معاهد التنصيص ج 1 - 2
____________________(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل العقل مفتاح العلوم ومدرك معاني المنطوق والمفهوم ومنشأ بيان المحقق والموهوم ومظهر بديع المنثور والمنظوم
أحمده حمد من بجزيل نعمه اعترف وأشكره شكر من ورد مناهل فضله وأغترف وأشهد أنه الرب الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الذي تلخص الدين بإرشاده أحسن تلخيص وتخلص متبع هديه من الجحيم أعظم تخليص فكانت بعثته مفتاح باب الخيرات والطريق الموصل إلى منهج المبرات صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام وصحبه الأئمة الأعلام ما اغرب مبتدئ ببديع النظام وأعجب منته بحسن الختام وبعد فإن الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير نطر الله إليه بعين العفو والغفران ورضى عنه أتم الرضوان لما كان متحليا بحلية العلماء مستشعرا شعار الفضلاء وبرد الشبيبة قشيب وغصن الصبا رطيب ومربع الأماني خصيب والسعادة تلحظه عيونها وتتوارد عليه أبكارها وعونها لم يزل في خدمة العلم وتأليفه وترتيبه وتصنيفه بقدر ما يصل إليه
____________________
(1/1)
علمه القاصر وحسب ما ينفذ فيه فهمه الفاتر وكان من جملة ما حفظه من المتون وعلق بخاطره من الفنون كتاب تلخيص المفتاح الذي هو في بابه راحة الأرواح تغمد الله مؤلفه برحمته ورضوانه وأسكنه بحابح جنانه وفيه من الشواهد الشعرية ما يعزى للأقدمين وما ينسب للمولدين إلا أن أكثرها مجهول الأنساب مغفول الأحساب وربما عزاه بعض شارحي الكتاب لغير قائليه ونسبه إلى غير أبيه إما لاشتباه في الأوزان أو تماثل في المعان ولم أر من عمل على تلك الشواهد شرحا يشفي العليل أو يروى الغليل غير أن شيخنا المرحوم العلامة الجلال السيوطي سقى الله من صوب الرحمة ثراه وأكرم منزله ومثواه عمل على بعضها تعليقا لطيفا لم يكمله ولم يخرج عن مسودته وكثيرا ما كانت نفسي تنازعني للتصدي لذلك وأقول لها لست هنالك وأعللها بالمواعيد وهي تقرب إلي البعيد وتسول لي أنه أقرب إلي من حبل الوريد فيقوى العزم ويستعمل الجزم ويهمل الأخذ بالحزم إلى أن آن أوانه وحان إبانه فشمرت عن ساعد الاجتهاد واستعملت الجد في تحصيل ذلك المراد وسلكت فيه منهج الاختصار ومدرج الاقتصار ونصيت على أبحر تلك الشواهد العروضية ووضعت في كل شاهد منها ما يناسبه من نظائره الأدبية وذكرت ترجمة قائلة إلا ما لم أطلع عليه بعد
____________________
(1/2)
التفتيش في كتب الأدب والتحري والاستقصاء في الطلب ومزجت فيه الجد بالهزل والحزن بالسهل
وسميته ب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
فجاء بحمد الله غريب الابتداع عجيب الاختراع بديع الترتيب رائع التركيب مفردا في فن الأدب كفيلا لمن تأمله بالعجب وهو وإن كان من جنس الفضول الذي ربما يستمل أو هو بقول الحسود داخل في قسم المهمل فهو أمنية كان الخاطر يتمناها وحاجة في نفس يعقوب قضاها على أنه لا يخلو من فائدة فريدة ونكتة عن مواطنها شريدة ودرة مستخرجة من قاع البحور وشذرة تزين بها قلائد النحور وعجائب تحل لها الحبا وغرائب يقول لها العقل السليم مرحبا مرحبا ولئن خالط هذا القول هوى النفس أو ظن المغالاة به صادق الحدس
( فالمرء مفتون بتأليفه ** ونفسه في مدحة غاويه )
( والفضل من ناظره أن يرى ** ما قد حوى بالمقلة الراضيه )
( وإن يجد عيبا يكن ساترا ** عواره بالمنة الوافيه )
ومن تأمله بعين الإنصاف والرضى شهد بصدق هذا الوصف وبصحته قضى
وحين سهل الله الوصول ثانيا إلى الممالك الرومية لا زالت من المكاره محمية استوطن منها قسطنطينة العظمى لا زالت من الله وقاية وحمى
____________________
(1/3)
إذ هي محل الكرم وموطن النعم ومحط الرحال ومنتهى الآمال ومشرق السعادة وأفق السيادة وموسم الأدباء وحلبة الخطباء ودار الإسلام ومقر العلماء الأعلام وتخت الملك المعظم الشأن ومحل الدولة والسلطان لا زالت دار الإسلام والإيمان ومستقر الأمن والأمان ما تعاقب الملوان بدوام حياة سلطان العالم وخير ملوك بنى آدم سليمان الزمان وخاقان العصر والأوان ومفخر آل عثمان لا برحت دولته مخلدة خلود الأبرار في دار القرار وسعادته مؤبدة مسلسلة الأدوار ما دار الفلك المدار بتعاقب الليل والنهار
وكان من أعظم خبايا السعد وعطايا الجد أن شملته العناية وحفته الرعاية بنظر فرد الدهر وواحد العصر وبكر عطارد ونادرة الفلك وتاريخ المجد وغرة الزمان وينبوع الخير والإحسان العالم العلامة والحبر البحر الفهامة جامع أشتات المفاخر والمتفرد بغايات المآثر سيدنا ومولانا سعدى قاضي القضاة بتخت الملك قسطنطينية العظمى فهو مولى تنخفض همم الأقوال عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه ويقتصر جهد الوصف عن أيسر فواضله ومساعيه حضرته مطلع الجود ومقصد الوفود وقبلة الآمال ومحط الرحال ومجمع الأدباء وحلبة الشعراء ذو همة مقصورة على مجد يشيده وإنعام يجدده وفاضل يصطنعه وخامل وضعه الدهر فيرفعه فاق الأقران وساد الأعيان فلا يدانيه مدان ولو كان من بني عبد المدان وليس يجاريه في مضمار جود جواد ولا يباريه في ارتياد السيادة مرتاد
____________________
(1/4)
( ما كل من طلب المعالي نافدا ** فيها ولا كل الرجال فحولا ) لا زالت آي مجده بألسن الأقلام متلوة وأبكار الأفكار بمديح معاليه مجلوة
وحين أناخ مطايا قصده بأفناء سعده صادف مولى حفيا وظلا ضفيا ومرتعا رحيبا ومربعا خصيبا وبشاشة وجه تسر القلوب وطلاقة محيا تفرج الكروب وتغفر للدهر ما جناه من الذنوب مع ما يضاف لذلك من منظر وسيم ومخبر كريم وخلائق رقت وراقت وطرائف علت وفاقت وفضائل ضفت مدارعها وشمائل صفت مشارعها وسودد تثنى به عقود الخناصر وتثني عليه طيب العناصر فحمد من صباح قصده السرى وعلم أن كل الصيد في جوف الفرا
( إن الكريم إذا قصدت جنابه ** تلقاه طلق الوجه رحب المنزل )
وها هو في ظل عزه رخى البال متميز الحال آمن من صرفان الدهر وحدثان القهر يرتع في رياض فضله ويجرع من طل جوده ووبله قد عجز عن الشكر لسانه وكل عن رقم الحمد بنانه لم يفقد من مغنى رأفته ظلالا ولم يقل لصيدح آماله انتجعى بلالا وبه حقق قول القائل من الأوائل
( ولما انتجعنا لائذين بظله ** أعان وما عنى ومن وما منا )
( وردنا عليه مقترين فراشنا ** وردنانداه مجدبين فأخصبنا )
____________________
(1/5)
وجملة ما يقوله في العجز عن حمده وشكره والثناء على جوده وبره
( أما وجميل الصنع منه وإنها ** ألية بر مثلها لا يكفر )
( لو اسطعت حولت البرية ألسنا ** وكنت بها أثني عليه وأشكر )
( ولست أوفي حق ذاك وإنما ** قياما بحق الشكر جهدي أشمر )
وكان من جملة دواعي السعد وبواعث الجد ان شمل هذا التأليف نظره الشريف حين وصل إلى حضرة مجده المنيف فأظهر به إعجابا رفع من مقامه ونصب فوق متن المجرة خوافق أعلامه جريا على عادته النفيسة في جبر القلوب وستر العيوب فحين طرق السمع خبر استحسانه لذلك الجمع أحب الفقير أن يخدم حضرته العلية وسدته السنية بنسخة منه لتكون مذكرة بحال الفقير ما دام في قيد الحياة وسببا باعثا على الترحم عليه بعد الممات وعساه يكون وسيلة للانتظام في سلكه وذريعة إلى الانحياز إلى ملكه وإلا فهو أقل من أن يشاع ذكره أو يشاد قصره وكيف يهدي الوشل إلى البحر أو الطل إلى القطر غير أن هواجس الفكر وخواطر الأمل متمسكة في قبوله بأذيال عسى ولعل والذي يقوى في الظن بشيمه الزاكية تلقيه بالبشر ولمحه بالمقلة الراضية وهو يرجو أن يهب عليه نسيم قبول القلوب ويؤمل أن يسبل ستر العفو عما فيه من العيوب وها هو يرفع أكف التضرع والابتهال إلى ذي العظمة والجلال أن يبلغه من ذلك أقصى غاية الآمال بمنه ويمنه
____________________
(1/6)
شواهد المقدمة
____________________
(1/7)
1
( غدا ثره مستشرزات إلى العلا ** )
قائله امرؤ القيس وتمامه
( تضل العقاص في مثنى ومرسل ** )
وهو من البحر الطويل من القصيدة المشهورة التي هي إحدى المعلقات السبع وأولها
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ** لما نسجتها من جنوب وشمأل )
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
( وبيضة خدر لا يرام خباؤها ** تمتعت من لهو بها غير معجل )
( تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ** علي حراصا لو يسرون مقتلي )
( إذا ما الثريا في السماء تعرضت ** تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ** لدى الستر إلا لبسة المتفضل )
( فقالت يمين الله ما لك حيلة ** وما إن أرى عنك الغواية تنجلي )
( خرجت بها أمشي تجر وراءنا ** على إثرنا أذيال مرط مرحل )
( فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ** بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل )
( هصرت بفودى رأسها فتمايلت ** علي هضيم الكشح ريا المخلخل )
( مهفهفة بيضاء غير مفاضة ** ترائبها مصقولة كالسجنجل )
( تصد عن وتبدي أسيل وتتقي ** بناظرة من وحش وجرة مطفل )
____________________
(1/8)
( وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ** إذا هي نصته ولا بمعطل )
( وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل ) (1)
وبعده البيت والقصيدة طويلة وسيأتي طرف منها في شواهد الإنشاء إن شاء الله تعالى
والغدائر جمع غديرة الذوائب والاستشراز الرفع والارتفاع جميعا والفعل منه لازم إن كسرت زايه ومتعد إن فتحت والعلا جمع علياء تأنيث الأعلى وأراد الجهات العلا والعقاص جمع عقيصة وهي الخصلة من الشعر تأخذها المرأة فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها والمثنى من الشعر وغيره ما ثني والمرسل ضده
ومعنى البيت أن حبيبته لكثرة شعرها بعضه مرفوع وبعضه مثنى وبعضه مرسل وبعضه معقوص ملوى بين المثنى والمرسل
والشاهد في البيت التنافر وهو لفظة مستشزرات لثقلها على اللسان وعسر النطق بها
وامرؤ القيس اسمه حندج بن حجر بن عمرو المقصور سمى بذلك لأنه اقتصر به على ملك أبيه حندج والحندج في اللغة رملة طيبة تنبت ألوانا وأمه فاطمة وقيل تملك بنت ربيعة بن الحرث أخت كليب ومهلهل
____________________
1- الطويل
(1/9)
وكنية امرؤ القيس أبو وهب وأبو الحرث ويلقب ذا القروح لقوله
( وبدلت قرحا داميا بعد صحة ** لعل منايانا تحولن أبؤسا ) (1) ويلقب الذائد أيضا لقوله
( أذود القوافي عني ذيادا ** ) + المتقارب +
ويقال له الملك الضليل ومعنى امرئ القيس رجل الشدة والقيس في اللغة الشدة وقيل القيس اسم صنم ولهذا كان الأصمعي يكره أن يروى قوله يا امرأ القيس فانزل ويرويه يا امرأ الله فانزل وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار وقيل في تأويله إن المراد شعراء الجاهلية والمشركين
وهو أول من لطف المعاني ومن استوقف على الطلول وشبه النساء بالظباء والمها والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد وأجاد الاستعارة والتشبيه
وكان من حديثه أن أباه طرده لما قال الشعر وإنما طرده من اجل زوجته وهي أم الحويريث التي كان امرؤ القيس يشبب بها في شعره وكان
____________________
1- الطويل
(1/10)
يتنقل في أحياء العرب ويستتبع صعاليكهم وذؤبانهم والعرب تطلق على اللصوص الذؤبان تشبيها بالذئاب وكان يغير بهم وكان أبوه ملك بنى أسد فعسفهم عسفا شديدا فتمالأوا على قتله فلما بلغه قتل أبيه وكان يشرب الخمر قال ضيعني صغيرا وحملني ثقل الثأر كبيرا اليوم خمر وغدا أمر فأرسلها مثلا وقيل بل قال اليوم قحاف وغدا نقاف والقحاف من القحف وهو شدة الشرب والنقاف من نقف إلهام إذا قطعها
ثم أنه جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب وخرج يريد بني أسد فخبرهم كاهنهم بخروجه إليهم فارتحلوا وتبعهم امرؤ القيس فأوقع ببني كنانة وكانوا بني أسد قد لجأوا إليهم ثم ارتحلوا عنهم فقتلهم قتلا ذريعا وأقبل أصحابه يقولون يا لثارات الهمام فقالت عجوز منهم واللات أيها الملك ما نحن بثأرك وإنما ثأرك بنو أسد وقد ارتحلوا فرفع القتل عنهم وقال
( ألا لهف نفسي إثر قوم ** هم كانوا الشفاء فلم يصابوا )
( وقاهم جدهم ببني علي ** وبالأشقين ما كان العقاب )
( وأفلتهن علباء جريضا ** ولو أدركنه صفر الوطاب ) (1)
وقيل إن أصحابه اختلفوا عليه حين أوقع ببني كنانة وقالوا له أوقعت بقوم براء وظلمتهم فخرج إلى اليمن إلى بعض مقاولة حمير واسمه قرمل فاستجاشه
____________________
1- الوافر
(1/11)
فثبطه قرمل فذلك حيث يقول
( وكنا أناسا قبل غزوة قرمل ** ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا ) (1)
ثم خرج إلى قيصر بعد أن أودع أدراعه وكراعة السموءل ابن عادياء فذلك حيث يقول
( بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** وأيقن أنا لاحقان بقيصرا )
( فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا ) (1)
وصاحبه عمرو بن قميئة الشاعر وهو من بني قيس بن ثعلبة وكان قد طوى عنه الخبر حتى جاوز الدرب فلما وصل إلى قيصر استغاث به فوعده أن يرفده بجيش
وكان امرؤ القيس جميل الوجه وكان لقيصر ابنة جميلة فأشرفت يوما من قصرها فرآها امرؤ القيس في دخوله إلى أبيها فتعلق بها وراسلها فأجابته إلى ما سأل فذلك حيث يقول لما وصل إليها
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ) (1)
وقيل إن أباها زوجه إياها وقد كان سبق إلى قيصر رجل من بني أسد يقال له الطماح فوشى به إلى قيصر فوجه معه جيشا ثم أتبعه رجلا معه حلة مسمومة وقال له اقرأ عليه السلام وقل له إن الملك قد بعث إليك بحلة قد لبسها ليكرمك بها وأدخله الحمام فإذا خرج فألبسه إياها فلما فعل تنفط بدنه وكان يحمل في محفة فذلك حيث يقول
( لقد طمح الطماح من بعد أرضه ** ليلبسني من دائه ما تلبسا ) (1)
____________________
1- الطويل
(1/12)
وكان الطماح قبل ذلك قد عبث بامرأة من قومه فسعى به فهرب فأراد كما سعى به أن يسعى به
ثم أن امرأ القيس لما بلغ أنقرة طعن في إبطه وارفض عنه أصحابه وكان نزوله إلى جانب جبل والى جانبه قبر لابنة بعض الملوك فسأل عنه فأخبر فقال
( أجارتنا إن الخطوب تنوب ** وإني مقيم ما اقام عسيب )
( أجارتنا إنا غريبان هاهنا ** وكل غريب للغريب نسيب )
( فإن تصليني تسعدي بمودتي ** وإن تقطعيني فالغريب غريب ) (1)
ثم مات هنالك فدفن بأنقرة وكان آخر ما تكلم به
( رب طعنة مثعنجره ** وخطبة مسحنفره )
( وجفنة مدعتره ** وقصيدة محبره )
( تبقى غدا بأنقره ** )
____________________
1- الطويل
(1/13)
2
( وفاحما ومرسنا مسرجا ** )
قائله رؤبة بن العجاج وهو من بحر الرجز من ارجوزة طويلة أولها
( ما هاج أشجانا وشجوا قد شجا ** من طلل كالأتحمي أنهجا )
( أمسى لعافي الرامسات مدرجا ** واتخذته الناثجات منأجا )
( منازل هيجن من تهيجا ** من آل ليلى قد عفون حججا )
( والشحط قطاع رجاء من رجا ** أزمان ابدت واضحا مفلجا )
( أغر براقا وطرفا أبرجا ** ومقلة وحاجبا مزججا ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وكفلا وعثا إذا ترجرجا ** )
الفاحم الأسود وأراد شعرا فاحما فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه والمرسن بفتح السين وكسرها الأنف الذي يشد بالرسن ثم استعير لأنف الإنسان ومسرجا مختلف في تخريجه فقيل من سرجه تسريجا بهجة وحسنه وقيل من قولهم سيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له
____________________
1- الرجز
(1/14)
سريج شبه بها الأنف في الدقة والاستواء وقيل من السراج وهو قريب من قولهم سرج وجهه بكسر الراء أي حسن والزجج دقة الحاجبين
والمعنى أن لهذه المرأة الموصوفة مقلة سوداء وحاجبا مدققا مقوسا وشعرا اسود وأنفا كالسيف السريجي في دقته واستوائه أو كالسراج في بريقه وضيائه
والشاهد فيه الغرابة في مسرجا للاختلاف في تخريجه
ورؤبة قائل هذا البيت هو أبو محمد رؤبة بن العجاج والعجاج لقبه واسمه عبد الله بن رؤبة البصري التميمي السعدي سمي باسم قطعة من الخشب يشعب بها الإناء وهي بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء ساكنة وهو وأبوه راجران مشهوران كل منهما له ديوان رجز ليس فيه شعر سوى الأراجيز وهما مجيدان في رجزهما وكان رؤبة هذا بصيرا باللغة قيما بحوشيا وغريبها
حكى يونس بن حبيب النحوي قال كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاء شبيل بن عروة الضبعي فقام إليه أبو عمرو وألقى له لبد بغلته فجلس عليه ثم أقبل عليه يحدثه فقال شبيل يا أبا عمرو سألت رؤبتكم عن اشتقاق اسمه فما عرفه يعني رؤبة قال يونس فلم أملك نفسي عند ذكره فقلت لعلك تظن أن معد بن عدنان أفصح منه ومن أبيه أفتعرف أنت ما الروبة والروبة والروبة والروبة والروبة وأنا غلام رؤبة فلم يحر جوابا وقام مغضبا فأقبل علي أبو عمرو وقال هذا رجل شريف يقصد مجالسنا ويقضي حقوقنا وقد أسأت فيما
____________________
(1/15)
وفعلت مما واجهته به فقلت لم أملك نفسي عند ذكر رؤبة فقال أبو عمرو أو سلطت على تقويم الناس ثم فسر يونس ما قاله فقال الروبة خميرة اللبن والروبة قطعة من الليل والروبة الحاجة يقال فلان ما يقوم بروبة أهله أي بما أسندوا إليه من حوائجهم والروبة جمام ماء الفحل والرؤبة بالهمز القطعة التي يشعب بها الإناء والجميع بضم الراء وسكون الواو إلا رؤبة فإنه بالهمز
وقيل ليونس من أشعر الناس فقال العجاج ورؤبة فقيل له لم نعن الرجاز قال هما أشعر أهل القصيد وإنما الشعر كلام وأجوده أشعره قال العجاج
( قد جبر الدين الإله فجبر ** ) (1)
فهي نحو من مائتي بيت موقوفة القوافي ولو أطلقت قوافيها كلها لكانت منصوبة وكذلك عامة أراجيزهما
وعن ابن قتيبة قال كان رؤبة يأكل الفأر فعوتب في ذلك فقال هي والله أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللاتي تأكل العذرة وهل يأكل الفأر إلا نقي البر ولباب الطعام
وحدث أبو زيد الأنصاري النحوي قال دخل رؤبة بن العجاج السوق وعليه بركاني أخضر فجعل الصبيان يعبثون به ويغرزون شوك النخل في بركانه ويصيحون به يا مردوم يا مردوم فجاء إلى الوالي فقال أرسل معي الوزعة فإن الصبيان قد حالوا بيني وبين السوق فأرسل معه أعوانا فشد على الصبيان وهو يقول
____________________
1- الرجز
(1/16)
( أنحى على أمك بالمردوم ** أعور جعد من بني تميم )
( شراب ألبان خلايا كوم ** )
قال فجعلوا يعدون بين يديه حتى دخلوا دارا في الصيارفة فقال له الشرطي أين هم قال دخلوا دار الظالمين فسميت إلى الآن دار الظالمين لقول رؤبة وهي في صيارفة سوق البصرة
وعن المدائني قال قدم البصرة راجز من رجاز المدينة فجلس إلى حلقة فيها الشعراء فقال أنا ارجز العرب أنا الذي أقول
( مروان يعطي وسعيد يمنع ** مروان نبع وسعيد خروع ) (1)
وددت أني راهنت من احب في الرجز يدا بيد والله والله لأنا أرجز من العجاج فليت البصرة جمعت بيني وبينه قال والعجاج حاضر وابنه رؤبة معه فأقبل رؤبة على أبيه فقال قد أنصفك الرجل فأقبل عليه العجاج فقال ها أنا ذا العجاج فهلم وزحف إليه فقال وأي العجاجين أنت قال ما خلتك تعني غيري أنا أبو عبد الله الطويل وكان يكنى بذلك فقال له المدني ما عنيتك ولا أردتك قال كيف وقد هتفت باسمي قال أو ما في الدنيا عجاج سواك قال ما علمت قال ولكني أعلم وإياه عنيت قال فهذا ابني رؤبة قال اللهم غفرا ما بيني وبينكما عمل وإنما مرادي غيركما قال فضحك أهل الحلقة وكفا عنه
وعن عبد الرحمن بن محمد بن علقمة قال أخرج شاهين بن عبد الله الثقفي رؤبة معه إلى أرضه فقعدوا يلعبون بالنرد فلما أتوا بالخوان قال رؤبة فيه
( يا إخوتي جاء الخوان فارفعوا ** حنانة كعابها تقعقع )
( لم أدر ما ثلاثها والأربع ** ) قال فضحكنا ورفعناها وقدم الطعام
وكان رؤبة مقيما بالبصرة فلما ظهر بها إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي
____________________
1- الرجز
(1/17)
ابن أبي طالب كرم الله وجهه على المنصور وجرت الواقعة المشهورة خاف رؤبة على نفسه وخرج إلى البادية ليجتنب الفتنة فلما وصل إلى الناحية التي قصدها أدركه أجله بها فتوفى سنة خمس وأربعين ومائة
وهذا يخالف ما رواه يعقوب بن داود قال لقيت الخليل بن أحمد يوما بالبصرة فقال يا أبا عبد الله دفنا الشعر واللغة والفصاحة اليوم فقلت له كيف ذلك قال حين انصرفت من جنازة رؤبة بن العجاج وكان قد أسن رحمه الله
وقد سمع أباه وأبوه سمع أبا هريرة رضي الله عنه وقال النسائي وليس هو بالقوي وقد روى رؤبة بن العجاج عن أبي الشعثاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وحاد يحدو
( طاف الخيالان فهاجا سقما ** خيال لبنى وخيال تكتما )
( قامت تريك خشية أن تصرما ** ساقا بخنداة وكعبا ادرما ) (1)
والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر
وحدث أبو عبيدة الحداد قال حدثنا رؤبة بن العجاج قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول السواك يذهب وضر الطعام وهذا الخبر يدل على أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه والله اعلم
ومن شعره
( أيها الشامت المعير بالشيب أقلن بالشباب افتخارا ** )
( قد لبست الشباب غضا طريا ** فوجدت الشباب ثوبا معارا ) + الخفيف +
3
( الحمد لله العلي الأجلل ** )
قائله أبو النجم وهو من بحر الرجز من أرجوزة طويلة وبعده
( الواهب الفضل الوهوب المجزل ** أعطى فلم يبخل ولم يبخل ) (1)
والشاهد فيه مخالفة القياس اللغوي في قوله الأجلل إذ القياس الأجل بالإدغام
____________________
1- الرجز
(1/18)
وأبو النجم اسمه الفضل بن قدامة بن عبيد الله العجلي وهو من رجاز الإسلام والفحول المتقدمين في الطبقة الأولى منهم
وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن فقال يا أبا النجم حدثني قال أعني أو عن غيري قال بل عنك قال إني لما كبرت عرض لي البول فوضعت عند رجلي شيئا ابول فيه فقمت من الليل أبول فخرج مني صوت فتشددت ثم عدت فخرج مني صوت آخر فأويت إلى فراشي وقلت يا أم الخيار هل سمعت شيئا قالت لا والله ولا واحدة منهما فضحك هشام
وعن أبي عبيدة قال ما زالت الشعراء تقصر بالرجاز حتى قال أبو النجم
( الحمد لله العلي الأجلل ** )
وقال العجاج
( قد جبر الدين الإله فجبر ** )
وقال رؤبة
( وقاتم الأعماق خاوي المخترق ** ) فانتصفوا منهم
وعن أبي عمرو الشيباني قال قال فتيان من عجل لأبي النجم هذا رؤبة بالمربد يجلس فيسمع شعره وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان بني تميم قال أو تحبون ذلك قالوا نعم قال فائتوني بشيء من نبيذ فأتوه به فشربه ثم انتفض فقال
( إذا اصطبحت أربعا عرفتني ** ثم تجشمت الذي جشمتني ) (1)
____________________
1- الرجز
(1/19)
فلما رآه رؤبة أعظمه وقام له عن مكانه وقال هذا رجاز العرب وسألوه أن ينشدهم فأنشدهم
( الحمد لله العلي الأجلل ** )
وكان من احسن الناس إنشادا فلما فرغ منها قال له رؤبة هذه أتم الرجز ثم قال يا أبا النجم قربت مرعاها إذ جعلتها بين رجل وابنه يوهم عليه أنه حيث قال
( تبقلت من أول التبقل ** بين رماحي مالك ونهشل ) (1) أنه يريد نهشل بن مالك بن حنظلة بن زيد بن مناة فقال له أبو النجم هيهات الكمر تتشابه أي إنما أريد مالك بن ضبيعة بن قيس ونهشل قبيلة من ربيعة
وعن أبي برزة المربدي قال خرج العجاج محتفلا عليه جبة من خز وعمامة من خز على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون عليه وأنشدهم
( قد جبر الدين الإله فجبر ** )
وذكر فيها ربيعة فهجاهم فجاء رجل من بني بكر بن وائل إلى أبي النجم وهو في بيته فقال أنت جالس وهذا العجاج يهجونا في المربد قد اجتمع عليه الناس فقال صف لي حاله وزيه الذي هو فيه فوصف له فقال ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء فجاء بالجمل فأخذ سراويل له فجعل إحدى
____________________
1- الرجز
(1/20)
رجليه في السراويل واتزر بالأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده فانطلق حتى آتى المربد فلما دنا من العجاج قال اخلع خطامه فخلعه وأنشد
( تذكر القلب وجهلا ما ذكر ** )
فجعل الجمل يدنو من الناقة ويتشممها ويتباعد عنه الحجاج لئلا يفسد ثيابه ورحله بالقطران حتى بلغ قوله
( شيطانه أنثى وشيطاني ذكر ** )
فعلق الناس هذا البيت وهرب العجاج منه
وورد أبو النجم على هشام بن عبد الملك في الشعراء فقال لهم هشام صفوا إبلا فقيظوها وأوردوها وأصدروها حتى كأنني أنظر إليها فأنشدوه وأنشده أبو النجم
( الحمد لله العلي الأجلل ** )
حتى إذا بلغ إلى ذكر الشمس فقال
( فهي على الأفق كعين . . . . . ** )
فأراد أن يقول الأحول ثم ذكر حول هشام فلم يتم البيت وأرتج عليه فقال هشام أجز فقال كعين الأحول وأمر القصيدة فأمر هشام بوجء عنقه وإخراجه من الرصافة وقال لصاحب شرطته يا ربيع إياك وأن أرى هذا فكلم وجوه الناس صاحب شرطته أن يقره ففعل فكان يصيب من فضول أطعمة الناس ويأوي المساجد قال أبو النجم ولم يكن بالرصافة أحد يضيف إلا سليم بن كيسان الكلبي وعمرو بن بسطام التغلبي فكنت آتي سليما فأتغذى عنده وآتي عمرا فأتعشى عنده وآتي المسجد فأبيت قال فاهتم هشام ليلة وأمسى لقس النفس وأراد محدثا يحدثه فقال لخادم ابغني محدثا أعرابيا أهوج شاعرا يروي الشعر فخرج الخادم إلى المسجد فإذا هو بأبي النجم فضربه
____________________
(1/21)
برجله وقال قم أجب أمير المؤمنين فقال إنني رجل أعرابي غريب فقال إياك أبغي هل تروي الشعر قال نعم وأقوله فأقبل به حتى أدخله القصر وأغلق الباب قال فأيقن أبو النجم بالشر ثم مضى به فأدخله على هشام في بيت صغير بينه وبين نسائه ستر رقيق والشمع بين يديه يزهر فلما دخل قال له هشام أبو النجم قال نعم يا أمير المؤمنين طريدك قال اجلس فسأله وقال له أين كنت تأوي واين منزلك فأخبره قال وكيف اجتمعا لك قال كنت أتغذى عند هذا وأتعشى عند الآخر قال فأين كنت تبيت قال في المسجد حيث وجدني رسولك قال وما لك من الولد والمال قال أما المال فلا مال لي وأما الولد فلي ثلاث بنات وبني يقال له شيبان فقال هل أخرجت من بناتك أحدا قال نعم زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتها كأنها نعامة قال وما أوصيت به الأولى وكانت تسمى برة بالبراء فقال
( أوصيت من برة قلبا حرا ** بالكلب خيرا والحماة شرا )
( لا تسأمي ضربا لها وجرا ** حتى ترى حلو الحياة مرا )
( وإن كستك ذهبا ودرا ** والحي عميهم بشر طرا ) (1)
فضحك هشام وقال فما قلت للأخرى قال قلت
( سبي الحماة وابهتي عليها ** وإن دنت فازدلفي إليها )
( وأوجعي بالنهز ركبتيها ** ومرفقيها واضربي جنبيها )
____________________
1- الرجز
(1/22)
( وظاهري البدى لها عليها ** لا تخبري الدهر به ابنتيها ) (1)
قال فضحك هشام حتى بدت نواجذه وسقط على قفاه وقال ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه السلام ولده فقال ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين قال فما قلت للثالثة قال قلت
( أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ** أوصيك أن تحمدك الأقارب )
( والجار والضيف الكريم الساغب ** ويرجع المسكين وهو خائب )
( ولا تني أظفارك السلاهب ** لهن في وجه الحماة كاتب )
( والزوج إن الزوج بئس الصاحب ** ) (1)
قال فكيف قلت هذا ولم تتزوج وأي شيء قلت في تأخر تزويجها قال قلت
( كأن ظلامة أخت شيبان ** يتيمة ووالداها حيان )
( الرأس قمل كله وصئبان ** وليس في الساقين إلا خيطان )
( تلك التي يفزع منها الشيطان ** ) (1)
قال فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه وقال للخصي كم بقي من نفقتك قال ثلاثمائة دينار قال أعطه إياها ليجعلها في رجل ظلامة مكان الخيطين
____________________
1- الرجز
(1/23)
ودخل أبو النجم يوما على هشام وقد مضت له سبعون سنة فقال له هشام ما رأيك في النساء قال إني لأنظر إليهن شزرا وينظرن إلي حذرا فوهب له جارية وقال له اغد علي فأخبرني ما كان منك فلما أصبح غدا عليه فقال له ما صنعت شيئا ولا قدرت على شيء وقلت في ذلك أبياتا
( نظرت فأعجبها الذي في درعها ** من حسنه ونظرت في سرباليا )
( ظيقا يعض بكل عرد ناله ** كالصدغ أو صدع يرى متجافيا )
( فرأت لها كفلا ينوء بخصرها ** وعثا روادفه وأجثم نابيا )
( ورأيت منتشر العجان مقلصا ** رخوا مفاصله وجلدا باليا )
( أدني له الركب الحليق كأنما ** أدنى إليه عقاربا وأفاعيا )
( إن الندامة والسدامة فاعلمن ** لو قد خبرتك للمواسي حاليا )
( ما بال رأسك من ورائي طالعا ** أظننت أن حر الفتاة ورائيا )
( فاذهب فإنك ميت لا ترتجى ** أبد الأبيد ولو عمرت لياليا )
( أنت الغرور إذا خبرت وربما ** كان الغرور لمن رجاه شافيا )
( لكن أيري لا يرجى نفعه ** حتى أعود أخا فتاء ناشيا ) (1)
فضحك هشام وأمر له بجائزة أخرى
وحدث أبو الأزهر ابن بنت أبي النجم عن أبي أمه أنه كان عند عبد الملك ابن مروان ويقال عند سليمان بن عبد الملك يوما وعنده جماعة من
____________________
1- الكامل
(1/24)
الشعراء وكان أبو النجم فيهم والفرزدق وجارية واقفة على رأس سليمان أو عبد الملك تذب عنه فقال من صحبني بقصيدة يفتخر فيها وصدق في فخره وهبته هذه الجارية قال فقاموا على ذلك ثم قالوا إن أبا النجم يغلبنا بمقطعاته يعنون الرجز فقال ألا أقول إلا قصيدا فقال من ليلته قصيدته التي فخر فيها وهي
( علق الفؤاد حبائل الشعثاء ** ) (1)
ثم أصبح ودخل عليه ومعه الشعراء فأنشده حتى بلغ إلى قوله
( منا الذي ربع الجيوش لصلبه ** عشرون وهو يعد في الأحياء )
قال له عبد الملك أو سليمان قف إن كنت صدقت في هذا البيت فلا تزد ما وراءه فقال الفرزدق أنا اعرف منهم ستة عشر ومن ولد ولده أربعة كلهم قد ربع فقال عبد الملك أو سليمان ولد ولده هم ولده ادفع إليه الجارية يا غلام قال فغلبهم يومئذ
وحدث الأصمعي قال قال أبو النجم للعديل بن الفرخ أرأيت قولك
____________________
1- الكامل
(1/25)
( فإن تك من شيبان أمي فإنني ** لأبيض مجلي عريض المفارق ) (1)
أكنت شاكا في نسبك حتى قلت مثل هذا فقال العديل أشككت في نفسك أو في شعرك حين قلت
( أنا أبو النجم وشعري شعري ** لله درى ما يجن صدري ) + الرجز +
فأمسك أبو النجم واستحيا وكانت وفاته آخر دولة بني أمية
4
( كريم الجرشي شريف النسب ** ) قائله أبو الطيب المتنبي من قصيدة من بحر المتقارب وكان سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب قد أنفذ إليه كتابا بخطه إلى الكوفة بأمان وسأله المسير إليه فأجابه بهذه القصيدة
( فهمت الكتاب أبر الكتب ** فسمعا لأمر أمير العرب )
( وطوعا له وابتهاجا به ** وإن قصر الفعل عما وجب )
( وما عاقني غير خوف الوشاة ** فإن الوشاة طريق الكذب )
( وتكثير قوم وتقليلهم ** وتقريبهم بيننا والخبب )
( وقد كان ينصرهم سمعه ** وينصرني قلبه والحسب )
( وما قلت للبدر أنت اللجين ** ولا قلت للشمس أنت الذهب )
( فيقلق منه البعيد الأناة ** ويغضب منه البطيء الغضب )
( وما لاقني بعدكم بلدة ** ولا اعتضت من رب نعماي رب )
____________________
1- الطويل
(1/26)
( ومن ركب الثور بعد الجواد ** أنكر أظلافه والغبب )
( وما قست كل ملوك البلاد ** فدع ذكر بعض بمن في حلب )
( ولو كنت سميتهم باسمه ** لكان الحديد وكانوا الخشب )
( أفي الرأي يشبه أم في السخاء ** أم في الشجاعة أم في الأدب )
( مبارك الاسم أغر اللقب ** كريم الجرشي شريف النسب )
( أخو الحرب يخدم مما سبى ** قناة ويخلع مما سلب )
( إذا حاز مالا فقد حازه ** فتى لا يسر بما لا يهب ) (1)
والجرشي بكسر الجيم والراء مقصورا النفس وأشار بقوله مبارك اللاسم إلى أن اسم الممدوح على وهو اسم مبارك يتبرك به لمكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولأنه مشتق من العلو والعلو مبارك ومعنى أغر اللقب مشهور لأنه سيف الدولة والأغر من الخيل الذي في وجهه غرة وهي البياض استعير لكل واضح معروف
والشاهد فيه كراهة السمع للفظه تكون في البيت كالجرشي هنا
وأبو الطيب اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المتنبي الشاعر المشهور وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ
____________________
1- المتقارب
(1/27)
أمير حمص نائب الاخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه
وكان قد قرأ على البوادي كلا ما ذكر أنه قرآن أنزل عليه فمنه والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر لفي أخطار امض على سننك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين وضل عن السبيل
وكان إذا جلس في مجلس سيف الدولة وأخبروه عن هذا الكلام فينكره ويجحده
ولما أطلق من السجن التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة ومدح كافورا الأخشيدي وانوجور بن الأخشيد وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقه ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاثمائة فوجه كافور خلفه عدة رواحل فلم يلحق وقصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي فأجزل صلته ولما رجع من عنده عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه فقاتله فقتل المتنبي وابنه محسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد ويقال أنه قال شيئا في عضد الدولة فدس عليه من قتله لأنه لما وفد عليه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مسرجة محلاة وثياب مفتخرة ثم دس عليه من سأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة فقال هذا اجزل إلا أنه عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعا فغضب عضد الدولة فلما انصرف جهز عليه قوما من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالا
____________________
(1/28)
شديدا ثم انهزم فقال له غلامه أين قولك
( الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والطعن والضرب والقرطاس والقلم ) (1)
فقال قتلتني قتلك الله ثم قاتل فقتل
ويقال إن الخفراء جاءوه وطلبوا منه خمسين درهما ليسيروا معه فمنعه الشح والكبر فتقدموه فوقع له ما وقع
وكان قتله يوم الأربعاء لست بقين وقيل لثلاث بقين وقيل لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة
ومولده كان في سنة ثلاث وثلثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة وليس هو من كندة التي هي قبيلة بل هو جعفي
وقيل إن أباه كان سقاء بالكوفة وكان يلقب بعبدان ثم انتقل إلى الشام بولده وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجوه فقال
( أي فضل لشاعر يطلب الفضل ** من الناس بكرة وعشيا )
( عاش حينا يبيع في الكوفة الماء ** وحينا يبيع ماء المحيا ) + الخفيف +
ولقد أولع بعض شعراء عصره بهجوه حسدا له على فضله وتمكنه من الملوك ومراعاة لتيهه وتكبره وممن أفحش في ذلك ابن حجاج فقال جاريا على عادته في السخف والمجون
( يا ديمة الصفع صبي ** على قفا المتنبي )
( ويا قفاه تقدم ** حتى تصير بجنبي )
( وأنت يا ريح بطني ** على سباليه هبي ) + المجتث +
ويقول فيها
( إن كنت أنت نبيا ** فالقرد لا شك ربي )
وقال فيه أيضا من قصيدة
____________________
1- البسيط
(1/29)
( قل لي وطر طورك هذا الذي ** في غاية الحسن شوابيره )
( ما ضره إذ جاء فصل الشتا ** لو أن شعر استي سموره ) (1)
ولقد كان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها ولا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل إن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوما كم لنا من الجموع على وزن فعلى فقال المتنبي في الحال حجلى وظربى قال الشيخ أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال علي أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة
وقال أبو الفتح بن جني قرأت ديوان المتنبي عليه فلما بلغت إلى قوله في كافور الأخشيدي
( ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ** فلا أشتكي فيها ولا أتعتب )
( وبي ما يذود الشعر عني أقله ** ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب ) + الطويل +
قلت له يعز على كون هذا الشعر في غير سيف الدولة فقال حذرناه وأنذرناه فما نفع ألست القائل فيه
( أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك ** ولا تعطين الناس ما أنا قائله ) + الطويل +
