عنوان الكتاب:
موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثانية عشرة - العدد السادس والأربعون - ربيع الآخر- جمادى الأولى - جمادى الثانية، 1400هـ/1980م
ص -127- موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
هذه أسطر سطرتها إجابة على سؤال حول ما يتعلق بموضوع زكاة الأراضي الزراعية والعمارات السكنية سميتها "موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان" فأقول وبالله التوفيق.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والشكر له على ما هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط مستقيم وعلى آله وصحبه الذين حفظوا لنا الكتاب والسنة نقلوا لنا معالم الطريق القويم ورضي الله عن التابعين الذي بينوا لنا ما كان خافيا وجمعوا لنا أطراف ما كان نائيا من تقييد مطلق وتخصيص عام وقعدوا قواعد وفرعوا فروعا كانت المنهج لمن جاء بعدهم، ونهج منهجهم، فسعد بسعادتهم.
أما بعد:
لقد شاءت حكمة العليم أن تكون قسمة المال بحسب مقتضيات الحال، وتسيير نظام الكون بمقتضيات اختلاف الأحوال، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
ولكي يربطهم في المال جعل تعالى الزكاة طهرة لمال الغني، وطعمة لجوعة المسكين، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.(1/1)
ص -128- فهذه طهرة لمال الغني مما عساه خالطه من شبه خفية ولنفسه من الشح البغيض، وطهرة أيضا لنفس الفقير من حقد على الغني لغناه.
جاء في مستهل رسالة السائل أن المال مال الله يستخلف فيه من يشاء من عباده بالقدر الذي يتناسب وقابلياتهم وما وهبهم من أهليات وكفاءات.
ولم ينس -وهو الرحيم العادل- أولئك الذين خلقهم معدومي القابليات أو ضعاف الأهلية، بل اقتضى عدله ورحمته أن يجعل لهم حصة معلومة في الأموال تغطي ضروراتهم وتسد نفقاتهم، وشرع ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
إن هذه المقدمة وإن كانت ليست من صلب الموضوع إلا أنه يدعوني أن أبدي رأيا عارضا وهو أن الاستخلاف في المال منه سبحانه ليس على قانون الأهليات وإنما على شرعة الابتلاء، فلم يعط الأذكياء لذكائهم، ولم يترك البلهاء لبلههم وعلى صدقات غيرهم كما قال تعالى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ}.
كما أنه أيضا ليس على مقياس الإيمان والكفر كما قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }.
وقد قيل في المعنى الأول:
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذا من جهلهن البهائم
ولا بالقوة والضعف أيضا قال الأديب الشنقيطي:
قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الفبس تعتام القتب
أي بعد قوله:
لا يزهدك أخي في العلم أن غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا صفر كف لم يساعده سبب(1/2)
وتر الجاهل قد حاز الغنى محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد ... ... ... . ... ... ... ... ... . ... ... .
ص -129- وقد جعل الله تعالى الغنى والفقر فتنة ليرى الغني أيشكر أم يبطر ويرى الفقير أيصبر أم يضجر.
وعلى كل فقد أنزل لعباده من الأرزاق ما يكفيهم كما قال علي رضي الله عنه :
"لقد جعل الله في مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء وما اشتكى فقير قط إلا بقدر ما أمسك غني من زكاة" وهذا كله مسلم به والحمد لله.
وقد عقب السائل بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم شرحا وبيانا وتأكيدا للزكاة في الأموال: "أدوا زكاة أموالكم"، وذكر أن القرآن رغب وكذلك السنة في التصدق بكل ما زاد عن الحاجة الأصلية والشخصية: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى إن الصحابة رأوا أن لا حق لأحدهم في فضل ... وحبب إليهم الإيثار على النفس، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الآية.
أما ما كان من الترغيب والحث على الإيثار ونحو ذلك فهو باب واسع لتهذيب النفوس وترابط وتعاطف الأمة وقد خرج الصديق من كل ماله، وهذا مجال المنافسة الحميدة والنفوس الكريمة.
أما العود بفضل الظهر والزاد ... الخ فهذا كان في السفر وفي أمس ما يكون للمواساة ... بل قد تفرض بعض الظروف عند نقص التموين وإعلان الطوارئ في المجموعات التي تتعرض لمثل ذلك كالمعسكرات والجيوش ... الخ.
ولكن ما نحن بصدده وهو فرضية الزكاة فإن نصوصها قطعية الدلالة والثبوت ولكن جاءت النصوص لها بمقادير وحدود معلومة كما في قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ}، والمعلوم لا يكون مجهولا ولا مبهما ولا متروكا لعواطف الأغنياء وسجاياهم.
وكل فرض في الزكاة فهو معلوم المقدار من جانب المالك ومن جانب المسكين.(1/3)
وقد جاء هذا ضمن رسالة السائل بما نصه: وقد وضحت السنة النبوية الشريفة كيفية تأدية الزكاة وحددت نسبا معينة تؤخذ من الأموال المختلفة، وعلى اختلاف هذه النسب فقد فرضت جميعها على الأموال عينا أو مقومة بنقدها وهذا مبدأ قويم سديد واضح.
أما أنهم لم يستجيبوا لأبي ذر رضي الله عنه فلأنه رأي شخصي انفرد به عن جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف بأموال عثمان التي مول منها جيشا كاملا وغيره كثيرون ويكفي أننا وقفنا على أن الزكاة حق معلوم وليس كل المال وقد نوه جميع المفسرين على ذلك عند قوله تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومما وصفهم به {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أن "من" للتبعيض أي من بعض ما رزقناهم، ولا يخفى أن البعض يتذرع بأبي ذر رضي الله عنه إلى الاشتراكية.
