مناقشة أستدلالات المبالغين في حكم إعفاء اللحية
إن الأحكامَ الشرعيةَ تتفاوَتُ منازِلُها بتفاوُتِ ما يتَّصلُ بها مِنَ المصالحِ المُرادِ في الشرعِ تحصيلُها، أو المفاسِدِ المُرادِ في الشَرعِ إزالَتُها أو تَقليلُها، فمباني الإسلامِ الخَمسَةُ ليسَت كسائرِ الواجِباتِ، وهيَ فيما بينَها مُتفاوتةْ، فلَيسَت درَجَةُ الصومِ كدرجَةِ الصلاةِ، وُيقابِلُ ذلكَ المُحرماتُ، فحُرمَةُ السرقةِ دونَ حُرمَةِ القَتْلِ، وفي الذنوبِ كبائرُ وصَغائرُ، وفي الكَبائرِ مُوبِقات ودونَها، وكذلكَ تجِدُ التَفاوُتَ في المندوباتِ والمكروهاتِ، والنظَرُ فىِ قَدرِ التفاوُتِ وتمييزِ درجاتِ الأحكامِ يعودُ إلى النص، أو إلى أثَرَ ذلكَ الحُكمِ في التَطبيقِ مِن جِهَةِ ما ينبني على امتِثالِهِ مِنَ المصالحِ الراجِحَةِ أو عَدَمِها.
فقضيةُ اللحية مما يجبُ أن تُراعى فيهِ هذه الحِسبَةُ، وتُميزُ درجَتُهُ في الأحكامِ بالحيثيةِ المذكورةِ، وقد قدمتُ لكَ درجَتَهُ بهذا الاعتِبارِ، وأنه لا يعدو أن يكونَ حُكما في هيئةِ قُصِدَ بهِ صورة تُميزُ المسلمَ عَنْ غيرِهِ في وَضْعِ التَمكنِ، ومُجردُ فِعلِها مِن خِلالِ النصوصِ الواردةِ فيها لا ترقى إلى الوُجوبِ، بل هي مُستحبة، ولا يرقى تَركُها إلى التَحريمِ، بل هُوَ مكروه.(1/1)
لكن هذا لم يَكتَفِ بهِ كثير مِمن تكلمَ في حُكمِ اللحيَةِ، قليلْ مِنَ السابقينَ مِنَ الفُقهاءِ وأكثرُهُم مِنَ المعاصرينَ، وقالُوا: لم يقتَصر ما وَرَدَ في اللحيَةِ على الأحاديثِ الثلاثةِ الآمِرَةِ بها لأجلِ مخالفةِ الكُفارِ، وإنما فيها محاذيرُ شرعيةْ أخرى، تُصيرُ الإعفاءَ فَرضا، والحَلْقَ مُحرَما، ولم تكتفِ طائفَة- مَمَن أشَرتُ إليهِ آخِرَ المبحث السابق- بوَصفِ الحُكمِ بالفرضيةِ فِعلَا، والتحريمِ تركاً، وهُوَ الأليَقُ في العِلمِ، وإنما جاوَزت ذلكَ إلى ألفاظ مُستَقبَحَة لم تَجرِ نُصوصُ الشرعِ ولا الآثارُ باستِعمالِها، مِما ينبغي أن يتنزهَ عتهُ مَن يتكلمُ في دينِ اللَهِ، وإنما قَصدُوا بذلكَ التهويلَ والتفخيمَ حَملا للمُخاطَبينَ مِنَ المسلمينَ على امتِثالِهِ وتَقبيحا لفِعلِ ضِدهِ، مِما رتبَ عليهِ كثيرا مِن فُروعِ الأحكامِ سبَّبَتها تلكَ المُبالَغاتُ، بل صيرت حُكمَ مسأله مُختَلَف فيها أعظَمَ في الذكرِ مِن مسائلِ الدينِ المُتفَقِ عليها.
فيقولونَ: حَلقُ اللحية كبيرة، وتارةَ: فِسق، وتارة: جَهالَةْ وسَفَهَ، وتارة: أنوثَةْ، وتارة: تخنثْ، وتارةَ: مسخ وتَشوية، وتارة: لوطية، وتارةً: أشَدُ مِنَ الزنا واللواطِ وشُرْبِ الخَمرِ، لأن صاحِبَها مُتلبس بها لا يتوبُ، وتارة وهيَ أشدها: كُفر!!!.
والذي نعلَمُهُ مِن دينِ الإسلامِ أن الكُفرَ هُوَ أن يَفتَريَ الإنسانُ على اللّهِ الكَذِبَ.(1/2)
أما كانَ يكفي هؤلاءِ أن يقولوا: حَلقُ اللحية بفَهمِنا محرم، وفَهْمُنا صواب يحتَمِلُ الخَطَأ، وفَهمُ غيرِنا خطأ يحتَمِلُ الصوابَ، أما عَلِمُوا كيفَ يُفرقونَ بينَ حُكمٍ مُستفاد مِن قَطعي النصوصِ دلالةَ، وحُكمٍ مِن ظنِّيِّها؟ إنهم يُحبونَ لأنْفُسِهم أن يُعْذَروا لو أخطأُوا، أفما كانَ يجدُرُ بهم أن يَعْذُروا مَن خالَفَهُم في ذلكَ؟ فإن الأوصافَ المتقدمةَ إذا كانَت في نظَرِ هؤلاءِ تلحَقُ مَن يحلِقُ لحيتَهُ، فكيفَ الشأنُ بمَن أفتاهُ أو رخَّصَ لهُ بِناء على القول بالكَراهَةِ، أو حتَى بالإباحَةِ؟ فتأمل كَم يجر التَنطُعُ على صاحِبِهِ مِن فَسادِ الرَأيِ والوُقوعِ في الظلمِ؟!
ولَستُ متعرضا في هذا الفَصلِ لدَفعِ هذا الفاحِشِ البَذيءِ مِنَ القول، وإنما لِما تمسكَ بهِ هؤلاءِ أو بعضهُمْ مِنْ وجوهِ الاسْتدلالِ لبعْضِ ما استَنْتَجوا منه بعض هذه الأحكامِ، وسأجري على ذِكْرِ القول ودَليلِهِ دونَ ذِكرِ مَن قالَهُ، لأن القائِلَ لا يخلو مِن أن يكونَ عالما فاضِلًا واستدلالهُ بذلكَ مِن زَلاتِهِ، فتركُ تسميتِهِ أجمَلُ إكراما لهُ، أو مُتَعالما مُتكلًفا وهذا يُطمَرُ ولا يُذكَرُ.
فاعلَم أنَّ تلكَ الاستدلالاتِ تَرجع إلى جَمعِ وجوه مُختلفة مِنَ الأدلَةِ يزيدُ ضم بعضها إلى بعْضِ في قوَةِ الحُكمِ، ومِن حيثُ الإجمالُ، لا رَيبَ أن الدليلَ على المسألةِ قدْ تتعدَدُ أفرادُهُ فيخْلُصُ مِن مَجموعِها ما لا يدل عليهِ بَعْضُها، فالكلامُ إنما يقَعُ في صحَةِ الاستدلالِ، فلو ثَبَتَ فلا مانِعَ مِن إفادَةِ قوةِ الحُكْمِ.(1/3)
فهَلْ يصح الاسْتِدْلالُ بأكْثَرَ مِن دلالةِ تلكَ الأحاديثِ الثلاثةِ: حَديثِ ابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيرَةَ، وأبي أُمامَةَ، وما تضمنَتْ مِنَ الأمرِ بالمُخالفَةِ للكُفارِ بإعْفاءِ اللحية وقَصً الشارِبِ، وتِلكَ قد تقدم وجهها وما تدلُّ عليهِ بِما لا يرْقى إلى مُبالَغاتِ مَن جَعَلَ قضيةَ اللحية مِن أمورِ الإسْلامِ الكِبارِ وفرائضهِ المتحتمَةِ، وحَلْقَها مِن المعاصي الكِبارِ والمآثِمِ العَظيمَةِ.
فادعى طائفه الاستِدلالَ بالوُجوهِ التاليةِ:
الوَجهُ الأول، قالوا: اعفاءُ اللحيَةِ مِنَ الفِطرَةِ، وحَلقُها أو قَصها الشديدُ خروجٌ عَنٍ الفِطرَةِ.
وبَنَوا ذلكَ جَميعا على حَديثِ عائِشةَ "عَشر مِن الفِطرَةِ " وفيهِ: إعفاءُ اللحية.
وعليهِ قالوا: إعفاءُ اللحية فِطرَة، والإسلامُ دينُ الفِطرَةِ، ولذلكَ كانَتْ سَمتَ الأنبياءِ عليهِم الصلاةُ والسلام.
واستَشهَدوا لذلكَ بِما جاءَ في صِفَةِ بعض الأنبياءِ، وذكَروا في هذا ما ثَبتَ أن النبي "ص" كانَتْ لهُ لحية، وذلكَ مِمَا جَرى مِنه "ص" موافقة للفِطرَةِ التي كانَ عليها أبوهُ إبراهيمُ الخليلُ "ص"، فإنَّ نبيَّنا "ص" قالَ فيما جاءَ عتهُ مِن صِفَةِ الأنبياءِ ليلةَ الإسراءِ: "أَنا أَشبَهُ وَلَدِ إبراهيمَ "ص" به" ، فكونُهُ "ص" يُشبِهُ إبراهيمَ، وأنه كانَت لهُ لحية، دَليل على أن إبراهيمَ كانَت لهُ لحية ، وهِيَ مِما بَقِيَ في العَرَبِ مِن مِلتِهِ، حتى اتخَذَها نبيُّنا "ص" اتباعا للفِطرَةِ التي كانَ عليها إبراهيمُ الخليلُ.
وكذلكَ ذكَرَ اللهُ عن هارونَ عليهِ السلامُ: (يابن أُم لا تأخذ بلحيتي) طه: 94،، وهذا مِن اتًباعِ وَلَدِ إبراهيمَ عليهِ السلام لسُنتِهِ.(1/4)
ومنْهُمْ مَن ِذْكُرُ في هذا خَبَرا غَريبا جِدا، وهُوَ ما رُوِيَ عن هِشامِ بنِ العاصِ الأمَوي قالَ: بُعِثتُ أنا ورجُل آخَرُ مِن قُرَيش إلى هِرَقلَ، فذكَرَ قِصةَ لقاءِ هِرَقَلَ، وفيها أنه أراهُم صوَرَ الأنبياءِ، فرأوا صورَةَ نوح، وأنه (حَسَنُ اللحية)، وإبراهيمَ، وأنه (أبيَضُ اللحية)، وعِيسى، وانه (شَديدُ سَوادِ اللًحيَةِ).
