مقدمة
الحمد لله الذي منّ على عباده بمواسم الخيرات، ليغفر لهم الذنوب، ويجزل لهم الهبات، وفق من شاء لاغتنامها فأطاعه وأتقاه، وخذل من شاء فأضاع أمره وعصاه.
أحمده وأشكره، أكمل لنا الدين، وأتمّ علينا النعمة، رضي لنا الإسلام ديناً. وشرع لنا الأعمال الصالحة، ووفق للقيام بها. ورتب عليها الأجر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. أما بعد . . .
فهذه جملة من أحكام الصيام وآدابه، كتبتها شرحاً على أحاديث جمعتها في هذا الموضوع. وقد راعيت في كتابتها الأمور التالية:
الأول: حرصت على الاختصار، وإيراد أصح الأقوال في المسألة مبتعداً عن المسائل الخلافية، ومناقشات الأدلة، إلا ما دعت إليه الحاجة، لأني أردتها سهلة ميسرة صالحة للقراءة في المساجد على الجماعة لا سيما بعد صلاة العصر، كما جرت عليه عادة الأئمة عندنا. حيث إني لم أرَ – حسب إطلاعي المحدود – كتاباً نافعاً يقرأه الإمام في رمضان. كما كان يقرأ في "رياض الصالحين" أو غيره.
الثاني: لم أعزُ كل مسألة إلى مرجعها لئلا تطول حواشي الكتاب. وإنما عزوت المسائل الخاصة أو النقول.
الثالث: خرجت الأحاديث النبوية بعزوها إلى مصادرها. فإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت به. ولا أذكر غيره غالباً أما إذا كان في غيرهما فإني أعزوه إلى السنن في الغالب، وقد أزيد عليها(1). كما عزوت الآثار المروية عن الصحابة أو التابعين حسب إطلاعي.
__________
(1) وغالب عزو الأحاديث إلى كتب الشروح كفتح الباري، وعون المعبود، وتحفة الأحوذي، لإفادة القارئ مواضع الأحاديث من شروح السنة.(1/1)
الرابع:رتبت الأحاديث على فصول، وجعلت لكل فصل مجموعة من الأحاديث. حرصت على ترتيبها يتناسب مع أيام رمضان ولياليه، على أن لإمام المسجد أن يختار من الأحاديث ما يراه مناسباً لكل يوم، وعليه أن يقرأ أحاديث الفصل الأول قبل دخول الشهر. وأحاديث الفصل الأخير بعد نهاية الشهر؛ لمناسبة أحاديث هذين الفصلين لما ذكر.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي صالحاً ولوجهه خالصاً. وأن ينفع به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..
وكتبه
عبد الله بن صالح الفوزان
بريدة/ ص . ب (12117)
7/6/1415هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي نبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد . . .
... فهذه هي الطبعة الرابعة لكتابي (أحاديث الصيام – أحكام وآداب) بعد نفاذ طبعته الثالثة، وقد راجعت الكتاب. وصححت ما فيه من أخطاء وقعت في الطبعة السابقة، وضبطت بالشكل الكلمات التي تحتاج إلى ذلك.
... أسأل الله تعالى أن ينفع به في هذا الشهر الفضيل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، مقرّباً إليه في جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتبه
عبد الله بن صالح الفوزان
بريدة/مساء الجمعة/ 11/7/1422هـ
الفصل الأول: بين يدي رمضان
الحديث الأول: حكم سبق رمضان بالصوم
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" [رواه : البخاري ومسلم](1).
* ... ... * ... ... *
__________
(1) أخرجه البخاري (4/127 فتح)، ومسلم رقم (1082) واللفظ له.(1/2)
الحديث دليل على النهي عن الصيام قبل ثبوت دخول رمضان. بأن يصوم يوماً أو يومين من غير عادة بقصد الاحتياط لرمضان. لأن الصوم عبادة محدودة بوقت معين وهو رؤية الهلال، فالصيام قبل ذلك من تعدي حدود الله تعالى، وهو ذريعة إلى الزيادة في العبادة.
قال الترمذي بعد الحديث: "العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول شهر رمضان، لمعنى رمضان"(1).
ويستفاد من الحديث النهي عن صوم يوم الشك؛ لأن النهي عن تَقَدُّم رمضان بالصوم نهي عن الصوم قبل ثبوته، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
أما من كان له عادة بصوم يوم معيّن كيوم الاثنين أو الخميس، أو صوم يوم وفطر يوم فيصادفَ ذلك قبلَ رمضان بيوم أو يومين فلا بأس بذلك لزوال المحذور، وكذلك من يصوم واجباً كصوم نذر أو كفارة أو قضاء رمضان السابق، فكل هذا جائز، لأن ذلك ليس من استقبال رمضان.
فإن قيل ما الجواب عن الحديث عمران بن حصين – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: هل صمت من سَرَرِ هذا الشهر، أي شعبان؟ قال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه"(2) حيث يدل على مشروعية صيام آخر شعبان؛ لأن المراد بسرر الشهر: آخره؟
فالجواب أنه: لا معارضة بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة المذكور. فإن حديث عمران محمول على أن هذا الرجل كان معتاداً لصيام آخر الشهر. فتركه خوفاً من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، ولم يبلغه الاستثناء، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وأمره بقضائه لتستمر محافظته على ما وظّف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه(3).
__________
(1) تحفة الأحوذي (3/364).
(2) رواه البخاري (4/230)، ومسلم رقم (1161) واللفظ له.
(3) انظر: تهذيب السنن لابن القيم (3/221).(1/3)
وأما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وفي رواية "فلا يصومنّ أحد"، وفي رواية: "إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان". فعنه جوابان:
الأول: أنه حديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه(1).
الثاني: على القول بصحته فهو محمول على من يصوم نفلاً مطلقاً ابتداءً من النصف من شعبان، أما من له عادة بصيام الاثنين والخميس، أو صوم يوم وإفطار يوم، أو كان يصل النصف الثاني بالنصف الأول، أو عليه قضاء فلا يدخل في النهي، كما تقدم.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم في شعبان. وقد سئلت عائشة – رضي الله عنها – عن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان يصوم شعبان حتى يصله برمضان" قالت: "وكان يتحرى صيام الاثنين والخميس".
وهذا لا يعارض حديث أبي هريرة رضي الله؛ لأن صيامه - صلى الله عليه وسلم - شعبان كان عادة له فيكون داخلاً في المستثنى في حديث أبي هريرة "إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" والله أعلم.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك إيماناً نهتدي به، ونوراً نقتدي به، ورزقاً حلالاً نكتفي به، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: بم يثبت رمضان؟
__________
(1) الحديث رواه أبو داود (6/460) والترمذي (3/437)، وأحمد (2/442)، والحديث قال عنه أحمد: هذا حديث منكر، وأنكره عبد الرحمن بن مهدي، وأبو زرعة الرازي والأثرم، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وانظر: عون المعبود (6/460)، ومختصر سنن أبي داود مع معالم السنن، وتهذيب ابن القيم (3/223 – 225).(1/4)
... عن عبد بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له"، رواه البخاري ومسلم(1)، وفي رواية لهما "فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل وجوب صوم رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله شرعاً، وأنه يجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً إذا حال غيم أو نحوه دون هلال رمضان، وعلى وجوب إكمال رمضان ثلاثين يوماً إذا حال غيم أو نحوه دون هلال شوال؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا يحكم بخروجه إلا بيقين، وإذا رأى الهلال من يثبت بشهادته دخول الشهر أو خروجه ثبت الحكم.
ومعنى قوله: "فإن غُّمَّ عليكم" أي: ستر الهلال وغطِّي بغيم أو نحوه.
وقوله: "فاقْدُرُوا له" بضم الدال أو كسرها أي: أبلغوه قدره. وهو تمام ثلاثين يوماً. ويؤيد هذا المعنى رواية الصحيحين "فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
ولا يصام يوم الثلاثين من شعبان إذا غُمَّ الهلال؛ لأن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل، فلا تكون من رمضان إلا بيقين. ولقول عمار ابن ياسر – رضي الله عنه -: "من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - "(2).
ولا يعتمد على قول أهل الحساب في دخول الشهر ولا في خروجه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام والجاهل والعالم، وهذا من يسر الشريعة، ولله الحمد.
__________
(1) البخاري (4/119)، ومسلم رقم (1080).
(2) علقه البخاري (4/119)، ووصله أبو داود (6/457)، والترمذي (3/365) وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه النسائي، وابن ماجة وغيرهم. قال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (3/141) هذا حديث صحيح، وأورد له شواهد ومتابعات، وقال الدار قطني في سننه (2/157): " هذا إسناد صحيح وروابه كلهم ثقات".(1/5)
وقد دل الحديث على أن الصوم أو الفطر لا يجب على البعيد عن مكان الرؤية إذا اختلفت المطالع؛ لأن الشرع علق الحكم بالرؤية. وهنا لم ير الهلال لا حقيقة ولا حكماً. وهذا وإن كان خطاباً لجميع الأمة. فالصوم والإفطار يكونان عند وجود السبب الذي هو الرؤية. فالأمة التي ترى الهلال يلزمها الصوم الإفطار لوجود سببه، ومن لم تتحقق عندها الرؤية فلا يلزمها ذلك لتخلف سببه، كمواقيت الصلاة، والله أعلم.
وينبغي أن يعنى بهلال شعبان حتى تعرف ليلة الثلاثين التي يتحرى فيها هلال رمضان. ويستكمل الشهر عند عدم الرؤية، لما ورد عن أي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أحصوا هلال شعبان لرمضان . . . الحديث"(1). أي: اجتهدوا في إحصائه وضبطه، بأن تتحروا وتتراءوا منازله، لأجل أن تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان فلا يفوتكم منه شيء(2).
وإذا قامت البينة بعد طلوع الفجر أو أثناء النهار بدخول رمضان برؤية الهلال الليلة الماضية. فإنه يجب الإمساك عن المفطرات بقية اليوم لكنه يوماً من رمضان. لما ورد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم أن أذّن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء"(3) ويجب قضاء ذلك اليوم على الأظهر من أقوال أهل العلم؛ لما في ذلك من الاحتياط لبراءة الذمة من هذا الواجب العظيم.
__________
(1) رواه الترمذي (3/368 تحفة)، والحاكم (1/425) والبيهقي (4/206)، والبغوي في شرح السنة (6/239)، والدار قطني (2/163) وبعض هؤلاء رواه مختصراً هكذا. وبعضهم رواه بأتم. وسنده حسن كما في الصحيحة رقم (565).
(2) انظر: تحفة الأحوذي (3/368).
(3) رواه البخاري (4/245)، ومسلم رقم (1132).(1/6)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: يجب الإمساك ولا يجب القضاء(1)، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم – رحمه الله -؛ لأن الأحكام لا تلزم إلا ببلوغها للمكلف. وقد جعل الشارع حكم المخطئ والناسي واحداً فيصح صومه، وتبييت النية لا يكون شرطاً في حقه؛ لأنه لم يستطع، ومن قواعد الشريعة وأصولها أن القدرة مناط التكليف. قال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (2).
وإذا صام الإنسان في بلد، وصام بقية الشهر في بلد آخر، وتأخر عندهم الفطر فإنه لا يفطر إلا بإفطارهم، ولو زاد صيامه على ثلاثين يوماً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحُّون"(3).
قال الترمذي رحمه الله: (وفسَّر بعض أهل هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: "الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس" أ هـ.
لكن إن صام ثمانية وعشرين يوماً لإفطار بلده قبل الثلاثين، فعليه أن يفطر معهم ثم يصوم يوماً؛ لأن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً(4).
اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأعنّا على الخير يا من إذا استعين أعان، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم عل نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في البشارة برمضان
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (25/109) زاد المعاد (2/74)، والمختارات الجلية لابن سعدي ص60.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) رواه الترمذي (3/382) عن أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده حسن، انظر (إرواء الغليل) للألباني رقم (905).
(4) انظر: روضة الطالبين (2/349)، وشرح المهذب (6/274) وفتاوى إسلامية (2/133).(1/7)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم رمضان شهر مبارك. فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". رواه أحمد والنسائي وإسناده صحيح(1).
... ... ... * ... ... * ... ... *
في هذا الحديث بشارة لعباد الله الصالحين بقدوم شهر رمضان المبارك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر الصحابة – رضي الله عنهم – بقدومه، وليس هذا إخباراً مجرداً بل معناه بشارتهم بموسم عظيم، يقدره حقّ قدره الصالحون المشمرون، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بين فيه ما هيأ الله لعباده من أسباب المغفرة والرضوان وهي أسباب كثيرة، فمن فاتته المغفرة في رمضان فهو محروم غاية الحرمان.
... وإن من فضل الله تعالى ونعمه العظيمة على عباده، أن هيأ لهم المواسم الفاضلة لتكون مغنماً للطائعين، وميداناً لتنافس المتنافسين. وإن المواسم موضوعة لبلوغ الأمل بالاجتهاد في الطاعة ورفع الخلل والنقص بالاستدراك والتوبة (وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يتقرّب بها إليه، ولله لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات. فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات)(2).
وإن بلوغ رمضان نعمة عظيمة على من بلغه وقام بحقه. فقام ليله وصام نهاره، ورجع فيه إلى مولاه من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه.
__________
(1) رواه أحمد (9/225، 226 الفتح الرباني)، والنسائي (4/129) انظر: تحقيق أحمد شاكر للمسند رقم (7148) وصحيح الترغيب للألباني (1/ 490) وتمام المنة ص395.
(2) من كلام ابن رجب في اللطائف ص8.(1/8)
وإن واجب المسلم استشعار هذه النعمة، ومعرفة قدرها، فإن كثيراً من الناس حرموا الصيام إما بموتهم قبل بلوغه، أو بعجزهم عنه، أو بضلالهم وإعراضهم عنه، فليحمد الصائم ربه على هذه النعمة، ويستقبل شهره بالفرح والاغتباط بموسم عظيم من مواسم الطاعة، وأن يجتهد في أعمال الخير، وأن يدعوا الله تعالى أن يرزقه صيامه وقيامه، وأن يرزقه فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأن يوقظه من رقدة الغفلة ليغتنم مواسم الطاعات والخيرات.
ومن الملاحظ أن الإنسان يعان على الطاعات في رمضان، فعليه أن يشكر ربه ويستفيد من وقته. ومما يؤسف عليه أن كثيراً من الناس لا يعرفون لمواسم الخيرات قيمة. ولا يرون لها حرمة، فلم يكن شهر رمضان موسم طاعةٍ وعبادة وتلاوة قرآن وصدقة وذكر الله تعالى. بل كان عند بعض الناس موسماً لتنويع المآكل والمشارب. وإشغال ربات البيوت بصنوف الأطعمة، وبعض الناس لا يعرفون رمضان إلا أنه شهر السهر بالليل، والنوم بالنهار، حتى إن منهم من ينام عن الصلوات المفروضة فلا يصلي مع الجماعة، بل ولا في وقت الصلاة. وفئة من الناس لا يعرفون رمضان إلا أنه موسم من مواسم الدنيا، لا من مواسم الآخرة. فينشطون فيه على البيع والشراء، ويلازمون الأسواق ويهجرون المساجد. وإن صلوا مع الناس فهم على عجل، وهكذا تغيرت المفاهيم، وفسدت الموازين، فالله المستعان، يقول بعض السلف: (إن الله تعالى جعل شهر رمضان مضماراً(1) لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته. فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا)(2).
__________
(1) قال في القاموس: (المضمار: الوضع تضمّر فيه الخيل، وغاية الفرس في السباق) أ هـ "ترتيب القاموس (3/37)".
(2) لطائف المعارف ص246.(1/9)
وما يدري الإنسان فلعل هذا الشهر هو آخر رمضان في عمره. فكم صام معنا العام الماضي من الرجال والنساء والشباب؟ وهم الآن تحت أطباق الثرى، مرتهنون بأعمالهم، وقد أمّلوا صيام رمضانات عديدة، ونحن على دربهم سائرون، فعلى المسلم أن يفرح بمواسم الطاعة. ولا يفرط فيها. بل يشتغل بما يدوم نفعه. ويبقى أثره. وما هي إلا أيام معدودات تصام تباعاً. وتنقضي سراعاً.
اللهم أجعل التقوى لنا أربح بضاعة، ولا تجعلنا من أهل التفريط والإضاعة، وآمن خوفنا يوم تقوم الساعة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله ومسلم على نبينا محمد . . .
الفصل الثاني
في وجوب صيام رمضان ومقوماته
الحديث الأول: في وجوب الصيام وشيء من حكمه
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان"(1) [رواه البخاري ومسلم].
* ... ... * ... ... *
في الحديث دليل على وجوب صوم رمضان، وأنه من أركان الإسلام ومبانيه العظام، فرضه الله تعالى على عباده لحكم عظيمة، وأسرار باهرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
1) فمن حكم الصيام وأسراره أنه عبادة لله تعالى يتقرب العبد فيها إلى ربه بترك ما يحب ويشتهي، طاعة لربه، وامتثالاً لأمره، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وكمال عبوديته لله، وقوة محبته له. ورجائه ما عنده، لأنه علم أن رضا مولاه في ترك شهواته، فقدّم رضا مولاه على هواه، ولهذا كان كثير من المؤمنين لو ضرب أو حبس على أن يفطر يوماً من رمضان بلا عذر لم يفعل.
__________
(1) رواه البخاري (1/49) ومسلم 16.(1/10)
2) ومن حكم الصيام أنه سبب التقوى، وتزكية النفس، بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } (1) والتقوى جماع خيري الدنيا والآخرة، وكلُّ ثمرة من ثمار الصيام فهي ناشئة عن التقوى.
3) ومن حكم الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتضييق مجاري الشيطان من العبد، بتضييق الطعام والشراب، فيضعف نفوذ الشيطان، وتقل المعاصي.
4) ومن حكم الصيام أن القلب يصفو، ويتخلى للفكر والذكر، لأن تناول الشهوات يقسّي القلب، ويعمي عن الحق، والصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها وقوتها.
5) ومن حكم الصيام معرفة نعمة الله على العبد بالشبع والرّي إذا تذكر بالصيام الأكباد الجائعة من الفقراء والمساكين، فيشكر ربّه ويحسُّ بآلام إخوانه المعدمين. والنعم لا يعرف قدرها إلا بفقدها.
6) ومن حكم الصيام ما يترتب عليه من الفوائد الصحية، التي تحصل بتقليل الطعام. وحفظ صحة البدن بترتيب أوقات الوجبات، وإراحة جهاز الهضم مدة معينة.
وبالجملة فحكم الصيام عظيمة. وفوائده كثيرة، وقد رتب الله عليه من جزيل الثواب وعظيم الأجر. ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحاً وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان. .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 183.(1/11)
وقد دلت النصوص على أن من أدى الواجبات والفرائض وترك المحرمات، فهو من أهل الجنة، لما ورد عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يارسول الله: أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً"فقال : أخبرني بما فرض الله عليّ من الصيام . فقال :شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً . فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة. قال فأخبروه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام. قال: والذي بعثك بالحق لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفلح إن صدق. أو دخل الجنة إن صدق"(1).
فالحمد لله الذي شرع العمل ووفق للقيام به ورتب عليه الأجر، هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم وفقنا لاتباع الهدى، وجنّبنا أسباب الهلاك والشقاء. وأرزقنا الفقه في الدين، والوفاة على سنّة خاتم النبيين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: في الصيام شرعاً
عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلُّ عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها على سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي . . الحديث"(2) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... * ... ...
الحديث دلّ على معنى الصيام الشرعي، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة تعبداً لله تعالى، واستجابة لأمره، ومسارعة لرضاه؛ لقوله: "من أجلي" وفي رواية: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"(3).
__________
(1) رواه البخاري (1/106)، ومسلم 11.
(2) البخاري (4/103)، ومسلم (1151) (164)، واللفظ له من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم أيضاً (165) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(3) فتح الباري (4/103).(1/12)
والمراد بالشهوة: الجماع. لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن المراد جميع الشهوات، فيكون من عطف العام على الخاص. وعند ابن خزيمة بإسناد صحيح: "يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي"(1).
وقد دل القرآن الكريم على زمان الصيام في قوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } (2).
فأباح الله تعالى الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل. وهذا معناه ترك الأكل والشرب في هذا الوقت، وهو ما بين طلوع الفجر والليل.
والمراد بالأكل والشرب: إيصال الطعام أو الشراب من طريق الفم أو الأنف أيّاً كان نوع المأكول أو المشروب، والسعوط في الأنف(3) كالأكل والشراب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً"(4).
ويلحق بالأكل والشرب ما في معناهما، فيفطر به، وذلك كالإبر المغذية التي يكتفي بها عن الأكل والشرب مثل الجلوكوز وغيرها(5).
وأما حقن الدم في الصائم مثل أن يصاب بنزيف فيحقن به دم، فمن أهل العلم من قال: يفطر بذلك، لأن الدم هو خلاصة الطعام والشراب، ومنهم من قال: لا يفطر بحقن الدم؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، والغالب أن من يحتاج إلى الإبر المغذية أو إلى حقن الدم أنه مريض يباح له الفطر.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (3/197).
(2) سورة البقرة، الآية: 187.
(3) السعوط: بفتح أوله وضم ثانيه ما يستنشق في الأنف من الأدوية وغيرها.
(4) أخرجه الترمذي (3/499)، وأبو داود (6/493) والنسائي (1/66)، وابن ماجة (1/142، 153)، وغيرهم وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5) الشرح الممتع (6/380) وانظر: مسائل عن الصيام. أجاب عليها الشيخ محمد بن عثيمين ص21.(1/13)
أما الإبر المكافحة للمرض التي تستعمل علاجاً فلا تفطر الصائم سواء كانت في الوريد أو العضل، لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، فإن أخرها الصائم إلى الليل فهو أحوط؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فمن أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"(2) ولا يفطر الصائم باستعمال دواء الرّبو وضيق التنفس، وهو الغاز البخاخ، لأنه لا يصل إلى المعدة بل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية، فليس أكلاً ولا شراباً. ولا يفطر بالكحل والقطرة في العين، سواء وجد طعم ذلك في حلقه أم لم يجد. قال الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: (ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأساً)(3)؛ ولأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ولا بمعناهما. وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في رسالته النافعة (حقيقة الصيام) وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه القيم (زاد الميعاد).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإذا كانت الأحكام التي تعمُّ بها البلوى، لابد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولابد أن تنقل الأمة ذلك، فملعوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب.
__________
(1) أخرجه الترمذي (7/221) وقال: هذا حديث صحيح، والنسائي (8/327)، وأحمد (1/200) وغيرهم.
(2) أخرجه البخاري (1/126)، ومسلم (1599).
(3) فتح الباري (4/153). الشرح الممتع (6/382).(1/14)
فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك، علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن ويدخل على داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة. فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخره وادّهانه وكذلك اكتحاله)(1).
أما قطرة الأنف فإنها تفطر إذا وصلت إلى المعدة أو الحلق؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ولحديث لقيط المتقدم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
اللهم فقهنا في ديننا، وارزقنا العمل به والاستقامة عليه، ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: النية في الصيام
... عن حفصة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"(2) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح، ومعنى (من لم يجمع) أي: من لم يعزم ولم ينو.
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (25/241، 242)، وانظر زاد المعاد (2/60).
(2) رواه أبو داود (7/122)، وابن خزيمة (1933)، والبيهقي (4/202)، وأخرجه النسائي (4/196) والترمذي (3/426) من طريق أخرى، والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وليس فيه علة قادحة إلا ما قيل في الاختلاف في الرفع والوقف، قال النووي: (روى هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً قال: وإسناده صحيح في كثير من الطرق، فيعتمد عليه، فإن الثقة الواصل له مرفوعاً معه زيادة علم فيجب قبولها) شرح المهذب (6/489).(1/15)
الحديث دليل على أن الصيام لابد له من نية. كسائر العبادات. وهذا أمر مجمع عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها كالصلاة والصيام والحج لا تصح إلا بنية)(1)؛ لأن الصيام ترك مختص بزمن معلوم. ولأن الإمساك قد يكون لمنفعة بدنية فاحتاج الصيام إلى نية. قال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } (2).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى"(3).
والنية محلها القلب. فمن خطر بباله أنه صائم غداً فقد نوى. وتصح النية في أي جزء من أجزاء الليل؛ لقوله (قبل الفجر) والقبلية تصدق على كل جزء من أجزاء الليل، ومن دلائل النية قيام الصائم للسحور وتهيئته له وإن لم يقم، فالنية حاضرة وقائمة لدى كل مسلم معتاد على الصوم، فمن أكل أو شرب بنية الصوم فقد أتى بالنية.
وتبييت النية قبل طلوع الفجر مخصوص بصيام الفريضة على أحد القولين؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني إذن صائم . . الحديث)(4). فدل طلبه - صلى الله عليه وسلم - للأكل على أنه لم يكن نوى الصيام قبل ذلك. ودل قوله: "فإني إذن صائم" على ابتداء النية من النهار.
وثبت مثل ذلك من فعل الصحابة – رضوان الله عليهم – كأبي هريرة وابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبي طلحة وأبي الدرداء(5).
__________
(1) شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) ص19 لابن تيمية.