ثم قال السائل: فإذا كنا نفهم من لغتنا أن كلمة - أموالهم - وأموالكم - تعني جميع أموالهم وأموالكم فإننا نستطيع القول مستندين إلى الكتاب والسنة أن الإسلام لم يكتف بفرض الزكاة على جميع الأموال فحسب، بل إنه رغب المسلم في بذلها كلها في سبيل الله.
وهنا نقول كما أسلفنا إن كان المجال للترغيب فالمجال فسيح من شق التمرة إلى كل ما يملك كما قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } وكما فعل الصديق.
ص -130- أما الفرض والإلزام فكما قدمنا أيضا لا بد فيه من معلوم، والمعلوم لا بد أن يكون مقدرا، وهو ما عرف بالنصاب وبالنسبة المعينة.
ثم قال السائل: والأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء ويتحقق فيها الربح، سواء عن طريق مبادلة عروضها أو منافعها ويجب والحالة هذه فرض الزكاة عليها جميعا إلا ما استثني منها بنص.(1/4)
أما القول بأن الأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء ... إلا ما استثني منها بنص فإنه يرد عليه بيت السكنى ودكان المبيع وعبد الخدمة وفرس الحاجة ولعله ما أراده بالاستثناء.
أما الحكم بوجوب فرض الزكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص فإن لقائل أن يقلب المدعى ويقول لا زكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص والذي جاءت فيه النصوص معلوم.
والنص جاء عاما في الكتاب، والسنة جاءت وخصصت وبينت الأموال المزكاة وكم مقدار الزكاة فلزم الالتزام بالنص، كما أنها بينت الفرض من التطوع.
وأما قول السائل: فليس من العدل - والإسلام كله عدل - أن تفرض الزكاة على مال ويعفى منها قسم آخر معرضين عن النص إلى الاجتهاد والقياس.
إذا كنا قد نفذنا نص الشريعة فيما بينت لنا في خصوص الأموال المزكاة فهذا غاية العدل ولا يصح لنا أن نتخطاها باجتهاد ولا بقياس.
والذي يريد أن يجعل نوعا من المال زكويا لم تجعله نصوص السنة التي فصلت الأموال وبينتها لم تجعلها زكوية لا يمكن أن يصل إلى ذلك إلا بالاجتهاد أو بالقياس، وهذا الذي ينهى السائل عنه علما بأن القياس نوع من الاجتهاد في تحقيق العلة كما لا يخفى وهي مجال واسع.
ولكن قسمة الأموال في مجالات متعددة لم تترك لاجتهاد يقع فيه اختلاف وجهات نظر لا لقياس تختلف فيه العلة كما قسم الزكاة نفسها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... } الآية، والميراث، وكذلك الأموال المزكاة لما كانت الأموال متنوعة، جاءت السنة محددة.
ومعلوم أن القاعدة العامة في الزكاة في الإرفاق فمن جهة المزكي حين يمتلك النصاب ويحول عليه الحول إلا الزرع، ومن جهة آخذها فلسد حاجته.(1/5)
وقول السائل - الافتراضي - عندما نقول بفرض الزكاة على الريع أو الربح فإننا نكون قد أخرجنا أصل المال من وعائها، وفتحنا بابا للتهرب منها وألزمنا بعض أصحاب الأموال من المسلمين بدفع الزكاة عن أموالهم حتى عند تعرضهم للخسارة، وأعفينا أموال البعض الآخر لا نأخذ الزكاة إلا من أرباحها.
وهنا السؤال: هل من العلماء المعلومين من قال لا زكاة إلا على الريع أو الربح؟.
إني لا أعلم أحدا قال بذلك، وإن قاله أحد فهو محجوج بالنصوص ولا يكون قوله حجة على النصوص.
ص -131- ومعلوم للجميع أن الأموال المزكاة عند فقهاء الأمة وفي المذاهب الأربعة هي كالآتي:
النقدان - أعمالها أو خزنها:
بهيمة الأنعام - نمت أو لم تنم ما دام النصاب موجودا.
الحبوب والثمار ـ ما دام قد حصل على نصاب.
عروض التجارة - في نهاية الحول ربحت أم لم تربح ما دام تقويمها بلغ النصاب ولو أنها ربحت فإن ربحها يضم إلى رأس المال ويعتبر الجميع مالا زكويا دون ما فرق بين أصل وربح.
حتى ذهب الفقهاء إلى أبعد من هذا وهو لو كان الربح في السلعة الواحدة بسبب غلاء السعر، وقد نص النووي في المجموع على أنه لو اشترى سلعة بمائتين للتجارة ومكثت إلى تمام الحول ولم تبع وأصبحت تساوي ثلاثمائة فإنه يزكي الثلاثمائة كاملة وهكذا في كل ربح متصل أو منفصل ناض أو غير ناض إذ العبرة على التقويم في نهاية الحول وتقوم بما هو أصلح للمساكين.
وعند الحنابلة نص في المغني على أن من اشترى أرضا للتجارة وفيها نخيل فأطلع وأبّره وبقيت الأرض حولا ولم يبعها واجتمع له من النخيل نصاب فإنه يزكي الأرض زكاة عروض ويزكي الثمار زكاة معشر كالثمار.