قالُوا: فهذا هديُ الأنبياءِ علَيهِمُ السَّلامُ، فلَولا ان مِنَ الفِطرَةِ اتخاذَها لَما اتخذوها.
وكذلكَ، فإنها حينَ تكونُ مِن هَدي الأنبياءِ فهِيَ مِما أُمِرَ نَبينا "ص" بالاقتِداءِ بهِ، كَما قالَ تعالى:( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام: 95،.
وعَنِ العوامِ بنِ حَوشَب قالَ: سألتُ مُجاهِدا عَنْ سَجدَةِ في (ص )؟ فقالَ: سألتُ ابنَ عباس: مِن أينَ سَجَدتَ؟ فقالَ: أوَ ما تَقرأُ: (وَمِن ذُرِّيته داوود و سليمان) الأنعام: 84،، (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام: 90،، فكانَ داوُدُ مِمَن أُمِرَ نبيكُم "ص" أَن يقتَديَ بهِ، فَسَجَدَها داوُدُ عليهِ السلامُ، فسَجَدَها رَسولُ اللّهَ "ص".
وأقولُ: أما الاستِدلالُ بأنَ إعْفاءَ اللحيَةِ مِنَ الفِطرَةِ بحَديثِ عائشةَ المُشارِ إليهِ، فقد بينْتُ أنهُ حَديثْ مُنْكَر لا يثبُتُ إسنادُهُ، فارجِغ إليهِ في البابِ الأول.
فإذا لم يثبُتْ افْتَقَرَ إلى بُرهان ثابتِ للقول بهِ.
وَلوْ سَلَمنا أن إعفاءَ اللحية مِن خِصالِ الفِطرَةِ، فليسَ في ذلكَ غيرُ إثْباتِ الحُسنِ، وأقصى ما يُفيدُ الاستِحبابَ، وقدِ اتفقوا أن خِصالَ الفِطرَةِ الثابتَةَ كتقليمِ الأظافِرِ وحَلقِ العانَةِ والسواكِ وقَص الشارِبِ ونَتْفِ الإبِطِ مُسْتَحبات، وخالَفَ قَليل مِنَ العُلماءِ في بعض ذلكَ، سِوى الخِتانِ فأكثرهُم على فرضيتِهِ، وهذا شائعَ في كُتُبِ العِلْمِ، وليْسَ من مَقصودِنا التعرضُ لتَفصيلِهِ.(1/5)
وَجديرَ أن يُفْهَمَ في هذا المقامِ ان الفِطرَةَ لفظ يُرادُ بهِ في نُصوصِ الكِتابِ والسنةِ حَقيقةٌ واحِدَة، يتنوَعُ فيهِ تعبيرُ الناسِ، أو يُسمْونَه ببعْضِ أجزائِهِ، ذلكَ المعنى هُوَ الدينُ، وهُوَ الإسلامُ، وهُوَ السنةُ والهَدي، وهُوَ السلامةُ مِنَ الشركِ والباطِل.
قالَ اللّهُ :( فَأَقمْ وَجهَكَ لِلدِينِ حنَيفا فِطرَتَ اَللَّهِ اَلَتِى فَطَرَ اَلنَاسَ عَلَيهَا لَا تبَدِيلَ لِخلقِ اللَهِ ذَلِكَ الدِينُ القيم) الروم: 30،.
وعَنْ أَبي هريرة، رَضِيَ اللهُ عَتهُ، قالَ: قالَ رَسولُ اللهَ"ص": "ما مِن مَولودٍ إلا يولَدُ على الفِطْرَةِ، فأبواهُ يُهوٌدانِهِ وُينصرانِهِ أو يُمَجًسانِهِ، كَما تُتتَجُ البَهيمَةُ بَهيمَة جَمعاءَ، هَل تُحِسونَ فيها مِن جَدعاءَ؟"
وعَنْ عِياضِ بنِ حِمارِ المُجاشِعِي، رَضِيَ اللّهُ عنْهُ: اَن رَسولَ اللّهِ "ص" قالَ ذاتَ يوم في خُطبَتِهِ: "أَلَا إنَّ رَبي أَمَرَني أنْ أُعَلمَكُم ما جَهِلتُم، مِما عَلمَني يومِي هذا: كُل مال نَحَلتُة عَبدا حَلال، وإني خَلَقتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلهم، وإنهُم أتَتهُمُ الشياطينُ فاجتالَتهم عن دينهم، وَحَرمَت عليهم ما أَحللتُ لَهُم، وأَمَرَتهُم أن يُشرِكُوا بي ما لَم أنْزل بهِ سُلطانا، و أمَرتهُم أن يُغَيروا خَلقي".
فهذا الحديثُ والذي قَبلَهُ يُفسرُ أحدُهما الاَخَرَ، فالفِطرَةُ هيَ الحَنيفيةُ، والحَنيفُ: السالِمُ مِنَ الشركِ والمعاصِي، ولِذلكَ تجتالُهُ الشياطينُ بعدَ الوِلادَةِ فأبواهُ يُصيرانِهِ يهوديا أو نَصرانيا أو مجوسِيا أو غيرَ ذلكَ مِن أديانِ الكُفرِ.
وحيثُ لم يذكُرِ النبي "ص" الإسلامَ فذلكَ لأنه دينُ اللّهَ الذي يكونونَ عليهِ حينَ يولَدونَ، وهُوَ الفِطرَة، قالَ تعالى: "إنَ اَلدين عند الله الإسلام " آل عِمران:19، وهُوَ الدينُ القيمُ.(1/6)
والنصوصُ المؤيدةُ لهذا المعنى واردة في مواضِعَ مِن حَديثِ النبي "ص" فإذا كانتِ الفِطرَةُ هيَ دينَ الإسلامِ فيكونُ المُرادُ بِما أُضيفَ إليها أن ذلكَ مِن دينِ الإسلامِ، واذا كانَ جميعُ الدينِ فِطرَة فجميعُ شعائرهِ فِطرَة، فحينَ يذكُرُ النبي "ص" قص الشاربِ ونَتفَ الإبِطِ وشِبهَها أنها مِنَ الفِطرَةِ، فذلكَ دليل على أنها مِنَ الإسلامِ.
ومُجردُ نِسبَةِ كون الشيءِ مِنَ الإسلامِ لا تَكفي أن تُعطِيَهُ حُكمَ الإلزامِ بهِ، فالواجِبُ مِنَ الإسلامِ والمندوبُ والمُباحُ كذلكَ، وإنما تُعرَفُ درجَةُ الشيئِ مِنْ ذلكَ مِن نُصوصِ أخرى غيرِ الإضافَةِ إلى الفِطرَةِ، نعم أدنى ما تُفيدُهُ هذه النًسبةُ حُسنُ ذلكَ الفِعلِ.
فلو صح أن إعفاءَ اللحية مِما ثَبتَ البُرهانُ أنه مِنَ الفِطرَةِ، فهيَ إضافَةْ مُفيدَة لحُسنِهِ، وحيثُ قررنا أن كُل شَعائرِ الدينِ فِطْرَة، والدينَ يُستَفادُ مِن عُمومِ الهَديِ النبوي، واللحيَةَ مِما أبقاهُ النبي "ص" ولم يُزِلْهُ كما شرعَ إزالَةَ شعر الإبِطِ مَثَلا، فذلكَ دليلْ على حُسنِها، وأنها فِطرَة بهذا الاعْتِبارِ، لكنها لا تعدو أن تكونَ فَضيلَة مُجردةَ، ويحتاجُ تَصييرُها بمنزلةِ المطلوبِ المأمورِ بتَحصيلِهِ نَدبا أو وجوبا إلى دليلٍ آخَرَ، فهذا لا ينتَهِضُ وحدَهُ.
وأما كون بعض النصوصِ ذكَرَتِ اللحية عَنْ بعض أنبياءِ اللّهَ عليهِمُ الصلاةُ والسلام، فليسَ في مُجردِ الخَبَرِ ما يدل على أنها مِنَ الشرائِعِ المأمورِ بها، خُصوصا أن إعفاءَ اللحية مِن بابِ التروكِ، والتروكُ قد تَقَعُ مُجرَدة عنِ القَصدِ، ولو زَعَمَ زاعِمْ أنها وَقَعَت منهُم امتِثالًا لأمرٍ فقد قالَ بغَيرِ عِلمِ، فإتَهُ لم يَرِد شي مِن ذلكَ، بِخِلافِ ما تأولهُ ابنُ عباس رَضِيَ اللّهُ عنهُما بخُصوصِ سَجدَةِ ص، فإنها فعل ، والسجودُ عِبادَة في نَفسِهِ، ونَباتُ الشعَرِ ليسَ عِبادَة في نَفسِهِ، وليسَ فِعْلا للمُكلَّفِ.(1/7)
وذلكَ الخَبَرُ في صُوَرِ الأنبياءِ وإِن قالَ الحافِظ ابن كثير في "التفسير" (3/232):" إسنادُهُ لا بأسَ بهِ"، فليسَ الأمرُ كما قالَ، وإنما فيهِ مَن لا يُعْرَفُ، وقَدْ أخرَجَهُ البيهقي في كتاب "دلائل النبوة" (1/385-390)، ولا يَشْفَعُ لهُ أن أخرَجَهُ أبو نُعيم في "دلائله" (رقم: 13) فإسنادُهُ ظاهِرُ الضعف.
وفيهِ إطلاع هرَقلَ لهِشامِ بن العاصِ ومَن كانَ معَهُ على صوَرِ جَماعَة مِن الأنبياءِ عليهِم الصلاةُ والسلام، لم تُذكَرِ اللحية في روايةِ البيهقيٌ إلا عن هؤلاءِ الثلاثَةِ، زادَ في روايةِ أبي نُعيم ذكرَها عَن موسى وهارونَ عليهما السلام.
