بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
هذه رسالة في مهمات المسائل في المسح على الخفين كتبتها حين رأيت الحاجة داعية على ذلك وقد جهدت على الاقتصار على الدليل وعرض مذاهب الأئمة المشهورين وترجيح ما يقتضي الدليل والنظر ترجيحه .
وقد حرصت على ألا أثقل المتن والحواشي بتخريجات غير مجدية وخلافات ليس فيها كبير فائدة .
وحينها اقتصرت على ذكر المسألة ودليلها الصحيح .
فإلى بيان ذلك.
المسألة الأولى :
اعلم أن المقيم يمسح يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام .يبتدئ من وقت مسحه على خفيه وقد قال بعض أهل العلم من أول حدث بعد لبس .
وهذا ضعيف بل الصحيح من وقت مسحه على خفيه وهو قول أحمد بن حنبل اختاره ابن المنذر وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1) – رضي الله عنه – ولو أحدث ولم يمسح لم يعتبر شيئاً فإذا مسح ابتدأ المدة حتى ولو كان مسحه لتجديد وضوء لظاهر الأخبار الواردة في هذا الباب ولذلك عدلت في توقيت مدة المسح عن عبارة من قال كالنووي في المجموع وغيره يبتدئ من حين المسح بعد الحدث وقلت من وقت مسحه على خفيه ليدخل فيه الوضوء من غير حدث . واعلم أن دليل التوقيت في حق المقيم والمسافر حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – المخرج في صحيح الإمام مسلم (3/175- نووي ) قال " جعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم " .
والتوقيت على ما جاء في هذا الحديث في حق المقيم والمسافر أمر واجب على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك وبعض أهل العلم وأدلة الجمهور ومنها حديث علي المتقدم – أظهر دلالة وأقوى برهاناً من أدلة مالك ومن وافقه .
__________
(1) انظر ( مسائل الإمام أحمد لأبي داود (10) والأوسط لابن المنذر (1/442-443) والمجموع للنووي ( 1/487) .(1/1)
إلا أن المسافر الذي يخشى فوات رفقة أو يتضرر بالنزع ونحو ذلك من الأعذار له أن يمسح إلى زوال عذره كما قال بذلك بعض أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (1) " لما روى ابن ماجة (2) والدار قطني (3) في سننه والبيهقي في السنن الكبرى (4) عن عقبة بن عامر أنه وفد على عمر بن الخطاب عاماً قال عقبة . وعَلىَّ خفاف من تلك الخفاف الغلاظ فقال لي عمر . متى عهدك بلبسهما ؟ فقال لبستهما يوم الجمعة واليوم جمعة فقال له عمر أصبت السنة " وهذا الأثر إسناده صحيح إلا أن قوله " أصبت السنة " لم تثبت فالصحيح أن عمر قال " أصبت " ولم يقل السنة . وذكر السنة في هذا الأثر شاذ كما بين ذلك الإمام الدار قطني (5) – رحمه الله .
وعلى كل فالأثر تقوم به حجة فلا يعلم لعمر وعقبة (6) مخالف من الصحابة . وفعل عقبة يدل على أن الأمر كان معلوماً عند الصحابة ولو لم يسبق لعقبة علم بجواز هذا الفعل ما فعله اجتهاداً وإن كان فعله اجتهاداً فقد صوبه عمر وهو خليفة راشد ملهم قد أمرنا النبي –صلى الله عليه وسلم – أن نقتدي به كما في جامع الترمذي (5/569) من طريق عبدالملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " قال الترمذي – رحمه الله – هذا حديث حسن .
وفي صحيح مسلم (7) من طريق ثابت عن عبدالله بن رباح عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا ... )
المسألة الثانية :
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام جمع ابن قاسم 21/215 والإنصاف 1/176.
(2) رقم 558.
(3) ج /195 .
(4) ج1 / 280.
(5) العلل للدار قطني (2/110/111) .
(6) قد احتج بأثر عقبة عن عمر من لا يرى التوقيت في المسح على الخفين ولا حجة فيه فظاهر فعل عقبة أن ذلك للحاجة وأما لغير الحاجة : فالتوقيت واجب .
(7) ج 5 /183-187 بشرح النووي .(1/2)
لا بد أن يدخل الخفين أو الجوربين على طهارة كما هو محل اتفاق عند أهل العلم (1) إلا ما يذكر عن بعضهم وهو خلاف شاذ لا يعتد به ويجوز على الصحيح كما هو مذهب الأحناف ورواية عن أحمد أن يدخل الخف رجله اليمنى بعد غسلها قبل غسل اليسرى ثم يغسل اليسرى ويدخلها الخف .