(2) سورة البينة، الآية: 5.
(3) رواه البخاري (1/9)، ومسلم 1907.
(4) رواه مسلم (1154).
(5) انظر فتح الباري (4/104) وتغليق التعليق (3/144).(1/16)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما النفل فيجزي بنية من النهار، كما دل عليه قوله:"إني إذن صائم " والتطوع أوسع من الفرض ، كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعاً من الله على عباده طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائماً أوسع من أنواع المفروضات . . . وهذا أوسط الأقوال)(1).
فإذا نوى صيام النفل من النهار صح ذلك. لكن لا يحكم له بالصيام الشرعي المثاب عليه إلا من وقت النية؛ لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة فلا يقع عبادة، وشرط ذلك ألا يكون أتى بمفطر بعد الفجر وقبل النية، فإن أتى بمفطر لم يصح صيام ذلك اليوم بلا خلاف.
وممن يحتاج إلى نية الصيام من كان له عذر يبيح له الفطر كالمريض والمسافر، فيصوم حيناً ويفطر حيناً. فإذا صام يحتاج إلى تجديد النية، ليتميز يوم صومه عن يوم فطره، وكذلك يحتاج إلى النية من أراد أن يصوم قضاء رمضان، أو يصوم عن نذر أو كفارة، والله أعلم.
اللهم اجعل عملنا صالحاً، ولوجهك خالصاً، ووفقنا لما تحب وترضى، واحشرنا في زمرة المتقين، وألحقنا بعبادك الصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل الثالث: فضائل الصيام وخصائص رمضان
الحديث الأول: في شيء من فضائل الصيام
__________
(1) مجموع الفتاوى (25/120).(1/17)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به – يدع شهوته وطعامه من أجلي. وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف(1) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(2) [رواه البخاري ومسلم].
الحديث دليل على فضل الصيام، وعظيم منزلته عند الله تعالى. وقد جاء في هذا الحديث أربع من فضائله الكثيرة.
الأولى: أن الصائمين يوَفّون أجورهم بغير حساب، فإن الأعمال كلّها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة؛ لأن الصيام من الصبر. وقد قال الله تعالى: { إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب } (3).
قال الأوزاعي – رحمه الله -: (ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفاً)(4).
الثانية: أن الله تعالى أضاف الصوم إلى نفسه من بين سائر الأعمال، وكفى بهذه الإضافة شرفاً، وهذا – والله أعلم – لكونه يستوعب النهار كله. فيجد الصائم فقد شهوته، وتتوق نفسه إليها، وهذا لا يوجد بهذه المدة في غير الصيام، لا سيما في نهار الصيف لطوله وشدة حره، وترك الإنسان ما يشتهيه لله تعالى هو عبادة مقصودة يثاب عليها؛ ولأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فهو عمل باطن لا يراه الخلق ولا يدخله رياء.
__________
(1) الخلوف: بضم الخاء المعجمة، هو التغير في الفم، من باب (قعد). قال عياض: قيدناه عن المتقنين بالضم، وأكثر المحدثين يفتحون الخاء، وهو غلط، وقد عده الخطابي في (غلطات المحدثين) فانظره ص44، وفتح الباري (4/105).
(2) تقدم تخريجه ص(12).
(3) سورة الزمر، الآية: 10.
(4) تفسير ابن كثير (7/80).(1/18)
الثالثة: أن الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه، وذلك لما يراه من جزائه وثوابه، وترتّب الجزاء عليه بقبول صومه الذي وفقه الله له.
وأما فرحته عند فطره، فلتمام عبادته، وسلامتها من المفسدات وحصول ما منع منه مما يوافق طبيعته. وهذا من الفرح المحمود؛ لأنه فرح بطاعة الله وتمام الصوم الموعود عليه الثواب الجزيل، كما قال الله تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } (1).
الرابعة: أن رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وهذا الطيب يكون يوم القيامة؛ لأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال؛ لرواية: (أطيب عند الله يوم القيامة)(2).
كما يكون ذلك في الدنيا لأنه وقت ظهور أثر العبادة؛ لرواية "ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك"(3). وهذه الرائحة وإن كانت مكروهة في مشامّ الناس في الدنيا لكنها أطيب عند الله من ريح المسك، لكونها ناشئة عن طاعة الله تعالى.
قال ابن حبان رحمه الله. (شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقاً بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طيب خلوفهم أطيب عند الله من ريح المسك؛ ليعرفوا بين ذلك الجمع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم)(4).
__________
(1) سورة يونس، الآية: 58.
(2) الرواية لمسلم رقم (1151) (163).
(3) هي عند ابن حبان (8/211) بإسناد صحيح، وكذا عند أحمد كما قاله في فتح الباري (4/106).
(4) صحيح ابن حبان (8/211).(1/19)
ومن فضائل الصيام أن الله تعالى اختص الصائمين بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم إكراماً لهم، فقد روى سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في الجنة باباً يقال له الريّان. يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد [ومن دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً])(1).
لكن هذه الفضائل لا تكون إلا لمن صام مخلصاً لله تعالى عن الطعام والشراب والنكاح. وصام عن السماع المحرم، والنظر المحرم والكسب المحرم. فصامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور. فهذا هو الصوم المشروع المرتب عليه الثواب العظيم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ربّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش. وربّ قائم حظه من قيامه السهر"(3).
اللهم احفظ لنا صيامنا، واجعله شافعاً لنا. واعنّا فيه على طاعتك، وجنبنا طرق معصيتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: في شيء من خصائص رمضان
__________
(1) أخرجه البخاري (4/111)، ومسلم 1152) والزيادة لابن خزيمة في صحيحه (1903).
(2) سيأتي تخريجه إن شاء الله، وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على معناه في منهاج السنة (5/197، 198) – وسأنقل طرفاً منه فيما سيأتي إن شاء الله.
(3) رواه أحمد (10/76)، وابن ماجة (1/539) وغيرهما - قال البوصيري في الزوائد (2/18) هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.(1/20)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة. وغلِّقت أبواب النار، وصفَّدت الشياطين" [رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "فتحت أبواب الرحمة"](1).
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل شهر رمضان. وعظم خصائصه. فإن الله تعالى فضّله على سائر الشهور. واختصه بما لا يوجد في غيره مما يكون داعياً إلى العمل الصالح والبر والإحسان.
ففي هذا الشهر الكريم تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار. وذلك – والله أعلم – لكثرة الخير في رمضان وزيادة الإقبال على أسباب المغفرة والرضوان، فيقل الشر في الأرض. حيث تصفّد مردة الشياطين بالسلاسل والأغلال والأصفاد، لانشغال المسلمين بالصيام وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى، وكلّ فعل من أفعال البر وكلّ قول من أقوال الخير. يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله: (وإنما تفتّح أبواب الجنة ليعظم الرجاء، وتتعلق بها الهمم، ويتشوّق إليها الصابر، وتغلّق أبواب النار، لتجزي الشياطين، وتقلّّ المعاصي، ويصدّ بالحسنات في وجوه السيئات فتذهب سبيل النار)(2).
وهذا يفسر لنا السرّ في أوبة كثير من العصاة وتوبتهم إلى الله تعالى وحرصهم على الطاعة، وحضورهم المساجد في هذا الشهر الفضيل.
__________
(1) البخاري (4/112)، ومسلم (1079).
(2) عارضة الأحوذي (3/198)، وقوله (لتجزي) هكذا في المطبوع، وقد تكون (لتَخْزَي) والله اعلم.(1/21)
والشيطان المصفّد قد يؤذي لكن هذا أقل وأضعف مما قد يكون في غير رمضان. وهو بحسب كمال الصوم ونقصه. فمن كان صومه كاملاً قد حافظ على شروط الصوم وآدابه، دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه الصوم الناقص. على أنه لا يلزم من تصفيدهم أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن هناك أسباباً أخرى غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة وشياطين الإنس، أو أن المراد بالمصفدين (مردة الشياطين) كما في الحديث الآتي، فيبقى تأثير من ليس بمارد. والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الخصائص لتزيد من نشاط المسلم وإقباله على الطاعة، فقد هيئت له أسباب المغفرة ودخول الجنة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"(1).
وفتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار يتم في أول ليلة من شهر رمضان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتّحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب. وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقّصر. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"(2).
وهذا النداء غير مسموع للآدميين وإنما أخبروا به ليعلموا رحمة الله تعالى ولطفه بهم، وأنهم غير مغفول عنهم ولا مهملين.
__________
(1) تقدم تخريجه ص(8).
(2) رواه الترمذي (3/66) وابن ماجة (11642) وابن خزيمة (3/188) وإسناده حسن.(1/22)
فعلى المسلم أن يجيب هذا النداء مسارعاً إلى فعل الخيرات وأنواع الطاعات، منظماً وقته، مستفيداً من مواسم الطاعة. وعليه أن يحذر كل الحذر من السهر ليالي رمضان ليكون نشيطاً في النهار. فإن السهر إذا نهي عنه في غير رمضان فهو في رمضان أشدّ. ولا سيما السهر على آلات اللهو والطرب. أو في المجالس الخاوية التي ضررها أكثر من نفعها.
إن أوقات رمضان من مواسم العمر، والسعيد من تزود فيها. فالليل في صلاة ودعاء، والنهار في صوم وتلاوة وصدقة وصلة وطلب علم وعمل فاضل، وقد ورد عن جابر سمرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً(1).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامةٍ، تامةٍ، تامةٍ"(2).
وإذا كان المسلم مأموراً بأن يقصر عن الشر في رمضان، فما بال أناس إذا دخل رمضان ازدادوا من الله بعداً. فنهارهم في نوم عن الصلوات، وليلهم في سهر على معصية الله تعالى، إنها الغفلة والإعراض عن الرحمات، والنفحات الإلهية.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، ووفقنا للاستعداد قبل النقلة، وألهمنا اغتنام الزمان وقت المهلة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: الصوم مغفرة للذنوب
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(3) [رواه البخاري ومسلم].
__________
(1) أخرجه مسلم رقم 670.
(2) أخرجه الترمذي (3/193) وهو حديث حسن، له شواهد كثيرة، ذكر بعضها الشارح المباركفوري، وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري (1/294).
(3) البخاري (1/92)، ومسلم (759)، وقوله: (من ذنبه) ظاهره غفران الصغائر والكبائر، وفضل الله واسع، لكن المشهور من مذاهب العلماء أن المراد الصغائر كما سيأتي.(1/23)
... ... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل صوم رمضان وعظيم أثره حيث كان من أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات. وعنه – أيضاً – رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(1).
وقد ورد أن الصيام وكذا الصلاة والصدقة كفارة لفتنة الرجل في أهله وماله وجاره، فعن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة"(2).
وقد دلت النصوص على أن المغفرة الموعود بها مشروطة بأمور ثلاثة:
الأول: أن يصوم رمضان إيماناً أي: إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بفرضية الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر.
الثاني: أن يصومه احتساباً أي: طلباً للأجر والثواب. بأن يصومه إخلاصاً لوجه الله تعالى، لا رياء ولا تقليداً ولا تجلداً لئلا يخالف الناس، أو غير ذلك من المقاصد، يصومه طيبة به نفسه غير كاره لصيامه، ولا مستثقل لأيامه. بل يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.
الثالث: أن يجتنب الكبائر. وهي جمع كبيرة. وهي كل ذنب رتّب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو رتب عليه غضب ونحوه، وذلك كالإشراك بالله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والزنا، والسحر، والقتل، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، واليمين الغموس(3)، والغش في البيع، وسائر المعاملات، وغير ذلك. قال الله تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } (4).
__________
(1) رواه مسلم (233).
(2) رواه البخاري (4/110)، ومسلم (144)، وانظر: لشرحه فتح الباري (6/605).
(3) اليمين الغموس: هي اليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال امرئ مسلم سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم في النار.
(4) سورة النساء، الآية: 31.(1/24)
فإذا صام العبد رمضان كما ينبغي، غفر الله له بصيامه الصغائر والخطيئات التي اقترفها، إذا اجتنب كبائر الذنوب، وتاب مما وقع فيه منها.
وقد أفاد الحديث الثاني أن كلّ نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة، وعاشوراء وغيرها. أن المراد به الصغائر؛ لأن هذه العبادات العظيمة وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تكفّر بها الكبائر، فكيف بما دونها من الأعمال الصالحة؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر لا تكفّرها الأعمال الصالحة، بل لابد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد. والله أعلم.
فعلى المسلم أن يبادر بالتوبة في هذا الشهر الفضيل من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، عسى الله أن يتوب عليه، ويغفر ذنبه. ومن لوّث حياته بالمعاصي والآثام في سمعه أو بصره أو لسانه أو جوراحه فقد أضاع على نفسه في هذا الشهر فرصة التطهير ومغفرة الذنوب. فلم يستحق المغفرة الموعود بها، بل ربما أصابه ما دعا به جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، وأمّن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يروي لنا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. قيل: يا رسول الله: إنك صعدت المنبر فقلت آمين، آمين، آمين فقال: "إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قل آمين فقلت آمين . . . الحديث"(1).
__________
(1) رواه أحمد (2/246، 254)، وابن خزيمة (3/192)، والبيهقي (4/204) من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، وأصله عند مسلم رقم (2551)، والحديث مروي عن عدد من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وجابر بن سمرة، ومالك بن الحويرث، وغيرهم رضي الله عنهم.(1/25)
فعلى الصائم أن يحرص على أسباب المغفرة والرضوان بالحفاظ على الصيام والقيام وأداء الواجبات. وأن يبتعد عن أسباب الطرد والحرمان من المعاصي والآثام في رمضان وبعد رمضان؛ ليكون من الفائزين.
وإن من علامة ذلك الاستفادة من أوقات رمضان بالطاعة تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن القيم رحمه الله: (وكان من هدية - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات. . وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان. يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة. . )(1).
اللهم اغفر لنا جميع الزّلات. واستر علينا كل الخطيئات، وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، واغفر ذنوبنا وآثامنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل الرابع
أبرز الشعائر التعبدية في رمضان
الحديث الأول: في قيام رمضان
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . ."(2). [رواه البخاري، ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل قيام رمضان. وأنه من أسباب مغفرة الذنوب. ومن صلى التراويح كما ينبغي فقد قام رمضان. والمغفرة مشروطة بقوله: "إيماناً واحتساباً" ومعنى "إيماناً" أي: أنه حال قيامه مؤمناً بالله تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومصدقاً بوعد الله، وبفضل القيام، وعظيم أجره عند الله تعالى.
"واحتساباً" أي: محتسباً الثواب عند الله تعالى لا بقصد آخر من رياء ونحوه.
__________
(1) زاد المعاد (2/32).
(2) البخاري (4/250)، ومسلم (759).(1/26)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة. ثم يقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(1).
فعلى المسلم أن يحرص على صلاة التراويح مع الإمام ولا يفرط في شيء منها. ولا ينصرف قبل إمامه. ولو زاد على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"(2). وما هي إلا ليالٍ معدودة يغتنمها العاقل قبل فواتها.
قال أبو داود: (قيل لأحمد وأنا اسمع: يؤخر القيام، يعني التراويح على آخر الليل؟ قال: لا، سنة المسلمين أحبّ إليّ)(3).
وإذا رغب الإنسان أن يصلي ما كتب له وقت السحر، فإنه لا يوتر في آخر صلاته مرة أخرى، بل يكتفي بوتره مع إمامه في صلاة التراويح أول الليل، لما ورد في حديث طلق بن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا وتران في ليلة"(4).
وأما حديث ابن عمر، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً"(5) فهو محمول على من صلى في آخر الليل ولم يوتر في أوله. والأمر فيه محمول على الندب وليس على الإيجاب.
فلا يلزم ختم صلاة آخر الليل بالوتر. بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد وتره في آخر الليل(6).
__________
(1) رواه مسلم (759)، وعند البخاري المرفوع منه فقط، وهو قوله (من قام . . .إلخ).
(2) رواه أبو داود (4/248)، والترمذي (3/520)، والنسائي (3/203)، وابن ماجة (1/420)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص62.
(4) رواه أبو داود (4/314)، والترمذي (2/574)، والنسائي (3/229)، وأحمد (4/23)، والحديث صحيح.
(5) أخرجه البخاري (998)، ومسلم (751) (151).
(6) أخرجه ابن خزيمة وغيره بإسناد صحيح (صحيح أبن خزيمة (2/159).(1/27)
قال أبو داود: قلت لأحمد: ينقض الوتر؟ قال: لا. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول فيمن أوتر في أول الليل ثم قام يصلي؟؟ قال: يصلي ركعتين. قيل: وليس عليه وتر؟ قال: لا. قال: وسمعته سئل عمن أوتر يصلي بعدها مثنى؟ قال: نعم. ولكن يكون بعد الوتر ضجعة)(1) أ هـ.
وينبغي للإمام في صلاة التراويح أن يعنى بصلاته، فيصلي صلاة الخاشعين يرتل القراءة، ويطمئن في الركوع والسجود، ويحذر من العجلة لئلا يخلّ بالطمأنينة. ويتعب من خلفه من الضعفاء وكبار السن، والمرضى. يقول السائب بن يزيد: (أمر عمر بن الخطاب أبّي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى نعتمد على العصيي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر)(2).
وإذا سلّم المصلي من الوتر قال: (سبحان الملك القدوس) ثلاثاً، يمد بها صوته ويرفع في الثالثة. لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3).
ولا بأس بحضور النساء صلاة التراويح إذا أمنت الفتنة، وخرجن محتشمات غير متبرجات بثياب زينة ولا طيب. وصلين بخشوع وخضوع. منزهات بيوت الله تعالى عن اللغو ورديّ الكلام، من غيبة أو نميمة أو نحوهما، لعلّهن أن يسلمن من الإثم. ويحظين بثواب الله تعالى.
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال، وذكّرنا قرب الرحيل ودنّو الآجال، وثبت قلوبنا على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
__________
(1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص65.
(2) رواه مالك في الموطأ (1/115) وسنده صحيح، والسائب بن يزيد صحابي صغير، وفروع جمع فرع وهو أعلى الشيء، يعني بذلك أنهم لا يقضون صلاتهم لطول القيام إلا قرب الفجر، انظر: جامع الأصول (6/123)، والمنتقى للباجي (1/209).
(3) أخرجه أبو داود (4/308) والنسائي (3/224) وابن ماجة (1171)، وأحمد (5/123)، وغيرهم وهو حديث صحيح.(1/28)
الحديث الثاني: في فضل تلاوة القرآن
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه"(1) [رواه مسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل تلاوة القرآن، وعظيم ثوابه وأنه شفيع لأصحابه يوم القيامة في دخول الجنة.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد. قال: كأنهما غمامتان، أو ظلمتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف. تحاجّان عن صاحبهما"(2).
__________
(1) صحيح مسلم (804)، وهو مطلع حديث.
(2) أخرجه مسلم (804، وقوله: (شرق): بفتح الراء وإسكانها وهو أشهر أي: ضياء ونور، والحزقان: بكسر الحاء المهملة وإسكان الزاي واحدهما حزق أي: جماعة، والمعنى: قطيعان أو جماعتان من الطير وفي رواية عند مسلم: (فرقان) والمعنى واحد.(1/29)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي: ربّ منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال فيشفعان"(1)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ حرفاً من كتاب الله. فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول: (آلم) حرف، ولكن (ألف) حرف (ولام) حرف، و(ميم) حرف"(2).
فينبغي للصائم أن يكثر من تلاوة القرآن في هذه الأيام المباركة والليالي الشريفة، فإن لكثرة القراءة في رمضان مزية خاصة ليست لغيره من الشهور، ليغتنم شرف الزمان في هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقراءة القرآن في ليالي رمضان لها مزية، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع الهمم ويتواطأ القلب واللسان على التدبر، والله المستعان.
__________
(1) أخرجه أحمد (6626)، والحاكم (1/544)، وأبو نعيم (8/161)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/181) بعد أن زاد نسبته للطبراني في "الكبير": (ورجاله رجال الصحيح)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3776)، وضعفه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند (11/199)، وقوله (فيشفعان) بضم أوله، وتشديد الفاء أي: يشفعهما الله فيه. بمعنى: يقبل شفاعتهما ويدخله الجنة. وهذا الكلام منهما على حقيقته. والله على كل شيء قدير.
(2) أخرجه الترمذي (2912) وقال حديث حسن صحيح وقد جاء هذا الحديث من عدة طرق بعضها موقوف وبعضها مرفوع. انظر: الصحيحة للألباني رقم (660).(1/30)
وقد ثبت أن جبريل كان يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن(1). ولو كان الذكر أفضل من القرآن أو مساوياً له لفعلا دائماً أو في بعض الأوقات مع تكرار اجتماعهما، وقد أفادنا هذا الحديث استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له(2).
وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان وكانوا إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً. وكانوا يقرأون القرآن في الصلاة وغيرها.
كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة. وكان بعض السلف يختمه في قيام رمضان في كل ثلاث ليال. وبعضهم في كل سبع وبعضهم في كل عشر.
كان الأسود بن يزيد النخعي يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان. وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع دائماً، وفي رمضان كلّ ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة. وأخبارهم في ذلك مشهورة.
قال الحافظ بن رجب رحمه الله: (إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث على المداومة على ذلك. فأما الأوقات المفضلة كشهر رمضان، وخصوصاً الليالي التي تطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها تلاوة القرآن؛ اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره)(3).
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، ودليلنا إليك وإلى جنات النعيم، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا الإكثار من تلاوته على ما تحب وترضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في آداب تلاوة القرآن
__________
(1) رواه البخاري (1/30)، ومسلم (3308).
(2) اللطائف ص199.
(3) لطائف المعارف (201، 202).(1/31)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقال لصاحب القرآن اقرأ، وارق، ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"(1) [أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي] وإسناده حسن.
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أدب من آداب تلاوة القرآن. وهو ترتيله، وإعطاء كل حرف ما يستحق؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه يقال عند دخول الجنة، لصاحب القرآن الملازم له تلاوة وعملاً: اقرأ واصعد إلى درجات الجنة، ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها.
والترتيل يعين على تدبر القرآن، وتفهمه، وذلك من المقاصد المطلوبة، قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا لألباب } (2)، وقال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } (3).
فينبغي للقارئ أن يتأمل ما يقرأ وأن يعرف ما يطلب منه، فإن كان ما قصّر فيه اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظم، أو دعاء تضرّع وطلب.
أما السرعة المفرطة، أو هذّ القرآن كهذِّ الشعر. فإن لا يتأتى معه تدبر بحال، وقد يصل ذلك إلى التحريم إذا كان فيه إخلال باللفظ؛ لأنه تغيير للقرآن.
فإن كانت السرعة ليس فيها إخلال باللفظ بإسقاط بعض الحروف أو إدغام ما لا يصح إدغامه، فلا بأس بها؛ لأن من الناس من يسهل على لسانه لفظ القرآن.
__________
(1) أخرجه أحمد (11/403، 404)، وأبو داود (4/338 عون)، والنسائي في الكبرى (5/22) والترمذي (8/232 تحفة)، وقال حديث حسن صحيح، وصححه الذهبي [المستدرك 1/552]، وهو صحيح لغيره. وأما إسناده عند هؤلاء فحسن؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام، كما في التقريب.
(2) سورة ص، الآية: 29.
(3) سورة النساء، الآية: 82.(1/32)
ومن آداب التلاوة التي ينبغي أن يتحلى بها القارئ إخلاص النية لله تعالى، وأن يقرأ على طهارة؛ لأن ذلك من تعظيم كلام الله عز وجل.
ومن آداب التلاوة أن يستاك؛ لأن الفم طريق القرآن. وألا يقطع القراءة لمحادثة أحد، فإن من الناس من إذا جلس يقرأ وبجانبه إنسان، أكثر قطع القراءة ومحادثة جاره، وهذا لا ينبغي؛ لأنه إعراض عن القرآن بلا داع(1)
ومن آداب التلاوة أن يسجد القارئ إذا مرّ بأية سجدة، وهو على وضوء، في أي وقت كان من ليل أو نهار. فيكبر للسجود. ويقول: سبحان ربي الأعلى. ويدعو ثم يرفع من السجود بدون تكبير ولا سلام.
ومن آداب التلاوة ألا يجهر القارئ بحيث يتأذى بجهره من حوله من قارئ أو مصلّ أو نائم ونحوهم. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له فكشف الستر. وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً – ولا يرفعنّ بعضكم على بعض بالقراءة. أو قال: في الصلاة"(2).
اللهم اسلك بنا سبل أهل السعادة والتقى، وأعذنا من موجبات الخذلان والشقاء، وتقبل صيامنا وقيامنا، واغفر ذنوبنا وآثامنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وألحقنا بالصالحين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الرابع: في وجوب العمل بالقرآن
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "القرآن حجة لك أو عليك . . . الحديث"(3).
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) انظر: التذكار في أفضل الأذكار، للقرطبي ص(109).
(2) أخرجه أحمد (3/93)، وأبو داود (4/213 عون) قال الألباني (وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين)، انظر: الصحيحة (4/134).