فهو الذي أعطاني كافورا بسوء تدبيره وقلة تمييزه
والناس في شعره على طبقات فمنهم من يرجحه على أبي تمام ومن بعده ومنهم من يرجح أبا تمام عليه ورزق في شعره السعادة واعتنى العلماء بديوانه
____________________
1- السريع
(1/30)
فشرحوه حتى قيل أنه وجد له ما يزيد على أربعين شرحا
ومن شعره مما ليس في ديوانه بل رواه الشيخ تاج الدين الكندي بسند صحيح متصل بيتان وهما
( أبعين مفتقر إليك نظرتني ** فأهنتني وقذفتني من حالق )
( لست الملوم أنا الملوم لأنني ** أنزلت آمالي بغير الخالق ) (1)
ولما قتل رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله
( لا رعى الله سرب هذا الزمان ** إذ دهانا في مثل ذاك اللسان )
( ما رأى الناس ثاني المتنبي ** أي ثان يرى لبكر الزمان )
( كان من نفسه الكبيرة في جيش ** وفي كبرياء ذي سلطان )
( هو في شعره نبي ولكن ** ظهرت معجزاته في المعاني ) + الخفيف +
ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وإشبيلية أنشد يوما في مجلسه بيت المتنبي الذي هو من جملة قصيدته المشهورة وهو
( إذا ظفرت منك العيون بنظرة ** أثاب بها معيي المطي ورارمه ) + الطويل +
وجعل يردده استحسانا له وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالا
( لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ** تجيد العطايا واللها تفتح اللها )
____________________
1- الكامل
(1/31)
( تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ** بأنك تروي شعره لتألها ) (1)
وهذا مثل قديم قاله أبو سعيد القصار في جعفر بن يحيى
( لابن يحيى مآثر ** بلغت بي إلى السها )
( جاد شعري بجوده ** واللها تفتح اللها ) + من مجزوء الخفيف +
واللها بالضم العطايا وبالفتح جمع لهاة الحلق
ورثاه أيضا محمد بن عبد الله الكاتب النصيبي بقصيدة يستجيش فيها عضد الدولة على مدحضي قدمه ومريقي دمه فمنها
( قرت عيون الأعادي يوم مصرعه ** وطالما سخنت فيه من الحسد ) + البسيط +
ومنها
( أبا شجاع فتى الهيجا وفارسها ** ومشتري الشكر بالإنفاق والصفد )
( هذي بنو أسد جاءت بمؤيدة ** صماء نائحة هدت ذرى أحد )
( سطت على المتنبي من فوارسها ** سبعون جاءته في موج من الزرد )
( حتى أتت وهو في أمن وفي دعة ** يسير في ستة إن تحص لم تزد )
( كرت عليه سراعا غير وانية ** فغادرته قرين الترب والثأد )
( من بعد ما أعملت فيهم أسنته
طعنا يفرق بين الروح والجسد )
( فاطلب بثأر فتى ما زلت تعضده ** لله درك من كهف ومن عضد )
____________________
1- الطويل
(1/32)
( أزك العيون عليهم أية سلكوا ** وضيق الأرض والأقطار بالرصد )
( شردهم بجيوش لا قوام لها ** تأتي على سبد الأقوام واللبد ) (1)
ورثاه أيضا ثابت بن هارون الرقي النصراني بقصيدة يستشير فيها عضد الدولة على فاتك وبني أسد يقول في أولها
( الدهر أنكى والليالي أنكد ** من أن تعيش لأهلها يا أحمد )
( قصدتك لما أن رأتك نفيسها ** بخلا بمثلك والنفائس تقصد )
( ذقت الكريهة بغتة وفقدتها ** وكريه فقدك في الورى لا يفقد )
( قل لي إن اسطعت الجواب فإنني ** صب الفؤاد إلى خطابك مكمد ) + الكامل +
ومنها
( أتركت بعدك شاعرا والله لا ** لم يبق بعدك في الزمان مقصد )
( أما العلوم فإنها يا ربها ** تبكي عليك بأدمع لا تجمد )
( يا أيها الملك المؤيد دعوة ** ممن حشاه بالأسى يتوقد )
( هذي بنو أسد بضيفك أوقعت ** وحوت عطاءك إذ حواه الفرقد )
( وله عليك بقصده يا ذا العلا ** حق التحرم والذمام الأوكد )
( فارع الذمام وكن لضيفك طالبا ** إن الذمام على الكريم مؤبد ) وأخبار المتنبي وما جرى له كثيرة وسيأتي طرف منها ومن شعره في أثناء هذا الكتاب
____________________
1- البسيط
(1/33)
5
( وقبر حرب بمكان قفر ** وليس قرب قبر حرب قبر )
البيت من الرجز ولا يعرف قائله ويقال أنه من شعر الجن قالوه في حرب بن أمية بن عبد شمس لما قتلوه بثأر حية منهم قتلها القفل الذي كان فيه ودفن ببادية بعيدة وكان حرب المذكور مصافيا لمرداس السلمي أبي العباس الصحابي فقتلهما الجن جميعا وهذا شيء قد ذكرته الرواة في أخبارها والعرب في أشعارها
ذكر أبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخواته مر بالقرية وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام فقال له مرداس بن أبي عامر أما ترى هذا الموضع قال بلى فما له قال نعم المزدرع هو فهل لك أن تكون شريكي فيه ونحرق هذه الغيضة ثم نزرعه بعد ذلك قال نعم فأضرما النار في الغيضة فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كثير ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها فقال مرداس في ذلك
( إني انتخبت لها حربا وإخوته ** إني بحبل وثيق العهد دساس )
( إني أقوم قبل الأمر حجته ** كيما يقال ولي الأمر مرداس ) (1)
قال فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة
( ويل لحرب فارسا ** مطاعنا مخالسا )
( ويل لحرب فارسا ** إذ لبسوا القوانسا )
( لنقتلن بقتله ** جحاجحا عنابسا ) + من مجزوء الرجز +
ولم يلبث حرب ابن أمية ومرداس أن ماتا فأما مرداس فدفن بالقرية ثم أدعاها بعد ذلك كليب بن عمرو السلمي ثم الظفري فقال في ذلك عباس بن مرداس
____________________
1- البسيط
(1/34)
( أكليب مالك كل يوم ظالما ** والظلم أنكد وجهه ملعون )
( عجبا لقومك يحسبونك سيدا ** وإخال أنك سيد مغيون )
( فإذا رجعت إلى نسائك فادهن ** إن المسالم رأسه مدهون )
( وافعل بقومك ما أراد بوائل ** يوم الغدير سميك المطعون )
( وإخال انك سوف تلقى مثلها ** في جانبيك سنانها المسنون )
( إن القرية قد تبين أمرها ** إن كان ينفع عندك التبيين )
( حين انطلقت تخطها ظالما ** وأبو يزيد بجوها مدفون ) (1)
وقد روى البيت بلفظ
( وما بقرب قبر حرب قبر ** )
ويقال أنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات متواليات فلا يتتعتع
وقرب وقع خبرا لليس وكان من حقه أن يقول قرب قبره فأتى بالظاهر موضع المضمر ليدل على لزوم التوجع
والشاهد فيه التنافر لما في هذه الألفاظ من ثقل النطق بها ولذلك هرب أرباب الفصاحة من اللفظين المتقاربين إلى الإدغام لانتقال اللسان فيه إليهما انتقالة واحدة وشبهوا النطق بالمتقاربين بمشي المقيد
6
( كريم متى أمدحه امدحه والورى ** )
قائله أبو تمام الطائي وتمامه
( معي وإذا ما لمته لمته وحدي ** )
____________________
1- الكامل
(1/35)
وهو من قصيدة من الطويل يمدح بها أبا الغيث موسى بن إبراهيم ويعتذر إليه وأولها
( شهدت لقد أقوت معالمكم بعدي ** ومحت كما محت وشائع من برد )
( وأنجدتم من بعد إتهام داركم ** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد )
( لعمري لقد أخلقتم جدة البكا ** بكاء وجددتم علي بلى الوجد ) إلى أن قال في مديحها
( أتاني مع الركبان ظن ظننته ** نكست له رأسي حياء من المجد )
( لقد نكب الغدر الوفاء بساحتى ** إذا وسرحت الذم في مسرح الحمد )
( وهتكت بالقول الخنا حرمة العلا ** وأسلكت حر الشعر في مسلك البعد )
( نسيت إذا كم من يد لك شاكلت ** يد القرب أعدت مستهاما على البعد )
( ومن زمن ألبستنيه كأنه ** إذا ذكرت أيامه زمن الورد )
( وإنك أحكمت الذي بين فكرتي ** وبين القوافي من ذمام ومن عهد )
( وأصلت شعري فاعتلى رونق الضحى ** ولولاك لم يظهر زمانا من الغمد )
( وكيف وما أخللت بعدك بالحجا ** وأنت فلم تخلل بمكرمة بعدي )
( أسربل هجر القول من لو هجوته ** إذا لهجاني عنه معروفه عندي )
____________________
(1/36)
وبعده البيت وبعده
( ولو لم يزعني عنك غيرك وازع ** لأعديتني بالحلم إن العلا تعدي )
ومعنى البيت هو كريم إذا مدحته وافقني الناس على مدحه فيمدحونه لإسداء إحسانه إليهم كإشسدائه إلى ولا أمدحه بشيء إلا صدقني الناس فيه أو أن الناس وافقوني على وجود ما يوجب المدح للإنسان من صفات الكمال فيه وإذا لمته لا يوافقني أحد على لومه لعدم وجود المقتضى له فيه
وفي معناه قول الآخر
( وإذا شكوتك لم أجد لي مسعدا ** ورميت فيما قلت بالبهتان ) (1)
وقد ناقض هذا المعنى ابن أبي طاهر بقوله
( يشركني العالم في ذمه ** لكنني أمدحه وحدي ) + السريع +
وطاهر العتابي المعروف بالمعتمد البغدادي بقوله
( مدحتهم وحدي فلما هجوتهم ** هجوتهم والناس كلهم معي ) + الطويل +
والشاهد فيه التنافر أيضا لما في قوله أمدحه من الثقل لقرب مخرج الحاء من مخرج الهاء لان المخارج كلما قربت كانت الألفاظ مكدودة قلقة غير مستقرة في أماكنها وإذا بعدت كانت بعكس الأول ولهذا لم يوجد في كلام العرب العين مع الغين ولا مع الحاء ولا مع الخاء ولا الطاء مع التاء حذرا مما مر وأيضا فيه ثقل من جهة التكرار في امدحه ولمته
ومن قبيح التكرار قول الشاعر
( وازور من كان له زائرا ** وعاف عافي العرف عرفانه ) + السريع +
____________________
1- الكامل
(1/37)
وأبو تمام اسمه حبيب بن أوس بن الحرث بن قيس بن الأشج بن يحيى ابن مروان ينتهي إلى طيء قال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي والذي عند اكثر الناس في نسب أبي تمام أن أباه كان نصرانيا من أهل جاسم قرية من قرى الجيدور من أعمال دمشق يقال له تدوس العطار فجعلوه أوسا وولد أبو تمام بالقرية المذكورة سنة تسعين وقيل سنة ثمان وثمانين ومائة وقيل سنة اثنتين وسبعين ونشأ بمصر وقيل إنه كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر وقيل كان يخدم حائكا ويعمل عنده ثم اشتغل وتنقل إلى أن صار واحد عصره في ديباجة لفظه وفصاحة شعره وحسن أسلوبه وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره حتى قيل إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد وله كتاب الحماسة الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته وحسن اختياره وله مجموع آخر سماه فحول الشعراء جمع فيه طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين وله كتاب الاختيارات من شعر الشعراء ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم
وكان في لسانه حبسة وفي ذلك يقول ابن المعذل أو أبو العميثل
____________________
(1/38)
( يا نبي الله في الشعر ويا عيسى ابن مريم ** )
( أنت من أشعر خلق الله ما لم تتكلم ** ) (1)
وهذا نوع من البديع يسمى الهجاء في معرض المدح ومن مليح ما جاء فيه قول ابن سناء الملك في قواد
( لي صاحب أفديه من صاحب ** حلو التأتي حسن الاحتيال )
( لو شاء من رقة ألفاظه ** ألف ما بين الهدى والضلال )
( يكفيك منه أنه ربما ** قاد إلى المهجور طيف الخيال ) + السريع +
ومنه قول ابن أبي الإصبع يهجو فقيها ذا ابنة
( ابن فلان أكرم الناس لا ** يمنع ذا الحاجة من فلسه )
( وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ** نص على التقليد في درسه )
( يستحسن البحث على وجهه ** ويوجب الفعل على نفسه ) + السريع +
ووفد أبو تمام إلى البصرة وبها عبد الصمد بن المعذل الشاعر فلما سمع بوصوله وكان في جماعة من أتباعه وغلمانه خاف من قدومه أن يميل الناس إليه ويعرضوا عنه فكتب إليه قبل دخوله البلد
( أنت بين اثنتين تبرز للناس ** وتلقاهم بوجه مذال )
( لست تنفك راجيا لوصال ** من حبيب أو راغبا في نوال )
( أي ماء يبقى لوجهك هذا ** بعد ذل الهوى وذل السؤال ) + الخفيف +
فلما وقف على الأبيات أعرض عن مقصده ورجع وقال قد شغل هذا ما يليه فلا حاجة لنا فيه
وقد تبعه الأمير مجير الدين بن تميم بقوله
____________________
1- من مجزوء الرمل
(1/39)
( أنت بين اثنتين يا نجل يعقوب ** وكلتاهما مقر السيادة )
( لست تنفك راكبا أير عبد ** مسبطرا أو حاملا خف غادة )
( أي ماء لحر وجهك يبقى ** بين ذل البغا وذل القيادة ) (1)
ولما أنشد أبو تمام أبا دلف العجلي قصيدته البائية التي أولها
( على مثلها من أربع وملاعب ** أذيلت مصونات الدموع السواكب ) + الطويل +
استحسنها وأعطاه خمسين ألف درهم وقال والله أنها لدون شعرك ثم قال والله ما مثل هذا القول في الحسن إلا ما رثيت به محمد بن حميد الطوسي فقال أبو تمام وأي ذلك أراد الأمير قال قصيدتك الرائية التي أولها
( كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ** وليس لعين لم يفض ماؤها عذر ) + الطويل +
وددت والله أنها لك في فقال بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي وأكون المقدم قبله فقال إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر
وحدث الرياشي قال كان خالد الكاتب مغرما بالغلمان المرد ينفق عليهم كل ما يفيد فهوى غلاما يقال له عبد الله وكان أبو تمام الطائي يهواه أيضا فقال فيه خالد
( قضيب بان جناه ورد ** يحمله وجنة وخد )
( أثن طرفي إليه إلا ** مات عزاء وعاش وجد )
( ملك طوع النفوس حتى ** علمه الزهو حين يبدو )
( فاجتمع الصد فيه حتى ** ليس لخلق سواه صد ) + من مخلع البسيط +
وبلغ أبا تمام ذلك فقال فيه أبياتا منها قوله
____________________
1- الخفيف
(1/40)
( شعرك هذا كله مفرط ** في برده يا خالد البارد ) (1)
فعلقها الصبيان ولم يزالوا يصيحون به يا خالد يا بارد حتى وسوس وقد هجا أبا تمام في هذه القصة فقال فيه
( يا معشر المرد إني ناصح لكم ** والمرء في القول بين الصدق والكذب )
( لا ينكحن حبيبا منكم أحد ** فداء وجعائه أعدى من الجرب )
( لا تأمنوا أن تحولوا بعد ثالثة ** فتركبوا عمدا ليست من الخشب ) + البسيط +
ولما قصد أبو تمام عبد الله بن طاهر بخراسان وامتدحه بالقصيدة التي أولها
( أهن عوادي يوسف وصواحبه ** ) + الطويل +
أنكر عليه أبو العميثل وقال له لم لا تقول ما يفهم فقال له لم لا تفهم ما يقال فاستحسن منه هذا الجواب على البديهة
وذكر الصولي أنه امتدح أحمد بن المعتصم أو ابن المأمون بقصيدة سينية فلما انتهى إلى قوله فيها
( إقدام عمر وفي سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس ) + الكامل +
قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضرا الأمير فوق ما وصفت فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وأنشد
( لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلا شرودا في الندى والباس )
( فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس )
فعجبوا من سرعة فطنته
وما ذكر من أنه أنشد القصيدة للخليفة وأن الوزير قال أي شيء طلبه فأعطه فإنه لا يعيش اكثر من أربعين يوما لأنه قد ظهر في عينيه الدم من
____________________
1- السريع
(1/41)
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 * رأى أسد العرين فهاله ** حتى إذا ولى تولى ينهق )
____________________
(1/42)
( هيهات غالك أن تنال مآثري ** إست بها سعة وباع ضيق )
( قل ما بدا لك يا ابن برما فالصدى ** بمهذب العقيان لا يتعلق )
( أنعشت حتى عبتهم قل لي متى ** فرزنت سرعة ما أرى يا بيدق )
( إياك يعني القائلون بقولهم ** إن الشقي بكل حبل يخنق )
( فلتعلمن حريم من وإهاب من ** وقديم من وحديث من يتمزق ) (1)
وقوله من قصيدة أخرى
( أعوام وصل كاد ينسى طيبها ** ذكر النوى فكأنها أيام )
( ثم انبرت أيام هجر أردفت ** نحوي أسى فكأنها أعوام )
( ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم احلام ) (1)
وقد اختصر معنى هذه الأبيات المتنبي في قوله
( قصرت مدة الليالي المواضي ** فأطالت بها الليالي البواقي ) + الخفيف +
ولابن الفارض رحمه الله هذا المعنى بعينه مع الاختصار المعجز وهو
( أعوام إقباله كاليوم في قصر ** ويوم إعراضه في الطول كالحجج ) + البسيط +
وديوان نظمه مشهور وقد نثرت من لآلئه في أثناء هذا المؤلف ما فيه غنى إن شاء الله تعالى
7
( وما مثله في الناس إلا مملكا ** أبو أمه حي أبوه يقاربه ) البيت للفرزدق من قصيدة من الطويل يمدح بها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان
والشاهد فيه التعقيد وهو أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد
____________________
1- الكامل
(1/43)
إما لخلل في نظم الكلام فلا يتوصل منه إلى معناه أو لانتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا والأول هو الشاهد في البيت
والمعنى فيه وما مثله يعني الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للمملك وفي أبوه للممدوح ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بأجنبي وهو حي وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعته بأجنبي وهو أبوه وقدم المستثنى على المستثنى منه فهو كما تراه في غاية التعقيد وكان من حق الناظم أن يقول وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه
ومن التعقيد قول الفرزدق أيضا
( إلى ملك ما أمه من محارب ** أبوه ولا كانت كليب تصاهره ) (1)
أي إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي ما أمه منهم
ومثله قول الشاعر
( فما من فتى كنا من الناس واحدا ** به نبتغي منهم عديلا نبادله ) (1)
أي فما من فتى من الناس كنا نبتغي واحدا منهم عديلا نبادله به
وقول الآخر
( وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلما ** من الناس دينا جاءه وهو مسلم ) (1)
أي وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلما من الناس دينا جاءه وهو أي جاآه معا
____________________
1- الطويل
(1/44)
ومثله قول أبي تمام
( كاثنين في كبد السماء ولم يكن ** كاثنين ثان إذ هما في الغار ) (1)
والفرزدق رحمه الله اسمه همام بن غالب بن صعصعة التميمي أبو فراس صاحب جرير وكان أبوه غالب من جلة قومه ومن سراتهم وكنيته أبو الأخطل لولد كان له اسمه الأخطل وهو شاعر أيضا ووهم بعضهم فيه فظنه الأخطل التغلبي النصراني وجعله أخا للفرزدق وهذا من أعجب العجب إذ الفرزدق مسلم وأبوه وجده صعصعه صحابي رضي الله تعالى عنه فكيف يتصور أن يكون الأخطل النصراني أخا له وصعصعة رضي الله عنه له صحبة لكنه لم يهاجر وهو الذي أحيا الوئيدة وبه افتخر الفرزدق في قوله
( وجدى الذي منع الوائدات ** فأحيا الوئيد فلم توأد ) + المتقارب +
قيل إنه رضي الله عنه أحيا ألف موءودة وحمل على ألف فرس
وأم الفرزدق ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس رضي الله عنه
روى الفرزدق رحمه الله عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة والحسين
____________________
1- الكامل
(1/45)
وابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم أجمعين
ووفد على الوليد وسليمان ابني عبد الملك ومدحهما قال ابن النجار ولم أر له وفادة على عبد الملك بن مروان وقال الكلبي رضي الله عنه وفد على معاوية ولم يصح روى معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجليه قيد قلت ما هذا يا أبا فراس قال حلفت أن لا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن وكان كثير التعظيم لقبر أبيه فما جاءه أحد واستجار به إلا قام معه وساعده على بلوغ عرضه
وقد اختلفت أهل المعرفة بالشعر فيه وفي جرير في المفاضلة بينهما والأكثرون على أن جريرا أشعر منه وقد أنصف الأصفهاني فقال أما من كان يميل إلى جودة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين والى الكلام السمح الغزل فيقدم جريرا
وكان جرير قد هجا الفرزدق بقصيدة منها
( وكنت إذا نزلت بدار قوم ** رحلت بخزية وتركت عارا ) (1)
فاتفق أن الفرزدق بعد ذلك نزل بامرأة من أهل المدينة وجرى له معها قصة يطول شرحها وملخص الأمر أنه راودها عن نفسها بعد أن كانت أضافته وأحسنت إليه فامتنعت عليه وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يومئذ والى المدينة المنورة فأمر بإخراجه منها فأركب على ناقة لينفي فقال قاتل الله ابن المراغة يعني جريرا كأنه شاهد هذا الحال حين قال وذكر البيت السابق
ومن شعره لما كان في المدينة المنورة
( هما دلتاني من ثمانين قامة ** كما انقض باز أقتم الريش كاسره )
( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ** أحي يرجى أم قتيل نحاذره )
( فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ** وأقبلت في أعجاز ليل أبادره )
____________________
1- الوافر
(1/46)
( أحاذر بوابين قد وكلا بنا ** وأسود من ساج تصر مسامره ) (1)
فقال جرير لما بلغه ذلك
( لقد ولدت أم الفرزدق فاجرا ** فجاءت بوزواز قصير القوادم )
( يوصل حبليه إذا جن ليلة ** ليرقى إلى جاراته بالسلالم )
( تدليت تزنى من ثمانين قامة ** وقصرت عن باع العلا والمكارم )
( هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ** مداخل رجس بالخبيثات عالم )
( لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ** طهورا لما بين المصلى وواقم ) (1)
فأجاب الفرزدق عنها بقصيدة طويلة منها
( وإن حراما أن أسب مقاعسا ** بآبائى الشم الكرام الخضارم )
( ولكن نصفا لو سببت وسبنى ** بنو عبد شمس من مناف وهاشم )
( أولئك آبائى فجئنى بمثلهم ** وأعتد أن أهجو كليبا بدارم ) (1)
ولما سمع أهل المدينة أبيات الفرزدق الأول جاؤا إلى مروان بن الحكم وهو والى المدينة من قبل معاوية فقالوا ما يصلح هذا الشعر بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجب على نفسه الحد فقال مروان لست أحده ولكن أكتب إلى من يجده وأمره بأن يخرج من المدينة وأجله ثلاثة أيام لذلك فقال الفرزدق
( توعدني وأجلني ثلاثا ** كما وعدت لمهلكها ثمود ) + الوافر +
____________________
1- الطويل
(1/47)
ثم كتب مروان إلى عامله كتابا يأمره أن يحده ويسجنه وأوهمه أنه كتب له بجائزة ثم ندم مروان على ما فعل فوجه سفيرا وقال للفرزدق إني قد قلت شعرا فاسمعه
( قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس )
( ودع المدينة إنها مرهوبة ** واقصد لمكة أو لبيت المقدس )
( وإن اجتنبت من الأمور عظيمة ** فخذن لنفسك بالعظيم الأكيس ) (1)
فلما وقف الفرزدق عليها فطن لما أراد مروان فرمى الصحيفة وقال
( يا مرو إن مطيتي محبوسة ** ترجو الحباء وربها لم ييأس )
( وحبوتني بصحيفة مختومة ** يخشى علي بها حباء النقرس )
( ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن ** نكداء مثل صحيفة المتلمس )
وأتى سعيد بن العاص الأموي وعنده الحسن والحسين وعبد الله تعالى بن جعفر رضي الله عنهم فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحد بمائة دينار وراحلة وتوجه إلى البصرة فقيل لمروان أخطأت فيما فعلت فإنك عرضت عرضك
____________________
1- الكامل
(1/48)
لشاعر مضر فوجه إليه رسولا ومعه مائة دينار وأرحله خوفا من هجائه
ونزل يوما في بني منقر والحي خلوف فجاءت أفعى فدخلت مع جارية فراشها فصاحت فاحتال الفرزدق فيها حتى انسابت ثم ضم الجارية إليه فزبرته ونحته عنها فقال
( وأهون عيب المنقرية أنها ** شديد ببطن الحنظلي لصوقها )
( رأت منقرا سودا قصارا وأبصرت ** فتى دارميا كالهلال يروقها )
( وما أنا هجت المنقرية للصبا ** ولكنها استعصت علي عروقها ) (1)
فما هجاها استعدت عليه زيادا فهرب إلى مكة المشرفة فأظهر زياد أنه لو أتاه لحباه فقال الفرزدق
( دعاني زياد للعطاء ولم أكن ** لأقربه ما ساق ذو حسب وقرا )
( وعند زياد لو يريد عطاءهم ** رجال كثير قد يرى بهم فقرا )
( وإني لأخشى أن يكون عطاؤه ** إذا هم سودا أو محدرجة سمرا ) (1)
قال ابن قتيبة سودا يعني السياط والمحدرجة القيود وهذه الجارية يقال لها ظمياء وهي عمة اللعين الشاعر المنقري
ودخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت إلى الفرزدق ويقول دعوني أنكحه فلا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس فجعل يستغيث ويقول لا يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب علي أنه قد كان منه إلي الذي يقول فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه
وركب يوما بغلته ومر بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة ضراطا فضحكن منه فالتفت إليهن وقال لا تضحكن فما حملتني أنثى إلا ضرطت فقال إحداهن ما حملك أكثر من أمك فأراها قد قاست منك ضراطا عظيما فحرك بغلته وهرب
____________________
1- الطويل
(1/49)
ويقال إنه مر وهو سكران على كلاب مجتمعة فسلم عليهم فلما لم يسمع الجواب أنشأ يقول
( فما رد السلام شيوخ قوم ** مررت بهم على سكك البريد )
( ولا سيما الذي كانت عليه ** قطيفة أرجوان في القعود ) (1)
وقال ما أعياني جواب قط إلا جواب دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال إن هجوتني تخرب ضيعتي قلت لا قال فتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك فقلت ويحك لم تركت رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع يا ابن الزانية
وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يقطع فيه يعني بذلك سرقة الشعر
وقال قد علم الناس أني أفحل الشعراء وربما أتت علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت
ومن جيد شعره قوله
( قالت وكيف يميل مثلك للصبا ** وعليك من سمة الحليم وقار )
( والشيب ينهض في الشباب كأنه ** ليل يصيح بجانبيه نهار ) + الكامل +
وقيل للعين المنقري اقض بين جرير والفرزدق فقال
( سأقضي بين كلب بني كليب ** وبين القين قين بني عقال )
( فإن الكلب مطعمه خبيث ** وإن القين يعمل في سفال )
( فما بقيا علي تركتماني ** ولكن خفتما صرد النبال ) (1)
وقال أبو عمرو بن العلاء حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه فما رأيت أحسن ثقة منه بالله تعالى
توفي سنة عشر ومائة وقيل سنة اثنتي عشرة وقيل سنة أربع عشرة ورثاه جرير بأبيات منها قوله
____________________
1- الوافر
(1/50)
( فلا ولدت بعد الفرزدق حامل ** ولا ذات بعل من نفاس تعلت )
( هو الوافد الميمون والراتق الثأي ** إذا النعل يوما بالعشيرة زلت ) (1)
ورثاه أيضا بغير ذلك
وقال ابنه لبطة : رأيت أبي في المنام فقلت ما فعل الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعت فيها الحسن عند القبر وذلك أن الحسن البصري لما وقف على قبر النوار زوجة الفرزدق والفرزدق واقف معه والناس ينظرون فقال الحسن ما للناس فقال الفرزدق ينظرون خير الناس وشر الناس فقال إني لست بخيرهم ولست بشرهم ولكن ما أعددت لهذا المضطجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة
ورؤى في النوم فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبتك بالنار
وقصته في تزوجه بالنوار ابنه عمه شهيرة ورزق منها أولادا وهم لبطه وسبطة وكلطة وليس لواحد منهم عقب 8
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا ) (1) البيت للعباس بن الأحنف من أبيات من الطويل
والشاهد فيه السبب الثاني الحاصل به التعقيد وهو الانتقال فإن معنى البيت أطلب وأريد البعد عنكم أيها الأحبة لتقربوا إذ من عادة الزمان الإتيان بضد المراد فإذا أريد البعد يأتي الزمان بالقرب وأريد وأطلب الحزن الذي هو لازم البكاء ليحصل السرور بما هو من عادة الزمان فأراد
____________________
1- الطويل
(1/51)
أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود هو خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر وأخطأ في مراده إذ الجمود هو خلو العين من البكاء حالة إرادة البكاء منها كقول أبي عطاء يرثي ابن هبيرة
( ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ** عليك بجاري دمعها لجمود ) (1)
وقول كثير عزة
( ولم أدر أن العين قبل فراقها ** غداة الشبا من لاعج الوجد تجمد ) (1) فلا يكون الجمود كناية عن السرور بل عن البخل فيكون الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع لا إلى ما قصده من السرور ولو كان في الجمود صلاحية لأن يراد به عدم البكاء حال المسرة لجاز أن يقال في الدعاء لا زالت عينك جامدة كما يقال لا أبكى الله عينك وهذا غير مشكوك في بطلانه وعليه قول أهل اللغة سنة جماد أي لا مطر فيها وناقة جماد أي لا لبن فيها
وقد فسر المبرد في الكامل هذا البيت بغير هذا فقال هذا رجل فقير يبعد عن أهل ويسافر ليحصل ما يوجب لهم القرب وتسكب عيناه الدموع في بعده عنهم لتجمدا عند وصوله إليهم وأنشد
( تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ** ولم تدر أني للمقام أطوف ) (1)
ومنه قول الربيع بن خيثم وقد صلى طول ليلته حتى أصبح وقال له رجل أتعبت نفسك فقال راحتها أطلب ومثله قول روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب ونظر إليه رجل واقفا بباب المنصور في الشمس فقال له الرجل قد طال وقوفك في الشمس فقال روح ليطول قعودي في الظل
وقال الزجاج في أماليه أخبرنا أبو الحسن الأخفش قال كنت يوما يحضرة
____________________
1- الطويل
(1/52)
ثعلب فأسرعت القيام قبل انقضاء المجلس فقال لي إلى أين ما أراك تصبر عن مجلس الخلدي يعني المبرد فقلت له لي حاجة فقال لي أني أراه يقدم البحتري على أبي تمام فإذا أتيته فقل له ما معنى قول أبي تمام
( أآلفه النحيب كم افتراق ** أظل فكان داعية اجتماع ) (1)
قال أبو الحسن فلما صرت إلى أبي العباس المبرد سألته عنه فقال معنى هذا أن المتحابين والمتعاشقين قد يتصارمان ويتهاجران دلالا لا عزما على القطيعة فإذا حان الرحيل وأحسا بالفراق تراجعا إلى الوداد وتلاقيا خوف الفراق وأن يطول العهد بالالتقاء بعده فيكون الفراق حينئذ سببا للاجتماع كما قال الآخر
( متعا بالفراق يوم الفراق ** مستجيرين بالبكا والعناق )
( وأظل الفراق فالتقيا فيه ** فراق أتاهما باتفاق )
( كيف أدعو على الفراق بحتف ** وغداة الفراق كان التلاقي ) + الخفيف +
قال فلما عدت إلى مجلس ثعلب سألني عنه فأعدت عليه الجواب والأبيات فقال ما أشد تمويهه ما صنع شيئا إنما معنى البيت أن الإنسان قد يفارق محبوبه رجاء أن يغنم في سفره فيعود إلى محبوبه مستغنيا عن التصرف فيطول اجتماعه معه ألا تراه يقول في البيت الثاني
( وليست فرحة الأوبات إلا ** لموقوف على ترح الوداع )
وهذا نظير قول الآخر بل منه أخذ أبو تمام
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا )
هذا ذاك بعينه
وذكرت بما تقدم آنفا من أن عادة الزمان الإتيان بضد المراد أي وإن كان على وفق الإرادة الإلهية قول الباخرزي
( ولطالما اخترت الفراق مغالطا ** واحتلت في اسثمار غرس ودادى )
____________________
1- الوافر
(1/53)
( ورغبت عن ذكر الوصال لأنها ** تبنى الأمور على خلاف مرادي ) (1)
والعباس بن الأحنف هو خال إبراهيم بن العباس الصولى وهو حنفي يمامي وكان رقيق الحاشية لطيف الطباع وله مع الرشيد أخبار قال بشار ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها حتى قال
( أبكى الذين أذاقوني مودتهم ** حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا )
( واستنهضوني فلما قمت منتصبا ** بثقل ما حملوني منهم قعدوا )
( لأخرجن من الدنيا وحبهم ** بين الجوانح لم يشعر به أحد ) + البسيط +
وكان في العباس آلات الظرف كان جميل المنظر نظيف الثوب فاره المركب حسن الألفاظ كثير النوادر شديد الاحتمال طويل المساعدة
طلبه يحيى بن خالد البرمكي يوما فقال إن مارية هي الغالبة على أمير المؤمنين وإنه جرى بينهما عتب فهي بعزة دالة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك والبيت يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تستفزه الصبابة فقل شعرا تسهل به عليه هذه القضية وأعطاه دواة وقرطاسا فطلبه الرشيد فتوجه إليه ونظم العباس قوله
( العاشقان كلاهما متغضب ** وكلاهما متوجد متجنب )
____________________
1- الكامل
(1/54)
( صدت مغاضبة وصد مغاضبا ** وكلاهما مما يعالج متعب )
( راجع أحبتك الذين هجرتهم ** إن المتيم قلما يتجنب )
( إن التجنب إن تطاول منكما ** دب السلوله فعز المطلب ) (1)
ثم قال لأحد الرسل أبلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع وجهت بها إليه فعاد الرسول وقال هاتها ففي أقل منها مقنع فكتب الأبيات وكتب تحتها أيضا
( لا بد للعاشق من وقفة ** تكون بين الوصل والصرم )
( حتى إذا الهجر تمادى به ** راجع من يهوى على رغم ) + السريع +
فدفع يحيى الرقعة إلى الرشيد فقال والله ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا الشعر والله لكأني قصدت بهذا فقال والله يا أمير المؤمنين وأنت المقصود به فقال الرشيد يا غلام هات نعلي فأنني والله أراجعها على رغم فنهض وأذهله السرور أن يأمر للعباس بشيء ثم إن مارية لما علمت بمجيء الرشيد إليها تلقته وقالت كيف ذلك يا أمير المؤمنين فأعطاها الشعر وقال هذا الذي جاء بي إليك قالت فمن قاله قال العباس بن الأحنف قالت فبم كوفئ قال ما فعلت بعد شيئا فقالت والله لا أجلس حتى يكافأ فأمر له بمال كثير وأمرت هي له بدون ذلك وأمر له يحيى بدون ما أمرت به وحمل على برذون ثم قال له الوزير من تمام النعمة عندك أن لا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضيعة فاشترى له ضياعا بجملة من ذلك المال ودفع إليه بقيته
وحدث أبو بكر الصولي عن أبي زكريا البصري قال حدثني رجل من قريش قال خرجت حاجا مع رفقة لي فعرجنا عن الطريق لنصلى فجاءنا غلام
____________________
1- الكامل
(1/55)
فقال لنا هل فيكم أحد من أهل البصرة فقلنا كلنا من أهل البصرة فقال إن مولاي من أهلها ويدعوكم إليه فقمنا إليه فإذا هو نازل على عين ماء فجلسنا حوله فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا وأنشأ يقول
( يا بعيد الدار عن وطنه ** مفردا يبكي على شجنه )
( كلما جد الرحيل به ** زادت الأسقام في بدنه ) (1)
ثم أغمى عليه طويلا ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعالي شجرة كان تحتها وجعل يغرد ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ يقول
( ولقد زاد الفؤاد شجى ** طائر يبكي على فننه )
( شفه ما شفنى فبكى ** كلنا يبكي على سكنه )
ثم تنفس نفسا فاضت معه نفسه فلم نبرح عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه فقال هذا العباس بن الأحنف
وكانت وفاته سنة ثلاث وتسعين ومائة وقيل سنة اثنتين وما ذكر من أنه مات هو والكسائي وإبراهيم الموصلى وهشيمة الخمارة في يوم واحد وأن الرشيد أمر المأمون أن يصلى عليهم وأنه قدم العباس بن الأحنف رحمه الله لقوله
( وسعى بها قوم وقالوا إنها ** لهى التي تشقي بها وتكابد )
( فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ** إني ليعجبني المحب الجاحد ) + الكامل +
____________________
1- الرمل
(1/56)
ففيه نظر لأن الكسائى مات سنة تسع وثمانين ومائة على خلاف فيه وما كان المأمون ممن يقدم العباس على مثل الكسائي وأيضا فقد روى الصولى أنه رأى العباس بن الأحنف بعد موت الرشيد بمنزله بباب الشام والله أعلم أي ذلك كان
ومن شعره
( وحدثني يا سعد عنهم فزدني ** جنونا فودني من حديثك يا سعد )
( هواها هوى لم يعرف القلب غيره ** فليس له قبل وليس له بعد ) (1)
ومنه أيضا
( إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ** فلا خير في ود يكون بشافع )
( وأقسم ما تركى عتابك عن قلى ** ولكن لعلمي أنه غير نافع )
( وإني إن لم ألزم الصبر طائعا ** فلا بد منه مكرها غير طائع ) (1)
ومن رقيق شعره قوله من جملة قصيدة
( يا أيها الرجل المعذب نفسه ** أقصر فإن شفاءك الإقصار )
( نزف البكاء دموع عينك فاستعر ** عينا يعينك دمعها المدرار )
( من ذا يعيرك عينه تبكي بها ** أرأيت عينا للبكاء تعار ) + الكامل +
وشعره كله جيد وجميعه في الغزل لا يكاد يوجد فيه مديح رحمه الله تعالى
____________________
1- الطويل
(1/57)
9
( سبوح لها منها عليها شواهد ** )
قائله أبو الطيب المتنبي من قصيدة من الطويل يمدح بها سيف الدولة ابن حمدان أولها
( عواذل ذات الخال في حواسد ** وإن ضجيع الخود مني لماجد )
( يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ** ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد )
( متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشا ** محب لها في قربه متباعد )
( إذا كنت تخشى العار في كل خلوة ** فلم تتصباك الحسان الخرائد )
( ألح علي السقم حتى ألفته ** ومل طبيبي جانبي والعوائد )
( أهم بشيء والليالي كأنها ** تطاردني عن كونه وأطارد )
