على البلاء وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، وكل هذا ناتج عن انتفاء الإيمان أو نقصه ، ومنفذ العملية الاستشهادية عندما قتل نفسه هل قتلها من أجل هذه الدوافع ؟ بالطبع لا ، بل إن ذلك منتف عنه ، ولم يقدم على ما أقدم عليه إلا لقوة إيمانه بالغيب وليقينه بما عند الله ولحبه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه ، ومما يدل على أن مناط تحريم قتل النفس ليس لذاته بل لما يسبقه من عدم إيمان بالقدر أو لنقصه ، فعل الغلام ( الدليل 4 ) فهو قاتل لنفسه وقد أثنى الشارع عليه لأنه لم يقدم على ذلك إلا رغبة بما عند الله ونصراً لدينه ، وهذا لا يصدر ممن لم يؤمن بالله ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت لضر نزل بالعبد وقد تمنى هو الموت في سبيل الله ثلاثاً ، فجاز ذلك لأنه ما تمناه إلا مع كمال الإيمان ، وكذلك ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة أن الرجل في آخر الزمان يمر على القبر فيقول يا ليتني مكانك ، فهذا تمني للموت ممدوح قائله ، لأنه ما قاله إلا بسبب فساد الزمان وسوء الأحوال ، ولم يتألم لذلك إلا لأن قلبه مليء بالإيمان فتمنى الموت ، فجاز له ذلك ولا تدخل هذه الصورة في النهي عن تمني الموت ، وهذا ما اشتهر عن الصحابة ، والأدلة المبينة لمناط التحريم كثيرة ولا نطيل بذكرها .(1/60)
إذاً تبين مما سبق من أدلة أن مناط تحريم قتل النفس أو تمني الموت لا لذات الفعل فحسب بل لما يصاحبه من عدم إيمان بالقدر إما نقص كمال أو انتفاء بالكلية ، ومتى انتفى المناط وهو عدم الإيمان بالقدر المصاحب لقتل النفس أو تمني الموت جاز ذلك الفعل للمصلحة والحاجة ، فما كل قتل للنفس محرم ، لأن التحريم معلق بعمل القلب فمن تسبب نقص إيمانه أو انتفائه بهذا الفعل كان الفعل له محرماً ، ومن تسبب زيادة إيمانه ويقينه بالله بهذا الفعل كان الفعل له ممدوحاً ويؤجر عليه .
فصل في خلاصة البحث
خلاصة ما نخرج به من هذا البحث أن العمليات الاستشهادية مشروعة وممدوح فاعلها وهو خير من الذي قتله العدو في أرض المعركة في الصف ، فالشهداء يتفاضلون ، فليس من يقتل وهو في السقاية كمن يقتل وهو في مقدم الجيش ولا مثل الذي يغمس يده في العدو حاسراً ولا مثل الذي يفدي بنفسه ويقوم بعملية استشهادية يتقطع من جراء الانفجار لإعلاء كلمة الله ، فكل مجاهد درجته على حسب جهده وجهاده ، وإلا ما المعنى لأن يكون الرجل الذي قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ، ما المعنى أن يكون هذا سيد الشهداء مع حمزة رضي الله عنه ، إلا لأنه لم يجد له في ذلك معيناً غير الله ، و تحمل من الخوف والبلاء غالباً ما لم يلحق بغيره من المجاهدين ، فكل مجاهد درجته على حسب قتله ، وفيما قدمنا من أدلة بياناً لذلك .(1/61)
ثم بينا أن العمليات الاستشهادية هي أقل الأساليب تكلفة وخسائر بالنسبة لنا ، كما أنها في هذا العصر أصبحت من أكثر الأساليب فعالية ضد الأعداء ، ولهذا السبب حرصنا على تفصيل بعض القول فيها ، ونحمد الله تعالى على ما وفق ، ولقد سمعنا كما سمع غيرنا أن أكثر علمائنا في هذا العصر ولله الحمد والمنة يجيزون مثل هذه العمليات ، وقد صدرت فتاواهم الجماعية منها والفردية لإخواننا الفلسطينيين حينما احتاجوا لذلك ضد الصهاينة المعتدين وقد بلغت أكثر من ثلاثين فتوى على حد اطلاعنا ، فنحمد الله أن أمتنا فيها من يفتي بمقارعة الأعداء والنكاية بهم ، بهذه الأساليب .
ثم إننا نقول إن العمليات الاستشهادية متفرعة عن جواز الاقتحام على العدو منفرداً والاقتحام على العدو منفرداً لا خلاف بين العلماء في جوازه وفضله لما صح فيه من أدلة ، ويتفرع عن الاقتحام على العدو منفرداً مع غلبة الظن بالهلاك العمليات الاستشهادية وبما أنه يجوز الأصل فيجوز الفرع أيضاً ، كما أنه يجوز فعلها مع النية الخالصة فقط لأن المجاهد له غرض بالشهادة ، وفرق بين قولنا يجوز وقولنا الأفضل ، ولكن الأفضل ألا تفعل هذه العمليات حتى يحقق من أراد القيام بها عدة أمور .
أولاً : الإخلاص وابتغاء وجه الله وقصد إعلاء كلمة الله والقيام بواجب الجهاد والرغبة بالشهادة ، وشرط الإخلاص هو الوحيد من الشروط الذي يعتبر شرط صحة فمتى انتفى فالعمل باطل .
ثانياً : أن يغلب على ظن المجاهد أن القتل الذي سيحدثه في الأعداء أو الدمار لا يمكن تحقيقه بأية طريقة أخرى تضمن له سلامته أو غلبة الظن بالسلامة .