(3) أخرجه مسلم بتمامه برقم (323).(1/33)
الحديث دليل على وجوب العمل بالقرآن، والتقيّد بأوامره ونواهيه، وأنه حجة لمن عمل به، واتبع ما فيه، وحجة على من لم يعمل به، ولم يتبع ما فيه.
قال بعض السلف: (ما جالس أحد القرآن فقام عنه سالماً، بل إما أن يربح، أو أن يخسر. ثم تلا قوله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } (1))(2).
إن الغاية الكبرى من إنزال القرآن، تصديق أخباره، والعمل به، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، ليس الغرض من إنزاله التلاوة اللفظية، وهي القراءة الصحيحة التي يكون القارئ فيها متحلياً بأجمل الصفات، وأشرف الخصال تعظيماً لله تعالى، وتأدباً مع كلامه، فإن هذا وإن كان مطلوباً لكن هناك تلاوة حكمية عليها مدار سعادة العبد وفلاحه إنها اتباع القرآن.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (أن لفظ التلاوة إذا أطلق في مثل قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته } (3) تناول العمل بالقرآن. كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله"(4).
وعن مجاهد رحمه الله أنه قال: (يتلونه حق تلاوته): يتبعونه حق اتباعه.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 82.
(2) جامع العلوم والحكم حديث (23).
(3) سورة البقرة، الآية: 121.
(4) انظر تفسير الطبري (2/567)، تحقيق محمود شاكر، تفسير ابن كثير (1/235)، مجموع الفتاوى (7/167).(1/34)
وعلى هذا درج السلف الصالح من هذه الأمة. فتعلموا القرآن، وصدقوا به، وعملوا به في كل شأن من شئون حياتهم، وقد أخرج ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهنّ)(1)، ومثله قال أبو عبد الرحمن السلمي، وهو من كبار التابعين، رحمه الله.
وقد ورد الثواب الجزيل لمن اتبع القرآن وعمل بما فيه، والعقاب العظيم لمن أعرض عنه. قال تعالى: { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوّ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا(125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } (2).
فعلى قارئ القرآن وحامله أن يتقي الله في نفسه، وأن يخلص في قراءته، ويعمل به، وأن يحذر من مخالفة القرآن، والإعراض عن أحكامه وآدابه. لئلا يلحقه من الذم ما لحق اليهود الذين قال الله فيهم: { مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } (3).
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا. واجعلنا يا إلهنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الخامس: في تفطير الصائم
__________
(1) تفسير الطبري (1/80) قال الشيخ أحمد شاكر: (هذا إسناد صحيح وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنه مرفوع معنى . . ).
(2) سورة طه، الآيات: 123 – 127.
(3) سورة الجمعة، الآية: 5.(1/35)
عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً"(1) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.وقال الترمذي: حديث حسن صحيح].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل تفطير الصائم، وأن في ذلك أجراً عظيماً وهو مثل أجر الصائم، وهذا – والله أعلم – لأنه صائم يستحق التعظيم، وإطعامه صدقة، وتعظيم للصوم، وصلة بأهل الطاعات. وهذا أمر اعتاده المسلمون لإدراكهم الثواب الجزيل المرتب على ذلك. فإن شهر رمضان شهر يوجد الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار. والله تعالى يرحم من عباده الرحماء.
وتفطير الصائم له طرق متعددة من إطعام الفقير ما يأكل، أو دفع مال يشتري به طعاماً. على أن ذلك غير خاص بالفقير.
وللجود في شهر رمضان شأن عظيم، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير. وكان أجود ما يكون في رمضان(2)، وذلك لشرف وقته ومضاعفة أجره، وإعانة الصائمين والعابدين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجورهم.
والجود سعة العطاء وكثرته، ويدخل فيه الصدقة وجميع أبواب البر والإحسان، ويستفاد من هذا الحديث الحث على الجود في كل وقت، والزيادة في رمضان.
فينبغي للإنسان أن يتأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فيبذل ويتصدق ليواسي الفقراء والمحتاجين، ويتفقد الجيران، ويصل ذوي الأرحام، ويساهم في مشاريع الخير.
ولعل مما يحرك داعي الإنفاق أن يتذكر الإنسان بالصوم نعم الله عليه، والنعمة لا تعرف إلا بفقدانها. فيشكر نعمة الله عليه حيث يسر له الحصول على ما يشتهي مما أباح الله له. ويتذكر إخوانه الفقراء الذين لا يتيسر لهم ما يحتاجون، فيجود عليهم بالصدقة والإحسان.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/114)، والترمذي (3/533)، وابن ماجة (1746).
(2) أخرجه البخاري (4/116)، ومسلم (3307).(1/36)
والجمع بين الصيام وإطعام الطعام أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم، إذا أضيف إلى ذلك قيام الليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل" ثم تلا: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } (1) . . . حتى بلغ { يعملون } "(2).
وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يحرصون على إطعام الطعام وتفطير الصائمين، ويقدمون ذلك على كثير من العبادات، سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخٍ صالح. ولهم أخبار مشهورة. قال بعض السلف: (لأن أدعو عشرة من أصحابي، فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحبُّ إليّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل).
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وأحمد بن حنبل وداود الطائي ومالك بن دينار رحمهم الله، وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروّحهم. منهم الحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، رحمهما الله.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (أُحِبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم)(3).
ومن طرق الصدقة في رمضان إعداد الطعام وتقديمه للأسر الفقيرة، أو الدعوة إليه، ومن رأى العدول عن ذلك إلى ما هو أنفع للفقير من دفع النقود أو الملابس أو الأطعمة التي ينتفع بها الفقير، ويستفيد منها بالتدريج فهذا أولى لأمرين:
الأول: أن مثل هذه الأطعمة المعدّة لا تسلم من الإسراف مع ما في إعدادها من المشقة على أهل البيت.
__________
(1) سورة السجدة، الآية: 16.
(2) رواه أحمد (5/231)، والترمذي (7/36)، وابن ماجة (2973)، وهو حديث صحيح بطرقه.
(3) معرفة السنن والآثار للبيهقي (6/382).(1/37)
الثاني: أن الحال تغيّر في زماننا، فلم يعد للطعام وقع كبير في نفوس الفقراء، كما كان في زمن مضى، فيبقى الكثير من هذا الطعام. فيضيع بدون فائدة. وإذا كان المقصود انتفاع المتصدّق ونفع الفقير، فليحرص على أحسن الطرق التي تحقق ذلك. والله لا يضيع أجر المحسنين.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألستنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحديث السادس: فضل العمرة في رمضان
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لامرأة من الأنصار يقال لها: أمُّ سنان: "ما منعك أن تكوني حججت معنا؟" قالت: ناضحان كان لأبي فلان (زوجها) حَجَّ هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر نسقي عليه. قال - صلى الله عليه وسلم - : "فعمرة في رمضان تقضي حجة، أو حجة معي". وفي لفظ آخر: "فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة"(1) [أخرجه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل العمرة في رمضان، وأنها تعدل ثواب حجة، وفي رواية لمسلم (حجة معي) أي: مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وليس هذا خاصاً بهذه المرأة، بل هو عام.
وهذا من فضل الله تعالى ونعمه على عباده. فقد صارت العمرة بمنزلة الحج في الثواب بانضمام رمضان إليها، وهذا يدل على أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت، كما يزيد بحضور القلب وخلوص القصد، والله تعالى منعم متفضل. يتفضل بما يشاء على من يشاء فيما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا رادّ لفضله.
__________
(1) أخرجه البخاري (3/603)، ومسلم (1256)، والناضح: البعير يستقى عليه الماء، ومعنى: "تقضي حجة" أي: تعدلها في الثواب، كما في الرواية الأخرى، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض.(1/38)
والعمرة تحصل بأداء مناسكها، ولو لم يمكث المعتمر بعدها في مكة، لكن من وفقه الله تعالى للبقاء بجوار بيته الحرام شهر رمضان، أو ما تيسر منه فقد منح نعمة عظيمة لا يقدرها قدرها إلا الصالحون المشمرون الذين يدركون قيمة الأوقات الشريفة والأماكن الفاضلة.
إن بقاء الإنسان بجوار بيت الله الحرام في هذه الأيام المباركة له أثر كبير في نشاط المسلم وعبادته وإقباله على الله تعالى. معرضاَ عن الدنيا بقلبه وقالبه، حافظاً لوقته، يسهل عليه فعل الطاعة من الصلاة والصدقة، والذكر وتلاوة القرآن.
وقد جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة إلا المسجد الحرام"(1).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"(2).
فعلى المسلم أن يستفيد من وقته، ويغتنمه في الأعمال الصالحة لشرف الزمان والمكان. وما هي إلا أيام معدوات تنقضي سريعاً. يربح فيها الممتثل المطيع. ويخسر فيها العاصي المضيع. وعليه أن يصلي التراويح خلف الإمام، ولا ينصرف قبله، ليكتب له قيام ليلة، كما تقدم أول الكتاب.
ومن صحب أهله فعليه أن يحفظهم ويتفقدهم. فإن من الناس من يهمل نساءه وأولاده من بنين وبنات، فهم في لهو ولعب من خروج للأسواق وتسكع في الطرقات، وإيذاء لعباد الله، وفي هذا فساد عريض. وهذا من ضعف القوامة، وغلبة النساء والأولاد، نسأل الله السلامة، ومثل هؤلاء الأولياء بلدهم خير لهم لو كانوا يعلمون.
__________
(1) رواه البخاري (3/63)، ومسلم (1394).
(2) أخرجه أحمد (3/343)، وابن ماجة (1406)، قال البوصيري في الزوائد (1/453): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (2/214).(1/39)
وعلى الإنسان أن يمنع نساءه من التطوع بالطواف طوال أيام الشهر رمضان، لما في ذلك من المحاذير العظيمة، بسبب الزحام طوال الأيام. بل إنني أنصح الرجل نفسه ألا يكثر من الطواف أوقات الزحام، بل يدع المجال لمن يطوف طواف النسك، وعليه أن يشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن وغير ذلك من أنواع الطاعة.
وعلى المرأة المسلمة أن تعلم أن صلاتها في منزلها أفضل من صلاتها في المسجد سواء في مكة أو في غيرها؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن"(1). وذلك لأن صلاتها في بيتها أستر لها وأبعد عن الفتنة ومزاحمة الرجال. وإذا أرادت الخروج لصلاة التراويح أو التهجد فعليها أن تكون محتشمة بعيدة عن كل ما يثير الفتنة من الطيب والزينة ، أو رفع الصوت ، ومزاحمة الرجال في الأبواب، وعلى وليّها منعها من ذلك، وأن ينتبه لمثل هذه الأمور التي يغفل عنها كثير من الناس.
اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا، واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الفصل الخامس
أحكام الصيام
الحديث الأول: حكم من أكل أو شرب ناسياً
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل أو شرب ناسياً فليتمّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه"(2). . [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) رواه مسلم رقم (442) عن ابن عمر – رضي الله عنهما – دون قوله: (وبويتهن . . .) فهي لأبي داود (2/274) من طريق آخر.
(2) البخاري (4/155)، ومسلم (1155).(1/40)
الحديث دليل على أن من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح لا نقص فيه، ولا إثم عليه، إذ لا قصد له في ذلك ولا إرادة، بل هو رزق ساقه الله إليه. ولهذا أضاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إطعامه وسقيه إلى الله تعالى، وقد جاء في رواية أخرى: (فإنما هو رزق ساقه الله إليه)، وما يكون مضافاً إلى الله تعالى لا يؤاخذ عليه العبد. لأنه إنما ينهى عن فعله. والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف، ولا فرق بين الأكل والشرب القليل والكثير لعموم الحديث.
وليس عليه قضاء؛ لأنه أمر بالإتمام، وسمّي الذي يتمّ صوماً. فدل على أنه صائم حقيقة. وصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً وكونه لا قضاء عليه أمر مجمع عليه. لولا خلاف الإمام مالك وابن أبي ليلى أن من أكل أو شرب ناسياً بطل صومه ولزمه القضاء، لأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم. فهو كمن نسي ركناً من أركان الصلاة. وقوله (فليتم صومه) أي: فليتم إمساكه عن المفطرات.
والصواب أنه لا قضاء عليه، والحديث حجة ظاهرة، ويؤيده ما ورد – أيضاً – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه"(1) فهذا نصّ صريح في صحة صومه وعدم قضائه له، وأما القياس على الصلاة فهو قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة نص.
__________
(1) رواه الدار قطني (2/178)، وقال: إسناده صحيح، وأخرجه ابن حبان (8/288) والحاكم (1/430)، وابن خزيمة (1990).(1/41)
ويقاس على الأكل والشرب بقية المفطرات، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة"(1). وتخصيص الأكل والشرب في الحديث باعتبار الغالب، والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهوماً فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه.
وهذا الحكم في الصائم فرد من أفراد القاعدة العظيمة العامة في قوله تعالى: { ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (2)، وقد صح في الحديث الشريف أن الله تعالى قال إجابة لهذا الدعاء: (قد فعلت). وفي رواية: (قال نعم)(3)، وهذا من لطف الله تعالى بعباده والتيسير عليهم ورفع الحرج والمشقة عنهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(4).
ومن رأى صائماً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً وجب عليه إعلامه وتذكيره؛ لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأكل والشرب في نهار رمضان منكر، والناسي معذور، فوجب إعلامه في الحال.
__________
(1) أخرجه ابن حبان (8/287)، والحاكم (1/430)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في البلوغ، انظر: سبل السلام (2/317)، وانظر: الإرواء (4/87).
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) رواه مسلم رقم (199، 200)، موقوفاً على ابن عباس، واللفظ الثاني على أبي هريرة، لكن له حكم المرفوع إذ لا يقال مثله بالرأي، والله أعلم، انظر الإرواء (1/124).
(4) أخرجه البيهقي (7/356) والدار قطني (4/170، 171)، والحاكم (2/198) وابن حبان (1498موارد) من رواية عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث صحيح له طرق وشواهد، ولذا حسنه النووي في الأربعين رقم (37)، وأقره الحافظ في التلخيص (1/301)، كما صححه أحمد شاكر في تعليقه على الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/713).(1/42)
ومن اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء إلى حلقه بلا قصد لم يفسد صومه. وكذا لو طار إلى حلقه ذباب أو غبار من طريق أو دقيق أو نحو ذلك بغير اختياره لم يفسد صومه؛ لعدم إمكان التحرز من ذلك؛ لأنه لا قصد له ولا إرادة، فهو كالناسي في ترك العمد وسلب الاختيار. قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: (باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً) ثم قال: وقال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك، وقال الحسن: إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه . . ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
اللهم وفقنا لما يرضيك، وجنبنا معاصيك، واجعلنا من عبادك الصالحين، وحزبك المفلحين، واعف عنا وتب علينا، واغفر لنا ولوالدينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: حكم جماع الصائم في نهار رمضان
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أتاه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟" قال لا. قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا. قال: "هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟" قال: لا. قال: " فاجلس"، فجلس، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر. قال: "فتصدق به". قال: ما بين لابتيها أحد أفقر منا. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه. قال: "خذه فأطعمه أهلك"(1) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على عظم الإثم في جماع الصائم في نهار رمضان؛ لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل على قوله (هلكت) أي: وقعت في الإثم بفعل ما حرّم عليّ فعله في الصوم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: قال: (احترقت)(2).
__________
(1) الحديث رواه البخاري في مواضع بألفاظ مختلفة منها (4/160)، ومسلم (1111).
(2) أخرجه مسلم برقم (1112).(1/43)
ودلّ على أن من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم أنه يبطل صومه، إذا كان متعمداً ذاكراً لصومه، ويجب عليه قضاء ذلك اليوم الذي أفسده بالجماع، مع التوبة النصوح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للمجامع: "وصم يوماً مكانه واستغفر الله"(1).
كما يجب عليه أغلظ الكفارات لما اقترف من الإثم، وهي على الترتيب: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. لكل مسكين مدّ بر(2) من النوع الجيد، ومقداره (563) جرماً. ويجزئ الرز وغيره من غالب قوت البلد.
فإن جامع ناسياً فإن صومه صحيح في أصح قولي أهل العلم، ولا قضاء عليه ولا كفارة. قال البخاري في صحيحه: (وقال الحسن ومجاهد إن جامع ناسياً فلا شيء عليه)(3).
وقال الشوكاني: (الجماع لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد. أما إذا وقع على النسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسياً)(4)
__________
(1) هذه الزيادة وقعت في أحد روايات الحديث وهي زيادة صحيحة، كما قال الحافظ ابن حجر، فانظر: فتح الباري (4/172) وانظر: النكت على ابن الصلاح (2/678 – 680).
(2) لما ورد في بعض الروايات في قصة المجامع (فأتي بعرق فيه خمسة عشر صاعاً) راجع فتح الباري (4/69).
(3) فتح الباري (4/155، 156)، وانظر تغليق التعليق (3/156، 157).
(4) الداري المضية (2/22).(1/44)
وكذا لو جامع وقت طلوع الفجر معتقداً بقاء الليل. ثم تبين له أن الفجر قد طلع، فلا قضاء عليه ولا كفارة على الراجح من أقوال أهل العلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا القول أصح الأقوال وأشبهها بأصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ، وهذا مخطئ، وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ومن فعل ما ندب إليه، وأبيح له، لم يفرط، فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم)(1).
هذا حكم الرجل، أما المرأة فإن صومها يفسد، وعليها القضاء، أما لكفارة فالأصح عند الشافعي ومذهب داود وأهل الظاهر ورواية عن أحمد أنها لا تجب عليها، وقد رجحه الإمام النووي، وما إليه ابن قدامة، إذ ليس في الحديث ما يدل على أن الكفارة تلزمها.
قال النووي: (والأصحّ – على الجملة – وجوب كفارة واحدة عليه خاصة عن نفسه فقط، وأنه لا شيء على المرأة، ولا يلاقيها الوجوب . . . )(2).
قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عمن أتى امرأته في رمضان عليها كفارة؟ قال: (ما سمعنا أن على المرأة كفارة)(3).
والقول الثاني أن الكفارة تلزمها إذا طاوعته وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وأحمد في أصح الروايتين، وقول للشافعي؛ لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجبت عليها الكفارة كالرجل. وبيان الحكم له بيان في حقها؛ لاشتراكهما في تحريم الفطر، وانتهاك حرمة الصوم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (25/264).
(2) المجموع شرح المهذب (6/339).
(3) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص92.(1/45)
وفي المسألة تفاصيل محلها الكتب المطولة والأظهر - والله أعلم – أن المرأة ليس علها كفارة. بل هي كفارة واحدة يتحملها الرجل وحده؛ لأن الإعرابي قال: "هلكت وأهلكت" – كما في رواية الدارقطني – فأمره - صلى الله عليه وسلم - بكفارة، ولم يأمر المرأة بشيء وهو فعل واحد، وليس هناك دليل يثبت كفارتين بفعل واحد(1)، والله أعلم.
وإن جامع في قضاء رمضان فسد صومه، وعليه القضاء مع التوبة ولا كفارة عليه؛ لأن الكفارة خاصة في جماع نهار رمضان، لأن له حرمة خاصة، فالفطر انتهاك لها. بخلاف القضاء فالأيام متساوية بالنسبة إليه(2).
اللهم أعذنا من أسباب المخالفة والعصيان، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرّنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: تعمد القيء يفسد الصيام
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض"(3) [رواه أبو
داود والترمذي وابن ماجة وأحمد، وسنده صحيح].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن الصائم إذا تقيأ مستدعياً للقيء فسد صومه، وعليه القضاء، قال ابن المنذر رحمه الله: (أجمعوا على إبطال صوم من استقاء عمداً)(4).
وأما ذرعه وخرج من غير اختياره، فصومه صحيح، ولا شيء عليه. قال الخطابي: (لا أعلم بين أهل العلم فيه
__________
(1) انظر فتح الباري (4/170) الإنصاف (3/313).
(2) الكافي (1/357) الدرر السنية (3/388).
(3) أخرجه أبو داود (7/6)، والترمذي (3/409)، وابن ماجة (1/536)، وأحمد (2/498)، والحاكم (1/427)، وغيرهم، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الدار قطني (2/84) رواته كلهم ثقات. وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في مجموع الفتاوى (25/222) وفيه كلمة (عليه) صوابها (علته).
(4) الإجماع ص53.(1/46)
اختلافاً)، قال ابن قدامة (هذا قول عامة أهل العلم)(1).
ومعنى (استقاء) أي: تسبب لخروجه قصداً، والقيء هو ما قذفته المعدة مما فيها عن طريق الفم. ومعنى (ذرعه) أي: غلبه وسبقه في الخروج.
فإذا تقيأ عمداً أفطر، سواء كان القيء قليلاً أو كثيراً، لظاهر الحديث، ولأن المفطرات الأخرى لا فرق بين قليلها وكثيرها، وسواء كان قيئه بالفعل، كجذبه بيده أو عصر بطنه أو بالشمّ، كأن يشمّ شيئاً له رائحة كريهة نفّاذة ليقيء بها، أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء قبيح ليقيء به، قال في المغني: (ولا فرق بين كون القيء طعاماً أو مراراً أو بلغماً أو دماً أو غيره، لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب)(2) أ هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان الحكمة في كونه يفطر بالقيء (قد نهي الصائم عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهي عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذّى، وإلا فإذا مكّن من هذا ضرّه وكان متعدياً في عبادته لا عادلاً)(3).
وقال الحافظ في فتح الباري: ( . . أما القيء، فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه، فلا يفطر، وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء . .)(4).
اللهم وفقنا لسبيل الطاعة، وثبتنا على اتباع السنة ولزوم الجماعة، ولا تجعلنا ممن عرف الحق وأضاعه، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الرابع: الحجامة للصائم
__________
(1) المغني (4/368) معالم السنن (3/261).
(2) المغني (4/369).
(3) مجموع الفتاوى (25/250).
(4) فتح الباري (4/174). وانظر: الإجماع لابن المنذر ص53. وقد نقل الإجماع أيضاً على أنه لا شيء على الصائم إذا ذرعه القيء، إلا ما روى عن الحسن البصري في أحد قوليه.(1/47)
عن شداد بن أوس – رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم. وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"(1) [رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما. قال البخاري: ليس في الباب أصح منه].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن إخراج الدم من الصائم بالحجامة يفسد الصيام في أحد قولي أهل العلم. وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأكثر فقهاء الحديث، واختاره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، رحمهما الله. وقال الجمهور: إن الحكم منسوخ، وإن الحجامة لا تفطر؛ لأنه صح أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم(2). والمقصود أن أحاديث الفطر بالحجامة ثابتة، وإنما الخلاف في بقاء الحكم أو نسخه.
قال الشوكاني رحمه الله: "فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة في حق من كان يضعف بها، وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ على حد يكون سبباً للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها، وعلى كل حال تجنب الحجامة للصائم أولى)(3). . أ هـ.
فالمحجوم الصائم يفطر بسبب خروج الدم، لأنه يضعفه، قال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه -: (إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف)(4).
وأما الحاجم فإنه يفطر؛ لأنه يمص الدم، هذا هو الغالب، فإذا كان الحاجم يحجم بدون مص الدم، فإنه لا يفطر إذا كان صائماً. وتجنب الصائم للحجامة أولى احتياطاً لصومه. والله أعلم.
__________
(1) أبو داود (6/495) وابن ماجة (1681)، وغيرهما وقد صحح الحديث غير واحد من الأئمة كأحمد وإسحاق وعلي بن المديني والبخاري وابن خزيمة وابن حبان.
(2) أخرجه البخاري (4/174).
(3) نيل الأوطار (4/279).
(4) رواه ابن خزيمة (3/232)، وإسناده صحيح ومثله ورد عن أنس رضي الله عنه، رواه البخاري في صحيحه انظر الفتح (4/174).(1/48)
وفي معنى الحجامة على القول بأنها تفطّر الفصاد، أي: فصد العرق، وهو شقه لإخراج الدم من الجراحة، فلا يفطر به الصائم سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ لأنه خرج بغير اختباره. وكذا أخذ الدم اليسير من طرف الإصبح للتحليل. أو خروج دم الاستحاضة. وكذا ما يكون في الأسنان من الدم إذا لفظه الصائم ولم يبتلعه. وكذا لو خلع بضرسه ولفظ الدم. فالصوم صحيح في جميع هذه المسائل؛ لأن الأصل صحة الصوم إلا بدليل يدل على فساده ولا دليل هنا. وما ذكر ليس بحجامة ولا بمعناها، لأنه لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.
وأما التبرع بالدم الكثير الذي يؤثر على البدن. فهذا يفطر به الصائم، إلحاقاً له بالحجامة على أحد القولين، إلا أن توجد ضرورة لا تندفع إلا بتبرعه، فإنه يتبرع بالدم إذا لم يكن عليه ضرر ويفطر ذلك اليوم ويقضي يوماً مكانه، لأنه الفطر صار وسيلة لتحقيق واجب، وهو إنقاذ النفس المعصومة عن طريق هذا الشخص، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( . . وقد بيّنا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء. وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر . . .)(1).
اللهم عاملنا بإحسانك، وتولّنا برحمتك وغفرانك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسملين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الخامس: ما يجب على الصائم تركه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الصيام جُنّة فلا يرفث ولا يصخب. وفي رواية: ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فيلقل: إني صائم . . مرتين . . "(2) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) مجموع الفتاوى (25/257).