ورأي آخر يقول يقوم الجميع الأرض والثمار ويزكي زكاة عروض.
وبهذا يظهر أن الفقهاء لا يقصرون الزكاة على الريع أو الربح فقط إذا كان الأصل فيها التجارة.
أما إذا كان الأصل للقنية وحصل منه ريع أو ربح فهو كالآتي:
1- أرض زراعية.
2- عمارات سكنية.
3- مصانع إنتاجية.(1/6)
وكلها إما لشخص وإما لشركاء كشركة مساهمة فعلا.
أما الأرض الزراعية ولشخص فإن النصوص جاءت في زكاة الزروع والثمار وفي مسميات الأجناس مخصوصة هي من الثمار التمر والزبيب والخلاف فيما عداهما من الثمار المجففة وكذلك في الزيتون أي فيما يعصر من زيته ... الخ.
وفي الحبوب كالبر والشعير والخلاف فيما لا يقتات من بقية الحبوب أما ما لا يجفف من الفواكه كالتفاح والسفرجل ونحوهما كذلك من الخضروات كالخيار والقثاء والبطيخ والقضب ونحوها فلا زكاة عليها عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ولكن على أثمانها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا كما روى مالك في الموطأ قوله:
"والسنة التي لا خلاف فيها عندنا، والتي سمعت من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه"، قال: "ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب".
ص -132- ولم يقل أحد قط إن الأرض الزراعية تزكى عينها كما تزكى ثمرتها.
ومن المعلوم أن الأرض بذاتها ليست قابلة للنماء في نفسها وإنما نماؤها في ثمرتها اللهم إلا أن تكون للتجارة فإن نماءها قد يكون في ارتفاع سعرها، وهذا الارتفاع في السعر لا يعود على المقتني بشيء فسواء غلت الأرض أو رخصت فإن العائد عليه منها هو بيعها ما دام لن يبيعها، فليس من الإرفاق بالمالك أن يزكي عن الأرض بتقويمها كل سنة ويزكي غلتها من ثمار وزروع.
وقد نص أبو عبيد المتوفى سنة 224 على الإجماع على أن لا زكاة في الخضر عند علماء الحجاز والعراق والشام.(1/7)
أما العمارات السكنية: فإن كانت لسكنى صاحبها فلا زكاة فيها إجماعا، ولو كانت فسيحة أو تزيد على حاجته لأن له حق التوسع والتوسعة على نفسه وعياله، وقد كان للصحابة الدور الكبار مثل قصر سعد بالعقيق وغيره ولم ينقل أنه كان يؤمر بتقويم مسكنه ويزكيه.
فإن كان للكراء: فقد نص مالك أيضا في الموطأ بقوله: "الأمر المجتمع عليه عندنا في إجارة العبيد وخراجهم وكراء المساكن وكتابة المكاتب أنه لا تجب في شيء من ذلك الزكاة قل أو كثرت حتى يحول عليه الحول من يوم قبض صاحبه".
فهو ينص على أن السكن إذا كان للكراء أي للالستغلال والنماء فإن الزكاة في كرائه فقط وحتى يحول عليه الحول.
وكذلك نص غيره قال في المغني ما نصه: "ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها إذا حال عليه الحول" إلى أن قال: "ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان أو مؤجلا، وقال مالك وأبو حنيفة لا يزكيها حتى يقبضها ويحول عليها الحول بناء على أن الأجرة لا تستحق بالعقد وإنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة".
ثم قال: "وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: فيمن قبض من أجر عقاره نصابا يزكيه في الحال فقد ذكرناه في غير هذا الموضع وحملناه على أنه حال الحول قبل قبضه".
فهذه نصوص الفقهاء على كراء المساكن ومعلوم أن عين المسكن صغيرا كان أو كبيرا إنما هو مال مكتسب ومختص بمالكه ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئا بدون وجه مشروع، فمن ادعى المشروعية فيه فليبين دليل المشروعية وإلا بقي المال معصوما كعصمة دم صاحبه، كما في الحديث.(1/8)
أما المصانع: فمعلوم أن كل مصنع أيا كان نوعه أنه لم ينشأ إلا لعمل تجاري وبقصد الاستفادة من إنتاجه وعليه فهو من أول وهلة مؤسس بمال للتجارة ويلزم اعتبار كل شيء فيه من عروض التجارة، إلا أنه ومواد صناعته وإنتاجه الصناعي يقوّم جميعه وتزكى القيمة، كل هذا في العمارات السكنية وفي المصانع الإنتاجية إذا كانت لشخص.
فإن كانت لشركاء كشركة مساهمة نظرنا: إن كانت الأراضي الزراعية أو العمارات السكنية أو المصانع اشتريت أو أنشئت لتباع فهي عروض تجارة لحساب المساهمين فإما أن تتولى إدارة تلك الشركة الزكاة عن الجميع: رأس المال والربح سواء في نهاية كل حول وإما أن يتولى المساهمون بأنفسهم زكاة أجزاء مشاركتهم أي أسهم مشاركتهم لمن بلغت أسهمه نصابا على ما هو معلوم.
ص -133- وإن كانت ابتنيت المساكن للقنية ولكل مساهم حصة مشاعة ولكن للتأجير لا للتجارة كانت أعيانها على أملاك المشتركين وكان ما حصل من أجرة يزكى إذا حال عليه الحول على الوجه المتقدم. لبقاء أعيان ذلك في ملكهم وإنما العائد عليهم منها هو الأجرة المتحصلة ومن كان عنده مال آخر يزكيه فإنه يضم حصته من الربح أو من الأجرة إلى رأس ماله الآخر ويزكيه مع سائر أمواله ولا يكون له حول مستقل.