ومِما قَد يُستَطرَفُ أَن قالَ هِشام في الخَبَرِ في روايةِ البيهقي: ففتَحَ بَيْتا وقُفلا، واستَخْرَجَ حَريرةَ سوداءَ فَنَشَرَها، فإذا فيها صورة حَمراءُ، وإذا فيها رَجُلٌ ضَخمُ العَينَينِ، عَظيمُ الأليَتينِ، لم أرَ مِثلَ طولِ عُنُقِهِ، وإذا لَيسَتْ لهُ لحية، وإذا لَهُ ضَفيرَتانِ، أحسن ما خَلَقَ اللهُ، قالَ: هَل تَعرفونَ هذا؟ قُلنا: لا، قالَ: هذا آدَمُ عليهِ السلام، وإذا هُوَ أكثَرُ الناسِ شعرا.
حتَى قالَ: ثم فَتَحَ باباً آخَرَ، فاستَخْرَجَ حَريرة بَيضاءَ، فيها صورةَ كأنها صورةُ آدَمَ، كأن وجههُ الشمسُ، فقالَ: هَل تَعرفونَ هذا؟ قُلنا: لا، قالَ : هذا يوسُفُ عليهِ السًلامُ.
قُلْتُ: فتأمل وجه الطرافَةِ، أن آدَمَ عليهِ السلامُ ليس لهُ لحية، ويوسُفَ عليهِ السلام مِثلُهُ، فلِماذا صح للمستدلْ بهذا الخَبَرِ أن يحتج على شرعيةِ اللحية بأنها كانَت لنوحِ وابراهيمَ وعِيسى عليهِمُ السلام، ولا يصح لمُخالفِهِ أن يَستدل بعَدمِ اللحيَةِ لآدَمَ عليهِ السَّلامُ معَ أن آدَمَ بنَص الخَبَرِ كانَ كثيرَ الشعر، ولماذا لا يصح الاستدلال بشَبَهِ يوسفَ لأبيهِ آدَمَ معَ ما عُرِفَ مِن جمالِ يوسُفَ أن يكونَ عَدَمُ اللحية مِنَ الحُسنِ والجَمالِ؟(1/8)
لستُ أُصححُ للكلام في مَسائلِ الدينِ استِدلالَا ضَعيفا كهذا، وإنما أبَرهِنُ بهِ على ما يقع مِن بعض الناسِ مِنَ التكلُّفِ في الاسْتدلالِ للمسائلِ الشرعيةِ، فلا يُغني أحدَهُم نُصوصُ الكِتابِ والسُّنةِ الثابِتَةِ حتَى يَصيروا إلى مِثلِ هذه الأخبارِ.
ومِن غيرِ احتِياجِ إلى مِثلِها لقائلِ أن يقولَ: كانَت اللِّحيَةُ مِن سَمتِ الأنبياءِ عليهِمُ السلامُ، لكن هذا كما أشرتُ آنِفا لا يُفيدُ أكثَرَ مِن حُسنِها، وأنً اتخاذَها ليسَ مُنافِيا للفِطرَةِ، ولا بَشاعَة كَما قد يَصِفُهُ بعض مَرضى القُلوبِ.
الوجه الثاني، قالُوا: اللحيَةُ علامةُ الرجولَةِ، وعَدَمُها علامَةُ الأنوثَةِ، ففي إزالتِها تشبه بالنًساءِ، وهُوَ مُحرم.
وَيذكُرونَ النصوصَ الحديثيةَ الوارِدَةَ في مَتعِ تشبهِ الرجالِ بالنساءِ.
وأقولُ: هذه مسألة تحتاجُ إلى تحريرِ، ما هُوَ المقصودُ بما منَعَتهُ الشَريعَةُ مِن تشبهِ الرجالِ بالنساءِ أو العَكسِ؟ فَهمُ ذلكَ مِما يندرجُ تحتَهُ كثير مِنَ المسائلِ.
وَقبْلَ سِياقِ النصوصِ الوارِدَةِ في هذهِ القضيةِ ومُناقَشَتِها، أذْكُرُ مُقدمتَينِ تُساعِدانِ على تصوُرِ المقْصودِ:
الأولى: نعْلَمُ أن النِّساءَ شَقائقُ الرجالِ،كما ثبت عن النبي "ص" قال : "إنما النساءُ شَقائِقُ الرجالِ " .
قالَ ابنُ الأثيرِ: "أي نَظائرُهُم وأمثالُهُم في الأخْلاق والطّباعِ، كإنهن شُقِقنَ منهُم، ولان حواءَ خُلِقَتْ مِن آدَمَ عليهِ السلام".(1/9)
فهذا فيهِ الاشتِراكُ بينَ الجِنْسَيْنِ في كُلً شيء، فهو اصلْ في الشَرعِ، فإذا قامَ البُرهانُ على استِثناءِ صِرنا إلى إخراج صورته وحكمنا بخُصوصيتِهِ بكُل جِنْسٍ ، وأبقَيْنا ما عَدا ذلكَ على اصل الاشتراك، فشيءٌ يخْتَص بهِ الرجالُ وآخَرُ يخْتَص بهِ النساء بمقتضى الخلقِ والتكوينِ، فذلكَ بُرهانُ الاستِثناءِ بِما ليسَ للعَبدِ فيه إرادة، كالذْكر للرجل دونَ المرأَة، ومثلُهُ لا يتعلقُ بهِ تكليفَ مِن جِهَةِ أن يكونَ مطلوبا مِن المُكلفِ أو غيرَ مطلوبِ، وشَيء يختَص بهِ الرٌجالُ وآخَرُ يختَص بهِ النساءُ بمُقتَضى الشرعِ، فهُوَ كذلكَ بُرهانُ الاستِثناءِ فيهِ فيما استثناهُ الشرعُ، ويبقى الاشتِراكُ فيما عَداهُ، وهذا النوعُ تتصلُ بهِ قُدرَةُ العَبدِ ويَقعُ بمِثْلِهِ التَكليفُ، كإباحَةِ التحلي بالذهَبِ للنساءِ دونَ الرجالِ.
والمقدمه الثانيَه: التشبهُ تفعلٌ ، ولا يَقَعُ إلا بِقَصدِ، فإنْ وَقَعَ بغيرِ قَصدِ فهُوَ شَبَهْ، فإذا كانَ المنعُ للتشبهِ فيَجِب إذا أن يُراعى فيهِ قَصدُ المُشابَهَة لا حُصولُها اتفاقا، وقد تقدم ذكرُ هذه المسألةِ.
فاحفَظ هاتَينِ المقدٌمَتَينِ لتَدبرِ النصوصِ النبويةِ الوارِدَةِ في مَتعِ التشبهِ لكُل مِنَ الجِتسَينِ بالآخَرِ، والتي هيَ:
1- عَنِ ابنِ عباس، رَضِيَ اللهُ عتهُما، قالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللّهَ "ص" المُتشبهينَ مِنَ الرجالِ بالنساءِ، وَالمُتَشبهاتِ مِنَ النساءِ بالرجالِ.
وفي رِواية: لَعَنَ النبي "ص" المُخئثينَ مِنَ الرجالِ، وَالمُترجلاتِ مِنَ النساءِ، وقالَ: "أَخرِجوهُم مِن بُيوتِكُم" قالَ: فأخْرَجَ النبي "ص" فُلانا، وأخْرَج عُمَرُ فُلانا.
وفي روايةِ: لَعَنَ رَسُولُ اللهَ "ص" المُخنثينَ مِن الرجالِ، وَالمُذكَراتِ مِنَ النساءِ.
2- وعَن أَبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عتهُ، قالَ: لَعَنَ رَسُول الله "ص" الرجُلَ يلبَسُ لِبسَةَ المرأَةِ، والمرأَةَ تَلبَسُ لِبسَةَ الرجل.(1/10)
3- وَعنِ ابنِ أبي مُلَيكَةَ، قالَ: قيلَ لِعائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها: امرأةً تَلبَسُ النعلَ؟ فقالَتْ: لَعَنَ رَسُولُ اللّهَ "ص" الرجلةَ مِنَ النساءِ.
فهذه الأحاديثُ هِيَ الصحيحةُ في هذه المسألةِ، وألفاظها يُفَسرُ بعضها بعضا، ومَعنى التشبهِ فيها هُوَ: تَرَجلُ أو تَذَكرُ المرأَةِ، أيْ: تجعَلُ نَفسَها كالرجلِ أو الذكَرِ، وتخنْثُ الرجل، وهو: أن يجعَلَ نَفْسَهُ كالمرأةِ.
لكنْ في أي شيءٍ ؟
حَديثُ أبي هُرَيْرَةَ حدَدَ صورةَ، وهُوَ هَيْئَةُ اللُبْسِ، فيَلْبَسُ الرجل ما هُوَ من ثِيابِ النساءِ، وتَلبَسُ المرأَةُ ما هُوَ مِن ثِياب الرٌجالِ، هذا هُوَ الظاهِرُ القَريبُ مِنَ اللفظِ، ويصحّ أن يكونَ المعنى أَبْعَدَ مِن أن يُرادَ بهِ الثيِابُ، بل هُوَ المعنى المترجحُ هُنا لدلالةِ لَفْظِ التَخنث والترجل وعُمومِ لفظ التشبهِ، واللبسَه تكونُ كِنايَةً عنِ الحالَةِ المُتلبسِ بها، فيندرجُ تحتَها الثيابُ في ألوانِها واْنواعِها وهَيئاتِ خِياطَتِها وطَريقَةِ ارتِدائها، وما يتقمَصُهُ الشخصُ مِن الحَرَكاتِ والتصرُفاتِ والأصواتِ وغيرِ ذلكَ مِما يعود إلى الطبائعِ ولا يكونُ مِن طبيعَةِ ذلكَ الشَخْصِ، بل يكونُ طَبعاً لغيرِهِ، فحيثُ تقمصَهُ فقدْ تشبهَ بصاحِبِ ذلكَ الطبعِ وتخلقَ بخُلُقِهِ وتلبسَ بهيئتِهِ وحالَتِهِ.
فإذا تبينَ هذا المعنى كانَتْ دلالةُ الأحاديثِ: لَعنَ الرجل يتقمصُ صِفَةَ النساءِ بأخْذِهِ لطِباعِهن التي هي لهُن في الأصل لا يُشاركُهُن فيها الرجالُ، ولَعنَ المرأةِ تتقمصُ صفَةَ الرجالِ في طِباعِهِمُ التي هي لهُم في الأصْلِ لا يُشارِكُهُم فيها النِّساءُ.