(2) البخاري (4/103)، ومسلم (1151).(1/49)
الحديث دليل على أن الصائم مطالب بحفظ صومه والكفّ عما يتنافى مع الصيام، وذلك بالتحلي بمكارم الأخلاق والبعد عن سيئها. ليؤدي الصوم ثمرته المطلوبة. وتترتب عليه المغفرة الموعد بها.
وعن أبي هريرة – أيضاً رضي الله عنه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الصيام من الأكل والشرب. وإنما الصيام من اللغو والرفث. فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم، إني صائم"(1).
وعنه – أيضاً رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(2).
فقد دل هذا الحديث وما قبله على أن الصائم يحرص على سلامة صومه مما ذكر. وعلى أن هذه المذكورات يزداد قبحها في الصيام. ولهذا ذكرت فيه.
كما دل الحديث على أن الصيام الشرعي صيام الجوارح، وأما الصيام عن الطعام والشراب. ففي مقدور كل أحد، فأمره سهل.
وقوله: "الصيام جنّة" هو بضم الجيم وتشديد النون مفتوحة وهو ما يجنّك أي: يستر ويقيك مما تخاف. والمعنى: أن الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا، وإذا كان له جنّة من المعاصي كان له في الآخرة جنّة من النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الصيام جنّة من النار كجنة أحدكم من القتال . . ."(3) وهذا دليل بيّن على فضل الصيام.
وقوله: "فلا يرفث" بضم الفاء أو كسرها. والرّفث: بفتح الراء والفاء، هو الكلام الفاحش، ويطلق على الإفضاء بالجماع والمباشرة لشهوة، قال تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } (4)0
__________
(1) رواه ابن خزيمة (3/242)، وابن حبان (5/198)، والحاكم (1/430) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه البخاري (10/473 فتح).
(3) أخرجه أحمد (4/22) بسند صحيح، وأخرجه النسائي (4/167) وابن ماجة (1639) وابن خزيمة (3/193)، وقال الألباني: إسناده حسن، انظر صحيح الترغيب ص483.
(4) سورة البقرة، الآية: 187.(1/50)
قال كثير من العلماء: إن المراد به في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام. والله أعلم.
وقوله: "ولا يصخب" بفتح الخاء، والصّخب هو الصياح والضّجة، واختلاط الأصوات.
وقوله: "ولا يجهل" الجهل – هنا – مراد به ما يقابل الحلم. أي: لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسّفه ونحو ذلك.
وقوله: "فليقل إن صائم" أي: إذا نازعه أحد أو خاصمه أو سابّه فإنه لا يعامله بمثل عمله، بل يقول: "إني صائم"، لعل خصمه ينزجر عن قتاله وسبابه، إذا علم أنه لا ينتصر منه لكونه صائماً.
وهل يقول ذلك بلسانه؟ فيه أقوال: قيل: بلسانه، وقيل: يقولها في نفسه، وقيل في الفرض يقولها بلسانه، وفي النفل يقولها في نفسه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث؛ فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان، وأما في النفس فمقيد بقوله: (عما حّدثت به أنفسنا) ثم قال: (ما لم تتكلم أو تعمل به)، فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع، وإذا قال بلسانه: إني صائم، بيّن عذره في إمساكه عن الرّد، وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان)(1).
إن الصوم المقبول حقاً هو صوم الجوارح عن الآثام. واللسان عن الكذب والفحش، والبطن عن الطعام والشراب، والفرج عن الرفث ومباشرة النساء.
والصيام مدرسة تربوية تعلّم الحلم والصبر والصدق، وتحث على مكارم الأخلاق وفضائل الأقوال والأعمال. فالصائم لا يصخب ولا يلغو ولا يغضب. لا ينطق كذباً، ولا يقول زوراً، لا يخلف وعداً، ولا يؤخر عملاً بل قوله ذكر، وصمته فكر، وإنّ وقت الصائم لأنفس وأغلى من أن ينفق في هذه المهلكات، التي تؤثر على ثوب على ثواب الصيام أو تذهب حقيقته.
اللهم اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا، وأزواجنا وأولادنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
__________
(1) منهاج السنة (5/197)، وانظر: زاد المعاد (2/52).(1/51)
الحديث السادس
الترهيب من الإفطار في رمضان متعمداً
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعيّ فأتيا بي جبلاً وعراً. فقالا: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: سنسهّله لك. فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، فإذا أنا بأصوات شديدة. فقلت: ما هذه الأصوات؟ قال: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي. فإذا بقوم معلّقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم. تسيل أشداقهم دماً. فقلت من هؤلاء؟ فقيل هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلّة صومهم . . ."(1) [رواه النسائي وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وسنده صحيح](2).
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على عظم ذنب من أفطر في نهار رمضان عمداً من غير عذر. فقد أطلع الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - على عذاب المفطرين قبل وقت إفطارهم، فرآهم في أقبح صورة وأبشع هيئة، رآهم معلقين بعراقيبهم كما يعلق الجزار ذبيحته. الأرجل إلى أعلى والرأس إلى أسفل، وقد شقّت أشداقهم، والدم يسيل منها، إنه لون من ألوان العذاب والنكال، فهل يعتبر به من انتهك حرمة رمضان، وهدم ركناً من أركان الإسلام؟؟
إن الفطر في رمضان من غير عذر كبيرة من كبائر الذنوب. بدلالة هذا الحديث. يقول الإمام الذهبي – رحمه الله – في كتابه (الكبائر): (الكبيرة العاشرة: إفطار رمضان بلا عذر ولا رخصة . . )(3).
__________
(1) بضبعي: الضبع بسكون الباء: وسط العضد وقيل ما تحت الإبط، وساء الجبل: وسطه. والأشداق جمع شدق: بالكسر هو طفطفة الفم من باطن الخدين. وتحلّة صومهم أي: قبل وقت الإفطار.
(2) أخرجه النسائي في الكبرى (2/246)، وابن حبان (16/536)، واللفظ له، وابن خزيمة (3/137)، والحاكم (1/430) مختصراً وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأخرجه البيهقي (4/216) من طريقه، انظر: صحيح الترغيب (1/492).
(3) الكبائر ص62.(1/52)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا كان المتقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر أفطروا بغير عذر . . )(1). وذكر ابن القيم رحمه الله الإفطار في رمضان من غير عذر في عداد الكبائر(2).
وإذا ثبت إفطار شخص في رمضان من غير عذر، وجب على ولي الأمر إذا بلغه ذلك أن يعزره ويؤدبه بما يردعه ويردع أمثاله. لأنه اقترف معصية لا حدّ فيها ولا كفارة، فثبت فيها التعزير. وعلى كل مسلم عرف ذلك أن ينهاه عن هذا المنكر العظيم، ويعظه بما يردعه، ويخوّفه عقاب الله تعالى.
قال القفّال – من فقهاء الشافعية -: ( . . . ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء وإمساك بقية نهاره، ولا كفارة عليه. وعزّره السلطان. وبه قال أحمد وداود . . . )(3).
وقال الذهبي في كتابه الكبائر: (وعند المؤمنين مقرّر أن من ترك صوم شهر رمضان بلا مرض ولا غرض أنه شرّ من الزاني والمكّاس(4). ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والإنحلال)(5).
فعلى من اقترف هذه المعصية العظيمة، أن يتوب إلى الله تعالى ويصوم، ويخشى عقاب الله، فإن الإفطار في رمضان دليل على فساد القلب، وقبح السريرة. والاستهانة بالشرع.
وهل عليه القضاء؟ من أهل العلم من قال: لا قضاء عليه. بل عليه أن يتوب، وأن يحافظ على شرائع الدين، ويكثر من الأعمال الصالحة. لأن جريمته أكبر من أن يجبرها القضاء، والله تعالى إنما يقبل الصيام في غير الشهر من المعذور، كالمسافر والمريض، وأما المتعمد فلا.
__________
(1) مجموع الفتاوى (25/225).
(2) أعلام الموقعين (4/401).
(3) حلية العلماء (3/198)، وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص227.
(4) المكّاس: من يأخذ المكس – بفتح فسكون – وهو الضريبة غير الشرعية (انظر: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء) ص322.
(5) الكبائر ص64.(1/53)
جاء في "الاختيارات" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا يقضي متعمد بلا عذر صوماً ولا صلاة ولا تصح منه)(1). وهذا القول مروى عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب، وابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم(2).
ومنهم من قال: عليه القضاء(3)، لأنه الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر. فلأن يجب مع عدم العذر أولى(4). وهذا قول سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان(5).
اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد . . .
الفصل السادس
في السحور وآدابه
الحديث الأول: الأمر بالسحور وبركته
عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تسحروا فإن السّحور بركة"(6) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) الاختيارات الفقهية ص109، وانظر: منهاج السنة (5/223).
(2) انظر: فتح الباري (4/161)، وانظر: المحلى (6/183، 184).
(3) انظر: أعلام الموقعين (2/30).
(4) وأما حديث (من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه) فهو حديث ضعيف، كما حقق ذلك الحافظ في الفتح (4/161)، وفي تغليق التعليق (3/170)، وقال الحافظ الذهبي في الكبائر ص62: (لم يثبت) وقد علقه البخاري في باب (إذا جامع في رمضان) ووصله أصحاب السنن وغيرهم، والنسائي رواه في الكبرى (2/244).
(5) أنظر: فتح الباري (4/160)، وانظر: تغليق التعليق (3/173)، وما بعدها).
(6) البخاري (4/139)، ومسلم (1095).(1/54)
الحديث دليل على أن الصائم مأمور بالسحور؛ لأن فيه خيراً كثيراً وبركة عظيمة دينية ودنيوية، وذكره - صلى الله عليه وسلم - للبركة من باب الحض على السحور، والترغيب فيه، والسّحور: بفتح السين، ما يؤكل في وقت السحور، وهو آخر الليل، وبضم السين: الفعل وهو أكل السّحور، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أراد أن يصوم فليتسحر بشيء"(1).
وهذا الأمر في الحديث أمر استحباب لا أمر إيجاب بالإجماع، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل وواصل أصحابه معه. والوصال أن يصوم يومين فأكثر فلا يفطر، بل يصوم النهار مع الليل.
وفي السّحور بركة عظيمة تشمل منافع الدنيا والآخرة . . .
1) فمن بركة السّحور التقوِّي على العبادة، والاستعانة على طاعة الله تعالى أثناء النهار من صلاة وقراءة وذكر. فإن الجائع يكسل عن العبادة كما يكسل عن عمله اليومي، وهذا محسوس.
2) ومن بركة السّحور مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، فالمتسحر طيب النفس حسن المعاملة.
3) ومن بركة السّحور أنه تحصل بسبه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر. فيرغب في الصيام، ولا يتضايق منه.
4) ومن بركة السّحور اتباع السنة، فإن المتسحر إذا نوى بسحوره امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بفعله، كان سحوره عبادة، يحصل له به أجر بهذه النية، وإذا نوى الصائم بأكله وشربه تقوية بدنه على الصيام والقيام كان مثاباً على ذلك أيضاً.
__________
(1) رواه أحمد (3/367)، وابن أبي شيبة (3/8). وغيرهما وهو من رواية شريك بن عبدالله النخعي. وهو سيء الحفظ. لكنّ له شاهداً مرسلاً عند سعيد بن منصور في سننه بلفظ (تسحروا ولو بلقمة) كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح (4/140) وانظر المسند. تحقيق الأرنؤوط ومن معه (23/208).(1/55)
5) ومن بركة السّحور أن الإنسان يقوم آخر الليل للذكر والدعاء والصلاة وذلك مظنة الإجابة ووقت صلاة الله والملائكة على المتسحرين، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي قريباً.
6) ومن بركة السّحور أنه فيه مخالفة لأهل الكتاب، والمسلم مطلوب منه البعد عن التشبه بهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحور"(1).
7) ومن بركة السّحور صلاة الفجر مع الجماعة في وقتها الفاضل. ولذا تجد أن المصلين في صلاة الفجر في رمضان أكثر منهم في غيره من الشهور؛ لأنهم قاموا من أجل السحور.
فينبغي للصائم أن يحرص على السحور، ولا يتركه لغلبة النوم أو غيره، وعليه أن يكون سهلاً ليناً عند إيقاظه من النوم.طيب النفس. مسروراً بامتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على الخير، لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكّد السحور، فأمر به وبين أنه شعار صيام المسلمين والفارق بين صيامهم وصيام أهل الكتاب، ونهى عن تركه.
ويحصل السحور بأقل ما يتناوله الإنسان من مأكول أو مشروب، فلا يختص بطعام معين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم سحور المؤمن التمر"(2).
__________
(1) رواه مسلم (1096).
(2) رواه أبو داود (6/470)، وابن حبان (223)، والبيهقي (4/237) وسنده صحيح.(1/56)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "السّحور أكله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء. فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين"(1).
ومن آداب الصيام التي نصّ عليها أهل العلم ألا يسرف الصائم في وجبة السحور، فيملأ بطنه بالطعام، بل يأكل بمقدار، فإنه ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن. ومتى شبع وقت السحر لم ينتفع من وقته إلى قريب الظهر؛ لأن كثرة الأكل تورث الكسل والفتور. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم سحور المؤمن التمر" إشارة إلى هذا المعنى، فإن التمر بالإضافة إلى قيمته الغذائية العالية فهو خفيف على المعدة سهل الهضم. والشّبع إذا قارنه سهر بالليل ونوم بالنهار فقد فات به المقصود من الصيام، والله المستعان.
اللهم إنا نسألك من الخير كله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشرك كله ما علمنا منه وما لم نعلم. وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني
في تأخير السحور
عن أنس عن زيد بن ثابت ري الله عنه أنه قال: "تسحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة. قلت: كم كان بين الأذان والسّحور. قال: قدر خمسين آية"(2) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (3/8)، وأحمد (10/15، 16 الفتح الرباني) والحديث في إسناده ضعف، لكن له طرق يشد بعضها بعضاً، وله شواهد، انظر: المسند. تحقيق الأرنؤوط ومن معه (17/150) وقوله: (أكله بركة) بفتح الهمزة والإضافة إلى الضمير، فهو مصدر، أي: الأكل بركة، أو على وزن (فعلة) كما في رواية، بمعنى: أكلة مباركة. انظر بلوغ الأماني (10/16).
(2) أخرجه البخاري (2/54، 4/138)، ومسلم (1097).(1/57)
الحديث دليل على أنه يستحب تأخير السّحور إلى قبيل الفجر. فقد كان بين فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد – رضي الله عنه – من سحورهما ، و دخولهما في الصلاة ، قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية من القرآن . قراءة متوسطة لا سريعة ولا بطيئة . وهذا يدل على أن وقت الصلاة قريب من وقت الإمساك. وعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعة بي أن أدرك صلاة الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)
والمراد بالأذان في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه :الإقامة . سميت أذاناً؛ لأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة. وقد ورد في صحيح البخاري أنه قيل لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية(2).
قال الحافظ في الفتح: (وهي قدر ثلث خمس ساعة)(3) أ هـ أي: أربع دقائق(4).
وتعجيل السحور من منتصف الليل جائز لكنه خلاف السنة، فإن السحور سمى بذلك؛ لأنه يقع في وقت السحر، وهو آخر الليل كما تقدم.
والإنسان إذا تسحر نصف الليل قد تفوته صلاة الفجر لغلبة النوم ثم إن تأخير السحور أرفق بالصائم وأدعى إلى النشاط؛ لأنه من مقاصد السحور تقوية البدن على الصيام، وحفظ نشاطه. فكان من الحكمة تأخيره.
فينبغي للصائم أن يتقيد بهذا الأدب النبوي، ولا يتعجّل بالسحور.
__________
(1) رواه البخاري (2/54، 4/137).
(2) انظر فتح الباري (2/54).
(3) المصدر السابق (4/138).
(4) قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: لكني قرأتها فبلغت نحو ست دقائق [تنبيه الأفهام] (3/38).(1/58)
ومما يؤسف عليه أن أناساً يتسحرون نصف الليل؛ لأنهم يسهرون أمام آلات اللهو أو في مجالس اللغو والاجتماعات الآثمة. فهؤلاء مع سهرهم مخالفون للسنة وهي الأكل في السحر آخر الليل، ومنهم من ينام بعد الأكل ولا يستيقظ لصلاة الصبح إلا بعد طلوع الشمس تعمداً. فهذا قد أضاع فريضة عظيمة من أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. أضاعها في أفضل الأوقات، وهو متوعّد إذا لم يتب إلى ربه ويعتن بصلاته بقوله تعالى: { فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون(5) } (1)، أي: غافلون معرضون.
وقد دلت السنة على العمل بآذان المؤذن إذا كان ثقة عارفاً الوقت وأذّن بعد تبين الفجر. لكن يلاحظ اليوم على كثير من المؤذنين – هداهم الله – أنهم يؤذنون قبل الوقت. يزعمون أنهم يحتاطون لصيام الناس وهذا الاحتياط غير صحيح؛ لأن الاحتياط هو لزوم ما جاء به الشرع ما دامت النصوص واضحة جلية. فإن ابن أم مكتوم رضي الله عنه كان لا يؤذن حتى يطلع الفجر(2). وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يغرّنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر، أو قال حتى ينفجر الفجر"(3)؛ ولأنه يترتب عليه صلاة من لا جماعة عليه من نساء ومعذورين قبل دخول الوقت. والمؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم. فعليهم أن لا يؤذنوا إلا إذا تبين الصبح إما بمشاهدة أو علم عن حساب دقيق. والإمساك قبل الفجر من قبيل الاحتياط مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وإذا أكل الصائم بعد طلوع الفجر يظن أن الفجر لم يطلع فتبين له بعد ذلك أنه طلع فصومه صحيح ولا قضاء عليه. لقوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } (4).
__________
(1) سورة الماعون، الآيتين: 4، 5.
(2) أخرجه البخاري (4/136)، ومسلم رقم (1094) (44).
(3) رواه مسلم (1094).
(4) سورة البقرة، الآية: 187.(1/59)
فأباح الله تعالى الأكل حتى يتبين الفجر، والمباح المأذون فيه لا يؤمر فاعله بالقضاء، ومثله لو أكل أو شرب شاكاً في طلوع الفجر، فالأظهر أنه لا قضاء عليه، فإن العبادات مبناها على اليقين لا على الشك والظن، والله أعلم.
ومن تسحر ثم نوى الصيام ثم عرض له أن يأكل أو يشرب أو يتناول دواء فله ذلك ما لم يطلع الفجر؛ لأن الصوم الشرعي لا يبدأ إلا من طلوع الفجر. وليست نية ترك الطعام قبل الفجر بمحرّم. والله أعلم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: لحظات الأسحار
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"(1)، [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل الدعاء والسؤال والاستغفار آخر الليل وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين يدخلون الجنة خالدين فيها فذكر من صفاتهم الاستغفار وقت الأسحار. قال تعالى: { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } (2)، وقال تعالى: { وبالأسحار هم يستغفرون } (3).
فعلم من ذلك أنه وقت شريف. وفي الحديث دليل على أن الدعاء في ذلك الوقت مجاب إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع؛ لأن الله تعالى وعد بالاستجابة لمن دعاه، وإعطاء من سأله. والمغفرة لمن طلب مغفرته.
__________
(1) البخاري (3/29)، ومسلم (758).
(2) سورة آل عمران، الآية: 17.
(3) سورة الذاريات، الآية: 18.(1/60)
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: أيّ الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات"(1). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (إن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه. وإن قيل جوف الليل الآخر فالمراد به: وسط النصف الثاني. وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي فيه النزول الإلهي)(2).
وهذا الوقت من الأوقات التي ينبغي للعبد – ولا سيما في رمضان – أن يغتنمه ولا يرخصه بالغفلة والنوم، والكسل. فإنه وقت النزول الإلهي الذي يليق بجلال الله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل. قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
والله ينزل كلّ آخر ليلة ... ... لسمائه الدنيا بلا كتمان
فيقول هل من سائل فأجيبه ... ... فأنا القريب أجيب من ناداني
حاشا الإله بأن تكيّف ذاته ... ... فالكيف والتمثيل منتفيان
__________
(1) أخرجه الترمذي (3499)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (108)، وهو حديث حسن. بشواهده.
(2) جامع العلوم والحكم، شرح الحديث "التاسع والعشرين" من الأربعين النووية.(1/61)
قال ابن بطال: (هذا وقت شريف مرغّب فيه، خصّه الله بالتنزل فيه. وتفضل على عباده بإجابة دعائهم. وإعطاء سؤالهم، وغفران ذنوبهم، إذ هو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له. ومفارقة اللذة والدعة صعب على العباد، لا سيما لأهل الرفاهية في زمن البرد ولأهل التعب والنّصب في زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه في غفران ذنوبه، وفكاك رقبته من النار، وسأله التوبة في هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة دعتها وسكنها فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه . . . فلذلك نبه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه، فتقع الإجابة منه تعالى رفقاً من الله بخلقه ورحمة لهم، فله الحمد دائماً، والشكر كثيراً على ما ألهم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من منافعهم، لا إله إلا هو الكريم الوهاب"(1).
وفي هذه الليالي المباركة يجتمع للمؤمن في الليل ساعة الإجابة، والنزول الإلهي، والسجود، وشرف الزمان وهو رمضان، وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يواظبون على قيام الليل ولا سيما في شهر رمضان. تأسياً بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - . فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه وذلك كّل ليلة"(2).
__________
(1) شرح البخاري لابن بطال (10/89، 90).
(2) أخرجه مسلم (757).(1/62)
وإذا كان الإنسان يقوم آخر الليل لأكلة السحور. فليتقدم قبل ذلك بوقت كافٍ للذكر والدعاء وتلاوة القرآن والصلاة، وأن يكون حاضر القلب، محتسباً لله تعالى في قيامه. وأن يحرص على الإخلاص والخشوع في صلاته. فعسى أن يكون له نصيب من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"(1).
اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. ونسألك الهدى والتقى والعفاف، والغنى، ومن العمل ما ترضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل السابع
في الإفطار وآدابه
الحديث الأول: متى يفطر الصائم؟
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"(2) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن الوقت الذي يفطر فيه الصائم له ثلاث علامات متلازمة، وهي إقبال الليل من المشرق، وإدبار النهار من المغرب، وغروب الشمس. وجمع بينهما؛ لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد على إقبال الظلام، وأصل هذه العلامات غروب الشمس؛ لأن به دخول الليل الذي جعله الله تعالى غاية لتمام الصوم، قال الله تعالى: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } (3).
لكن تبين الليل من المشرق، وانصراف النهار من المغرب، دليل على غروب الشمس. ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق. فمتى كان الصائم في مكان غربت فيه الشمس حل له الإفطار.
__________
(1) أخرجه الترمذي (7/187)، وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجة رقم (3251).
(2) البخاري (4/171)، ومسلم (1100).
(3) سورة البقرة، الآية: 187.(1/63)
ومن أفطر في المطار أو على الطائرة قبل إقلاعها ثم رأى الشمس بعد إقلاع الطائر فصومه صحيح ولا قضاء عليه، ولا يلزمه أن يمسك إذا رأى الشمس؛ لأنه أفطر بعد حلول وقت الإفطار وهو في مكان قد غربت منه الشمس، وإذا غربت الشمس أفطر الصائم.
فإن أقلعت الطائرة قبل الغروب بقليل، ثم زادت المدة كأن تتجه الطائرة غرباً، فإن الصائم لا يفطر حتى تغرب الشمس، ولا عبرة بوقت البلد الذي سافر منه؛ لأن الصائم لا يفطر حتى تغرب الشمس، وهذا حصل في مكان لم تغرب منه الشمس. فلم يدخل وقت الإفطار.
وإذا كان الإنسان في بلاد فيها ليل ونهار، فإنه يمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ما دام النهار يتمايز عن الليل، وكان مجموع زمانهما أربعاً وعشرين ساعة، ويحل له الطعام والشراب والجماع ونحوها في الليل، وإن كان قصيراً؛ لأن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع أقطار الدنيا. قال تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } (1).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 187.(1/64)
ومن رحمة الله تعالى أنه أباح لعباده بعد غروب الشمس الأكل والشرب وإتيان النساء إلى طلوع الفجر. حيث يبدأ وقت الصيام، وقد كانت هذه المفطرات في أول الإسلام مباحة من غروب الشمس إلى أن ينام الإنسان، فإذا نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع حتى غروب الشمس من اليوم التالي، فشق ذلك على أول هذه الأمة، فوسعتهم رحمة الله تعالى. يقول البراء بن عازب رضي الله عنه، (كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا. ولكن انطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل. فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) فنزلت هذه الآية: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } (2). فلله الحمد والمنة على ما شرع ويسر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لنا
وترحمنا وتتوب علينا. وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفّنا غير مفتونين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . .
الحديث الثاني: في تعجيل الفطور
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"(3). [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) رواه البخاري (4/129 فتح).
(2) سورة البقرة، الآية: 187.