وهذا أعتقد أنه وضح لا لبس فيه، وما كان عليه السلف فهو الذي ينبغي أن يسير عليه الخلف.
وما تجدد من شركات نقل أو أعمال سياحية فكلها على قاعدة التملك للقنية أو للتجارة فمن يوجد عنده سيارة كمن يوجد عنده بعير في السابق في أصل الاستخدام ومن عنده عشر سيارات كمن عنده عشر من الإبل.
ولم يقل أحد إن أصحاب الإبل التي كانت تنقل عروض التجارة على إبلهم في ذاتها زكاة، فكذلك اليوم وسائل النقل على اختلاف أنواعها لا زكاة في أعيانها وإنما الزكاة في أجورها.
وهذا أيضا أعتقد أنه واضح لا لبس فيه.
أما السببان اللذان ذكرهما السائل للالتباس على الرأي وهما في قوله:(1/9)
أولا: أننا نواجه أموالا لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالعمارات والمصانع والشركات.
فأعتقد أن هذا لا لبس فيه لأنها وإن كانت جديدة في أشكالها وصورها فليست جديدة في حقيقتها وأصلها لأن جنسها كان موجودا فالمساكن المؤجرة كانت موجودة وتقدم قول العلماء فيها وسواء أكانت صغيرة أو كبيرة فالكلام على الكيف لا على الكم، وكذلك المصانع فإن قضية حماس مع عمر رضي الله عنه لما رآه يحمل جلودا مصنعة بالدبغ ونحوها، فقال عمر رضي الله عنه: "أدِّ زكاة مالك"، فإذا كان الأصل في جلود الحيوانات كمادة خام وهي الأهب، فإذا دبغت صارت أدما وقد قال حماس: "ما لي مال إلا أدم أبيعها" فهذا معناه تصنيع لما فيه من تطوير المادة الخام، وكذلك ما جاء في حديث سمرة في البزّ والبزّ نسيج تطورت فيه مادته من قطن أو كتان أو مخلوط الحرير مع أحدهما.
فيكون مبدأ التصنيع وزكاة إنتاج الصناعة موجودا ولو بصورة بسيطة أو مبسطة، فيلحق بها كل ما وجد من جنسها من المصانع أيا كان حجمها أو نوع إنتاجها.
وأقوى من هذا من حيث الإسناد، ما رواه الإمام أحمد وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث عمر على الصدقة فجاء فقال منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا إنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها ... الخ"، فهنا آلات الحرب مصنعة ظنوها عند خالد للتجارة فطالبوا بزكاتها.
ورد عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنها هي بنفسها مسبلة في سبيل الله فلا زكاة فيها أي لأنها
ص -134- هي زكاة أي صدقة فتصدق بها، ومفهومه لولا ذلك لزكاها وهي مال مصنع وجبت فيه الزكاة لولا أنها مسبلة عند خالد.(1/10)
أما السبب الثاني لوجود الالتباس على الرأي وهو قول السائل أننا نشأنا في بيئة رأسمالية أثرت في نفوسنا واستقرت في أعماقنا إلى جانب عقيدتنا الإسلامية فأصبحنا نحاول التوفيق من حيث لا نشعر بين إسلامنا وبين حرصنا على أن يبقى المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
فهنا يقال وبكل هدوء ما المراد بالبيئة الرأسمالية أهي على المفهوم الاقتصادي التمسك برأس المال أم المفهوم السياسي ما هو مقابلة الشيوعية؟.
وعلى كل إذا كنا نتفق بأننا نشأنا في بيئة مسلمة فإن أقرب الاعتبارات لمدلول هذا القول هو المفهوم الاقتصادي فينبغي أولا وقبل كل شيء أن لا نتأثر بهذه التيارات الحديثة ولو في مسمياتها حتى أننا نسمي النظام الإسلامي باسم مستورد له مدلول خاطئ في نظر الإسلام.
لأن الإسلام ليس رأسماليا ولا حتى اشتراكيا، بل هو الإسلام بنظامه ومنهجه راعي حرمة الملكية وطالب بمساعدة من لا ملك له.
ويحث على الكسب المشروع ويحرم أي كسب غير مشروع والكسب غير المشروع هو المعروف عند الاقتصاديين ما كان في غير مقابل كالربا والميسر والاعتداءات كالسرقة والغصب والغش ... الخ.
وعليه فلا يتأتى بحال من الأحوال أن يلتبس النظام المالي في الإسلام بأي نظام مالي آخر.
وبالتالي فلا نحتاج إلى التوفيق من حيث نشعر أو لا نشعر بين عقيدتنا وبين إبقاء المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
ثم لماذا نحاول إبقاء المال بيد مالكه وهو بالفعل في يده؟ هذا هو الأصل وهذا ما يسمى في الأصول استصحاب الأصل.
ولكن القضية بالعكس نريد أن نحاول إخراجه من يده بتشريعات جديدة وإسلامية، وهذا محل البحث فهل بالبحث وجدت تشريعات إسلامية سوى ما كانت من قبل تخول إخراج المال من يد صاحبه؟.
وكلنا يعلم أن المال في يد صاحبه معصوم إلا بحقه والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه إلا بحقه.(1/11)
ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس، إذًا فأين التشريعات الإسلامية التي نحاول أن نجنب مال صاحب المال عنها؟.