ثالثاً : أن يغلب على ظن المجاهد أن العملية ستحدث نكاية بالعدو أو رعباً أو تجرئة للمسلمين على الأعداء .
رابعاً : لا بد للمجاهد من استشارة أهل الرأي والمعرفة بالحرب ، وخاصة أمير الحرب في مكانه لأنه ربما يفسد على المجاهدين ما أعدوا له طويلاً فينبه الأعداء .(1/62)
خامساً : لا يُقدم على مثل هذه العمليات إلا في ظروف الحرب لأنه لا يصار إليها إلا لتحقيق مصالح للمجاهدين ولدفع العدو الصائل ، وإذا لم تعلن الحرب فإن ضررها على المسلمين أعظم من نفعها فيجب تركها ومن لم يتحقق فيه إلا الإخلاص والنكاية فعمله جائز ولكنه ليس أفضل ممن حقق الشروط ، وهذه الشروط التي ذكرناها إنما هي شروط تكميلية ليكون العمل على أحسن حال ومن فقدها إلا الإخلاص والنكاية فلا يعني ذلك أن عمله ضاع ولا يوصف بأنه شهيد .
والعلماء حكموا على مسألة الاقتحام على العدو بغلبة الظن ، فمن غلب على ظنه أنه يقتل فهو كمن تيقن ذلك وكلاهما يأخذ الحكم نفسه ، فلا فرق بين غلبة الظن واليقين بالموت في هذه المسألة عندهم .
كما خلصنا أيضاً في هذا البحث أن من أعان على نفسه بالقتل فهو كمن قتل نفسه ، والذي أعان على نفسه عندما انغمس في العدو حاسراً وتيقن الموت ، لو كان فعله هذا في غير الجهاد لعده جمهور العلماء منتحراً لأن القاتل والمعين في الجناية سواء ، ولا فرق بين الذي أعان على نفسه بالانغماس وبين من قتل نفسه بالعملية الاستشهادية فكلهم في الجناية سواء ، إلا أنهما لما كانا في الجهاد ولله فعلا ذلك ضحك الله منهما ورضي عنهما .(1/63)
وخرجنا من البحث أيضاً أنه لا اعتبار لليد القاتلة للمجاهد في استحقاق الشهادة فسواءً قتل نفسه بالتفجير أو رجع عليه سلاحه أو قتله العدو أو قتله المسلمون خطأً أو ضرورة كالتترس أو أشار على عدوه أو أصحابه بطريقة قتله لمصلحة الدين كالغلام أو ابن الزبير ، كل هذه الصور متشابهة من حيث الحكم وصاحبها شهيد ، فلا مبرر من توقف البعض عن القول بالجواز بسبب اختلاف اليد القاتلة ، فلا تأثير لليد القاتلة بالعمليات الاستشهادية بل إنها جائزة وربما تكون واجبة في بعض الأحيان ، وهذه العمليات كغيرها من المسائل يتردد حكمها بين الأحكام التكليفية الخمسة على حسب حالها وحال القائم بها وما يحيط بها من ظروف وما يتبعها من آثار .
وبينا كذلك في البحث أيضاً أن قتل النفس ليس كله محرم ، وأن تحريم قتل النفس ليس معلقاً بالقتل ذاته ، بل إنه معلق بالأسباب الدافعة له ، فمن قتل نفسه بسبب ضعف إيمانه أو انتفائه فهو منتحر ، ومن قتل نفسه بسبب قوة إيمانه وفداءً للدين وحباً لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، فهذا فاعل للمأمور به كالغلام عندما قتل نفسه ، فمن مناط تحريم قتل النفس يتبين الفرق بين الأمرين ويتبين ضعف شبة من توقف عن القول بالجواز بسبب أن المجاهد في العمليات الاستشهادية يباشر قتل نفسه ، فمن عرف المناط سهل عليه فهم المسألة وقال بالجواز وهو الحق ، والله ولي التوفيق .
الخاتمة(1/64)
وفي الختام نقول إن مثل هذه العمليات تحتاج إلى بسط أكثر من هذا ، ولكن نسأل الله أن نكون وفقنا من خلال هذا البحث لبيان الحكم الشرعي في هذه العمليات ، فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فكل ابن آدم خطاء ، وما منا إلا راد ومردود عليه ، فمن كان لديه من العلم ما يفيدنا به ويسدد به طريقنا فلا يبخل به علينا ، فإن لم يكن له عذر بحرماننا من علمه فإننا لا نبيحه أمام الله وقد ناشدناه عوننا ، فنحن أحوج الناس لاجتهادات العلماء وأكثرهم فائدة بها ، وما أكثر النوازل المعضلة عندنا التي تحتاج إلى جمع من المجتهدين ليفتوا بها لنا ، ويعطونا آراءهم لنسلك بها طريق الهدى ، وإننا بحاجة لمثل هذا الدعم ، فإذا بخل علينا المسلمون بالدعاء فإن دعاء المظلومين في الشيشان يكفينا بإذن الله ، وإذا بخل علينا المسلمون بالمال فإن الله يرزقنا السلاح والمال من بين أيدي عدونا ، ولكن العلماء وطلبة العلم إذا بخلوا علينا بعلمهم وإرشادهم وتسديدهم لنا وآراءهم ، فإننا حرمنا خيراً عظيماً ولا مظان لما بخلوا به علينا لنحصله منها ، فالعلم سلعة نادرة إن بخل بها أهلها علينا فلا خير فينا بلا رأيهم ، فاتقوا الله فإننا علقنا في رقابكم اللهم هل بلغنا اللهم فاشهد .
والصلاة والسلام على رسول الله النبي الأمي الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .(1/65)