(3) البخاري (4/198)، ومسلم (1098).(1/65)
الحديث دليل على أدب من آداب الإفطار. وهو تعجيله والمبادرة به حين حلول وقته، ومعنى التعجيل أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر، وفي ذلك خير عظيم، ومن ذلك محبة الله تعالى، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تعالى: إن أحبّ عبادي إلىّ أعجلهم إفطاراً"(1). وفي تعجيل الإفطار إتباع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل بسنته، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يعجل الإفطار.
يقول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهو صائم. فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان قم فاجدح لنا "أي: اخلط السويق بالماء". فقال: يا رسول الله لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا، قال يا رسول الله: فلو أمسيت. قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليك نهاراً، قال انزل فاجدح لنا. فنزل فجدح لهم فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا أفطر الصائم"(2).
وقد ورد أن تعجيل الإفطار من أخلاق النبيين كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السّحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة"(3).
__________
(1) أخرجه الترمذي (3/376)، وأحمد رقم (8342) تحقيق: أحمد شاكر، وابن خزيمة (3/276) وقال الترمذي: حديث حسن.
(2) أخرجه البخاري (4/196)، ومسلم (1101).
(3) رواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (2/105)، وقال: ( . . . مرفوعاً وموقوفاً على أبي الدرداء، والموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه).(1/66)
وفي تعجيل الإفطار مخالفة لليهود والنصارى الذين نهينا عن التشبه بهم في عبادتنا وعاداتنا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون"(1).
وفي تعجيل الإفطار تيسير على الناس، وبعد عن صفة التنطع والغلو في الدين، وقد امتثل هذا الأدب خير القرون صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال البخاري رحمه الله: (وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس)(2). وقال عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله: (كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً)(3).
وعن أبي عطية قال: "دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها. فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة. قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، زاد أبو كريب: والآخر أبو موسى(4).
ومن أفطر يظن أن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فصومه صحيح؛ لأنه معذور، ويمسك عن الأكل حتى تغرب؛ لأنه كمن أكل ناسياً، والناسي والمخطئ حكمهما واحد، قال تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود (6/480)، والنسائي في الكبرى (2/252)، وابن ماجة (1698)، وأحمد (2/450) والبيهقي (4/237)، وابن خزيمة (2060)، وقال الحاكم (1/431) صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن حبان (3503).
(2) فتح الباري (4/196).
(3) أخرجه عبد الرازق في المصنّف (4/226) قال في فتح الباري (4/199) إسناده صحيح.
(4) أخرجه مسلم 1099.
(5) سورة البقرة، الآية: 286.(1/67)
وإذا كان الناسي لا قضاء عليه، فالمخطئ كذلك، وقد ورد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أفطرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ثم طلعت الشمس(1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا يدل على شيئين:أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب، فإنهم لم يفعلوا ذلك، ولم يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم.
والثاني: لا يجب القضاء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك ولنقل ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمر به، فإن قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أوبد من القضاء؟
قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم أن معمراً روى عنه قال: سمعت هشاماً قال: لا أدري أقضوا أم لا؟ ذكر هذا وهذا عنه البخاري. والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر عن أسماء. وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه . .)(2) والله أعلم.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم تقبل منا، وتجاوز عنا، وأدخلنا الجنة، ونجّنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: الدعاء عند الإفطار
عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم"(3).
... ... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) أخرجه البخاري (4/199).
(2) حقيقة الصيام ص33، 34، وانظر: مجموع الفتاوى (25/231)، وفتح الباري (4/199).
(3) أخرجه الترمذي (10/56) وابن ماجة (1752)، وقال الترمذي: حديث حسن، والحديث له شواهد يأتي بعضها.(1/68)
الحديث دليل على أنه ينبغي للصائم أن يغتنم لحظات الإفطار وأوقات الإجابة، فيدعو بما أحبّ من الخير، فإنه له دعوة مستجابة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن للصائم عند فطره لدعوةً ما ترد" قال ابن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء أن تغفر لي"(1).
ومما يستحب أن يقول عند فطره – أيضاً – ما رواه عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا أفطر: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله"(2).
فعلى الصائم أن يغتنم هذا الوقت، ويدعو بحضور قلب وإيقان بالإجابة في وقت ترجى فيه الإجابة؛ فإنه وقت ذلّ وانكسار بين يدي الله تعالى مع كونه صائماً، ويكرر الدعاء ثلاثاً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله عتقاء في كل يوم وليلة. لكل عبد منهم دعوة مستجابة"(3). وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله عند كل فطر عتقاء"(4).
__________
(1) رواه ابن ماجة (1753)، والحاكم (1/422)، وابن السني رقم (481). قال البوصيري: هذا إسناد صحيح.ثم ذكر توجيه ذلك، انظر: الزوائد ص254 . وضعفه الألباني في "الإرواء" رقم (921). والحق أن الحديث له ما يؤيده ويشهد له. انظر: "تنبيه القارئ" للشيخ عبد الله الدويش رحمه الله ص78، 79.
(2) رواه أبو داود (6/482)، والبيهقي (4/239)، والحاكم (1/422)، وابن السني رقم (478) والدار قطني (2/185)، وقال: إسناده حسن.
(3) رواه أحمد رقم (7443) وإسناد صحيح، وانظر كلام الشيخ أحمد شاكر عليه عند الرقم المذكور.
(4) أخرجه أحمد (10/9 الفتح الرباني) قال المنذري: (رواه أحمد بإسناد لا بأس به. والطبراني والبيهقي . .) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/491)(1/69)
فمن دعا ربه بقلب حاضر ودعاء مشروع، وهو صائم ولم يمنع من إجابة الدعاء مانع كأكل الحرام ونحوه، فهو حري بأن يجاب؛ لأن الله تعالى قد وعده بالإجابة. خصوصاً إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره، واجتناب نواهيه القولية والفعلية، والإيمان به الموجب للاستجابة قال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } (1).
وعليه أن يلح في الدعاء وطلب الغفران، فإنه في شهر فاضل وموسم عظيم من مواسم العبادة.
وعلى الصائم أن يحذر أن تكون لحظات الإفطار وقتاً للقيل والقال أو الانشغال بأمور لا تفوت بتأخيرها. فإن هذه دقائق غالية فلا ترخصوها بالغفلة.
ويشرع للصائم حال فطره أن يجيب المؤذن فيقول مثل قوله عن كل جملة إلا في (حي على الصلاة حي على الفلاح) فيتابع بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول"(2) وهذا عام في كل الأحوال إلا ما دل الدليل على استثنائه.
وينبغي للصائم أن يتفرغ آخر النهار لتلاوة القرآن والذكر والدعاء ولا يخرج إلا لمهنته أو لما لابدّ منه، فإن هذا من الأوقات التي ينبغي للصائم اغتنامها في الطاعة، وعدم إضاعتها هنا أو هناك في مجالس لا تنفع، وعليه أن يتحرى ساعة الجمعة وأحراها آخر ساعة من النهار، ومن الناس من يخرج من منزله بعد العصر على عادته لا لحاجة. فيدع قراءة القرآن وذكر الله تعالى، فيفوته خير كثير وفضل جزيل، وقد يؤذن المؤذن للإفطار وهو في الطريق إلى منزله، فيأتي ثائر النفس، قد أضاع وقت الدعاء، وفوّت المبادرة بالإفطار.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 186.
(2) أخرجه البخاري (1/90)، ومسلم 383.(1/70)
وينبغي للصائم أن يرطّب لسانه بذكر الله تعالى ودعائه طوال يوم صومه. فإن الصوم يجعله في حالة تقربه من الله تعالى وتجعله في مظنة الاستجابة لدعائه، فهذا مطلوب طوال النهار. فقد ورد إجابة دعاء الصائم بلا تقييد بوقت للإفطار، وذلك فيما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث دعوات مستجابة: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر"(1).
قال ابن خزيمة رحمه الله: (باب ذكر استجابة الله عز وجل دعاء الصُوّام على فطرهم من صيامهم جعلنا الله منهم)(2). ثم ساق حديث أبي هريرة المتقدم بلفظ (الصائم حتى يفطر) وهكذا ساقه ابن حبان(3) والله أعلم.
اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً طيباً، اللهم أجب دعاءنا، وحقّق رجاءنا، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الرابع: ما يستحب الإفطار عليه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رُطَبَاتٍ قبل أن يصلي. فإن لم يكن رطبات فتمرات. فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء"(4). [رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهو حديث حسن].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على بعض آداب الإفطار التي ينبغي للصائم أن يتأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها، ومن ذلك الإفطار قبل صلاة المغرب، وهذا – والله أعلم – إشارة إلى كمال المبالغة في استحباب تعجيل الإفطار والمبادرة به.
__________
(1) رواه العقيلي في الضعفاء (1/72)، وأبو مسلم الكجّي في (جزئه) ومن طريقه ابن ماسي في جزء الأنصاري، وسنده صحيح، كما ذكر الألباني في الصحيحة (4/407).
(2) صحيح ابن خزيمة (3/199).
(3) صحيح ابن حبان (8/215).
(4) رواه أحمد (3/163)، وأبو داود (6/481)، والترمذي (3/381)، وقال: هذا حديث حسن، ورواه ابن خزيمة (3/227)، انظر: الإرواء (4/45).(1/71)
ومن ذلك الإفطار على رطب، فإن لم يتيسر أفطر على تمر (وهو يابس ثمر النخل)، فإن لم يتيسر على ماء.
وعن سلمان بن عامر الضَبِّي يبلُغُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، إنه بركة، فإن لم يجد فعلى الماء، فإنه طهور"(1).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر بدأ بالتمر(2).
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قطّ يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء(3).
والاقتصار على الرطب والماء عند الإفطار له فائدة طبية، وهي ورود الغذاء إلى المعدة بالتدرج. حتى تتهيأ للطعام بعد ذلك. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وفي فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصوم على الرطب، أو على التمر أو الماء تدبير لطيف جدً؛ فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء، فلا تجد الكبد فيها ما تجذبه وترسله إلى القوى والأعضاء. والحلو أسرع شيء وصولاً إلى الكبد وأحبّه إليها، ولا سيما إن كان رطباً، فيشتد قبولها له. فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن فحسوات من الماء تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم. فتنتبه بعده للطعام. وتأخذه بشهوة)(4).
__________
(1) رواه الترمذي (3/381)، وقال حديث حسن صحيح انظر: كتاب (الصيام) للفريابي، وتعليق المحقق على هذا الحديث ص64، 65.
(2) رواه الفريابي في الصيام ص66، ورجاله ثقات.
(3) رواه الفريابي في الصيام 67، وإسناده صحيح. وانظر: كلام المحقق عليه.
(4) زاد المعاد (4/313)، و(2/50) منه.(1/72)
ولا تنبغي المبالغة في تقديم صنوف الأطعمة وأنواع الأشربة عند الإفطار، فإن هذا خلاف سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يشغل عن المبادرة لحضور صلاة المغرب مع الجماعة، بل قد يفوّتها معهم بالكلية؛ لقلة وقت الانتظار فيها. قال ابن العربي: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي على شيء يسير لا يشغله عن الصلاة، وفيه ثلاث فوائد: تعجيل الإفطار، وتفريغ البال للصلاة، وفصل ما بين زمان العبادة والعبادة وبينهما في أنفسهما)(1)
ولا ينبغي للصائم الإسراف في طعام العشاء في رمضان والإكثار من الأكل، فإن رمضان فرصة موسم طاعة وعبادة لا موسم للموائد وتنويع المأكولات. إن رمضان فرصة يتعلم فيها الصائم الاقتصاد وتدبير المعيشة، وفي تنويع الأطعمة والإكثار منها إشغال لربّات البيوت عن تلاوة القرآن وذكر الله تعالى، حتى صار رمضان عند كثير من الأسر موسماً لتنويع المأكولات والمشروبات. وكأنهم يريدون أن يعوّضوا ما فاتهم في نهار رمضان، ولا أدلّ على ذلك من استعداد الأسواق قبيل ذلك بكل ما لذّ وطاب مما يشبع الرغبات والشهوات، حتى صار رمضان شهر التخمة والبطنة والتنعم بعد أن كان شهر الصبر والعبادة والجهاد. والله المستعان.
__________
(1) عارضة الأحوذي (3/215، 216).(1/73)
إن الاقتصاد في وجبة العشاء، يجعل الصائم في حالة صحية يستطيع معها أن يقوم لصلاة التراويح والتهجد في الليل بكل نشاط ورغبة، وهذا أمر ملحوظ. فإنه إذا ملأ بطنه بالطعام احتاج إلى الشراب، ولاسيما في الصيف، فيرتخي جسده، وتتخدر أعضاؤه، فيكسل عن العبادة، ولا ينتفع بنفسه في باقي ليلته. فعلى الصائم أن يأخذ بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"(1).
وإذا كان الصائم قد ترك في نهار الصيام جميع مألوفاته التي اعتادها احتساباً لله تعالى ووفاء بأمانة الصوم الذي أضاف الله إليه. مما يدل على قوة إرادته وصدق عزيمته. فحريّ به أن لا يفعل عند الإفطار ما يخل بهذه القوة أو يوهنها، فيفطر على ما حرّم الله، فيهدم في ليلة ما بناه في نهاره. فيضيع الحزم. ويبرهن على ضعف إرادته، وقلة صبره.
ومن ابتلى بشرب الدخان أو غيره من العادات الضارة فعليه أن يستغل مدرسة شهر الصوم. فيصوم عنه في ليله كما صام عنه في نهاره، ليهجره إلى غير رجعة. عليه أن يواصل عزيمته وقوة إرادته بالليل، كما كانت بالنهار، ويهجر المجالس السيئة، ويعتاض عنها بمجالس أهل الخير والصلاح، فهي عون له على ذلك بعد إعانة الله وتوفيقه.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، وجنبنا سيئات الأقوال والأفعال، واحفظ لنا صيامنا، وألهمنا ذكرك وشكرك، وارزقنا حبّ أوليائك وبغض أعدائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل الثامن: ما يباح للصائم فعله
الحديث الأول: السواك للصائم
__________
(1) رواه الترمذي رقم (2380)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد (4/132)، ورواه ابن حبان (2/449) وابن ماجة (3349) والحاكم (4/121) وغيرهم. وله طرق.انظر: الإرواء (7/41).(1/74)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"(1) [رواه البخاري، ومسلم وللبخاري تعليقاً "مع كل وضوء"].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على تأكيد السواك عند كل صلاة، فريضة كانت أو نافلة، وهو دليل على مشروعية السواك عند كل صلاة للمفطر والصائم في أول النهار وفي آخره. فيتأكد في حق الصائم أن يستاك عند كل صلاة ولو بعد الزوال كصلاتي الظهر والعصر.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"(2)، وهذا عام يشمل المفطر والصائم، فيجب العمل به على عمومه حتى يثبت تخصيصه. وليس لهذا العموم مخصّص صحيح، قال ابن العربي: "قال علماؤنا: لم يصحّ في سواك الصائم حديث نفياً ولا إثباتاً، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حض عليه عند كل وضوء وعند كل صلاة مطلقاً من غير تفريق بين صائم وغيره، وندب يوم الجمعة إلى السواك، ولم يفرق بين صائم وغيره، وقد قدمنا فوائده العشرة في الطهارة، والصوم أحقّ بها"(3).
وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال جمع من أهل العلم، منهم ابن حزم والنووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، رحمهم الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لم يقم على كراهة السواك بعد الزوال دليل شرعي يصلح أن يخصّص عمومات نصوص السواك)(4).
__________
(1) أخرجه البخاري (847)، ومسلم (252) ولفظ: (مع كل وضوء) علقها البخاري وذكر الحافظ أن النسائي وابن خزيمة وصلاه عن مالك، انظر: الإرواء (1/109).
(2) أخرجه النسائي (1/10)، وأحمد (6/47)، وعلقه البخاري مجزوماً به (4/158)، والحديث له شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، انظر: التلخيص الحبير (1/70)، والإرواء (1/105).
(3) عارضة الأحوذي (3/256)، وفي (1/40) ذكر فوائد السواك.
(4) مجموع الفتاوى (25/266).(1/75)
والذين قالوا بكراهة السواك للصائم بعد الزوال استدلوا بحديث علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي"(1)، والعشي: آخر النهار من الزوال إلى المغرب.
كما استدلوا بحديث أي هريرة – المتقدم – وفيه: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وجه الدلالة: أن الخلوف – بضم الخاء – هو الرائحة الكريهة التي تكون بالفم عند خلو المعدة من الطعام، وهو لا يظهر في الغالب إلا في آخر النهار، فإذا كان محبوباً لله تعالى ممدوحاً شرعاً؛ لأنه ناشئ عن طاعته فلا ينبغي أن يزال بالسواك.
والجواب عن ذلك: أن حديث علي رضي الله عنه ضعيف(2).
وأما حديث الخلوف فالاستدلال به غير مستقيم لثلاثة أوجه:
الأول: أن الخلوف ناشئ عن خلوّ المعدة وبعد عهدها بالطعام وهذا هو السبب – والله أعلم – في ترتيب الثواب عليه، وهذا السبب لا يزول بالسواك، فالخلوف محبوب عند الله من أجل تأثير رضاه في ترك الشهوة على ما يحبه الإنسان. وليس المحبوب عند الله ترك الوسخ في الفم والأسنان. فليس في الحديث دليل على كراهة السواك. ولا تعرض له.
__________
(1) أخرجه الدار قطني (2/204)، والبيهقي (4/274) من طريق كيسان عند يزيد بن بلال عن علي رضي الله عنه موقوفاً، ومن طريق كيسان عن عمرو بن عبد الرحمن عن خباب مرفوعاً، وكذا أخرجه الطبراني في الكبير (4/78) وأخرجه الدولابي في "الكنى" (2/52) عن علي موقوفاً.
(2) لأنه من طريق كيسان، وهو أبو عمر القصار، عن يزيد بن بلال عن علي موقوفاً والدار قطني لما رواه في سننه قال: (كيسان أبو عمر ليس بالقوي، ومن بينه وبين علي غير معروف) ومثله قال البيهقي، وقال الحافظ في التلخيص (1/73): (إسناده ضعيف).(1/76)
وما أحسن ما ورد عن الرحمن بن غنم – بفتح المعجمة وسكون النون – قال: سألت معاذ بن جبل: أتسوّك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أيّ النهار؟ قال: غدوة أو عشية، قلت إن الناس يكرهونه عشية. ويقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟ قال: سبحان الله! لقد أمرهم بالسواك وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً . . . ما في ذلك من الخير من شيء بل فيه شر(1).
الوجه الثاني: أن بعض الصائمين لا يحصل له خلوف أصلاً إما لصفاء معدته، أو لأن معدته لا تهضم الطعام بسرعة. فهل يباح له السواك بعد الزوال لعدم الخلوف؟؟
والوجه الثالث: أن ربط الحكم بالزوال منتقض؛ لأن الرائحة قد تحصل قبل الزوال؛ لأن سببها خلو المعدة من الطعام، وإذا لم يتسحر الإنسان فقد يخلف(2) قبل الزوال، فهل يقال إنه لا يستاك قبل الزوال لوجود الخلوف؟؟
وإذا كان السواك مطهرة للفم مرضاة لله تعالى، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يعنى به عند الصلاة وعند تلاوة القرآن. ويستاك عند النافلة كما يستاك عند الفريضة. ليدخل في العبادة على أحسن هيئة وأطيب رائحة، ولاسيما الفم الذي هو طريق القرآن ووسيلة المناجاة، والله أعلم.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: صحة صوم من أصبح جنباً
عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويصوم"(3)، [رواه البخاري ومسلم وفي حديث أم سلمة "ولا يقضي"].
... ... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) قال الحافظ في التلخيص (2/214): (رواه الطبراني بإسناد جيد).
(2) خَلَفَ فم الصائم يخلف من باب قعد يقعد: تغيرت رائحته. وقد مضى هذا في أول الكتاب.
(3) أخرجه البخاري (4/143)، ومسلم (1109).(1/77)
الحديث دليل على أن الصائم إذا أصبح جنباً بأن طلع عليه الفجر وهو جنب من جماع أو احتلام فصومه صحيح ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، إذا أمسك عن الطعام والشراب والمفطرات بنية عند بدء وقت الصيام. والجنابة كلُّ ما أوجب غسلاً من إنزال أو جماع. قال الله تعالى: { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } (1).
والله تعالى إذا أذن بالجماع إلى أن يتبين الفجر لزم من ذلك ألا يكون الاغتسال إلا بعد طلوع الفجر.
وتقييد الجنابة في الحديث بأنها من جماع لبيان أن تأخيره - صلى الله عليه وسلم - الغسل عن اختيار منه، وأنه لم يفاجأ بما يوجب الغسل. فيفيد أنه لا تجب المبادرة بالغسل من الجنابة، بل يجوز تأخيره إلى طلوع الفجر.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب. فقال: يا رسول الله: تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ قال رسول الله: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال لست مثلنا يا رسول الله. فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال - صلى الله عليه وسلم - : "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"(2).
فهذا فعله - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا فيه أسوة حسنة، وما فعله فالأمة تبع له، إلا ما دل الدليل على اختصاصه، فإنه يختص به.
وكذا الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ورأت الطهر قبل الفجر فإنها تصوم مع الناس ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ لأنها حينئذ من أهل الصوم. وعليها أن تبادر بالغسل لتصلي صلاة الفجر في وقتها.
وهذا الحكم وهو صحة صوم الجنب والحائض والنفساء ولو لم يغتسلوا إلا بعد الفجر عام في كل صيام في رمضان وفي غيره. ولا فرق بين الصوم الواجب وغيره.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 187)
(2) رواه مسلم (1110).(1/78)
وإذا احتلم الصائم في نهار الصيام فإنه يغتسل وصومه صحيح؛ لأنه ليس له اختيار في ذلك ولا إرادة، قال الله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (1).
وفي الحديث دليل على جواز اغتسال الصائم، لا فرق في ذلك بين الأغسال الواجبة والمسنونة والمباحة. فيغتسل الصائم يوم الجمعة ويغسل رأسه وجسده بالماء والصابون وغيره. ويحترز من دخول شيء إلى حلقه، وله أن يغتسل للتبرد، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر(2)، والله أعلم.
وقال البخاري في صحيحه: (باب اغتسال الصائم) ثم ذكر أن ابن عمر رضي الله عنهما بلّ ثوباً فألقاه عليه وهو صائم. ودخل الشعبي الحمام وهو صائم(3)، وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم. ثم ساق في الباب حديث عائشة رضي الله عنها المذكور أولاً(4).
قال ابن المنير الكبير تحت الباب المذكور: (فيه رد على من كره اغتسال الصائم؛ لأنه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه فالعلة باطلة بالمضمضة وبالسواك وبذوق القدر ونحو ذلك، وإن كرهه للرفاهية فقد استحب السلف للصائم الترفّه والتجمل بالترجل والادهان وأجازوا الكحل وغير ذلك. فلذلك ساق هذه الأفعال(5)، تحت ترجمة الاغتسال)(6).
اللهم اسلك بنا سبيل أهل الطاعة، ووفقنا للثبات عليها والاستقامة، وعافنا من موجبات الحسرة والندامة. وآمنا من فزع يوم القيامة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286).
(2) أخرجه أبو داود (6/492)، وأحمد (27/146 – 147) وسنده صحيح كما قال الإمام النووي في المجموع (6/347).
(3) الحمام هو مكان الاغتسال بالماء الحار، وليس بالمعنى المعروف عندنا.
(4) فتح الباري (4/153).
(5) يقصد بالأفعال السواك وذوق الطعام والإدهان وغيرها، فقد ذكر آثاراً عن السلف في جوازها.
(6) المتواري على تراجم البخاري، لابن المنير ص131.(1/79)
الحديث الثالث: في المباشرة والقبل للصائم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم. ولكنه كان أملككم لأربه"(1) [رواه البخاري، ومسلم وفي رواية لمسلم "كان يقبل في شهر الصوم"].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أنه يجوز للصائم أن يقبل زوجته وأن يباشرها، ولا فرق في ذلك بين صوم الفرض والنفل، ما لم يخش تحرك شهوته ونزول شيء من المنيّ، لكونه سريع الإنزال أو يخشى من التدرج بذلك إلى الجماع. فإنه يجب عليه ترك التقبيل والمباشرة، سداً للذريعة؛ ولأن حفظ الصيام من الإفساد واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المتوضيء بالمبالغة في الاستنشاق، إلا أن يكون صائماً لئلا يتسرب الماء إلى جوفه. فكذا يمنع من القبلة إذا كانت ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم.
وقد دل على هذا قولها رضي الله عنها: (ولكنه كان أملككم لأربه) والأرب: بفتح الهمزة والراء هو الوطر وحاجة النفس. والإرب بكسر الهمزة وسكون الراء هو العضو، ويطلق على الحاجة، والمعنى: أنه ينبغي الاحتراز من القبلة ولا تتوهموا أنكم مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استباحتها، لأنه يملك نفسه ويأمن أن يتولد عنها شيء. ففيه إشارة إلى أن من لا يملك إربه يضره ذلك(2).
والمراد بالمباشرة : التقاء البشرتين فهي أعم من التقبيل، وتطلق على الجماع، لكنه غير مراد هنا، وذكر المباشرة بعد التقبيل من ذكر العام بعد الخاص؛ لأن التقبيل أخصّ من المباشرة.