( وحيد من الخلان في كل بلدة ** إذا عظم المطلوب قل المساعد )
( وتسعدني في غمرة بعد غمرة ** سبوح لها منها عليها شواهد ) (1)
ومنها قوله في المديح
( خليلي إني لا أرى غير شاعر ** فكم منهم الدعوى ومني القصائد )
( فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ** ولكن سيف الدولة اليوم واحد )
وهي طويلة
والسبوح الفرس الحسن الجري يقال فرس سابح وسبوح وخيل سوابح
____________________
1- الطويل
(1/58)
لسبحها بيديها في مسيرها وسبوح اسم فرس لربيعة بن جشم وهو مرفوع على أنه فاعل تسعدني
والمعنى وتعينني على توارد الغمرات في الحروب فرس سبوح يشهد بكرمها خصال هي لها منها أدلة عليها
والشاهد فيه كثرة التكرار وتتابع الإضافات وهي قوله لها منها عليها والله تعالى اعلم
10
( حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ** )
قائله ابن بابك الشاعر المشهور من قصيدة من الطويل وتمامه
( فأنت بمرأى من سعاد ومسمع ** )
والجرعاء هي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها أو الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل أو الدعص لا ينبت أو الكثيب جانب منه حجارة وجانب رمل وحومة القتال معظمه وكذلك من الماء والرمل وغيره والجندل الحجارة والسجع هدير الحمام ونحوه
والمعنى يا حمامة جرعاء هذا الموضع اسجعي وترنمي طريا فأنت بمرأى من الحبيبة ومسمع فجدير لك أن تطربي إذ لا مانع لك منه
والشاهد فيه تتابع الإضافات فإنه أضاف حمامة إلى جرعا وحومة إلى الجندل وهو من عيوب الكلام
قال القزويني وفيه نظر لان ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم أي بقوله من تنافر الكلمات مع فصاحتها وإلا فلا يخل بالفصاحة كيف وقد جاء في التنزيل ! ( مثل دأب قوم نوح ) ! وقد
____________________
(1/59)
قال صلى الله عليه وسلم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
قيل لا نسلم وجود تتابع الإضافات في الحديث الشريف إذ لفظة الابن صفة لما قبلها وليس ما قبلها مضافا إليها
وعن الصاحب بن عباد إياك والإضافات المتداخلة فإنها لا تحسن
وذكر الشيخ عبد القاهر إنها تستعمل في الهجاء كقول القائل
( يا علي بن حمزة بن عمارة ** أنت والله ثلجة في خياره ) (1)
قال ولا شك في ثقل ذلك لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح وظرف ومما حسن فيه قول ابن المعتز
( وظلت تدير الراح أيدي جآذر ** عتاق دنانير الوجوه ملاح ) + الطويل +
( وقول الخالدي
( ويعرف الشعر مثل معرفتي ** وهو على أن يزيد مجتهد )
( وصيرفي القريض وزان دينار ** المعاتي الدقاق منتقد ) + المنسرح +
وهذان البيتان لسعيد بن هشام الخالدي الشاعر المشهور من قصيدة يصف فيها غلاما له وهي بديعة فأحببت ذكرها وهي
( ما هو عبد لكنه ولد ** خولنيه المهين الصمد )
( وشد أزري بحسن خدمته ** فهو يدي والذراع والعضد )
( صغير سن كبير منفعة ** تمازج الضعف فيه والجلد )
( في سن بدر الدجا وصورته ** فمثله يصطفى ويعتقد )
____________________
1- الخفيف
(1/60)
( معشق الطرف كحله كحل ** معطل الجيد حليه الجيد )
( وورد خديه والشقائق والتفاح ** والجلنار منتضد )
( رياض حسن زواهر أبدا ** فيهن ماء النعيم مطرد )
( وغصن بان إذا بدا وإذا ** شدا فقمري بانة غرد )
( مبارك الوجه مذ حظيت به ** بالي رخي وعيشتي رغد )
( أنسي ولهوي وكل مأربتي ** مجتمع فيه لي ومنفرد )
( مسامري إن دجا الظلام فلي ** منه حديث كأنه الشهد )
( ظريف مزح مليح نادرة ** جوهر حسن شراره يقد )
( خازن ما في داري وحافظه ** فليس شيء لدي مفتقد )
( ومنفق مشفق إذا أنا أسرفت ** وبذرت فهو مقتصد )
( يصون كتبي فكلها حسن ** يطوي ثيابي فكلها جدد )
( وأبصر الناس بالطبيخ فكالمسك ** القلايا والعنبر الثرد )
( وهو يدير المدام إن جليت ** عروس دن نقابها الزبد )
( يمنح كأسي يدا أناملها ** تنحل من لينها وتنعقد )
( ثقفه كيسه فلا عوج ** في بعض أخلاقه ولا اود )
وبعده البيتان وبعدهما أيضا
( وكاتب توجد البلاغة في ** ألفاظه والصواب والرشد )
( وواجد بي من المحبة والرأفة ** أضعاف ما به أجد )
( إذا تبسمت فهو مبتهج ** وإن تنمردت فهو مرتعد )
____________________
(1/61)
( ذا بعض أوصافه وقد بقيت ** له صفات لم يحوها أحد )
وقد عارضها الشهاب محمود بقصيدة يذم فيها غلاما له وهي
( ما هو عبد علا ولا ولد ** إلا عناء تضني به الكبد )
( وفرط سقم أعيا الأساة فلا ** جلد عليه يبقى ولا جلد )
( أقبح ما فيه كله ولقد ** تساوت الروح منه والجسد )
( أشبه شيء بالقرد فهو له ** إن كان للقرد في الورى ولد )
( ذو مقلة حشو جفنها عمص ** تسيل دمعا وما بها رمد )
( ووجنة مثل صبغة الورس ** لكن ذاك صاف ولونها كمد )
( كأنما الخد في نظافته ** قد أكلت فوق صحنه غدد )
( يقطر سما فضحكة أبدا ** شر بكاء وبشره حرد )
( يجمع كفيه من مهانته
كأنه في الهجير مرتعد )
( يطرق لا من حيا ولا خجل ** كأنه للتراب منتقد )
( ألكن إلا في الشتم ينبح كالكلب ** ولو أن خصمه الأسد )
( يشتمني الناس حين يشتمهم ** إذ ليس يرضى بشمته أحد )
( كسلان إلا في الأ كل فهو إذا ** ما حضر الأ كل جمرة تقد )
( كالنار يوم الرياح في الحطب اليابس ** تأتي على الذي تجد )
( يرفل في حلة منبتة ** من قمله رقم طرزها طرد )
( أجمل أوصافه النميمة والكذب ** ونقل الحديث والحسد )
( كل عيوب الورى به اجتمعت ** وهو بأضعاف ذاك منفرد )
( إن قلت لم يدر ما أقول وإن ** قال كلانا في الفهم متحد )
( كأن ما لي إذا تسلمه ** ماء قراح وكفه سرد )
____________________
(1/62)
( حملته لي دوية حسنت ** كنت عليها في الظرف أعتمد )
( كمثل زهر الرياض ما وجدت ** عيني لها مشبها ولا تجد )
( فمر يوما بها على رجل ** لديه علم اللصوص يستند )
( أودعها عنده ففر بها ** وما حواه من بعدها البلد )
( فجاء يبكي فظلت أضحك من ** فعلي وقلبي بالغيظ يتقد )
( وقال لي لا تخف فحليته ** مسهورة الشكل حين يفتقد )
( عليه ثوب وعمة وله ** ذقن ووجه وساعد ويد )
( وقائل بعه قلت خذه ولا ** وزن تجازي به ولا عدد )
( ففي الذي قد أضاعه عوض ** وهو على أن يزيد مجتهد ) (1)
ومثله قول راشد الكاتب في غلام له قد باعه وكان اسمه نفيسا فسماه خسيسا
( بعنا خسيسا فلم يحزن له أحد ** وغاب عنا فغاب الهم والنكد )
( أهون به خارجا من بين أظهرنا ** لم نفتقده وكلب الدار يفتقد )
( قد عريت من صنوف الخير خلقته ** فلا رواء ولا عقل ولا جلد )
( يدعو الفحول إلى ما تحت مئزره ** دعاء من في استه النيران تتقد ) + البسيط +
وقال فيه أيضا
( عرضنا خسيسا فاحتمى كل تاجر ** شراه وأعيا بيعه كل دلال )
( وما بات في قوم يحبون قربه ** فأصبح إلا والمحب له قالي )
( فما في يديه خدمة يشتهى لها ** ولا عنده معنى يراد على حال )
( بلى ليس يخلو من معايب أهله ** وإن أصبحوا في ذروة الشرف العالي )
____________________
1- المنسرح
(1/63)
( إذا لم يجد فيهم مقالا رماهم ** ببعض عيوب الناس في الزمن الخالي )
( ويحتال في استخراج ما في بيوتهم ** بما قصرت عنه يدا كل محتال )
( وإن حملوه سر أمر أذاعه ** وكادهم فيه كيادة مغتال )
( ويعبث بالجيران حتى يملهم ** ويبرم أهل الدار بالقيل والقال )
( يريهم صروف الدهر من حمقاته ** أعاجيب لم تخطر بوهم ولا بال )
( أقول وقد مروا به يعرضونه ** إلى النار فاذهب لا رجعت ولا مالي ) (1)
وقال العلامة ابن الوردي رحمه الله يهجو عبدا له اسمه بهادر
( بهادر عبد لا بهاء ولا در ** فما أنا حر يوم قولي له حر ) (1)
وأما ابن بابك فهو عبد الصمد بن منصور بن الحسن بن بابك الشاعر المشهور أحد الشعراء المجيدين المكثرين وهو بغدادي وله ديوان كبير وأسلوب رائق في نظم الشعر طاف البلاد ومدح الأكابر كعضد الدولة والصاحب بن عباد وغيرهما واجزلوا له الجوائز وذكر صاحب اليتيمة أنه كان يشتو في حضرة الصاحب بن عباد ويصيف في وطنه وقد ذكر ذلك في بعض قصائده قال وقرأت للصاحب فصلا في ذكره فاستملحته وهو أما ابن بابك وكثرة غشيانه بابك فإنما تغشى منازل الكرام والمنهل العذب كثير الزحام
ومن شعره في وصف الخمر من قصيدة
____________________
1- الطويل
(1/64)
( عقار عليها من دم الصب نقطة ** ومن عبرات المستهام فواقع )
( معودة غضب العقول كأنما ** لها عند ألباب الرجال ودائع )
( تحير دمع المزن في كأسها كما ** تحير في ورد الخدود المدامع ) (1)
وله من أخرى في وصف إضرام النار في بعض غياض طريقه إلى الصاحب
( ومقلة في مجر الشمس مسحبها ** أرعيتها في شباب السدفة الشهبا )
( حتى أرتني وعين الشمس فاترة ** وجه الصباح بذيل الليل منتقبا )
( وليلة بت أشكو الهم أولها ** وعدت آخرها أستنجد الطربا )
( في غيضة من غياض الحسن دانية ** مد الظلام على أرواقها طنبا )
( يهدي إليها مجاج الخمر ساكنها ** وكلما دب فيها أثمرت لهبا )
( حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ** عاد الزمرد من عيدانها ذهبا )
( مرقت منها وثغر الصبح مبتسم ** إلى اغر يرى المذخور ما وهبا ) + البسيط +
وله أيضا
( أحببته اسود العينين والشعره ** في عينيه عدة للوصل منتظرة )
( لدن المقلد مخطوف الحشا ثملا ** رخص العظام اشم الأنف والقصره )
( للظبي لفتته والغصن قامته ** والروض ما بثه والرمل ما ستره )
( تكاد عيني إذا خاضت محاسنه ** إليه تشربه من رقة البشرة )
( حتى إذا قلت قد أمللتها شرهت ** شوقا إليه وفي عين المحب شره ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(1/65)
ومنه
( زمر الغروب وأصوات النواعير ** والشرب في ظل أكواخ المناظير )
( وصرعة بين إبريق وباطية ** ونقرة بين مزمار وطنبور )
( أشهى إلي من البيداء أعسفها ** ومن طلوع الثنايا الشهب والقور )
( يا رب يوم على القاطول جاذبني ** صبح الزجاجة فيه فضلة النور )
( صدعت طرته والشمس قاصدة في يلمق من ضباب الدجن مزرور )
( كأن ما انهل من أهداب مزنته ** دمع تساقط من أجفان مهجور )
( فمن رشاش على الريحان مقتحم ** ومن رذاذ على المنثور منثور ) (1)
ومن شعره أيضا
( وغدير ماء أفغمت أطرافه ** كالدمع لما ضاق عنه مجال )
( قمر الرياض إذا الغصون تعدلت ** وإذا الغصون تهدلت فهلال ) + الكامل +
ومنه وهو غريب التشبيه
( وافى الشتاء فبز النور بهجته ** فعل المشيب بشعر اللمة الرجل )
( ورد تفتح ثم ارتد مجتمعا ** كما تجمعت الأفواه للقبل ) (1)
وقد أخذه الأمير مجير الدين بن تميم مع بن زيادة التضمين فقال
( سيقت إليك من الحدائق وردة ** وأتتك قبل أوانها تطفلا )
( طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ** فمها إليك كطالب تقبيلا ) + الكامل +
وهذا التضمين من بيت للمتنبي في وصف الناقة وهو
( ويغيرني جذب الزمام لقلبها ** فمها إليك كطالب تقبيلا ) + الكامل +
فنقله ابن تميم إلى وصف زر الورد فأحسن غاية الإحسان وهو من قول مسلم بن الوليد
____________________
1- البسيط
(1/66)
( والعيس عاطفة الرؤس كأنما ** يطلبن سر محدث في المجلس ) (1)
وفي مثل قول ابن تميم قول الخباز البلدي دوبيت
( ووردة تحكي بسبق الورد ** طليعة تسرعت من جند )
( قد ضمها في الغصن قرص البرد ** ضم فم لقبلة من بعد )
وذكرت بهذا ما قاله صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص يصف باكورة ورد حملت إلى أبي عامر محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور
( أتتك أبا عامر وردة ** يحاكي لك المسك أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ** فغطت بأكمامها راسها ) + المتقارب +
فاستحسن المنصور ما جاء به فحسده الحسين بن العريف فقال هي للعباس ابن الأحنف فناكره صاعد فقام ابن العريف إلى منزله ووضع أبياتا وأثبتها في صفح دفتر وقد نقض بعض أسطاره وأتى بها قبل افتراق المجلس وهي
( عشوت إلى قصر عباسة ** وقد جدل النوم حراسها )
( فألفيتها وهي في خدرها ** وقد صدع السكر أناسها )
( فقالت أسار على هجعة ** فقلت بلى فرمت كاسها )
( ومدت إلى وردة كفها ** يحاكي لك المسك أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ** فغطت بأكمامها راسها )
( وقالت خف الله لا تفضحن ** في ابنة عمك عباسها )
( فوليت عنها على غفلة ** ولا خنت ناسي ولا ناسها ) + المتقارب +
قال فخجل صاعد وحلف فلم يقبل منه وافترق المجلس على أنه سرقها
____________________
1- الكامل
(1/67)
وتمكنت في صاعد لأنه كان يوصف بغير الثقة فيما ينقله
ومن شعر ابن بابك يصف زمام الناقة وهو معنى جيد
( ولقد أتيت إليك تحمل بزتي ** حرف يسكن طيشها الذألان )
( ينفي الزفير خطامها فكأنه ** غار يحاول نقبه ثعبان ) (1)
وقد زاد فيه على المتنبي وقد ذكر الخيل
( نجاذب فيها للصباح أعنة ** كأن على الأعناق منها أفاعيا
وهو من قول ذى الرمة + من الطويل +
( رجيعة أسقام كأن زمامها ** شجاع على يسري الذراعين مطرق ) + الطويل +
على أن ذا الرمة لم يزد على التشبيه شيئا والمتنبي أتى به في عرض بيته وزاد مقصدا آخر وهو أن الخيل لا تترك إلا عنة تستقر في أيدي فرسانها لما فيها من سورة المرح وحسن البقية بعد طول السرى فكأنما الأعنة أفاع تلدغ أعناقها إذا باشرتها فتجاذبها الفرسان الأعنة وهي تجاذبهم إياها وهذا لم يقصده ذو الرمة ولا يؤخذ من بيته
ومن شعر ابن بابك بيت من قصيدة في غاية الرقة وهو
( ومر بي النسيم فرق حتى ** كأني قد شكوت إليه ما بي ) + الوافر +
ونقل بعضهم أن ابن بابك لما وفد على الصاحب بن عباد وأنشده مدائحه فيه طعن عليه بعض الحاضرين وذكر أنه منتحل وأنه ينشد قصائد قد قالها ابن نباته السعدي فأراد الصاحب ابن عباد أن يمتحنه فاقترح عليه أن يقول قصيدة يصف فيها الفيل على وزن قول عمرو بن معدي كرب
( أعددت للحدثان سابغة ** وعداء علندي ) (1)
فقال
( قسما لقد نشر الحيا ** بمناكب العلمين بردا )
____________________
1- الكامل
(1/68)
( وتنفست يمنية ** تستضحك الزهر المندى )
( وجريحة اللبات تنثر ** من سقيط الدمع عقدا )
( نازعتها حلب الشؤن ** وقلما استعبرت وجدا )
( ومساجل لي قد شققت ** لدائه في في لحدا )
( لا ترم بي فأنا الذي ** صيرت حر الشعر عبدا )
( بشوارد شمس القياد ** يزدن عند القرب بعدا )
( وممسك البردين في ** شبه النقا شية وقدا )
( وكأنما نسجت عليه ** يد الغمام الجون جلدا )
( وإذا لوتك صفاته ** أعطاك نس الروم نقدا )
( فكأن معصم غادة ** في ما ضغيه إذا تصدى )
( وكأن عودا عاطلا ** في صفحتيه إذا تبدى )
( يحدو قوائم أربعا ** يتركن بالتلعات وهدا )
( جأب المطوق قد تفرد ** بالكراهة واستبدا )
( فإذا تجلل هضبة ** فكأن ظل الليل مدا )
( وإذا هوى فكان ركنا ** من عمان قد تردى )
( وإذا استقل رأيت في ** أعطافه هزلا وجدا )
( متقرطا أذنا تعي ** زجر العسوف إذا تعدى )
( خرقاء لا يجد السرار ** إذا تولجها مردا )
( أوطأته صرعى بسيفي ** واجتنيت وصال سعدى )
( ملك رأى الإحسان من ** عدد النوائب فاستعدا )
( كافي الكفاة إذا انثنت ** مقل القنا الخطار رمدا )
____________________
(1/69)
( تكسوه نشر العرف كف ** من جفون الطل أندى )
( لا زلت يا أمل العفاة لفارط الإملاق وردا )
( فالق الليالي لابسا ** عيشا برود الظل رغدا ) (1)
فاستحسنها الصاحب ولام الطاعن عليه على كذبه وادعائه أنه انتحل شعر غيره فقال يا مولانا هذا والله معه ستون فيلية كلها على هذا الوزن لابن نباتة فضحك منه
وكان الصاحب قد برز أمره لابن بابك وغيره من الشعراء الذين بحضرته أن يصفوا الفيل على هذا الوزن فمن قصيدة لأبي الحسن الجوهري
( يزهو بخرطوم كمثل ** الصولجان يرد ردا )
( متمدد كالأفعوان ** تمده الرمضاء مدا )
( أو كم راقصة تشير ** به إلى الندمان وجدا )
( وكأنه بوق يحركه ** لينفح فيه جدا )
( يسطو بصارمتي لحي ** يحطمان الصخر هدا )
( أذناه مروحتان أسندتا ** إلى الفودين غمدا )
( عيناه غائرتان ضيقتا ** لجمع الضوء عمدا )
ومن قصيدة لأبي محمد الخازن
( وكأنما خرطومه ** راووق خمر مدمدا )
( أو مثل كم مسبل ** أرخته للتوديع سعدى )
( وإذا التوى فكأنه الثعبان ** من جبل تردى )
( وكأنما انقلبت عصا ** موسى غداة بها تحدى )
وكانت وفاته في سنة عشر وأربعمائة ببغداد رحمه الله تعالى شواهد الفن الأول وهو علم المعاني
____________________
1- الكامل
(1/70)
11
( جاء شقيق عارضا رمحه ** إن بني عمك فيهم رماح )
البيت لحجل بن نضلة من السريع وبعده
( هل أحدث الدهر لنا ذلة ** أم هل رمت أم شقيق سلاح ) (1)
شقيق هنا اسم رجل
والمعنى جاء هذا الرجل واضعا رمحه عرضا مفتخرا بتصريف الرماح مدلا بشجاعته دالا ذلك على إعجاب شديد منه واعتقاد بأنه لا يقوم إليه أحد من بني أعمامه كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح فقيل له تنكب وخل لهم طريقهم لئلا تتزاحم عليك رماحهم وتتراكم عليك أسنتها إن بني عمك فيهم رماح كثيرة
والشاهد فيه تنزيل غير المنكر للشيء منزلة المنكر له إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار وقد تقدم معناه
وما احسن قول ابن جابر الأندلسي مشيرا إلى شطر البيت الأول
( سامح بالوصل على بخله ** وقال لي أنت بوصلي حقيق )
( فقلت ما رأيك في نزهة ** ما بين كاسات وروض انيق )
( فقال يعني خده واللما ** هذا هو الروض وهذا الرحيق )
( فبت من دمعي ومن خده ** ما بين نعمان وبين العقيق )
( وإذ تدللت على حبه ** فقال ما تخشى أما تستفيق )
( قدى وخدى خفهما يا فتى ** هذا هو الرمح وهذا شقيق ) (1)
وقد ضمنه أبو جعفر الأندلسي أيضا فقال
( أبدت لنا الصدغ على خدها ** فأطلع الليل لنا صبحه )
( فخدها مع قدها قائل ** هذا شقيق عارض رمحه ) (1)
وقد ضمنه ابن الوردي أيضا فقال
( لما رأى الزهر الشقيق انثنى ** منهزما لم يستطع لمحه )
____________________
1- السريع
(1/72)
( وقال من جاء فقلنا له ** جاء شقيق عارضا رمحه ) (1)
وأما حجل بن نضلة فهو أحد بني عمرو بن عبد قيس بن معن بن أعصر
12
( أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشي )
البيت للصلتان العبدي الحماسي من قصيدة من المتقارب ونسب الحافظ في كتاب الحيوان هذه الأبيات للصلتان السعدي وقال هو غير الصلتان العبدي وبعد البيت
( إذا ليلة أهرمت يومها ** أتى بعد ذلك يوم فتى )
( نروح ونغدو لحاجاتنا ** وحاجة من عاش لا تنقضي )
( تموت مع المرء حاجاته ** وتبقى له حاجة ما بقي )
( إذا قلت يوما لمن قد ترى ** أروني السرى أروك الغنى )
( بني بداخب نجوى الرجال ** فكن عند سرك خب النجى )
( فسرك ما كان عند امرئ ** وسر الثلاثة غير الخفي )
____________________
1- السريع
(1/73)
( فكن كابن ليل على اسود ** إذا ما سواد بليل خشى )
( فكل سواد وإن هبته ** من الليل يخشى كما تختشى )
( أرد محكم الشعر وإن قلته ** فإن الكلام كثير الروى )
( كما الصمت أدنى لبعض اللسان ** وبعض التكلم أدنى لعي ) (1)
ومعنى البيت أن كرور الأيام ومرور الليالي يجعل الصغير كبيرا والطفل شائبا والشيخ فانيا
والشاهد فيه حمل إسناد الإفناء إلى كرور الأيام ومرور الليالي على الحقيقة لكون إسناده إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر
والصلتان العبدي هو قثم بن خبية بن عبد القيس وهو شاعر مشهور قيل له اقض بين جرير والفرزدق فقال
____________________
1- المتقارب
(1/74)
( أنا الصلتان ألذ به قد علمتمو ** متى ما يحكم فهو بالحق صادع )
( أتتني تميم حين هابت قضاتها ** وإني لبالفصل المبين قاطع )
( كما أنفذ الأعشى قضية عامر ** وما لتميم في قضائي رواجع )
( سأقضي قضاء بينهم غير جائر ** فهل أنت للحكم المبين سامع )
( قضاء امرىء لا يتقى الشتم منهم ** وليس له في المدح منهم منافع )
( فإن كنتما حكمتماني فأنصتا ** ولا تجزعا وليرض بالحق قانع )
( فإن يستويك بحر الحنظليين واحدا ** فما تستوي حيتانه والضفادع )
( وما يستوي صدر القناة وزجها ** وما يستوي شم الذرى والأرجاع )
( وليس الذبابي كالقدامى وريشه ** وما تستوي في الكف منك الأصابع )
( ألا إنما تحظى كليب بشعرها ** وبالمجد تحظى دارم والأقارع )
____________________
(1/75)
( أرى الخطفى الفرزدق شعره ** ولكن خيرا من كليب مجاشع )
( فيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله ** جرير ولكن في كليب تواضع )
( ويرفع من شعر الفرزدق أنه ** له باذخ لذي الخسيسة رافع )
( وقد يحمد السيف الرديء بغمده ** وتلقاه رثا جفنه وهو قاطع )
( يناشدني النصر الفرزدق بعدما ** أناخت عليه من جرير صواقع )
( فقلت له إني ونصرك كالذي ** يثبت أنفا كشمته الجوادع ) (1)
وفي ذلك يقول جرير رحمه الله تعالى
( أقول ولم أملك سوابق عبرة ** متى كان حكم الله في كرب النخل )
____________________
1- الطويل
(1/76)
13
( ميز عنه قنزعا عن قنزع ** جذب الليالي أبطئ أو أسرعى )
( أفناه قيل الله للشمس اطلعي ** )
هذه الأبيات لأبي النجم العجلي من قصيدة من الرجز أولها
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ** على ذنبا كله لم أصنع )
( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ) (1)
وبعده الأبيات وبعدها
( حتى إذا واراك أفق فارجعي )
والقنزعة الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي أو هي ما ارتفع من الشعر وطال أو الشعر حوالي الرأس وجمعها قنازع وقنزعات وجذب الليالي هو مضيها واختلافها ويقال جذب الشهر إذا مضى عامته وأبطئ أو أرعى أسرعى صفة الليالي أي المقول فيها أبطىء أو أسراعي وقيل حال منها أي الليالي مقولا فيها أبطئ أو أسرعي والصلع انحسار شعر مقدم الرأس لنقصان مادة الشعر في تلك البقعة وقصورها عنه واستيلاء الجفاف عليها ولتطامن الدماغ عما يماسه من القحف فلا يسقيه سقية إياه وهو ملاق له والمواراة الستر
ومعنى الأبيات أن هذه الحبيبة يعني أم الخيار زوجته أصبحت تدعى علي ذنوبا لم أرتكب شيئا منها لرؤيتها رأسي كرأس الأصلع لكبري وشيخوختي ميز وفصل مر الأيام ومضى الليالي الشعر الذي بقى حوالي الرأس وجوانبه ثم قال أفناه قيل الله وأمره للشمس بالطلوع والغروب
____________________
1- الرجز
(1/77)
والشاهد فيها هو أن حمل إسناد تمييز الشعر إلى جذب الليالي مجاز بقرينة قوله أفناه إلى آخره
وأبو النجم تقدم التعريف به في شواهد المقدمة
14
( يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا )
البيت لأبي نواس من قصيدة من الوافر يهجو فيها الأعراب والأعرابيات ويذم عيشهم وأولها
( دع الرسم الذي دثرا ** يقاسى الريح والمطرا )
( وكن رجلا أضاع العرض ** في اللذات والخطرا )
( ألم تر ما بنى كسرى ** وسابور لمن غبرا )
( منازل بين دجلة ** والفرات أحفها شجرا )
( بأرض باعد الرحمن ** عنها الطلح والعشرا )
( ولم يجعل مصاينها ** يرابيعا ولا وحرا )
____________________
(1/78)
( ولكن حور غزلان ** تراعى بالملا بقرا )
( وإن شيئنا أحشنا الطير ** من حافاتها زمرا ) (1)
إلى أن قال
( أما والله لا أشرا ** حلفت به ولا بطرا )
( لو أن مرقشا حي ** تعلق قلبه ذكرا )
( كأن ثيابه أطلعن ** من أزراره قمرا )
( ومر به بديوان الخراج ** مضمخا عطرا )
( بوجه سابري لو ** تصوب ماؤه قطرا )
( وقد خطت حواضنه ** له من عنبر طررا )
( بعين خالط التفتير ** في أجفانها حورا )
( يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا )
( لأيقن أن حب المرد ** يلفى سهله وعرا )
____________________
1- الوافر
(1/79)
( ولا سيما وبعضهم ** إذا حييته انتهرا ) (1)
والمعنى في البيت أن وجهه لما فيه من نهاية الحسن وغاية الكمال كلما كررت النظر فيه زاده الله عندك حسنا وبهاء مع أن تكرار النظر إلى الشيء قلما يحلو
وفي معناه قول الآخر
( كلما زدت إليه نظرا ** زاد حسنا عند تكرار النظر ) + الرمل +
وقول ابن الرومي
( لا شيء إلا وفيه أحسنه ** فالعين منه إليه تنتقل )
( فوائد العين فيه طارفة ** كأنما أخرياتها أول ) + المنسرح +
وقول المتنبي
( وهو المضاعف حسنه إن كررا ** ) + الكامل +
وقول عبدوس المغربي
( يا غزالا وهلالا ** خلقا خلقا عجيبا )
( وقضيبا وكثيبا ** جمعا قدا غريبا )
( قد غضضنا دونك الألحاظ ** خوفا أن تذوبا )
( كلما زدناك لحظا ** زدتنا حسنا وطيبا ) + من مجزوء الرمل +
____________________
1- الوافر
(1/80)
وقول ابن الخيمى
( ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ** في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب ) (1)
وقول قوام الدين المعروف بابن الطراح
( وعدك لا ينقضي له أمد ** ولا لليل المطال منك غد )
( عللتنى بالمنا غدا فغدا ** إن غدا سرمدا هو الأبد )
( تضحك عن واضح مقبلة ** عذب برود كأنه البرد )
( أحوم من حوله وبي ظمأ ** إلى جنى ريقه ولا أرد )
( وكلما زدت وجهه نظرا ** بدت عليه محاسن جدد ) + المنسرح +
وقريب منه قول ابن المطرز
( يا حبيبا كله حسن ** لمحب كله نظر )
( وجهه من كل ناحية ** حيثما قابلته قمر ) + المديد +
ومن ظريف ما يذكر هنا أن يعقوب بن الدقاق مستملى أبي نصر صاحب الأصمعى قال كنا يوم جمعة بقبة الشعراء في رحبة مسجد المنصور نتناشد وكنت أعلاهم صوتا إذ صاح بي صائح من ورائي يا منتوف فتغافلت كأني لم أسمع شيئا فقال ويلك يا أعمى يا أعمى لم لا تتكلم فقلت من هذا فقالوا أبو دانق الموسوس فالتفت إليه فقال ويلك هل تعرف أحسن من هذا البيت أو أشعر من قائله وهو
____________________
1- البسيط
(1/81)
( ما تنظر العين منه ناحية ** إلا أقامت منه على حسن ) (1)
فقلت كالمحاجر له لا فقال لا أم لك هلا قلت نعم قوله
( يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا ) + من مجزوء الوافر +
ثم وثب وثبة فجلس إلى جانبي وأقبل على وقال لي يا أعمى صف لى صورتك الساعة وإلا أخرجتك من بزتك ثم أقبل على من كان حاضرا فقال ظلمناه ظلمناه وهو ضرير لم ير وجهه فمن أحسن منا أن يصفه فليصفه وكان على الحقيقة أقبح الناس وجها وكان يحلق شعر رأسه وشعر لحيته وشعر حاجبيه ويدهن قال فلم يتكلم أحد فقال اكتبوا صفته في رأسه وأنشد
( أشبه رأسه لولا وجار ** بعينيه ونضنضة اللسان )
( بأضحم قرعة عظمت وتمت ** فليس لها لدى التمييز ثان )
( إذا عليت اسافلها أمالت ** دعائم رأسها نحو اللبان )
( فكان لها مكان الجيد منها ** إذا اتصلت بممسكة الجران )
( لها في كل شارقة وبيض ** كأن بريقها لمع الدهان )
( فلا سلمت من حذري وخوفي ** متى سلمت صفاتك من بنانى ) + الوافر +
ووثب إلى فحالت الأيدي بيني وبينه
والشاهد في البيت معرفة حقيقة المجاز العقلي الخفية التي لا تظهر إلا بعد نظر وتأمل
ومثله قول محمد اليزيدي
( أتيتك عائذا بك منك ** لما ضاقت الحيل )
( وصير ني هواك وبي ** لحينى يضرب المثل )
____________________
1- المنسرح
(1/82)
( فإن سلمت لكم نفسي ** فما لاقيته جلل )
( وإن قتل الهوى رجلا ** فإني ذلك الرجل ) (1)
أي صيرني الله بهواك وحالي هذه وهي أن يضرب المثل بي لحينى أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك
والبيت الأخير مأخوذ من قول مسلم بن الوليد
( متى ما تسمعي بقتيل أرض ** أصيب فأنني ذاك القتيل )
وأبو نواس هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي الشاعر المشهور كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والى خراسان ونسبته إليه قيل إنه ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب ثم صار إلى بغداد وقيل إنه ولد بالأهواز وقيل إنه ولد بكورة من كورخوزستان في سنة إحدى وأربعين ومائة ونقل إلى البصرة فنشأ بها ثم انتقل إلى بغداد وقد زاد سنة على الثلاثين ولم يلحق بها أحدا من الخلفاء قبل الرشيد وكان أول ما قاله من الشعر وهو صبي قوله
( حامل الهوى تعب ** يستخفه الطرب )
( إن بكى يحق له ** ليس ما به لعب )
( تضحكين لاهية ** والمحب ينتحب )
( كلما انقضى سبب ** منك جاءني سبب )
____________________
1- من مجزوء الوافر
(1/83)
( تعجبين من سقمي ** صحتي هي العجب ) (1)
وهي أبيات مشهورة
وروى أن الخصيب صاحب مصر سأل أبا نواس عن نسبه فقال أغناني أدبي عن نسبي
وما زال العلماء والأشراف يروون شعر أبي نواس ويتفكهون به ويفضلونه على أشعار القدماء
قال محمد بن داود الجراح كان أبو نواس من أجود الناس بديهة وأرقهم حاشية لسنا بالشعر يقوله في كل حال والردى من شعره ما حفظ عنه في سكره
قال الجاحظ لا أعرف بعد بشار مولدا أشعر من أبي نواس وقال الأصمعي ما أروى لأحد من أهل الزمان ما أرويه لأبي نواس وقال أبو عبيدة أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للأولين لأنه الذي فتح لهم باب هذه الفطن ودلهم على هذه المعاني وقال ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله فامرؤ القيس بجده وأبو نواس بهزله وقال أبو الحسن الطوسي شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان وأبو نواس
وكان لخلف الأحمر ولاء في اليمن في الأشاعرة وكان عصبيا وكان من أميل خلق الله إلى أبي نواس وهو الذي كناه بهذه الكنية لأنه قال له أنت من أهل اليمن فتكن باسم من أسامي الذوين ثم أحصى له أسماءهم وخيره فقال ذو جدن وذو كلال وذو يزن وذو كلاع وذو نواس فاختار ذا نواس فكناه أبا نواس فسارت له وعلبت على أبي على كنيته الأولى
وكان أبو نواس يعجبه شعر النابغة ويفضله على زهير تفضيلا شديدا ثم يقول الأعشى ليس مثلهما وكان يتعصب لجرير على الفرزدق ويقول هو أشعر ويأتم ببشار ويقول هو غزير الشعر كثير الافتنان ويقول أدمنت قراءة شعر الكميت فوجدت قشعريرة ثم قرأت شعر الخريمي فتشققت على حمى مبردة
____________________
1- المقتضب
(1/84)
ثم قال يوما شعري أشبه بشعر جرير فقيل له فما تقول في الأخطل قال إمامي في الخمر فقيل الفرزدق قال ذاك الأب الأكبر
وقال ابن الأعرابي قد ختمت بشعر أبي نواس فما رويت لشاعر بعده
وقال أبو عمرو الشيبانى لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الارفاث لاحتججنا بشعره لأنه كان محكم القول لا يخلط
وقال ابن دريد سألت أبا حاتم عن أبي نواس فقال إن جد حسن وإن هزل ظرف وإن وصف بالغ يلقى الكلام على عواهنه لا يبالي من حيث أخذه
وقال أبو الغيث بن البحتري سألت أبي لما حضرتة الوفاة من أشعر الناس فقال أعن المتقدمين تسأل أم عن المحدثين فقلت عن المحدثين فقال يا بنى لو قسم إحسان أبي نواس على جميع الناس لوسعهم وإن لأشجع السلمي لإحسانا وما علم الشعراء أكل الخبز بالشعر إلا أبو تمام فقلت له أنت اشعر أم أبو تمام فقال سألت عما لا يزال يسأل عنه جيد أبي تمام خير من جيدي وردئيي خير من رديئة
وقال ابن الأعرابي بعث إلى المأمون فسرت إليه وهو مع يحيى بن أكثم يطوفان في حديقة فلما نظر أني ولياني ظهورهما فجلست فلما اقبلا قمت فقال المأمون يا محمد بن زياد من أشعر الشعراء في نعت الخمر فجعلت أنشده للأعشى وقلت هو الذي يقول
( تريك القذى من دونها وهي فوقه ** إذا ذاقها من ذاقها يتمطق ) (1)
ثم أنشدته للأخطل فلم يحفل بشيء مما انشدته ثم قال يا ابن زياد أشعر الناس في نعتها الذي يقول
( فتمشت في مفاصلهم ** كتمشى البرء في السقم )
( فعلت في اللب إذ مزجت ** مثل فعل النار في الظلم )
( فاهتدى ساري الظلام بها ** كاهتداء السفر بالعلم ) + المديد +
____________________
1- الطويل
(1/85)
وعن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال جاء أبو العتاهية ومسلم وأبو نواس إلى أبي فأنشده أبو العتاهية
( وعظتك أجداث صمت ** ونعتك أزمته خفت )
( وأرتك قبرك في القبور ** وأنت حي لم تمت )
( وتكلمت عن أعين تبلى ** وعن صور شتت )
( وحكت لك الساعات ساعات ** أتيات بغت ) (1)
وأنشده شعرا آخر يقول فيه
( على سرعة الشمس في مرها ** دبيب الخلوقة في الجدة ) + المتقارب +
قال وانصرفوا فلما كان بعد أيام عاد إليه مسلم وأبو نواس فأنشده مسلم
( أجررت حبل خليع في الصبا غزل ** ) + البسيط +
حتى بلغ قوله
( ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ** كالموت مستعجلا يأتي على مهل )
فقال أبو عمرو أحسنت إلا أنك أخذت قول أبي العتاهية
( وحكت لك الساعات ساعات ** أتيات بغت )
قال ثم أنشده أبو نواس قوله
( يا شقيق النفس من حكم ** ) + المديد +
إلى أن بلغ إلى قوله
( فتمشت في مفاصلهم ** كتمشي البرء في السقم )
قال له أحسنت إلا أنك أخذته أيضا من قول أبي العتاهية
( على سرعة الشمس في مرها ** دبيب الخلوقة في الجدة )
وقد ذكر بعض أهل العلم أن بيت أبي نواس هذا مأخوذ من قول بعض
____________________
1- الكامل
(1/86)
الهذليين يصف قانصا ظفر بصيد بسرعة مشى
( فتمشى لا يحس به ** كتمشي النار في الضرم ) (1)
ويقال إن أبا نواس أنشد بيته هذا بعض الشعراء فقال له أما كفاك أن سرقت حتى أحلت فقال ومن اين سرقت فأنشده بيت الهذلي فقال كيف أحلت فقال بقولك كتمشي البرء في السقم وهما جميعا عرضان والعرض لا يدخل على العرض فانقطع أبو نواس ثم غير بيته بعد ذلك بأن قال
( كتمشى النار في الفحم ** )
وهذا بيت الهذلي بعينه ومعناه
وعن الأصمعي أن أبا نواس سرق بيته من قول مسلم بن الوليد
( تجرى محبتها في قلب وامقها ** جري السلامة أعضاء منتكس ) + البسيط +
وهو أخذه من قول عمر بن أبي ربيعة حيث يقول
( لقد دب الهوى لك في فؤادي ** دبيب دم الحياة إلى العروق ) + الوافر +
وهو أخذه من قول بعض العدويين حيث يقول
( وأشرب قلبي حبها ومشى به ** كمشى حميا الكأس في عقل شارب )
( ودب هواها في عظامي وحبها ** كما دب في الملسوع سم العقارب ) + الطويل +
وهو أخذه من أسقف نجران حيث يقول
( منع البقاء ثقلب الشمس ** وطلوعها من حيث لا تمسى )
( وطلوعها حمراء صافية ** وغروبها صفراء كالورس )
( تجرى على كبد السماء كما ** يجرى حمام الموت في النفس ) + الكامل +
ذكرت بهذه الأبيات ما قال الأعشى وهو أعشى قيس في سكران
( فراح ملسا كأن الذباب ** يدب على كل عضو دبيبا ) + المتقارب +
____________________
1- المديد
(1/87)
وقد أخذ أبو الشيص قول عمر بن أبي ربيعة فقال
( لقد جرى الحب منى ** مجرى دمى في عروقي ) (1) وأخذه أبو الطيب فقال
( جرى حبها مجرى دمى في مفاصلي ** فأصبح لي عن كل شغل بها شغل ) + الطويل +
وقال أبو الفرج بن هندو
( فتمشت في قلبي المهموم ** كتمشي الدرياق في المسموم ) + الخفيف +
وأتى عبد الله بن الحجاج بهذا المعنى من غير تشبيه فقال
( فبت أسقاها سلافا مدامة ** لها في عظام الشاربين دبيب ) + الطويل +
وما أحسن قول بعضهم
( وفي الظعائن مهضوم الحشا غنج ** يخطو بأعطاف كسلان الخطا ثمل )
( ظبي مشى الورد من لحظي بوجنته ** مشى اللواحظ من عينيه في أجلى ) + البسيط +
وقال أبو حاتم لولا أن العامة ابتذلت هذين البيتين وهما لأبي نواس لكتبتهما بالذهب وهما قوله
( ولو أني استزدتك فوق ما بي ** من البلوى لأعجزك المزيد )
( ولو عرضت على الموتى حياة ** بعيش مثل عيشى لم يريدوا ) + الوافر +
وكان المأمون يقول لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس
( ألا كل حي هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق )
____________________
1- المجتث
(1/88)
( إذا متحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق ) (1)
والبيت الأول ينظر إلى قول امرئ القيس
( فبعض اللوم عاذلتي فإني ** سيكفينى التجارب وانتسابي )
( إلى عرق الثرى وشجت عروقي ** وهذا الموت يسلبني شبابي ) + الوافر +
وقال سفيان بن عيينة لرجل من أهل البصرة أنشدني لأبي نواسكم فأنشد
( ما هوى إلا له سبب ** يبتدي منه وينشعب ) + المديد +
فقال سفيان آمنت بالله الذي خلقه
واجتمع أبو نواس مع العباس بن الأحنف في مجلس فقام العباس في حاجة فسئل أبو نواس عن رأيه فيه وفي شعره فقال لهو أرق من الوهم وأنفذ من الفهم وأمضى من السهم ثم عاد العباس وقام أبو نواس كذلك فسئل العباس عنه وعن رأيه فيه وفي شعره فقال إنه لأقر للعين من وصل بعد هجر ووفاء بعد غدر وإنجاز وعد بعد يأس فلما صارا إلى النبيذ أعلم كل واحد قول الآخر فيه فقال أبو نواس
( إذا ارتدت فتى الكاس ** فلا تعدل بعباس )
( فنعم المرء إن أرضعت ** يوما درة الكاس ) + الهزج +
فقال العباس
( إذا نازعت صفو الكاس يوما ** أخاثقة فمثل أبي نواس )
( فتى يشتد حبل الود منه ** إذا ما خلة رثت لناس ) + الوافر +