وحيثُ إن مرْجِعَ ذلكَ إلى الطباعِ والخَصائِصِ فالمُشاهَدُ أنَّ طبائِعَ الخَلْقِ وخَصائِصَهُم نوعانِ:(1/11)
الأول: فِطريَّة خَلقية، كالحَرَكاتِ والسَّكَناتِ، فإن جِنْسَ النساءِ مطبوع على الرقةِ واللُيونَةِ والنعومَةِ، فتأتي الحركاتُ مُجانِسَةً لهذا الطبْعِ، فللمرأةِ مِشْيَتُها وقِعْدَتُها وتثنيها ورقةُ صوْتها بالكلامِ، وغيرُ ذلكَ
مِمَا يتناسَبُ معَ صِفَةِ اللينِ، وإنما سميت (أنثى) لذلكَ، وبِخِلافِهِ طَبعُ الرجل، وناسَبَهُ أن تكونَ لهُ وَظيفَةُ القِوامَةِ وعليهِ المسؤوليةُ والرِّعايَةُ.
والثاني: كَسبية، تُحصلُ بالقَصدِ إليها مِنَ الإنسانِ، كنَوعِ لِباسِ كَثوب وغِطاءِ رأسٍ أو نِعالِ أو حِلية، أو صِفَةِ ثَوبٍ بطول أو قِصَر أو لَون أو سَعَةِ أو ضِيق، أو غيرِ ذلكَ، وهذه قِسمانِ:
أولهُما: ما فَصَلَ فيهِ حُكمُ اللهِ ورَسولِهِ "ص"، كإباحَةِ الذهَبِ والحَريرِ للنساءِ وتَحريمِهِ على الرجالِ، فهذا يُصارُ إلى تحديدِ الفَضلِ فيهِ بينَ الجِتسَينِ إلى حُكمِ اللهَ وَرَسولِهِ "ص"، فمن خالَفَ الحُكمَ الشرعي في ذلكَ فقد تشبهَ بالجِتسِ الآخَرِ.(1/12)
وثانيهِما: ما ليسَ فيهِ حُكم مِنَ اللّهَ ورَسولِهِ "ص" يَفصِلُ بينَ الجِنسَينِ، فهذا يتفاوَتُ وَيخْتَلِفُ زَمانا ومكانا، وكُل ما فَقَدَ الحَدَّ في الشَرعِ فحدهُ يُعرَفُ بالعُزفِ، فالبيئةُ تُحددُ أن يكونَ هذا مِن خَصائصِ الرجالِ أو مِن خَصائصِ النساءِ، فإذا جَرى الناسُ في بَلَدٍ على زِي خاص بالرجالِ فرُئيَ مثلُهُ على امرأةٍ مِن نِساءِ ذلكَ البَلَدِ تَزيت بهِ فقد تشبهَت بالرٌجالِ، ولو جَرَوا على زي خاصّ بالنًساءِ فرُئيَ رجُل قد تزئى بمِثلهِ فقَدْ تشبهَ بالنساءِ، ولا يصح أن تُعدَّى أعرافُ بَلَد وزَمان إلى غيرِ ذلكَ البَلَدِ وغيرِ ذلكَ الزمانِ، وتمييزُ كُلٌ جِتسِ عَنِ الآخَرِ في صفات أمر قد جَرَتْ عليهِ مُجتَمعاتُ النَّاسِ حتَى في غَيرِ بلادِ المسلمينَ كَما قَد رأينا ذلكَ، فاختِلافُ الأحوالِ في ذلكَ مما تقتَضيهِ فِطرَةُ الذكورَةِ والأنوثَةِ، فيَميلُ العاقِلُ بأصلِ خَلقِهِ إلى الفِعلِ المُلائمِ لِما فَطَرَهُ الله علمِهِ، وإنَّما يَقَعُ تشبهُ الجِنسِ بالآخَرِ في صِفاتِهِ وأحوالِهِ شُذوذا في مُجتَمعاتِ الناسِ.
فعلى هذه القِسمَةِ التي ذكَرتُ يتبينُ أن التشبهَ مِن أحَدِ الجِتسَينِ بالآخَرِ يُتصورُ وقوعُهُ في النَّوعِ الثانىِ، وهُوَ الطباعُ الكَسبيةُ، لأن التشبهَ فعل المُكلفِ وكَسبُهُ، أما ما لا يَدَ للإتسانِ فيهِ فلا لَومَ عليهِ ولا مؤاخَذَةَ تَلحَقُهُ بسبَبِهِ، فلو ألقيَ على رجُلِ مِن خَصائصِ النساءِ ما اْشْبَهَهُن فيهِ بفِطرَتِهِ مِن غيرِ تصنعٍ ليكونَ مثلَهُن، كالمُخنَّثِ الذي تقَعُ حركاتُهُ وسَكَناتُهُ وربما كَلامُهُ كما يَقَعُ مِنَ النًساءِ ولا يِدَ لهُ في ذلكَ، فهذا ليسَ مُتشبها بالنساءِ وإن أشْبَهَهُن، والشَريعَةُ مُنزهَة عن أن تؤاخِذَ مَن هذا وَصفُهُ بأن خَلَقَهُ اللّهُ كذلكَ.(1/13)
أما ما يَقَعُ مِنَ المُشابَهَةِ بكَسبِ الإتسانِ، فتقدَّمَ أن ما أُبيحَ لجِتسٍ وحُرمَ على الآخَرِ مِن الأحوالِ والهيئاتِ، إذا تلبسَ بهِ مَن مُنِعَ منهُ فَقَد تشبهَ بمَن أبيحَ لهُ التلبسُ بهِ.
وما لم تحكُم الشريعَةُ بأنه لهذا الجِتسِ أو ذاكَ فالعُزفُ حاكِمٌ فيهِ، وحُكمُ العُزفِ بالضفةِ التي تقدم بيانُها.
اللحية في ضوء ما تقدم:
ابتداءً قَص اللِّحيَةِ معَ بقاءِ بعض الشعر وان قَصُرَ ليسَ واردا في هذه المسألةِ، وكذلكَ مَن حَلَقَ بعْضَها وأبقى بعضها، لأن المعنى عندَ مَنِ استدل بنُصوصِ النهي عنِ التشبهِ هُوَ أن يكونَ وَجْهُ الرجل كوجه المرأَةِ خاليا مِنَ الشعرِ، وهذا يُتصوَرُ في إزالَةِ الرَّجلِ جميعَ ما ينبتُ مِنَ الشَعَرِ في الوجه سِوى الحاجِبَينِ والأجفانِ، فإن هذه الصفةَ هىِ التي تُساوي الجِنسَ الآخَرَ وتُماثِلُهُ.
فإذا تخيلنا ذلكَ، فهَلْ هذا مِنَ التشبُّهِ بمجردِ الفِعلِ مِن قِبَل الرجل؟
وعلى القسمَةِ المتقدِّمَةِ، فإن الرجل تَتبُتُ لهُ اللحية والشارب خَلقا، بخِلافِ المرأةِ، فكانَت صِفَةً كونيةً ليسَ للرجل كَسب في تحصيلها.
لكن البَحثَ في إزالَةِ الرجل لَها بقَصد، هَل يُلحقه بالنْساء حيثُ إن المرأةَ في الأصْلِ لا شَعْرَ لها كَلحيَةِ أو شارِب ؟(1/14)
لم تأت الشَريعَةُ بشيءٍ يُصارُ إليهِ بخُصوصِ ذلكَ، ونقدم أن العلةَ التي لأجْلِها امِرَ بقَص الشَارِبِ واعفاءِ اللحيَةِ هيَ مخالفة الكفار، وقد بينا وجههُ، ولم يَنُصَ الشَّارعُ على علَةِ أخْرى بخصوص ذلك، وهنا مسألةٌ : وُجودُ الرجل والمرأَةِ حاصِلٌ في كُل مجتمع ،ووجود الكافر معَ المسلِمِ قَد يخلو منهُ المُجتَمَعُ حيثُ لا يكون الا مسلم، كما كانَ الشَأنُ في المدينَة حينَ أخْرِجَ منها اليَهودُ فتمحضت للمسلمين، أو يكونُ جِتسُ الكُفًارِ في المجتَمَع المسلمِ قليلا نادرا، فكيف صح أن يَعْتَبِرَ الشرعُ ما كانَ قليلَا نادرا علة لتعليقِ الحكْم به، دون ما كان كَثيرا شائعا مِما هُوَ أولى بالذكْرِ منْهُ لو صح التعليل به؟
هذا إلزام للمتعلقِ بمسألةِ التشبهِ بالنساء في امرِ حلق اللْحيَةِ.
والمعنى: أن التعليلَ بالتْشبهِ بالنساء لو كانَ صالحا كمناط للحُكْمِ لعُلقَ بهِ، لانه أولى مِن جِهَةِ عُمومِ البَلوى بهِ، فحيثُ لم يُعتَبَر، دل ذلكَ بإشارَتِهِ على أنه ليسَ علة للحُكمِ.(1/15)
وأيضاً، فلو صح التعليلُ لمتعِ حَلقِ اللحية بكونهِ تشبها بالنساءِ، فما هُوَ القول في الشارِبِ؟ فنَباتُ الشارِبِ واللحية في الوجه مِن خَصائِصِ الزجالِ دونَ النساءِ خَلقا، والشريعَةُ أمَرَت بقَص الشارِبِ قَصا شَديدا يُشْبِهُ الحَلقَ، والحَلقُ وإن لم تَطلُبهُ الشريعَةُ فإنها لم تَنهَ عَتهُ، ولذلكَ ذهَبَ إلى الجوازِ فيهِ كثير مِنَ العُلماءِ، وإزالةُ الشارِب بالحَلقِ مُزيل لهذه العلامةِ الكونيةِ كفارق بينَ جِنسِ الرجل والمرأةِ،َ فإذا كانَ المعنى استواءَ الرجل معَ المرأةِ في عَدَمِ العلامَةِ باللحية فكذلكَ يَقَعُ الاستواءُ بحَلْقِ الشارِبِ، والواقِعُ شاهِد بأن شعر الشارِبِ علامةٌ للرجل في أكثَرِ مجتَمعاتِ النَّاسِ اليومَ حينَ فَشا في المسلمينَ حَلقُ اللحية، فإذا كانَ المقصودُ بقاءَ علامَةِ تَمييز في الوجه فهيَ بأدنى ما يكونُ فيهِ مِن شَعر في اللحيَةِ أو في الشارِبِ يراهُ الناظِرُ.
فهذا وَجة آخَرُ دال على إبطالِ العِلةِ المذكورةِ كعلةٍ صالحة لتعليقِ حُكمِ منْعِ حَلقِ اللحية بها.