__________
(1) رواه البخاري (4/149)، ومسلم (1106).
(2) انظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري (2/33 – 34).(1/80)
فإن قبّل الصائم أو باشر وخرج منه منيّ فسد صومه، وعليه القضاء، ولا كفارة؛ لأن الكفارة مختصة بالجماع. لكن عليه التوبة والندم والاستغفار والابتعاد عن هذه الأشياء المثيرة للشهوة؛ لأنه في عبادة عظيمة قال الله تعالى فيها: (يدعُ الطعام من أجلي ، ويدع الشراب من أجلي ، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)(1). فالصائم مطالب بترك جميع لذته وشهوته، ويدخل في عموم ذلك إنزال المني، والله أعلم(2).
فإن خرج منه مذيّ بالمباشرة أو التقبيل لم يفسد صومه في أصح قولي العلماء، لأنه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه بالبول.
وينبغي للصائم أن يحرص على تجنب كل ما يوقع في المحذور ويخلّ بالصوم أو ينقص من ثوابه. فإن هذا من تعظيم أوامر الله تعالى ونواهيه. قال تعالى: { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } (3).
ولا حرج في نوم الصائم مع زوجته في نهار رمضان أو غيره من أيام الصيام إذا كان يملك نفسه. ولا تتحرك شهوته. وإلا وجب عليه اجتناب ذلك خشية الوقوع في المحظور، لاسيما مع قوة الداعي، كغلبة الشهوة.
وأما قوله تعالى في ليالي الصيام: { فالآن باشروهن } (4). فإن الآية وإن دلت بمفهومها على أن المباشرة في نهار الصيام منهي عنها إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله تعالى. وقد أباح المباشرة نهاراً فدل على أن المراد بالمباشرة المنهي عنها في الآية هي الجماع لا ما دونه من القبلة ونحوها، أو يبقى اللفظ على عمومه وتكون الآية مخصّصة بما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - وما أذن فيه، والله أعلم.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (3/197).
(2) انظر: الترجيح في مسائل الصوم والزكاة بقلم: محمد بن عمر بازمول ص96.
(3) سورة الحج، الآية: 30.
(4) سورة البقرة، الآية: 187.(1/81)
قال ابن العربي: (إن القبلة والمباشرة مستثناة من تحريم القرآن ونهيه، وإن فعله جائز بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه)(1). والله أعلم.
اللهم توفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، اللهم وفقنا توفيقاً يقيناً عن معاصيك، وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل التاسع
أهل الأعذار في رمضان
الحديث الأول: في صوم المسافر
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم"(2) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن المسافر مخير بين أن يصوم إذا رأى أن فيه قوة على الصيام، أو يفطر إذا رأى الفطر أقوى له ويقضي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ الصحابة – رضي الله عنهم – على الصوم والفطر. وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة. وهذا من يسر الشريعة ولله الحمد. قال تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (3).
ولا فرق في جواز الفطر في السفر بين طول المدة وقصرها، ولا بين السفر الطارئ لغرض، أو المستمر كسائقي الطائرات وسيارات الأجرة؛ لعموم الآية، والله أعلم.
والرخصة في الإفطار منوطة بالسفر لا بالمشقة، فلو سافر على الطائرة – مثلاً – فله الفطر؛ لأنه مسافر فارق بلده.
__________
(1) عارضة الأحوذي (3/262).
(2) أخرجه البخاري (4/186)، ومسلم (1121).
(3) سورة البقرة، الآية: 185.(1/82)
وقد دلت النصوص على أن المسافر إذا شق عليه الصوم مشقة شديدة فإنه يحرم عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه – وهو في غزوة الفتح – أن الناس قد شق عليهم الصيام دعا بماء بعد العصر فشربه والناس ينظرون إليه، فقيل له: إن بعض الناس قد صاموا، فقال: "أولئك العصاة. أولئك العصاة"(1).
وأما إذا كان الصيام يشق عليه مشقة غير شديدة، فالأولى في حقه الفطر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"(2) وفي رواية "كما يحب أن تؤتى عزائمه"(3).
فإن كان لا يشق عليه الصوم فعل الأيسر عليه. فإن تساويا فالصوم أفضل؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه أسرع في إبراء ذمته وأنشط له إذا صام مع الناس.
وإذا قدم المسافر إلى بلده في نهار رمضان وهو مفطر فمن أهل العلم من قال: يلزمه الإمساك بقية اليوم احتراماً للزمن، ويجب عليه القضاء. ومنهم من قال: لا يلزمه الإمساك، لأنه لا يستفيد من هذا الإمساك شيئاً لوجوب القضاء عليه؛ لأنه استباح هذا اليوم بدليل الشرع، فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حقه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من أكل أول النهار فليأكل آخره)(4) ولكن لا يعلن أكله ولا شربه؛ لخفاء سبب الفطر؛ لئلا يجرّ التهمة إلى نفسه. ولئلا يغترّ به الجاهل، فيظن أن الفطر جائز بلا عذر، والله اعلم(5).
__________
(1) رواه مسلم (1114) عن جابر رضي الله عنه.
(2) رواه أحمد (2/108)، وابن حبان (2742) عن ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح.
(3) رواه ابن حبان (354)، والطبراني في الكبير (11881) عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح.
(4) رواه البيهقي (4/216)، وابن حزم في المحلى (6/363) وسكت عنه.
(5) انظر الفروع (3/19)، والمجموع شرح المهذب (6/262).(1/83)
وللمسافر الفطر في اليوم الذي يعلم أنه يتقدم فيه ما دام في سفره؛ لأن الله تعالى قال: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } (1).
ولم يستثن حالة من الأحوال؛ ولأن من علم أنه يقدم في الوقت، فإنه ما دام في السفر يجوز له قصر تلك الصلاة وجمعها إلى ما يجوز له الجمع فيه. فكذلك الصيام، والأحكام المترتبة على السفر لا تنقطع إلا بانقطاعه(2). والله أعلم.
اللهم إنا نسألك من الخير كلّه ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كلّه ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: في صوم المريض
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 184).
(2) انظر: المختارات الجلية لابن سعدي ص(61، 62).(1/84)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال. وساق الحديث إلى أن قال: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فجعل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصام يوم عاشوراء. ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } (1). ثم أنزل الله الآية الأخرى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } (2). فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حولان . . ."(3) [أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي، وهو حديث صحيح](4).
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على وجوب صوم رمضان أداء في حق المقيم الصحيح وقضاء في حق المريض والمسافر، قال تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (5).
وأما الكبير فإنه يفطر ويطعم ولا قضاء عليه، كما سيأتي إن شاء الله فهؤلاء ثلاثة أصناف:
أما الأول وهو المسافر فتقدم الكلام عليه، وأما الثاني وهو المريض فإن المريض نوعان:
الأول: مريض يرجى برؤه وفقاً لسنة الله تعالى في الأسباب والمسبّبات.
الثاني: مريض لا يرجى برؤه بتقدير الأطباء المختصين.
أما الأول فله مع الصيام ثلاث حالات:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 183.
(2) سورة البقرة، الآية: 185).
(3) أي حالان: الأولى في قوله تعالى { كتب عليكم الصيام } إلى قوله: { فدية طعام مسكين } وهي تفيد فرض الصيام مع جواز الفطر، والثانية تؤخذ من قوله تعالى { شهر رمضان . . . } إلى قوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } وهي تفيد وجوب الصيام أداء في حق المقيم الصحيح وقضاء في حق المسافر والمريض.
(4) رواه أبو داود (3/196) والبيهقي (4/200)، وأحمد (5/246)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1/103).
(5) سورة البقرة، الآية: 185.(1/85)
الحالة الأولى: أن يقدر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، فهذا يجب عليه الصيام؛ لأنه ليس له عذر يبيح الفطر.
الحالة الثانية: ألا يطيق الصيام بحال. فهذا يجب عليه الفطر. والصيام محرم في حقه؛ لأنه ليس في طاقته أن يصوم قال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } (1).
الحالة الثالثة: أن يقدر على الصيام مع المشقة فهذا له الفطر ولا يكلف نفسه بالصوم في هذه الحالة إلا جاهل؛ لأنه إعراض عن رخصة الله، قال تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"(3).
ومن أمثلة الضرر والمشقة أن يخاف على نفسه التلف أو ذهاب عضو، أو أن الصيام يزيد من مرضه، أو يخاف تماديه أو تباطؤ برئه. أو له دواء مرتّب لابد أن يتناوله في النهار أو نحو ذلك. ويكفي في ذلك غلبة الظن، أو بتجربة المريض نفسه للصيام، أو بإخبار طبيب مسلم ثقة في دينه، ثقة في عمله.
وإذا حدث المرض في أثناء النهار وهو صائم وشق عليه إتمام يومه جاز أن يفطر في أي جزء من أجزاء النهار؛ لوجود العذر المبيح للفطر، وإذا برئ في أثناء النهار وهو مفطر لم يصح أن يصوم ذلك اليوم؛ لأنه كان مفطراً أول النهار. وهل يلزمه الإمساك؟ تقدم ذلك في الكلام على المسافر.
هذا في المريض الذي يرجى برؤه، أما الثاني وهو من ابتلى بمرض لا يرجى برؤه وفقاً لسنة الله تعالى الجارية على الأسباب والمسبّبات – وإن كانت القدرة الإلهية لا يعجزها شيء – فهذا ليس عليه صيام. وقد نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر. إذ أنه لن يجد وقتاً للقضاء ما دام مرضه ملازماً له على الدوام، فهو ملحق بالشيخ الكبير الذي لا يقدر على الصيام لكبر سنه، ومثله المرأة الكبير العاجزة عن الصوم.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 29.
(2) سورة البقرة، الآية: 185.
(3) تقدم تخريجه.(1/86)
فهؤلاء الثلاثة لا صيام عليهم ولا قضاء. وعليهم الفدية؛ لأن الله تعالى جعل الإطعام معادلاً الصيام حين كان التخيير بينهما أول ما فرض الصيام. فتعين أن يكون بدلاً عن الصيام عند العجز؛ لأنه معادل له.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً)(1).
ويخير في الإطعام بين أن يفرّقه حباً على المساكين، لكل واحد مدّ برّ من النوع الجيد، ومقداره (563) جراماً تقريباً. وبين أن يصنع طعاماً ويدعو إليه من المساكين بقدر الأيام التي أفطرها، لما رود عن أنس رضي الله عنه (أنه ضعف عن الصوم عاماً فصنع جفنة ثريد. ودعا ثلاثين مسكيناً فأشبعهم)(2)، والله أعلم.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ونسألك أن تهدينا لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في صوم الحائض والنفساء
عن معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت: أحرورية(3) أنت؟ قالت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة [رواه البخاري، ومسلم](4).
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) رواه البخاري (4505)، وراجع: فتح الباري (8/179).
(2) أخرجه الدار قطني (2/207) وسنده صحيح.
(3) الحرورية: نسبة إلى قرية في العراق قرب الكوفة نزل فيها أول فرقة من الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه. ويقال لمن اعتقد رأي الخوارج. حروري، وكان تشددهم في الدين ورأيهم الخاص أن الحائض تقضي الصلاة كالصوم.
(4) أخرجه البخاري (1/421)، ومسلم (335).(1/87)
الحديث دليل على أن الحائض ومثلها النفساء – بالإجماع – لا يحل لهما الصوم، وأنهما تفطران رمضان وتقضيان. وقد ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ قلنا: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها"(1).
وهذا من رحمة الله تعالى بالنساء فإن الصلاة تتكرر كلّ يوم، والحيض يتكرر كل شهر غالباً. فإلزامها بقضاء الصلاة فيه مشقة. وفي التعبد بأدائها بعد الحيض غنيّ عن التعبد بقضائها، ومصلحة التعبد بها لا تفوت بترك قضائها، والصوم عبادة سنوية ليس في قضائها مشقة، بل فيه مصلحة للمرأة، والله عليم حكيم(2).
وإذا حاضت المرأة أو نُفِسَتْ في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم ولو قبل الغروب بلحظة، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم، إلا أن يكون تطوعاً فقضاؤه تطوع؛ لأن القضاء يحكي الأداء.
وتفطر سراً؛ لأنه سبب خفي، ولا تعلنه لئلا تجرّ التهمة إلى نفسها أو يغترّ بها الجاهل فيظن أن الفطر جائز بلا عذر.
فإن أحست بأعراض الحيض من وجع أو انتقال ولم ينزل شيء إلا بعد الغروب فصومها صحيح. لأن الحكم معلق بوجود الحيض، ولم يوجد.
وإذا طهرت الحائض أثناء نهار رمضان لم يصح صوم ذلك اليوم. لوجود ما ينافي الصيام في أوله. ومن أهل العلم من قال: تمسك بقية اليوم احتراماً للزمن مع وجوب القضاء. ومنهم من قال: لا تمسك لعدم استفادتها من هذا الإمساك، لكون القضاء واجباً عليها، وهذا أظهر، والله أعلم.
وإذا طهرت في الليل في رمضان، ولو قبل الفجر بلحظة بأن انقطع الدم ورأت الطهر، وجب عليها الصوم؛ لأنها من أهل الصيام. ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر – كما تقدم – لأن الاغتسال ليس شرطاً في الصوم.
__________
(1) رواه البخاري (1/405)، 4/191)، وأخرجه مسلم (132) (79، 80) عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2) انظر: أعلام الموقعين (2/60).(1/88)
ولا أنصح المرأة المسلمة بتناول الحبوب التي تؤخر الحيض عن وقته مع أنه يجوز استعماله ما لم يكن هناك ضرر، إلا أن الأولى بالمرأة أن تساير الفطرة التي فطرها الله عليها. وهذا أمر كتبه الله على بنات آدم. ولا حرج على المرأة أن تفطر وتقضي ما فاتها بعد رمضان، كما كانت تفعل نساء السلف الصالح، وهذه الحبوب لها أضرار فهي تؤخر الدورة الشهرية عن ميعادها، وتحبس الدم في الرحم في وقت خروجه. ثم إنها تؤدي إلى اضطراب عادة المرأة. فإن استعملت المرأة هذه الحبوب صح صومها وصلاتها. والحيض المحتبس بسبب استعمالها لا أثر له في صحة العبادة؛ لأن أحكام الحيض لا تثبت إلا بعد خروجه.
وإذا طهرت النفساء قبل الأربعين وجب عليها أن تصوم إذا كان ذلك في رمضان، وتفعل ما تفعله الطاهرات؛ لأنه لا حدّ لأقل النفاس.
وأما الاستحاضة فلا تمنع الصوم؛ لأن النص ورد في دم الحيض والنفاس، ولأن دم الاستحاضة مستمر، ودم الحيض مؤقت؛ ولأن دم الاستحاضة لا يمنع الصلاة، ولا الطواف بالبيت، فكذلك الصيام، وهذا بإجماع أهل العلم، والله أعلم.
اللهم ربّ جبريل وميكائيل، وربّ إسرافيل نعوذ بك من حرّ النار، ومن عذاب القبر، ونعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الحديث الرابع: في صوم الحامل والمرضع
عن أنس بن مالك الكعبي – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عزّ وجلّ وضع عن(1/89)
المسافر شطر الصلاة. وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام"(1) [أخرجه أصحاب السنن، وهذا لفظ ابن ماجة، وحسنه الترمذي].
...
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن الحامل والمرضع مرخّص لهما في الفطر في رمضان. وأن الله تعالى وضع عنهما الصوم. وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، فإن المرأة في حالة الحمل قد تخاف على نفسها من مشقة الصيام. أو تخاف على حملها في بطنها الذي أصبح جزءاً منها. فغذاؤه منها، وبقاؤه بها. أو تخاف عليهما معاً.
وهي في حالة الإرضاع – أيضاً – قد تخاف على نفسها أو على رضيعها أو على الاثنين جميعاً.
والجمهور من أهل العلم على أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على أنفسهما أو على أنفسهما وولديهما فإن عليهما قضاء عدة ما أفطرتا، متى تيسر ذلك لهما، وزال عنهما الخوف، كالمريض إذا برئ. ولا فدية عليهما في هذه الحال؛ لأنهما كالمريض. قال تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } (2).
قال في المغني: (لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه). وكذا قال النووي رحمه الله(3)، ويكون المراد بالحديث وضع الأداء دون القضاء؛ لأنه ذكر المسافر، وإنما وضع عنه الأداء فقط.
__________
(1) رواه أبو داود (7/45)، والترمذي (3/401) والنسائي (4/190)، وابن ماجة (1/533) وقال الترمذي: حديث حسن، وقد نقل الحافظ في التهذيب (1/33) أن الترمذي صححه فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ (انظر تفسير الطبري/ تحقيق أحمد شاكر (3/4387).) وقال الألباني في تخريج المشكاة (2025): سنده جيد.
(2) سورة البقرة، الآية: 184.
(3) المغني (4/394) شرح المهذب (6/267).(1/90)
وإن خافتا على ولديهما لا على أنفسهما أفطرتا، وقضتا على قول الجمهور؛ لأنهما تستطيعان القضاء. ولا يعرف في الشريعة إسقاط القضاء عن المستطيع. وأفتى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة وسعيد بن المسيب رحمهم الله بأن لا قضاء عليهما. ويروى عن ابن عباس وابن عمر القضاء زمن الاستطاعة، وهذا يتفق مع قول الجمهور(1).
أما الفدية ففي وجوبها عليهما خلاف بين أهل العلم، فمنهم من أوجبها، لدخولها في عموم قوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } (2).
فإن معنى الآية: وعلى الذين يستطيعون الصيام فدية طعام مسكين لكل يوم من أيام الصيام كتب عليهم، والحامل والمرضع تستطيعان الصيام وإنما خافتا على ولديهما. وممن قال بذلك من الصحابة: عبدا لله بن عباس وابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن قدامة: (ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة)(3). وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية في المشهور، والمالكية في إحدى الروايتين. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكين والحبلى والمرضع إذا خافتا. قال أبو داود: يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا(4).
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها. فقال: تفطر وتطعم مكان كلّ يوم مسكيناً مداً من حنطة(5).
__________
(1) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/230) ومصنف عبد الرازق (4/218).
(2) سورة البقرة، الآية: 184.
(3) المغني (4/394).
(4) رواه أبو داود (6/431)، وإسناد صحيح.
(5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/230)، من طريق الإمام الشافعي، وسنده صحيح.(1/91)
ومنهم من قال: لا فدية عليهما. وهو قول لبعض التابعين، وهو مذهب أبي حنيفة، والمالكية في إحدى الروايتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أن عليهما الفدية عندما أخبر أن الله تعالى وضع عنهما الصوم؛ ولأنه فطر أبيح لعذر فلا تجب فيه الفدية، كالفطر للمريض.
والأخذ بمذهب الجمهور وهو القضاء أحوط وأبرأ للذمة في هذه العبادة العظيمة(1)، والله أعلم.
ومن احتاج للفطر لمصلحة أحد كإنقاذ معصوم من غرق، أو حريق أو هدم أو نحو ذلك فله أن يفطر إذا لم يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، بل يجب عليه؛ لأن إنقاذ المعصوم واجب. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وله أن يأكل ويشرب بقية اليوم. ويقضي ما أفطره، والله أعلم.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك،وجميع سخطك، ونعوذ بك من شر ما عملنا، ومن شرّ ما لم نعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الخامس
في صوم الصغير والمجنون والمغمى عليه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم"(2) [رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) انظر: الشرح الممتع (6/362).
(2) أخرجه أبو داود رقم (4403)، والنسائي (6/156) وابن ماجة (2041) والحاكم (2/59)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وأخرجه الترمذي من حديث علي رضي الله عنه (1423)، وفيه إرسال كما قال الإمام الذهبي رحمه الله، والحديث رواه البخاري تعليقاً في الحدود (12/120)، وقد روي هذا الحديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول) مجموع الفتاوى (11/191)، وانظر الإرواء (2/4).(1/92)
الحديث دلّ على أن الصبي والمجنون والنائم غير مكلفين، لأن رفع القلم كناية عن سقوط التكليف، والغرض من إيراد الحديث بيان حكم الصيام بالنسبة لهؤلاء.
أما الصبي فلا يجب عليه الصيام حتى يبلغ، لكنه يؤمر به أمر تعليم وترغيب إذا كان يطيق الصيام. وذلك بمراعاة القدرة البدنية. فقد يبلغ الصبي أو الصبية العاشرة ولكن جسمه ضعيف لا يطيق الصيام. فيمهل حتى يشتدّ عوده ويقوى.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصوِّمون أولادهم وهم صغار ويجعلون لهم اللعبة من العهن، فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم إياها يتلهّون بها حتى يتمّوا صومهم(1).
ولا ينبغي للولي منع ولده من الصيام مع رغبته فيه وقدرته عليه. بل عليه أن يشجعه ويرغبه، لينشأ على شعائر الإسلام وتعاليمه القيمة.
وإذا حصل البلوغ بإحدى علاماته أثناء نهار رمضان فإن كان من بلغ صائماً أتم صومه، وإن كان مفطراً لزمه الإمساك بقية يومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه، لأنه لم يكن من أهل الوجوب وقت الإمساك. ويستثنى من ذلك البلوغ بالحيض؛ فلا تمسك لعدم صحة صوم الحائض، ولا يلزمها قضاء ذلك اليوم.
وأما المجنون وهو فاقد العقل، فلا يجب عليه الصيام؛ لعدم قصد الامتثال، فلو أصيب بالجنون قبل طلوع الفجر واستمر إلى غروب الشمس، فصومه غير صحيح، ولا قضاء عليه؛ لأنه غير مكلف.
وإن صام ثم جنّ أثناء النهار صح صومه على قول الجمهور؛ لأنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم، وقالت الشافعية: يفسد صومه؛ لأن الجنون معنى يمنع وجوب الصيام، فكذا إذا وجد في أثنائه، كالحيض، والله أعلم.
وإن استمر به الجنون الشهر كله ولم يفق في جزء منه فإنه لا يلزمه القضاء، لسقوط تكليفه طوال الشهر. وقد تقرر عند أهل العلم أن الصغير غير مخاطب بالأحكام التكليفية أثناء الصغر؛ لفقد الأهلية، فكذا المجنون.
__________
(1) رواه البخاري (4/200) ومسلم (1136). ومعنى (من العهن) أي: الصوف ونحوه.(1/93)
ومن نوى الصيام من الليل ثم أغمي عليه ولم يفق إلا بعد غروب الشمس فإن صومه لا يصح، لعدم وجود نية الصوم بسبب عارض خارج عن إرادته فهو كالمجنون. وعليه القضاء عند جمهور أهل العلم؛ لأنه مكلف ومدة الإغماء لا تطول غالباً. وقال آخرون: لا قضاء عليه؛ لأنه صوم فات في حال سقط فيه التكليف، فلم يجب قضاؤه، كالصغير إذا بلغ، وإن أفاق جزءاً من النهار صح صومه بلا نزاع، والله أعلم.
ومن أصيب بإغماء أو غيبوبة وطالت المدة بأن امتدت شهراً أو أكثر كما يحصل في عصرنا هذا مع أجهزة الإنعاش الصناعي فهذا أشبه بحالة الجنون. وتكليفه بالقضاء فيما بعد فيه حرج عليه. فهو كالمجنون إذا استمر به الجنون الشهر كله. لأن الغيبوبة الطويلة معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء، والشريعة الإسلامية مبنية على رفع الحرج ودفع المشقة.
وأما النوم فإنه لا يمنع من صحة الصوم فلو نوى الصيام ثم نام النهار كله ولم ينتبه إلا بعد الغروب صح صومه عند جماهير أهل العلم؛ لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية فمتى نبّه انتبه. وإن استيقظ لحظة من النهار صح صومه إجماعاً، والله اعلم.
اللهم متّعنا بأسماعنا وأبصارنا، واجعلهن الوارث منا، وانصرنا على من ظلمنا. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل العاشر
في العشرة الأواخر من رمضان
الحديث الأول: في الاجتهاد في العشرة الأواخر
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشد المئزر"(1) [رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) أخرجه البخاري (4/269)، ومسلم (1174).(1/94)
الحديث دليل على أن للعشر الأواخر من رمضان مزيّة على غيرها بمزيد الطاعة والعبادة من صلاة وذكر وتلاوة قرآن.
فقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نبينا وقدوتنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأربع صفات:
الأولى: قولها (أحيا الليل) أي: سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت، والمعنى: أحياه بالقيام والتعبد لله رب العالمين، وأما ما ورد من النهي عن قيام الليل كلّه الوارد في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه(1)، فهو محمول على من دوام عليه جميع ليالي السنة(2).
الثانية: قولها (وأيقظ أهله) أي: زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن؛ ليشاركنه اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الأوقات المباركة.
الثالثة: قولها (وجدّ) أي: اجتهد في العبادة زيادة على عبادته في العشرين الأوّلين. وذلك لأن في العشر الأواخر ليلة القدر.
الرابعة: قولها (وشدّ المئزر) أي: جدّ واجتهد في العبادة. وقيل: اعتزل النساء، وهذا أظهر لعطفه على ما قبله. ولحديث أنس رضي الله عنه: (وطوى فراشه واعتزل النساء)(3)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر والمعتكف ممنوع من النساء.