أما قول السائل بأنه يخشى أن يكون قاسيا إذا قال إننا عندما نصدر حكما إسلاميا نقف على أرضية رأسمالية تؤثر في أحكامنا وآرائنا فأقول بدون خشية ولا تخوف إن من يكون مثل ما وصف السائل من حيث موقفه وتأثره لا يكون في قوله عليه قسوة، ومن كان بعيدا عن ذلك فهو بعيد عن أن تناله قسوته، والحق أحق أن يتبع.
ص -135- ولكن يبدو أن في هذا الأسلوب وفي الإحساس بتلك القسوة ما يمكن أن يكون فيه تناقض إذا قلنا أحكاما إسلامية ونحن على أرض رأسمالية أي إنها أرض متأرجحة أو زلقة لا تثبت القدم عليها أو رأسمالية تتنافى مع الإسلام، فكيف نصدر أحكاما إسلامية من قاعدة غير إسلامية.
أعتقد أن الإحساس بالقسوة هو الذي ساق هذا التعبير.
وأما قول السائل إن بعض الكتاب المسلمين عند معالجتهم لهذا الموضوع بقولهم من أين يأتي صاحب العمارة بالزكاة إذا لم تؤجر أو ماذا يفعل صاحب المصنع إذا كانت زكاة مصنعه أو عمارته مقومة أكثر من ربحه أو بدل إيجار عمارته.
فيقال أولا: وأي عمارة الآن في أي قطر معطلة عن السكن لانعدام الساكن؟ وهل بنيت إلا استجابة لحاجة المجتمع إلى سكن؟.
أما كون ربح المصنع لا يفي بزكاة ما يقوم به فهذا بعينه يرد على مال التجارة فقد يخسر ولا يكسب شيئا ومع ذلك فإنه يقوم ما يوجد عنده لأنه مال زكوي والربح والخسارة أمور عارضة كمن عنده ذهب وفضة ولم يعملها في شيء يربح منه فإنه يزكيه من عينه ولو أدى إلى نقصانه كل سنة كما قالت عائشة رضي الله عنها: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
أما قول السائل مبديا رأيه بما نصه:(1/12)
أما عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي اليوم معظم مجموع مال الأمة من عمارات ومصانع وشركات وغيرها فإنني أرى أن الصحيح أن نطبق عليها حكم القرآن والسنة قبل أن نلجأ إلى الاجتهاد ـ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وجميعها أموال سواء أكانت منقولة أو غير منقولة وسواء أكان الاتجار بأعيانها أو منافعها، وقد جعل الله الحق العام فيها لا في أرباحها ولا في ريعها.
إن قول السائل عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بينا أنها كانت بأجناسها فليس في الأمر جديد من حيث الأصل.
وأما رأي السائل في تطبيق القرآن والسنة، فإن للآخرين أن يقولوا بالموجب المعروف عند الأصوليين وهو القول بموجب ما يقول السائل به فعلا.
ولكن وما هو حكم القرآن والسنة، وقد قدمنا أن قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} قيد الحق المطلوب بأنه معلوم ولا معلوم في التشريع إلا من جهة المشرع والسنة فسرت وأعلمت وليس لأحد حق في تشريع جديد، فنقول نعم إن العمارة والمصنع والأرض مال، ولكن عموم المال قد جاء تخصيصه وجاء بيان المخصوص منه وبيان المزكى منه وبيان الحق المطلوب فيه.
وقد درست هذه المسألة حديثا على مستوى المؤتمرات ومجامع البحوث واتفقت الكلمة على أن لا زكاة في أعيان العقارات ولا أعيان الأراضي الزراعية كما جاء في كتاب "التطبيق المعاصر للزكاة" للدكتور شوقي إسماعيل شحاته طبع سنة 1397هـ ،1977م جاء في الباب السادس منه زكاة إيرادات الأموال العقارية.
ص -136- جاء في الفصل الثاني منه عنوان زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد، قال في مستهل كلامه منه ما نصه: "لا شك أن الدور والمباني إذا كانت للسكنى الخاصة فلا زكاة فيها لأنها مال يراد لحاجة أصلية".(1/13)
ثم يقول: "أما الآن وقد أصبحت الدور والمباني تشيد بقصد الاستثمار طلبا للفضل والنماء" إلى أن يقول: "لذلك يتعين إخضاعها لزكاة المال".
ثم يقول: "إنها لا تخضع لزكاة التجارة وإن مكانها بين الأموال العقارية ذات الإيراد شأنها شأن الأطيان الزراعية التي تؤخذ زكاة الزروع والثمار من غلتها".
ثم نقل رأي حلقة الدراسات الاجتماعية بدمشق سنة 1372هـ - 1952م وهو قياس زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد على زكاة الزروع والثمار حيث إن كلا منها يعتبر أصلا ثابتا يدر إيرادا.
ونقل أيضا رأي مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ وهو أن المؤتمرين قرروا أن لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
ثم ناقش ما يكون من زكاة أو 5\2% أو 10%، كالزرع الخ، فهم يتفقون بخصوص العقارات أن لا زكاة في أعيانها.
وهذا الذي يهمنا في قراراتهم حيث إنها الموافقة للنصوص، وإن كنا نختلف معهم في كل ما ذكر من طائرات وسفن ... الخ، وفي نسبة ما يكون فيها من الزكاة.
