مقالات عن الحج من مجلة المنار لمحمد رشيد رضا
تأثير الوعظ والتذكير
كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا
الحسين ( عليه السلام والرضوان ) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري
فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون
ويطلبون حاجاتهم ، فقرأ الشيخ : ? مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ?
( الأنبياء : 52 ) وأشار إليهم ، فقرأت أنا : ? قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ?
( الأنبياء : 53 ) ثم قلت له : ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه
المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد ؟ ! فقال : إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا
إلى الباطل . قلت : إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه ، فإذا تصارع هو والباطل
وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له ، فقال : ( إذا ثبت !) قلت : وما
يمنعه من الثبات ؟ ! قال : إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات
يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا ، ويساعدهم من يتصلون
به من الكبراء ، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية . قلت له :
على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع ، ويجاهد به جهادًا
كبيرًا أو يُغلب على أمره . قال الشيخ : لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح
والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس ؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون
أهواءهم . قلت : الأمر يخالف ذلك ؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى
قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا
الشقاء ، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك ، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد
أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر ، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه ، حتى
قال بعضهم : لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا . قال(1/1)
الشيخ : وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان ؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما
يروج غيره مثلاً ؟ ! قلت له : لا ، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو
تفضيل تعليمه ، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم ، وأنا أرجو
أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا
وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم .
هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن ، وإليك هذه
الواقعة التي حدثت في هذه الأيام .
قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية
ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ ، فأثّر في نفوس
الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش
فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات ؛
فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع
ولا قانون ، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى
أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون
مضاعفة ، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة ، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة
الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع .
لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال ؟ ! أليس
إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين ؟ ! بلى ، قد امتثلوا أمر
الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر :
إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ
فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا ، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد ؛ فماذا يكون
من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي(1/2)
تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم ؟ ! لَعَمْرُك ، إن الأمة تنهض بذلك
نهضة الأسود ؛ فتحفظ موجودًا ، وتسترد مفقودًا ، وتنال عند الله مقامًا محمودًا .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 2 ] الجزء [ 5 ] صـ 72 27 ذو القعدة 1316 ـ 8 إبريل 1899 ))
أسئلة من البحرين
عن حكم الحج وترك الملوك والأمراء وبعض العلماء له
( س30 - 36 ) لصاحب الإمضاء بجزيرة البحرين :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف
الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير ، أدام الله تعالى شريف وجوده
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه . وبعد فالداعي لتحريره عرض مسألة عرضت
لنا في هذه الأيام ، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله
الحرام والتمتع بمشاهدة مهد الإسلام ، وبهذه المناسبة صار بيننا جدال وكلام كثير
بخصوص الحج ومناسكه فالتجأنا إلى طلب الاستهداء من حضرتكم لإرشادنا إلى
السبيل الأقوم والصراط المستقيم ، فعليه قدمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من
حضرتكم على هذه الأسئلة وهي :
علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينا وجعل هذا الدين مُقامًا
على خمسة أركان رئيسية ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع
إليه سبيلا .
هذا هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها ، وبفضل المنار المنير
وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحكم من الصلوات
والزكاة والشهادتين والصيام كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العام ، ولكن
اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول في الحج بعض أعمال لم نعرف
الحكمة منها فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلناه وهو :(1/3)
1- ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر
لا يضر ولا ينفع ولا يخفى ما في ذلك من المظاهرة الوثنية ؟
2- ما الحكمة في رمي الحجارة الجمار في القليب في مزدلفة ؟
3- ما الحكمة في الهرولة بين المروتين ؟
4- ما المقصد في ذبح الذبائح على كثرتها ودفن لحومها في منى ، وفي ذلك
ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم ؛ إذ تنتشر الأوبئة منها ،
ولماذا يمنع الناس من أكلها ؟ وهل ذلك لازم ، ومن المناسك التي لا يتم الحج إلا
بها على هذه الصورة . ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًّا
ثمنًا لهذه اللحوم ؛ إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه فما قولكم لو صرفوا هذه
المبالغ على إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها وتنظيفها وعلى كل ما يعود على
الحجاج بالراحة والصحة والسلامة .
5- لماذا أقاموا دون عرفة بِنَائَيْنِ عن اليمين والشمال تعرف بالعلمين ؟ وكل
من لم يكن خلف هذين البِنَائَيْنِ ليس مقبول الحج مع أنه تكلف العشاء ووصل إلى ما
دونهما ؟ ولماذا يكون من خلفها مقبول الحج ، وهو في لهوه ولعبه ، وممارسة ما
اعتاده في بلاده من الأعمال ، ومن كان دونها غير مقبول ، ولو كان على غير ذلك ؟
وهل هذان البناءان حد فاصل بين الله والناس أو بين الجنة والنار .
6- نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش
ومات وهو لم يحج مع أنه ربما رحل في سنته مرتين أو ثلاثا إلى أوربا أو إلى
غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة
والحج كل موسم للنصح والإرشاد . فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام والمرحوم السيد
عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم عاشوا وماتوا وهم لم يروا مكة في وقت الحج .
وحضرتك أيضا كذلك ، فما هي الأسباب يا ترى ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن
الحج لا بد له من سبب فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام
عن الحج المقدس .(1/4)
7- وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون ولا نرى
الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند والصين والروسيا وجاوا وبلاد العرب كمصر
وتونس وسوريا والعراق وغيرها . وهذا كثير من سلاطين آل عثمان الخلفاء
وأمراء البيت السلطاني وأعاظم الرجال من الوزراء والحكام والأغنياء المشار إليهم
بالبنان كلهم لا يحجون ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج ، فما هو السر في ذلك يا
ترى ، وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين ، وكثر تحدث الناس في
ذلك حتى تجرأ أحدهم فقال : إن المقصود من حج العزيز غرض سياسي ورحلة في
جهات الحجاز لا غيرُ ، وليس له مقصد في الحج قطعًا .
هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه ، ولك يا سيدنا
الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص ، وإذ كانت
في المنار تكون أعم وأنفع ، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها
كتابة مخصوصة فالأمر إليك ، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك ، ولنا كبير الأمل أن
حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم ؛ لأنه لا
يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران ، لا الإثم والخسران ، فأمط لنا - بما
أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي
به مَن ضل عن محجة الصواب ، والسلام عليك .
4 شعبان سنة 1331 إلى مصر . القاهرة
من المخلص
ناصر مبارك الخيري
بالبحرين
أجوبة المنار
قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا ،
والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة ، وعذر الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه ، وكون عذرنا
عين عذره .
وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب
هذه الأسئلة ، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها ، وها نحن أولاء نبادر إلى(1/5)
ذلك ، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ .
* * *
حكمة تقبيل الحجر الأسود
ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى
والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل
قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى ، ومن عرف معنى العبادة
يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى
وحده باتباع ما شرعه فيهما ، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي
العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته ،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه . ذلك أن عبادة الشيء عبارة
عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر
عنه ، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه ، سواء كانت هذه
السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن
يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية ، ولا يوجد
أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له ، ولا أن
سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى ، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد
ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها : ? مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى ? ( الزمر : 3 ) ، ? هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ? ( يونس : 18 ) وإنما عقيدة
المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله ،
قال : ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن .
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله(1/6)
عنه ، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أثر عمر كان العمدة في
هذا الباب للاتفاق على صحة سنده .
قال الطبري : إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة ؛ لأن
الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر
الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية ، فأراد أن يعلم
الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر
وينفع بذاته . اهـ .