ولو أدخل خفيه في قدميه قبل أن يغسلهما لم يجزه ووجب عليه نزعهما ثم غسل قدميه .
وفي الصحيحين وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه – أنه كان مع النبي – صلى الله عليه وسلم - في ذات ليلة في مسير فذكر وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما (2) .
المسألة الثالثة :
اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في حكم المسح على الخف أو الجورب المخرق . وأصح ما قيل في هذه المسألة أنه يجوز المسح على المخرق والمرقع إذ لا دليل على منع المسح على الخف المخرق قال الإمام المشهور سفيان الثوري – رحمه الله – امسح عليها ما تعلقت به رجلك وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة ) ذكره عبدالرزاق عنه في المصنف (3) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (4) وهذا قول إسحاق وابن المبارك وابن عيينة وأبي ثور وغيرهم (5) .
وقد يقال بأولوية المسح على الخف السليم الخالي من الخروق خروجاً من الخلاف ولاسيما لأهل القدرة والذين لا يشق عليهم ذلك فإن مسحوا على المخرق والمعيب صح بدون كراهة على الصحيح .
__________
(1) انظر " فتح الباري ( 1/309-310) والمغني ( 1/284) مع الشرح الكبير ) والمجموع للنووي ( 1/512-513) .
(2) صحيح البخاري ( 1/309) – الفتح وصحيح مسلم ( 3/169-170 نووي ) .
(3) ج 1/194- رقم 753 ) .
(4) ج 1/283) .
(5) انظر : الأوسط لابن المنذر ( 1/448- 449) .(1/3)
وأما جعل الخف غير المخرق شرطاً لصحة المسح فلا دليل عليه فقد رخص النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسح على الخفين والجوارب وأطلق ولم يقيد المسح على الخف أو الجورب بقيود وإطلاق ما أطلق الشارع أمر متعين فإذا جاء القيد عن الشارع ولم يكن أغلبياً وجب اعتباره وهو منتف هنا وأما كوننا نقيد كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – بكلام بعض الفقهاء الذين هم بشر يخطئون ويصيبون فهذا أمرٌ لا يجوز فلذلك .
لا يمنع المسلم ولا المسلمة من المسح على الخف أو الجورب المخرق ما دام اسمه باقياً ولو كان فيه من العيوب ما فيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى
(21/174) " فلما أطلق الرسول –صلى الله عليه وسلم – الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه في العادة ولم يشترط أن تكون سليمة من العيوب وجب حمل أمره على الإطلاق ولم يجز أن يقيد كلامه إلا بدليل شرعي وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه فلهم أن يمسحوا عليه وإن كان مفتوقاً أو مخروقاً من غير تحديد لمقدار ذلك فإن التحديد لا بد له من دليل " وقال أيضاً رحمه الله 0 " وأيضاً فأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين بلغوا سنته وعملوا بها لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود بل أطلقوا المسح على الخفين مع علمهم بالخفاق وأحوالها فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقاً .
المسألة الرابعة :(1/4)
لم يرد حديث تقوم به حجة في كيفية المسح على أعلى الخفين فلذلك يكفي المسلم والمسلمة إمرار اليد على القدم اليمنى واليسرى بحيث يصدق عليه أنه مسح (1)
__________
(1) جاءت بعض الأحاديث في بيان مقدار المجزيء من المسح ولكن لا يصح منها شيء كحديث يروى عن علي – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يمسح على ظهر الخف خطوطاً بالأصابع )) وحديث جابر –رضي الله عنه – قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يتوضأ فغسل خفية فنخسه برجليه وقال ليس هكذا السنة أمرنا بالمسح هكذا وأمر بيديه على خفيه .
وحديث المغيرة بن شعبة . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم جاء حتى توضأ ومسح على خفيه ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاها مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابعه صلى الله عليه وسلم على خفيه .
فهذه الأحاديث كلها ضعيفة واهية فلا تقوم بها حجة لأن الحجة في الأحاديث الصحيحة دون الضعيفة .
والمسلم لم يشرع له العمل بالحديث الضعيف . وأما تساهل الكثير في العمل بالحديث الضعيف ولا سيّما إذا كان في فضائل الأعمال فهذا لا يخرجه عن كونه ضعيفاً .