فتحرص – أخي المسلم – على الاتصاف بهذه الصفات. ولتحافظ على صلاة التهجد مع الإمام، إضافة إلى صلاة التراويح، ليزيد الاجتهاد في هذه العشر على عشريه الأولين. وليحصل إحياء الليل بالصلاة.
وعليك أن تتحلى بالصبر على طاعة الله تعالى، فإن صلاة التهجد تحتاج إلى ذلك، وفضلها عظيم. فهي – والله – فرصة العمر، وغنيمة لمن وفقه الله تعالى. وما يدري الإنسان لعله تدركه فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/217)، ومسلم (1159).
(2) مجموع الفتاوى (22/308).
(3) انظر: لطائف المعارف ص219، فتح الباري (4/269).(1/95)
وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يطيلون صلاة الليل تأسياً بنبيّهم - صلى الله عليه وسلم - ، يقول السائب بن يزيد (أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيّ بن كعب وتميماً الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر)(1)، وعن عبد الله بن أبي بكر قال: (سمعت أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر)(2).
والمؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع لنفسه بينهما ووفي بحقوقهما فهو من الصابرين الذين يوفّون أجرهم بغير حساب.
إن هذه العشرة هي ختام الشهر، والأعمال بخواتيمها. ولعل الإنسان يدرك فيها ليلة القدر وهو قائم لرب العالمين، فيغفر له ما تقدم من ذنبه.
وعلى الإنسان أن يحث أهله وينشطهم ويرغبهم في العبادة. لاسيما في هذه المواسم العظيمة التي لا يفرط فيها إلا محروم، فإن الإيقاظ أمر ميسور في هذا الزمان، لكن المطلوب توجيه الأهل والناشئة إلى الاستفادة من ساعات الليل، والحذر من ضياعها في القيل والقال، وأعظم من ذلك أن يمضي الإنسان وقت صلاة الناس وتهجدهم في المجالس المحرمة والاجتماعات الآثمة فهذا هو الخسران، نسأل الله السلامة.
فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) رواه مالك في الموطأ (1/116)، وانظر له ولما قبله (الصيام) للفريابي ص129، وما بعدها.(1/96)
ومما يؤسف عليه أن ترى بعض الناس يقبل على الأعمال الصالحة في أول الشهر من الصلاة والقراءة ثم تظهر عليه علامات الملل والسأم، ولاسيما عند دخول العشر الأواخر التي لها مزية على أول الشهر، فعلى الإنسان أن يواصل الجد والاجتهاد ويزيد في الطاعة إذا أخذ شهره في النقص، فالأعمال بخواتيمها، وما أحرى القبول إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع. وفي ذلك فيتنافس المتنافسون.
اللهم أيقظنا لتدارك بقايا الأعمار، ووفقنا للتزوّد من الخير والاستكثار، واجعلنا ممن قبلت صيامه، وأسعدته بطاعتك فاستعدّ لما أمامه، وغفرت زلله وإجرامه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: في الاعتكاف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان"(1)، [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل الاعتكاف في المساجد ولاسيما العشر الأواخر من رمضان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزّ وجل. وما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه الطاعة والقربة فهو مندوب لنا.
والاعتكاف: لزوم مسجد على وجه القربة من شخص مخصوص بصفة مخصوصة، قال القرطبي في تفسيره: (أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد؛ لقول الله تعالى: { وأنتم عاكفون في المساجد } (2).
وقد أجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب. وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل، عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأزواجه رضي الله عنهم، ويتأكد في رمضان؛ لما تقدم.
ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد جماعة. وإن كان اعتكافه تتخلله صلاة جمعة فإن تيسر أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة فهو أحوط لأن من أهل العلم من يشترط ذلك.
__________
(1) البخاري (4/271)، ومسلم (1171).
(2) سورة البقرة، الآية: 178.(1/97)
ويدخل معتكفه قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين – وعلى قول جمهور أهل العلم – لحديث أبي سعيد – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه: " . . . من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر . . ."(1) ويؤيد ذلك أن من مقاصد الاعتكاف التماس ليلة القدر، وهي ترجي في أوتار العشر، وأولها ليلة إحدى وعشرين.
والاعتكاف في المسجد في العشر الأواخر له فائدة عظيمة، فإنه عزلة مؤقتة عن أمور الحياة وشواغل الدنيا. وإقبال بالكلية على الله تعالى.
ولما كان المعتكف منقطعاً لعبادة الله تعالى في بيت من بيوته، منع من مباشرة النساء بجماع أو تقبيل أو نحو ذلك. كما أن المعتكف ممنوع من الخروج إلا لحاجة الإنسان الضرورية كالاغتسال إن أصابته جنابة بالاحتلام، وكالبول والغائط إذا لم يوجد في المسجد حمام يقضي حاجته فيه ويغتسل. وله أن يخرج ليأتي بطعامه إذا لم يكن هناك من يأتيه به.
قالت عائشة رضي الله عنها: (السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لابد منها)(2).
أما خروجه لطاعة لا تجب عليه كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك فلا يفعله، إلا إن اشترط ذلك في ابتداء اعتكافه – على أحد القولين – والله أعلم.
وإن مرض أثناء اعتكافه فإن كان يسيراً بحيث لا تشق معه الإقامة في المسجد كصداع ووجع ضرس وعين ونحوهما من الأمراض التي لا تلزم الفراش فهذا لا يجوز له الخروج؛ لإمكانه تعاطي بعض الأدوية وهو في مكانه فإن خرج بطل اعتكافه.
وإن كان المرض شديداً بحيث تشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم، ومعاودة الطبيب، فهذا يباح له الخروج لحاجته إليه. فإذا شفي رجع وبنى على اعتكافه، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/259 فتح) ومسلم (1167).
(2) رواه أبو داود (7/144)، بإسناد جيد على شرط مسلم، انظر الإرواء (4/139).(1/98)
وعلى المعتكف أن يدرك حكمة الاعتكاف فيقضي وقته بالصلاة وتلاوة القرآن والذكر،وأن يستفيد من وقته، وله أن يطلب العلم ويقرأ في كتب التوحيد والتفسير والحديث وغيرها من الكتب المفيدة، ولا بأس أن يتحدث قليلاً بحديث مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية رضي الله عنها: قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي . . . الحديث"(1) والله أعلم.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحقّ في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع. ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في فضل ليلة القدر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(2) . . . [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل ليلة القدر وقيامها، وهي ليلة عظيمة شرفها الله تعالى، وجعلها خيراً من ألف شهر، في بركتها وبركة العمل الصالح فيها، فهي أفضل من عبادة ألف شهر. وهي عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر. ومن قامها إيماناً واحتساباً غفرت ذنوبه، ونزل في هذا الفضل آيات تتلى، قال تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم(4) } (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (4/278)، ومسلم (2175).
(2) أخرجه البخاري (4/225)، ومسلم (957).
(3) سورة الدخان، الآية: 3، 4.(1/99)
فهي ليلة مباركة كثيرة الخير والبركة لفضلها وعظيم أجر العامل فيها. ومن بركتها أن الله تعالى أنزل القرآن فيها، قال تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4) سلام هي حتى مطلع الفجر } (1).
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق، تعظيماً له)(2).
وليلة القدر في رمضان قطعاً؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن فيها وقد أخبر سبحان أن إنزاله في شهر رمضان، قال تعالى {إنا أنزلناه في لليلة القدر}(سورة القدرالآية 1 ): { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } (3) أي: أنزل جملة إلى السماء الدنيا وأول نزوله إلى الأرض(4).
وقوله (ليلة القدر) بسكون الدال إما من الشرف والمقام، كما يقال: فلان عظيم القدر، فتكون إضافة الليلة إليه من باب إضافة الشيء إلى صفته أي: الليلة الشريفة. وإما من التقدير والتدبير، فتكون إضافتها إليه من باب إضافة الظرف إلى ما يحويه، أي: الليلة التي يكون فيها تقدير ما يجري في تلك السنة، كما قال تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم } (5).
قال قتادة: يفرق فيها أمر السنة(6)، قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح(7) أ هـ، والظاهر أنه لا مانع من اعتبار المعنيين، والله أعلم.
__________
(1) سورة القدر.
(2) تفسير ابن كثير (8/465).
(3) سورة البقرة، الآية: 185.
(4) المرشد الوجيز لأبي شامة ص(115، 129)، التذكار للقرطبي ص23.
(5) سورة الدخان، الآية: 4.
(6) أخرجه الطبري في تفسيره (25/65) والبيهقي في "فضائل الأوقات" ص216، وإسناده صحيح.
(7) شفاء العليل لابن القيم 42.(1/100)
وقوله: (إيماناً) أي: إيماناً بالله، وبما أعد الله تعالى من الثواب للقائمين في هذه الليلة العظيمة، ومعنى (احتساباً) أي: للأجر وطلب الثواب.
فهذه ليلة عظيمة اختارها الله تعالى لبدء تنزيل القرآن، وعلى المسلم أن يعرف قدرها، ويحييها إيماناً وطمعاً في ثواب الله تعالى، لعل الله عز وجل أن يغفر له ما تقدم من ذنبه. وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغفلة عن هذه الليلة وإهمال إحيائها لئلا يحرم المسلم من خيرها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"(1).
وعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر. ويدعو بما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما قالت يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"(2).
قال ابن كثير رحمه الله: (ويستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات. وفي شهر رمضان أكثر. وفي العشر الأخير منه. ثم في أوتاره أكثر. والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني")(3).
__________
(1) سبق تخريجه أول الكتاب.
(2) رواه الترمذي (3513) وابن ماجة (3850)، وأحمد (6/171، 182، 183، 208) والنسائي في عمل اليوم والليلة. ص499، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) تفسير ابن كثير (8/472).(1/101)
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الرابع: في تحري ليلة القدر
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" وفي رواية: في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"(1) [رواه البخاري، ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن المسلم مأمور بتحري ليلة القدر في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم. وذلك بالقيام وإحياء الليل في طاعة الله تعالى.
ومعنى: (يجاور) أي: يعتكف في المسجد. ومعنى (تحروا) أي: اطلبوا، قال في النهاية: (أي: تعمدوا طلبها فيها. والتحري: القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول)(2) أ هـ.
وقد دلت الأحاديث الثابتة على أن العبد يتحرى ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر. فإن ضعف أو عجز عن طلبها في الأوتار، فلا تفوته ليلة القدر في أوتار السبع البواقي ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وأٌقربها ليلة سبع وعشرين؛ لحديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: والله إني لأعلم أي ليلة هي؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين(3).
__________
(1) أخرجه البخاري (4/259)، مسلم (1169).
(2) النهاية لابن الأثير (1/376).
(3) رواه مسلم (762).(1/102)
ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين – مثلاً – وفي آخر ليلة خمس وعشرين تبعاً لمشيئة الله تعالى وحكمته، والأحاديث تفيد ذلك(1). وقد روى عن أبي قلابة – رحمه الله – أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر في وتر(2) والله أعلم.
وقد أخفيت ليلة القدر على الأمة فلم تبق معرفتها كساعة الجمعة. ولله تعالى حكمة بالغة في إخفائها. ليتحراها المسلمون، وتعلو همتهم ويشتدّ طلبهم، إذ لو تيقنا أيّ ليلة هي، لتراخت العزائم طوال الشهر، واكتفى بإحياء تلك الليلة. فكان إخفاؤها مستدعياً قيام كلّ الشهر والاجتهاد في العشر الأواخر منه، كما أن في إخفاؤها اختباراً للعباد ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها حريصاً على إحيائها إيماناً وطمعاً في أجرها. ممن كان كسلاناً متهاوناً لا يقيم لها وزناً. ففي إخفائها خير عظيم، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين. فقال "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت. وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"(3).
__________
(1) انظر: المفهم للقرطبي (3/251) فتح الباري (4/265)، رسالة العراقي: (شرح الصدر بذكر ليلة القدر ص48).
(2) أخرجه عبد الرازق (4/252)، وابن أبي شيبة (3/76) وأخرجه الترمذي (3/159) عن عبد بن حميد عن عبد الرازق.
(3) رواه البخاري (4/267).(1/103)
ومعنى: (فتلاحى فلان وفلان) أي: وقعت بينهما ملاحاة. وهي المخاصمة والمنازعة والمشاتمة ورفع الأصوات، وذلك شؤم، ولهذا حرموا بركة ليلة القدر في تلك الليلة، وهذا مما سبق في علم الله تعالى. قال ابن كثير رحمه الله: (فيه استئناس لما يقال: إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع. وكما جاء في الحديث: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"(1).
وقوله: (فرفعت) أي: رفع علم تعيينها لكم، لا رفعت بالكلية. لأنه قال بعد ذلك: (فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة).
فعلى المسلم أن يحرص على تحقيق هذا الخير، والحصول عليه بالعبادة والطاعة في ليالي العشر من الصلاة والتلاوة والذكر والتضرع بالدعاء، والصدقة. وكل ما يستطيعه من الباقيات الصالحات. وعليه بالمبادرة لحضور صلاة التراويح وصلاة التهجد آخر الليل، ليدخل مع الإمام من أول الصلاة بخضوع وخشوع وذل وانكسار متأملاً في مواعظ القرآن متدبراً آياته يسأل عند آية الرحمة. ويتعوذ عند الآية التي فيها عذاب.
وما هي إلا ليالٍ معدودة يربح فيها الممتثل المطيع. ويخسر فيها العاصي المضيع.
والعاقل يعرف قدر عمره وقيمة أنفاسه. فيغتنم ما يفوت استدراكه، ومن عرف شرف المواسم. وأوقات الفضائل اغتنمها.
وليلة القدر ليلة عامة لجميع من يطلبها ويبتغي خيرها وأجرها وما عند الله فيها، يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أن قامها ووافقها. وإن لم يظهر له شيء من علاماتها.
وأما ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يقم ليلة القدر فيوافقها (أراه قال): إيماناً واحتساباً غفر له"(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير [8/471] وأما الحديث فهو جزء من حديث راجع له السلسلة الصحيحة للألباني رقم 154.
(2) رواه مسلم رقم (760).(1/104)
فقال النووي: (معناه: يعلم أنها ليلة القدر). وقال آخرون: معناه: يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك. لأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه. وقد يطلع الله عليها بعض عباده بأمارات يعرفونها بها،كما رأى الرسول لله أنه يسجد صبيحتها في ماء وطين(1)، والله أعلم.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر وفاز بالثواب الجزيل والأجر، واجعلنا من السابقين إلى الخيرات، والآمنين في الغرفات، وارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الفصل الحادي عشر
في ختام الشهر
الحديث الأول: في وجوب التوبة
عن الأغرّ بن يسار المزني – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أيها الناس. توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة"(2) [رواه مسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على وجوب التوبة على كل إنسان؛ لأن هذا أمر والأمر للوجوب. قال تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (3)، وقال تعالى: { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } (4).
ولابد لكل عبد من توبة. فإن الإنسان لا يخلو من معصية أو تقصير في طاعة الله تعالى. والتوبة كما تكون من فعل السيئات تكون من ترك الحسنات المأمور بها.
فعلى المسلم أن يختم شهره بالتوبة على الله تعالى، والإنابة إليه. فيفعل ما يحبه مولاه، ويترك ما لا يرضاه. ويسدرك في بقية شهره ما فاته في أوله. ويقف بباب خالقه موقف العبد الذليل، الخائف المنكسر بين يديه.
__________
(1) أخرجه مسلم (1168) من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وورد أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم أيضاً.
(2) صحيح مسلم رقم (2702) (42).
(3) سورة النور، الآية: 31.
(4) سورة هود، الآية: 3.(1/105)
والتوبة واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغير أو كبيرة، لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ ولأن السيئات تجر أخواتها. وذلك إصرار على المعصية، يوجب قسوة القلب، وبعده عن الله تعالى. كما يوجب ضعف الإيمان؛ لأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
وللتوبة النصوح التي أمر الله بها شروط خمسة وهي:
1) الإخلاص: بأن تكون توبته خالصة لوجه الله تعالى، لا يريد بها شيئاً من أغراض الدنيا ولا تزلّفاً عند مخلوق. بل يتوب من الذنب طاعة لله عز وجل. ومحبة له وتعظيماً، راجياً ثوابه، خائفاً من عقابه.
2) أن يكف ويترك المعصية التي كان متلبساً بها، فإن كانت فعل محرم أقلع عنه في الحال، وإن كانت ترك واجب يمكن قضاؤه، بادر بأدائه كالزكاة والحج. وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي. بأن كان مالاً رده إلى صاحبه إن كان حياً، أو إلى ورثته إن كان ميتاً، وإن كان لا يعرف صاحبه تصدق به له. وإن كان الحق غيبة استحله منها إن كان قد علم بغيبته إياه، أو خاف أن يعلم بها. وإلا استغفر له، وأبدل غيبته بمدحه والثناء عليه في المجلس الذي اغتابه فيه، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
3) ومن شروط التوبة أن يندم على فعل المعصية ويتمنى أن لم يفعلها لأجل أنه يورث له ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي الله تعالى.
4) أن يعزم أن لا يعد إليها أبداً. وهذه ثمرة التوبة. وهي الدليل على صدق صاحبها.(1/106)
5) أن تكون التوبة في وقتها المقدر فإن كانت بعد نهايته لم تقبل، وقد دل على ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"(1) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"(2) أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه. فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض.
فالبدار البدار إلى التوبة قبل الفوات. والحذر الحذر من التسويف فالكل لا يدري متى الموت؟
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، ارزقنا التوبة إليك والإنابة، وأيقظنا يا مولانا من نوم الغفلة، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة، اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته، وتضرع إليك فرحمته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: في زكاة الفطر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة"(3) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
__________
(1) أخرجه مسلم (2703).
(2) أخرجه الترمذي (3537) وأحمد (6160) وابن ماجة (4253) من طريق علي بن عياش عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان. وعبد الرحمن قال عنه في التقريب: صدوق يخطئ. فالإسناد حسن، كما قال الترمذي: ووقع عند ابن ماجة (عبد الله بن عمرو) وهو وهم، كما قال المزي في تحفة الأشراف (5/328).
(3) أخرجه البخاري (3/367)، ومسلم (984).(1/107)
الحديث دليل على وجوب زكاة الفطر، على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، طهرة للصائم مما يكدّر صومه وينقص ثوابه. وطعمة للمساكين في يوم الفرح والسرور، وفيها الاتصاف بالكرم والمساواة. وفيها إظهار شكر نعمة الله بإتمام الصيام والقيام، وفعل ما تيسر من الأعمال الصالحة.
ومقدار زكاة الفطر: صاع من طعام من بر أو شعير، أو تمر أو زبيب، أو أقط، أو ما يقوم مقامها من قوت البلد كالأرز. ومقدار صاع كيلوان وربع الكيلو من الجيد.
ويخرجها قبل صلاة العيد هذا هو الأفضل. ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين، لفعل بعض الصاحبة رضي الله عنهم. قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن زكاة الفطر قبل الصلاة؟ قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يخرجها قبل الفطر بيوم أو يومين وهو الذي روى الحديث(1) أ هـ.
ويخرجها في البلد الذي يوافيه تمام رمضان وهو فيه. فإن أخرها عن صلاة العيد بلا عذر لم تقبل منه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"(2).
وإذا لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة، أو كان وقت إخراجها في برّ أو بلد ليس فيه مستحق أجزأ إخراجها بعد الصلاة.
ولا يجوز دفع القيمة بدل الطعام؛ لأنه خلاف المنصوص. قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع، يعطي دراهم؟ قال: أخاف أن لا يجزئه. خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص85.
(2) رواه أبو داود (5/3) والنسائي (5/50) وابن ماجة (1827) وغيرهم وهو حديث حسن، حسنه النووي في المجموع (6/126)، ومن قبله ابن قدامة في المغني (4/284)، وانظر الإرواء (3/332).
(3) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص85، وانظر: المغني (4/295).(1/108)
ويخرجها الإنسان عن نفسه وعمن تلزمه نفقته كزوجته وأولاده إذا لم يستطيعوا أن يخرجوها عن أنفسهم. فإن استطاعوا أخرجوها؛ لأنهم هم المخاطبون بها، كما في حديث ابن عمر المتقدم.
وعلى الإنسان أن يتأكد من استحقاق آخذها. فإن من الناس من جرت عادته بدفع زكاته وزكاة أهل بيته على شخص معين لغرض من الأغراض، وهذا لا يجوز، فإن الزكاة حق لله تعالى لا تجوز المحاباة فيه، وقد تكون حالة هذا الشخص تغيرت، فصار غير مستحق لها.
ويجوز للفقير إذا أخذ الفطرة من شخص أن يدفعها زكاة عن نفسه أو أحد عائلته إذا تأكد من كيلها.
ولا يجوز للإنسان إخراج الردئ في الزكاة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد } (1).
فأمر الله تعالى بإعطاء الجيد، ونهى عن الردئ، والإنسان لا يرضى الردئ يدفع إليه عن حق واجب، فكيف يرضاه الله تعالى؟!
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في شعائر يوم العيد
روى ابن أبي شيبة بسنده عن الزهري. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير(2)، [ إسناده صحيح. وهو مرسل، وله شواهد يتقوى بها].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على مشروعية التكبير جهراً في الطريق إلى مصلى العيد وكذا إذا أتى المصلى إلى أن تقضى الصلاة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 267.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (2/164)، وانظر: لشواهده "السلسلة الصحيحة" رقم (171) وإرواء الغليل (3/122).(1/109)
وقد شرع الله تعالى لعباده التكبير عند إكمال عدة رمضان من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد. قال تعالى: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون } وصفته أن يقول الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
ويسن الجهر به وإظهاره في المساجد والمنازل والطرقات وكلّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى.
وقد شرع الله تعالى لعباده صلاة العيد يوم العيد، وهي من تمام ذكر الله تعالى. وهي سنة لا ينبغي لمسلم تركها. بل ذهب فريق من أهل العلم إلى وجوبها؛ بدليل ما ورد عن أم عطية – رضي الله عنها – قالت: "أمرنا – تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - – أن نخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين"(1) والأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء، فالرجال من باب أولى.
وينبغي أن يكون خروجه إلى مصلى العيد على أحسن هيئة متزيناً بما يباح، لابساً أحسن ثيابه، تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويحذر في ختام هذا الشهر الكريم من التزين بما لا يحل، كحلق اللحية وإسبال الثوب، ولبس الذهب، ونحو ذلك مما حرّمه الله، بل عليه التوبة النصوح؛ لعله أن يكون من المقبولين.
ويبكر إلى المصلى؛ ليحصل له الدنوّ من الإمام، وفضل انتظار الصلاة، ويسن مخالفة الطريق، وهو أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، لقول جابر رضي الله عنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق(2).
ويسن أن يأكل تمرات وتراً – ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك يقطعها على وتر – لقول أنس رضي
__________
(1) أخرجه البخاري (980 فتح) ومسلم (890).
(2) أخرجه البخاري (986 فتح).(1/110)
الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات(1)، وفي لفظ (يأكلهن وتراً)(2).
وقد دل حديث أم عطية رضي الله عنها – المتقدم – على مشروعية حضور النساء صلاة العيد. بشرط أن يكون ذلك على وجه تؤمن معه الفتنة بهن ومنهن، فيخرجن غير متطيبات، ولا متبرجات بزينة، بعيدات عن أماكن الرجال.
وعلى المسلم أن يتذكر باجتماع الناس لصلاة العيد، اجتماعهم على صعيد واحد. يوم البعث والجزاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين. ويتذكر بتفاضلهم في هذا المجتمع، التفاضل الأكبر في الآخرة، قال الله تعالى: { انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } .
وعلى المسلم أن يحذر من الغفلة عن ذكر الله تعالى وشكره، وأن يعمر هذه الأوقات بالطاعة، وفعل الخير، ولا يمضيها في اللهو واللعب – كما عليه كثير من الناس في هذا الزمان – والله المستعان.
اللهم ثبتنا على الإيمان، واغفر لنا ما سلف وكان، من الذنوب والعصيان، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، واجعل مآلنا إلى جنانك، وعُمّنا بفضلك وإحسانك، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
...
الفصل الثاني عشر
ما بعد رمضان
الحديث الأول: فضل صيام الست من شوال
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله"(3)، [رواه مسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على فضل صيام ستة أيام من شوال. والمراد بالدهر هنا: السنة، أي: كأنما صام السنة كلّها، وقد ورد عند النسائي (جعل الله الحسنة بعشرة أمثالها. فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة)(4).
__________
(1) أخرجه البخاري (953).
(2) انظر: فتح الباري (2/446).
(3) رواه مسلم (1164).
(4) رواه النسائي في الكبرى (2/162) عن ثوبان رضي الله عنه.(1/111)
وهذا من فضل الله على عباده أن يحصل ثواب صوم الدهر على وجه لا مشقة فيه، وهذه هي الحكمة في كونها ستة أيام، والله أعلم.
فينبغي للإنسان أن يصوم هذه الأيام الستة؛ ليفوز بهذا الفضل العظيم. وعلامة قبول الطاعة وصلها بطاعة أخرى. وصيام هذه الأيام دليل على رغبة الإنسان في الصيام ومحبته له وأنه لم يملّه ولم يستثقله.