فإن قلت : روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إنه يضر وينفع ، وبين ذلك بأن الله لما أخذ
الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر ، وأنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول : ( يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد )
فالجواب أن هذا الحديث باطل ، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن
جوين العبدي ، وأهون ما قيل فيه : إنه ضعيف ، وكذَّبه حماد بن زيد ، وقال
يحيى بن معين : ضعيف لا يصدق في حديثه ، وقال الجوزجاني : أبو هارون كذاب
مفتر ، وقال ابن حبان : كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث ، وقال شعبة :
كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء
منكرة في علي رضي الله عنه ، فقلت ما هذا الكتاب ؟ فقال : هذا الكتاب حق ،
وقال شعبة أيضا : أتيت أبا هارون فقلت له : أخرج إلي ما سمعته من أبي
سعيد ، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه : حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه
لكافر بالله . فدفعت الكتاب في يده وقمت . وأقول : إن طعنه في كل من الصهرين
الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه : يتلون خارجي وشيعي .
والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا . فإن قيل يقوي حديثه هذا
حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما . قلت : ليس في حديث ابن عباس(1/7)
أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق ، فإذا صحت هذه الشهادة مهما
كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من
الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه ، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة
بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال : إن طلبه عادة ، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة
أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى .
بقي أن يقال : إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم
تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه . وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات ، فما هي
حكمة جعل ما ذكر من العبادة ؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه
وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى
التوحيد ؟
والجواب : أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين ، وإنما
هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم ، جعله في بيت الله
ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا
يضطرب فيه الطائفون .
وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها
بيتًا لله تعالى ، وإن كانت مبنية بالحجارة ، فالعبرة بروح العبادة : النية والقصد ،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع ، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان ، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف ، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره
من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية .
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع
الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون ، وأشد الناس عناية به
الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة(1/8)
ونصبوا لهم التماثيل الجميلة ، وهم لا يعبدون شيئا منها ، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به
كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم
الحجر الأسود فزعم أنه من آثار الوثنية ، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني
لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من
تاريخهم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي جمع على تعظيمه مع المسلمين
اليهود والنصارى ؟
وبقي من حكمة استلام الحجر وتقبيله ما اعتمده الصوفية فيها أخذًا مما ورد
في بعض الأحاديث الضعيفة كحديث علي السابق ، وحديث ابن عباس : ( الحجر
الأسود يمين الله في أرضه ) رواه الطبراني وهو أنه رمز لمبايعة الله تعالى ، فكأن
الحجر يمين الله تعالى ومُسْتَلِمه مبايع له على توحيده والإخلاص له واتباع دينه
الحق ، والأعمال الرمزية معروفة في جميع الأديان السابقة ، وقال المهلب : حديث
عمر يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده ، ومعاذ
الله أن تكون لله جارحة ، وإنما شرع تقبيله اختبارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع
الله ، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم . ا هـ . وليس مراد من
قال : إنه يمين الله أن لله جارحة ، وإنما أراد ما ذكرنا ، والعمدة في رد هذا القول
عدم صحة الحديث فيه ، فإن صح وجب قبوله ومعناه ظاهر .
قال الخطابي : معنى كونه يمين الله في الأرض أن من صافحه لمن يريد
موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه . وقال المحب الطبري : إن كل ملك
إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه ، فلما كان الحاج أول ما يقدم سن له تقبيله نزل منزلة
يمين الله ، ? وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى ? ( النحل : 60 ) . ا هـ .
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم
لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض ، ولوضعوه في(1/9)
أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة ، ولحج وفودهم إلى رؤيته وتمنى
الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه ، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه
من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار
الملوك أو الصناع .
هذا ، وإن من مقاصد الحج النافعة : تذكر نشأة الإسلام دين التوحيد والفطرة
في أقدم معابده ، وإحياء شعائر إبراهيم التي طمستها وشوهتها الجاهلية بوثنيتها
فطهرها الله ببعثة ولده محمد الذي استجاب الله به دعوته : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ? ( البقرة : 129 )
عليهما الصلاة والسلام .
روى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن يزيد بن شيبان قال : أتانا ابن مربع ،
( كمنبر واسمه ) يزيد الأنصاري ونحن بعرفة ، في مكان يباعده عمرو عن الإمام [1]
فقال أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم : ( قفوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من أبيكم إبراهيم ) هذا سياق أبي داود وقد سكت عليه .
وقال الترمذي : حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
ابن عيينة عن عمرو بن دينار .
وجملة القول أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم وقد أبطل الإسلام كل ما
ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها كطوافهم بالبيت عراة ، وإن الكعبة
من بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع
المتواتر بينهم وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم بل والبعيدة عنهم كالهنود ،
ومن الثابت أيضا أنهم لما جددوا بناءها أبقوا الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم
وإنما اقتصروا من جهة الركنين الشاميين ، ولذلك ورد استلام الركنين اليمانيين دون
غيرهما ، ويقال لأحدهما الركن الأسود ؛ لأن فيه الحجر الأسود وللآخر اليماني فإذا(1/10)
ثنوهما قالوا اليمانيين تغليبًا كما يقولون في تثنية الركن الشامي والركن العراقي
الشاميين .
ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم
باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف
كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك
بوضعها وموضعها وسائر خصائصها ، زادها الله حفظًا وشرفًا . وقد علم بهذا أن
الحجر له مزية تاريخية دينية ، وإن كان الأصل في وضعه بلون مخالف للون البناء
اهتداء للناس بسهولة إلى جعله مبدأً للطواف ، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول : إن لله
تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر ،
فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام
والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم ، ومبنى العبادات على الاتباع لا
على الرأي .
* * *
حكمة رمي الجمار
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج أعني
بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل
عمل منها وحكمته أم لا ، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين ، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى ، وإن لاستحضار
ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به ، والثقة بأنه دين الله
الخالص الذي لا يقبل غيره ، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها
لا يضرنا ذلك ، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب
من عدة أجزاء ، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض ، فإن ذلك لا يثنينا
عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به ، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى
أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها .
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة أن هذه المواضع التي(1/11)
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام فشرع لنا أن نقف
عند كل واحدة منها نكبر الله سبع تكبيرات ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير ، والعدد بالحصى - ومثله النوى في مثل الحجاز - من
الأمور المعهودة عند الذين يعيشون عيشة السذاجة ، فنجمع بهذا الذكر بهذه الكيفية
بين إحياء سنة إبراهيم الذي أقام الدين الحق في هذه المعاهد وبين التعبد لله تعالى
بكيفية لا حظ للنفس ولا محل للهوى فيها ، وللعبادة منها شعائر يجتمع لها الناس
وتقصد الأمة بعملها إظهار الدين والاجتماع والتآلف على عبادة الله تعالى ، وكل
أعمال الحج من هذا القبيل ، ومنها ما يقصد به تربية كل فرد نفسه وتزكيتها فقط
كالتهجد ، وذكر الله في الخلوة ، فلا يقال : إن الذكر والتكبير لا يختص بذلك الزمان
والمكان ؛ لأن هذا القول لا يصح إلا في غير الشعائر ؛ إذ الشعائر لا بد فيها من
التخصيص والتوقيت لأجل جمع الناس عليها بنظام كالأذان وصلاة الجماعة
والجمعة والعيدين .
أما كون رمي الجمار شرع لذكر الله تعالى فسيأتي حديث عائشة المصرح به
في جواب السؤال التالي ، وأما سبب وقوف إبراهيم في تلك المعاهد لذكر الله
وتكبيره وعده بالحصى فلا يضرنا جهله ، ويكفينا أن نقتدي به في هذه الشعيرة
كشعيرة الطواف وغيرها من المناسك .