والصحيح من أقوال اهل العلم أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً لا في الفضائل ولا في الأحكام ولا في غيرها فالكل شرع من عندالله ولا يقوم الشرع إلاعلى صحيح الأخبار دون ضعيفها وساقطها والله أعلم .(1/5)
كما هو قول الشافعي وأبي ثور وغيرهما (1) ويقتصر بالمسح على أعلى الخف ، أما مسح أسفل الخف فلم يثبت فيه دليل . والحديث الوارد في ذلك معلول عند الأئمة الكبار (2) فلا يصح العمل به وقد روى أبو داود وغيره بسند صحيح من طريق الأعمش عن أبي اسحاق عن عبد خير عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يسمح على ظاهر خفيه " .
المسألة الخامسة :
اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في حكم الطهارة بعد نزع الخفين أو الجوربين بعد المسح عليهما هل يبقى على وضوئه أم تنتقض طهارته فيكون نزع الخفين ناقضاً من النواقض أم أنه يغسل قدميه إذا نزع خفيه كما قال بذلك بعض الفقهاء .
أصح هذه الأقوال فيما يظهر من حيث الدليل أن طهارته باقية دون حاجة إلى غسل القدمين ونُقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري والنخعي وقتادة وعطاء وغيرهم واختاره ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية (3) وبعضهم قاس ذلك على من مسح رأسه ثم حلقه فإنه لا يجب عليه أن يعيد مسح رأسه . وهذا القياس ضعيف فلا ينظر إليه لأن الشعر أصل في الرأس وليس بدلاً وأما المسح على الخفين فإنه بدل عن غسل القدمين فلا يقاس ما كان أصلاً على ما كان بدلاً .
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام جمع ابن قاسم (21/215) والإنصاف (1/176) .
(2) فقد ضعفه أحمد والبخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والترمذي والشافعي وغيرهم من الأئمة وانظر جامع الترمذي ( 1/163) والعلل لابن أبي حاتم (1/54) والتلخيص ( 1/159) لابن حجر .
(3) انظر صحيح البخاري ( 1/208) مع الفتح ) وفتح الباري ( 1/310) والأوسط لابن المنذر ( 1/459) واختيارات شيخ الإسلام للبعلي ص (15) والمحلى (1/337)(1/6)
وقلت إن هذا القول هو الصحيح لأنه مذهب الخليفة الراشد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة فيما أعلم فنستغني به عن القياس الذي لم تتوفر شروطه وتنتف موانعه .
وقد روى البيهقي (1) والطحاوي (2) في شرح معاني الآثار واللفظ له " عن أبي ظبيان أنه رأى عليا رضي الله عنه – بال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى " وهذا أثر صحيح .
وقوله " بال قائماً " فيه رد على قول من قال إن علياً توضأ على طهارة وفيه محل الشاهد أنه لا ينتقض وضوء الماسح على الخف أو الجورب وكذلك العمامة بالنزع .
فإن قيل أيعيدهما أعني الخفين أو الجوربين مرة أخرى ويبتدئ مدة المسح من جديد .
ويحصل بذلك تسلسل كلما أوشكت المدة أن تنقضي نزع خفيه أو جوربيه ثم أدخلهما ويصدق عليه أنه أدخلهما على طهارة قلت هذا ممنوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " (3) والمقصود بالطهارة هنا الطهارة بالماء والذي ينزع خفيه ويريد إدخالهما مرة أخرى إنما يدخلهما على طهارة مسح و هذا لا يجوز لأنه لم يدخلهما على طهارة ماء والنص جاء بطهارة الماء ولم يرد بطهارة المسح ولذلك لا يجوز إعادة الخفين أو الجوربين والمسح عليهما منعاً للتسلسل الحاصل بالجواز ومنعاً لإلغاء المدة التي وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم –للمقيم والمسافر لأنه لو أجيز إعادتهما والمسح عليهما – ولا قائل به (4)
__________
(1) 1/228) .
(2) 1/97) طبعة دار الكتب العلمية .
(3) الحديث متفق عليه من حديث المغيرة وقد تقدم ذكره .
(4) وأما ما رواه عبدالرازق في المصنف ( 1/210) من طريق فضيل بن عمرو عن إبراهيم أنه كان يحدث ثم يمسح على جرموقين له من لبود يمسح عليهما ثم ينزعهما وإذا قام إلى الصلاة لبسهما ويصلي .