فإذا عُدنا بالمسألةِ إلى ما تقدم مِن التقسيمِ لخصائصِ الرجالِ والنساءِ كانَت هذه الجُزئيةُ مندرجة تحتَ ما لم تنصَّ عليهِ الشَريعَةُ مِن تلكَ الخصائصِ، لأن الشريعَةَ قذ جعَلَتِ العلةَ غيرَهُ، فحيثُ فقدنا تحديدَ الشرعِ في اعتِبارِهِ علَةَ بَقِيَ لَنا النظَرُ في العُرفِ، فإن كانَ العُرْفُ أبقى اللحية علامةً مؤثرة في إلحاقِ مَن يحلِقُ لحيتَهُ بالنساءِ وَيجعَلُ الحالِقَ مؤنثا أو مخنثا بذلكَ الحَلقِ مُخرِجا له مِن جِنْسِ الرجالِ مُلحِقا إياهُ بجِنسِ النساءِ، كانَ العُزفُ حاكِما بتشبهِهِ بالنساءِ، أما إذا جَرى العُرفُ بتِلكَ العادَةِ معَ بقاءِ وَصفِ الرجولَةِ لفاعِلِهِ، لم يصح أن يُقالَ:
تشبهَ بالنساءِ ولَحِقَهُ الوَعيدُ باللَّعْنَةِ، بل يَصيرُ ذلكَ مِنَ التكلفِ في حَمْلِ أدلَّةِ الشَّرْعِ على غيرِ وُجوهِها.(1/16)
وعُرْفُ التاسِ اليومَ شاهِدٌ في أكْثَرِ المُجتَمعات أن مَن حَلَقَ لحْيَتَهُ مِنَ الرجالِ لم يتخلَقْ بأخْلاقِ النساءِ بمجردِ حلق اللحية، وتقدم أن التَشبهَ بالنًساءِ تقمُصُ الرجل في شخصية المرأة وتلبسه بهيئتها فيُكْسِبُهُ ذلكَ مِن صِفاتِها وأخْلاقِها، حتَى يَصح وَصفُهُ بكونه (مخنثاً)، والمخنثُ عنْدَ أهْلِ اللّسانِ مِنَ التخنثِ، وهُو: التثني والتْكسر، وهذا حالُ المرأةِ للينِها، وهُوَ وَصْف ليسَ بشائع في عُرف الناس عنْد من يَحْلِقُ لحْيَتَهُ.
ومِنَ الخطأ أن نُغفلَ حقيقةَ التشبهِ والمعنى الذي تهي عته لأجله، فالمُختثُ الذي أخْرَجَهُ النبي "ص" والآخَرُ الذي أخْرجه عمر كما في حديثِ ابنِ عباس المتقدم، لم يأت إنهما كانا حالقبن لحيتيهما، ولو كانا كذلكَ لنُقِلَ، كَما لم يُتقَل أنهما كانا أمرَدين، والأصل انهما كانتْ لهُما لحية، ومع وُجودِ هذه العَلامَةِ وُصِفا بالتخنث ، وفيهْ أنْ وجودَ اللحية لا يعني الرجولَةَ بمُجرَّدِهِ، كَما لا يُنافي ان يوصف ذو اللحية بالتخئثِ إذا تشبهَ بالنساءِ في أنوثتهِن.
كذلكَ، لا يصح التعلُقُ بصورة مُشابهَة تقع بين الرجل والمرأَةِ وإن كانَ في بعْضِ ما هُوَ ميزة لأحَدِ الجنسين حتْى يكونَ أريدَ بها التَشبهُ، وتقدم أن شرحْتُ أن التشبهَ تفعلْ لا يقع الا مقرونا بقَصدِ المشابَهَةِ، لا بمجردِ اتفاقِ الصورةِ، وإلا فمن خلِق أمرَدَ لا شَعرَ في وجْهِهِ وأشبَهَ المرأةَ حتى في نعومَةِ وجهِه، عليهِ أن يغيرَ من صِفَةِ نفْسِهِ لئلا يُلحَقَ بالنِّساءِ، وهذا لا عبرَةَ بهِ في التحقيقِ، لأنه وإِن أشْبَهَ المرأةَ إلَّا أنه لم يتشبه بها، وإنَّما نصت الأحاديثُ على منعِ التشبهِ!
فحاصِل تحريرِ هذه المسألةِ يتلخْص في:
ا- لم تعلًلِ الشريعَةُ حَلقَ اللحية بمُشابَهَةِ النساءِ، ولم تربِطهُ بشيءٍ من ذلكَ، بل علقتهُ بمشابَهَةِ الكفارِ.(1/17)
2- نهَتِ الشريعَةُ عَن قَصدِ الرجل إلى مُشابَهَةِ المرأةِ والعَكسِ قَصدا يُكسِبُ كُل جِتسٍ طِباعَ الجِتسِ الآخَرِ فتترجلُ المرأةُ ويتخنثُ الرجل، على ذلكَ دلت الأحاديثُ الواردةُ في النهي عَنِ التشبه بينَهما.
3- زوالُ بعض الفَوارقِ بينَ الجِتسينِ لا يُلْحِقُ أحدَهُما بالاَخِرِ بمجردِهِ، فقدْ أذِنَتِ الشريعَةُ بإزالَةِ الشارِبِ وهُوَ فارق خَلقي بينَ الرجل و المرأةِ.
4- التخنثُ له حَقيقة مُدرَكَة في عُزفِ الناسِ، وربما أطلِقَ على أهلِهِ في عُرفِ أهل زمانِنا بـ(الجِتس الثالث)، وليسَ في عُرفِهم أن مجرَدَ حَلقِ اللحية معَ شيوعِهِ فيهِم وانتِشارِهِ ممَا يُصيرُ الرجل مِن هذا الجِتسِ، بل شخصيةُ الرجل عتدَهُم متميزة وإن حَلَقَ لحيتَهُ، بل ربما كانَ في أولئكَ المخنثينَ من لهُ لحية.
فاستدلالُ مَن حرمَ حَفقَ اللحية بكونهِ مِنَ التشبُّهِ بالنساءِ زيادة على الشرعِ، وتكلف في الاستدلال، ولا مصداقيةَ لهُ في الواقِعِ إلا مِن جِهَةِ ما تخيلَهُ صاحِبُ الدعوى، فلم يزَلِ الناسُ في هذا الزمانِ يميزونَ الرجل مِنَ المرأةِ مِن غيرِ اعتِبارِ اللحية.
ولا يَرِدُ هُنا فَسادُ حالِ الناسِ في هذا الزمانِ كاعتِراض على اعتِبارِنا لعُرفِهم في هذه المسألةِ، وذلكَ أن اعتِبارَ العُرفِ ليسَ في إقرارهم على مُخالَفَةِ الشرعِ، إنما في عَدَمِ إلحاقِهِم جِتسَ الرجل بالمرأةِ بحَلقِهِ للحيَتهِ معَ شُيوعِ ذلكَ فيهم، بل حالُ الناسِ اليومَ في هذه القضيةِ أحسن شيءِ للاعتِبارِ في هذه المسألةِ، فإن بعض السابقينَ حينَ عدوا حلقَ اللحية من بابِ التشبهِ بالنساءِ لم يكُن قَد شاعَ فيهِم ذلكَ الفِعلُ وإنَّما بَنَوهُ على ما في اللحيَةِ من فارق خَلقي بينَ الرجل والمرأةِ، وإزالَتُهُ تُلحِقُه بها، قالوا ذلكَ نَظرا، ونحنُ نقولُ: الواقِعُ لم يُلحِقِ الرجل بالمرأةِ حقيقةَ بمجردِ حَلقِ لحيَتِه معَ انتِشارِ هذا الفِعلِ في الناسِ، فتأمل.(1/18)
الوجه الثالث، قالُوا: اللحية للرجل مِن خَلقِ اللهَ الَّذي لا يحل تغييرُهُ الا بإذنِ مِنَ الشَّارعِ، وحَلقُها مِن نَنييرِهِ الذي لم يأذَق بهِ الشارعُ.
وَيذكُرونَ فىِ هذا ما وَرَدَ في المتعِ من تغييرِ خَلقِ اللهِ، وهُوَ آيَة في كِتابِ اللهِ، وَحَديثْ عَن رَسُولِ اللهَ "ص".
فأما الآيةُ ففي قوْلِهِ تعالى:" إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)" النساء 117-119
وأما الحديثُ فعَن عَبدِاللهَ بنِ مَسعود، رَضِيَ اللهُ عَتهُ، قالَ: لَعَنَ اللهُ الواشِماتِ، والمتوشماتِ، وَالمتَنَمصات، وَالمُتفلجاتِ للحسن، المُغيِّراتِ خَلقَ اللهِ".
قالَ: فبَلَغَ امرأةً في البيتِ يُقالُ لَها أُم يعقوبَ، فجاءَت إليهِ، فقالَتْ: بَلَغَني أتكَ قُلْتَ كَيتَ وَكَيتَ؟ فقالَ: ما لي لا ألعَنُ مَن لَعَنَ رَسُولُ اللّهَ "ص"، وهُوَ، في كِتابِ اللّهِ؟ فقالَت: إني لأقْرأ ما بينَ لوحَيْهِ، فما وجدتُهُ، فقالَ: إن كُتتِ قَرَأْتِيهِ فقَدْ وجدتيهِ، أما قَرَأْتِ: (وما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر 7 ؟ قالَتْ: بَلى، قالَ، فإن النبي "ص" نَهى عَنْهُ، قالَتْ: إني لأظُن أهْلَكَ يَفْعَلونَ، قالَ: اذهَبي فاتظُري، فنَظَرَتْ فلمْ تَرَ مِن حاجَتِها شيئا، فجاءَتْ فقالَتْ: ما رأيتُ شيئا، قالَ: لو كانَت كذلكَ لم تُجامِعنا.(1/19)
قالوا: لُعِنَت فاعِلَةُ الوَشمِ والمفعولُ بها ذلكَ، والمفعولُ بها النمصُ، والَّتي تُفرًجُ بينَ أسنانها المتلاصِقَةِ، يفعَلنَ ذلكً يرِدنَ الجَمالَ، واللعنَةُ بسَبَبِ تَغييرهن خَلقَ اللهِ، حيثُ خُلِقنَ على صفةِ فعَمَدنَ إلى تغييرِها بتلكَ الأفعالِ، والرجل تنبتُ له اللحية بخَلقِ اللهَ فيتعمدُ إزالَتَها، فهُوَ يُغيرُ خَلقَ اللّهَ كذلكَ، فتُصيبُهُ اللعنَةُ بهذا الفِعلِ.