وأعتقد أن للشيخ محمد أبي زهرة رأيا كذلك في هذا بأن الأعيان لا زكاة فيها ولا حول في زكاة أجرتها، على رأي قدمناه عند الحنابلة وإن كان مرجوحا.
أما قول السائل بأن القول بأخذ الزكاة من أرباح المصانع وإيجار العمارات قد فتح أبوابا كثيرة كلها تريد التنصل من الزكاة، فهذا يقول بلزوم نفقات الزروع أولا وذلك يقول لا زكاة في المعلوفة من الأغنام، وآخر يقول لا زكاة في عروض التجارة وهناك من يقول لا زكاة في المجوهرات التي تتعدى أقيامها مئات الآلاف والتي تزين صالات الأغنياء وقصور المترفين، ومن قائل لا زكاة إلا في الذهب والفضة والحنطة والشعير والزبيب والغنم والإبل والبقر إلا آخر ما هنالك من آراء تخرج معظم الأموال من الزكاة.(1/14)
فأقول وبالله التوفيق إن من هذه الأقوال الصحيح والباطل، ومعلوم ما قاله مالك رحمه الله: "كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".
وإني لمورد إلمامة موجزة على هذه الأصناف بإذن الله.
1- أما المصانع والعمارات فقد قدمنا القول فيها.
2- وأما إخراج نفقات الزرع أولا فهذا تفريع لا تأصيل لأن زكاة الزروع متفق عليه وتقدير النفقات محل خلاف والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يوصي العامل بشيء عن النفقات.
3- أما زكاة المعلوفة: فإن الأصل في ذلك الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم الزكاة، فكان مفهوم الوصف الذي هو السوم أن لا زكاة في المعلوفة لانتفاء وصف السوم المذكور، ولكنا
ص -137- نقول إذا كانت المعلوفة معدة للتجارة ففيها زكاة التجارة وعلى نظام التجارة بالتقويم لا زكاة الغنم بالعدد.
4- أما عروض التجارة فالنصوص متضافرة في زكاتها ولم يخالف الجمهور فيها إلا داود ولم يؤثر ذلك في الوجوب ولا عبرة بمن خالف فيها..
5- أما المجوهرات: فما دمنا مقيدين بالنص كتابا وسنة، والأصل في الإسلام عصمة المال كعصمة الدم سواء بسواء لا يجوز شيء منهما إلا بحقه، وجاءت نصوص الزكاة عامة وخاصة أي عموم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} و{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } واتفقنا أن هذا العموم قد خصص بأصناف معينة ... وقيد بقيود مميزة، وبينتها السنة بيانا شافيا.
فهل وجدت من النصوص ما يدخل الجواهر في الزكويات ولو عن الخلفاء الراشدين وبعد الفتوحات وأخذ الغنائم من كسرى وقيصر وبعد أن فتحت مصر والشام والبلدان المعروفة وغنم المسلمون من الجواهر الشيء الكثير كما هو معلوم، وكان للخلفاء الراشدين حق وضع السنن للناس فيما استجد لهم فهل يوجد عن أحد منهم نص في ذلك، وهذا نص أبي عبيد نحو هذا يقول:(1/15)
"وإنما اختلف الناس في العنبر واللؤلؤ فالأكثر من العلماء على أن لا شيء فيهما كما يروى عن ابن عباس وجابر وهو رأي سفيان ومالك جميعا.
ومع هذا إنه قد كان ما يخرج من البحر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تأتنا عنه فيه سنة علمناها ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصح فنراه مما عفا عنه كما عفا عن صدقة الخيل والرقيق".
فتراه هنا وهو إمام في هذا الباب وعاش في القرن الثاني وأدرك القرن الثالث أي أدرك القرون المشهود لها بالخير وآثار الفتوحات ينص على اللؤلؤ وهو من الجواهر الكريمة وإن كان بحريا فيكون مثله الجواهر البرية من الأحجار الكريمة.
وهذا هو عمل الأئمة رحمهم الله.
وقد يقال إن الوعيد في منع الزكاة جاء النص فيه على الذهب والفضة فقط { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم تأت في غيرهما من الحلي والجواهر، وقد يرشح لهذا قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ }، والذي هو صالح ليحمى عليه هو المعدن، وجاء في الحديث "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنببه ... الخ"، وهو الذي يتناسب مع الذهب والفضة ولا يتأتى صفائح من الأحجار الكريمة وجاء النص على بقية الأموال الزكوية من إبل وبقر وغنم ... الخ.
وجهة نظر: ولي وجهة نظر أعرضها للمناقشة وهي:
إنه من المعلوم أن الذهب والفضة هما قيم الأشياء وأثمانها ويقولون إن فرض الزكاة فيها يمنع(1/16)
ص -138- كنزها وتجميدها ويدفع بصاحبها إلى دفعها في الأسواق وتعميلها فيسهم في إنعاش اقتصاد الأمة، أقول وبالتالي فإن الجواهر عنصر جامد وظيفته النقدية أي بعبارة أخرى الذهب والفضة مال سيال والجواهر مال جامد، بل إنه لا نماء فيه فالأرض والعقار وعروض التجارة مال جامد صامت لكنها كلها مال نام متحرك، وبذلك فقد غايرت الجواهر جميع أصناف المال من هذه الناحية.
بقي ما أشار إليه السائل من أنها تساوي الملايين ويزين بها القصور ونحو ذلك، فيقال إن فُعِل ذلك للزينة فقط فلا بأس وله دليل من قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}.