فيقال عنه ليس في هذا الأثر ما يصلح لمعارضة الأصل ولا نقض الإجماع وقوله (( وإذا قام إلى الصلاة لبسهما )) أي أنه لبس الجوربين على طهارة المسح ولم يأت بعد ذلك أنه أحدث ومسح عليهما فهذا فيصل المسألة وقد تقدم قول العلماء في ذلك وأنهم متفقون فيما أعلم أنه لا يمسح عليهما بل يجب خلع الخفين أو الجوربين وغسل القدمين والله أعلم .(1/7)
لم يكن لتوقيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فائدة لأنه يلزم من القول بإعادتهما القول بابتداء مدة المسح من الإدخال ويحصل بذلك إلغاء للتوقيت ومخالفة صريحة لما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم- لأمته ولو كان هذا جائزاً لأرشد إليه النبي – صلى الله عليه وسلم - ولما أمرهم بالنزع والله أعلم .
المسألة السادسة :
إذا مسح يوماً وليلة فما فوق ثم قدم بلده الذي يسكن فيه فلا يجوز له في هذه الحالة المسح على الخفين بل ينزعهما ثم يغسل قدميه لأن رخص السفر قد انتهت بالوصول إلى البلد فلا يجوز الزيادة عن اليوم والليلة في المسح كما هو قول جمهور العلماء (1) وإن وصل بلده وقد مضى دون يوم وليلة يتمهما .
وأما المقيم إذا مسح يوماً ثم سافر فإنه يمسح يومين زيادة على اليوم فيكون مسحُه ثلاثة أيام . وهذا الصحيح من أقوال أهل العلم وبه قال الأحناف (2) ورواية عن الإمام لأحمد رجحها كثير من أصحابه وجاء عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه رجع عن قوله (( يتم مسح مقيم )) لأن رخص السفر قد حلت له والمسافر كما تقدم في حديث علي يمسح ثلاثة أيام إلا أن يخشى فوات رفقته أو يتضرر بالنزع لشدة برد ونحو ذلك من الأعذار فله أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام لأثر عقبة بن عامر وقد تقدم ذكره في المسألة الأولى والله أعلم .
المسألة السابعة :
" إذا لبس جورباً على جورب " . فإن كان لبس ذلك على طهارة فالحكم في هذه الحالة للفوقاني وإن مسح على التحتاني صح ذلك على الصحيح .
__________
(1) انظر مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبدالله (1/119-120) والأوسط (1/446) والمغني (1/296-297) والمجموع (1/489) .
(2) انظر شرح فتح القدير (1/154-155) والمغني ( 1/295) والمبدع في شرح المقنع (1/143) .(1/8)
وأما إن لبس الفوقاني على حدث فلا يجوز له أن يمسح على الفوقاني عند جمهور أهل العلم (1)
__________
(1) وقد أجاز بعض أهل العلم كما في المجموع (1/506) المسح على الفوقاني وإن لبسه على حدث ومنه تعلم عدم صحة الإجماع المذكور في هذه المسألة قال ابن قدامة – رحمه الله – في المغني (1/286مع الشرح الكبير ) إذا لبس خفين ثم أحدث ثم لبس فوقهما خفين أو جرموقين لم يجز المسح عليهما بغير خلاف لأنه لبسهما على حدث ، وفي قوله بغير خلاف نظر فالمسألة فيها خلاف ولم ينعقد عليها إجماع غاية ما في ذلك أن المنع قول الجمهور وهذا ليس بإجماع وأيضاً لا يلزم منه الرجحان .
والقول بالجواز فيه قوة وله وجه من النظر .