ومَن ذهَبَ إلى هذا القول قالَ: الأصل حُرمَةُ تغييرِ خَلقِ اللّهَ إلا بإذنٍ مِنَ الشريعَةِ، فيُستَثنى قَص الشارِبِ وَحَلقُ العانَةِ ونَتفُ الإبِطِ وتقليمُ الأظفارِ والخِتانُ وشِبهُها، لأن الشريعَةَ أمَرَت بذلكَ، ويبقى ما لم يَرِد بهِ الإذنُ على الحُرمَةِ.
وأقول: نعم، إن اللهَ تعالى جعَلَ تغيِيرَ خَلقِهِ مِما يأمُرُ بهِ الشيطانُ الذي لَعَنَهُ وأبعَدَهُ، وفي طاعَتِهِ في أمرِهِ معصيةُ اللّهَ تعالى ورَسولِهِ "ص"، لكن قَبلَ تقريرِ صحةِ أو خَطَا الاستدلال بهذا في أمرِ اللحية لا بُد مِن فَهمِ المرادِ بتغييرِ خَلقِ الله.
توضيح المرادِ بتغيير خلقِ الله:
إنَّ أحسن ما يُفسًرُ الوَحيَ وحي مثلُهُ، وإنما يُصارُ إلى تفسيرِ أهلِ اللسانِ حينَ يُفقَدُ البيانُ في نَفسِ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنةِ.
وقَد دلَ القرآنَ على أن خَلقَ اللهَ لَفظ يُرادُ بهِ فِعلُ الخَلقِ لهُ تعالى، وهُوَ صِفَة مِن صِفاتِهِ فهُوَ الخالِقُ سُبحاتهُ وتعالى، ويُرادُ بهِ مَخلوقُهُ ومَصنوعُهُ، فإنَّ كُل شيء خَلقُهُ وصَتعَتُهُ، والتًغيير والتبديلُ لفِعلِهِ تعالى ليسَ بمقدورٍ للخَلائقِ، فإنه يَقعَلُ ما يَشاءُ، فهذا المعنى للخَلقِ ليس للشيطان و أتباعه فيه نصيب، فتعين أن يراد بتغيير خلق الله مخلوقه تعالى.
و جاء في كتاب الله نظير لهذه الآية، و ذلك قوله تعالى :"فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" الروم 30(1/20)
فزاد هذه الآية تفسيرا للمقصود بخلق الله، و هو على قول جمهور أهل التفسير: دين الله الذي فطر عليه الخلق.
و هذا المعنى أولى من غيره بدليل ما رواه عياض المجاشعي: أن رسول الله "ص" قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال ، و إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، و أنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، و حرمت عليهم ما أحللت لهم، و أمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا"..
و هذا تقدم بيانه في تفسير الفطرة، و أنها دين الإسلام، و هي خلق الله تعالى .
فهذه الدلالة ظاهرة في معنى "خلق الله" الذي يأمر الشيطان بتغييره.
و هذا التبديل المنفي في الآية هو عند أهل التفسير على وجهين:
الأول: لا تبدلوا دين الله، فيكون خبرا معناه الطلب.
و الثاني: فطرة الله ثابته لا تتغير في جميع خلقه، فإنهم جميعاً يولدون حنفاء، و إنما يقع التغيير لفطرة الله التي هي دينه بفعل الشياطين و أوليائهم.
و هذا المعنى ظاهر من الحديثين المتقدمين بما لا مزيد عليه.
فيتحصل منه أن الشياطين تأمر بغيير دين الله بالشرك و تحريم الحلال و تحليل الحرام، هذا تفسير رسول الله"ص" فيما رواه عن ربه تعالى، و هو مغنٍ عن تكلف التفسير بالرأي.
و منه يتبين أن تغيير خلق الله ليس مرادا به الصورة المخلوقة.
أما اندراج بعض أنواع التغيير لبعض صورة الإنسان أو الحيوان تحت تغيير خلق الله، فهو لأن ذلك الفعل مما حرم الله و رسوله"ص". و الشياطين تأمر أولياءها بتحليل الحرام.
و على هذا يتنزل حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، في الوشم و غيره، فإن هذه الأفعال الوشم و النمص و التفلج منهي عنها، ففعلها من تغيير دين الله لما فيه من طاعة للشيطان في أمره بمخالفة الشرع.
و على هذا فإزالة شئ من البدن يرجع فيه من حيث الحكم إلى ما قضت به الشريعة في كل جزئية منه، و هو راجع في جملته إلى هذه القسمة:(1/21)
1- منطوق بشرعيته، وجوباً أو ندباً ، كما في خصال الفطرة: كقص الشارب و نتف الإبط و حلق العانة و الختان.
2- منطوق بمَتعِهِ، كالوَشمِ، والنمصِ، وهُوَ تدقيقُ الحاجبينِ، والتفلجِ، والتمثيلِ بقَطعِ الأعضاءِ مِنَ البَدنِ عقوبة، والخِصاءِ.
3- مسكوت عنهُ، والقاعِدَةُ في كُل مسكوتٍ عتهُ أن يكونَ على الإباحَةِ، ومِنْهُ إزالَةُ الشعر ينبُتُ على الرقَبَةِ والقَفا والصدرِ والرجلينِ، وأنواعُ الزيناتِ التي تتخذُها النساءُ مِما لم يُنَص في الشرعِ على منْعِهِ مِن الأصباغِ وغيرِها.
أين موضع اللحية من هذه القسمة؟
إذا تبينَ المقصودُ بتغييرِ خَلقِ اللهِ، وأنه ليسَ بنص في منْعِ جُزئيةِ مِنَ التغييرِ بإزالةِ شيء أو إضافتِهِ إلى البَدَنِ إلا أن يَرِدَ الدليلُ على كون تلكَ الجُزئيةِ مِمَّا نَطَقَتِ الشريعَةُ بمَنْعِهِ، ففي هذا إلغاءُ اعْتِبارِ هذه الآيةِ دليلَا صالحا للاحتِجاجِ بهِ في مسألةِ اللحية، وإنما يُتظَرُ فيما قَضَت بهِ الشريعَةُ في حُكمِ اللحية فيكونُ هُوَ المُعتَبَرَ.
وهذا قد تقدم شرحهُ وبيانُهُ، وكانَ المقصودُ هنا التظَرَ فيما استدل بهِ المُبالِغونَ في حُكمِ إعفاءِ اللحية وحَلقِها.
وقَد حاوَلَ هؤلاءِ المُبالِغونَ تقويةَ ما ذهَبوا إليهِ في هذا الاستدلال بشَيئ ذكَروهُ في النهيِ عَنِ التمثيلِ بالشعَرِ، والنهي عَنِ النتفِ، والمعنى عتدَهُم في النتفِ والحَلقِ واحِد، وأورَدوا في ذلكَ ثلاثةَ أحاديثَ، هي:
1- حَديثُ: "مَن مَثلَ بالشَعرِ فلَيسَ لهُ عتدَ اللَه خَلاق ".
قالَ ابنُ الأثيرِ: "مُثلَةُ الشعَرِ: حَلقُهُ مِنَ الخُدودِ، وقيلَ: نَتْفُهُ أو تغييرُهُ بالسواد" .
2- ما رواهُ ابنُ عساكِر عَن عُمَرَ بنِ عَبد ِالعَزيزِ، قالَ: إن حَلْقَ اللحية مُثلَة، وإن رَسولَ اللّهَ "ص" نَهى عَنِ المُثلَةِ.(1/22)
3- حَديثُ أبي رَيْحانَةَ، قالَ: نَهى رَسُولُ اللّهَ "ص" عَنْ عَشرَ: عَنِ الوَشرِ، وَالوَشمِ، وَالنتْفِ، وعَنْ مُكامَعَةِ الرجل الرجل بغيرِ شِعارٍ ، وعَن مُكامَعَةِ المرأةِ المرأَةَ بغيرِ شِعارِ ، وأن يَجعَلَ الرجل في أسْفَلِ ثِيابِهِ حَريرا مِثلَ الأعاجمِ، وأن يَجْعَلَ على مَنْكِبَيْهِ مِثْلَ الأعاجِمِ، وعَنِ النهبى، ورُكوبِ النمورِ، ولُبوسِ الخاتَمِ إلا لِذي سلْطانِ.
واسْتَشهَدوا لما جاءَ في هذا الحديثِ مِنَ التهي عَنِ النتفِ بِما صح مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِهِ في لَعنِ النامصاتِ والمتنمصاتِ.
و أقولُ:
صحَ عنِ الإمامِ مُحمَدِ بنِ سيرينَ قوْلُهُ: "انظروا عَمن تأخُذونَ هذا الحديثَ، فإنهُ دينُكُم"، وفي لفظ: "إِن هذا العِلْمَ دينٌ ، فانْظُروا عَمَن تأخُذونَ دينَكُم ".
وأهلُ العِلمِ يختَلفونَ في العَمَلِ بالحديثِ الضعيفِ في فَضائلِ الأعمالِ، لا في الأحكامِ ومعرفةِ الحلالِ والحرامِ كالشأنِ هُنا، ونَص يُفيدُ التحريمَ يجِبُ أن يثبُتَ نقلُهُ ليصح الاستدلال بهِ، وما ذُكِرَ هُنا فبعضُهُ لا يثبتُ أصلا مِن جِهَةِ النقلِ، ثم إن جميعَهُ لا يصلُحُ مِن جِهَةِ الدلالةِ.
فالأول في التمثيلِ بالشعَرِ: حديث ضعيف الإسناد.. فيسقط الاستدلال به.
والثاني في أن حَلقَ اللحية مُثلَة، ونُهِيَ عَنِ المُثلَةِ: فإسناد الحكاية ضعيف جدا.. فسقط الاستدلال به ايضا..