فتناول أبو نواس قدحا وقال
( أبا الفضل اشربن كاسك ** فإني شارب كاسى ) + الهزج +
فقال العباس
( نعم يا أوحد الناس ** على العينين والراس )
____________________
1- الطويل
(1/89)
فقال أبو نواس
( فقد حف لنا المجلس ** بالنسرين والآس )
فقال العباس
( وإخوان بهاليل ** سراة سادة الناس )
فقال أبو نواس
( وخود لذة المسموع ** مثل الغصن الكاسي )
فقال العباس
( وقد ألبسها الرحمن ** أحسن إلباس )
فقال أبو نواس
( وقد زينت باكليل ** يواقيت على الراس )
فقال العباس
( فلا تحبس أخي كاسي ** فإني غير حباس )
فكان ما نسي من معارضتهما في ذلك المجلس اكثر مما حفظ إلا أنه انصرف العباس وبقي أبو نواس فسئل عن العتابي والعباس فقال العتابي يتكلف والعباس يتدقق طبعا وكلام هذا سهل عذب وكلام ذاك متدقق كز وفي شعر هذا ماء ورقة وحلاوة وفي شعر ذاك جساوة وفظاظة
وكان لأبي نواس مع أهل عصره مناقضات ومعارضات يطول شرحها فنورد
____________________
(1/90)
منها ما خف ذكره
حضر أبو نواس مع جماعة سطحا عاليا يطلبون هلال الفطر وكان سليمان ابن أبي سهل في عينه سوء فقام أبو نواس بازائه ثم قال يا أبا أيوب كيف ترى الهلال من بعد وأنت لا تراني من قرب فقال له سليمان قد رأيتك تمشي القهقرى حتى تدخل في رحم جلبان يعني أمه فأحفظ ذلك أبا نواس فقال في سليمان
( قل لسليمان وما شيمتي ** أن أهدي النصح له مخلصا )
( ما أنت بالحر فألحي ولا ** بالعبد أستعتبه بالعصا )
( فرحمة الله على آدم ** رحمة من عم ومن خصصا )
( لو كان يدري أنه خارج ** مثلك من إحليله لاختصى ) (1)
فأجابه سليمان فقال
( إن ابن هانى سفلة خالص ** ما وحد الله ولا أخلصا )
( أغلى بذكري شعره فاغتدى ** بالقرض في أشباهه مرخصا )
( وكان في شعري وتغريده ** لخوف من يأتيه قد قلصا )
( كالكلب هر الليث حتى إذا ** أهدى إليه مخلبا بصيصا )
____________________
1- السريع
(1/91)
وكان لأبي الشمقمق ضريبة على الشعراء فجاء يوما إلى أبي نواس فقال هات ضريبتك فدخل المنزل وأخرج إليه رقعة فيها
( أخذت بأير بغل حين أدلى ** فويق الباع كالجذع المطوق )
( فما إن زلت أمرسه بكفي ** إلى أن صار كالسهم المفوق )
( فلما أن طمي ونما وأندى ** جلدت به حرأم أبي الشمقمق ) (1)
فوقعت هذه الأبيات في أفواه الصبيان وأجابه أبو الشمقمق بأبيات فلم تسر له
وحدث الجمان قال اجتمعت أنا وأبو نواس والرقاشي في بعض متنزهات البصرة فنفذ شرابنا فقلنا هلم فليقل كل واحد منا بيتا في السقيا لنبعث به إلى عبد الملك بن إبراهيم فابتدأ أبو نواس فقال
( يا ابن إبراهيم يا عبد الملك ** واثقا أقبلت بالله وبك )
( أنت للمال إذا أصلحته ** فإذا أنفقته فالمال لك )
وقال الرقاشي
( اسقني الخمر ودع من لامني ** في هوى نفسي فغيري من نسك )
( ونك المرد فما من لذة ** نلتها إن لم تنكهم وتنك )
فوقع البيت الرابع بموافقته وبعث إلينا بما كفانا
واجتمع أبو نواس يوما مع الرقاشي في مجلس فتذاكرا الشعر فقال له أبو نواس لقد سبقتني إلى أبيات وددت أنها لي بجميع شعري قال وما هي قال قولك
( نبهت ندماني الموفى بذمته ** من بعد إيعاب طاسات وأقداح )
____________________
1- الوافر
(1/92)
( فقال خذ واسقني واشرب وغن لنا ** يا دار مثواي بالقاعين فالساح )
( فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة ** حتى استدار ورد الراح بالراح ) (1)
فقال له الرقاشي لكنك أنت سبقتني ببيتين وددت أنهما لي بكل شعري فقال أبو نواس وما هما قال قولك
( ومستطيل على الصهباء باكرها ** في فتية باصطباح الراح حذاق )
( فكل شيء رآه ظنه قدحا ** وكل شخص رآه قال يوما ذا ساقي ) (1)
واجتمع يوما أبو نواس مع عنان فأقبل عليها وقال
( إن لي أيرا خبيثا ** عارم الرأس فلوتا )
( لو رأى في الجو فرجا ** لنزا حتى يموتا )
( أو رأى في السقف دبرا ** لتحول عنكبوتا )
( أو رآه جوف بحر ** صار للإنغاظ حوتا ) + من مجزوء الرمل +
فقالت عنان
( زوجوا هذا بألف ** وأظن الألف قوتا )
( إنني أخشى عليه ** داء سوء أن يموتا )
( قبل أن ينقلب الداء ** فلا يأتى ويوتى )
فقال أبو نواس
( ألم ترقي لصب ** يكفيه منك قطيرة ) + المجتث +
فقالت عنان
( إياي تعني بهذا ** عليك فاجلد عميره )
فقال أبو نواس
( أخاف إن رمت هذا ** على يدي منك غيره )
____________________
1- البسيط
(1/93)
فقالت عنان
( عليك أمك نكها ** فإنها كندفيره )
ودخل أبو نواس يوما على الناطفي وعنان جالسة تبكي وخدها على رزة باب فقال
( بكت عنان فجرى دمعها ** كاللؤلؤ المرفض من خيطه ) (1)
فقالت عنان والعبرة تخنقها
( فليت من يضربها ظالما ** تجف يمناه على سوطه )
وكان الرشيد قد هم بشراء عنان جارية الناطفي فقيل له إن أبا نواس قد هجاها بقوله
( إن عنان النطاف جارية ** قد صار حرها للأير ميدانا )
( لا يشتريها إلا ابن زانية ** أو قلطبان يكون من كانا ) + المنسرح +
فقال لعنه الله لا حاجة لنا فيها فأجابته عنان عن هذين البيتين فقالت
( عجبا من حلقي ** يدعي أصل اللواط )
( فإذا صار إلى البيت ** وخسف عن تواطي )
( فالذي يعلم يدري ** من يلي وجه البساط ) + من مجزوء الرمل +
فقال أبو نواس
( فتحت حرها عنان ** ثم نادت من ينيك )
( ثم أبدت عن مشق ** مثل صحراء العتيك )
( فيه دراح وبط ** ودجاجات وديك ) + من مجزوء الرمل +
فقالت عنان
( إن ابن هانئ بدائه كلف ** يبيت عن نفسه يخادعها )
____________________
1- السريع
(1/94)
( أمسى بروس الحملان يعرف في الناس ** ومضماره كوارعها ) (1)
ووجهت عنان مرة إلى أبي نواس بوصيفة لها مع رقعة فيها
( زرنا لتأكل معنا ** ولا تغيبن عنا )
( فقد عزمنا على الشرب ** صحبة واجتمعنا ) + المجتث +
فلما وردت الوصيفة على أبي نواس قرأ رقعتها ثم تأملها فاستحلاها فخدعها وقضى وطره منها ثم كتب في جواب الرقعة
( نكنا رسول عنان ** والرأي فيما فعلنا )
( فكان خبزا بملح ** قبل الشواء أكلنا )
( جذبتها فتجافت ** كالغصن لما تثنى )
( فقلت ليس على ذا الفعال ** كنا افترقنا )
( قالت فكم تتجنى ** طولت نكنا ودعنا ) + المجتث +
فلما قرأت عنان الرقعة قالت إن كان صادقا فقد زنى وهجرته
ولقد ظرف ابن الأبار بمتابعته أبا نواس في هذا المعنى حيث قال
( زارني خيفة الرقيب مريبا ** يتشكى القضيب منه الكثيبا )
( رشأ راش لي سهام المنايا ** من جفون يصمي بهن القلوبا )
( قال لي ما ترى الرقيب مطلا ** قلت ذره أتى الجناب الرحيبا )
( عاطه أكؤس المدام دراكا ** وأدرها عليه كوبا فكوبا )
( واسقنيها بخمر عينيك صرفا ** واجعل الكأس منك ثغرا شنيبا )
( نم لما نام الرقيب سريعا ** وتلقى الكرى سميعا مجيبا )
( قال لا بد أن تدب إليه ** قلت أبغي رشا وآخذ ذيبا )
( قال فابدأ بنا وثن عليه ** قلت كلا لقد دفعت قريبا )
____________________
1- المنسرح
(1/95)
( فوثبنا على الغزال ركوبا ** ودببنا إلى الرقيب دبيبا )
( فهل أبصرت أو سمعت بصب ** ناك محبوبه وناك الرقيبا ) (1)
قال ابن بسام ولقد ظرف ابن الأبار واستهتر ما شاء وأظنه لو قدر على إبليس الذي تولى له نظم هذا المسلك لدب إليه ووثب أيضا عليه ثم قال وأبو نواس سهل للناس هذا السبيل حيث يقول وذكر الأبيات انتهى
ومن أناشيد الثعالبي في هذا المعنى
( لي أير أراحني الله منه ** صار همي به عريضا طويلا )
( نام إذ زارني الحبيب عنادا ** ولعهدي به ينيك الرسولا )
( حسبت زورة لشقوة جدي ** فافترقنا وما شفينا غليلا ) (1)
رجع إلى أخبار أبي نواس
واشرف يوما أبو نواس من دار على منزل عبد الوهاب الثقفي وقد مات بعض أهله وعندهم مأتم وجنان جارية عبد الوهاب واقفة مع النساء تلطم وفي يديها خضاب وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة وكان أبو نواس يهواها فقال
( يا قمرا أبرزه مأتم ** يندب شجوا بين أتراب )
( يبكي فيذري الدمع من نرجس ** ويلطم الورد بعناب )
( لا تبك ميتا حل في حفرة ** وابك قتيلا لك بالباب )
( أبرزه المأتم لي كارها ** برغم دايات وحجاب )
( لا زال دأبا موت أصحابه ** وداب أن أبصره دابي ) + السريع +
وذكرت بالبيت الأول والثاني ما عكسه بعضهم منهما في هجاء أعور وهو
____________________
1- الخفيف
(1/96)
( يا أعورا أبرزه مأتم ** يندب شجوا بتخاليط )
( يبكي فيذري الدمع من كوة ** ويلطم الشوك ببلوط ) (1)
وحدث أبو نواس قال رأيت النابغة الذبياني في منامي فقال لي بماذا حبسك الرشيد فقلت له بقولي
( اهج نزارا وأفر جلدتها ** وهتك الستر عن مثاليها ) + المنسرح +
فقال لي أهل ذاك أنت يا ابن الزانية فقد استوحيت من كل نزاري عقوبة مثلها بما ارتكبت منها فقلت وأنت بماذا حبسك النعمان قال ببيت قلته ستره النعمان عن الناس قلت بقولك
( سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد ) + الكامل +
فقال أو هذا مستور قلت فبقولك
( وإذا لمست لمست أضخم جاثما ** متحيزا بمكانه ملء اليد ) + الكامل +
قال اللهم غفرا قلت فماذا قال بقولي
( فملكت علياها وأسفلها معا ** وأخذتها قسرا وقلت لها اقعدي ) + الكامل +
فحدثت بهذا الحديث اليزيدي فألحق البيت بقصيدة النابغة
وحكى الأصمعي قال رأيت أبا نواس بعد موته في المنام فقلت هل نسي من خمرياتك شيء قال أجودها قلت فاذكره فقال
( اذكي سراجا وساقي الشرب يمزجها ** فلاح في البيت كالمصباح مصباح )
( كدنا على علمنا بالشك نسأله ** أراحنا نارنا أم نارنا الراح ) + البسيط +
وحكى عن عبد الله بن المعتز أنه قال رأيت أبا نواس في المنام فقلت له لقد أحسنت في قولك
( جاءت بإبريقها من بيت تاجرها ** روحا من الخمر في جسم من النار ) + البسيط +
____________________
1- السريع
(1/97)
فقال لا بل أحسنت في قولي
( يا قابض الروح من جسم أسى زمنا ** وغافر الذنب زحزحني عن النار ) (1)
وقد أحسن أبو نواس ظنه بربه حيث يقول
( تكثر ما استطعت من الخطايا ** فانك بالغ ربا غفورا )
( ستبصر إن وردت عليه عفوا ** وتلقى سيدا ملكا كبيرا )
( تعض ندامة كفيك مما ** تركت مخافة النار السرورا ) + الوافر +
ومن شعره
( سبحان ذي الملكوت أية ليلة ** مخضت صبيحتها بيوم الموقف )
( لو أن عينا وهمتها نفسها ** ما في المعاد محصلا لم تطرف ) + الكامل +
ومنه
( خل جنبيك لرام ** وامض عنه بسلام )
( مت بداء الصمت خير ** لك من داء الكلام )
( إنما العاقل من ألجم ** فاه بلجام )
( شبت يا هذا وما ** تترك أخلاق الغلام )
( والمنايا آكلات ** شاربات للأنام ) + من مجزوء الرمل +
وأخباره كثيرة وديوان شعره مختلف الترتيب لاختلاف جامعيه
وكانت وفاته سنة خمس وقيل ست وقيل ثمان وتسعين ومائة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزي رحمه الله تعالى
____________________
1- البسيط
(1/98)
شواهد المسند إليه
____________________
(1/99)
15
( قال لي كيف أنت قلت عليل ** )
هو من الخفيف ولا اعرف قائله وتمامه
( سهر دائم وحزن طويل ** )
ومعناه ظاهر والشاهد فيه حذف المسند إليه للاحتراز عن العبث مع ضيق المقام وهو قوله عليل أي أنا عليل فحذف المبتدأ لما مر
ومثله قول أبي الطمحان القيني الشاعر الجاهلي وقال ابن قتيبه الصحيح أنه للقيط بن زرارة
( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه )
( نجوم سماء كلما انقض كوكب ** بدا كوكب تأوي إليه كواكبه ) (1)
أي هم نجوم سماء فحذف المسند إليه
16
( إن الذين ترونهم إخوانكم ** يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا )
البيت لعبدة بن الطبيب من قصيدة من الكامل يعظ فيها بنيه ويوصيهم بما هو المرضي شرعا وأولها
( أبني إني قد كبرت ورابني ** بصري وفي لمصلح مستمتع )
( فلئن هلكت لقد بنيت مساعيا ** تبقى لكم منها مآثر أربع )
( ذكر إذا ذكر الكرام يزينكم ** ووراثة الحسب المقدم تنفع )
( ومقام أيام لهن فضيلة ** عند الحفيظة والمجامع تجمع )
( ولها من الكسب الذي يغنيكم ** يوما إذا احتضر النفوس المطمع )
( أوصيكم بتقى الإله فإنه ** يعطي الرغائب من يشاء ويمنع )
____________________
1- الطويل
(1/100)
( وببر والدكم وطاعة أمره ** إن الأبر من البنين الأطوع )
( إن الكبير إذا عصاه أهله ** ضاقت يداه بأمره ما يصنع )
( ودعوا الضغائن لا تكن من شأنكم ** إن الضغائن للقرابة توضع )
( يزجي عقاربه ليبعث بينكم ** حربا كما بعث العروق الأخدع )
( وإذا مضيت إلى سبيلي فابعثوا ** رجلا له قلب حديد أصمع )
( إن الحوادث تخترمن وإنما ** عمر الفتى في أهله مستودع ) يسعى ويجمع جاهدا مستهترا ** جدا وليس بآكل ما يجمع ) (1)
وترونهم من الإراءة المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل وجرى مجرى الظن لبنائه للمفعول وانتصب إخوانكم على أنه مفعول ثان لترونهم والغليل بالمعجمة الحقد والضغن وان تصرعوا في محل رفع على أنه فاعل يشفي والصرع الطرح على الأرض كالمصرع وهو موضعه
والمعنى يا بني إن القوم الذين تظنونهم إخوانكم وتعتمدون عليهم في الشدائد بما ظننتم يشفي ما في صدورهم من غليل العداوة وحرقتها أن تصرعوا وتصابوا بالحوادث فإياكم واستئمانهم والاعتماد عليهم وفيه إشعار بقولهم الحزم سوء الظن والثقة بكل أحد عجز
____________________
1- الكامل
(1/101)
والشاهد فيه تنبيه المخاطب على الخطأ في ظنه إذ في قوله إن الذين من التنبيه على الخطأ ما ليس في قولك إن القوم الفلانيين
وعبدة بن الطبيب شاعر مجيد ليس بالمكثر والطبيب لقب لأبيه واسمه يزيد بن عمرو وينتهي نسبه لتميم وهو مخضرم أدرك الإسلام فأسلم وكان في جيش النعمان بن مقرن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن وقد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها
( هل حبل خولة بعد الهجر موصول ** أم أنت عنها بعيد الدار مشغول )
( حلت خويلة في دار مجاورة ** أهل المدينة فيها الديك والفيل )
( يقارعون رؤس العجم ضاحية ** منهم فوارس لا عزل ولا ميل ) (1)
وقال الأصمعي أرثي بيت قالته العرب بيت عبدة بن الطبيب
( وما كان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدما ) + الطويل +
وقال رجل لخالد بن صفوان كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال لا تقل ذلك فوالله ما تركه من عي ولكنه كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفا وأنشد
____________________
1- البسيط
(1/102)
( وأجرأ من رأيت بظهر غيب ** على عيب الرجال أخو العيوب ) (1)
وعن ابن الأعرابي أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه أي المناديل أشرف فقال قائل منهم مناديل مصر كأنها غرقئ البيض وقال آخرون مناديل اليمن كأنها نور الربيع فقال عبد الملك مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب حيث يقول
( لما نزلنا ضربنا ظل أخبية ** وفار للقوم باللحم المراجيل )
( ورد وأشقر ما يؤنيه طابخه ** ما غير الغلي منه فهو مأكول )
( ثمت قمنا إلى جرد مسومة ** أعرافهن لأيدينا مناديل ) + البسيط +
يعني بالمراجيل المراجل فزاد فيها الياء ضرورة
17
( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتا دعائمه أعز وأطول )
البيت للفرزدق وهو أول قصيدة طويلة من الكامل تزيد على مائة بيت وبعده
( بيتا بناه لنا المليك وما بنى ** ملك السماء فإنه لا ينقل )
____________________
1- الوافر
(1/103)
( بيتا زرارة محتب بفنائه ** ومجاشع وأبو الفوارس نهشل )
( يلجون بيت مجاشع فإذا احتبوا ** برزوا كأنهم الجبال المئل ) (1)
يقال سمك الشيء سمكا إذا رفعه ومعنى البيت ظاهر
والمراد بالبيت فيه الكعبة أو بيت المجد والشرف
والشاهد فيه جعل الإيماء إلى وجه الخبر وسيلة إلى التعريض بالتعظيم لشانه وذلك لقوله إن الذي سمك السماء ففيه إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة والبناء بخلاف ما لو قيل إن الله أو الرحمن أو غير ذلك ثم فيه تعريض بتعظيم بناء بيته لكونه فعل من رفع السماء التي لا بناء أرفع منها ولا أعظم
حدث سلمة ابن عباس مولى بنى عامر بن لؤي قال دخلت على الفرزدق في السجن وهو محبوس وقد قال قصيدته
( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتا دعائمه أعز وأطول )
وقد أفحم وأجبل فقلت له ألا أرفدك فقال وهل ذاك عندك فقلت نعم ثم قلت
( بيتا زرارة محتب بفنائه ** ومجاشع وأبو الفوارس نهشل )
فاستجاد البيت وغاظه قولي فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال من أيها قلت من بني عامر بن لؤي فقال لئام والله رضعة جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم فقلت ألأم والله منهم وأوضع قومك جاءك رسول مالك بن المنذر وأنت سيدهم وشاعرهم فأخذ بأذنك يقودك حتى حبسك فما اعترضه أحد ولا نصرك فقال قاتلك الله ما أمكرك وأخذ البيت وأدخله في قصيدته
ذكرت بقوله بيتا زوارة محتب بفنائه البيت ما ذكره بعض أهل الأدب قال ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل بعض مجانين
____________________
1- الكامل
(1/104)
أهل مكة في الشعر فإنه قال يوما ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل
( بيتا زوارة محتب بفنائه ** ومجاشع وأبو الفوارس نهشل )
أن هذه أسماء رجال منهم قلت وما عندك أنت فيه قال البيت بيت الله والزرارة الحجر زرت حول البيت ومجاشع زمزم جشعت بالماء وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة قلت له فنهشل ففكر فيه ساعة ثم قال قد أصبته هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك نهشل
وذكرت أيضا هنا ما حدثه أبو مالك الراوية قال سمعت الفرزدق يقول أبق غلامان لرجل منا يقال له النضر فحدثني قال خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران ارتفعت سحابة فأرعدت وأبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى فأجابوا فدخلت دارا لهم وأنخت الناقة وجلست تحت ظلة لهم من جريد النخل وفي الدار لهم جويرية سوداء إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة وكأن عينيها كوكبان دريان فسألت الجارية لمن هذه العيساء تعني ناقتي فقيل لضيفكم هذا فعدلت إلي فقالت السلام عليكم فرددت عليها السلام فقالت ممن الرجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيهم قلت من بني نهشل فتبسمت وقالت أنت إذا ممن عناه الفرزدق بقوله وذكرت الأبيات السابقة قال فقلت نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها فضحكت وقالت إن ابن الخطفي تعني جريرا قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي قد فخرتم به حيث يقول
( أخزى الذي رفع السماء مجاشعا ** وبنى بناه بالحضيض الأسفل )
____________________
(1/105)
( بيتا يحمم قينكم بفنائه ** دنسا مقاعده خبيث المدخل )
قال فوجمت فلما رأت ذلك في وجهي قالت لا بأس عليك فإن الناس يقال فيهم ويقولون ثم قالت اين تؤم قلت اليمامة فتنفست الصعداء ثم أنشأت تقول
( تذكرني بلادا خير أهلي ** بها أهل المروءة والكرامه )
( ألا فسقى الإله أجش صوب ** يسح بدره بلد اليمامه ) (1)
قال فأنست بها ثم قلت أذات خدر أم ذات بعل فأنشأت تقول
( إذا رقد النيام فإن عمرا ** تؤرقه الهموم إلى الصباح )
( تقطع قلبه الذكرى وقلبي ** فلا هو الخلي ولا بصاحي )
( سقى الله اليمامة دار قوم ** بها عمر ويحن إلى الرواح ) (1)
قال فقلت لها من عمرو هذا فأنشأت تقول
( سألت ولو علمت كففت عنه ** ومن لك بالجواب سوى الخبير )
( فإن تك ذا قبول إن عمرا ** لكالقمر المضيء المستنير )
( وما لي بالتبعل مستراح ** ولو رد التبعل لي أسيري ) (1)
قال ثم سكتت سكتة كأنها تسمع إلى كلامه ثم تهافتت وأنشأت تقول
( يخيل لي أيا عمرو بن كعب ** بأنك قد حملت على سرير )
( يسير بك الهوينا القوم لما ** رماك الحب بالقلق اليسير )
( فإن تك هكذا يا عمرو وإني ** مبكرة عليك إلى القبور )
ثم شهقت شهقة فخرت ميتة فقلت لهم من هذه فقالوا هذه عقيلة بنت
____________________
1- الوافر
(1/106)
الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء فقلت لهم فمن عمرو هذا فقالوا ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق فارتحلت من عندهم فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت
والفرزدق قد تقدم ذكره في شواهد المقدمة
18
( هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ** )
قائله ابن الرومي وتمامه
( من نسل شيبان بين الضال والسلم ** ) وهذا البيت من قصيدة من البسيط وشيبان بن ذهل وشيبان بن ثعلبة قبيلتان والضال والسلم شجرتان من شجر البادية وفردا منصوب على المدح أو الحال
والمعنى هذا المشار إليه صاحب الاسم المشهور إذا ذكر رجلا فردا في محاسنه وفضائله من نسل شيبان وأولاد هذه القبيلة المقيمين بالبادية والإقامة بها مما تتمدح به العرب لان فقد العز في الحضر
والشاهد فيه تعريف المسند إليه بإيراده اسم إشارة متى صلح المقام له واتصل به غرض وصلاحيته بأن يصح إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة إليه حسا ثم الغرض الموجب له أو المرجح تفصيل يأتي ضمن الشواهد إن شاء الله تعالى وتعريفه بالإشارة هنا لتمييزه أكمل تمييز وذلك في قوله هذا أبو الصقر لصحة إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة حسا
____________________
(1/107)
ومثله قول المتنبي
( أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ** وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا ) (1)
وقول مادح حاتم الطائي
( وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ** متسربل سربال ليل أغبر )
( أوما إلى الكوماء هذا طارق ** نحرتني الأعداء إن لم تنحري ) + الكامل +
وابن الرومي هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج وقيل هو أبو جرجيس الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في احسن قالب وكان إذا أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية ومعانيه غريبة جيدة
وحكى ابن درستويه وغيره إن لائما لامه فقال له لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه فقال له أنشدني شيئا من قوله الذي استعجزتني عن مثله فأنشده قوله في الهلال
( انظر إليه كزورق من فضة ** قد أثقلته حمولة من عنبر ) + الكامل +
فقال له زدني فأنشده قوله في الآذريون وهو زهر أصفر في وسطه خمل أسود وليس بطيب الرائحة والفرس تعظمه بالنظر إليه وفرشه في المنزل
( كأن آذريونها ** والشمس فيه كاليه )
( مداهن من ذهب ** فيه بقايا غاليه ) + من مجزوء الرجز +
فصاح واغوثاه تالله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ذاك إنما يصف ماعون
____________________
1- الطويل
(1/108)
بيته لأنه ابن خليفة وأنا أي شيء أصف ولكن انظر إذا أنا وصفت ما اعرف أين يقع قولي من الناس هل لأحد قط قول مثل قولي في قوس الغمام وأنشد
( وساق صبيح للصبوح دعوته ** فقام وفي أجفانه سنة الغمض )
( يطوف بكاسات العقار كأنجم ** فمن بين منقض علينا ومنفض )
( وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ** على الجو دكنا والحواشي على الأرض )
( يطرزها قوس السحاب بأخضر ** على أحمر في أصفر إثر مبيض )
( كأذيال خوذ أقبلت في غلائل ** مصبغة والبعض أقصر من بعض ) (1)
وبعضهم ينسبها لسيف الدولة ابن حمدان منهم صاحب اليتيمة وقولي في صانع الرقاق
( إن أنس لا أنس خبازا مررت به ** يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ** وبين رؤيتها قوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ** في لجة الماء يلقي فيه بالحجر ) + البسيط +
وقولي في قالي الزلابية
( ومستقر على كرسيه تعب ** روحي الفداء له من منصب نصب )
( رأيته سحرا يقلي زلابية ** في رقة القشر والتجويف كالقصب )
( كأنما زيته المقلي حين بدا ** كالكيمياء التي قالوا ولم تصب )
____________________
1- الطويل
(1/109)
( يلقي العجين لجينا من أنامله ** فيستحيل شبابيكا من الذهب ) (1)
ومن معانيه البديعة قوله
( وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله ** وأطال فيه فقد أراد هجاءه )
( لو لم يقدر فيه بعد المستقى ** عند الورود لما أطال رشاءه ) + الكامل +
وقد كرر ابن الرومي هذا المعنى في نظمه فقال
( إذا عز رفد لمسترفد ** أطال المديح له المادح )
( وقد ما إذا استبعد المستقي ** أطال الرشاء له المانح ) + المتقارب +
وقد أخذه السراج الوراق فقال
( سامح بفضلك عبدا ** مقصرا في الثناء )
( رأى قلبيا قريبا ** فلم يطل في الرشاء ) + المجتث +
وعلى ذكر أبياته المارة في صانع الرقاق ذكرت ما حكى عن الأديب أبي عمرو النميري أن هذه الأبيات أنشدت في حلقته فقال بعض تلامذته ما أظن أن يقدر على الزيادة فيها فقال
( فكدت أضرط إعجابا لرؤيتها ** ومن رأى مثل ما أبصرت منه خزي )
فضحك من حضر وقالوا البيت لائق بالقطعة لولا ما فيه من ذكر الرجيع فقال
( إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم ** فعجلوا محوه أو فالعقوه طري )
ومن معاني ابن الرومي البديعة قوله يهجو
( لخالد شاعرنا زوجة ** لها حر يبلغ مثليها )
( قوامة بالليل لكنها ** تستغفر الله برجليها ) + السريع +
____________________
1- البسيط
(1/110)
( وقوله في هذا المعنى أيضا
( مرفوعة تحت الدجا رجلاها ** كأنما يستغفران الله ) (1)
وقد أخذ هذا المعنى أبو محمد البصري فقال من أبيات
( ولا تتزوجن لهم ببنت ** فللسودان عندهم مراح )
( بأرجلهن يستغفرن دأبا ** فأرجلهن للدعوات راح ) + الوافر +
رجع إلى شعر ابن الرومي فمنه قوله
( طامن حشاك فلا محالة واقع ** بك ما تحب من الأمور وتكره )
( وإذا آتاك من الأمور مقدر ** وهربت منه فنحوه تتوجه ) + الكامل +
ومنه قوله يهجو
( غضبت وظلت من سفه وطيش ** تهزهز لحية في قدر رقش )
( فما افترقت لغضبتك الثريا ** ولا اجتمعت لذاك بنات نعش ) + الوافر +
ومنه قوله أيضا
( إن كنت من جهل حقي غير معتذر ** وكنت عن رد مدحي غير منقلب )
( فأعطني ثمن الطرس الذي كتبت ** فيه القصيدة أو كفارة الكذب ) + البسيط +
وقد تبعه الفاضل علي بن مليك الحموي وأخذ غالب ألفاظه فقال
( مدحتكم طمعا فيما أؤمله ** فلم أنل غير حظ الإثم والوصب )
( إن لم تكن صلة منكم لذي أدب ** فأجرة الخط أو كفارة الكذب ) + البسيط +
ولابن الرومي في مثله
( ردوا على صحائفا سودتها ** فيكم بلا حق ولا استحقاق ) + الكامل +
وقد سبق إلى هذا المعنى أبو تمام بقوله في المطلب الخزاعي
( أقول عدلا فيك فيما أرى ** إنك لا تقبل قول الكذب )
____________________
1- الرجز
(1/111)
( مدحتكم كذبا فجازيتني ** بخلا لقد أنصفت يا مطلب ) (1)
وقال ابن زيدون
( قل للوزير وقد قطعت بمدحه ** عمري فكان السجن منه ثوابي )
( لا تخش لائمتي بما قد جئته ** من ذاك في ولا توق عتابي )
( لم تخط في أمري الصواب موفقا ** هذا جزاء الشاعر الكذاب ) + الكامل +
ولابن مليك وقد مدح بعض رؤساء العصر بقصيدة فريدة فقوبلت بالحرمان
( قالوا قصيدك بالحرمان لم رجعت ** بالله بالله خبرنا عن السبب )
( فقلت ما قوبلت بالمنع عن خطأ ** إلا لكثرة ما فيها من الكذب ) + البسيط +
ومن شعر ابن الرومي يهجو إبراهيم بن المهدي وهو قريب من هذا المعنى
( رددت إلي شعري بعد مطل ** وقد دنست ملبسه الجديدا )
( وقلت امدح به من شئت بعدي ** ومن ذا يقبل المدح الرديدا )
( ولا سيما وقد أعلقت فيه ** مخازيك اللواتي لن تبيدا )
( وهل للحي في أثواب ميت ** لبوس بعد ما امتلأت صديدا ) + الوافر +
وقال أبو جعفر بن وضاح في أبي الوليد بن مالك وقد قعد عن بره
( أبلغ لديك المالكي رسالة ** مشحوذة مثل السنان اللهذم )
( ألبست أمداحي كأزهار الربا ** وجزيتني بقطيعة وتجهم )
( فاردد علي مدائحي موفورة ** هذا السوار لغير ذاك المعصم ) + الكامل +
ولطيف قول أبي المظفر الأبيوردي
( ومدائح تحكي الرياض أضعتها ** في باخل أعيت به الأحساب )
( فإذا تناشدها الرواة وابصروا الممدوح ** قالوا ساحر كذاب ) + الكامل +
____________________
1- السريع
(1/112)
وقول أبي بكر بن مجير الأندلسي
( وقائلة تقول وقد رأتني ** أقاسي الجدب في المرعى الخصيب )
( أما عطف الفقيه وأنت تشكو ** له شكوى العليل إلى الطبيب )
( وقد مر الثناء بمعطفيه ** كما مر النسيم على القضيب )
( فقلت علي شكر وامتداح ** وليس علي تقليب القلوب ) (1)
وما احسن قول بشار وكان قد مدح المهدي بقصيدة فحرمه الثواب فقيل له حرمك أمير المؤمنين فقال والله لقد مدحته بشعر لو مدح به الدهر ما خشي صرفه على أحد ولكنني كذبت في العمل فكذبت في الأمل
ولطيف قول ابن جكينا البغدادي
( تفضلوا واعذروه في مماطلتي ** أنا أحق وحق الله من عتبا )
( ولا تلوموه في وعد يردده ** في وقت مدحي له علمته الكذبا ) + البسيط +
ولابن جكينا المذكور يعتذر عن بخل الممدوحين لغرض عرض له
( قد بان لي عذر الكرام فصدهم ** عن أكثر الشعراء ليس بعار )
( لم يسأموا بذل النوال وإنما ** جمد الندى لبرودة الأشعار ) + الكامل +
وقال بعضهم في تمهيد عذر الهجائين
( تدانت طرق اليأس ** فطالت طرق النجح )
( وأجدى مكسب الغش ** فأكدى مكسب النصح )
____________________
1- الوافر
(1/113)
( وكان الإثم في الهجو ** فصار الإثم في المدح ) (1)
ومن هذا المعنى قول ابن جحظة
( تساوى الناس في فعل المساوي ** فما يستحسنون سوى القبيح )
( وصار الجود عندهم جنونا ** فما يستعقلون سوى الشحيح )
( وكانوا يهربون من الأهاجي ** فصاروا يهربون من المديح ) + الوافر +
ومنه قول الآخر
( كان الكرام وأبناء الكرام إذا ** تسامعوا بكريم مسه عدم )
( تسابقوا فيواسيه أخو كرم ** منهم ويرجع باقيهم وقد ندموا )
( واليوم لا شك قد صار الندى سفها ** وينكرون على المعطي إذا علموا ) + البسيط +
ومدح أبو الحسين بن الفضل أحد الوزراء بمراكش وكان أقرع فلم يثبه فقال
( أهديت مدحي للوزير الذي ** دعا به المجد فلم يسمع )
( فحامل الشعر إليه كمن ** يهدي به مشطا إلى أقرع ) + السريع +
وما أحذق قول أبي رياش في الوزير المهلبي وقد مدحه وتأخرت صلته وطال تردده إليه
( وقائلة قد مدحت الوزير ** وهو المؤمل والمستماح )
( فماذا أفادك ذاك المديح ** وهذا الغدو وهذا الرواح )
( فقلت لها ليس يدري امرؤ ** بأي الأمور يكون الصلاح )
____________________
1- الهزج
(1/114)
( علي التقلب والاضطراب ** بجهدي وليس علي النجاح ) (1)
وهو قريب من معنى أبيات ابن مجير السابقة قريبا
ولابن الرومي في ذم الخضاب وهو من معانيه المخترعة
( إذا رئم المرء الشباب وأخلقت ** شبيبته ظن السواد خضابا )
( وكيف يظن الشيخ إن خضابه ** يظن سوادا أو يخال شبابا ) + الطويل +
وقد ذكرت بهذين البيتين اعتذار عبدان المعروف بالحوزي عن الخضاب وهو احسن شيء رأيته في معناه
( في مشيبي شماتة لعداتي ** وهو ناع منغص لحياتي )
( ويعيب الخضاب قوم وفيه ** لي أنس إلى حضور
( لا ومن يعلم السرائر مني ** ما به رمت خلة الغاتيات )
( إنما رمت أن أغيب عني ** ما ترينيه كل يوم مراتي )
( هو ناع إلي نفسي ومن ذا ** سره أن يرى وجوه النعاة ) + الخفيف +
وعلى ذكر عبدان هذا فقد كان مع فضله وجزالة شعره خفيف الحال متكلف المعيشة قاعدا تحت قول أبي الشيص
( ليس المقل عن الزمان براض ** ) + الكامل +
____________________
1- المتقارب
(1/115)
وهو القائل
( قلت للدهر من فضولي قولا ** وحداني عليه طيب الأماني )
( أتراني بخلعة أنا أحبى ** ذات يوم وفاخر الحملان )
( قال هيهات أنت والنحس تربان ** وقد كنتما رضيعي لبان )
( لا تؤمل ركوب شيء سوى النعش ** ولا خلعة سوى الأكفان ** ) (1)
وله من أبيات
( يكلفني التصبر والتسلي ** وهل يسطاع إلا المستطاع )
( وقالوا قسمة نزلت بعدل ** فقلنا ليته جور مشاع ) + الوافر +
وكان أبو العلاء الأسدي عرضة لأهاجيه فمن ملحه فيه قوله
( أبا العلاء اسكت ولا تؤذنا ** بشين هذا النسب البارد )
( وتدعي من أسد نسبة ** لا تثبت الدعوى بلا شاهد )
( أقم لنا والدة أولا ** وأنت في حل من الوالد ) + السريع +
وقوله أيضا
( قابل هديت أبا العلاء نصيحتي ** بقبولها وبواجب الشكر )
( لا تهجون أسن منك فربما ** تهجو أباك وأنت لا تدري ) + الكامل +
وقوله
( أضحى الملوم أبا العلاء يسبني ** وأنا أبوه يعقني ويعادي )
( والمنتمون إليه من أولاده ** الله يعلم أنهم أولادي ) + الكامل +
ولنرجع إلى شعر ابن الرومي
قال في بغداد وقد غاب عنها في بعض أسفاره وهو معنى جيد
( بلد صحبت بها الشبيبة والصبا ** ولبست ثوب اللهو وهو جديد )
____________________
1- الخفيف
(1/116)
( فإذا تمثل في الضمير رأيته ** وعليه أغصان الشباب تميد )
ومحاسنه كثيرة وديوان شعره رتبه الصولي على الحروف وكان كثير التطير جدا وله فيه أخبار غريبة وكان أصحابه يعبثون به فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلا ويمتنع من التصرف سائر يومه وأرسل إليه بعض أصحابه يوما بغلام حسن الصورة اسمه حسن فطرق الباب عليه فقال من قال حسن فتفاءل به وخرج وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها درفتين كهيئة اللام ألف ورأى تحتها نوى تمر فتطير وقال هذا يشير بأن لا تمر ورجع ولم يذهب معه
وكان الأخفش علي بن سليمان قد تولع به فكان يقرع عليه الباب إذا أصبح فإذا قال من القارع قال مرة بن حنظلة ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها فيحبس نفسه في بيته ولا يخرج يومه أجمع فكتب إليه ينهاه ويتوعده بالهجاء فقال
( قثولوا لنحوينا أبي حسن ** إن حسامي متى ضربت مضى )
( وإن نبلى إذا هممت به ** أرمي غدا نصلها بجمر غضا )
( لا تحسبن الهجاء يخمده الرفع ** ولا خفض خافض خفضا ) (1)
ومنه
( عندي له السوط إن تلاءم في السير ** وعندي اللجام إن ركضا )
وكان الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد يخاف
____________________
1- المنسرح
(1/117)
هجوه وفلتات لسانه فدس عليه ابن فراس فأطعمه خشكنانجة مسمومة فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير إلى أين تذهب فقال إلى الموضع الذي بعثت بي إليه فقال له سلم على والدي فقال ليس طريقي على النار وخرج من مجلسه واتى منزله وأقام أياما ومات
وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم فزعم أنه غلط عليه في بعض العقاقير قال نفطويه النحوي رأيت ابن الرومي وهو يجود بنفسه فقلت ما حالك فأنشد
( غلط الطبيب علي غلطة مورد ** عجزت موارده عن الإصدار )
( والناس يلحون الطبيب وإنما ** غلط الطبيب إصابة الأقدار ) (1)
وقال أبو عثمان الناحم الشاعر دخلت على ابن الرومي أعوده فوجدته يجود بنفسه فلما قمت من عنده قال
( أبا عثمان أنت حميد قومك ** وجودك للعشيرة دون لؤمك )
( تزود من أخيك فلا أراه ** يراك ولا نراه بعد يومك ) + الوافر +
وكانت ولادته ببغداد بعد طلوع فجر يوم الأربعاء لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين وتوفي في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وقيل أربع وثمانين وقيل وسبعين ومائتين ودفن في مقبرة باب البستان رحمه الله
____________________
1- الكامل
(1/118)
19
( أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع )
البيت للفرزدق من قصيدة من الطويل يفتخر بها على جرير أولها
( منا الذي اختير الرجال سماحة ** وخيرا إذا هب الرياح الزعازع )
( ومنا الذي أعطى الرسول عطية ** أساري تميم والعيون دوامع )
( ومنا الذي يعطي المئين ويشتري الغوالي ويعلو فضله من يدافع ** )
( ومنا خطيب لا يعاب وحامل ** أغر إذا التفت عليه المجامع )
( ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب ** وعمرو ومنا حاجب والأقارع )
( ومنا غداة الروع فتيان غارة ** إذا امتنعت بعد الزجاج الأشاجع )
( ومنا الذي قاد الجياد على الوجى ** لنجران حتى صبحته الترائع ) (1)
وبعده البيت وهي طويلة
ومعنى البيت التعجيز لأنه قد تحقق عنده أن ليس للمخاطب مثل آبائه
____________________
1- الطويل
(1/119)
والشاهد فيه إيراد المسند إليه اسم إشارة للتعريض بغباوة السامع حتى كأنه لا يدرك غير المحسوس وذلك ظاهر في البيت
20
( هواي مع الركب اليمانين مصعد ** )
قائلة جعفر بن علبة من أبيات من الطويل قالها وهو مسجون وتمامه ( جنيب وجثماني بمكة موثق ** )
والأبيات