والقول بأنه لبسهما على غير طهارة لا يضر ما دام الأصل المباشر للقدم ملبوساً على طهارة . والفوقاني تابع للتحتاني فهما كالجورب الواحد ولذلك يتبعه في التوقيت ولا يأخذ توقيتاً مستقلاً ولذلك أقول لا يصح القول بأنه أدخلهما على غير طهارة لأن الخف أو الجورب الأول أدخل على طهارة وهذا الفوقاني تابع له فلذلك لم يأخذ حكماً مستقلاً في مدة المسح بل تبع أصله وعلى هذا القول إذا نزع الفوقاني لا يؤثر على طهارته وله إعادته مرة أخرى لثبوت أحكام المسح بالخف أو الجورب المباشر للقدم فهذا وجه هذا القول وفيه قوة والنفس تميل إليه ومن أراد الاحتياط بحيث لا يلبس الفوقاني إلا على طهارة فهذا حسن ولكن الاحتياط شيء والمنع شيء آخر . علماً أنه يلزم المانعين بعض اللوازم كتسلسل مدة المسح لأن الفوقاني لا يتعلق بالتحتاني فله حكم مستقل وكذلك يلزم من جوز لبس الجورب على جورب منع ذلك وإن لبس على طهارة لأن الطهارة طهارة مسح وليست بطهارة ماء فالذي لا يجعلهما بمنزلة الخف الواحد يطالب بالدليل على جواز اللبس على طهارة المسح ولو كنتُ لا أرى جواز لبس ا لجورب الفوقاني على حدث لمنعت لبس الجورب على جورب وإن لبسه على طهارة لأن الطهارة طهارة مسح ولم يرد دليل بجواز ذلك .
والقول بهذا القول أعني منع لبس الجورب على جورب عند من لا يرى جواز لبس الفوقاني على حدث متعين لأنه أسلم من التناقض والاضطراب والعلم عند الله .(1/9)
لأنه لبس ذلك على غير طهارة . فإذا مسح على التحتاني ثم لبس الفوقاني جاز له حينئذ المسح على الفوقاني . وفي هذه الحالة على هذا القول إذا نزع الفوقاني فالحكم كالحكم فيما إذا نزع خفيه وقد سبق أن الطهارة لا تنتقض .
وهذه المسائل السبع من أهم المسائل في المسح على الخفين والسؤال يكثر عنها .
والقصد من كتابة هذه المسائل هو تقريب ا لمسائل بأدلتها إلى سائر الخلق لتكون عوناً لهم على معرفة أمور دينهم والتفقه على وفق الأدلة الصحيحة .
فالمسلم لم يقيد بمذهب أو بقول أحد سوى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم أو ما اتفق عليه أهل العلم – والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
تمت مراجعتها على يد كاتبها
بتاريخ 2/1/1421هـ
سؤال وجوابه حول الاتباع والتقليد
الحمد لله رب العالمين ، أما بعد ... فقد سأل بعض الأخوة وقال : ما الحكم إذا تنازع اثنان في مسألة فقهية ؟ فهل يحق لكل واحد منهما أن يأخذ بما قال إمام مذهبه أم أنه يجب البحث عن الحق وما ينصره الدليل ؟ أفتونا وجزاكم الله خير الجزاء .
فأجبته : إذا لم يكن في المسألة دليل ظاهر وكان مبني الحكم في المسألة على الاجتهاد فللمسلم أن يقتدي بمن يراه أعلم الناس وأورعهم (1) ولا حرج عليه في ذلك . أما إذا كان في المسألة دليل فلا يجوز للمسلم أن يأخذ بما يقول إمامه إن كان مخالفاً للدليل بل عليه أن يدع قول إمامه كائناً من كان إذا بلغه الدليل لأنه الواجب على جميع الخلق .وأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها ، ويستعان بها في فهم النصوص وتصوير المسائل ونحو وذلك .
__________
(1) الورع هو الذي يمنعه ورعه أن يقول على الله مالا يعلم .(1/10)
أما كونها حجة على كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم – فلم يقل به أحد من الأئمة بل هو مخالف للكتاب والسنة والإجماع وقد أمر الله تعالى باتباع كتابه وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم – في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقال تعالى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وقال تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(21). إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ(22) } الآية .
وقد أوصى الأئمة – رحمهم الله – أصحابهم بعدم التقليد وأوجبوا عليهم الأخذ بالدليل لأنه الفرض واللازم على جميع المسلمين فمن ظهر له الدليل وجب عليه اتباعه وترك ما عداه قال تعالى { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3) } وقد شهد الله تعالى بالهداية لمن أطاع رسوله –صلى الله عليه وسلم كما في سورة النور { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } ومن ترك الدليل لقول أبي حنيفة أو مالك والشافعي أو أحمد فقد خالف الأصل الذي أجمع عليه المسلمون ،قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – " أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لم يكن له أن يدعها لقول أحد " .(1/11)
وقال الإمام مالك –رحمه الله تعالى – " ليس أحد بعد النبي –صلى الله عليه وسلم – إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي –صلى الله عليه وسلم - وما يفعله بعض الناس من التعصب لإمام مذهب من ينتسبون إليه فهذا مخالف لهدي السلف ومخالف لما عليه أئمة المذاهب فإنهم متفقون على ذم التقليد وذم التعصب فالواجب على المسلم أن ينصر الدليل وأن يأخذ به سواء كان مع المالكي أو الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أوالظاهري أو مع غيرهم فلم يحصر الله تعالى الحق في هذه المذاهب فاصحابها بشر يخطئون ويصيبون وليسوا بمعصومين من الزلل والخطأ قال الإمام الشافعي – رحمه الله – " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة الرسول –صلى الله عليه وسلم – وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أَصلت من ِأصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – خلاف ما قلت فالقول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قولي " .