والصيام من أفضل الأعمال كما تقدم. ومن ثمار صوم النفل – كغيره من التطوعات – أنه يجبر ما عسى أن يكون في أداء الفرض من نقص أو تقصير. وفي ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - – في شأن الصلاة: "قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمّل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله كذلك"(1)
كما أن صوم النفل يهيئ المسلم للرقي في درجات القرب من الله تعالى، والظفر بمحبته، كما في الحديث القدسي: "ما تقرّب إلى عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه . . . الحديث"(2).
والأفضل أن تكون هذه الأيام الستة متتابعة. ويجوز تفريقها أثناء الشهر، قال في سبل السلام: (واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر)(3)، ولكن صيامها بعد العيد فيه مزية على تفريقها من وجوه:
الأول: أن في ذلك مسارعة إلى فعل الخير.
الثاني: أن المبادرة بها دليل على الرغبة في الصيام وعدم السأم منه.
الثالث: لئلا يعرض له ما يمنعه من صيامها إذا أخرها.
الرابع: أن صيام الست بعد رمضان كالراتبة مع الفريضة، فتكون بعدها والله أعلم.
__________
(1) رواه الترمذي بتمامه (2/462) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: حديث حسن.
(2) رواه البخاري (11/340 – 341).
(3) سبل السلام (2/331).(1/112)
ومن عليه قضاء فإنه يبدأ به ثم يصوم هذه الأيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام رمضان". ومن عليه أيام من رمضان فلا يصدق عليه أنه صام رمضان حتى يقضيها ثم يصوم الست. ولأن المسارعة إلى أداء الواجب وبراءة الذمة مطلوبة من المكلف. ومن أهل العلم من قال: بوجوب صوم القضاء قبل التطوع. فالأحوط للمسلم أن يصوم ما عليه ثم يتطوع بصيام الست وغيرها. فإن صام تطوعاً صح صومه مع بقاء الواجب في ذمته، والله أعلم(1).
والظاهر من قولي أهل العلم أنه إذا خرج شهر شوال ولم يصمها فإنها لا تقضى، لأنها سنة فات محلها، والشارع خصها بشوال فلا يحصل فضلها لمن صامها في غيره، لفوات مصلحة المبادرة والمسارعة المحبوبة لله تعالى. فلو كان شوال وغيره سواء لم يكن لذكره فائدة. وقيل: إن كان له عذر من مرض أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك من الأعذار التي بسببها أخّر صيام الست عن شهر شوال فإنه يدرك أجرها إذا صامها بعده، والله أعلم(2).
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم إنا نسألك من كلّ خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شرّ خزائنه بيدك وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثاني: الاستقامة بعد رمضان
عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قل لي في الإسلام قولاً لا اسأل عنه أحداً غيرك" قال - صلى الله عليه وسلم - : "قل: آمنت بالله ثم استقم"(3) [رواه مسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن العبد مأمور بعد الإيمان بالله تعالى، بالاستقامة على الطاعة، بفعل المأمور واجتناب المحظور، وذلك بملازمة سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم. من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة.
__________
(1) انظر: القواعد لابن رجب ص13.
(2) انظر: فتاوى الشيخ عبد الرحمن السعدي ص230.
(3) صحيح مسلم 38.(1/113)
وإذا كان المسلم قد عاش رمضان فعمر نهاره بالصيام وليله بالقيام، وعوّد نفسه على فعل الخير، فعليه أن يلازم طاعة الله تعالى على الدوام، فهذا شأن العبد، فإن رب الشهور واحد، وهو مطلع على العباد وشاهد.
وإن استقامة المسلم بعد رمضان وصلاح أقواله وأفعاله لأكبر دليل على استفادته من رمضان. ورغبته في الطاعة. وهذا عنوان القبول وعلامة الفلاح. وعمل المؤمن لا ينتهي بخروج شهر ودخول آخر. بل هو ممتد إلى الممات، قال تعالى: { واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين } (1) ولئن انقضى قيام رمضان فالسنة كلها ظرف للقيام، ولئن انتهى وقت زكاة الفطر، فأوقات الزكاة المفروضة وصدقة التطوع تمتدّ طوال العام، وقراءة القرآن وتدبره وكل عمل صالح مطلوب في كل زمان.
وإن من فضل الله على عباده كثرة أبواب الطاعات وتنوع سبل الخيرات، ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لخدمة مولاه.
ومما يؤسف عليه أن بعض الناس يتعبدون في رمضان بأنواع الطاعات. فيحافظون على الصلوات الخمس في المساجد. ويكثرون من تلاوة القرآن، ويتصدقون من أموالهم، فإذا انقضى رمضان تكاسلوا عن الطاعة. بل ربما تركوا الواجبات، كصلاة الجماعة عموماً أو الفجر خصوصاً، وارتكبوا المحرمات، من النوم عن الصلاة، والعكوف على آلات اللهو والطرب، والاستعانة بنعم الله على معاصيه، فهدموا ما بنوه، ونقضوا ما أبرموه، وهذا دليل الحرمان وعلامة الخسران،نسأل الله السلامة والثبات.
إن مثل هؤلاء يعتبرون التوبة والإقلاع عن المعاصي أمراً مؤقتاً بشهر رمضان. ينتهي بانتهائه، وكأنهم تركوا الذنوب لأجل رمضان لا خوفاً من الله تعالى. وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
__________
(1) سورة الحجر، الآية: 99.(1/114)
إن توفيق الله عبده لصيام رمضان، وإعانته عليه نعمة عظيمة، تستدعي من العبد شكر ربه والثناء عليه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى بعد تمام نعمة الصيام: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون } (1).
ومن شكره أن يصوم عقبه، ويعمل الصالحات، فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، والتكاسل عن صلاة الجماعة. فهذا من تبديل نعمة الله كفراً، ومن فعل ذلك فهو على خطر عظيم.
إن منهج المسلم الحق أن يحمد ربه ويشكره على نعمة الصيام والقيام، وأن تكون حاله بعد رمضان أحسن من حاله قبل رمضان، إقبالاً على الطاعة، ورغبة في الخير، ومسارعة للواجب. مستفيداً من هذه المدرسة المتميزة، وأن يخاف ألا يقبل منه صيامه؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين.
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك لقبوله ويخافون ردّه. ومن مأثور علي رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشدّ اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: { إنما يتقبّل الله من المتقين } (2)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } (3). قالت عائشة رضي الله عنها: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم. أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون"(4).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.
(2) سورة المائدة، الآية: 27.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 60.
(4) رواه الترمذي (9/19) وقوله: (أولئك الذين) هكذا في رواية الترمذي، وفي القرآن (أولئك يسارعون) والحديث صححه الألباني (صحيح الترمذي 3/79، 80).(1/115)
فالحذر الحذر من الانتكاسة بعد الهداية. والاعوجاج بعد الاستقامة، والله الله بالمداومة على العمل الصالح، والاستمرار على فعل الخير، وسؤال الله تعالى حسن الخاتمة.
اللهم أيقظنا من نوم الغفلة، ونبّهنا لاغتنام أوقات المهلة، ووفقنا لمصالحنا، واعصمنا من ذنوبنا وقبائحنا، واستعمل في طاعتك جميع جوارحنا، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الثالث: في قضاء رمضان
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"(1) [رواه البخاري ومسلم].
... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن من أفطر في رمضان لعذر من مرض أو سفر أو حيض أو نفاس أو غير ذلك، أن عليه القضاء، وأنه لا يجب القضاء على الفور، بل وجوبه على التراخي، فيجوز لمن عليه أيام من رمضان أن يؤخر القضاء إلى شعبان؛ لفعل عائشة رضي الله عنها، ولو كان التأخير غير جائز لما فعلته رضي الله عنها وواظبت عليه؛ لأن الظاهر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
والمبادرة بالقضاء أولى من التأخير؛ لأن ظاهر صنيع عائشة رضي الله عنها إيثار المبادرة، حيث اعتذرت عن تأخير القضاء بكونها لا تستطيع، ولو استطاعت لما أخرته إلى شعبان.
والمبادرة بالقضاء فيها مسارعة لإبراء الذمة. والاحتياط في الدين، وقد ينسى الإنسان لاسيما إذا كانت الأيام قليلة. والمبادرة بالقضاء داخلة في عموم الأدلة الدالة على المسارعة إلى عمل الخير.
قال تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } (2). وقال تعالى: { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (4/189)، ومسلم (1146).
(2) سورة آل عمران، الآية: 133.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 61.(1/116)
ولا يجب التتابع في القضاء بل يجوز القضاء متتابعاً ومفرقاً، لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام } (1).
قال ابن عباس رضي الله عنهما (لا بأس أن يفرّق)(2).
وذلك أن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه فيه، فأما بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام عدة ما أفطر؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: { فعدة من أيام أخر } (3)، ولم يشترط تتابعاً، فإن هذه العدة تصدق على ما كان مجتمعاً ومتفرقاً؛ لأنه يحصل من كلّ منهما عدة. ولهذا قال بعدها: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (4).
والتتابع في القضاء أفضل للمكلف مسارعة إلى إسقاط الفرض. وخروجاً من خلاف من أوجب التتابع. ولأنه أنشط للصائم إذا قضى ما عليه متتابعاً بخلاف ما إذا فرق لاسيما إذا كانت الأيام كثيرة.
والسنة كلها ظرف للقضاء، لعموم الآية، إلا أيام العيدين وأيام التشريق، فلا يصح القضاء فيها، للنهي عن صومها؛ لقول عمر – رضي الله عنه: (هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم)(5). ولقول عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما: (لم يرخّص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي)(6).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 184.
(2) علقه البخاري (4/188) ووصله عبد الرازق (4/243)، والدار قطني (2/192) وابن أبي شيبة (3/33، 34) وسنده صحيح، وفي المسألة آثار عن الصحابة تفيد ذلك.
(3) سورة البقرة، الآية: 184.
(4) انظر: مسائل الإمام أحمد للبغوي ص85.
(5) أخرجه البخاري (4/238) ومسلم 1137.
(6) أخرجه البخاري (4/242).(1/117)
ويجوز القضاء في عشر ذي الحجة على الراجح من قولي أهل العلم، وهو قول الجمهور؛ لدخولهما في عموم (فعدة من أيام أخر) من غير تقييد بوقت دون وقت، فيكون عاماً في جميع الأوقات، ولا يخرج من عمومه إلا ما أخرجه الدليل. وقد خصّ الدليل أيام العيدين والتشريق. وأيام شهر رمضان الحاضر؛ وما عدا ذلك فباق على العموم.
وأما التطوع بصيام الست من شوال لمن عليه قضاء من رمضان فقد تقدم بيانه قريباً.
ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان الثاني؛ لأن عائشة رضي الله عنها جعلت شعبان هو الغاية، فإن أخره بعذر بأن اتصل عجزه من مرض، أو سفر ونحوهما ولم يستطع القضاء حتى جاء رمضان، فلا شيء عليه، لقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (1). فيقضي ما عليه من أيام بعد نهاية رمضان الحاضر.
فإن فرّط وأخر القضاء بغير عذر حتى جاء رمضان، فإنه يصوم بعد رمضان الحاضر. وليس عليه إطعام، لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } (2)، وعليه التوبة والاستغفار من هذا التقصير.
وقد أفتى بعض الصحابة رضي الله عنهم كابن عباس وأبي هريرة بالإطعام عن كل يوم مسكين مع القضاء. ولعل هذا من باب الاجتهاد والتأديب لهذا المفرط.. وجبر هذا التقصير بإيجاب الإطعام عليه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 285.
(2) سورة البقرة، الآية: 184.(1/118)
فقد روى الدار قطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر. قال: يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه. ويطعم لكل يوم مسكيناً(1). وورد نحو هذا عن ابن عباس رضي الله عنه. والأخذ بهذه الفتوى وجيه ولو على سبيل الاستحباب(2)؛ لأن هذا النوع من جبر التقصير بالصدقة. والصدقة مندوب إليها عموماً والله أعلم.
اللهم أصلح أعمالنا، وحقق فيك آمالنا، واجعلنا على طاعتك غدوتنا وآصالنا، اللهم اغفر سيئاتنا، وارفع درجاتنا. وارحم آباءنا وأمهاتنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
الحديث الرابع: من مات وعليه صيام
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"(3) [رواه البخاري ومسلم].
... ... ... * ... ... * ... ... *
الحديث دليل على أن من مات وعليه صوم واجب فإنه يشرع لوليه أن يقوم بقضاء الصوم عن قريبه؛ لأنه إحسان إليه وبر وصلة، ويبرأ به إن شاء الله.
__________
(1) سنن الدار قطني (2/197) وقال: إسناده صحيح، وكذا ما وردعن ابن عباس إسناده صحيح (2/197).
(2) من يقول: إن مذهب الصحابي ليس بحجة يمكنه الأخذ بهذا القول ولو على وجه الاستحباب، أما الوجوب فلم يثبت فيه شيء يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم.
(3) أخرجه البخاري (4/192) ومسلم (1147)، وعند البزار زيادة: (إن شاء)، حسنها الهيثمي في المجمع (3/179) وقال الحافظ في التلخيص (2/221): (وهي ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة) يعني بذلك أنه تفرد بها وهو ضعيف، والله أعلم.(1/119)
والحديث عام في كل صوم واجب على الميت. سواء كان واجباً بالشرع كصوم رمضان، أو واجباً بالنذر، وهذا على أحد القولين. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها؟، قال - صلى الله عليه وسلم - : "أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان ذلك يؤدى عنها؟". قالت: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم - : "فصومي عن أمك".
وفي رواية قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه؟" قال: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم - "فدين الله أحق أن يقضى").
وفي رواية قال: إن أختي ماتت(1).
فهذه الروايات تفيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم النذر، وسئل عن صوم شهر. وهو محتمل أن يكون رمضان أن يكون نذراً، وفي كلها يقول: (فدين الله أحق أن يقضى) مما يدل على تعدد الواقعة. وأن حديث ابن عباس فرد من أفراد القاعدة العامة التي دل عليها حديث عائشة رضي الله عنها، وأنه في كل صيام وجب على الميت وتمكن في حياته من قضائه ولم يصمه، فهذه الأفراد صور مستقلة سأل عنها من وقعت له. وفي كل صورة يأتي الجواب بالأمر بالقضاء.
قال النووي رحمه الله: (الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت سواء صوم رمضان والنذر وغيره من الصوم الواجب، للأحاديث الصحيحة ولا معارض لها)(2).
__________
(1) حديث ابن عباس في البخاري (4/192) ومسلم (1148) وعند أحمد في المسند بلفظ: (وعليها صوم شهر) (1/362)، وانظر: فتح الباري (4/194)، وانظر: تحقيق أحمد شاكر للمسند رقم الحديث 3420.
(2) المجموع شرح المهذب (6/370)، وانظر: شرح النووي على مسلم رقم الحديث 1147، 1148.(1/120)
وأما من خصّ حديث عائشة رضي الله عنها بالنذر، لحديث ابن عباس (وعليها صوم نذر) ففيه نظر ظاهر. إذ لا تعارض بين الحديثين حتى يحمل أحدهما على الآخر؛ لأن حديث عائشة في تقرير قاعدة عامة. وحديث ابن عباس في فرد من أفراد هذه القاعدة، بل إن في حديث ابن عباس ما يدل على دخوله في عموم حديث عائشة، وهو قوله: (فدين الله أحق أن يقضى)(1).
وأعلم أن حديث عائشة – رضي الله عنها – مراد به ما إذا تمكن الإنسان من الصيام الواجب عليه بأن صحّ من مرضه، أو قدم من سفره ولم يصم حتى مات. لأنه صوم وجب عليه فيقضى عنه. كما يقضى الدين.
أما إذا لم يتمكن من القضاء بأن استمر به المرض أو استمر بها الحيض أو النفاس إلى الموت. أو لم يقدم من سفره حتى مات. فهذا لا يقضى عنه، ولا يلزم في تركته إطعام في قول أكثر أهل العلم؛ لسقوطه عنه بعدم التمكن من القضاء، فلم يكن داخلاً في قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } (2).
والمراد بالولي في الحديث: وارثه أو قريبه. والوارث أولى القرابة وهذا الأمر في الحديث على قول الجمهور أمر استحباب وارشاد لاأمر ايجاب، إذ لو قلنا بالإيجاب للزم أن يأثم الولي بعدم صيامه عن الميت، وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } (3).
__________
(1) ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كابن عباس وعائشة آثار تفيد أنه لا يصام عن الميت إلا النذر وأما رمضان فيطعم عنه، وهذه الآثار لا تقدم على المرفوع. والعبرة بما رواه الراوي لا بما رآه، لاحتمال أن يخالف ذلك الاجتهاد، ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنه، وإذ ثبت صحة الحديث لم يترك المحقّق للمظنون، كما هو مقرر في الأصول (انظر: فتح الباري 4/194)، نيل الأوطار (4/236).
(2) سورة البقرة،الآية: 184.
(3) سورة فاطر، الآية: 18.(1/121)
ويؤيد ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاسه على الدين، ومن المعلوم أن الإنسان ليس مطالباً بقضاء دين غيره إلا من باب البر والصلة والإحسان. لأن الأصل براءة الذمم. فينبغي للقريب أن يصوم عن قريبه.
ولو صام عدد من الأشخاص بعدد الأيام أجزأ، قال البخاري: قال الحسن: (إن صام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز)(1).
وإذا لم يصم القريب عن الميت فإنه يطعم عنه من تركته عن كل يوم مسكيناً، لكل مسكين مدّ برّ من البر الجيد، ومقداره (563) جراماً تقريباً، لأنه دين تعلق بتركته، ودين الله أحق أن يقضى. وإن جمع الولي مساكين بعدد الأيام التي على الميت وأشبعهم جاز، لما ورد عن أنس رضي الله عنه أنه ضعف عن الصوم عاماً فصنع جفنة ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً فأشبعهم(2)، فإن لم يكن له تركة وتبرع أحد بالإطعام عنه أجزأ، وإن لم يتبرع أحد عنه فأمره إلى الله تعالى. والله أعلم.
اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واجعل صومنا مقبولاً، وثواب أعمالنا موفوراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .
فهرس الأحاديث
أ
طرق الحديث ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
إذا انتصف شعبان فلا تصوموا
أحصوا هلال شعبان
أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم
أخبرني ماذا فرض الله علي
إن في الجنة باباً يقال له: الريان
* إذا دخل شهر رمضان
أتاكم رمضان شهر مبارك
إذا كان أول ليلة من رمضان
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر فقال: آمين
إنما الأعمال بالنيات
إذا أكل الصائم ناسياً
إن الله تجاوز لي عن أمتي
* أفطر الحاجم والمحجوم
اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً
ألا أدلك على أبواب الخير
* هذه النجمة تشير إلى الأحاديث المشروحة.
* اقرءوا القرآن
أي الدعاء أسمع
إن في الليل لساعة
أيها الناس أفشوا السلام
__________
(1) فتح الباري (4/192)، وانظر: شرح المهذب (6/371).
(2) تقدم تخريجه.(1/122)
* إذا أقبل الليل من هاهنا
أفطرنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر
إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد
إن لله عتقاء في كل يوم وليلة
إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول
أولئك العصاة
إن الله يحب أن تؤتى رخصه
* أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال
أحرورية أنت؟
أليس إذا حاضت لم تصل
* إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة
أرأيت لو كان على أمك دين
ب/ت
* بني الإسلام على خمس
* بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً
بينما أنا نائم أتاني رجلان
* تسحروا فإن في السحور بركة
تسحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
ث/ خ/ د/ ذ/ ر
ثلاث دعوات مستجابات
رفع القلم عن ثلاثة
خرجت لأخبرهم بليلة القدر
ثلاث من أخلاق النبوة
دخلت أنا ومسروق على عائشة
* ثلاثة لا ترد دعوتهم
دع ما يريبك
رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش
ذهب الظمأ وابتلت العروق
س/ص
الصوم يوم تصومون
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة
سبحان الملك القدوس
? الصيام جنة
الصيام والقرآن يشعان
صلاة في مسجدي هذا
السحورأكله بركة
السواك مطهرة للفم
* سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان
السنة في المعتكف أن لا يخرج
ع/ ف/ ق
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه
فتنة الرجل في أهله وماله
* قال الله تعالى أحب عبادي إليّ
قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع
* قل أمنت بالله ثم استقم
* فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر
* القرآن حجة لك
ك
كل عمل ابن آدم يضاعف
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف(1/123)
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في العشر الأواخر
* كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر
* كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائماً
كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطاراً
* كان يكون عليّ الصوم من رمضان
ل
ليس الصيام عن الأكل والشرب
لله عند كل فطر عتقاء
* لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
م
من صام اليوم الذي يشك فيه
من لم يدع قول الزور
من صلى الفجر في جماعة
* من صام رمضان إيماناً واحتساباً
* من لم يجمع الصيام من الليل
* من أكل أو شرب ناسياً
من أفطر في شهر رمضان
* من ذرعه القيء
* من قام رمضان إيماناً واحتساباً
* من قام مع الإمام حتى ينصرف
* من فطر صائماً كان له مثل أجره
* ما منعك أن تحجي معنا
ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه
* من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً
من يقم ليلة القدر
من أداها قبل الصلاة
* من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال
ما تقرب إليّ عبدي بشيء
* من مات وعليه صيام
ن/ هـ/ و
هل صمت من سرر هذا الشهر
هل عندكم شيء
نعم سحور المؤمن تمر
وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب
هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما
ل/ي
* لا تقدموا رمضان
* لا تصوموا حتى تروا الهلال
لا يغرنكم آذان بلال
لا وتران في ليلة
* لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر
لا تمنعوا إماء الله
لا يا ابنة الصديق
يا أيها الناس توبوا إلى الله
يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي
يدع الطعام من أجلي
* يقال لصحاب القرآن
يؤتى بالقرآن
* ينزل ربنا
يا فلان قم فاجدح لنا
لا يزال الدين ظاهراً
فهرس الموضوعات
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
مقدمة
مقدمة الطبعة الثالثة
الفصل الأول: بين يدي رمضان
الحديث الأول: حكم سبق رمضان
الحديث الثاني: بم يثبت رمضان
الحديث الثالث: في البشارة برمضان
الفصل الثاني: في وجوب الصيام ومقوماته(1/124)
الحديث الأول: في وجوب الصيام وشيء من حكمه
الحديث الثاني: في الصيام شرعاً
الحديث الثالث: النية في الصيام
الفصل الثالث: فضائل الصيام وخصائص رمضان
الحديث الأول: في شيء من فضائل رمضان
الحديث الثاني: في شيء من خصائص رمضان
الحديث الثالث: الصوم مغفرة للذنوب
الفصل الرابع: أبرز الشعائر التعبدية في رمضان
لحديث الأول: في قيام رمضان
الحديث الثاني: في تلاوة القرآن
الحديث الثالث: في آداب تلاوة القرآن
الحديث الرابع: وجوب العمل بالقرآن
الحديث الخامس: في تفطير الصائم
الحديث السادس: في فضل العمرة في رمضان
الفصل الخامس: من أحكام الصيام
الحديث الأول: من أكل أو شرب ناسياً
الحديث الثاني: حكم جماع الصائم في نهار رمضان
الحديث الثالث: تعمد القيء يفسد الصيام
الحديث الرابع: الحجامة للصائم
الحديث الخامس: ما يجب على الصائم تركه
الحديث السادس: الترهيب من الإفطار في رمضان متعمداً
الفصل السادس: في السحور وآدابه
الحديث الأول: الأمر بالسحور وبركته
الحديث الثاني: تأخير السحور
الحديث الثالث: لحظات الأسحار
الفصل السابع: في الإفطار وآدابه
الحديث الأول: متى يفطر الصائم؟
الحديث الثاني: تعجيل الإفطار
الحديث الثالث: الدعاء عند الإفطار
الحديث الرابع: ما يستحب الإفطار عليه
الفصل الثامن: ما يباح للصائم فعله
الحديث الأول: السواك للصائم
الحديث الثاني: صحة صوم من أصبح جنباً
الحديث الثالث: المباشرة والقبلة للصائم
الفصل التاسع: أهل الأعذار في رمضان
الحديث الأول: في المسافر
الحديث الثاني: في المريض
الحديث الثالث: في الحائض والنفساء
الحديث الرابع: في الحامل والمرضع
الحديث الخامس: في الصغير والمجنون والمغمى عليه
الفصل العاشر: في العشر الأواخر من رمضان
الحديث الأول: في الاجتهاد في العشر الأواخر
الحديث الثاني: في الاعتكاف
الحديث الثالث: في فضل ليلة القدر
الحديث الرابع: في تحري ليلة القدر
الفصل الحادي عشر: في ختام الشهر(1/125)
الحديث الأول: في وجوب التوبة
الحديث الثاني: في زكاة الفطر
الحديث الثالث: في شعائر يوم العيد
الفصل الثاني عشر: ما بعد رمضان
الحديث الأول: فضل صيام ستة أيام من شوال
الحديث الثاني: الاستقامة بعد رمضان
الحديث الثالث: قضاء رمضان
الحديث الرابع: من مات وعليه صيام
فهرس الأحاديث
فهرس الموضوعات تمت المراجعة 23/12/25 14 هـ(1/126)