( عجبت لمسراها وأني تخلصت ** إلي وباب السجن بالقفل مغلق )
( ألمت فحيت ثم ولت فودعت ** فلما تولت كادت النفس تزهق )
( فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ** لشيء ولا أني من الموت أفرق )
( ولا أن قلبي يزدهيه وعيدكم ** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق )
( ولكن عرتني من هواك ضمانة ** كما كنت ألقي منك إذ أنا مطلق ) (1)
والركب ركبان الإبل اسم جمع أو جمع وهم العشرة فصاعدا وقد يكون
____________________
1- الطويل
(1/120)
للخيل ويجمع على أركب وركوب والأركوب بالضم أكثر من الركب والركبة محركة أقل ومصعد من أصعد أي ذهب في الأرض وأبعد وجنيب أي مجنوب مستتبع والجثمان الجسم والشخص والجسمان جماعة البدن والأعضاء من الناس وسائر الأنواع العظيمة الخلق وذكر الخليل انهما بمعنى واحد والموثق المقيد
والمعنى فيه هواي منضم إلى ركبان الإبل القاصدين إلى اليمن لكون الحبيب معهم وبدني مأسور مقيد بمكة
والشاهد فيه تعريف المسند إليه بإضافته إلى شيء من المعارف إذ هي أخصر طريق إلى إحضاره في ذهن السامع وهو في البيت قوله هواي أي مهويي وهو أخصر من قولهم الذي أهواه أو غير ذلك والاختصار مطلوب لضيق المقام وفرط السآمة لكونه في السجن وحبيبه على الرحيل
وجعفر بن علبة هو ابن ربيعة بن عبد يغوث بن معاوية بن صلاة بن المعقل بن كعب بن الحرث بن كعب ويكني أبا عارم وعارم ابن له وقد ذكره في شعره وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية شاعر مقل غزل فارس مذكور في فوارس قومه وكان أبوه علبة بن ربيعة شاعرا أيضا ومات جعفر هذا مقتولا في قصاص أختلف في سببه
فقيل إن جعفر بن علبة وعلى بن جعدب الحارثي القناني والنضر بن مضارب المعاوى خرجوا فأغاروا على بنى عقيل وإن بنى عقيل خرجوا في طلبهم وافترقوا عليهم في الطرق ووضعوا عليهم الأرصاد في المضايق فكانوا كلما
____________________
(1/121)
أفلتوا من عصبة لقيتهم أخرى حتى انتهوا إلى بلاد بني نهد فرجعت عنهم بنو عقيل وقد كانوا قتلوا فيهم فاستعدت عليهم بنو عقيل السرى بن عبد الله الهاشمي عامل مكة لأبي جعفر المنصور فأرسل إلى أبيه علبة بن ربيعة فأخذه بهم وحبسه حتى دفعهم وسائر من كان معهم إليه فأما النضر فاستقيد منه بجراحة وأما علي بن جعدب فأفلت من السجن وأما جعفر بن علبة فأقامت عليه بنو عقيل قسامة أنه قتل صاحبهم فقتل به
وذكر ابن الكلبي أن الذي أثار الحرب بين جعفر بن علبة وبني عقيل أن إياس بن يزيد الحارثي وإسماعيل بن أحمد العقيلي اجتمعا عند أمة لشعيب ابن صامت الحارثي وهي في إبل لمولاها في موضع يقال له صمعر من بلاد بلحرث فتحدثا عندها فمالت إلى العقيلي فدخلتهما مؤاسفة حتى تخانقا بالعمائم فانقطعت عمامة الحارثي وخنقته العقيلي حتى صرعه ثم تفرقا وجاء العقيليون إلى الحارثيين فحكموهم فوهبوا لهم ثم بلغهم بيت قيل وهو
( ألم تسأل العبد الزيادي ما رأى ** بصمعر والعبد الزيادي قائم ) (1)
فغضب إياس من ذلك فلقى هو وابن عمه النضر بن مضارب ذلك العقيلي وهو إسماعيل بن أحمد فشجه شجتين وخنقه فصار الحارثيون إلى العقيليين فحكموهم فوهبوا لهم ثم لقى العقيليون جعفر بن علبة الحارثي فأخذوه فضربوه وخنقوه وربطوه وقادوه طويلا ثم أطلقوه فبلغ ذلك إياس بن زيد فقال يتوجع لجعفر
____________________
1- الطويل
(1/122)
( أبا عارم كيف اغتررت ولم تكن ** تغر إذا ما كان أمر تحاذره )
( فلا صلح حتى يخفق السيف خفقة ** بكف فتى جرت عليه جرائره ) (1)
ثم إن جعفر بن علبة تبعهم هو وابن أخيه جعدب والنضر بن مضارب وإياس بن يزيد فلقوا المهدى بن عاصم وكعب بن محمد بخبرة وهو موضع بالقاعة فضربوهما ضربا مبرحا ثم انصرفوا فضلوا عن الطريق فوجدوا العقيليين وهم تسعة نفر فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل جعفر بن علبة رجلا من عقيل يقال له خشينة فاستعدى العقيليون إبراهيم بن هشام المخزومي عامل مكة فرع الحارثيين وهم أربعة من نجران حتى حبسهم بمكة ثم أفلت منهم رجل فخرج هاربا فأحضرت عقيل قسامة حلفوا أن جعفرا قتل صاحبهم فأقاده إبراهيم بن هشام وقال إياس وهو محبوس الأبيات السابقة وقال لأخيه يحرضه
( قل لأبي عون إذا ما لقيته ** ومن دونه عرض الفلاة يحول )
( تعلم وعد الشك أني تشفني ** ثلاثة أحراس معا وكبول )
( إذا رمت مشيا أو تبوأت مضجعا ** تبيت لها فوق الكعاب صليل )
( ولو بك كانت لا بتعثت مطيتى ** يعود الحفا أخفافها ويجول )
( إلى العدل حتى يصدر الأمر مصدرا ** وتبرأ منكم قالة وعدول ) (1)
وفي رواية أن جعفر بن علبة كان يزور نساء من عقيل بن كعب وكانوا
____________________
1- الطويل
(1/123)
متجاورين هم وبنو الحرث بن كعب فأخذته عقيل فكشفوا دبر قميصه وربطوه إلى جمته وضربوه بالسياط وكتفوه ثم أقبلوا به وأدبروا على النسوة اللاتي كان يتحدث إليهن على تلك السبيل ليفظوهن ويفضحوه عندهن فقال لهم يا قوم لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثله وأنا أحلف لكم بما يثلج صدوركم أن لا أزور بيوتكم أبدا ولا ألجها فلم يقبلوا منه فقال لهم فإن لم تفعلوا ذلك فحسبكم ما قد مضى ومنوا على بالكف عني فاني أعده نعمة لكم ويدا لا أكفرها أبدا أو فاقتلوني وأريحوني فأكون رجلا آذى قومه في دارهم فقتلوه فلم يفعلوا وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء ويضربونه ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه ثم خلوا سبيله فلم تمض إلا أيام قلائل حتى عاد جعفر ومعه صاحبان له فدفع راحلته حتى أولجها البيوت ثم مضى فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو وصاحباه وكانت عقيل أقفى خلق الله للأثر فتبعوه حتى انتهوا إليه والى صاحبيه وكان العقيليون مغترين ليس مع أحد منهم عصا ولا سلاح فوثب عليهم جعفر وصاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلا وجرحوا آخر وافترقوا فاستعدت عليهم عقيل السرى بن عبد الله الهاشمي عامل المنصور على مكة فأحضرهم وحبسهم وأقاد من الجارح ودافع عن جعفر بن علبة وكان يحب أن يدرا عنه الحد لخؤلة السفاح في بنى الحرث ولأن أخت جعفر كانت تحت السرى بن عبد الله وكانت حظية عنده إلى أن أقاموا عنده قسامه أنه قتل صاحبهم وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر المنصور والتظلم إليه فحينئذ دعا بجعفر فأقاد منه وأفلت على بن جعدب من السجن فهرب فلما أخرج جعفر للقود قال
____________________
(1/124)
له غلام من قومه أسقيك شربة من ماء بارد فقال اسكت لا أم لك إني إذا لمهياف وانقطع شسع نعله فوقف فأصلحه فقال له رجل أما يشغلك عن هذا ما أنت فيه فقال
( أشد قبال نعلي أن يراني ** عدوي للحوادث مستكينا ) (1)
وكان الذي ضرب عنق جعفر بن علبة نخبة بن كليب أخو المجنون وهو أحد بني عامر بن عقيل فقال في ذلك
( شفى النفس ما قال ابن علبة جعفر ** وقولي له اصبر ليس ينفعك الصبر )
( هوى رأسه من حيث كان كما هوى ** عقاب تدلى طالبا خانه الوكر )
( أبا عارم فينا عرام وشدة ** وبسطة أيمان سواعدها شعر )
( همو ضربوا بالسيف هامة جعفر ** ولم ينجه بر عريض ولا بحر )
( وقدناه قود البكر قسرا وعنوة ** إلى القبر حتى ضم أثوابه القبر ) + الطويل +
وقال علبة يرثي ابنه جعفرا
( لممرك إني يوم أسلمت جعفرا ** وأصحابه للموت لما أقاتل )
( لمجتنب حب المنايا وإنما ** يهيج المنايا كل حق وباطل )
( فراح بهم قوم ولا قوم عندهم ** مغللة أيديهم في السلاسل )
( ورب أخ لي غاب لو كان شاهدا ** رآه التباليون لي غير خاذل ) + الطويل +
وقال عليه أيضا لامرأته أم جعفر قبل أن يقتل جعفر
( لعمرك إن الليل يا أم جعفر ** علي وإن عللتني لطويل )
____________________
1- الوافر
(1/125)
( أحاذر أخبارا من القوم قد دنت ** ورجعة أنقاض لهن دليل ) (1)
فأجابته امرأته فقالت
( أبا جعفر سلمت للقوم جعفرا ** فمت كمدا أو عش وأنت ذليل )
وذكر شداد بن إبراهيم أن بنتا ليحيى بن زياد الحارثي حضرت الموسم في ذلك العام لما قتل فكفنته واستجادت له الكفن وبكته وجميع من كان معها من جواريها وجعلن يندبنه بأبياته التي قالها قبل قتله وهي
( أحقا عباد الله أن لست رائيا ** صحارى والرياح بنجد الذواريا )
( ولا زائرا شم العرانين انتمي ** إلى عامر يحللن رملا معاليا )
( إذا ما أتيت الحارثيات فانعني ** لهن وخبرهن أن تلاقيا )
( وقود قلوصي بينهن فإنها ** ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا )
( أوصيكم إن مت يوما بعارم ** ليغني شيئا أو يكون مكانيا )
( ولم أترك لي ريبة غير أنني ** وددت معاذا كان فيمن أتانيا ) (1)
أراد وددت أن معاذا كان أتاني معهم فقتلته
فقال معاذ يجيبه عنها بعد قتله ويخاطب أباه ويعرض له أنه قتل ظلما لأنهم أقاموا قسامة كاذبة عليه حتى قتل ولم يكونوا عرفوا القاتل من الثلاثة بعينه إلا أن غيظهم على جعفر حملهم على أن ادعوا القتل عليه
( أبا جعفر سلم بنجران واحتسب ** أبا عارم والمسنمات العواليا )
____________________
1- الطويل
(1/126)
( وقود قلوصا أتلف السيف ربها ** بغير دم في القوم إلا تماربا )
( إذا ذكرته معصر حارثية ** جرى دمع عينيها على الخد صافيا )
( فلا تحسبن الدين يا علب منسأ ** ولا الثائر الحران ينسى التقاضيا )
( سنقتل منكم بالقتيل ثلاثة ** ونغلي وإن كانت دمانا غواليا )
( تمنيت أن تلقى معاذا سفاهة ** ستلقى معاذا والقضيب اليمانيا ) (1)
وعن أبي عبيدة قال لما قتل جعفر بن علبة قام نساء الحي يبكين عليه وقام أبوه إلى كل ناقة وشاة فنحر أولادها وألقاها بين أيديها وقال ابكين معنا على جعفر فما زالت النوق ترغو والشياه تثغو والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن فما رؤى يوم أوجع وأحرق مأتما في العرب من يومئذ
21
( له حاجب عن كل أمر يشينه ** وليس له عن طالب العرف حاجب )
البيت لابن أبي السمط من أبيات من الطويل منها
( فتى لا يبالي المدلجون بنوره ** إلى بابه أن لا تضيء الكواكب )
( يصم عن الفحشاء حتى كأنه ** إذا ذكرت في مجلس القوم غائب ) (1)
والشاهد فيه تنكير الحاجب الأول للتعظيم والثاني للتحقير أي ليس له حاجب حقير فكيف بالعظيم ومثله قول الشاعر
( ولله مني جانب لا أضيعه ** وللهو مني والخلاعة جاجب ) (1)
وابن أبي السمط
____________________
1- الطويل
(1/127)
22
( الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا ** )
البيت لأوس بن حجر من قصيدة من المنسرح قالها في فضالة بن كلدة يمدحه بها في حياته ويرثيه بعد وفاته أولها
( أيتها النفس أجملي جزعا ** إن الذي تحذرين قد وقعا )
( إن الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا ** ) (1)
وبعد البيت وبعده
( المخلف المتلف المرزأ لم ** يمنع بضعف ولم يمت طبعا )
( والحافظ الناس في تحوط إذا ** لم يرسلوا تحت عائذ ربعا )
( وعزت الشمأل الرياح وقد ** أمسى كميع القناة فلتفا ) (1)
الألمعي واليلمعي الذكي المتوقد ذكاء وسئل الأصمعي عن معنى الألمعي فأنشد
____________________
1- المنسرح
(1/128)
البيت ولم يزد عليه وهو إما مرفوع خبر إن أو منصوب صفة لاسمها أو بتقدير أعني وخبرها في قوله بعد أبيات
( أودى فما تنفع الإشاحة من ** أمر لمن قد يحاول البدعا )
والشاهد فيه كون جملة قوله الذي يظن بك الظن وصفا كاشفا عن معنى الألمعي لا كونه وصفا للمسند إليه
وبيت أوس هذا تداول معناه الشعراء قال أبو تمام
( ولذاك قيل من الظنون جبلة ** علم وفي بعض القلوب عيون ) (1)
وقال المتنبي
( ماضي الجنان يريه الحزم قبل غد ** بقلبه ما ترى عيناه بعد غد ) + البسيط +
وقال أيضا
( ذكي تظنيه طليعة عينه ** يرى قلبه في يومه ما يرى غدا ) + الطويل +
وقال أيضا
( ويعرف الأمر قبل موقعه ** فماله بعد فغله ندم ) + المنسرح + وقال أيضا
( مستنبط من علمه ما في غد ** فكأن ما سيكون فيه دونا ) (1)
وهذا المعنى يقرب منه قول أبي نواس
( ما تنطوي عنه القلوب بنجوة ** إلا تحدثه به العينان ) (1)
( وقول علي بن الخليل
( كلمني لحظك عن كل ما ** أضمره قلبك من غدر ) + السريع +
وقول الخليع
____________________
1- الكامل
(1/129)
( أما تقرأ في عيني عنوان الذي عندي ** ) (1)
وقد سبق إليه المتقدمون قال الثقفي
( تخبرني العينان ما القلب كاتم ** ولا حب بالبغضاء والنظر الشزر ) + الطويل +
وقال يزيد بن الحكم الثقفي
( تكاشرني كرها كأنك ناصح ** وعينك تبدي أن قلبك لي دوي ) + الطويل +
وما احسن قوله بعده
( عدوي يخشى صولتي إن لقيته ** وأنت عدوي ليس هذا بمستوى )
( تصافح من لاقيته ذا عداوة ** صفاحا وعني بين عينيك منزوي )
وقال المتنبي في معناه
( تخفي العداوة وهي غير خفية ** نظر العدو بما أسر يبوح ) + الكامل +
وقال غيره
( عيناك قد دلتا عيني منك على ** أشياء لولا هما ما كنت أدريها )
( والعين تعلم من عيني محدثها ** إن كان من حزبها أو من أعاديها ) + البسيط +
ولمؤلفه من أبيات
( ويظهر ودا تشهد العين زوره ** ويقضى بذاك القلب والقلب اخبر ) + الطويل +
وله في معناه
( من كان في لقياه لا يتودد ** فأنا الذي في وده أتردد )
( فالقلب عما قد أجن ضميره ** لصديقه عند التلاقي يرشد )
( وإذا خفى حال وأشكل أمره ** فالعين تخبر بالخفي وتشهد ) + الكامل +
____________________
1- الهزج
(1/130)
وما احسن قول أبي نصر بن نباته
( ألا إن عين المرء عنوان قلبه ** تخبر عن أسراره شاء أم أبى ) (1)
وبديع قول عمارة بن عقيل
( تبدي لك العين ما في نفس صاحبها ** من الشناءة والود الذي كانا )
( إن البغيض له عين يصد بها ** لا يستطيع لما في القلب كتمانا )
( وعين ذي الود لا تنفك مقبلة ** ترى لها محجرا بشا وإنسانا )
( والعين تنطق والأفواه صامتة ** حتى ترى من ضمير القلب تبيانا ) + البسيط +
وقول الآخر
( تريك أعينهم ما في صدورهم ** إن الصدور يؤدي غيبها البصر ) + البسيط +
وقول المعتمد بن عباد صاحب الأندلس
( تميز البغض في الألفاظ إن نطقوا ** وتعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا ) + البسيط +
وقول الآخر
( ستبدي لك العينان في اللحظ ما الذي ** يجن ضمير المرء والعين تصدق ) (1)
وقول محمد بن أيدمر صاحب كتاب الدر الفريد
( صديقك من عدوك ليس يخفى ** وعنوان الدعاوى في العيون )
( تخبرك العيون بما أجنت ** ضمائرها من السر المصون ) + الوافر +
وقول محمد بن شبل من قصيدة
( فالعين تقرأ من لحاظ جليسها ** ما خط منه في ضمير الخاطر )
( ولكم قطوب عن وداد خالص ** وتبسم عن غل صدر واغر ) + الكامل +
____________________
1- الطويل
(1/131)
وما احسن قوله فيها
( ما إن أريد بصدق قولي شاهدا ** حسبي بسرك عالما بسرائري )
( وإذا تعارفت القلوب تألفت ** ويصد منها نافر عن نافر )
( فتوق من يأباه قلبك إنه ** سيبين باطنه بأمر ظاهر )
وقول العيني
( كأنك مطلع في القلوب ** إذا ما تناجت بأسرارها )
( فكرات طرفك مرتدة ** إليك بغامض أخبارها ) (1)
ومثله قول المتنبي
( كأنك ناظر في كل قلب ** فما يخفى عليك محل غاش ) + الوافر +
وقد قال مضرس بن ربعي في عكس ذلك
( كأن على ذي الظن عينا بصيرة ** بمنطقه أو منظر هو ناظره )
( يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ** من الخوف لا تخفى عليهم سرائره ) + الطويل +
وبديع قول المتنبي في معنى ما سبق
( ووكل الظن بالأسرار فانكشفت ** له ضمائر أهل السهل والجبل ) + البسيط +
وهذا المعنى هو الأول وإنما فرق بينهما أن ذلك في العواقب وهذا في الأسرار والضمائر والمراد منهما صحة الحدس وجودة الظن
وبديع قول الآخر في معناه
( كأنما رأية في كل مشكلة ** عين على كل ما يخفى ويستتر ) + البسيط +
وأوس بن حجر هذا هو ابن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير
____________________
1- المتقارب
(1/132)
ينتهي نسبه لتميم بن مرة مع اختلاف فيه وكان من شعراء الجاهلية وفحولها وعن أبي عمرو قال كان أوس بن حجر شاعر مضر حتى أسقطه النابغة وزهير فهو شاعر بني تميم في الجاهلية غير مدافع وقال الأصمعي أوس أشعر من زهير ولكن النابغة طأطأ منه قال أوس
( ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ** معضلة منا بجميع عرمرم ) (1) وقال النابغة
( جيش يظل به الفضاء معضلا ** يدع الإكام كأنهن صحارى ) + الكامل +
فجاء بمعناه وزاد وقالت الشعراء في نفار الناقة وفزعها فأكثرت ولم تعد ذكر الهر المقرون بها وابن آوى وقال أوس
( كأن هرا جنيبا عند غرضتها ** والتف ديك برجليها وخنزير ) (1)
قالوا وجمع ثلاثة ألفاظ أعجمية في بيت واحد فقال
( وفارقت وهي لم تجرب وباع لها ** من الفصافص بالنمي سفسير )
الفصافص الرطبة وهي بالفارسية أسبست والنمي الفلوس بالرومية والسفسير السمسار
وعن أبي عبيدة قال كان أوس بن حجر غزلا مغرما بالنساء فخرج في سفر
____________________
1- الطويل
(1/133)
حتى إذا كان بأرض بني أسد بين شرج وناظرة فبينا هو يسير ظلاما إذ جالت به ناقته فصرعته فاندقت فخذه فبات مكانه حتى إذا أصبح غدت جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض والناس في ربيع فبينما هن كذلك إذ أبصرن ناقته تجول وقد علق زمامها بشجرة وأبصرنه ملقى ففزعن منه وهربن فدعا بجارية منهن فقال لها من أنت قالت أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة وكانت أصغرهن فأعطاها حجرا وقال لها اذهبي إلى أبيك فقولي إن ابن هذا يقرئك السلام فأتته فأخبرته فقال يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل ثم احتمل هو وأهله حتى بنى عليه بيتا حيث صرع وقال لا أتحول أبدا حتى تبرأ وكانت حليمة تقوم عليه حتى استقل فقال أوس في ذلك
( خذلت على ليلة ساهرة ** بصحراء شرج إلى ناظره )
( تزاد ليالي من طولها ** فليست بطلق ولا شاكره )
( أنوء برجل بها وهيها ** وأعيت بها أختها العاثره ) (1)
وقال في حليمة
( لعمرك ما ملت ثواء ثويها ** حليمة إذ ألقت فراشي ومقعدي )
( ولكن تلقت باليدين ضمانتي ** ومل بشرج مالقبائل عودي )
( ولو تلهها تلك التكاليف إنها ** كما شئت من أكرومة وتخرد )
( سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ** وقصرك أن يثنى عليك وتحمدي ) + الطويل +
ثم مات فضالة بن كلدة وكان يكنى أبا دليجة فقال فيه أوس يرثيه
( يا عين لا بد من سكب وتهمال ** على فضالة جل الرزء والعالي ) + البسيط +
____________________
1- المتقارب
(1/134)
وهي طويلة وله فيه عدة قصائد ومما يستجاد من شعره قوله
( وإني رأيت الناس إلا أقلهم ** خفاف العهود يكثرون التنقلا )
( بنى أم ذي المال الكثير يرونه ** وإن كان عبدا سيد الأمر جحفلا )
( وهم لمقل المال أولاد علة ** وإن كان محضا في العمومة مخولا )
( وليس أخوك الدائم العهد بالذي ** يسوءك إن ولى ويرضيك مقبلا )
( ولكن أخوك الناء ما كنت آمنا ** وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا ) (1)
ويستجاد له من هذه القصيدة قوله في السيف
( كأن مدب النمل تتبع الربا ** ومدرج ذر خاف بردا فأسبلا )
23
( والذي حارت البرية فيه ** حيوان مستحدث من جماد )
البيت لأبي العلاء المعري من قصيدة من الخفيف يرثي بها فقيها حنفيا أولها
( غير مجد في ملتي واعتقادي ** نوح باك ولا ترنم شادي )
( وشبية صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نادي ** )
( أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد ** )
( صاح هدي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد ** )
( خفف الوطء ما أظن أديم الأرض ** إلا من هذه الأجساد )
( وقبيح بنا وإن قدم العهد هوان الآباء والأجداد )
( سر إن اسطعت في الهواء رويدا ** لا اختيالا على رفات العباد )
( رب لحد قد صار لحدا مرارا ** ضاحك من تزاحم الأضداد )
( ودفين على بقايا دفين ** في طويل الأزمان والآباد )
( فاسأل الفرقدين عمن أحسا ** من قبيل وآنسا من بلاد )
____________________
1- الطويل
(1/135)
( كم أقاما على زوال نهار ** وأنارا لمدلج في سواد )
( تعب كلها الحياة وما أعجب إلا من راغب في ازدياد ** )
( إن حزنا في ساعة الموت أضعاف ** سرور في ساعة الميلاد )
( خلق الناس للبقاء فضلت ** أمة يحسبونهم للنفاد )
( إنما ينقلون من دار أعمال ** إلى دار شقوة أو رشاد ) (1)
وهي طويلة ومنها
( بان أمر الإله واختلف الناس ** فداع إلى ضلال وهادي )
وبعده البيت وبعده
( فاللبيب اللبيب من ليس يغتر ** بكون مصيره للفساد )
يقول تحيرت البرية في المعاد الجسماني والنشور الذي ليس بنفساني وفي أن أبدان الأموات كيف تحيا من الرفات وبعضهم يقول به وبعضهم ينكره وبهذا تبين أن المراد بالحيوان المستحدث من الجماد ليس آدم عليه السلام ولا ناقة صالح ولا ثعبان موسى عليهما السلام إذ لا يناسب السياق وقال الإمام أبو محمد بن السيد البطليوسي حين شرح سقط الزند في هذا البيت يريد أن الجسم موات بطبعه وإنما يصير حساسا متحركا باتصال النفس به فإذا فارقته عند الموت عاد إلى طبعه فالحياة للنفس جوهرية وللجسم عرضية فلذلك يعدم الجسم الحياة إذا فارقته النفس ولا تعدمها النفس
والشاهد فيه تقديم المسند إليه على المسند لتمكن الخبر في ذهن السامع لان في المبتدإ تشويقا إليه
وأبو العلاء هو أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي من أهل
____________________
1- الخفيف
(1/136)
معرة النعمان العالم المشهور صاحب التصانيف المشهورة ولد يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة بالمعرة وجدر في السنة الثالثة من عمره فعمى منه وكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر لا أعقل غير ذلك
وعن ابن غريب الأيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فوجده قاعدا على سجادة لبد وهو شيخ فان قال فدعا لي ومسح على رأسي قال وكأني أنظر إليه الساعة والى عينيه أحداهما نادرة والأخرى غائرة جدا وهو مجدور الوجه نحيف الجسم
وعن المصيصي الشاعر قال لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الهزل والجد يكنى أبا العلاء وسمعته يقول أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر
وهو من بيت علم وفضل ورياسة له جماعة من أقاربه قضاة وعلماء وشعراء قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة ورحل إلى بغداد ثم رجع إلى المعرة وكان رحيله إليها سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وأقام بها سنة وسبعة أشهر ودخل على المرتضي أبي القاسم فعثر برجل فقال من هذا الكلب فقال أبو العلاء الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما وسمعه المرتضى وأدناه واختبره فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالا كثيرا وله معه نكتة تأتي في التلميح إن شاء الله تعالى
____________________
(1/137)
ولما رجع المعري إلى بلده لزم بيته وسمى نفسه رهين المحبسين يعني حبس نفسه في منزله وحبس بصره بالعمى
وكان عجيبا في الذكاء المفرط والحافظة ذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء يقرأ شيئا من تصانيفه قال وكنت قد أقمت عنده سنين ولم أر أحدا من أهل بلدي فدخل المسجد بعض جيراننا للصلاة فرأيته فعرفته وتغيرت من الفرح فقال لي أبو العلاء أي شيء أصابك فحكيت له أني رأيت جارا لي بعد أن لم ألق أحدا من أهل بلدي سنين فقال لي قم فكلمه فقلت حتى أتمم النسق فقال لي قم وأنا انتظر لك فقمت وكلمته بلسان الأذربيجانية شيئا كثيرا إلى أن سألت عن كل ما أردت فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي أي لسان هذا قلت هذا لسان أذربيجان فقال لي ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتما ثم أعاد علي اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه بل جميع ما قلت وما قال جاري فتعجبت غاية العجب من كونه حفظ ما لم يفهمه
وللناس حكايات يضعونها في عجائب ذكائه وهي مشهورة وغالبها مستحيل وكان قد رحل أولا إلى طرابلس وكان بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم واجتاز باللاذقية ونزل ديرا كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة فسمع كلامه فحصل له شكوك وكان اطلاعه على اللغة وشواهدها أمرا باهرا
والناس مختلفون في أمره والأكثرون على إلحاده وإكفاره وأورد له الرازي في الأربعين قوله
( قلتم لنا صانع قديم ** قلنا صدقتم كذا تقول )
( ثم زعمتم بلا مكان ** ولا زمان إلا فقولوا )
____________________
(1/138)
( هذا كلام له خبئ ** معناه ليست لنا عقول ) (1)
ثم قال الرازي وقد هذى هذا في شعره وقال ياقوت كان متهما في دينه يرى رأى البراهمة لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحما ولا يؤمن بالرسل ولا البعث ولا النشور انتهى
ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا ولا ما تولد من الحيوان رحمة له وخوفا من إزهاق النفوس والى ذلك أشار علي بن همام حين رثاه فقال من قصيدة طويلة
( إن كنت لم ترق الدماء زهادة ** فلقد أرقت اليوم من عيني دما )
( سيرت ذكرك في البلاد كأنه ** مسك فسامعة يضمخ أو فما )
( وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة ** ذكراك أوجب فدية من أحرما ) + الكامل +
ولقيه رجل فقال له لم لم تأكل اللحم فقال أرحم الحيوان قال فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان فإن كان كذلك خالق فما أنت بأرأف منه وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن فسكت
وقال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني قال لي المعري لم أهج أحدا قط قلت له صدقت إلا الأنبياء عليهم السلام فتغير لونه أو قال وجهه
ودخل عليه القاضي المنازي فذكر له ما يسمعه عن الناس من الطعن عليه ثم قال مالي وللناس وقد تركت دنياهم فقال له القاضي وأخراهم فقال
____________________
1- من مخلع البسيط
(1/139)
يا قاضي وأخراهم وجعل يكررها
وعن أبي زكريا الرازي قال قال لي المعري ما الذي تعتقد فقلت في نفسي اليوم يتبين لي اعتقاده فقلت له ما أنا إلا شاك فقال لي وهكذا شيخك
وحكى عن الشيخ كمال الدين الزملكاني أنه قال في حقه هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت
وعن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد كان يقول في حقه هو في حيرة
قال الصلاح الصفدي وهذا أحسن ما يقال في أمره لأنه قال
( خلق الناس للبقاء فضلت ** أمة يحسبونهم للنفاد )
( إنما ينقلون من دار أعمال ** إلى دار شقوة أو رشاد ) (1)
ثم قال
( ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ** وحق لسكان البسيطة أن يبكوا )
( تحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يعاد لناسبك ) + الطويل +
وهذه الأشياء كثيرة في كلامه وهو تناقض منه والى الله ترجع الأمور
قال السلفي ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الحافظ الخطيب حامد ابن بختيار النميري يحدث بالسمسمانية مدينة بالخابور قال سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن أحمد السروجي يقول سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول دخلت على أبي العلاء التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد إليه واقرأ عليه فسمعته ينشد من قيلة
( كم بودرت غادة كعاب ** وعمرت أمها العجوز )
____________________
1- الخفيف
(1/140)
( أحرزها الوالدان خوفا ** والقبر حرز لها حريز )
( يجوز أن تبطئ المنايا ** والخلد في الدهر لا يجوز ) (1)
ثم تأوه مرات وتلا ^ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ^ ثم صاح وبكى بكاء شديدا وطرح وجهه وقال سبحان من تكلم بهذا في القدم سبحان من هذا كلامه فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد علي وقال متى أتيت فقلت الساعة ثم قلت يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ فقال لا يا أبا الفتح بل أنشدت شيئا من كلام المخلوق وتلوت شيئا من كلام الخالق فلحقني ما ترى فتحققت صحة دينه وقوة يقينه
وقال السلفي أيضا سمعت أبا المكارم بأبهر وكان من أفراد الزمان ثقة مالكي المذهب قال لما توفي أبو العلاء اجتمع على قبره ثمانون شاعرا وختم عند قبره في أسبوع واحد مائتا ختمة
وعن أبي اليسر المعري أن أبا العلاء كان يرمي من أهل الحسد له بالتعطيل ويعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة قصدا لهلاكه وإيثارا لإتلاف نفسه وفي ذلك يقول
( حاول إهواني قوم فما ** واجهتهم إلا بأهوان )
( يحرشوني بسعاياتهم ** فغيروا نية إخواني )
( لو استطاعوا الوشوا بي إلى المريخ والشهب وكيوان ** ) + السريع +
قال الصلاح الصفدي أما الموضوع على لسانه فلعله لا يخفى على ذي لب وأما الأشياء التي دونها وقالها في لزوم ما يلزم وفي استغفر واستغفري فما فيه حيلة وهو كثير من القول بالتعطيل واستخفافه بالنبوات ويحتمل أنه أرعوى
____________________
1- من مخلع البسيط
(1/141)
وتاب بعد ذلك كله وكان أكله العدس وحلاوته التين ولباسه القطن وفراشه اللباد وحصيرة بردية وتصانيفه كثيرة جدا وشعره كثير إلى الغاية وأحسنه سقط الزند
ومن نظمه في الغزل
( يا ظبية علقتني في تصيدها ** أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي )
( رعيت قلبي وما راعيت حرمته ** فلم رعيت وما راعيت مرعاك )
( أتحرقين فؤادا قد حللت به ** بنار حبك عمدا وهو مأواك )
( أسكنته حيث لم يسكن به سكن ** وليس يحسن أن تسخى بسكناك )
( ما بال داعي غرامي حين يأمرني ** بأن أكابد حر الوجد ينهاك )
( وكم غدا القلب ذا يأس وذا طمع ** يرجوك أن ترحميه وهو يخشاك ) (1)
ومن شعره قوله
( إلى الله أشكو أنني كل ليلة ** إذا نمت لم أعدم خواطر أوهام )
( فإن كان شرا فهو لا شك واقع ** وإن كان خيرا فهو أضغاث أحلام ) + الطويل +
ومنه قوله
( اضرب وليدك تأديبا على رشد ** ولا تقل هو طفل غير محتلم )
( فرب شق برأس جر منفعة ** وقس على شق رأس السهم والقلم ) (1)
ومن شعره وقد أهدى كتابا من تصانيفه
( قبول الهدايا سنة مستحبة ** إذا هي لم تسلك طريق تحابي )
( وما أنا إلا قطرة من سحابة ** ولو أنني صنفت ألف كتاب ) + الطويل +
ومن شعره المؤاخذ به قوله
( إذا ما ذكرنا آدما وفعاله ** وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا )
____________________
1- البسيط
(1/142)
( علمنا بأن الخلق من نسل فاجر ** وأن جميع الخلق من عنصر الزنى ) (1)
فأجابه القاضي أبو محمد الحسن اليمني بقوله
( لعمري أما فيك فالقول صادق ** وتكذب في الباقين من شط أودنا )
( كذلك إقرار الفتى لازم له ** وفي غيره لغو كذا جاء شرعنا ) (1)
ومنه قوله
( يد بخمس مئين عسجد وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار )
( تحكم ما لنا إلا السكوت له ** وإن نعوذ بمولانا من النار ) + البسيط +
فأجابه علم الدين السخاوي بقوله
( عز الأمانة أغلاها وأرخصها ** ذل الخيانة فافهم حكمة الباري ) + البسيط +
ومنه قوله
( هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ** ومجوس حارت واليهود مضللة )
( اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ** دين وآخر دين لا عقل له ) + الكامل +
فقال ذو الفضائل الاخسيكتي رادا عليه
( الدين آخذه وتاركه ** لم يخف رشدهما وغيهما )
( اثنان أهل الأرض قلت فقل ** يا شيخ سوء أنت أيهما ) + الكامل +
ومنه أيضا قوله
( دين وكفر وانباء تقال وفرقان ** ينص وتوراة وإنجيل )
( في كل جيل أباطيل يدان بها ** فهل تفرد يوما بالهدى جيل ) + البسيط +
فأجابه شيخ الإسلام الحافظ الذهبي بقوله
( نعم أبو القاسم الهادي وأمته ** فزادك الله ذلا يا دجيجيل ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(1/143)
ومنه أيضا قوله وهو الطامة الكبرى
( قران المشتري زحلا يرجي ** لإيقاظ النواظر من كراها )
( تقضى الناس حيلا بعد جيل ** وخلقت النجوم كما تراها )
( تقدم صاحب التوراة موسى ** وأوقع في الخسار من اقتراها )
( فقال رجاله وحي أتاه ** وقال الآخرون بل افتراها )
( وما حجي إلى أحجار بيت ** كؤوس الحمر تشرب في ذراها )
( إذا رجع الحكيم إلى حجاه ** تهاون بالشرائع وازدراها ) (1)
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم إني أستغفرك من نظير هذه الأباطيل التي تشمئز منها القلوب وتنفر عنها الخواطر وأسألك التوفيق لي ولسائر المسلمين
ومن جيد شعره قوله
( رددت إلى مليك الخلق أمري ** فلم أسأل متى يقع الكسوف )
) وكم سلم الجهول من المنايا ** وعوجل بالحمام الفيلسوف ) (1)
وهو أخذه من قول أبي الطيب المتنبي
( يموت راعي الضأن في جهله ** ميتة جالينوس في طبه )
( وربما زاد على عمره ** وزاد في الأمن على سربه ) + السريع +
وقد تلاعب الشعراء بهجائه وممن هجاه أبو جعفر البجائي الزوزني بقصيدة اولها
( كلب عوى بمعرة النعمان ** لما خلا عن ربقه الإيمان )
( أمعرة النعمان ما أنجبت إذ ** أخرجت منك معرة العميان ) + الكامل +
وقصته مع وزير محمود بن صالح صاحب حلب شهيرة فلا حاجة إلى التطويل بذكرها
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني شهر ربيع الأول وقيل ثالث عشرة سنة تسع وأربعين وأربعمائة
قال ابن غرس النعمة وأذكر عند ورود الخبر بموته وقد تذاكرنا إلحاده ومعنا غلام يعرف بأبي غالب بن نبهان من أهل الخير والعفة فلما كان من الغد حكى لنا قال رأيت في منامي البارحة شيخا ضريرا وعلى عاتقه أفعيان متدليان إلى فخديه وكل منهما يرفع فمه إلى وجهه فيقطع منه لحما يزدرده وهو يستغيث فقلت وقد هالني من هذا فقيل لي هذا المعري الملحد
وقال القفطي أتيت قبره سنة خمسين وستمائة فإذا هو في ساحة في دور أهله وعليه باب فدخلت فإذا القبر لا احتفال به ورأيت عليه خبازي يابسة والموضع على غاية ما يكون من الشعث والإهمال
قال الذهبي وقد رأيت أنا قبره بعد مائة سنه من رؤية القفطي فرأيت نحوا مما حكى انتهى
وقال أنه أوصى أن يكتب على قبره
( هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد ** ) + من مجزوء الكامل +
وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء فانهم يقولون إيجاد الولد وإخراجه إلى العالم جناية عليه لأنه يعرض للحوادث والآفات والله تعالى اعلم بأمره
24
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** )
قائله المتنبي من قصيدة من البسيط يمدح بها كافورا الأخشيدي صاحب مصر ولم ينشدها له وكان اتصل به أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة وأولها
( بم التعلل لا أهل ولا وطن ** ولا نديم ولا كأس ولا سكن )
____________________
1- الوافر
(1/144)
( أريد من زمني ذا أن يبلغني ** ما ليس يبلغه في نفسه الزمن )
( لا تلق دهرك إلا غير مكترث ** ما دام يصحب فيه روحك البدن )
( فما يدوم سرور ما سررت به ** ولا يرد عليك الفائت الحزن )
( مما أضر بأهل العشق أنهم ** هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا )
( تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم ** في أثر كل قبيح وجهه حسن )
( تحملوا حملتكم كل ناجية ** فكل بين علي اليوم مؤتمن )
( ما في هوادجكم من مهجتي عوض ** إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن )
( يا من نعيت على بعد بمجلسه ** كل بما زعم الناعون مرتهن )
( كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ** ثم انتفضت فزال القبر والكفن )
( قد كان شاهد دفني قبل قولهم ** جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا )
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ) (1)
وهي طويلة بديعة
والشاهد في البيت أن كل إذا تأخرت عن أداة النفي سواء كانت معمولة لها أولا وسواء كان الخبر فعلا كما في البيت أو غير فعل توجه النفي إلى الشمول خاصة لا إلى اصل الفعل وأفاد الكلام ثبوت الفعل أو الوصف لبعض ما أضيف إليه كل إن كانت في المعنى فاعلا للفعل أو الوصف الذي حمل عليها أو عمل فيها أو تعلق الفعل أو الوصف ببعض إن كانت كل في المعنى مفعولا للفعل أو الوصف المحمول عليها أو العامل فيها
ومعنى شطر البيت مأخوذ من قول طرفة بن العبد البكري
( فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ** وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله ) + الطويل +
وقد أخذه بعضهم وضمنه في قصيدة مدح بها يزيد بن حاتم فخرج إليه وهو بمصر ليأخذ جائزته فوجده قد مات فقال
____________________
1- البسيط
(1/146)
( لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي ** وأخلفني منها الذي كنت آمل )
( فيالك من ذي حاجة حيل دونها ** وما كل ما يهوى امرؤ هو نائل )
( وما كان بيني لو لقيتك سالما ** وبين الغنى إلا ليال قلائل ) (1)
وهذا البيت بعينه للحطيئة في علقمة بن علاثة والظاهر أنه ضمنه أيضا
وقد تقدم ذكر أبي الطيب المتنبي في شواهد المقدمة
25
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ** علي ذنبا كله لم أصنع )
البيت لأبي النجم العجلي المتقدم ذكره وهو أول أرجوزته السابقة وأم الخيار هذه زوجته
والشاهد فيه أن كل إذا تقدمت على النفي لفظا ولم تقع معمولة للفعل المنفي عبد علم النفي كل فرد مما أضيف إليه كل وأفاد نفي أصل الفعل عن كل فرد ومن ثم أتى بكل مرفوعة عادلا عن نصبها الغير المحتاج إلى تقدير ضمير لأنه لا يفيد نفي عموم ما ادعته أم الخيار عليه والله أعلم
26
( كم عاقل عاقل اعيت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا )
( هذا الذي ترك الأوهام حائرة ** وصبر العالم النحرير زنديقا )
البيتان لابن الراوندي من البسيط وقبلهما
____________________
1- الطويل
(1/147)
( سبحان من وضع الأشياء موضعها ** وفرق العز والإذلال تفريقا ) (1)
وعاقل الثاني صفة لعاقل الأول بمعنى كامل العقل متناه فيه كما يقال مررت برجل رجل أي كامل في الرجولية ومعنى أعيت مذاهبه أعجزته وصعبت عليه طرق معايشه والنحرير بكسر النون الحاذق الماهر العاقل المجرب المتقن الفطن البصير بكل شيء لأنه ينحر العلم نحرا والزنديق بكسر الزاي من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة
والشاهد فيه وضع المظهر الذي هو اسم الإشارة موضع المضمر لكمال العناية بتمييز المسند إليه لاختصاصه بحكم بديع عجيب الشأن وهو هنا جعل الأوهام حاثرة والعالم المتقن زنديقا
وما احسن قول الغزي في معنى البيتين
( كم عالم لم يلج بالقرع باب منى ** وجاهل قبل قرع الباب قد ولجا ) (1)
وما احسن قول الحكيم أبي بكر الخسروي السرخسي وهو كالرد على قول ابن الراوندي
( عجبت من ربي وربي حكيم ** أن يحرم العاقل فضل النعيم )
( ما ظلم الباري ولكنه ** أراد أن يظهر عجز الحكيم ) + السريع +
وقول أبي الطيب غاية في هذا الباب وهو
( وما الجمع بين الماء والنار في يد ** بأصعب من أن أجمع الجد والفهما ) + الطويل +
وهو ينظر إلى قول أبي تمام
( ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ** ولا المجد في كف امرئ والدراهم ) + الطويل +
وما احسن قول أبي تمام أيضا
( ينال الفتى من دهره وهو جاهل ** ويكدي الفتى من دهره وهو عالم )
____________________
1- البسيط
(1/148)
( ولو كانت الأرزاق تأتي على الحجا ** إذن هلكت من جهلهن البهائم ) (1)
ومثله قول أبي الخير المروزي الضرير
( تنافى العقل والمال ** فما بينهما شكل )
( هما كالورد والنرجس لا يحويهما فصل ** )
( فعقل حيث لا مال ** ومال حيث لا عقل ) + الهزج +
ومثله قول أبي إسحاق الصابي
( إذا جمعت بين امرأين صناعة ** فأحببت أن تدري الذي هو أحذق )
( فلا تتفقد منهما غير ما جرت ** به لهما الأرزاق حين تفرق )
( فحيث يكون الجهل فالرزق واسع ** وحيث يكون العلم فالرزق ضيق ) (1)
ومثله قول عبد الجليل بن وهبون المرسي
( يعز على العلياء أني خامل ** وأن أبصرت مني خمود شهابي )
( وحيث ترى زند النجابة واريا ** فثم ترى زند السعادة كابي ) (1)
ولطيف قول بعضهم أيضا
( كم من غبي غني ** ومن فقيه فقير ) + المجتث +
وبديع قول أبي بكر بن محمد المازني
( ثنتان من سير الزمان تحيرت ** لهما عقول ذوي التفلسف والنهى )
( مثر من الأموال مبخوس الحجا ** وموفر الآداب منقوص الغنى ) + الكامل +
وما احسن قول ابن لنكك
( فعاقل ما تبل أنمله ** وجاهل باليدين يغترف ) + المنسرح +
وقول الآخر
____________________
1- الطويل
(1/149)
( زمان تحيرت في أمره ** كثير التعدي على حره )
( فللوغد ما شئت من نفعه ** وللحر ما شئت من ضره )
( وأعجب ما في تصاريفه ** صيال البعوض على صقره ) (1)
وقول الآخر
( وغد له نعمة مؤثلة ** وسيد لا يزال يقترض ) + المنسرح +
ومدار ذلك جميعه على الحظ وعدمه وما أحسن قول ابن الخياط الدمشقي فيه أيضا
( وما زال شؤم الحظ من كل طالب ** كفيلا ببعد المطلب المتداني )
( وقد يحرم الجلد الحريص مرامه ** ويعطى مناه العاجز المتواني ) + الطويل +
وقول الآخر
( قد يرزق المرء لا من حسن حيلته ** ويصرف المال عن ذي الحيلة الداهي ) + البسيط +
وقول الآخر
( إن المقادير إذا ساعدت ** ألحقت العاجز بالقادر ) + السريع +
وما أحسن قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
( يا محنة الدهر كفي ** إن لم تكفي فخفي )
( ما آن أن ترحمينا ** من طول هذا التشفي )
( فلا علومي تجدي ** ولا صناعة كفي )
( ثور ينال الثريا ** وعالم متحفي )
( ذهبت اطلب بختي ** فقيل لي قد توفي ) + المجتث +
ومن الغايات في هذا الباب قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
( لو أن بالحيل الغنى لوجدتني ** بنجوم أفلاك السماء تعلقي )
( لكن من رزق الحجا حرم الغنى ** ضدان مفترقان أي تفرق )
____________________
1- المتقارب
(1/150)
( فإذا سمعت بإن محروما أتى ** ماء ليشربه فغاض فصدق )
( أو أن محظوظا غدا في كفه ** عود فأورق في يديه فحقق )
( ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق ) (1)
ولبعضهم في معناه
( لو وردت البحار أطلب ماء ** جف عند الورود ماء البحار )
( أو رمى باسمي النجوم الدراري ** لانزوى ضؤوها عن الأبصار )
( أو لمست العود النضير بكفي ** لذوى بعد نعمة واخضرار )
( ولو أني بعت القناديل يوما ** أدغم الليل في بياض النهار ) + الخفيف +
ومثله قول بعضهم
( ولما لمست الرزق فانجد حبله ** ولم يصف لي من بحره العذب مشرب )
( خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ** فزجنيها الفقر إذ جئت أخطب ) فاولدتها الحزن الشقي فماله ** على الأرض غيري والد حين ينسب )
( فلو تهت في البيداء والليل مسبل ** علي جناحيه لما لاح كوكب )
( ولو خفت شرا فاستترت بظلمة ** لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب )
( ولو جاد إنسان علي بدرهم ** لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب )
( ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ** بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب )
( وإن يقترف ذنبا ببرقة مذنب ** فإن برأسي ذلك الذنب يعصب )
( وإن أر خيرا في المنام فنازح ** وإن أر شرا فهو مني مقرب )
( أمامي من الحرمان جيش عرمرم ** ومنه ورائي جحفل حين أركب ) + الطويل +
وقول الآخر
( ولو ركبت البحار صارت فجاجا ** لا ترى في متونها امواجا )
( ولو أني وضعت ياقوتة حمراء في راحتي لصارت زجاجا ** )
____________________
1- الكامل
(1/151)
( ولو أني وردت عذبا فراتا ** عاد لا شك فيه ملحا أجاجا ) (1)
وما أحسن قول أبي الأسود الدؤلي
( المرء يحمد سعيه من جده ** حتى يزين بالذي لم يعمل )
( وترى الشقي إذا تكامل جده ** يرمي ويقذف بالذي لم يفعل ) + الكامل +
وبديع قول أبي العلاء المعري
( سيطلبني رزقي الذي لو طلبته ** لما زاد والدنيا حظوظ وإقبال )
( إذا صدق الجد افترى العم للفتى ** مكارم لا تكرى وإن كذب الخال ) + الطويل +
الجد هنا الحظ والعم الجماعة وتكرى من كرى الزاد إذا نقص افترى كذب والخال المخيلة
وظريف هنا قول ابن شرف القيرواني
( إذا صحب الفتى سعد وجد ** تحامته المكاره والخطوب )
( ووافاه الحبيب بغير وعد ** طفيليا وقاد له الرقيب )
( وعد الناس ضرطته غناء ** وقالوا إن فسا قد فاح طيب ) + الوافر +
وقد أخذه ابن النقيب فقال
( لو لحن الموسر في مجلس ** لقيل عنه أنه يعرب )
( ولو فسا يوما لقالوا له ** من أين هذا النفس الطيب ) + السريع +
وقول أبي العلاء المعري غاية هنا وهو
( لا تطلبن بآلة لك رتبة ** قلم البليغ بغير حظ مغزل )
( سكن السما كان السماء كلاهما ** هذا له رمح وهذا أعزل ) + الكامل +
وقد أخذ أبو إسحاق الغزي هذا المعنى فقال
( الحسن والقبح قد تحويهما صفة ** شان البياض وزان الشيب والشنبا )
____________________
1- الخفيف
(1/152)
( ظبا المحارف أقلام مكسرة ** رؤوسهن وأقلام السعيد ظبا ) (1)
وله أيضا
( لا تعتبن الزمان إن ذهبت ** نيوب ليث العرين من نوبه )
( فالحول لولا الجدود ما قصرت ** أيدي جماداه عن علا رجبه ) + المنسرح +
وقد أخذ هذا المعنى الصلاح الصفدي فقال
( لئن رحت مع فضلي من الحظ خاليا ** وغيري على نقض به قد غدا حالي )
( فإني كشهر الصوم أصبح عاطلا ** وطوق هلال العيد في جيد شوال ) + الطويل +
بل ربما أخذه من قول ابن قلاقس فإنه أصرح منه حيث قال
( إن تأخرت فالمحرم عطل ** من حلي العيد وهي في شوال ) + الخفيف +
وقال ابن قلاقس أيضا
( لولا الجدود لما نمت لمسافر ** كف الغنى وتعلقت بمقيم )
( والحظ حتى في الحروف مؤثر ** يختص بالترقيق والتفخيم ) + الكامل +
وقال مهيار الديلمي
( لا تحسب الهمة العلياء موجبة ** رزقا على قسمة الأرزاق لم يجب )
( لو كان أفضل ما في الناس أسعدهم ** ما انحطت الشمس عن عال من الشهب )
( أو كان أيسر ما في الأفق أسلمه ** دام الهلال فلم يمحق ولم يغب ) (1)
وقال الطغرائي
( وأعظم ما بي أنني بفضائلي ** حرمت ومالي غيرهن ذرائع )
( إذا لم يزدني موردي غير علة ** فلا صدرت بالواردين مشارع ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(1/153)
وقال القاضي الفاضل
( ما ضر جهل الجاهلين ولا انتفعت أنا بحذقي ** )
( وزيادتي في الحذق فهي زيادة في نقص رزقي ** ) (1)
وقال ابن دانيال
( قد عقلنا والعقل أي وثاق ** وصبرنا والصبر مر المذاق )
( كل من كان فاضلا كان مثلي ** فاضلا عند قسمة الأرزاق ) + الخفيف +
وقال ابن عنين
( كأني في الزمان اسم صحيح ** جرى فتحكمت فيه العوامل )
( مزيد في بنيه كواو عمرو ** وملغى الحظ فيه كراء واصل ) + الوافر +
وقال السراج الوراق
( يمنعني باخل وسمح ** وليس لي منهما نصير )
( وغايتي أن ألوم حظي ** وحظي الحائط القصير ) + من مخلع البسيط +
وقال ابن سناء الملك
( ورب مليح لا يحب وضده ** تقبل منه العين والخد والفم )
( هو الجد خذه إن أردت مسلما ** ولا تطلب التعليل فالأمر مبهم ) + الطويل +
وما أرشق قول ابن رشيق
( أشقى لعقلك أن يكون أديبا ** أو أن يرى فيك الورى تهذيبا )
( ما دمت مستويا فغعلك كله ** عوج وان أخطأت كنت مصيبا )
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/154)
( كالنقش ليس يصح معنى ختمه ** حتى يكون بناؤه مقلوبا ) (1)
وما ألطف قول السراج الوراق
( الباء والخاء من بختي قد اقترنا ** بالباء والخاء من بخل لإنسان )
( واللام والتاء من هذا وذاك هما ** لت المسائل عن أسباب حرماني ) + البسيط +
وهذا الباب واسع جدا والاختصار فيه أولى
وابن الراوندي هو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين من أهل مرو الروذ وراوند بفتح الراء والواو بينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة قرية من قرى قاسان بالسين المهملة بنواحي أصبهان وهي غير قاشان التي بالمعجمة المجاورة لقم سكن المذكور بغداد وكان من متكلي المعتزلة ثم فارقهم وصار ملحدا زنديقا وقال القاضي أبو علي التنوخي كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد فإذا عوتب في ذلك قال إنما أريد أن أعرف مذاهبهم ثم أنه كاشف وناظر ويقال إن أباه كان يهوديا فأسلم وكان بعض اليهود يقول لبعض المسلمين ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا ويقال عن أبا الحسين قال لليهود قولوا إن موسى قال لا نبي بعدي
وذكر أبو العباس الطبري أن ابن الراوندي كان لا يستقر على مذهب ولا يثبت على حال حتى أنه صنف لليهود كتاب البصيرة ردا على الإسلام لأربعمائة درهم أخذها فيما بلغني من يهود سامرا فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مائة درهم أخرى فأمسك عن النقض
____________________
1- الكامل
(1/155)
وحكى البلخي في كتاب محاسن خراسان أن ابن الراوندي هذا كان من المتكلمين ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام ولا اعرف بدقيقه وجليله وكان في أول أمره حسن السيرة حميد المذهب كثير الحياء ثم انسلخ من ذلك كله لأسباب عرضت له وكان علمه أكثر من عقله فكان مثله كما قال الشاعر
( ومن يطيق مزكي عند صبوته ** ومن يقوم لمستور إذا خلعا ) (1)
قال وقد حكى جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه واظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حمية وأنفة من جفاء أصحابه له وتنحيتهم إياه من مجالسهم
وأكثر كتبه الكفريات ألفها لأبي عيسى اليهودي الأهوازي وفي منزله هلك ومما ألفه من كتبه الملعونة كتاب التاج يحتج فيه لقدم العالم وكتاب الزمردة يحتج فيه على الرسل ويبرهن على إبطال الرسالة وكتاب الفريد في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب اللؤلؤة في تناهي الحركات وقد نقض هو أكثرها وغيره ولأبي علي الجبائي وغيره ردود عليه كثيرة فمما قاله في كتاب الزمردة أنه إنما سماه بالزمردة لان من خاصيه الزمرد أن الحيات إذا نظرت إليه ذابت وسالت أعينها فكذلك هذا الكتاب إذا طالعه الخصم ذاب وهذا الكتاب يشتمل على إبطال الشريعة الشريفة والازدراء على النبوات المنيفة فمما قاله فيه لعنه الله وأبعده إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئا أحسن من إنا أعطيناك الكوثر وأن الأنبياء كانوا يستعبدون الناس بالطلاسم وقال قوله يعني نبينا عليه الصلاة والسلام لعمار رضي الله عنه تقتلك الفئة الباغية كل المنجمين يقولون مثل هذا ولقد كذب لعنه الله وأخزاه
____________________
1- البسيط
(1/156)
وجعل النار مستقره ومثواه فإن المنجم إن لم يسأل الإنسان عن اسمه واسم أمه ويعرف طالعه لا يقدر أن يتكلم على أحواله ولا يخبره بشيء من متجدداته وخطأه أكثر من صوابه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات من غير أن يعرف طالعا أو يسأل عن اسم أو نسب ولم يعهد عنه غير ما ذكر صلى الله عليه وسلم فبان الفرق وقال في كتاب الدامغ إن الخالق سبحانه وتعالى ليس عنده من الدواء إلا القتل فعل العدو الحنق الغضوب فما حاجته إلى كتاب ورسول قال ويزعم أنه يعلم الغيب فيقول وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ثم يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم وقال في وصف الجنة فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه وهو الحليب ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع وذكر العسل ولا يطلب صرفا والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة والسندس يفترش ولا يلبس وكذلك الإستبرق وهو الغليظ من الديباج ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط ولعمري لقد أعمى الله بصره وبصيرته عن قوله تعالى ^ وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ^ وعن قوله عز وجل ! ( ولحم طير مما يشتهون ) ! ومع ذلك ففيها اللبن والعسل وليس هو كلبن الدنيا ولا عسلها وغليظ الحرير يريد به الصفيق الملتحم النسج وهو أفخر ما يلبس ولو ذهبت أورد ما ذكره هذا الملعون وتفوه به من الكفر والزندقة والإلحاد لطال الأمر والاشتغال بغيره أولى والله تعالى منزه سبحانه عما يقول الكافرون والملحدون علوا كبيرا وكذلك كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم ولقد سرد ابن الجوزي من زندقته اكثر من ثلاث ورقات وأنا أعوذ بالله من هذا القول واستغفره مما جرى به قلمي مما لا يرضاه ولا يليق بجنابة وجناب رسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه الحكيم
واجتمع ابن الراوندي هو وأبو علي الجبائي يوما على جسر بغداد فقال له
____________________
(1/157)
يا أبا علي ألا تسمع شيئا من معارضتي للقرآن ونقضي له فقال أنا اعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك ولكن أحاكمك إلى نفسك فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلا وتلازما ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته قال لا والله قال قد كفيتني فانصرف حيث شئت
ومن شعره
( محن الزمان كثيرة لا تنقضي ** وسروره يأتيك كالأعياد )
( ملك الأكارم فاسترق رقابهم ** وتراه رقا في يد الأوغاد ) (1)
ومنه وقيل أنشده لغيره
( أليس عجيبا بأن امرءا ** لطيف الخصام دقيق الكلم )
( يموت وما حصلت نفسه ** سوى علمه أنه ما علم ) + المتقارب +
وذكر أبو علي الجبائي أن السلطان طلب ابن الراوندي وأبا عيسى الوراق فأما أبو عيسى فحبس حتى مات وأما ابن الراوندي فهرب إلى ابن لاوي اليهودي ووضع له كتاب الدامغ في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم ثم لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مرض ومات
وذكر أبو الوفاء بن عقيل أن بعض السلاطين طلبه وانه هلك وله ست وثلاثون سنه مع ما انتهى إليه من المخازي
وذكر ابن خلكان أنه هلك في سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك ابن طوق وقيل ببغداد وتقدير عمره أربعون سنة ويقال إنه عاش أكثر من ثمانين سنة وقيل إنه هلك سنة خمسين ومائتين وقال ابن النجار بلغني أنه هلك سنة ثمان وتسعين ومائتين لعنه الله وأخزاه إن كان مات على اعتقاده هذا
____________________
1- الكامل
(1/158)
27
( تعاللت كي أشجى وما بك علة ** تريدين قتلي قد ظفرت بذلك )
البيت لابن الدمينة من قصيدة من الطويل أولها
( قفي يا أميم القلب نقض لبانة ** ونشكو الهوى ثم افعلي ما بدالك )
( سلي البانة الغناء بالأجرع الذي ** به الماء هل حييت أطلال دارك )
( وهل قمت في أطلالهن عشية ** مقام أخي البأساء واخترت ذلك )
( وهل كفكفت عيناي بالدار عبرة ** فرادى كنظم اللؤلؤ المتسالك ) (1)
ويروى أن أولها
( قفى قبل وشك البين يا ابنة مالك ** ولا تحرمينا نظرة من جمالك )
وبعده البيت وبعده
( وقولك للعواد كيف ترونه ** فقالوا قتيلا قلت أيسر هالك )
( لئن ساءني أن نلتني بمساءة ** لقد سرني أني خطرت ببالك )
( ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ** ورقراق دمعي رهبة من مطالك )
( فلو قلت طأ في النار أعلم أنه ** رضا لك أو مدن لنا من وصالك )
( لقدمت رجلي نحوها فوطئتها ** هدى منك لي أو ضلة من ضلالك )
( أرى الناس يرجون الربيع وإنما ** رجائي الذي أرجوه خير نوالك )
( أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالك ) (1)
ومعنى أشجي أحزن من شجى يشجي وما شجا يشجو فهو متعد وإنما قال قد ظفرت بذلك ولم يقل بقتلي لادعائه أن قتله ظهر ظهور المحسوس بالبصر المشار إليه باسم الإشارة
والشاهد فيه وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادعاء كمال ظهوره وإن كان من غير باب المسند إليه
____________________
1- الطويل
(1/159)
وابن الدمينة اسمه عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر بن تيم الله والدمينة أمه وهي سلولية ويكنى ابن الدمينة أبا السرى وهو شاعر مشهور له غزل رقيق الألفاظ دقيق المعاني وكان الناس في الصدر الأول يستحلون شعره ويتغنون به حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به وأنا أفعل مثل ذلك فجاءني يوما فوقف بين الناس وأنشد لابن الدمينة
( ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ** لقد زادني مسراك وجدا على وجد )
( إن هتفت ورقاء في رونق الضحى ** على فنن عض النبات من الرند )
( بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ** جزوعا وأبديت الذي لم تكن تبدي )
( وقد زعموا إن المحب إذا دنا ** يمل وإن النأي يشفي من الوجد )
( بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ** على أن قرب الدار خير من البعد )
( على أن قرب الدار ليس بنافع ** إذا كان من تهواه ليس بذي ود ) (1)
ثم ترنح ساعة ترنخ النشوان ودبح أخرى ثم قال أنطح العمود رأسي من
____________________
1- الطويل
(1/160)
حسن هذا فقلت لا ارفق بنفسك
وحدث ابن ربيح راوية ابن هرمة قال لقي ابن هرمة بعض أصحابه بالبلاط فقال له من أين أقبلت قال من المسجد فقال فأي شيء صنعت هناك قال كنت جالسا مع إبراهيم بن الوليد المخزومي قال فأي شيء قال قال أمرني أن أطلق امرأتي قال فأي شيء قلت له قال ما قلت شيئا قال فوالله ما قال لك هذا إلا لأمر أظهرته عليه وكتمتنيه أفرأيت لو أمرته بطلاق امرأته أكان يطلقها قال لا والله قال فابن الدمينة كان أنصف منك كان يهوى امرأة من قومه فأرسلت إليه أن أهلي قد نهوني عن لقائك ومراسلتك فأرسل إليها يقول
( أريت الآمر يك بقطع حبلي ** مريهم في أحبتهم بذاك )
( فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ** وإن عاصوك فاعصي من عصاك )
( أما والراقصات بكل فج ** ومن صلى بنعمان الأراك )
( لقد أضمرت حبك في فؤادي ** وما أضمرت حبا من سواك ) (1)
ومثل هذا الخبر ما حكاه الأصمعي قال مررت بالكوفة وإذا أنا بجارية تطلع من جدار إلى الطريق وفتى واقف وظهره إلي وهو يقول أسهر فيك وتنامين عني وتضحكين منى وأبكي وتستريحين وأتعب وأمحضك المحبة وتمذقينها وأصدقك وتنافقيني ويأمرك عدوي بهجري فتطيعينه ويأمرني
____________________
1- الوافر
(1/161)
نصيحي بذلك فأعصيه ثم تنفس وأجهش باكيا فقالت له إن أهلي يمنعونني منك وينهونني عنك فكيف أصنع فقال لها
( أريت الآمر يك بقطع حبلي ** مريهم في أحبتهم بذاك )
( فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ** وإن عاصوك فاعصي من عصاك ) (1)
ثم التفت فرآني فقال يا فتى ما تقول أنت فيما قلت فقلت له والله لو عاش ابن أبي ليلى ما حكم إلا بمثل حكمك
وحدث ابن أبي السرى عن هشام قال هوى ابن الدمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة فهاج بها مدة فلما وصلته تجنى عليها وجعل ينقطع عنها ثم زارها ذات يوم فتعاتبا طويلا ثم أقبلت عليه فقال والشعر لها
( وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ** وأشمت بي من كان فيك يلوم )
( وأبرزتني للناس ثم تركتني ** لهم غرضا أرمى وأنت سليم )
( فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا ** بجسمي من قول الوشاة كلوم ) + الطويل +
قال فأجابها ابن الدمينة فقال
( وأنت التي كلفتني دلج السرى ** وجون القطا بالجلهتين جثوم )
____________________
1- الوافر
(1/162)
( وأنت التي قطعت قلبي حرارة ** ومزقت جرح القلب فهو كليم )
( وأنت التي أحفظت قومي فكلهم ** بعيد الرضا داني الصدود كظيم ) (1)
قال ثم تزوجها بعد ذلك وقتل وهي عنده كما سيأتي
وحدث أبو الحسن الينبعي قال بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا فإذا بظل نسوة في القمر فالتقينا فإذا بجماعة نسوة فسمعت واحدة منهن تقول أهو هو فقالت الأخرى نعم والله أنه لهو هو فدنت مني ثم قالت يا كهل قل لهذا الذي معك
( ليست لياليك في خاخ بعائدة ** كما عهدت ولا ايام ذي سلم ) + البسيط +
فقلت له أجب فقد سمعت فقال قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني فالتفت إليها ثم قلت
( فقلت لها يا عز كل مصيبة ** إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ) (1)
فقالت المرأة أواه ثم مضت ومضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي فإذا بجارية تجذب طرف ردائي فالتفت إليها فقالت المرأة التي كلمتك تدعوك فمضيت معها حتى دخلت دارا ثم صرت إلى بيت فيه حصير وثنيت لي وسادة فجلست ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها ثم جاءت المرأة فجلست عليها وقالت لي أأنت المجيب قلت نعم قالت ما كان أفظ جوابك وأغلظه قلت والله ما حضرني غيره فبكت ثم قالت لي والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك قلت وأنا الضامن عنه
____________________
1- الطويل
(1/163)
لك ما تحبين قالت أو تفعل قلت نعم فوعدتها أن آتيها به في الليلة القابلة وانصرفت فإذا الفتى ببالي فقلت ما جاء بك قال علمت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أجدك فعلمت أنك عندها فجلست أنتظرك فقلت له قد كان كل ما ظننت ووعدتها أن آتيها بك في الليلة القابلة فمضى ثم أصبحنا فتهيأنا ورحنا فإذا الجارية تنتظرنا فمضت أمامنا حتى دخلنا الدار فإذا برائحة الطيب وجاءت فجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته طويلا ثم ذكرت الأبيات التي أنشدتها امرأة ابن الدمينة ثم سكتت فسكت الفتى هنيهة ثم قال
( غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ** وفي دون هذا للمحب عزاء )
( جزيتك ضعف الود ثم صرمتني ** فحبك في قلبي إليك أداء ) (1)
فالتفتت إلي وقالت ألا تسمع ما يقول قد أخبرتك قال فغمزته فكف ثم قالت
( تجاهلت وصلي حين لجت عمايتي ** فهلا صرمت الحبل إذ أنا مبصر )
( ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ** نصيب وإذ رأيي جميع موفر )
( ولكنما آذنت بالصبر بغتة ** ولست على مثل الذي جئت أقدر ) (1)
فقال الفتى مجيبا لها
( لقد جعلت نفسي وأنت اجترمته ** وكنت أحب الناس عنك تطيب )
فبكت ثم قالت أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك خير بعدها فعليك السلام ثم التفتت إلي وقالت قد علمت أنك لا تفي بضمانك عنه وانصرفنا
وكان السبب في قتل ابن دمينة أن رجلا من سلول يقال له مزاحم بن عمرو كان يرمي بامرأة ابن الدمينة وكان اسمها حماء وقيل حمادة فكان
____________________
1- الطويل
(1/164)
يأتيها ويتحدث إليها حتى اشتهر ذلك فمنعه ابن الدمينة من إتيانها واشتد عليها فقال مزاحم يذكر ذلك
( يا ابن الدمينة والأخبار يرفعها ** وخد النجائب والمحقور يخفيها
( يا ابن الدمينة إن تغضب لما فعلت ** فطال خزيك أو تغضب مواليها )
( أو تبغضوني فكم من طعنة نفذت ** يغذو خلال اختلاج الجوف غاذيها )
( جاهدت فيها لكم إني لكم أبدا ** أبغي معايبكم عمدا فآتيها )
( فذاك عندي لكم حتى تغيبني ** غبراء مظلمة هار نواحيها )
( أغشى نساء بني تميم إذا هجعت ** عني العيون ولا أبغي مقاريها )
( كم كاعب من بني تميم قعدت لها ** وعانس حين ذاق النوم حاميها )
( كقعدة الأعسر العلفوف منتحيا ** متينة من متين النبل يرميها )
( علامة كية ما بين عانتها ** وبين سبتها لا شل كلويها )
( وشهقة عند حس الماء تشهقها ** وقول ركبتها قض حين تثنيها )
____________________
(1/165)
( وتعدل الأير إن زاغت فتبعثه ** حتى يقيم برفق صدره فيها )
( بين الصفوقين في مستهدف ومد ** ذي حرة ذاق طعم الموت صاليها )
( ماذا ترى يا عبيد الله في امرأة ** ليست بمحصنة عذراء حاويها )
( أيام أنت طريد لا تقاربها ** وصادف القوس في الغرات باريها )
( ترى عجوز بني تميم ملفعة ** شمطا عوارضها ربدا دواهيها )
( إذ تجعل الدفنس الورهاء عذرتها ** قشارة من أديم الأرض تفريها )
( حتى يظل هذان القوم يحسبها ** بكر أو قبل هوى في الدار هاويها ) (1)
ولما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم أتى امرأته فقال لها قد قال فيك هذا الرجل ما قال وقد بلغك قالت والله ما رأى مني ذلك قط قال فمن أين له العلامات قالت وصفتهن له النساء قال هيهات والله أن يكون ذلك كذلك ثم امسك مدة وصبر حتى ظن أن مزاحما قد نسي القصة ثم أعاد عليها القول وأعادت الحلف أن ذلك مما وصفه له النساء فقال لها والله لئن لم تمكنيني منه لأقتلنك فعلمت أنه سيفعل ذلك فبعثت إليه وواعدته ليلا وقعد له ابن الدمينة وصاحب له فجاءها للموعد فجعل يكلمها وهي مكانها فلم تكلمه فقال لها يا حماء ما هذا الجفاء الليلة قال فتقول له هي بصوت ضعيف ادخل فدخل فأهوى بيدة ليضعها عليها فوضعها على ابن الدمينة فوثب عليه هو وصاحبه وقد جعل له حصا في ثوب فضرب بن كبده حتى قتله وأخرجه فطرحه ميتا فجاء أهله فاحتملوه ولم يجدوا به أثر السلاح فعلموا أن ابن الدمينة قتله وقد قال ابن الدمينة في تحقيق ذلك
____________________
1- البسيط
(1/166)
( قالوا هجتك سلول اليوم مخيفة ** فاليوم أهجو سلولا لا أخافيها )
( قالوا هجاك سلولي فقلت لهم ** قد أنصف الصخرة الصماء راميها )
( رجالهم شر من يمشي ونسوتهم ** شر البرية استاذل حاميها )
( يحككن بالصخر أستاها لها نقب ** كما يحك نقاب الجرب طاليها ) (1)
وقال أيضا يذكر دخول مزاحم ووضع يده عليه
( لك الخير إن واعدت حماء فالقها ** نهارا ولا تدلج إذا الليل أظلما )
( فإنك لا تدري أبيضاء طفلة ** تعانق أم ليثا من القوم قشعما )
( فلما سرى عن ساعدي ولحيتي ** وأيقن إني لست حماء جمجما ) + الطويل +
ثم أتى ابن الدمينة امرأته فطرح على وجهها قطيفة ثم جلس عليها حتى قتلها فلما ماتت قال
( إذا قعدت على عرنين جارية ** فوق القطيفة فادعوا لي بحفار ) (1)
فبكت بنت له منها فضرب بها الأرض فقتلها أيضا وقال متمثلا
( لا تغدوا من كلب سوء جروا ** )
فخرج جناح أخو المقتول إلى أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدمينة فبعث إليه فحبسه وقالت أم أبان والدة مزاحم المقتول وهي من بني خثعم ترثي ابنها وتحرض مصعبا وجناحا أخويه
____________________
1- البسيط
(1/167)
( بأهلي ومالي بل بجل عشيرتي ** قتيل بني تميم بغير سلاح )
( فهلا قتلتم بالسلاح ابن أختكم ** فتظهر فيه للشهود جراح )
( فلا تطمعوا في الصلح ما دمت حية ** وما دام حيا مصعب وجناح )
( ألم تعلموا إن الدوائر بيننا ** تدور وإن الطالبين شحاح ) (1)
ولما طال حبس ابن الدمينة ولم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلا ولا حجة خلاه وقتلت بنو سلول من خثعم رجلا مكان المقتول وقتلت خثعم بعد ذلك نفرا من سلول ولهم قصص وأخبار كثيرة ثم إن ابن الدمينة أقبل حاجا بعد مدة فنزل بتباله فعدا عليه مصعب أخو المقتول لما رآه وكانت أمه حرضته وقالت له اقتل ابن الدمينة فإنه قتل أخاك وهجا قومك وذم أختك وقد كنت أعذرك قبل هذا لأنك كنت صغيرا والآن قد كبرت فلما أكثرت عليه خرج من عندها وبصر بابن الدمينة واقفا ينشد الناس فغدا إلى جزار فأخذ شفرته وعدا على ابن الدمينة فجرحه بها جراحتين فقيل أنه مات لوقته وقيل بل سلم من تلك الدفعة ومر به مصعب بعد ذلك وهو في سوق العبلاء ينشد أيضا فعلاه بسيفه حتى قتله وعدا وتبعه الناس حتى اقتحم دارا وأغلقها عليه فجاءه رجل من قومه فصاح به يا مصعب إن لم تضع يدك في يد السلطان قتلتك العامة فاخرج فلما عرفه قال له أنا في ذمتك حتى تسلمني إلى السلطان فقذفه السلطان في سجن تباله قال ومكث ابن الدمينة جريحا ليلة ثم مات في غد وقال في تلك الليلة يحرض قومه ويوبخهم
____________________
1- الطويل
(1/168)
( هتفت بأكلب ودعوت قيسا ** فلا خذلا دعوت ولا قليلا )
( ثأرت مزاحما وسررت قيسا ** وكنت لما هممت به فعولا )
( فلا تشلل يداك ولا تزالا ** تفيدان الغنائم والجزيلا )
( فلو كان ابن عبد الله حيا ** لصبح في منازلها سلولا ) (1)
وبلغ مصعبا أخا المقتول أن قوم ابن الدمينة يريدون أن يقتحموا عليه سجن تبالة فيقتلوه فقال يحرض قومه
( لقيت أبا السرى وقد تكالا ** له حق العداوة في فؤادي )
( فكاد الغيظ يفرطني إليه ** بطعن دونه طعن الشداد )
( إذا نبحت كلاب السجن حولي ** طمعت هشاشة وهفا فؤادي )
( طماعا أن يدق السجن قومي ** وخوفا أن تبيتني الأعادي )
( فما ظني بقومي شر ظن ** ولا أن يسلموني في البلاد )
( وقد جدلت قاتلهم فأمسى ** يمج دم الوتين على الوساد ) (1)
فجاءت بنو عقيل إليه ليلا فكسروا السجن وأخرجوه منه فهرب إلى صنعاء
ومن شعر ابن الدمينة الأبيات المشهورة
____________________
1- الوافر
(1/169)
( أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ** ويجمعني والهم بالليل جامع )
( نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ** لي الليل شاقتني إليك المضاجع )
( لقد ثبتت في القلب منك محبة ** كما ثبتت في الراحتين الأصابع ) (1)
وهي من قصيدة طويلة يخلطها الناس كثيرا بقصيدة لمجنون ليلى لأنها توافقها في الوزن والقافية
28
( إلهي عبدك العاصي أتاكا ** )
هو من الوافر ولا أعلم قائله وتمامه
(
( مقرا بالذنوب وقد دعاكا ** )
( فإن تغفر فأنت لذاك أهل ** وإن تطرد فمن يرحم سواكا ) + الوافر +
والطرد الإبعاد
والشاهد فيه وضع المظهر وهو عبدك موضع المضمر وهو أنا للاستعطاف وهو طلب العطف والرحمة إذ ليس فيه ما في المظهر من استحقاق الرحمة وترقب الرأفة وإن كان من غير باب المسند إليه أيضا
29
( تطاول ليلك بالأثمد ** )
قائله امرؤ القيس الكندي الصحابي رضي الله تعالى عنه وهو أول
____________________
1- الطويل
(1/170)
قصيدة من المتقارب وتمامه
( ونام الخلي ولم ترقد ** )
وبعده
( وبات وباتت له ليلة ** كليلة ذي العائر الأرمد )
( وذلك من نبأ جاءني ** وأنبئته عن أبي الأسود )
( ولو عن نثا غيره جاءني ** وجرح اللسان كجرح اليد )
( لقلت من القول مالا يزال ** يؤثر عني يد المسند )
( بأي علاقتنا ترغبون ** أعن دم عمرو على مرثد )
( فإن تدفنوا الداء لا نخفه ** وإن تبعثوا الداء لا نقعد )
( وإن تقتلونا نقاتلكمو ** وإن تقصدوا لدم نقصد )
( متى عهدنا بطعان الكماة ** والمجد والحمد والسودد )
( وبني القباب وملء الجفان ** والنار والحطب الموقد ) (1)
والأثمد بفتح الهمزة وضم الميم وروى بكسرهما اسم موضع والعائر بالمهملة هو القذى يقع في العين وقيل هو نفس الرمد
والشاهد فيه الالتفات وهو في قوله ليلك لأنه خطاب لنفسه ومقتضى الظاهر ليلي بالتكلم
____________________
1- المتقارب
(1/171)
وامرؤ القيس هو ابن عانس بنون وسين مهملة ابن المنذر ابن امرىء القيس بن السمط بن عمرو بن معاوية بن الحرث ينتهي نسبه لكندة الكندي الشاعر له صحبة وشهد رضي الله عنه فتح النجير باليمن وهو حصن قرب حضرموت ثم حضر الكنديين حين ارتدوا فثبت على إسلامه ولم يكن فيمن ارتد ثم نزل الكوفة ولما خرجوا ليقتتلوا وثب على عمه فقال له ويحك يا امرأ القيس أتقتل عمك فقال له أنت عمي والله عز وجل ربي وهو الذي خاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيعة بن عيدان بكسر العين والياء التحتية ويقال فيه عبدان بالباء الموحدة مكسورة مع تشديد الدال ويقال بفتح العين وسكون الباء وكانت المخاصمة في أرض فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بينتك قال ليس لي بينة فقال صلى الله عليه وسلم يمينه وهو القائل رضي الله عنه
( قف بالديار وقوف حابس ** وتأن إنك غير آيس )
( لعبت بهن العاصفات ** الرائحات إلى الروامس )
( ما ذا عليك من الوقوف ** بهامد الطللين دارس )
( يا رب باكية علي ** ومنشد لي في المجالس )
( أو قائل يا فارسا ** ماذا رزئت من الفوارس )
( لا تعجبوا إن تسمعوا ** هلك امرؤ القيس بن عانس ) (1)
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/172)
وفي الصحابة أيضا امرؤ القيس بن أبي الأصبع الكلابي وامرؤ القيس ابن الفاخر بن الطماع الخولاني
30
( طحا بك قلب في الحسان طروب ** بعيد الشباب عصر حان مشيب )
( يكلفني ليلي وقد شط وليها ** وعادت عواد بيننا وخطوب )
البيتان لعلقمة بن عبدة الفحل من قصيدة من الطويل يمدح بها الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا فرحل إليه يطلب فكه وبعد البيتين
( منعمة لا يستطاع كلامها ** على بابها من أن تزار رقيب )
( إذا غاب عنها البعل لم تفش شره ** وترضي إياب البعل حين يؤب )
( فلا تعدلي بيني وبين مغمر ** سقتك روايا المزن حين تصوب )
( سقاك يمان ذو حنين وعارض ** تروح به جنح العشى جنوب )
( وما أنت أم ما ذكرها ربعية ** يخط لها من ثرمداء قليب )
( فإن تسألولني بالنساء فإنني ** خبير بأدواء النساء طبيب )
____________________
(1/173)
( إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ** فليس له من ودهن نصيب )