وورد في بعض الأحاديث الضعيفة السند : أن إبليس عرض له هنالك أي
يوسوس له ويشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كل مرة فيخنس ثم يعود . روى
الطبراني والحاكم و البيهقي عن ابن عباس ( لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له
عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ) ثم ذكر الجمرة
الثالثة كذلك .
وروي عن محمد بن إسحاق قال : ( لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء
البيت الحرام جاء جبريل عليه السلام فقال له : طف به سبعًا ) ثم ساق الحديث(1/12)
وفيه : ( أنه لما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له
جبريل : كبر وارمه سبع حصيات ، فرماه فغاب عنه ، ثم برز له عند الجمرة
الوسطى فقال له جبريل : كبر وارمه فرماه إبراهيم سبع حصيات ، ثم برز له عند
الجمرة السفلى فقال له جبريل : كبر وارمه ، فرماه سبع حصيات مثل حصى
الخذف ، فغاب عنه إبليس ، ثم مضى إبراهيم في حجه ) الحديث .
وليس تمثل الشيطان للأنبياء ولا ظهوره لهم بغريب في قصصهم ففي الإنجيل
المعتمد عند النصارى أنه ظهر للمسيح عليه السلام وجربه تجارب طويلة .
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء
مناسكه بظهور ذاته أو مثاله ، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله
تعالى فلا غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب ، فمن المعروف في الأخلاق
والطباع أن يأتي الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له حتى من
الخواطر القبيحة ودفعه عنه وبراءته منه ، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله
تعالى من هذا القبيل ، وإن حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر
الشاغلة للقلب .. والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة
معهود من الناس ، وله شواهد عند الأمم كرجم بني إسرائيل مع يشوع ( النبي
يوشع عليه السلام ) لمجان بن زراح وأهله وماله من ناطق وصامت ( كما في7 : 24
و25 ) من سفر يشوع ، وكرجم النصارى لشجرة التين التي لعنها المسيح ، ورجم
العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس بين مكة و الطائف ؛ لأنه كان يقود
جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها الله تعالى .
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده ، بما لا حظ
للنفس فيه اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض ، ومحمد
خاتم رسل الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض ، صلى الله
عليهم أجمعين .(1/13)
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من الإحياء : وأما
رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية ، وانتهاضًا لمجرد
الامتثال ، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك ؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه
السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه
شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي
الشيطان ، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك
في الرمي ، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟
فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي ، فبذلك ترغم أنف الشيطان .
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه
الشيطان وتقصم به ظهره ، إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه
وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر ، من غير حظ للنفس والعقل فيه ا هـ .
* * *
حكمة الرَّمَل في الطواف والسعي بين الصفا والمروة
الطواف بالكعبة المعظمة والرمي والسعي بين الصفا والمروة من مناسك
الحج وشعائر الإسلام ، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وروي أن هاجر
رضي الله تعالى عنها كانت تسعى بينهما والِهَةً حَيْرَى عند حاجتها إلى الماء زمن
ولادتها إسماعيل حتى هداها الله تعالى إلى بئر زمزم .
والعمدة في هذه العبادة ما ذكرناه في الكلام على رمي الجمار من إقامة ذكر الله
تعالى في هذه المعاهد التي هي أقدم معاهد التوحيد المعروفة في الأرض وإحياء
سنن المرسلين فيها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما جعل الطواف بالبيت
وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) رواه أبو داود والترمذي وقال :
حسن صحيح من حديث عائشة . وأذكاره معروفة في المناسك .(1/14)
وأما الرَّمَل فيه فهو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه سرعة في
المشي مع تقارب الخطوات من غير عَدْو ولا وثب ، ويسمى الخَبَب أيضا فهو دون
العَدْو وفوق المشي المعتاد ، فإن زادت السرعة كان عَدْوًا .
أما سبب الرَّمَل في الطواف والسعي بهمة ونشاط بين الصفا والمروة فهو كما
يؤخذ من عدة أحاديثَ إظهارُ قوة المسلمين للمشركين ، وكان قد علم النبي صلى
الله عليه وسلم أن المشركين قالوا عام الحديبية في المؤمنين : قد أوهنتهم حمى
يثرب ، وروى في الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة
القضاء قال المشركون : إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من
الهزال ؛ لذلك أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في ثلاث طوفات
ويمشوا في أربع من الأشواط السبعة من طواف القدوم فقط .
وكان خطر لعمر بن الخطاب أن يتركه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
لسبب عارض ، ثم بدا له فمضى عليه ؛ لأنه علم أن المحافظة على ما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه كالمحافظة على ما كان فعله جده إبراهيم صلى الله
عليه وسلم إن لم تكن أولى ، روى أبو داود و ابن ماجه عنه أنه قال : فيم الرملان
اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام ( أي : وطأه وأحكمه ) ونفى الكفر
وأهله ؟ مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأصله في البخاري بلفظ : فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم
الله ، ثم قال : هو شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه .
وقوله : ( راءينا ) مشاركة من الرؤية أي أريناهم قوتنا وأننا لا نعجز عن
مقاومتهم ، وقيل : هو من الرياء بمعنى إراءة ما هو غير الواقع أي أريناهم من
الضعف قوة . والرياء مذموم ؛ لأنه خداع ؛ والخداع جائز في الحرب ، وهذا من
قبيل الحرب .
وقوله في الرواية الأولى : والكشف عن المناكب : معناه الاضطباع وهو أن(1/15)
يؤخذ الرداء من تحت إبط اليد اليمنى فيلقى على كتف اليسرى فتظهر المناكب ،
وحكمته عين حكمة الرمل ، وقيل : إنما هو لأجل التمكن منه .
وقد ورد في الصحيح : أن المشركين قالوا عندما رأوا النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه يرملون مضطبعين : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم أجلد
من كذا وكذا . وفي رواية أجلد منا .
فعلم من هذا أن الرمل أو الهرولة كما قال السائل إنما شرعت في الطواف
لسبب ، وإنما نحافظ عليه لتمثيل حال سلفنا الصالحين : رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضي الله عنهم اتباعًا وتذكر لنشأة الإسلام الأولى في عهدهم ، وهل
توجد أمة من الأمم غيرنا تعرف من نشأة دينها هذه الدقائق بيقين ؟ لا لا ، فالحمد لله
رب العالمين .
* * *
حكمة ذبح النسك ودفن لحومها في منى
حكمة ذبائح الهدي والأضاحي معروفة لا يجهلها عامة المسلمين ، وهي طاعة
الله تعالى وتقواه ، وإظهار نعمته بتوسعة المسلمين على أنفسهم وعلى الفقراء
والمساكين في أيام العيد التي هي أيام ضيافة الله للمؤمنين ، وهي من مناسك الحج ؛
لأنها إحياء لسنة إبراهيم وتذكر لنعمة الله عليه وعلى الناس بفداء ولده إسماعيل من
الذبح الذي ابتلاه الله واختبره به ؛ لتظهر قوة إيمانه بالله تعالى وإيثاره لرضاه .
ونعمة الله بذلك على الناس كافة إنما هي من حيث إن إسماعيل هو جد محمد صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى خاتمًا لرسله وهاديًا للناس كافة .
قال تعالى في البدن التي تنحر للنسك في : ? فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ? ( الحج : 36 ) وقال في ذبائح النسك عامة : ? لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم ? ( الحج : 37 ) الآية .