و لكن نقول.. ورد النهي عن المُثلة في أحاديث أخرى.. لذا نحتاج أن نفهم ما هي "المُثلة" أصلا؟
تفسير المثلة:
وحيثُ إن قضيةَ المُثلَةِ قد وَرَدَت هُنا فلنُحررْ معناها، ثم نَنظُرُ مِن خِلالِهِ إمكانَ اتدِراجِ حَلقِ اللحية فيما يُعَد مُثلَة، وكذلكَ حَلقُ الشارِبِ، بل والرأشِ كَما في هذه الرواية عن عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزيزِ على ضَعفها أو على ما دل عليهِ الحديثُ الضعيفُ قَبلَها من النهي عَنِ التمثيلِ بالشعَرِ.(1/23)
قالَ ابنُ فارِس في أصلِ هذه اللفظةِ: "الميمُ والثاءُ واللامُ أصلْ صحيح يدل على مُناظَرَةِ الشيئِ للشيئِ، وهذا مِثْلُ هذا أي: نَظيرُهُ، والمِثلُ والمِثال في معنًى واحِد، قالَ: وقوْلُهم: (مَثَّلَ بهِ) إذا نكلَ، هُوَ مِن هذا، لان المعنى فيهِ أنه إذا نُكلَ بهِ جُعِلَ ذلكَ مِثالا لكل من صَنَعَ ذلكَ الصَنيعَ أو أرادَ صُنعَهُ، ويقولونَ: (مَثلَ بالقَتيل) جَدعه، وَالمَثُلاتُ مِن هذا أيضا، أي: العُقوباتُ التي تزْجُرُ عَن مِثلٍ ما وَقعَت لأجلِهِ، وواحِدَتُها مَثُلَة كَسَمُرَةٍ وصَدُقَةٍ ، ويحتَمِلُ أنها التي تنْزل بالإتسانِ فتجعَلُ مِثالا ينزَجِرُ بهِ وَيرتَدِعُ غَيرُهُ.
وقالَ الجوهَري: "وَمَثَلَ بهِ يَمثُل مثلْا: اي نَكلَ بهِ، والاسمُ المُثلَةُ".
وفي "اللسانِ": "مَثَلَ بالرجلِ يَمثل مَثلا ومُثلَة، ومَثلَ، كِلاهُما: نَكلَ بهِ، وهِيَ المَثُلَةُ والمُثلَةُ".
قُلْتُ: فحاصِلُ هذا ان المُثلَةَ هي: النكالُ الذي يَجْعَلُ مَن فُعِلَ بهِ مَثلا لغَيرِهِ وعِبرة.
ولِذا لَمَا كانَ الحيوانُ لا وَجْهَ لتَعذيبِهِ جُعِلَ التمثيلُ بهِ مُحرَّما مُطْلَقا، وقَدْ صح عَنِ ابنِ عُمَرَ إنه مَر على قومٍ وَقَدْ نَصَبوا دَجاجَةَ حَيةَ يَرمونَها، فقالَ: إن رَسُولَ اللهَ "ص" لَعَنَ مَن مَثلَ بالبَهائِمِ، وفي لفظ: بالحيَوانِ.
وحُرًمَ وَشمُ البَهائِمِ في وُجوهِها، ورُخصَ في غيرِ الوَجْهِ للحاجَةِ إليهِ لتَمييزِها.
وأما الإتسانُ، فإن اللّهَ تعالى شَرَعَ في حقهِ بعض العُقوباتِ البدنية، فصارَتِ استِثناء مِن عُمومِ التَهي عَن المُثْلَةِ، كَقَطْعِ يَدِ السارِقِ، وفي الاستِثناءِ تحقيقُ المقصودِ مِنَ الزجْرِ والردع عَن معصيَةِ اللَهِ، وهذا لا يُطْلَبُ في البَهائمِ.(1/24)
أما ما لم يَرِدِ التنصيصُ عليهِ مِنَ العُقوباتِ البدنيةِ للإتسانِ فمنهُ ما أعطَتِ الشريعَةُ للحاكِمِ فيهِ ما تقتَضيهِ المصلَحَةُ مِنَ التعزيرِ، لكنه مشروط بأن لا يَكونَ علامَةَ ثابتةً في المُعزرِ، فليسَ فيهِ قَطعُ عُضْو ولا شَقهُ ولا كَيهُ بنارٍ ولا ما أشبَهَ ذلكَ مِما يتركُ أثرا يكون سَبَبا لإشارَةِ الناسِ إليهِ بهِ وتعييرِهِ لأجلِهِ بخَطيئتِهِ.
وَمِن هذا حَلقُ الشَعر، كَشَعرِ الرأسِ أوِ اللحية أو الشارِبِ أو الحاجِبَينِ، فإن ذلكَ إذا فُعِلَ على وجه الإهانَةِ والتحقير للمَحلوقِ كانَ عُقوبَة، وهُوَ مُثلَةْ، لأنه عُقوبَة لم يأذَن بها الشرعُ، لا مِن جِهَةِ أن الحَلقَ في نَفْسِهِ ممنوعْ، فإن حَلقَ الرأس مُباح أصالَة، وهوَ مطلوب في النسُكِ، وإنما المنعُ مِن جِهَةِ العُقوبة بذلكَ، ففيهِ اعتِداة على جُزْء مِنَ بَدَنِ الآخَرِ لم تأذن بهِ الشريعَةُ.
وَيشبَهُ أن يكونَ مِن هذا ما حَدثَ به قَيس بنُ أبي حازِم، قالَ:
استَعمَلَ عُمَرُ (يعني ابنَ الخطاب)- رَضِيَ اللهُ عَتهُ- رَجُلا مِنَ الأنْصارِ، فنَزَلَ بعَظيمِ أهل الحِيرةِ عند ِالمسيحِ بنِ بقَيلَةَ، فأمالَ عليهِ بالطعامِ والشرابِ ما دَعا بهِ، فاحتُبِسَ عليهِ بالهَزلِ، فدَعا الرجل فمَسَحَ بلحيتِهِ، فرَكِبَ إلى عُمَرَ، رَضيَ اللهُ عتة، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، قَد خَدَمتُ كِسرى وقَيصَرَ فما أتى إلي في مُلكِ أحَد مِنْهُم ما أتى إلي في مُلكِكَ، قالَ: وما ذاكَ؟ قالَ: نَزَلَ بي عامِلُكَ فُلانْ فأمَلْنا عليهِ بالطعامِ والشرابِ ما دَعا بهِ، فاحتُبِسَ بالهَزلِ، فَدعاني فمسحَ بلحيتي، فأرْسَلَ إليهِ عُمَرُ، رَضِيَ الله عتهُ، فقالَ: هيه! أمالَ عليكَ بالطعامِ والشرابِ ما دَعَوتَ بهِ، ثم مَسَحتَ بِلحيتِهِ؟ واللهِ لولا أن تكونَ سُنة ما تركتُ في لحيتِكَ طاقَةً إلا نَتَفتُها، ولكنِ اذهَب فواللهِ لا تَلي لي عَمَلَا أبَدا.(1/25)
ومِن هذا قِصةُ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيز المتقدٌمَةُ في إتكارِهِ على عُبَيدَةَ السلَميً عُقوبَتَهُ بحَلقِ الرأس واللحية.
وينبَغي أن يكونَ من هذا المعنى حَديثُ التمثيلِ بالشَعرِ المتقدم على ضَعفهِ، وهُوَ أن يُعاقَبَ إتسان بحَلْقِ شعرهِ أو نَتْفِهِ اْو حَرقِهِ.
هذا التأويلُ هُوَ المتفِقُ معَ معنى المُثلَةِ في اللِّسانِ، فإذا تبينَ، لم يكُن هُناكَ وجه لرَبطِ ما وَرَدَ في المُثلَةِ بمسألَةِ حُكْمِ حَلْقِ اللحية الذي يقَعُ بفِعلِ صاحِبِها، كما لا يُعَد مِنَ المُثلَةِ لو حَلَقَ شعر رأْسِهِ.
لكن يَنبغي أن يُلاحَظَ ان بعض العُلماءِ جاوَزَ هذا المعنى اللغوي الشرعي فعَد بعضَ ما خرجَ عَنِ المألوفِ من التَصرفاتِ بالبَدَنِ مُثْلَةً، وكأن الوجه عندَهُم فيهِ أن صاحِبَهُ يجعَلُ نفْسَهُ بذلكَ الصنيعِ مِثالا يُشارُ اليهِ ويُعابُ بهِ، وهذا وإنِ اتجَهَ إلا إنه ليسَ الأصل في معنى اللفظِ إنما هوَ توسعٌ في الاصطلاحِ، ومنهُ عَد الإمامِ مالك رحِمَهُ اللهُ حَلقَ الشارِبِ مُثلَة، حيثُ إتَه فعل لم يُعهَد ولا أصلَ لهُ عتدَهُ في أدلةِ الشرعِ، خُصوصا معَ مُراعاتِهِ ما جَرى عليهِ عَمَلُ أهل المدينَةِ.
وما ذكَرَهُ أبو مُحمد ابنُ حَزْمِ فيما تقدم إيرادُهُ من قولِهِ عَنِ العُلماءِ أنهم سمَوا حَلْقَ اللحية مُثْلَة، فهذا وارِدٌ على هذينِ التَفسيرينِ: اللُغوي الشَرعي المتقدٌمِ، وهوَ النكالُ والعُقوبَة يُقعَلُ بالغيرِ، كما في أثرِ عُمَرَ بنِ عَبد ِالعَزيزِ الضعيفِ، والاصطِلاحي الّذي أجرَيْتُ عليهِ قولَ مالكٍ في الشَّارِبِ.
والمطلوبُ أن يُراعى في تفسيرِ الألفاظِ في هذا المقام ما دل عليهِ اللسانُ والشَرعُ، وبهِ يجِبُ أن تُحاكَمَ مُصطلَحاتُ الفقهاء.
وأمَا حديثُ أبي رَيحانَةَ في النهي عَنِ النتفِ:
فهُوَ حَديث ضَعيف من جهة إسناده.(1/26)
ومَوضِعُ الشَاهِدِ منه هوَ النهيُ عَنِ النتفِ، والنتفُ: نَزْعُ الشَعر، فالقول بمَدلولِ هذا الحديثِ يمنَعُ مِن نَتفِ الشعرِ مِنَ البَدَنِ مُطلَقا إلا ما وَرَدَ في الإبِطِ خاصة، لكن حيثُ لم يثبُتِ الحديثُ فلا مُسوغَ للقول بالنهي عن ذلكَ، إلا أن يُكْرَهَ لِما فيهِ مِنَ الإيلامِ.
وأما تقويةُ ذلكَ بِما وَرَدَ مِنَ النَّهي عَنِ النمصِ، فهذا يَصحُ إذا كانَ النمصُ مُطلَقَ النتفِ لا نَتفا مُعينا، واذا كانَ الحكْمُ متعديا النساءَ لأنه وردَ فيهِن.