وقد تنازع الأئمة رحمهم الله تعالى في مسائل كثيرة في أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والطلاق والظهار وغيرها فلم يقل أحد مِن أهل المعرفة والتحقيق أنه يجوز لكل أحد أن يأخذ بما يشاء من هذه المذاهب دون رجوع للأدلة باستثناء المقلد العاجز عن معرفة الدليل .
ولو جاز لكل مسلم أن يذهب إلى ما يهوى ويشتهي من هذه الأقوال والآراء لكان الدين هو هذه المذاهب ولم يكن حينها للكتاب والسنة كبير فائدة . نعوذ بالله من ذلك .
وحينئذٍ أقول بما اتفق عليه المسلمون من وجوب رد المسائل المختلف فيها إلى الكتاب والسنة على فهم أئمة السلف والنظر في أقوالهم واجتهاداتهم وترجيح ما رجحه الدليل .(1/12)
ومن أمثلة ذلك أن العلماء تنازعوا في أحكام نواقض الوضوء واختلفوا في أكل لحم الجزور ولمس النساء فيما دون الجماع وما يخرج من غير السبيلين في الجسد ويعبر عن ذلك بعض الفقهاء بقوله والخارج النجس من الجسد (1) .
فكان لكل إمام قول في هذه المسألة ، فمذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء ، ومذهب أحمد – رحمه الله – أنه ينقض الوضوء ، واختاره ابن حزم .
والصحيح في ذلك مذهب أحمد فقد صح في ذلك حديثان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يدلان على أن لحم الجزور ينقض الوضوء أحدهما حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم (2) والآخر حديث البراء عند أبي داود (3) والترمذي (4) وغيرهما .
وأما لمس النساء باليد والقبلة ونحو ذلك فقد ذهب الشافعي إلى أن لمس المرأة ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أم بغير شهوة .
وذهب أبو حنيفة إلى أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً .
وذهب مالك وأحمد في رواية إلى أنه لا ينتقض الوضوء إلا بشهوة .
__________
(1) اعلم أن بعض الفقهاء –رحمهم الله يتساهلون في الحكم على الأعيان فيحكمون على مسائل بالنجاسة بدون دليل ولا قياس صحيح وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الأعيان طاهرة حتى تتبين نجاستها وكل ما لم تثبت نجاسته بدليل فهو طاهر كالمني ونحوه والله أعلم .
(2) ج 4/48 نووي .
(3) 2 ) 1/ 315- عون المعبود ) .
(4) 1/ 122 – 123 ).(1/13)
والمتأمل للأدلة في هذه المسألة يجد أن الأحناف أقرب المذاهب للصواب وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ، فإنه لم يرد دليل تقوم به حجة يدل على النقض لا بشهوة ولا بغيرها . والبراءة الأصلية دليل من الأدلة يجب اعتبارها فكان مذهب الأحناف أظهر من غيره في هذه المسألة ، وقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أنه يقبل ويخرج إلى الصلاة ولم يذكر أنه توضأ ولم يرد في الحديث أيضاً أن ذلك بدون شهوة فدل على العموم إلا أن في صحة هذا الخبر نظراً فقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة به وهو معلول لم يسمعه حبيب من عروة (1) . وقد صح في الباب غير حديث والله أعلم
وأما الذي يخرج من الجسد كالدم ونحوه فمذهب أحمد أن ذلك ناقض من نواقض الوضوء ومذهب الشافعي أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً وهذا الصحيح وهو قول مالك ورواية عن أحمد رجحها شيخ الإسلام وكثير من أهل العلم فإنه لم يرد دليل على أن ما يخرج من الجسد سوى السبيلين ينقض الوضوء والأصل عدم النقض .