وأما دفن لحومها في هذه الأزمنة ، التي كثرت فيها الحجاج وقلت معرفتهم(1/16)
ومعرفة حكامهم بأحكام الدين وحكمه ، فليس من الدين في شيء ، وإنما هو من
الجهل بأمر الدين والدنيا . ولو كان للحجاز حكومة عاقلة رشيدة لعرفت كيف تحفظ
ما زاد عن حاجة الناس من تلك اللحوم بجعل بعضها قديدًا ، وبعضها مقليًّا من النوع
الذي يقال له ( قاورمه ) ولأفاضت منها على فقراء الحرم طول سنتهم ، وها نحن
أولاء نرى الأمم العالمة التي تعرف كيف تستفيد من جميع نعم الله تعالى تنقل اللحم
الغريض والسمك الطري من قطر إلى قطر ، حتى إن الغنم تذبح في استرالية ويباع
لحمها في مصر من شمالي إفريقية وفي شمال أوربة أيضا ، ونحن قد جعلنا حسنات
ديننا سيئات بسوء تصرفنا ، فصرنا حجة عليه في نظر الأمم كلها ، وهو حجة
علينا عند الله تعالى .
وإذا جاز أن تترك هذه الذبائح وينفق ثمنها فيما ذكر السائل فمن يضمن أن
يقوم الناس بذلك ؟ كلا إن هذا شعار لا يقوم غيره مقامه ، ولو كان للمسلمين من
الاهتمام بعمران الحرمين وخدمة الحجاج ما أشار إليه لما توقف قيامهم به على
تركهم لهذا النوع من النسك ؟
فإن كان في الأنعام التي تذبح هنالك ما يضر لحمه الآكلين ، وعرف ذلك
بشهادة الأطباء والعارفين ، فالواجب على الحكومة أن تمنع دخول هذا النوع الضار
حتى لا يسوق الناس إلى الحرم من الغنم وغيرها من النعم إلا كل صحيح لا يخشى
منه ضرر .
* * *
العَلَمَان وحكمة حدود عرفة
إذا كان من أركان الحج الوقوف بعرفة وجب أن يكون لعرفة حدود معينة ،
وإلا بطل معنى فرضية الوقوف فيها ، وهكذا كل عبادة اعتبر في فرضيتها مكان أو
زمان كالطواف والسعي بين الصفا والمروة وصيام رمضان وكون الصيام من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس ، لا تحصل العبادة لمن خرج عن الحد المكاني أو
الزماني ، وأما مسألة القبول فهي شيء آخر : ما كل من أتى بأعمال العبادة الظاهرة
نجزم بأن عمله مقبول عند الله تعالى ، إذ يجوز أن يكون مرائيًا بعمله غير مخلص(1/17)
فيه ، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين ، ولكن المخلص إذا لم يأت بالعمل الذي
فرضه الله تعالى كما فرضه تعالى بحدوده من زمان ومكان ، فلا مجال للقول بأن
عمله مقبول ؛ لأن العمل لم يوجد ، فمن سعى إلى الحج ولم يدرك الوقوف بعرفة
وراء العَلَمَين اللَّذيْن هما أول حد عرفة لم يدرك الحج حتى يبحث في قبول حجه
وعدم قبوله ، ومثله مثل من سعى إلى صلاة الجمعة ولم يدرك ركعة منها مع الإمام
لا يقال : إن جمعته مقبولة أو غير مقبولة ؛ لأنه لا جمعة له ، وإن سعى إليها من
أول النهار مخلصًا لله في ذلك ، ولكن الله لا يضيع أجر من سعى إلى الحج أو
الجمعة أو غيرهما من العبادات مع الإخلاص فيثيبه على ذلك وإن لم يسقط عنه
الفرض ، وكان لا بد في الجمعة من صلاة الظهر في الحج من أدائه تامًّا في ميقاته .
وقد علم مما ذكرنا أن العَلَمَين حدٌّ لعرفة لا حَدٌّ بين الله والناس ، ولا بين الجنة
والنار .
* * *
ترك بعض العلماء لفريضة الحج
الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً ، وهو على التراخي لا الفور إذا
وُجِدَ العذرُ ، والخلاف في المسألة مشهور ، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا في آخر سنة من عمره ، ولكنه اعتمر قبل ذلك . ومن ترك الحج وهو
يستطيع السبيل إليه حتى مات ، مات عاصيًا لله تعالى . ولا يقتدى به ولا يعد تركه
إياه عذرًا لغيره ، والسائل يقول : إنه يرى كثيرًا من علماء الأمة ومرشديها
المصلحين لم يحجوا ، وأنا لا أعرف أحدًا من العلماء المصلحين ولا غيرهم من
الجامدين الراضين بحال المسلمين السيئة ترك الحج بغير عذر حتى مات . وقد ذكر
السائل منهم الأستاذ الإمام والسيد الكواكبي - رحمهما الله تعالى - وذكرني معهم .
فأما الكواكبي فهو من علماء الاجتماع والسياسة لا من علماء الدين ، وإن كان له
مشاركة ما في الفقه ونحوه لا تنكر ، ولا أدري أحج أم لا ؟ وأنا ما عرفته إلا في(1/18)
مصر ، ولم يكن ذا سَعَةٍ فيها ، نعم إنه ساح بعد هجرته إلى مصر في جزيرة
العرب ثم عاد إليها ، ولكن بمساعدة من بعض الناس ، ومن لا يستطيع الحج إلا
بمال غيره لا يجب عليه الحج ، ولا أن يقبل تبرع غيره له بنفقته إن هو تبرع .
وأما الأستاذ الإمام فأنا أعلم أنه كان عازمًا على الحج وقد سمعت ذلك من
لسانه وأنه يريد أن يقيم في المدينة المنورة وما جاورها طائفة من الزمن ، ويبحث
عن مواضع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بحثًا يستعين به على ما كان ينويه
من الكتابة في تاريخ الإسلام ، وتحرير سيرته عليه الصلاة والسلام ، وقد بينت
عذره وعذري وسبب تأخيرنا للحج من قبل ، فمن ذلك قولي في تفسير قوله تعالى :
? وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ? ( آل عمران : 97 ) من جزء التفسير الرابع ما نصه :
إن كثيرًا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات
سياسية لا يسهل اقتحامها ، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن
السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن .
وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة ، وأنه لا أمان
له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء . وإن كاتب
هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد ، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون
قوله تعالى ? وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ? ( آل عمران : 97 ) لنمتثل ما فرضه علينا من
حج هذا البيت ... إلخ .
وأقول الآن : قد ظهرت صحة اعتقاد الأستاذ واعتقادنا في هذا في مرض
موته حين قبضت الحكومة الحميدية العثمانية في بيروت على الحاج محيي الدين
حمادة عند عودته من مصر ؛ لأنه كان ضيفًا له وكانت بنت أخيه زوجًا له ،
وأخذت أوراقه وحبسته على وجاهته وحسن سيرته وبعده عن السياسة ومذاهبها ،
ثم علمنا أن الحكومة كانت ترسل العسكر بعد ذلك ليلاً لمراقبة سواحل بيروت وما
يجاورها ؛ لأنه بلغها أن الأستاذ يريد النزول فيها .(1/19)
وكانت هذه الحكومة قبل ذلك وبعده تصادر كل كتاب يدخل المملكة العثمانية
إذا وجد عليه أو فيه اسم محمد عبده أو اسم المنار ، أو مطبعة المنار ، دع اسم
صاحب المنار ، وتمنع أيضا ذكر هذه الأسماء في هذه الجرائد ، ويعلم قارئ المنار
في زمن عبد الحميد أنه كان ممنوعًا من ممالكه ، وأن والدي مات والعسكر يحيط
بداره وكان أخي في السجن ؛ لأن المنار وجد عنده ، وكانت الحكومة تعاقب كل من
تعلم أنه يقرأ المنار أو يكاتب صاحبه .
والسبب في ذلك كله وسوسة جواسيس السوء للسلطان عبد الحميد بأننا نريد
إقامة خلافة قرشية في الحجاز أو غير الحجاز وكان من هؤلاء الجواسيس مصطفى
باشا كامل .