( يردن ثراء المال حيث علمته ** وشرخ شباب عندهن عجيب ) (1)
وهي طويلة يقول في غرضه منها
( وفي كل حي قد خبطت بنعمة ** فحق لشاس من نداك ذنوب )
فلما سمع الحارث هذا البيت قال نعم وأذنبه ولما سمع قوله في وصف النساء قال صدق فوك لله أبوك أنت طبيبهن والخبير بأدوائهن وقد أخذه من قول امرىء القيس
( أراهن لا يحببن من قل ماله ** ولا من رأين الشيب فيه وقوسا ) (1)
ومن لطيف ما يذكر من كراهة النساء للشيب قول محمد بن عيسى المخزومي
( قالت أحبك قلت كاذبة ** غرى بذا من ليس ينتقد )
( لو قلت لي أشناك قلت نعم ** الشيب ليس يحبه أحد ) + الكامل +
ومعنى طحابك أي اتسع وذهب بك كل مذهب وطروب مأخوذ من الطرب وهو استخفاف القلب في الفرح أي له طرب في طلب الحسان ونشاط في مراودتهن ومعنى بعيد الشباب حين ولى وكاد ينصرم ومعنى عصر حان مشيب أي زمان قرب المشيب وإقباله على الهجوم ومعنى شط بعد والولي القرب والعوادي الصوارف وعوادي الدهر عوائقه والخطوب جمع خطب وهو الأمر العظيم
والشاهد فيه الالتفات من الخطاب في طحابك إلى التكلم في يكلفني وفاعله ضمير القلب وليلى مفعوله الثاني وروى بالتاء الفوقانية على أنه مسند إلى ليلى والمفعول محذوف أي تكلفني شدائد فراقها أو على أنه خطاب للقلب ففيه التفات آخر من الغيبة إلى الخطاب وفي طحابك التفات آخر عند السكاكي لا عند الجمهور
____________________
1- الطويل
(1/174)
وأشار علقمة بصدر البيت الذي قبل الأخير هنا إلى أن المال يستر شين الشيب ويحسن قبيحه كما قال بعضهم
( وخود دعتني إلى وصلها ** وعصر الشبيبة منى ذهب )
( فقلت مشيي ما ينطلي ** فقالت بلى ينطلي بالذهب ) (1)
وذكرت بهذين البيتين واقعة ظريفة وهي أنهما أنشدا في مجلس كان فيه بعض ظرفاء الأدباء فقال ما اعرف القافية في هذين البيتين إلا بحرف الراء فقال له المنشد كيف فقال وعصر الشبيبة منى سرى فقال وكيف تصنع في البيت الثاني فقال فقالت بلى ينطلي بالخرا فاستحى المنشد وانصرف من المجلس خجلا
وعلقمة بن عبدة بن عبد المنعم النعماني ينتهي نسبه إلى نزار وكان يقال له الفحل لأنه خلف على امرأة امرىء القيس لما حكمت له عليه بأنه أشعر منه وكان من خبر ذلك ما حكاه أبو عبيدة قال كان تحت امرىء القيس امرأة من طييء تزوجها حين جاور فيهم فنزل بهم علقمة الفحل التميمي فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحا كما إليها فأنشدها امرؤ القيس قوله
____________________
1- المتقارب
(1/175)
( خليلي مرا بي على أم جندب ** لنقضي لبانات الفؤاد المعذب ) (1)
حتى مر بقوله منها
( فللسوط ألهوب وللساق درة ** وللزجر منه وقع أهوج منعب )
وأنشدها علقمة قوله
( ذهبت من الهجران في غير مذهب ** ) (1)
حتى انتهى إلى قوله
( فأدركهن ثانيا من عنانه ** يمر كغيث رائح متحلب )
فقالت له علقمة أشعر منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وإنه جاء هذا للصيد ثانيا من عنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلت ولكنك هويته فطلقها فتزوجها علقمة بعد ذلك فسمى علقمة الفحل وما زالت العرب تسميه بذلك قال الفرزدق
( والفحل علقمة الذي كانت له ** حلل الملوك كلامه نتنحل ) + الكامل +
وعن حماد الراوية قال كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا
____________________
1- الطويل
(1/176)
منه كان مقبولا وما ردوا منه كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي أولها
( هل ما علمت وما استودعت مكتوم ** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم ) (1)
فقالوا هذا سمط الدهر ثم عاد إليهم في العام القابل فأنشدهم قوله
( طحا بك قلب في الحسان طروب ** بعيد الشباب عصر حان مشيب ) + الطويل +
فقالوا هذان سمطا الدهر
وعن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول سرق ذو الرمة قوله
( يطفو إذا ما تلقته الجراثيم ** ) (1)
من قول العجاج
( إذا تلقته العقاقيل طفا ** ) + الرجز +
وسرقه العجاج أيضا من علقمة بن عبدة حيث يقول
( يطفو إذا ما تلقته العرانين ** ) (1)
وحدث العمري عن لقيط قال تحاكم علقمة بن عبدة التميمي والزبرقان ابن بدر السعدي والمخبل وعمرو بن الأهتم إلى ربيعة بن جدان الأسدي فقال أما أنت يا زبرقان فشعرك كلحم لا أنضج فيؤكل ولا ترك فينتفع به وأما أنت يا عمرو فشعرك كبرد حبرة يتلألأ فيه البصر فكلما أعدته نقص وأما أنت
____________________
1- البسيط
(1/177)
يا مخبل فإنك قصرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء
31
( ومهمة مغبرة أرجاؤه ** كأن لون أرضه سماؤه )
البيت لرؤبة بن العجاج من الرجز
والمهمة المفازة البعيدة والبلد المقفر والجمع مهامة والمغبرة المتلونة بالغبرة والأرجاء الأطراف والنواحي جمع رجا مقصورا
والشاهد فيه القلب وهو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه وهو هنا في المصراع الثاني ومعناه كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه وفيه من الاستعارة ما ليس في تركه لإشعاره بأن لون السماء قد بلغ من الغبرة إلى حيث يشبه به لون الأرض فيها
ومن القلب قول الشاعر
( كانت فريضة ما تقول كما ** كان الزناء فريضة الرجم ) (1)
ومنه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح
( لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ** وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل ) + الطويل +
وقول الآخر
( فديت بنفسه نفسي ومالي ** ) + الوافر +
وقول الآخر
( يمشي فيقعس أو يكب فيعثر ** ) (1)
ورؤبة بن العجاج تقدم ذكره في شواهد المقدمة
____________________
1- الكامل
(1/178)
32
( كما طينت بالفدن السياعا ** )
قائله القطامي من قصيدة من الوافر يمدح بها زفر بن الحارث الكلابي حين أحاطت به قيس بنواحي الجزيرة وأرادوا قتله فحال زفر بينه وبينهم وحماه ومنعه وكساه واعطاه مائة ناقة وخلى سبيله فقال يمدحه وأول القصيدة
( قفى قبل التفرق يا ضباعا ** ولا يك موقف منك الوداعا )
( قفى فافدي أسيرك إن قومي ** وقومك لا أرى لهم اجتماعا ) (1)
إلى أن قال يمدح زفر بن الحارث
( ومن يكن استلام إلى ثوي ** فقد أحسنت يا زفر المتاعا )
( أكفرا بعد رد الموت عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا )
( فلما أن جرى سمن عليها ** كما طينت بالفدن السياعا )
( أمرت بها الرجال ليأخذوها ** ونحن نظن أن لن تستطاعا )
( فلأيا بعد لأي أدركوها ** على ما كان إذ طرحوا الرقاعا )
( فلو بيدي سواك غداة زلت ** بي القدمان لم أرج اطلاعا )
____________________
1- الوافر
(1/179)
( إذن لهلكت لو كانت صغارا ** من الأخلاق تبتدع ابتداعا )
( فلم أر منعمين أقل منا ** واكرم عندما اصطنعوا اصطناعا )
( من البيض الوجوه بني نفيل ** أبت أخلاقهم إلا اتساعا ) (1)
وهي طويلة
والفدن محركة القصر المشيد والسياع بفتح السين المهملة الطين بالتبن يطين به
والشاهد فيه القلب أيضا ومعناه كما طينت الفدن بالسياع وهذا من قبيل القلب المردود لان العدول عن مقتضى الظاهر من غير نكتة تقتضيه خروج عن تطبيق الكلام لمقتضى الحال
والقطامي بفتح القاف وضمها اسمه عمير بن شييم والقطامي لقب غلب عليه وكان نصرانيا وأسلم قاله ابن عساكر في تاريخ دمشق وهو شاعر إسلامي مقل فحل مجيد
وعن الشعبي رحمه الله قال قال عبد الملك وأنا حاضر للأخطل يا أبا مالك أتحب أن لك بشعرك شعر شاعر من العرب قال اللهم لا إلا شاعرا منا مغدف القناع خامل الذكر حديث السن إن يكن في أحد خير فسيكون فيه ولوددت أني سبقته إلى قوله
____________________
1- الوافر
(1/180)
( وإني لصبار على ما ينوبني ** وحسبك أن الله أثنى على الصبر ) (1)
ورواه صاحب الدر الفريد لأبي سعيد المخزومي يخاطب به امرأته وأول الأبيات
( ثقي بجميل الصبر مني على الهجر ** ولا تثقي بالصبر مني على الهجر ) (1)
وأراد بالغنى مسببه أعني الراحة وبالفقر المحنة يعني أن السيادة مع التعب والمشقة أحب إليه من الراحة والدعة بدونها
والشاهد فيه وصفه بالإطناب بالنسبة إلى مصراع أبي تمام لأنه مساو له في أصل المعنى مع قلة حروفه
ومثل ذلك قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين ) + الوافر +
وقول بشر بن أبي خازم
( إذا ما المكرمات رفعن يوما ** وقصر مبتغوها عن مداها )
( وضاقت أذرع المثرين فيها ** سما أوس إليها فاحتواها ) + الوافر +
والمعذل هو ابن غيلان بن الحكم بن البحتري وكان أبوه غيلان شاعرا أيضا
حدث عمارة قال مر المعذل بن غيلان بعبد الله بن سوار العنبري القاضي فاستنزله عبد الله وكان من عادة المعذل أن ينزل عنده فأبى وأنشده
( أمن حق المودة أن نقضي ** ذمامكم ولا تقضوا ذماما )
____________________
1- الطويل
(1/180)
( يقتلنني بحديث ليس يعلمه ** من يتقين ولا مكنونه بادي )
( فهن ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلة الصادي ) (1)
وحدث محمد بن صالح بن النطاح قال القطامي أول من لقب صريع الغواني بقوله
( صريع غوان راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) + الطويل +
ونزل القطامي في بعض أسفاره بامرأة من محارب قيس فنسبها فقالت أنا من قوم يشتوون القد من الجوع قال ومن هؤلاء ويحك قالت محارب ولم تقره فبات عندها بأسوإ ليلة فقال فيها قصيدة أولها
( نأتك بليلى نية لم تقارب ** وما حب ليلى من فؤادي بذاهب ) + الطويل +
إلى أن قال فيها
( ولا بد أن الضيف يخبر ما رأى ** مخبر أهل أو مخبر صاحب )
( سأخبرك الأنباء عن أم منزل ** تضيفتها بين العذيب فراسب )
( تلففت في طل وريح تلفني ** وفي طر مساء غير ذات كواكب )
( إلى حيزبون توقد النار بعدما ** تلفعت الظلماء من كل جانب )
( تصلى بها برد العشاء ولم تكن ** تخال وميض النار يبدو لراكب )
____________________
1- البسيط
(1/181)
( فما راعها إلا بغام مطية ** تريح بمحسور من الصوت لاغب )
( تقول وقد قربت كوري وناقتي ** إليك فلا تذعر علي ركائيي )
( فلما تنازعنا الحديث سألتها ** من الحي قالت معشر من محارب )
( من المشتوين القد مما تراهم ** جياعا وريف الناس ليس بعازب )
( فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ** علي مناخ السوء ضربه لازب )
( ألا إنما نيران قيس إذا اشتووا ** لطارق ليل مثل نار الحباحب ) (1)
وإلى هذه العجوز أشار عبد الصمد بن المعذل في هجاء أخيه أحمد إذ يقول
( ليت لي منك يا أخي ** جارة من محارب )
( نارها كل شتوة ** مثل نار الحباحب )
( وسيأتي ذكر عبد الصمد بن المعذل وأخيه عند ترجمة أبيهما المعذل في شواهد الإطناب إن شاء الله تعالى
قال أبو عمرو رحمه الله أول ما حرك من القطامي فرفع ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه فقيل له إنه بخيل لا يعطي الشعراء وقيل بل قدمها في خلافة عمر بن عبد العزيز فقيل له إن الشعر لا ينفق عند هذا ولا يعطى عليه شيئا وهذا عبد الواحد بن سليمان فامدحه
____________________
1- الطويل
(1/182)
فمدحه بقصيدته التي أولها
( إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ** وإن بليت وإن طالت بك الطيل ) (1)
فقال له كم أملت من أمير المؤمنين قال أملت أن يعطيني ثلاثين ناقة قال قد أمرت لك بثلاثين ناقة موقورة برا وتمرا وثيابا ثم أمر بدفع ذلك إليه
وقال أبو عمرو الشيباني لو قال القطامي بيته
( يمشين زهوا فلا الأعجاز خاذلة ** ولا الصدور على الأعجاز تتكل ) (1)
في صفة النساء لكان أشعر الناس ولو قال كثير عزة
( فقلت لها يا عز كل مصيبة ** إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ) + الطويل +
في مرثية أو صفة حزن لكان أشعر الناس
وقال رجل كان يديم الأسفار سافرت مرة إلى الشام على طريق البر فجعلت أتمثل بقول القطامي
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل ) (1)
ومعنى اعرابي قد استأجرت منه مركبي فقال ما زاد قائل هذا الشعر على أن ثبط الناس عن الحزم فهلا قال بعد قوله هذا
( وربما ضر بعض الناس حزمهم ** وكان خيرا لهم لو انهم عجلوا )
____________________
1- البسيط
(1/183)
والقطامي أخذ معنى بيته هذا من قول عدي بن زيد العبادي
( قد يدرك المبطئ من حظه ** والخير قد يسبق جهد الحريص ) (1)
وعدي نظر إلى قول جمانة الجعفي
( ومستعجل والمكث أدنى لرشده ** ولم يدر في استعجاله ما يبادر ) + الطويل +
وما احسن قول ابن هند ورحمه الله
( تأن فالمرء إن تأنى ** أدرك لا شك ما تمنى )
( وما لمستوفز عجول ** حظ سوى أنه تعنى ) + من مخلع البسيط +
ومن أحسن ما قيل في عيب الأناة قول ابن الرومي
( عيب الأناة وإن سرت عواقبها ** أن لا خلود وان ليس الفتى حجرا ) + البسيط +
وللقطامي عدة قصائد في مدح زفر بن الحرث الكلابي سيأتي منها شيء في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى
____________________
1- السريع
(1/184)
شواهد المسند
____________________
(1/185)
33
( فإني وقيار بها لغريب ** )
قائلة ضابئ بن الحارث البرجمي وهو من قصيدة من الطويل قالها وهو محبوس في المدينة المنورة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه وهي
( ومن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب )
( ورب أمور لا تضيرك ضيرة ** وللقلب من مخشاتهن وجيب )
( وما عاجلات الطير تدني من الفتى ** نجاحا ولا عن ريثهن يخيب )
( ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ** على نائبات الدهر حين تنوب )
( وفي الشك تفريط وفي الحزم فترة ** ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب )
( ولست بمستبق صديقا ولا أخا ** إذا لم تعد الشيء وهو مريب ) (1)
ومعنى البيت التحسر على الغربة والرحل السكن وما يستصحبه من الأثاث وقيار جمل ضابئ أو فرسه
والشاهد فيه ترك المسند وهو غريب والمعنى إني لغريب وقيار أيضا لقصد الاختصار والاحتراز عن العبث في الظاهر مع ضيق المقام بسبب التحسر ومحافظة الوزن
ولا يجوز أن يكون غريب خبرا عنهما بانفراده لامتناع العطف على
____________________
1- الطويل
(1/186)
محل اسم إن قبل مضي الخبر وقيار مرفوع إما عطفا على محل اسم إن أو بالابتداء والمحذوف خبره والسر في تقديم قيار على خبر إن قصد التسوية بينهما في التحسر على الاغتراب كأنه أثر في غير ذوي العقول أيضا إذ لو أخر لجاز أن يتوهم مزيته عليه في التأثر عن الغربة لان ثبوت الحكم أولا أقوى
وضابئ بالضاد المعجمة وبعد الألف باء موحدة ثم همزة ابن الحرث البرجمي ينتهي نسبه إلى تميم وذكر فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه جنى جناية في زمن عثمان رضي الله عنه فحبسه فجاء ابنه عمير وأراد الفتك بعثمان رضي الله عنه ثم جبن عنه وفي ذلك يقول
( هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله ) (1)
ويقول فيها أيضا
( وقائلة لا يبعد الله ضابئا ** ولا تبعدن أخلاقه وشمائله )
إلى أن يقول فيها أيضا
____________________
1- الطويل
(1/187)
( ولا تقربن أمر الصريمة بامرئ ** إذا رام أمرا عوفته عواذله )
( فلا الفتك ما أمرت فيه ولا الذي ** تحدت من لاقيت أنك قاتله )
( وما الفتك إلا لامرئ ذي حفيظة ** إذا هم لم ترعد عليه مفاصله )
ثم لما قتل عثمان رضي الله عنه وثب عليه عمير المذكور فكسر ضلعين من اضلاعه ثم إن الحجاج قتله كما سيأتي مشروحا في شواهد الإيجاز عند قوله أنا ابن جلا إن شاء الله تعالى
وكان السبب في حبس عثمان لضابئ أنه كان استعار من بعض بني حنظلة كلبا يصيد به فطالبوه به فامتنع من إعطائه فأخذوه منه قهرا فغضب ورمى أمهم بالكلب وهجاهم بقوله
( تجشم نحوي وفد قرحان شقة ** تظل به الوجناء وهي حسير )
( فأردفتهم كلبا فراحوا كأنما ** حباهم بتاج الهرمزان أمير )
( وقلدتهم ما لو رميت متالعا ** به وهو مغبر لكاد يطير )
( فيا راكبا إما عرضت فبلغن ** أسامة عني والأمور تدور )
( فأمكم لا تتركوها وكلبكم ** فإن عقوق الوالدين كبير )
( فإنك كلب قد ضريت بما ترى ** سميع بما فوق الفراش بصير )
( إذا عبقت من آخر الليل دخنة ** يبيت له فوق الفراش هرير ) (1)
فاستعدوا عليه أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه فحبسه وقال والله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حيا لنزلت فيك آية وما رأيت أحدا رمى قوما بكلب قبلك
____________________
1- الطويل
(1/188)
وحدث أبو بكر بن عياش قال كان عثمان رضي الله عنه يحبس في الهجاء فهجا ضابئ قوما فحبسه عثمان رضي الله عنه ثم استعرضه فأخذ سكينا فجعلها في أسفل نعله فأعلم عثمان بذلك فضربه ورده إلى الحبس
34
( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف )
البيت لقيس بن الخطيم من قصيدة من المنسرح أولها
( رد الخليط الجمال فانصرفوا ** ماذا عليهم لو أنهم وقفوا )
( لو وقفوا ساعة نسائلهم ** ريث يضحي جماله السلف )
( فيهم لعوب لعساء آنسة الدل عروب يسوءها الخلف ** )
( بين شكول النساء خلقتها ** قصد فلا جثلة ولا قضف )
( تنام عن كبر شأنها فإذا ** قامت رويدا تكاد تنع طف ) (1)
____________________
1- المنسرح
(1/189)
إلى أن قال منها أيضا
( أبلغ بني مذحج وقومهم ** خطيم أنا وراءهم أنف )
( إنا وإن قل نصرنا لهم ** أكبادنا من ورائهم تجف )
( وإننا دون ما يسومهم الأعداء ** من ضيم خطة نكف )
( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف )
( يا مال والسيد المعمم قد ** يطرأ في بعض رأيه السرف )
( نحن المكيثون حيث يحمد بالمكث ونحن المصالت الأنف ** )
( يا مال والحق إن قنعت به ** فالحق فيه لأمرنا نصف )
( خالفت في الرأي كل ذي فخر ** والبغي يا مال غير ما تصف )
( إن بجيرا مولى لقومكم ** والحق نوفي به ونعترف ) (1)
والرأي الاعتقاد ويجمع على آراء وأراء
والشاهد فيه ترك المسند وهو راضون فقوله راض خبر المبتدأ الثاني وخبر الأول محذوف على عكس البيت السابق
ومثله قول الشاعر
( رماني بأمر كنت منه ووالدي ** بريا ومن أجل الغوى رماني ) + الطويل +
وقول المتنبي
( قالت وقد رأت اصفراري من به ** وتنهدت فأجبتها المتنهد ) + الكامل +
____________________
1- المنسرح
(1/190)
أي المتنهد هو المطالب به
وقيس بن الخطيم بالخاء المعجمة شاعر جاهلي وابنه ثابت رضي الله عنه مذكور في الصحابة رضي الله عنهم وشهد مع علي كرم الله وجهه صفين والجمل والنهروان
وقيس هذا قتل أبوه وهو صغير فلما بلغ قتل قاتل أبيه ونشأت بسبب ذلك حروب بين قومه وبين الخزرج في خبر يطول ذكره
وكان قيس بن الخطيم مقرون الحاجبين أدعج العينين أحمر الشفتين براق الثنايا كأن بينهما برقا ما رأته حليلة رجل قط إلا ذهب عقلها
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه للخنساء اهجي قيس بن الخطيم فقالت لا أهجو أحدا حتى أراه فجاءته يوما فرأته في مشربة ملتفا بكساء له فنخسته برجلها وقالت قم فقام فقالت أقبل فأقبل ثم قالت أدبر فأدبر ثم قالت أقبل فأقبل قال والله لكأنها والية تعترض عبدا تشتريه ثم عاد إلى حاله نائما فولت وقالت والله لا أهجو هذا أبدا
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه قدم النابغة السوق فنزل عن راحلته ثم جثا على ركبتيه واعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول
( عرفت منازلا بعريتنات ** فأعلى الجزع للحي المبن ) (1)
فقلت هلك الشيخ ورأيته تبع قافية منكرة قال ويقال أنه
____________________
1- الوافر
(1/191)
قالها في موضعه فما زال ينشد حتى أتى على آخرها ثم قال إلا رجل ينشد فتقدم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشد
( أتعرف رسما كاطراد المذاهب ** ) (1)
حتى فرغ منها فقال له أنت أشعر الناس يا ابن أخي قال حسان رضي الله عنه فدخلني منه من ذلك وإني مع ذلك لأجد القوة في نفسي عليهما ثم تقدمت فجلست بين يديه فقال أنشد فوالله إنك لشاعر قبل أن تتكلم قال وكان يعرفني قبل ذلك فأنشدته فقال أنت أشعر الناس
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي فاستنشدهم صلى الله عليه وسلم قصيدة قيس بن الخطيم وهي
( أتعرف رسما كاطراد المذاهب ** لعمرة وحشا غير موقف راكب )
فأنشده بعضهم إياها فلما وصل إلى قوله منها
( أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ** كأن يدي بالسيف مخراق لاعب )
فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل كان كما ذكر فشهد ثابت بن قيس بن شماس قال والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلاله وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر هذا في هذه الرواية
وهذه القصيدة من غرر القصائد وبيتها هو قوله
____________________
1- الطويل
(1/192)
( تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ** بدا حاجب منها وضنت بحاجب )
وعن المفضل أن حرب الأوس والخزرج لما هدأت تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته فيهم فتآمروا وتواعدوا على قتله فخرج عشية من منزله في ملاءتين يريد مالا له بالشوط قلت وهو حائط عند جبل أحد فلما مر بأطم بني حارثة رمي من الأطم بثلاثة أسهم فوقع أحدها في صدره فصاح صيحة سمعها رهطة فجاؤه فحملوه إلى منزله فلم يروا له كفوا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مبذول النجاري فاندس إليه رجل حتى اغتاله في منزله فقتله بأن ضرب عنقه واحتمل رأسه وأتى به قيسا وهو بأخر رمق فألقاه بين يديه وقال يا قيس قد أدركت بثأرك فقال عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة قال هو أبي صعصعة وأراه الرأس فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات وكان موته على كفره قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة
ومن شعره من قصيدة
( وما بعض الإقامة في ديار ** يهان بها الفتى إلا عناء )
( وبعض خلائق الأقوام داء ** كداء الموت ليس له دواء )
( يريد المرء أن يعطى مناه ** ويأبى الله إلا ما يشاء )
( وكل شديدة نزلت بقوم ** سيأتي بعد شدتها رخاء )
( ولا يعطى الحريص غنى بحرص ** وقد ينمى على الجود الثراء )
____________________
(1/193)
( غناء النفس ما عمرت غناء ** وفقر النفس ما عمرت شقاء )
( وليس بنافع ذا البخل مال ** ولا مزر بصاحبه السخاء )
( وبعض القول ليس له عناج ** كمخص الماء ليس له إتاء )
( وبعض الداء ملتمس شفاه ** وداء النوك ليس له دواء ) (1)
35
( إن محلا وإن مرتحلا ** )
قائله الأعشى الأكبر من قصيدة من المنسرح يمدح بها سلامة ذا فايش واسمه سلامة بن يزيد اليحصبي وكان يظهر للناس في العام مرة مبرقعا
حدث سماك بن حرب قال قال الأعشى اتيت سلامة ذا فايش فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه بعد مدة طويلة فأنشدته
( إن محلا وإن مرتحلا ** وإن في شعر من مضى مثلا )
____________________
1- الوافر
(1/194)
( استأثر الله بالوفاء وبالعدل وأولى الملامة الرجلا ** )
( والأرض حمالة لما حمل الله وما إن يرد ما فعلا ** )
( يوما تراها كشبة أردية العصب ويوما أديمها نغلا ** )
( الشعر قلدته سلامة ذا ** فايش والشيء حيثما جعلا )
فقال صدقت الشيء حيثما جعل وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللا وأعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا وقال لي إياك أن تخدع عما فيها قال فأتيت الحيرة فبعتها بثلثمائة ناقة حمراء
والمحل بفتح الحاء المهملة المنزل والمرتحل بالفتح أيضا المكان المرتحل عنه
والشاهد فيه حذف المسند الذي هو هنا ظرف
والمعنى إن لنا في الدنيا حلولا ولنا عنها إلى الآخرة ارتحالا
وقد اختلف في حذف خبر إن فأجازه سيبويه إذا علم سواء كان الاسم معرفة أو نكرة وهو الصحيح وأجازه الكوفيون إن كان الاسم نكرة وقال الفراء لا يجوز معرفة كان أو نكرة إلا إذا كان بالتكرير كهذا البيت
____________________
(1/195)
والأعشى اسمه ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل ينتهي نسبه لنزار وكان يقال لأبيه قتيل الجوع سمي بذلك لأنه دخل غارا ليستظل فيه من الحر فوقعت صخرة من الجبل فسدت فم الغار فمات فيه جوعا وفيه يقول جهنام واسمه عمرو وكان يتهاجى هو والأعشى
( أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ** وخالك عبد من خماعة راضع ) (1)
وكان الأعشى يكنى أبا بصير وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولها
وسئل يونس النحوي من أشعر الناس فقال لا أومئ إلى رجل بعينه ولكني أقول امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب
وقال أبو عبيدة من قدم الأعشى احتج بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر وليس ذلك لغيره ويقول هو أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد وكان يغنى بشعره فكانت العرب تسميه صناجة العرب
____________________
1- الطويل
(1/196)
وحدث يحيى بن سليم الكاتب قال بعثني أبو جعفر المنصور بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله من أشعر الناس قال فأتيت حمادا فاستأذنت وقلت يا غلام فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال من أنت فقلت يحيى بن سليم رسول أمير المؤمنين فقال ادخل رحمك الله فدخلت أتسمت الصوت حتى وقفت على باب البيت فإذا حماد عريان وعلى سوءتيه شاهشفرم قلت وهو الريحان فقلت له إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس قال نعم ذلك الأعشى صناجها
وحدث رجل من أهل البصرة أنه حج فقال إني لأسير في ليلة أضحيانة إذ نظرت إلى رجل شاب راكب على ظليم قد زمه وخطمه وهو يذهب عليه ويجيء قال وهو مع ذلك يرتجز ويقول
( هل يبلغنيهم إلى الصباح ** هقل كأن رأسه جماح ) (1)
فعلمت أنه ليس بإنسي فاستوحشت منه فتردد علي ذاهبا وراجعا حتى انست به فقلت من أشعر الناس قال الذي يقول
____________________
1- الرجز
(1/197)
( وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل ) (1)
فقتلت ومن هو قال امرؤ القيس قلت ومن الثاني قال الذي يقول
( تطرد القر بحر ساخن ** وعكيك القيظ إن جاء بقر ) + الرمل +
قلت ومن يقوله قال طرفة قلت ومن الثالث قال الذي يقول
( وتبرد برد زداء العروس ** بالصيف رقرقت فيه العبيرا ) + المتقارب +
قلت ومن يقوله قال الأعشى ثم ذهب
وقال الشعبي رحمه الله الأعشى أغزل الناس في بيت واحد وأخنث الناس في بيت واحد وأشجع الناس في بيت واحد فأما أغزل بيت فقوله
( غراء فرعاء مصقول عوارضها ** تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل ) + البسيط +
وأما أخنث بيت فقوله
( قالت هريرة لما جئت زائرها ** ويلي عليك وويلي منك يا رجل ) + البسيط +
وأما أشجع بيت فقوله
( قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ** أو تنزلون فإنا معشر نزل ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(1/198)
وهذه الأبيات من قصيدة للأعشى طنابة مطلعها
( ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعا أيها الرجل )
وقد ذكرت بها ما انشده السراج الوراق مداعبا لشخص يدعى النجم وكان اشترى جارية اسمها زبيدة من سيد لها جميل الوجه يسمى فخر الدين بن عثمان فحملت سيدها النجم على أن أزارها بيت سيدها الأول
( ذابت زبيدة من شوق لسيدها ** عثمان والنجم بالنيران مشتعل )
( وما تلام ونيل الفخر يعجبها ** وبالزيارة لم يبرح لها شغل )
( فقل لطائر عقل قد اتاه بها ** ويلي عليك وويلي منك يا رجل )
( لو كنت يا سطل ذا أذن تصيخ إلى ** عذل عذلتك لو يجدي لك العذل )
( تقود ظبية آرام إلى أسد ** لو التقى لمضت أنيابه العصل )
( ومن يرى ذلك الوجه الجميل ولا ** يود من قبحك المشهور ينفصل )
( هذي بثينة والمجنون قائدها ** إلى جميل أجاد المح يا جمل )
( وهبة عف أما تبقى محا سنها ** في قلبه يا لكاع الوقت يا زحل )
( أف لعقلك يا متبوع إنك ذو ** رأس خفيف وذاك الطود والجبل )
( والويل ويلك إن ذاقت عسيلته ** وبات يجتمعان الزبد والعسل )
( لأنشدنك إن ودعتها سفها ** ودع هريرة إن الركب مرتحل )
( وإن يكن ذاك أعشى كنت أنت إذا ** أعمى فلا اتضحت يوما لك السبل ) (1)
رجع إلى أخبار الأعشى
قدم الأخطل الكوفة فأتاه الشعبي يسمع من شعره قال فوجدته يتغدى
____________________
1- البسيط
(1/199)
فدعاني إلى الغذاء فأبيت فقال ما حاجتك قلت أحب أن أسمع من شعرك فأنشدني
( صرمت أمامة حبلها ورعوم ** ) (1)
فلما انتهى إلى قوله
( وإذا تعاورت الأكف ختامها ** نفخت فنال رياحها المزكوم ) (1)
قال لي يا شعبي ناك الأخطل أمهات الشعراء بهذا البيت فقلت الأعشى في هذا أشعر منك يا أبا مالك قال وكيف قلت لأنه قال
( من خمر عانة قد أتى لختامه ** حول تسل غمامة المزكوم ) (1)
فقال وضرب بالكأس الأرض هو والمسيح أشعر مني ناك والله أمهات الشعراء إلا أنا
وحدث هشام بن القاسم الغزي وكان علامة بأمر الأعشى أنه وفد
____________________
1- الكامل
(1/200)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مدحه بقصيدته التي أولها
( ألم تكتحل عيناك ليلة ارمدا ** وعادك ما عاد السليم المسهدا )
( وما ذاك من عشق النساء وإنما ** تناسيت قبل اليوم خلة مهددا ) (1)
وفيها أيضا يقول لناقته
( فآليت لا أرثي لها من كلالة ** ولا من حفى حتى تزور محمدا )
( نبي يرى ما لا ترون وذكره ** اغار لعمري في البلاد وانجدا )
( متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ** تراحي وتلقى من فواضله ندى )
فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه وقالوا هذا صناجة العرب ما يمدح أحدا قط إلا رفع من قدره فلما ورد عليهم قالوا أين أردت يا أبا بصير قال أردت صاحبكم هذا لأسلم على يديه قالوا أنه ينهاك عن حلال ويحرمها عليك وكلها بك رافق ولك موافق قال وما هن قال أبو سفيان بن حرب الزنى قال لقد تركني الزنى وما تركته قال ثم ماذا قال القمار قال لعلي إن لقيته أصبت منه عوضا من القمار قال ثم ماذا قال الربا قال ما دنت وما أدنت قط قال ثم ماذا قال الخمر قال أوه ارجع إلى صبابة بقيت لي في المهراس فأشربها فقال له أبو سفيان فهل لك في شيء خير لك مما هممت به قال وما هو قال نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه حتى تنظر ما يصير إليه امرنا فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا وإن ظهر علينا أتيته قال ما اكره ذاك قال
____________________
1- الطويل
(1/201)
أبو سفيان يا معشر قريش هذا الأعشى فوالله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره فاجمعوا له مائة من الإبل ففعلوا فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان بقاع منفوحة رماه بعيره فقتله
وحدث محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة قال قبر الأعشى بمنفوحة وأنا رأيته فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره فشربوا عنده وصبوا عليه فضلات الأقداح انتهى والله أعلم
36
( ليبك يزيد ضارع لخصومة ** )
قائله ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد من قصيدة من الطويل أولها
( لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل ** حشا جدث تسفي عليه الروائح )
( لقد كان ممن يبسط الكف بالندى ** إذا ضن بالخير الأكف الشحائح )
( فبعدك أبدى ذو الضغينة ضغنه ** وسدد لي الطرف العيون الكواشح )
( ذكرت الذي مات الندى عند موته ** بعافية إذ صالح القوم صالح )
____________________
(1/202)
( إذا أرقى افنى من الليل ما مضى ** تمطى به ثني من الليل راجح )
( ليبك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح )
( عرى بعد ما جف الثرى عن نقابه ** بعصماء تدري كيف تمشي المنائح ) (1)
والضارع الخاضع المستكن من الضراعة وهي الخضوع والتذلل والجار والمجرور متعلق بضارع وإن لم يعتمد على شيء لأن الجار والمجرور تكفيه رائحة الفعل أي يبكيه من يذل لأجل خصومة لأنه كان ملجأ وظهيرا للأذلاء والضعفاء وتعليقه بيبكي ليس بقوي والمختبط الذي يأتيك للمعروف من غير وسيلة وأصله من الخبط وهو ضرب الشجر ليسقط ورقها للإبل والطوائح جمع مطيحة وهي القواذف على غير قياس كلواقح جمع ملقحة يقال طوحته الطوائح أي نزلت به المهالك ولا يقال المطوحات وهو نادر
والشاهد فيه وقوع الكلام جوابا لسؤال مقدر مشتمل على المسند وعدل عن بنائه للمفعول لتكرير الإسناد إجمالا وتفصيلا إذ هو أوكد وأقوى في النفس والله أعلم
____________________
1- الطويل
(1/203)
37
( او كلما وردت عكاظ قبيلة ** بعثوا إلي عريفهم يتوسم )
البيت لطريف بن تميم العنبري من أبيات من الكامل وبعده
( فتوسموني إنني أنا ذلكم ** شاكي سلاحي في الحوادث معلم )
( تحتي الأغر وفوق جلدي نثرة ** زعف ترد السيف وهو مثلم )
( حولي أسيد والهجيم ومازن ** وإذا حللت فحول بيتي خضم ) (1)
وعكاظ سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوما تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون ومنه الأديم العكاظي والقبيلة بنو أب واحد والعريف رئيس القوم لأنه عرف بذلك أو النقيب وهو دون الرئيس والتوسم التخيل والتفرس
والمعنى إن لي على كل قبيلة جناية فمتى وردوا عكاظ طلبني القيم بأمرهم وكانت فرسان العرب إذا كان أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم
____________________
1- الكامل
(1/204)
بعضا تقنعوا حتى لا يعرفوا وذكر عن طريف هذا وكان من الشجعان أنه كان لا يتقنع كما يتقنعون فوافى عكاظ سنة وقد حشدت بكر ابن وائل وكان طريف هذا قبل ذلك قد قتل شراحيل الشيباني فقال حصيصة بن شراحيل أروني طريفا فأروه إياه فجعل كلما مر به طريف تامله ونظر إليه حتى فطن له طريف فقال له ما لك تنظر إلي مرة بعد مرة فقال أتوسمك لأعرفك فلله علي لئن لقيتك في حرب لأقتلنك أو لتقتلني فقال طريف عند ذلك الأبيات المارة
والشاهد فيه مجي المسند فعلا ليفيد حدوث التجدد حالا بعد حال وهو هنا يتوسم أي يتفرس الوجوه ويتصفحها يحدث منه ذلك شيئا فشيئا ولحظة فلحظة
ثم إن بني عائذة حلفاء بني ربيعة من ذهل بن شيبان خرج منها رجلان يصيدان فعرض لهما رجل من بني شيبان فذعر عليهما صيدهما فوثبا عليه فقتلاه فثارت بنو مرة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما فأبت بنو ربيعة عليهم ذلك فقال هانئ بن مسعود وهو رئيسهم يا بني ربيعة إن إخوانكم قد أرادوا ظلمكم فانحازوا عنهم ففارقوهم فساروا حتى نزلوا بمبايض ماء لهم فأبق عبد لرجل من بني ربيعة وسار إلى بلاد تميم فأخبرهم أن حيا جريدا من بني بكر بن وائل نزل على مبايض وهم بنو ربيعة والحي الجريد المنتقى من قومه فقال طريف بن
____________________
(1/205)
العنبري هؤلاء ثأري يا آل تميم إنما هم أكلة رأس وأقبل في بني عمرو بن تميم فأنذرت بهم بنو ربيعة فانحاز بهم هانئ بن مسعود رئيسهم إلى علم مبايض وأقاموا عليه وسرحوا بالأموال والسرح وصحبتهم تميم فقال لهم طريف افرغوا من هؤلاء ألاكلب يصف لكم ما وراءهم فقال له بعض رؤساء قومه أنقاتل أكلبا أحرزوا أنفسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي وأبوا عليه وقال هانئ لأصحابه لا يقاتل رجل منكم فلحقت تميم بالنعم والعيال فأغاروا عليهما فلما ملأوا أيديهم من الغنيمة قال هانئ لأصحابه احملوا عليهم فهزموهم وقتل يومئذ طريف بن العنبري قتله حصيصة الشيباني بن شراحيل وقال في ذلك
( ولقد دعوت طريف دعوة جاهل ** سفها وأنت بمعلم قد تعلم )
( وأتيت حيا في الحروب محلهم ** والجيش باسم أبيهم يستهزم )
( فوجدت قوما يمنعون ذمارهم ** بسلا إذا هاب الفوارس أقدموا )
( وإذا دعوا ببني ربيعة شمروا ** بكتائب دون النساء تلملم )
( حشدوا عليك وعجلوا بقراهم ** وحموا ذمار أبيهم أن يشتموا )
( سلبوك درعك والأغر كليهما ** وبنو أسيد أسلموك وخضم )
____________________
(1/206)
38
( لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ** لكن يمر عليها وهو منطلق )
البيت للنضر بن جؤية أو جؤية بن النضر من أبيات من البسيط وقبله
( قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ** وما بنا سرف فيها ولا خرق )
( إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ** ظلت إلى طرق المعروف تستبق ) (1)
وبعدهما البيت وبعده
( حتى يصير إلى نذل يخلده ** يكاد من صره إياه ينمزق ) (1)