وهذه الأمثلة إنما ذكرتها ليعلم أن الحق ليس محصوراً على عالم أو طائفة أو مذهب معين وأن المسلم ليس مأموراً باتباع أو التزام مذهب معين بل الحق ضالته ومطلبه وكل مذهب فيه خطأ وصواب .
__________
(1) انظر جامع الترمذي 1/133 ونصب الراية 1/70-76وتنقيح التحقيق 1/437-442 .(1/14)
فالحنبلي معه كثير من الحق في كثير من المسائل والشافعي والمالكي والحنفي كلهم كذلك وقد تفرد الإمام ابن حزم عن الأئمة الأربعة ببعض المسائل وكان الحق معه فالأئمة يتفاوتون في بلوغ الأدلة لهم ومعرفة صحيحها من ضعيفها وناسخها من منسوخها ومطلقها من مقيدها ، والمحق يتبع من كان الحق معه دون تحيز ويرد الباطل دون تشنيع أو قدح في ذواتهم وتنتقص لمكانتهم لأنهم مجتهدون فهم دائرون بين الأجر والأجرين ومع ذلك فلا يجب على أحد اتباع واحد منهم ومن زعم ذلك فقد ضل سواء السبيل فإنه لا يجب اتباع أحد سوى النبي –صلى الله عليه وسلم لأن قوله الحق ولا ينطق عن الهوى .
وأما غيره من العلماء وأئمة المذاهب وغيرهم فلا يؤخذ من أقوالهم إلا ما وافق الحق وهذه المسألة مسألة كبيرة مهمة لا تلج إلا قلب من الهمه الله رشده ووقاه شر نفسه . وكم من مدع للعلم مشتغل بالتصنيف وقع في التعصب المهلك والتقليد الأعمى ويغضب إذا خولف إمامه ما لا يغضب لكتاب الله ولا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالموفق من جعل كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم حكماً على قول كل أحد . وإن خالفه من خالفه أو بدّعه من بدّعه فقد جرت عادة المقلدين والمتعصبين في تبديع مخالفيهم وتضليلهم وهذا شأن كل مبطل ومنحرف عن الحق والصراط المستقيم إذا عجز عن إقامة الحجة والدليل لجأ إلى مثل هذه الأفاعيل وقد دل الكتاب والسنة على أن الحق له أعداء كثيرون يصدون عنه وينهون عنه ويأتون بقوالب متنوعة على حسب أمزجتهم وما تهواه نفوسهم . وصاحب الحق يتعين عليه ألا يتزعزع عن الحق الذي عليه ويدعو إليه فإن الله ناصره ومؤيده ولا يزال منصوراً ما دام يقوم بنصر الدين ونصر الحق مخلصاً في ذلك لله ولا يزال معه من الله ظهير ما دام على تلك الحالة .(1/15)
قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } . وقال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) } .ومن نصره الله فقد كفاه شر أعدائه . ولكن لا يتم النصر إلا بأمرين .
الإخلاص لله تعالى في القول والعمل ، وموافقة هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فإذا توفر هذان الشرطان فلا غالب له وإن اجتمع عليه من بين المشرق والمغرب ، قال تعالى { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) } والحمد لله رب العالمين ..
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ...
المقدمة
المسألة الأولى :
يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام .
المسألة الثانية :
إدخال الخفين على طهارة .
المسألة الثالثة :
... حكم المسح على الخف المخرق وترجيح الجواز .
المسألة الرابعة :
في كيفية المسح والاقتصار على أعلى الخف .
حاشية في عدم العمل بالحديث الضعيف .
المسألة الخامسة :
... حكم وضوء المسلم بعد نزع الخفين أو الجوربين وترجيح بقاء الطهارة
لا يجوز إعادة الخفين بطهارة المسح والمسح عليهما بعد الحدث .
المسألة السادسة :
... إذا قدم المسافر بلده وقد مسح يوماً وليلة .
المسألة السابعة :
إذا لبس جورباً على جورب .
================================
سؤال وجوابه حول الاتباع والتقليد
الواجب على جميع الخلق إتباع الدليل وترك كل قول يخالف الكتاب والسنة
لم يحصر الله الحق في المذاهب المشهورة .
حكم الوضوء من لحوم الإبل وبيان الراجح في ذلك .
حكم الوضوء من لمس المرأة وتقبيلها .
المسلم ليس مأموراً بإتباع أو التزام مذهب معين .
كثير من يدعي العلم ويشتغل بالتصنيف وقع في التعصب .(1/16)