خلع السلطان عبد الحميد بعد وفاة الأستاذ الإمام فظهر ورثته من الاتحاديين
بعداء للعرب أشد خطرًا علينا مما كان من عداء عبد الحميد لنا ، جئنا الآستانة
وحاولنا أن نقنعهم بحسن نية العرب ووجوب إنصافهم فلم نستطع . ثم جعلوا
صاحب هذه المجلة من أعدى أعدائهم وذنبه عندهم أنه يدعو إلى النهضة العربية ،
فكان قصد الحج في هذه المدة مما يقوي سوء ظنهم ، ولا يؤمن معه غدرهم ، وقد
صادروا المنار في بريدهم ، ومنعوا دخوله لبلادهم ، كما فعل عبد الحميد لمثل ذلك
السبب ، وقد صار خلفاء مصطفى كامل من زعماء الحزب الوطني وكتاب جرائده
جواسيس لهم كما كان زعيمهم جاسوسًا لعبد الحميد ، ويتهموننا بما كان يتهمنا به
وفي مقدمتهم محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز شاويش ، ولكننا دخلنا مع
الاتحاديين الآن في طور جديد يرجى أن تمحى فيه سعاية الجواسيس ، فقد اعترفوا
بأننا نطلب حقًّا وأجابونا إلى بعضه رسميًّا ووعدوا بالباقي وعدًا مؤكدًا .
فعسى أن يتم الاتفاق ، ويمحو آية الشقاق ، ويكون قد ظهر لهم حسن نيتنا
وإخلاصنا نحن وسائر طلاب الإصلاح من قومنا لهذه الدولة ، وحرصنا على
تعزيزها وإصلاح شأنها ، وهذا ما يظهرونه الآن ، وقد بلغونا أن منع المنار قد(1/20)
ارتفع . ويترتب على حسن نيتهم في العرب رضاهم بعمران الحجاز ، وعدم خوفهم
من زيارة طلاب الإصلاح له في النسك وغير النسك ، وحينئذ نرجو أن يوفقنا الله
في العام القابل لأداء الفريضة بفضله وكرمه .
* * *
ترك ملوك المسلمين وأمرائهم الأغنياء للحج
سبق لنا في مجلدات المنار السابقة الانتقاد على سلاطين آل عثمان وملوك
إيران وغيرهم من أمراء المسلمين ترك فريضة الحج ، ولكن لم يخطر في بالنا أن
أحدًا من المسلمين يقتدي بهؤلاء الملوك والسلاطين في ترك هذه الفريضة ، وكذلك
الأغنياء المترفون لا يصح أن يكونوا قدوة في ذلك ولا أن يكونوا شبهة من الشبهات
على الحج .
ومن سوء الظن القبيح أن يقول مسلم : إن حَجَّ عزيز مصر الأمير عباس
الثاني كان لغرض سياسي ، وأي غرض سياسي يتوقف على أدائه لمناسك الحج ؟
على أن كثيرًا من الأغنياء يحجون ، فإن كان غير الأغنياء أكثر حجًّا ؛ فذلك لأنهم
في أنفسهم أكثر عددًا ، وأقل فسقًا وترفًا ، هذا ما نراه كافيًا في جواب هذه الأسئلة ،
فعسى أن يراه السائل كذلك ، والله الموفق .
________________________
(1) هذه الجملة مُدْرَجَةٌ في الحديث أدرجها راويه عمرو بن دينار ، ومعناه أنهم في مكان بعيد عن
موقف الإمام بحيث لا يسمعون كلامه ، فقوله : يباعده عمرو يعني يذكر عمرو بن عبد الله بن صفوان
التابعي أنه بعيد عن الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم فلذلك أرسل إليهم رسولاً .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 16 ] الجزء [ 9 ] صـ 675 رمضان 1331 ـ سبتمبر 1913 ))
مناسك الحج
أحكامه وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم
? وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ ? ( آل عمران : 97 ) , ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ(1/21)
البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ? ( البقرة : 158 )? الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ?
( البقرة : 197 ) .
أما بعد : حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار : إنني في شهر ذي
القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي ، وكنت أتمنى
ذلك منذ سنين ، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها ، وبعضها من قِبلي ، وقد
خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك
وحكمها ، سهل العبارة ، مأخوذًا مما صح في السنة ، مع الإشارة إلى أقوى مسائل
الخلاف ، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج ، تعليمًا للجاهل ،
وتذكيرًا للغافل ، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم
الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه - .
***
الحج والعمرة
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة ، وهو عبادة بدنية مالية ، والصلاة عبادة
بدنية فقط ، وكذلك الصيام ، والزكاة عبادة مالية فقط ، ومعناه القصد إلى بيت الله
الحرام بمكة المكرمة ؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة ، وهذا
النسك منه أركان وواجبات ، وسنن مندوبات ومستحبات .
والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من
الحج غير مشروع في العمرة ، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي .
وهي واجبة عند بعض أئمة العلم ، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج
والعمرة بأن ينويهما ، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام ، ويسمى هذا(1/22)
( قِرانًا ) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة ، ويسمى
( إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها ، ثم
يُحرم بالحج بمكة ، ويسمى هذا ( تمتعًا ) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه
بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام ،
وعليه فدية ، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من
الحج ، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه ، ككفارة اليمين وزكاة الفطر .
واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل ، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع
أفضل مطلقًا ، أو لمن لم يَسُق ( الهدي ) إلى الحرم . و ( الهدي ) ما يُهدى إلى
الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى - ، فمن ساقه من بلده أو
طريقه فالأفضل له القِران . وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا -
من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها
أو مع الحج ، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه ، ثم نتحلل منها فنستبيح
كل ما يباح لغير المحرم ، ونذبح شاة إذا كان يوم ( التروية ) - وهو الذي قبل يوم
عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة ، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن
يتحلل بعمرة ، ثم يحرم بالحج كذلك .
***
الإحرام والتلبية
لكل قطر من الأقطار مكان يسمى ( ميقات الإحرام ) لا يجوز تجاوزه بغير
إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر ، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف ، فمتى بلغ
الميقات أحرم عنده ، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما ، ويلبي بما نواه بأن يقول :
لبيك اللهم عمرة أو بعمرة ، أو لبيك اللهم حجًّا ، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة ، أو
بحج وعمرة .
وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط . ومن أحرم إحرامًا مطلقًا
قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا(1/23)
التفصيل صح إحرامه ، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها .
والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما ، وهو
ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية .
ويستحب الاغتسال للإحرام ، ولو لحائض ونُفَساء ، وكذلك التطيب قبله ،
وأن يكون بعد صلاة ، إما صلاة فرض ، وإما صلاة تطوع ، وأن يحرم في ثوبين
نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين ، وأن يكون أحد
الثوبين إزارًا ، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء ، يوضع على
العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال . فلا
يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس ، ولا لبس القميص
والقباء ( القُفطان ) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء ، الذي يسمى
الجزمة أو الكندرة . ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة ، ومن لم
يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده ؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بعرفات يقول : ( السراويل لمن
يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين ) ولا فِدية عليه عند الشافعي و أحمد لأنه لبس
ذلك للضرورة ، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك ، بأن وجد الإزار والنعلين
وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما ، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية ،
وهي شاة يذبحها . وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية ، وإن لبس ذلك
للضرورة . ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط .
ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا ، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد .
والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين : أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال : لا يلبس القميص
ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس(1/24)
الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين . ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا
الورس هذا لفظ مسلم . وفي حديث ابن عباس المرفوع ، أنه - صلى الله عليه
وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما . فبعض
العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر ، وقال : لا بد من قطعهما ، وبعضهم
قال : إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر ؛ لأنه بعده .
ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه ، ويجوز له أن يستظل
بالمظلة ( كالشمسية ) وغيرها مما لا يمس رأسه ، ولكن يستحب له أن يعرض
رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه -
رضي الله عنهم - لم يكونوا يستظلون في الإحرام ، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ
عليه قال له : أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له . أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت
له ، ويقال : ضَحَى الرجل ، يَضْحَى ضُحًى ، وضحا ، يضحو ، ضَحْوًا ، وضَحْيًا ،
إذا برز للشمس أو أصابته الشمس .
وأما المرأة فلم ينهها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وضع النِّقاب
على الوجه ، ولبس القُفّازين في اليدين ، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما
تستر به المرأة وجهها ، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين ، ومثله البُرْقُع .
قال العلماء : فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس . وأما ستره عن
الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه ، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر .
ومن أَضَرّه لباس الإحرام ، فله أن يتقي الضرر ، ولو بتغطية الرأس ، ومتى زالت
الحاجة إلى ذلك تركه .
وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- : ( لبيك
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك )
وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبي من حين يحرم ، يرفع بها صوته ، فرفع
الصوت سُنة للرجل ، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه ، والمرأة ترفع
صوتها بحيث تسمع نفسها ، وكذا جارتها .(1/25)
ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج ، ولا يزال العرب
يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك ، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه
العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام - . وذلك قوله تعالى له : ? وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ? ( الحج :
27 ) والرجال هنا جمع رَاجِل ، وهو الماشي على رجليه ، أي يأتوك مشاةً
وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة .
فمعنى ( لبيك اللهم ) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها
إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة . والتلبية واجبة عند المالكية ، ومسنونة عند
الجمهور .
وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك
إلى الانتهاء منه . ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط
والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق .
***
دخول مكة والطواف
يستحب الاغتسال لدخول مكة ، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يغتسل له وكان يبيت ( بذي طُوى ) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها : آبار
الزاهر ، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة .
والأفضل دخول مكة نهارًا ، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا ، والأفضل أن
يدخل من باب بني شيبة ؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة - : ( اللهم زد هذا البيت
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً ، وزد من شرفه وكرّمه ، ممن حجه أو اعتمر
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا ) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر
إلى البيت قال : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام ، فحيِّنا ربنا بالسلام ) .
واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء ، وما يلقنه المطوفون(1/26)
للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه ما
هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -
ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك . فعُلم من ذلك
أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع
منه ، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة ؛
لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع ، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس
ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه . ويُسن أن يصلي بعد الطواف
ركعتين .
والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ
بالطواف ، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم ، وهو واجب
عند المالكية ، وسنة عند الأئمة الثلاثة .
ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر
العورة ، لما رواه الشافعي و الترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون
فيه ، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في
الطواف ، أي : وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة ؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع
في هذه العبادة .
ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف ، امتنع الطواف على الحائض
والنفساء ، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه ، فتتربص به إلى أن تطهر ، ويبتدئ
من الحجر الأسود : يستقبله ويستلمه ويقبّله ، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء
أحد بالمزاحمة ، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها ، فإن لم يمكن
أشار إليه بيده . ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره ، فيطوف به سبعة
أشواط أي : مرات . ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين ؛ لأنهما على قواعد(1/27)
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - دون الشاميين ؛ لأنهما في داخل البيت .
والركنان اليمانيان هما الجنوبيان ، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما
( الركن الأسود ) إذا ذُكر وحده ، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل : الركن اليماني .
والشاميان هما الشماليان ، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل : ( الركن الشامي ) وهو
المقابل لبلاد الشام ( والركن العراقي ) وهو المقابل لبلاد العراق ، وإنما يقال في
تثنيتهما : اليمانيان والشاميان من باب التغليب .
هذا ، وإن في الحج ثلاثة أطواف : طواف القدوم الذي ذكرناه ، وطواف
الإفاضة ، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة ، ووقته بعد الوقوف بعرفة ،
وطواف الوداع ، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية ، وللحاجّ وغيره
أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع .
***
السعي بين الصفا والمروة
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور ، وعند
الحنفية واجب غير ركن ، ويشترط أن يكون بعد الطواف . وعند الملكية يجب ذلك
وليس بشرط ، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف ، وقال الجمهور : إنه سنة
لا واجب . ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف ، كما ثبت في القرآن
والأحاديث ؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت .
وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت ( الكعبة ) فيهلل ويكبر
ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة
المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا ؛ فهذه مرة ،
ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط ، يرمل في ثلاثة منهن بين
الميلين الأخضرين ( وهما عمودان في جدار الحرم ) .
والرمَل سرعة في السعي ، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من
الطهارة ولكن يستحب ، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه .(1/28)
روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا
من الصفا قرأ ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ? ( البقرة : 158 ) وقال : أبدأ
بما بدأ الله به ، وفي حديثه عند النسائي ( ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا ، فرقي
عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله ، وكبره وقال : لا إله إلا الله وحده ،
أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك ، فقال مثل هذا ،
ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة ) الحديث .
وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا . فينبغي أن يحفظ هذا ، وأن
يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته .
***
تنبيه
إن المكان الذي كان يرقى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه على الصفا ،
قد بُني عليه ، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي ، فمن وصل إلى أسفل البناء
هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك ، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في
الصعود .
***
الوقوف بعرفة
يخرج الحجاج من مكة ( يوم التروية ) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ
بمصر والشام ( يوم العرفة ) ويسمون يوم عرفة ( يوم الوقفة ) محرمين ؛ لأن من
كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات ، والسنة أن يحرم كل واحد من
المكان الذي هو نازل فيه ، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي ، فإن
المكي إنما يحرم من أهله ، والسنة أن يبيتوا بمِنًى ، ولا يخرجوا منها حتى تطلع
الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يسيروا منها إلى
( نمرة ) عن طريق ( ضب ) من يمين الطريق ، وهو موضع في حدود عرفة
( ببطن عُرنة ) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي ، وهو
الذي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا ،
وخطب ، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام .
وهناك مسجد يقال له : مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم(1/29)
يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق ( المأزمين ) ودخول
( عرفة ) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة ، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا
لشيء من واجبات الإحرام .
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس ، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو
من خارجها . ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات
لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة . ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة
دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته . فيهلل ويكبر
ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية . ويُسن الغُسل يوم عرفة ، ولا يسن
الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة ، - وهو جبل إلال - ولا
دخول القبة التي فوقة ، التي يقال لها : قبة آدم ولا الصلاة فيها .
والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق ( المأزمين ) فإن
النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج منها على هذه الطريق ؛ لأنه دخلها من
طريق ( ضب ) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم ، إذا جاء من طريق
رجع من أخرى ، كما كان يدخل المسجد من ( باب شيبة ) ويخرج بعد الوداع من
( باب حرورة ) .
***
المبيت بمزدلفة
ورمي الجمار بمنى
يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة ، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه :
? فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ ? ( البقرة : 198 )
والوقوف عند ( جبل قزح ) أفضل ، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر ،
فإذا أتوا منى رموا ( جمرة العقبة ) بسبع حصيات ، ولا يرمون يوم النحر غيرها.
وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن
يمينه ، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة . وإن شاء قال مع ذلك : اللهم
اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا . ويستحب تكرار التلبية بين
المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى ، ولم يصح في السنة(1/30)
التلبية في عرفة ولا مزدلفة ، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية -
أي : جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج ؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي
تنتهي به المناسك . ومتى رمى جمرة العقبة ، نحر هديه إن كان معه هدي . وكل
ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق ، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا ،
وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم ، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند
المالكية ، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا . ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها :
بسم الله والله أكبر . اللهم منك ولك ، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك .
***
الحلق أو التقصير
بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره ، بأن يقص منه
مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر ، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة .
والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي ، وعند
الجمهور واجب لا ركن . وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل
به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء .
وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة ، الذي هو طواف الركن
كما تقدم ، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء .
ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات ، والأفضل أن يرميها في أيام
التشريق الثلاثة ، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى : ? وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ?
( البقرة : 203 ) .
ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال ، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر
مع كل حصاة . ويدعو فيطيل الدعاء . وإذا قال في دعائه : اللهم اجعله حجًّا
مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن .
***
طواف الوداع(1/31)
تقدم حكمه ، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون
مسك الختام .
انتهت الأحكام ولم نشأ نشر ( حِكَم المناسك وأسرارها ) في هذا الجزء من
المنار ؛ لأنها منشورة في ( باب الفتوى ) من المجلد السادس عشر فليرجع إليها من
شاء في ص 675 .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 4 ] صـ 213 ذو القعدة 1334 ـ سبتمبر 1916 ))
الحج نفقاته و شُقَّته و مَشَقَّاته
وحال المسلمين الأولين والمعاصرين فيها [1]
كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله عز وجل مشاة احتسابًا لزيادة الأجر
لا للعجز عن الراحلة ، حتى إن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره
ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا ، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ
عليه .
وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى
والأندلس من جهة الغرب ، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا
وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر وينفق الألوف الكثيرة من
الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه ، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره
لمثوبة ربه ، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله ،
ووجهت إليه التهاني من صحبه ، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل
العلم والأدب أو الوجاهة والثروة . وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني
للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذه العصر الذي قربت فيه
المسافة وسهلت فيه المواصلة ، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في
أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه ، ولا
يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف ،
والقبر المكرم ، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي(1/32)
الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في
القرون الماضية .
وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام
علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط بدون
الزيارة وبضعة عشر جنيهًا مع الزيارة ، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج
والزيارة التي لا بد منها إلى عشرين جنيهًا ، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق
يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة . ولقد كنت
أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة رحمها الله تعالى مائة جنيه ذهبية ، وإنما لم أنفقها
كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين رحمه الله تعالى مدة وجودي في الحجاز ، كما
كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز أطال الله بقاءه موفقًا للإصلاح .
ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ
لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه ما
يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده
من المغارم ، وإن كانت واجبة ، لا صدقات مندوبة . ويستبيحون لأنفسهم الطعن في
الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم
المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها ، وفي غير ذلك من الزيارات ، والطعن في
حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند
الله تعالى .
لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج
المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في
خير القرون ، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم
راضين من الله محتسبين الأجر عنده ؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله عز
وجل ، ويشكر نعمه على أهل هذا العصر .
***
مشقات الحج ونفقاته
في القرن السادس الهجري(1/33)
إن العالم الكاتب الشاعر الأديب أبا الحسين محمد بن أحمد بن جبير الغرناطي
الأندلسي قد حج البيت الحرام ثلاث مرات ، خرج للأولى من غرناطة لثمان من
شهر شوال سنة 578 ثم ركب البحر من سبتة في مركب للروم الجُنْوَيين في 28
منه قاصدًا الإسكندرية ، وبعد حجه وإلمامه بالعراق فسورية عاد إلى الأندلس في
البحر ولقي فيه أهوالاً عظيمة منها انكسار مركبهم . وما وصل إلى بلده غرناطة إلا
لثمان بقين من المحرم سنة 581 وكان في أثناء هذه الرحلة يقيد أهم ما رآه وما
سمعه وما ألم به هو من معه فكان ذلك كتابًا حافلاً سمِّيَ ( تذكرة بالأخبار ، عن
اتفاقات الأسفار ) واشتهر برحلة ابن جبير .
وإنني أنقل منه هنا بعض ما كتبه من خبر إرهاق الحجاج في الإسكندرية ثم
في صعيد مصر وبعض ما كتبه عن جدة ثغر الحجاز الأعظم وأهلها وأمير مكة
وظلم الحاج وإرهاقهم ؛ ليكون عبرة لإخواننا المصريين ولسائر المسلمين ، فيشكروا
نعم الله تعالى عليهم بما مَنَّ على عباده من تيسير إقامة هذا الركن العظيم من أركان
الإسلام في هذا العصر وقلة نفقاته .
حال الحجاج في الإسكندرية والصعيد
في القرن السادس سنة 578 هـ
قال ابن جبير في حوادث شهر ذي الحجة سنة 578 :
أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية ، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم
نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه
فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم
وأسماء بلادهم ، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضٍّ ليؤدي زكاة ذلك كله ،
دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل ، وكان أكثرهم
متشخصين لأداء الفريضة لم يصطحبوا سوى زاد لطريقهم ، فلزموا أداء زكاة ذلك
دون أن يسأل هل حال عليه حول أو لا ؟
واستنزل أحمد بن حسن منا ليسأل عن أبناء المغرب ، وسلع المركب ،
فطيف به مرقبًا على السلطان أولاً ، ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ، ثم على(1/34)
جماعة من حاشية السلطان ، وفي كل يُسْتَفْهَمُ ثم يُقَيَّدُ قولُه ، فخلي سبيله وأمر
المسلمين بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم ، وعلى ساحل البحر أعوان
يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان ، فاستدعوا واحدًا واحدًا ، وأحضر
ما لكل واحد من الأسباب ، والديوان قد غص بالزحام ، فوقع التفتيش لجميع
الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض ، أدخلت الأيدي إلى أوساطهم
بحثًا عما عسي أن يكون فيها ، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم
أم لا ؟ وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس ؛ لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام ،
ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم ، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك ،
وهذه لا محالة من الأمور المُلَبَّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين ،
ولو علم بذلك على ما يُؤْثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله
المؤمنين تلك الخطة الشاقة واسْتؤُدُوا الزكاة على أجمل الوجوه ، وما لقينا ببلاد هذا
الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من تشدد الدواوين .
ثم قال في الكلام على قوص وغيرها من الصعيد ما نصه :
وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كإخميم وقوص
ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها ،
وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصًا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو
دنانير ما يقبح سماعه ، وتستشنع الأحدوثة عنه ، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة
لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرته في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب ،
وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم ، وهل عندهم غير ذلك ؟ ويحضرون
كتاب الله العزيز يقع اليمن عليه ، فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها
مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس . وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح(1/35)
الدين لا يعرفه ، ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه ، ولجاهد
المتناول له ، فإن جهادهم من الواجبات ؛ لما يصدر عنهم من التعسف وعسير
الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى
حرمه الأمين . ولو شاء الله لكانت عن هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على
أجمل الوجوه من ذوي البضائع والتجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل
الزكاة ، ويتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه ، وكان
يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله ، وسار في الآفاق
ذكره ، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره ، ويقبح المقالة في جانب
من أجمل الله المقالة عنه .
ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم
المسال الطوال ذوات الأنصبة فيصعدون إلى المراكب استكشافًا لما فيها فلا
يتركون عكمًا ولا غرارة إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة ، مخافة أن يكون في
تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غُيِّبَ عليه من بضاعة أو
مال . وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث المُلَعَّنَة ، وقد نهى الله عن التجسس فكيف
عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها ،
إما استحقارًا أو استنفاسًا دون بخل بواجب يلزمه ، والله الآخذ على أيدي هؤلاء
الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه إن شاء الله ) .
ثم قال الكلام على جدة وأهلها والحجاج فيها :
وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء أو الجبال أشراف علويون
وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم ، وهم من شظف
العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا ، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن
من إكراء جمال إن كانت لهم ، أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه
أو حطب يحتطبونه ، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن ، فسبحان المقدِّر(1/36)
لما يشاء ، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا ،
جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا .
( ثم قال ) : وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم
قد تفرقوا على مذاهب شتى ، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة قد
صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها ينتهبونهم انتهابًا ، ويسببون لاستجلاب ما
بأيديهم استجلابًا ، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه
إلى وطنه .
ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم
في أمر لا ينادى وليده ، ولا يلين شديده ، فقد رفع ضرائب المكوس عن الحاج
وجعل عوض ذلك مالاً وطعامًا يأمر بتوصيلهما إلى مكثر أمير مكة ، فمتى أبطأت
عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم
بسبب المكوس .
واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير
المذكور فورد أمره ( بأن يضمن الحاج بعضهم بعضًا ويدخلوا إلى حرم الله ، فإن
ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل
الحاج ) هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج ، فسبحان
مغير السنن ومبدلها .
والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألفا دينار اثنان ، وألفا إردب
من القمح ، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا ، حاشا إقطاعات أقطعها
بصعيد مصر ، وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور ، ولولا مغيب هذا السلطان
العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا
الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج ، فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل
أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية ؛ لما هم عليه(1/37)
من حل عُرَى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم ، فمن يعتقد من فقهاء أهل
الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب ، وبما يُصْنَع بالحاج
مما لا يرتضيه الله عز وجل ، فراكب هذا راكب خطر ، ومعتسف غرر ، والله قد
أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال ، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد
اتخذوه معيشة حرام ، وجعلوه سببًا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حِلٍّ
ومصادرة الحجاج عليها ؟ وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم ، تلافاها الله عن
قريب بتطهير يرفع هذه البدع المُجْحِفَة عن المسلمين ، بسيوف الموحدين [2] أنصار
الدين ، وحزب الله أولي الحق والصدق ، والذَّابين عن حرم الله عز وجل والغائرين
على محارمه ، والجادين في إعلاء كلمته ، وإظهار دعوته ، ونصر ملته ، إنه على
ما يشاء قدير ، وهو نعم المولى ونعم النصير .
وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب ؛
لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها ، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية
فأهواء وبدع ، وفرق ضالة وشيع ، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها ، كما أنه
لا عدل ولا حق ولا دين على وجهها إلا عند الموحدين أعزهم الله ، فهم آخر أئمة
العدل في الزمان ، وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة :
يُعَشِّرُونَ تجار المسلمين ، كأنهم أهل ذمة لديهم ، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة
وسبب ، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسْمَع بمثلها ، اللهم إلا هذا السلطان العادل
صلاح الدين قد ذكرنا سيرته ومناقبه لو كان له أعوان على الحق مما أريد والله عز
وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه ) ا هـ . المراد نقله من هذه
الرحلة ، وإنني أقفي عليه بكلمة وجيزة فأقول :
لئن كان فضل الله تعالى على الحجاز في القرن السادس عظيمًا بجعله تحت
حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ؛ إذ أزال منه جُلَّ تلك المظالم المرهقة(1/38)
لأهله حتى الشرفاء منهم وللحجاج ، فإن فضل الله تعالى على الحجاز وحجاج
الأقطار في هذا العصر بالملك عبد العزيز آل سعود أعظم ، فإنه لم يعرف المسلمون
عصرًا بعد صدر الإسلام كان الحاج فيه آمَنَ على نفسه وماله من الظلم والتعدي
مثل هذا العصر ، دع تعبيد الطرقات وكثرة المياه والإسعافات الطبية فيها ، وقطع
المسافات بالسيارات لمن شاء ولو قيض الله لهذا الملك من الرجال المصلحين ما
طالما تمنيناه له كما تمناه ابن جبير لصلاح الدين ، لكان هذا الإصلاح المادي
والمعنوي في الحجاز أكبر وأعم مما هو الآن ، ولا نيأس من روح الله ، والحمد الله
على آلاء الله .
* * *
الدعوة إلى انتقاد المنار
نجدد دعوة أهل العلم والرأي من قراء المنار إلى بيان ما يرونه فيه من خطأ في
الشرع أو الرأي بما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بدون زيادة
على القدر الواجب . ونعدهم بنشر ما يخاطبوننا به بشرطه مع بيان رأينا فيه ، كدأبنا
في كل عام .
________________________
(1) وضعنا هذه المقالة موضع باب الفتاوى لما نُرَجِّي من فائدتها في موسم الحج .
(2) يعني دولة الموحدين التي ظهرت بالمغرب ، ووصلت دعوتها إلى الحجاز فكبر بها أمل المسلمين
كما يذكره ابن جبير في مكان آخر .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 33 ] الجزء [ 1 ] صـ 26 ذو القعدة 1351 ـ مارس 1933 ))
الحج في طوره المدني المترف
كان كثير من المسلمين يحجون إلى بيت بالله الحرام رجالاً ، أي مشاة على
أقدامهم حتى إن هارون الرشيد حج ماشيًا ، وأكثرهم يحجون ركبانًا على الإبل ،
وبعضهم على الخيل والبغال والحمير ، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة على
الحجاز في الشرق والغرب الذين وراء البحار أو في جزائرها يركبون السفن
الشراعية ، فيقاسون في مصارعتها للأمواج وعواصف الرياح أهوالاً ، يرون فيها
من الموت صنوفًا وألوانًا ، وكانوا ينفقون في سفر الحج أموالاً عظيمة ، وربما(1/39)
استغرق سفر الحج سنة أو أكثر ، وكان مريد الحج يوطن نفسه على الموت ،
فيكتب وصيته ويودع أهله لبعد الشقة وشدة المشقة ولفقد الأمن على الأنفس
والأموال ، وكانوا يعدون ما ينفقونه في سفر الحج أفضل نفقاتهم ، ويعدون أفضلها
في تطهير أنفسهم وتزكيتها ما ينفقونه في نفس الحرمين الشريفين من الصدقات
والقربات على أهلهما ، مهما يكن من عنائهم فيهما .
ولما أنشئت البواخر الكبار المواخر في جميع البحار قرَّبت المسافات ، وقللت
النفقات ؛ ولكن أصحابها من شعوب الفرنجة المستعمرين للأقطار الإسلامية تواطئوا
على معاملة الحجاج فيها أسوأ من جميع أصناف المسافرين ؛ ليصرفوا أكثر أغنياء
المسلمين المترفين عن الحج ، وزادوهم رهقًا بما وضعوا من النظم الشديدة للحجر
الصحي عليهم ، وواتتهم الحكومة المصرية على ذلك ، فكانت معاملات رجالها
للحجاج في موانيها ومحاجرها أقسى من كل ما يقاسونه في غيرها شدة وإهانة ونفقة ،
ولا تزال تعد أرض الحجاز بيئة وبائية بسوء خضوعها للسيطرة الأوربية ، وقد
مرت عشرات من السنين لم يقع فيها وباء في الحجاز ، ومن المعلوم بالقطع أنه ما
وقع وباء فيه من قبل إلا منتقلاً إليه من غيره من الأقطار ولا سيما الهند ، ولا تزال
الحكومة المصرية تفرض على من يسافر إلى الحجاز لأداء فريضته ، ومن يعود
منه معاملة شاذة مرهقة لا تعامل بمثلها من يسافر من الهند أو يجيء منها ، على أن
وطأتها خففت في السنين الأخيرة ، وقد دخل موسم هذا العام في طور جديد من
الراحة والسهولة والاقتصاد والانتظام بما أعدته له شركة بواخر مصر في باخرتيها
زمزم والكوثر ، وسنبين ذلك في مقال آخر مع ما يجب على الحجاج في دينهم
شكرًا على هذه النعم عليهم .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 34 ] الجزء [ 7 ] صـ 560 رمضان 1353 ـ يناير 1935 ))(1/40)