وإن كان فُعِل ذلك تهربا من الزكاة وإذا مضى الحول حولها إلى مال نام يستغله فإنها حيلة لا تصح ولا تعفيه من المسئولية.
وأعتقد أن في هذا الكفاية من هذا الوجه والله أعلم.
ومما يستأنس به ما نص عليه ابن حزم أنه لا زكاة في المجوهرات مطلقا وقال: "لأنه مال مسلم محترم لا يؤخذ إلا بنص صحيح صريح".
أما مناقشة السائل للحاصل الزراعي وأنه ليس ربحا محضا فتقدم الكلام عليه بما لا يحتاج إلى إعادة.
ولكن في قوله: الذي أعتقده بخصوص الأرض أن المزارع كان يملك أرضه التي يزرعها بنفسه وهي في هذه الحال مال غير نام مشغول بالحاجة الأصلية كحانوت البائع أو محل التاجر، وآلة الزراعة يومها لا تعدو أن تكون محراثا ... الخ وعلى هذا الأساس فإن كل ما يملك المزارع وقت الحصاد من مال هو حاصله الزراعي، وأخذ الزكاة من الحاصل يعني أخذها من المال وليس من الربح أو النماء.
أقول إن المتأمل في هذا القول يجد شبه تخالف لأن تلك الأرض التي كان يزرعها المزارع والتي هي مشغولة بالحاجة هي التي جاء فيها {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهي التي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فيها العشر أو نصفه، فهي إذا زائدة عن شغل الحاجة وليس في عينها زكاة.(1/17)
أما أنها كانت لا قيمة لها فهذا باب آخر أطال الكلام فيه الأستاذ أبو الأعلى المودودي بما لم يقله إمام من الأئمة وليس عليه عمل من سلف الأمة فلا حاجة إلى نقاشه.
أما قول السائل بأن الأرض كانت تملك بطريق التصرف أي الإحياء وليست مالا، فإنكم لو أعيد النظر لوجد أن الأرض في ذلك الوقت هي عين المال، ألم يشتر النبي صلى الله عليه وسلم أرض المسجد أول قدومه المدينة.
ألم تكن الأرض موضع الغرس، وغرس النخل أطول الأشجار عمرا؟.
إن الأرض التي تملك بالتصرف هي الأرض الميتة التي لم تكن محياة لا بزرع ولا بنيان ولا غير ذلك، وقد كان الإمام يقطع ما شاء منها لمن شاء وإلا لما كان للإقطاع من الإمام محل إذا كانت الأرض ليست مالا وتملك بالتصرف، وعليه يقال: كانت الأرض موجودة والزكاة مفروضة ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاتها فعدم الفعل مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على عدم الوجوب.
ص -139- أما اعتقاد السائل مرة أخرى أن حولان الحول يتحقق على الحاصل الزراعي وقت الحصاد لاستغراق الموسم الزراعي حولا ابتداء بالحراثة والبذر ونحوه، فهذا يغاير طبيعة الزراعة لأن أطول الزراعة عمرا في الأرض هو القمح ومدته لا تتجاوز ستة أشهر، أما الذرة فلا يصل ثلاثة أشهر وفيه مع ذلك مغايرة لما عليه جمهور المسلمين.
أما مشروعية زكاة البقر: فجاء في رسالة السائل أن أبا بكر رضي الله عنه أخذ الزكاة عن الإبل والغنم ولم يعلم وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على البقر زكاة لأن بلاد نجد والحجاز بلاد غنم وإبل إلا أن معاذا رضي الله عنه عندما ذهب إلى اليمن وجد فيها البقر تجارة نامية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوجوب الزكاة فيها وروى ذلك عنه.(1/18)
الواقع أن زكاة البقر مشروعة قبل أن يذهب معاذ إلى اليمن وقد جاء في خطاب عمرو بن حزم الأنصاري الذي فيه أنصباء الزكاة وفي نص حديث بعث معاذ نفسه عن ابن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، قالوا: فالأوقاص قال ما أمرني فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: ليس فيها شيء.
وبهذا لم يكن تشريع زكاة البقر نتيجة تجدد العلم بوجود هذا النوع من المال ولم يكن يعلم عنه من قبل حتى نجعله قاعدة لاجتهاد جديد.
بل إن النصوص تربط زكاة البقر بزكاة الإبل لمشاكلتها بها وفي الحديث الطويل: "ما من صاحب كنز ... الخ، ولا صاحب بقر لا يؤدي زكاتها ... الخ"، راجع نيل الأوطار.
زكاة الخيل:وقال السائل وكذلك فعل سيدنا عمر عندما أخذ الزكاة عن الخيول وقد أصبحت في عهده أموالا وتجارة رغم أن رسول الله لم يأخذ الزكاة فيها.
وأود أن أذكر أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يأخذ الزكاة في الخيل ولم يأخذ ما أخذه ابتداء من نفسه.