فأما معنى النمصِ عندَ أهل اللسانِ فمنهُم مَن أطْلَقَهُ على نَتفِ الشعرِ بِلا قَيد، ومنهم مَن قَيدَهُ بشعر الوجه، ومِتهُم مَن زادَهُ تفسيرا بشعر الجَبينِ، وهذا الأخيرُ راعى في تفسيرِهِ عُرفَ الاستِعمالِ في تفسيرِ حَديثِ النبي "ص".
وأيُّ ذلكَ هُوَ المُرادُ على التحقيقِ في حَديثِ رَسُولِ اللّهَ "ص"؟
إِن قيلَ: كُل نَتْفِ، فقَدْ عَلِمنا بالنَّص استِحْبابَ نَتْفِ الإبِطِ للرجالِ والنِّساءِ، ولا يُسَمى نَمصاً.
وِإن قيلَ: نَتْفُ شعر الوجه جميعا، فالحديثُ وَرَدَ في النساءِ، والحُكمُ للغالِبِ الأعَم، والغالِبُ الأعَم أن المرأةَ لا ينبُتُ لَها الشعَرُ إلا في موضِعِ الجَبينِ، وهوَ الحاجِبانِ.
فيترجحُ أن يُرادَ بالنَّمصِ نَتْفُ شعر الحاجِبَينِ كما يَقولُهُ بعْضُ الفُقَهاءِ، لَيسَ نَتْفا مُطلَقاً.
فإذا تبينَ أن يكونَ هذا مُرادَ الحديثِ، فهَل يصحُّ تعديتُه للرجالِ؟
الحديثُ نَص في النساءِ، والشريعَةُ جَرَتْ على منهاج واضِح فىِ خِطابِ المُكلفينَ، فحيثُ يُرادُ بالخِطابِ أن يكونَ شامِلَا للجِتسَينِ يأتي بلفظ التذكيرِ، أمَا مجيئهُ بلفظ التأنيثِ يُرادُ بهِ الذكورُ معَ الإناثِ فعلى خِلافِ ما جَرَت بهِ سُنةُ التشريعِ، فالأصل أن يكونَ هذا الحُكمُ مِما يختَصُّ بهِ النساءُ.(1/27)
لكن التعديةَ قد تكونُ بطريقِ القِياسِ، وهذا صَحيحْ هُنا، فإن التَزينَ خُلُقُ النساءِ، والرجالُ دونَهن فيهِ طَبعا وشَرعا، والنمصُ تفعَلُهُ النساءُ تجملًا وتزينا، فإذا مُنِعَ منهُ مَن الزينَةُ طَبعُها، فأولى ان تمنَعَ مِنْهُ مَن هُوَ دونَها في ذلكَ المعنى، وهُوَ الرجل.
وعليهِ فيصح القول: النمصُ مُنِعَتْ منهُ النساء نَصا، فَيُمنَعُ منْهُ الرجالُ بطَريقِ الأولى، كَما عَدَينا الحُكْمَ بنَفْسِ الطريقِ للرجالِ في مَتعِ الوَشمِ.
وَحيثُ تقدم أن النمصَ هُوَ نَتْف شعر الحاجِبَينِ، فذلكَ ذاتُه مُحرمُ على الرجالِ، وتعديتُهُ إلى الشْارِبِ واللحية خارجْ عن دلالةِ النصق والقِياسِ.
مفارقة:
الذينَ اْورَدوا حديثَ النمصِ لم يَستَدلوا بهِ لمنْعِ نَتْفِ شَعرِ اللحية، إنما لمنعِ حَلقِ اللحية، وهذا خطا بَينٌ ، فإن النتفَ غيرُ الحَلْقِ، النتفُ نزع للشعَرِ، والحَلقُ قَطعٌ لَهُ، النتْفُ مؤلِمٌ بِخِلافِ الحَلقِ، النًتفُ يوهِمُ المرودَةَ إذ لا يُبقِي أثرَ الشَعَر بخِلافِ الحَلْقِ، النَّتفُ يُضْعِفُ نَباتَ الشعرِ والحَلقُ يُقوٌيهِ، فكيفَ يصحُّ الإلحاقُ والمُساواةُ؟!
هذا الاستدلال آخِرُ ما أردتُ إيرادَهُ مِمَا تعلقَ بهِ المُبالِغونَ في حُكْمِ حَلْقِ اللحية مِما أضافوهُ للشرْعِ، وأرجو أن أكونَ بينْتُ لكَ وجوهَهُ دونَ تكلُفٍ بِما أسقَطَ تلكَ المُبالغاتِ التي قد شاعَت أمثالُها في عُرْفِ كثيرِ مِن المُحدَثينِ، بِما لا يُعْرَفُ مثلُه في الاستِدلالِ عنْدَ أهل العِلْمِ المتقدِّمينَ، والمقصودُ أن تُعطى المسائِلُ الشرعيَّةُ حقَّها، كَما تُستَفادُ مِن أدلتِها البينَةِ دونَ مُبالَغة أو تكلفٍ .
الخلاصهَ
إن الفِقهَ يجبُ أن يَستَنِدَ إلى علامات شرعيةٍ بارزةٍ تُبقي الفَقيهَ على الطريقِ وتَخفَظُهُ مِنَ الزلَلِ، لا إلى أوهام وظُنون يحسَبُها الظمآنُ ماء حتى إذا جاءَها لم يَجِدها شيئاَ.(1/28)
ورَحِمَ اللّهُ مَنِ انتَهى إلى ما سَمِعَ، والمؤمِنُ وَقافْ عتدَ النقلِ، يُنزِّلُ كُلَ شيءٍ ما نزلَهُ اللّهُ ورَسولُهُ "ص" من غيرِ زيادةٍ ولا تكلف.
وَمسألةُ اللحية مِمَّا نزلَتْهُ الشَّريعَةُ منزِلَتَهُ التي أغنَت عنِ الزيادَةِ، ومَن أعيَتْهُ مسألةْ شرعية فبَحَثَ عن حُكْمِ اللهَ تعالى ورَسولِهِ "ص" فيها، فوجَدَ الحُكمَ في صَراحَةِ الأدلةِ بخُصوصِ تلكَ المسألةِ، فذلكَ مِنَ الشَّرعِ بُرهان على إلغاءِ طلَبِ حُكْمِها عن طَريقِ الاجْتِهادِ فىِ ظنياتِ الألفاظِ.
وحيثُ إن الشَريعَةَ نَطَقَتْ في ثلاثةِ أحاديثَ تتصلُ باللحية بالأمْرِ بمخالَفَةِ الكُفَّارِ في إعْفائها، وشَرَحَت النصوصُ دلالةَ ذلكَ الأمْرِ، فذلكَ مُغنِ عنِ الاستِدراكِ عليهِ بأدلة لا تثبتُ نَقلا ولا دلالةَ، أو لا تثبتُ دلالة، بل تضمَنَت المُفارَقاتِ المُفسِدَةَ للاستدلال بها، وغايَةُ المقصودِ عندَ المستدل بها تفخيمُ شأنِ اللحية، ولا يصح أن يُفخم ويعظَمَ شيء بأكْثَرَ مِمَّا فخمَهُ وعظمَهُ اللّهُ ورَسولُهُ "ص"، وإنما ذلكَ بأدلْتِه الصريحَةِ البَيًنَةِ.
وَحاصِلُ ما شَرَحتُهُ هنا: تَفنيدُ ما زادت طائْفة الاستِدلالَ بهِ على الأحاديثِ الثلاثةِ الآمرةِ بقص الشارب واعفاء اللْحيَةِ مُخالفةً للكُفارِ، وخُلاصتُهُ:
ا- قالوا: إعفاءُ اللحيَةِ مِنَ الفِطرةِ.
وَقلتُ: لا يثبتُ بهِ الحديثُ، على أن الفطرة هي ركن الإسلام بجَميعِ شرائعهِ، وإعفاءُ اللًحيَةِ وقَص الشاربِ حيث ثبتت مشروعيتهما لأجلِ مخالَفَةِ الكفارِ، فهما مِنَ الفطرةِ، أي مِن الذين بهذا الاعتبار.
وهذا لا يزيدُ في رَفعِ درجَةِ الحُكمِ فَي الاستحباب االذي شرحتُة مِن قَبلُ.
2- وقالُوا: اللحية مِن سَمتِ الأنبباء عليهم السلام.
وقُلْتُ: إِن صح إطلاقُهُ فهُوَ دليل حسنِها، لا درجة حكمها.
3- وقالُوا: حَلقُ اللحيَةِ تشبهْ بالنساء.(1/29)
وقُلتُ: ليسَ كذلكَ، ولِذا لم يُعلل به الشارع، وارجِع إلى تفصيلِهِ.
4- وقالُوا: حَلقُ اللحيَةِ تغيير لخَلقِ اللهِ.
وقلتُ: المرادُ بخَلقِ اللهَ في النصوصِ التي استُدِل بها لذلكَ: دينه، و ذلك بدلالة القرآن و الحديث الصحيح ، و تغييره إنما هو بتحليل الحرام و تحريم الحلال، و بعبارة أخرى: هو شرائع الدين، فمن بدل شيئا من شرائع الدين فقد بدل خلق الله، و في الدين : واجب و مندوب و حرام و مكروه و مبارح، و كما تطلب تلك الأحكام من أدلة الشرع الخاصة بها، فكذلك اللحية ، ثم لا يحل لأحد أن يغير حكم اللحية عما حكم فيها الله تعالى و رسوله"ص".
5- و قالوا: حلق اللحية مُثلة.
و قلت: أخطأتم في تفسير المثلة، فالمثلة: التنكيل و العقوبة البندية، فمن حُلقت لحيته أو رأسه أو قطع منه عضو فقد مُثِّل به، إلا فيما أذِن به الله و رسوله "ص" أن يُعاقب بمثله، لكن من حلق رأسه أو لحيته بفعل نفسه لا اعتداء من أحد عليه فلا مثلة في ذلك.
6- و قالوا : حلق اللحية كالنمص و النتف، و قد نُهي عنهما.
و قلت: النمص نتف شعر الحاجبين، ولا يثبت في النهي عن مطلق النتف نص، و اللحية ليست الحاجب، ثم إن النتف و الحلق يفترقان، فلا يصح الإلحاق.
هذا إيجاز القول في ذلك ، و تفصيله فيما تقدم.(1/30)