ولم يطالب أهل الخيل بشيء فيها وإنما حقيقة الأمر كالآتي:
أولا: عدم وجوب الزكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه"، ولما ذكر صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد في مانع الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم قالوا والخيل يا رسول الله قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير"، وذكر أقسامها الثلاثة: أجر وستر ووزر، وبين أن الأول المحتبسة في سبيل الله والثانية المستغني بها صاحبها والثالثة التي ربطها صاحبها بطرا ... الخ، وذكر ولم ينس حق الله في ظهورها وفسر بمعان عديدة، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم فيها زكاة قط.(1/19)
هذا هو الأصل وكذلك كان الحال في خلافة الصديق رضي الله عنه أما عمر فلم يخرج عن هذا الأصل، والأصل في أخذه فيها هو ما رواه أحمد رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جاءه ناس من أهل الشام فقالوا: "إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور"، قال: "ما فعله صاحباي
ص -140- قبلي فأفعله"، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي: "حسن إن لم تكن جزية راتبة يأخذون بها من بعدك" فتراه هنا يعرض عن أخذ الزكاة محتجا بعدم أخذ صاحبيه من قبله.
ونرى عليا رضي الله عنه يحسن أخذها ما لم تكن جزية يأخذون بها من بعد عمر رضي الله عنه.
فأين فرضية الزكاة في الخيل في فعل عمر، أم تكون جزية يأخذون بها اليوم.
ثم إن القائلين بزكاة الخيل وهم الأحناف فقط مختلفون في كيفية زكاتها.
هل على كل رأس دينار أو تقوم أم ماذا لعدم النص في ذلك؟.
هذا كله إذا كانت الخيل للنماء وأما التي كعروض تجارية فهي مزكاة زكاة التجارة بإجماع.
أما ما نواجهه اليوم من شركات الدواجن للحم والبيض ورؤوس أموالها بالملايين فهل يتركها الإسلام بلا زكاة.
ويقول السائل إنكم تعتقدون أن الكتاب والسنة من جهة والعدل في فرض التكاليف من جهة أخرى كلها تقضي بفرض الزكاة على الأموال.
أقول وبالله التوفيق إن اعتقاد السائل هذا صحيح ما دامت تلك الشركات تشغل وتستثمر الملايين وهي أعمال نامية سواء في دواجن أو أسماك ما دامت للتجارة وإن كان أصل السمك لا زكاة فيه فإذا أدخل في التجارة بالصيد والبيع أو التصنيع فإنه حينئذ يزكى كل المال الذي يعمل لذلك.
وأما قول السائل إن مجال الاجتهاد واسع في ميادين أخرى.(1/20)
فهذا حق ومحل الاجتهاد في باب الزكاة اليوم هو إلحاق المسكوت عنه الذي استجد بنظيره المنصوص عليه كجميع أنواع الأعمال التجارية بل مثل شركات الإنشاء وعمل المقاولات فإن على ذلك كله زكاة فيما يعمل ويسهم في الاستثمار نزكي الآليات والمواد المستخدمة كلها مع ما تحصل عليه الشركة من أرباح تقدر الآليات وتضاف قيمتها إلى ربح العملية ويزكى الجميع، وهذا هو الاجتهاد بأوسع معانيه.
أما الضرائب التصاعدية أو غير التصاعدية: فإنها تؤخذ باسم الدولة لمصلحة خزينة الدولة وتغطية نفقات رسمية لا صلة لها بالمساكين ولا مصارف الزكاة.
فهي وإن كانت لمصالح الدولة وقد تضطر الدولة التي لا موارد لها إلى أن تفرض مثل ذلك على الأموال لسد حاجاتها بل ولتجهيز جيوشها على ما هو معلوم إلا أن فيها من الظلم ما لا يخفى في جعلها تصاعدية حتى تصل إلى 90% أحيانا.
ولهذا مضاره على الفرد وعلى الجماعة معا من تساهل في الإنتاج وتحايل على الدولة نفسها ومحاولة توسيع النفقات وقد حدثني شخص حاج عن رحلات بعض المواطنين إلى أوروبا وتبذير الأموال بأن من دوافع ذلك تصعيد حساب النفقات باسم التجارة حتى لا تذهب الأرباح في الضريبة التصاعدية.
ص -141- وسبق أن نشرت بعض المجلات عن ذلك في السابق عن البرلمان البريطاني تكلم وزير الخزينة وقال: "رفعنا من نسبة الضريبة ولم ترتفع نسبة الدخل إلى الخزينة". فأجابه عضو البرلمان قائلا: "بقدر ما ترفعون من الضريبة بقدر ما يحتالون على مفتش الضرائب".(1/21)
ولعل بهذه المناسبة يظهر لنا فضل ونبل ورفعة مكانة الزكاة في الإسلام إذ يشعر المزكي أنه يخرجها في سبيل الله وينتظر العوض من الله أضعافا مضاعفة وقد جاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن عامله أتى على صاحب إبل بضواحي المدينة (الحناكية) فوجد عليه بنت مخاض فقال صاحب الإبل: "هذه صغيرة لا ظهر لها فيركب ولا ضرع فيحلب ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله" فتشاح هو والعامل، العامل لا يريد التعدي بأكثر مما يجب والمالك لا يرضى بالصغيرة في سبيل الله، صورة نزاع لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وأخيرا قال العامل له: "إن كان ولا بد فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخذها وادفعها له أنت بنفسك". فذهب بها وسأله صلى الله عليه وسلم: "طيبة بها نفسك؟" فقال: "نعم".
فقال للعامل: "خذها ودعا لصاحبها بالبركة في ماله". فكان في زمن معاوية يخرج عددا من الإبل زكاة ماله.
فأنت ترى خلفيات نظام الضرائب من نتائج عكسية في الاقتصاد والنماء وغضاضة في النفس.
بينما إيجابيات نظام الزكاة زيادة في النماء وانتعاش في الاقتصاد وطيبة في العطاء وطهرة للجانبين معا.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(1/22)