ونسبة صاحب المغرب لملك إفريقية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب الأزدي
والشاهد فيه مجيء المسند اسما لإفادة الثبوت والدوام لا التقييد والتجدد يعني أن الانطلاق ثابت له من غير اعتبار تجدد
وفي معنى البيت قول المتنبي
( وكلما لقى الدينار صاحبه ** في ملكه افترقا من قبل يصطحبا )
( مال كأن غراب البين يرقبه ** فكلما قيل هذا مجتد نعبا ) (1)
وما أحسن قول ابن النقيب في معناه
( وما بين كفي والدراهم عامر ** ولست لها دون الورى بخليل )
( وما استوطنتها قط يوما وإنما ** تمر عليها عابرات سبيل ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(1/207)
وما ألطف قول السراج الوراق
( إن الدراهم مسها ** ألم يشق على الكرام )
( الضرب أول أمرها ** والحبس في أيدي اللئام )
( ما ذا على شؤم الدارهم ** من مقاساة الأنام )
( ولخوفها من ذا وذاك ** تفر من أيدي الكرام ) (1)
ولطيف قول بعضهم
( رأيت الدراهم أبغضنني ** كأني قتلت أبا الدرهم ) + المتقارب +
39
( له همم لا منتهى لكبارها ** )
قائله حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم من قصيدة من الطويل وتمامه
( وهمته الصغرى أجل من الدهر ** )
وذكر بعضهم أنه لبكر بن النطاح في أبى دلف العجلي ولعل الحامل له على هذا ما حكى أن أبا دلف لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله وقد أردف فارش منهم رفيقا له خلفه فطعنهما جميعا فأنفذهما فتحدث الناس أنا انفذ بطعنة واحدة فارسين فلما قدم من وجهة دخل عليه ابن النطاح فأنشده قوله فيه
( قالوا وينظم فارسين بطعنة ** يوم اللقاء ولا يراه جليلا )
( لا تعجبوا فلو أن طول قناته ** ميل إذن نظم الفوارس ميلا ) + الكامل +
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/208)
فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم فقال بكر فيه أيضا
( له راحة لو أن معشار جودها ** على البر كان البر أندى من البحر )
( ولو أن خلق الله في جسم فارس ** وبارزه كان الخلي من العمر )
( أبا دلف بوركت في كل بلدة ** كما بوركت قي شهرها ليلة القدر ) (1)
فلما كانت هذه الأبيات موافقة لذلك البيت في الوزن والقافية نسب لبكر بن النطاح المذكور والذي يقوى أنه ليس لبكر بن النطاح أنه لم يوجد في أخباره إلا الأبيات الثلاثة المذكورة وهذا البيت جليل بالنسبة إليها فلو كان منها لنص عليه بالذكر ونقل بعضهم أن أعرابيا دخل على أمير فقال يمدحه
( فتى تهرب الأموال من جود كفه ** كما يهرب الشيطان من ليلة القدر )
( له همم لا منتهى لكبارها ** وهمته الصغرى اجل من الدهر )
( له راحة لو أن معشار جودها ** على البر كان البر اندى من البحر ) (1)
فقال له الأمير احتكم أو فوض إلي الحكم فقال الأعرابي بل أحتكم بكل بيت ألف درهم فقال الممدوح لو فوضت إلينا الحكم لكان خيرا لك فقال لم يكن في الدنيا ما يسع حكمك فقال أنت في كلامك أشعر من شعرك وأمر مكان كل ألف بأربعة آلاف
والهمم واحدها همة بالكسر وتفتح وهي ما هم به من أمر ليفعل
والشاهد فيه تقديم المسند وهو له للتنبيه من أول وهلة على أنه خبر لهمم لا نعت له إذ لو تأخر لتوهم أنه نعت له لا خبر
وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الخزرجي رضي الله عنه وأمه
____________________
1- الطويل
(1/209)
الفريعة ويكنى أبا الوليد وهو من فحول الشعراء وقد قيل إنه أشعر أهل المدن وكان أحد المعمرين المخضرمين عمر مائة وعشرين سنة منها ستون في الجاهلية وستون في الإسلام
وعن سليمان بن يسار قال رأيت حسان بن ثابت رضي الله عنه وله ناصية قد سد لها بين عينيه
وعن محمد النوفلي رحمه الله قال كان حسان بن ثابت يخضب شاربه وعنفقته بالحناء ولا يخضب سائر لحيته فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت لم تفعل هذا قال لأكون كأني أسد ولغ في دم
وعن أبي عبادة قال فضل حسان بن ثابت الشعراء بثلاثة كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة وشاعر اليمن كلها في الإسلام
وعن سعيد بن المسيب رحمه الله قال جاء حسان رضي الله عنه إلى نفر فيهم أبو هريرة فقال أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني ثم قال اللهم أيده بروح القدس قال أبو هريرة اللهم نعم
وحدث سماك بن حرب قال قام حسان فقال يا رسول الله إيذن لي فيه يعني أبا سفيان بن حرب وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج له لسانا اسود وقال يا رسول الله لو شئت لفريت به المزاد
____________________
(1/210)
إيذن لي فيه قال اذهب إلى أبي بكر ليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم ثم اهجهم وجبريل معك فأتى أبا بكر فأعلمه بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال كف عن فلانة واذكر فلانة وكف عن فلان واذكر فلانا فقال
( هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء )
( فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء )
( أتهجوه ولست له بند ** فشركما لخيركما الفداء ) (1)
وحدث جويرية بن أسماء قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت عبد الله بن رواحة فقال واحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن وأمرت حسان بن ثابت فشفى وأشفى
وعن جابر رضي الله عنه قال لما كان عام الأحزاب ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا قال النبي صلى الله عليه وسلم من يحمي أعراض المسلمين فقال كعب رضي الله عنه أنا يا رسول الله وقال عبد الله بن رواحة أنا يا رسول الله وقال حسان بن ثابت أنا يا رسول الله قال عليه السلام نعم اهجهم أنت فإنه سيعينك الله بروح القدس
وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال قد جاء اللعين حسان من الشام فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ونفسه
وعن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان وهو يقول
( حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرتى من لحوم الغوافل ) + الطويل +
____________________
1- الوافر
(1/211)
فقالت له عائشة رضي الله عنها لكن أنت لست كذلك فقلت لها أيدخل هذا عليك وقد قال الله عز وجل ! ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ! فقالت أما تراه في عذاب عظيم وقد ذهب بصره
وحدث مالك بن عامر قال بينا نحن جلوس عند حسان بن ثابت وحسان مضطجع مسند رجليه إلى فارع قد رفعهما عليه إذ قال مه ما رأيتم ما مر بكم الساعة قال مالك فقلنا لا والله وما هو فقال حسان فاختة مرت بكم الساعة بيني وبين فارع فصدمتني أو قال فزحمتني قال فقلنا وما هي قال
( ستأتيكم غدا أحاديث جمة ** فأصغوا لها آذانكم وتسمعوا ) (1) قال مالك بن عامر فصبحنا من الغد حديث صفين
وحدث العلاء بن جزء العنبري قال بينا حسان بن ثابت بالخيف وهو مكفوف إذ زفر زفرة ثم قال
( وكأن حافرها بكل خميلة ** صاع يكيل به شحيح معدم )
( عاري الأشاجع من ثقيف أصله ** عبد ويزعم أنه من يقدم ) + الكامل +
قال والمغيرة بن شعبة الثقفي جالس قريبا فسمع ما يقول فبعث إليه
____________________
1- الطويل
(1/212)
بخمسة آلاف درهم فقال من بعث إلى بهذه فقالوا المغيرة بن شعبة سمع ما قلت فقال واسوأتاه وقبلها
وحدث الأصمعي قال جاء الحارث بن عوف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أجرني من شعر حسان فلو مزج البحر بشعره لمزجه وكان السبب في ذلك أن الحارث بن عوف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابعث معي من يدعو إلى دينك فإني له جار فأرسل صلى الله عليه وسلم معه رجلا من الأنصار فغدرت بالحارث عشيرته فقتلوا الأنصاري فقدم الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم لا يؤنب أحدا في وجهه فقال ادعوا لي حسان فلما رأى الحارث أنشده
( يا حار من يغدر بذمة جاره ** منكم فإن محمدا لم يغدر )
( إن تغدروا فالغدر منكم شيمة ** والغدر ينبت في أصول السخبر ) (1) فقال الحارث اكففه عني يا محمد وأؤدي إليك دية الخفارة فأدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين عشراء وكذلك كانت دية الخفارة وقال يا محمد إني عائذ بك من شعره فلو مزج البحر بشعره لمزجه
وحدث يوسف بن ماهك عن أمه قالت كنت أطوف مع عائشة رضي الله عنها فذكرت حسان فسببته فقالت بئس ما قلت تسبينه وهو الذي يقول
( فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء ) + الوافر + فقالت أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك قالت لم يقل شيئا ولكنه الذي قال
( حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرتى من لحوم الغوافل )
( فإن كان ما قد جاء عني قلته ** فلا رفعت سوطي إلي أناملي ) + الطويل +
وكان حسان رضي الله عنه جبانا حدث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
____________________
1- الكامل
(1/213)
قال كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت يوم الخندق قالت وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا إن أتانا آت قالت فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطوف بالحصن وإني والله ما آمنة أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا قالت فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني لم من سلبه إلا أنه رجل قال مالي إلى سلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب
وروى أن حسان أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم
( لقد غدوت أمام القوم منتطقا ** بصارم مثل لون الملح قطاع )
( تحفز عني نجاد السيف سابغة ** فضفاضة مثل لون النهي بالقاع ) (1)
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن حسان أنه ضحك من صفته نفسه مع جبنه
____________________
1- البسيط
(1/214)
وكانت وفاته بالمدينة المنورة سنة أربع وخمسين من الهجرة رضي الله عنه
40
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
البيت لمحمد بن وهيب من البسيط يمدح المعتصم وأبو إسحاق كنيته واسمه محمد
حدث أبو محلم قال اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك الزيات فقال لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري في الرشيد
( خليفة الله إن الجود أودية ** أحلك الله منها حيث تجتمع )
( من لم يكن ببني العباس معتصما ** فليس بالصلوات الخمس ينتفع )
( إن أخلف القطر لم تخلف مخايله ** أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع ) (1)
فليدخل وإلا فلينصرف فقام محمد بن وهيب فقال فينا من يقول مثله قال وأي شيء قلت فقال
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
( فالشمس تحكيه في الإشراق طالعة ** إذا تقطع عن إدراكها النظر )
( والبدر يحكيه في الظلماء منبلجا ** إذا استنارت لياليه به الغرر )
( يحكي أفاعيله في كل نائبة ** الغيث والليث والصمصامة الذكر )
( فالغيث يحكي ندى كفيه منهمرا ** إذا استهل بصوب الديمة المطر )
( وربما صال أحيانا على حنق ** شبيه صولته الضرغامة الهصر )
( والهندواني يحكي من عزائمه ** صريمة الرأي منه النقض والمرر )
____________________
1- البسيط
(1/215)
( وكلها مشبة شيئا على حدة ** وقد تخالف فيها الفعل والصور )
( وأنت جامع ما فيهن من حسن ** فقد تكامل فيك النفع والضرر )
( فالخلق جسم له رأس يدبره ** وأنت جارحتاه السمع والبصر ) (1)
فأمر بإدخاله وأحسن جائزته
ومما يشبه ذلك قول القاسم بن هانئ يمدح جعفرا صاحب المسيلة
( المدنفان من البرية كلها ** جسمي وطرف بابلي أحور )
( والمشرقات النيرات ثلاثة ** الشمس والقمر المنير وجعفر ) + الكامل +
ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة
( شيئان حدث بالقساوة عنهما ** قلب الفتى يهواه قلبي والحجر )
( وثلاثة بالجود حدث عنهم ** البحر والملك المعظم والمطر ) + الكامل +
ويقرب منه قول ابن مطروح في الناصر داود
( ثلاثة ليس لهم رابع ** عليهم معتمد الجود )
( الغيث والبحر وعززهما ** بالملك الناصر داود ) + السريع +
وقول أبي محمد اليافي
( ثلاثة ما اجتمعن في رجل ** إلا وأسلمنه إلى الأجل )
( ذل اغتراب وفاقة وهوى ** وكلها سائق على عجل )
____________________
1- البسيط
(1/216)
( يا عاذل العاشقين إنك لو ** عذرتهم كنت تبت من عذل ) (1)
وقول ابن سكرة
( في وجه إنسانة كلفت بها ** أربعة ما اجتمعن في أحد )
( الوجه بدر والصدغ غالية ** والريق خمر والثغر من برد ) (1)
وما اصدق قول السراج الوراق
( ثلاثة إن صحبت ثلاثة ** أعيت علاج بدوها والحضر )
( عداوة مع حسد وفاقة ** مع كسل وعلة مع كبر ) + الرجز +
وبديع قول ابن نباته المصري
( تناسبت فيمن تعشقته ** ثلاثة تعجب كل البشر )
( من مقلة سهم ومن حاجب ** قوس ومن نغمة صوت وتر ) + السريع +
ومما يناسب هذا المقام ما حكاه المدايني قال بينا سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما تسير ذات ليلة إذ سمعت حاديا يحدو ويقول
( لولا ثلاث هن عيش الدهر ** ) + الرجز +
فقالت لقائد قطارها الحق بنا هذا الرجل حتى نسمع منه ما هذه الثلاثة فطال طلبه لذلك حتى أتعبها فقالت لغلام لها سر أنت حتى تسمع منه فرجع إليها فقال سمعته يقول
( الماء والنوم وأم عمرو ** )
فقالت قبحه الله أتعبني منذ الليلة
____________________
1- المنسرح
(1/217)
ومما يجري من ذلك مجرى الملح ما أنشده الخليل في كتاب العين وهو
( إن في دارنا ثلاث حبالى ** فوددنا لو قد وضعن جميعا )
( جارتي ثم هرتي ثم شاتي ** فإذا ما ولدن كن ربيعا )
( جارتي للرضاع والهر للفار ** وشاتي إذا اشتهينا مجيعا ) (1)
ومن هذا الباب قول جرجيس يهجو طبيبا
( عليله المسكين من شؤمه ** في بحر هلك ما له ساحل )
( ثلاثة تدخل في دفعة ** طلعته والنعش والغاسل ) + السريع +
وقول الآخر
( ثلاثة طاب بها المجلس ** الورد والتفاح والنرجس ) + السريع +
وقول الآخر
( ثلاثة طاب بها العمر ** وجهك والبستان والخمر ) + السريع +
وقول الآخر
( ثلاثة عن غيرها كافيه ** هي المنا والأمن والعافية ) + السريع +
وقول أبي بكر البلخي
( ثلاثة فقدها كبير ** الخبز واللحم والشعير )
( والبيت من كلها خلاء ** فجد بها أيها الأمير ) + من مخلع البسيط +
____________________
1- الخفيف
(1/218)
وقول الآخر
( ثلاثة ليس بها اشتراك ** المشط والمرأة والسواك ) (1)
وقول أبي الحسن العلوي
( ثلاثة موصوفة تجلو البصر ** الماء والوجه الجميل والخضر ) (1)
وقول الآخر
( ثلاثة تذهب عن قلبي الحزن ** الماء والخضرة والوجه الحسن ) (1)
وقول ابن لنكك بديع هنا
( أعد الورى للبرد جندا من الصلا ** ولاقيته من بينهم بجنود )
( ثلاثة نيران فنار مدامة ** ونار صبابات ونار وقود ) + الطويل +
وفي معناه قول الصنوبري
( نار راح ونار خد ونار ** لحشا الصب بينهن استعار )
( ما أبالي ما كان ذا الصيف عندي ** كيف كان الشتاء والأمطار ) + الخفيف +
وظريف قول بعضهم
( ثلاثة يمنة تدور ** الطست والكأس والبخور ) + من مخلع البسيط +
وقول غانم المالقي
( ثلاثة يجهل مقدارها ** الأمن والصحة والقوت )
( فلا تثق بالمال من غيرها ** لو أنه در وياقوت ) + السريع +
وظريف قول عبد الرحمن بن محمد الواسطي
( ما العيش إلا خمسة لا سادس ** لهم وإن قصرت بها الأعمار )
( زمن الربيع وشرخ أيام الصبا ** والكأس والمعشوق والدينار ) + الكامل +
وأنشد ثعلب النحوي
____________________
1- الرجز
(1/219)
( ثلاث خلال للصديق جعلتها ** مضارعة للصوم والصلوات )
( مواساته والصفح عن كل زلة ** وترك ابتذال السر في الخلوات ) (1)
والشاهد في البيت تقديم المسند وهو ثلاثة للتشويق إلى ذكر المسند إليه وهو شمس الضحى وما عطف عليه .
ومثله قول أبي العلاء المعري
( وكالنار الحياة فمن رماد ** أواخرها وأولها دخان ) + الوافر + فتقديم كالنار ومن رماد كلاهما للتشويق
ومحمد بن وهيب حميري شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية وأصله من البصرة وكان يستميح الناس بشعره ويتكسب بالمديح ثم توصل إلى الحسن بن سهل برجاء بن أبي الضحاك ومدحه فأوصله إليه وسمع شعره فأعجب به واقتطعه إليه وأوصله إلى المأمون حتى مدحه وشفع له فأسنى جائزته ثم لم يزل منقطعا إليه حتى مات وكان يتشيع وله مراث في أهل البيت رضوان الله عليهم وهو متوسط بين شعراء طبقته
حدث عن نفسه قال لما تولى الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الجبل قلت فيه شعرا وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي الخزاعي وأبا سعيد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا هذا لعمري من الأشعار التي تلقي بها الملوك فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي
( أجارتنا إن التعفف بالياس ** وبرا على استدرار دنيا بإبساس )
____________________
1- الطويل
(1/220)
( حريان أن لا يقذفا بمذلة ** كريما وان لا يحوجاه إلى الناس )
( أجارتنا أن القداح كواذب ** وأكثر أسباب النجاح مع الياس ) (1)
فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان وخلعة وجائزة حتى انصرم الصيف فقال لي يا محمد إن الشتاء عندنا علج فأعد يوما للوداع فقلت خدمة الأمير أحب إلى فلما كاد الشتاء أن يشتد قال لي هذا يوم الوداع فأنشدني الثلاثة الأبيات فلقد فهمت الشعر كله فلما أنشدته
( أجارتنا أن القداح كواذب ** وأكثر أسباب النجاح مع الياس ) (1)
قال صدقت ثم قال عدوا أبيات القصيدة وأعطوه بكل بيت ألف درهم فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتا فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم وكان فيما أنشدته في مقامي واستحسنه قولي
( دماء المحبين ما تعقل ** أما في الهوى حكم يعدل )
( تعبدني حور الغانيات ** ودان الشباب له الأخضل )
( ونظرة عين تعللتها ** غرارا كما ينظر الأحول )
( مقسمة بين وجه الحبيب ** وطرف الرقيب متى يغفل ) + المتقارب +
وحدث خال أبي هفان قال كنت عند أبي دلف فدخل عليه محمد بن وهيب الشاعر فأعظمه جدا فلما انصرف قال معقل أخوه يا أخي فعلت بهذا ما لم يستأهله ما هو في بيت من الشرف ولا في كمال من الأدب ولا بموضع من السلطان فقال بلى يا أخي إنه لحقيق بذلك أولا يستحقه وهو القائل
____________________
1- الطويل
(1/221)
( يدل على أنه عاشق ** من الدمع مستشهد ناطق )
( ولى مالك أنا عبد له ** مقر بأني له وامق )
( إذا ما سموت إلى وصله ** تعرض لي دونه عائق )
( وحاربني فيه ريب الزمان ** كأن الزمان له عاشق ) (1)
وحدث الحسن بن رجاء قال كان محمد بن وهيب الحميري لما قدم المأمون من خراسان مضاعا مطرحا إنما يتصدى للعامة وأوساط الكتاب والقواد بالمديح ويسترفدهم ويحظى باليسير فلما هذأت الأمور واستقرت واستوثقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوما منفردا بأهله وخاصته وذوى مودته ومن يقرب من أنسه فتوسل إليه محمد بن وهيب بابي حتى أوصله إليه مع الشعراء فلما انتهى إليه القول استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشد قصيدته التي أولها
( ودائع أسرار طوتها السرائر ** وباحت بمكتوماتهن النواظر )
( تمكن في طي الضمير وتحته ** شبا لوعة عضب الغرارين باتر )
( فأعجم عنها ناطق وهو معرب ** وأعربت العجم الجفون النواظر ) + الطويل +
إلى أن قال فيها
( تعظمه الأوهام قبل عيانه ** ويصدر عنه الطرف والطرف حاسر )
( به تجتدى النعما ويستدرك المنى ** وتستكمل الحسنى وترعى الأواصر )
( أصات بنا داعي نوالك مؤذنا ** بجودك إلا أنه لا يحاور )
____________________
1- المتقارب
(1/222)
( قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا ** فمالك موتور وسيفك واتر )
إلى أن قال في آخرها
( ولو لم تكن إلا بنفسك فاخرا ** لما انتسبت إلا إليك المفاخر )
قال فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض وقال أحسنت والله وأجملت ولو لم تقل قط ولا قلت في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول وأمر له بخمسة آلاف دينار فأحضرت واقتطعه إلى نفسه فلم يزل في كنفه أيام ولايته وبعد ذلك إلى أن مات ما تصدى لغيره
وحدث ميمون بن هارون قال كان محمد بن وهيب الشاعر قد مدح علي بن هشام وتردد إلى بابه دفعات فحجبه ولقيه يوما في طريق فسلم عليه فلم يرجع إليه طرفه وكان فيه تيه شديد فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها فلما وصلت إليه مزقها وقال أي شيء يريد هذا الثقيل السيئ الأدب فقيل له ذلك فانصرف مغضبا وقال والله ما أردت ماله وإنما أردت التوسل بجاهه وسيغني الله عنه والله ليذمن مغبة فعله وقال يهجوه
( أزرت عليه لجود خيفة العدم ** فصد منهزما عن شأو ذي الهمم )
( لو كان من فارس في بيت مكرمة ** أو كان من ولد الأملاك والعجم )
( أو كان أوله أهل البطاح أو الركب الملبين إهلالا إلى الحرم ** )
( أيام تنخذ الأصنام آلهة ** فلا نرى عاكفا إلا على صنم )
( لشجعته على فعل الملوك لهم ** طبائع لم ترعها خيفة العدم )
( لم تند كفاك من بذل النوال كما ** لم يند سيفك مذ قلدته بدم )
( كنت امرأ رفعته فتنة فعلا ** أيامها غادرا بالعهد والذمم )
____________________
(1/223)
( حتى إذا انكشفت عنا عمايتها ** ورتب الناس بالأحساب والقدم )
( مات التخلق وارتادتك مرتجعا ** طبيعة نذلة الأخلاق والشيم )
( كذاك من كان لا رأسا ولا ذنبا ** كد اليدين حديث العهد بالنعم )
( هيهات ليس بحمال الديات ولا ** معطى الجزيل ولا المرهوب ذي النقم ) (1)
فلما بلغت الأبيات على بن هشام ندم على ما كان منه وجزع لها وقال لعن الله اللجاج فإنه شر خلق تخلقه الناس ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام وقال الله يعلم أني لأدخل على الخليفة وعلى السيف وأنا مستحي منه أذكر قول محمد بن وهيب في
( لم تند كفاك من بذل النوال كما ** لم يند سيفك مذ قلدته بدم )
وسمع ابن الأعرابي وهو يقول : أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد ابن وهيب وأنشد البيت
وحدث الحسن بن رجاء عن أبيه قال : لما قدم المأمون ولقيه أبو محمد الحسن ابن سهل دخلا جميعا فعارضهما ابن وهيب فقال
( اليوم جددت النعماء والمنن ** فالحمد لله حل العقدة الزمن )
____________________
1- البسيط
(1/224)
( اليوم أظهرت الدنيا محاسنها ** للناس لما التقى المأمون والحسن ) (1)
قال : فلما جلسا سأله المأمون عنه فقال : هذا رجل من حمير شاعر مطبوع اتصل بي متوسلا إلى أمير المؤمنين وطالبا الوصول مع نظرائه فأمر المأمون بإيصاله مع الشعراء فلما وقف بين يديه وأذن له في الإنشاد أنشد قوله
( طللان طال عليهما الأمد ** داثرا فلا علم ولا نضد )
( لبسا البلى فكأنما وجدا ** بعد الأحبة مثل ما أجد )
( حييتما طللين حالهما ** بعد الأحبة غير ما عهدوا )
( إما طواك سلو غانية ** فهواك لا ملل ولا فند )
( إن كنت صادقة الهوى فردي ** في الحب منهله الذي أرد )
( أدمي أرقت وأنت آمنة ** أن ليس لي عقل ولا قود )
( إن كنت فت وخانني نشب ** فلربما لم يحظ مجتهد ) + الكامل +
حتى انتهى إلى مدح المأمون فقال
( يا خير منتسب لمكرمة ** في المجد حيث تنحنح العدد )
( في كل أنملة لراحته ** نوء يسح وعارض حشد )
____________________
1- البسيط
(1/225)
( وإذا القنا رعفت أسنتها ** علقا وصم كعوبها قصد )
( فكأن ضوء جبينه قمر ** وكأنه في صولة أسد )
( وكأنه روح تدبرنا ** حركاته وكأننا جسد )
فاستحسنها المأمون وقال لأبي محمد احتكم له فقال أمير المؤمنين أولى بالحكم ولكن إن أذن لي في المسألة سألت فأما الحكم فلا فقال سل فقال تلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة فقال ذلك والله أردت وأمر أن تعد الأبيات فكانت خمسين فأعطاه خمسين ألف درهم
وعن أحمد بن أبي كامل قال كان محمد بن وهيب تياها شديد الزهاء بنفسه فلما قدم الأفشين وقد قتل بابك مدحه بقصيدته التي أولها
( طلول ومغانيها ** تناجيها وتبكيها ) (1)
يقول فيها
( بعثت الخيل والخير ** عقيد بنواصيها )
وهي من جيد شعره فأنشدنا إياها ثم قال ما بها عيب سوى أنها لا أخت لها قال وأمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي دواد فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألا ألفا وأعطى أبا تمام عشرة آلاف قال ابن أبي كامل فقلت لعلى بن يحيى ابن المنجم أو لا تعجب من هذا الحظ يعطى أبو تمام عشرة آلاف درهم وابن وهيب ثلاثين ألفا وبينهما كما بين السماء والأرض فقال لذلك علة
____________________
1- الهزج
(1/226)
لا تعرفها كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان فلذلك وصل إلى هذا الحال
وحدث أحمد بن أبي كامل أيضا قال كنا في مجلس ومعنا أبو يوسف الكندي واحمد بن أبي فنن فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن وقال هو متكلف حسود إذا أنشد شعرا لنفسه قرظه ووصفه في نصف يوم وشكا أنه مظلوم منحوس الحظ وأنه لا يقصر به عن مراتب القدماء حال وإذا أنشد شعر غيره حسد وإن كان على نبيذ عربد عليه وان كان صاحيا عاداه واعتقد فيه كل مكروه فقلت له كلا كما لي صديق وما أمتنع من وصفكما جميعا بالتقدم وحسن الشعر فأخبرني عما أسألك عنه إخبار منصف أيعد متكلفا من يقول
( أبى لي أغضاء الجفون على القذى ** يقيني أن لا عسر الا مفرج )
( ألا ربما ضاق الفضاء بأهله ** فيظهر ما بين الأسنة مخرج ) (1)
أو يعد متكلفا من يقول
( رأيت واضحا في مفرق الرأس راعها ** شريجين مبيض به ويهيم ) (1)
فأمسك ابن أبي فنن واندفع الكندي فقال كان ابن وهيب ثنويا فقلت له من أين علمت ذلك أكلمك على مذهب الثنوية قط قال لا ولكني استدللت من شعره على مذهبه فقلت ماذا قال حيث يقول
( طللان طال عليهما الأمد ** )
وحيث يقول
( تفتر عن سمطين من ذهب ** )
إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الاثنين فشغلني والله
____________________
1- الطويل
(1/227)
الضحك عن جوابه وقلت له يا أبا يوسف مثلك لا ينبغي أن يتكلم فيما لم ينفذ فيه علمه
ودخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوما وقد مدحه فرأى بين يديه غلمانا روقة مردا وخدما بيضا فرها في غاية الحسن والجمال والنظافة فدهش لما رأى وبقي متحيرا متبلبلا لا ينطق حرفا واحدا فضحك أحمد منه وقال له ويحك مالك تكلم بما تريد فقال
( قد كانت الأصنام وهي قديمة ** كسرت وجدعهن إبراهيم )
( ولديك أصنام سلمن من الأذى ** وصفت لهن نضارة ونعيم )
( وبنا إلى صنم نلوذ بركنه ** فقر وأنت إذا هززت كريم ) (1)
فقال له اختر من شئت فاختار واحدا منهم فأعطاه إياه وقال يمدحه
( فضلت مكارمه على الأقوام ** وعلا فحاز مكارم الأيام )
( وعلته أبهة الجمال كأنه ** قمر بدا لك من خلال غمام )
( إن الأمير على البرية كلها ** بعد الخليفة أحمد بن هشام ) (1)
وحدث محمد بن وهيب قال جلست بالبصرة إلى عطار فإذا أعرابية سوداء قد جاءت فاشترت من العطار خلوقا فقلت له تجدها اشترته لابنتها وما ابنتها إلا خنفساء فالتفتت إلى متضاحكة وقالت لا والله إلا مهاة جيداء أن قامت فقناة وان قعدت فحصاة
____________________
1- الكامل
(1/228)
وان مشت فقطاة أسفلها كثيب وأعلاها قضيب لا كفتياتكم اللواتي تسمنونهن بالقتوت ثم انصرفت وهي تقول
( إن القتوت للفتاة مضرطة ** يكربها في البطن حتى تثلطه ) (1)
فلا أعلم أني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها
وبلغ محمد بن وهيب أن دعبلا الخزاعي قال أنا ابن قولي
( لا تعجبي يا سلم من رجل ** ضحك المشيب برأسه فبكى ) + الكامل +
وأن أبا تمام قال أنا ابن قولي
( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول )
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل ) + الكامل +
فقال ابن وهب وأنا ابن قولي
( ما لمن تمت محاسنه ** أن يعادي طرف من رمقا )
( لك أن تبدى لنا حسنا ** ولنا أن نعمل الحدقا ) + المديد +
وحدث أبو ذكوان فقال حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده وهو عليل قال فسألته عن خبره فتشكى ما به ثم قال
( نفوس المنايا بالنفوس تشعبت ** وكل له من مذهب الموت مذهب )
( نراع لذكر الموت ساعة ذكره ** وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب )
( وآجالنا في كل يوم وليلة ** إلينا على غراتنا تتقرب
____________________
1- الرجز
(1/229)
( أأيقن أن الشيب ينقي حياته ** وهو لأخلاق الخطيئة يذهب )
( يقين كأن الشك أغلب أمره ** عليه وعرفان إلى الجهل ينسب )
( وقد ذمت الدنيا إلي نعيمها ** وخاطبني إعجامها وهو معرب )
( ولكنني منها خلقت لغيرها ** وما كنت منه فهو عندي محبب ) (1)
وسأل محمد بن وهيب محمد بن عبد الملك الزيات حاجة فأبطأ فيها فوقف عليه ثم قال له
( طبع الكريم على وفائه ** وعلى التفضل في إخائه )
( تغني عنايته الصديق عن التعرض لأقتضائه ** )
( حسب الكريم حياؤه ** فكل الكريم إلى حيائه ) + الكامل +
فقال له حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت والحاجة تسبقك إلى منزلك ومن شعره الجيد قوله
( أي خير يرجو بنو الدهر ** وما زال قاتلا لبنيه )
( من يعمر يفجع بفقد الأحباء ** ومن مات فالمصيبة فيه ) + الخفيف +
ومثله قول الآخر
( من يتمن العمر فليدرع ** صبرا على فقد أحبائه )
( ومن يعمر يلق في نفسه ** ما يتمناه لأعدائه ) + السريع +
____________________
1- الطويل
(1/230)
شواهد أحوال متعلقات الفعل
____________________
(1/231)
5
41
( شجو حساده وغيظ عداه ** أن يرى مبصر ويسمع واعي )
البيت للبحتري من قصيدة من الخفيف يمدح بها المعتز بالله بن المتوكل على الله ويعرض بالمستعين بالله أحمد بن المعتصم أولها
( لك عهد لدى غير مضاع ** بات شوقي طوعا له ونزاعي )
( وهوى كلما جرى منه دمع ** أيس العاذلون من إقلاعي )
( لو توليت عنه خيف رجوعي ** أو تجوزت فيه خيف ارتجاعي ) (1)
إلى أن يقول في مديحها
( يبهت الوفد في أسرة وجه ** ساطع الضوء مستنير الشعاع )
( من جهير الخطاب يضعف فضلا ** عند حالي تأمل واستماع )
وبعده البيت وهي طويلة
والشاهد فيه جعل الفعل مطلقا كناية عنه متعلقا بمفعول مخصوص وهو هنا يرى ويسمع فإنه كما قال التفتازاني رحمه الله تعالى نزلهما منزلة اللازم أي تصدر منه الرؤية والسماع من غير تعلق بمفعول مخصوص ثم جعلهما كنايتين عن الرؤية والسماع المتعلقين بمفعول مخصوص هو محاسنه وأخباره بادعاء الملازمة بين مطلق الرؤية ورؤية آثاره ومحاسنه وكذلك بين مطلق السماع وسماع أخباره للدلالة على أن آثار وأخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حيث يمتنع خفاؤها فيبصرها كل راء ويسمعها كل واع بل لا يبصر الرائي
____________________
1- الخفيف
(1/232)
5 إلا آثاره ولا يسمع الواعي إلا أخباره فذكر الملزوم وأراد اللازم على ما هو طريق الكناية ولا يخفي فوات هذا المعنى عند ذكر المفعول وتقديره لما في التغافل عن ذكره والإعراض عنه من الإيذان بأن فضائله يكفى فيها أن يكون ذو بصر وسمع حتى يعلم أنه المنفرد بالفضل
ومثله قول عمرو بن معدى كرب الزبيدي
( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت ولكن الرماح أجرت ) (1)
يريد أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبة وهي أنها أجرته أي شقت لسانه
ومثله قول طفيل الغنوي
( جزى الله خيرا جيرة حين أزلقت ** بنا نعلنا في الواطئين فزلت )
( أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ** تلاقي الذي يلقون منا لملت )
( هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ** إلى حجرات أدفأت وأظلت ) (1)
____________________
1- الطويل
(1/233)
وقد شرح المعرى دواوين الثلاثة فسمى شرح ديوان أبي تمام ذكر حبيب وشرح ديوان البحتري عبث الوليد وشرح ديوان المتنبي معجز أحمد
وحدث محمد بن يحيى قال سمعت عبد الله بن الحسين يقول للبحتري وقد اجتمعا في دار عبد الله بالخلد وعنده المبرد وذلك في سنة ست وسبعين ومائتين وقد انشد شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله أنت والله اشعر من أبي تمام في هذا الشعر قال كلا والله إن أبا تمام الرئيس والأستاذ والله ما أكلت الخبز إلا به فقال له المبرد لله درك يا أبا الحسن وكان يكني به أيضا فانك تأبي إلا شرفا من جميع جوانبك
وحدث البحتري قال كان أول أمري في الشعر ونباهتي أن صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم فأقبل على وترك سائر من حضر فلما تفرقوا قال لي أنت اشعر من أنشدني فكيف حالك فشكوت إليه خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق في الشعر وشفع لي إليهم وقال امتدحهم فسرت إليهم فأكرموني بكتابة ووظفوا لي أربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصبته
وحدث البحتري قال أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي مطلعها
____________________
(1/235)
( أأفاق صب من هوى فأفيقا ** أو خان عهدا أو أطاع شفيقا )
فسر بها أبو سعيد وقال أحسنت والله يا فتى وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه فوق كل من حضر في مجلسه تكاد تمس ركبته ركبته فأقبل على وقال يا فتى أما تستحي منى هذا شعري وتنتحله وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد أحقا ما تقول قال نعم وإنما علقه منى فسبقني به إليك وزاد فيه ثم اندفع فأنشد اكثر القصيدة حتى شككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا فأقبل على أبو سعيد فقال لي يا فتى لقد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا فجعلت أحلف بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي وما سبقني إليه أحد ولا سمعته ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئا وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أني سخت في الأرض فقمت منكسر البال اجر رجلي فخرجت فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان فردوني فاقبل علي الرجل فقال الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعت به إلا منك ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ولوددت أن لا تلد طائية إلا مثلك وجعل أبو سعيد يضحك فدعاني أبو تمام فضمني إليه وعانقني وأقبل يقرظني ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به
ثم إن البحتري اختص بأبي سعيد وكان مداحا له طول أيامه ولابنه من بعده ورثاهما بعد مقتلهما وأجاد ومرائية فيها أجود من مدائحه وروى أنه قيل له في ذلك فقال من تمام الوفاء أن تفضل المراني المدائح لا كما قال الآخر وقد سئل عن ضعف مراثيه فقال كنا نعمل للرجاء ونحن الآن نعمل
____________________
(1/236)
للوفاء وبينهما بعد
وكان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم على كل شيء وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول كلا أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وأطال اجتهادكما
وحدث محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب قال دخلت على البحتري يوما فاحتبسني عنده ودعا بطعام له ودعاني إليه فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا اعرفه فدعاه إلى الطعام فتقدم فأكل معه أكلا عنيفا فغاظه ذلك ثم إنه التفت إلي فقال لي أتعرف هذا الشيخ قلت لا قال هذا شيخ من بنى الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر
( وبنو الهجيم قبيلة ملعونة ** حمر اللحى متناسبو الألوان )
( لو يسمعون بأكلة أو شربه ** بعمان أضحى جمعهم بعمان ) (1)
قال فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك
ومن شعره يهجو إنسانا في لسانه حبسة
( أنت كما قد علمت مضطرب الهيئة والقد ظاهر الخلف ** )
____________________
1- الكامل
(1/237)
وحدث أبو الغوث ابن البحتري قال كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا فبعث إلي بنصف قنينة دردي وكتب إلي دونكها يا بني فإنها تكشف القحط وتقوت الرهط
وحدث جحظة قال سمعت البحتري يقول كنت أتعشق غلاما من أهل منبج يقال له شقران فاتفق لي سفر فخرجت فيه وأطلت الغيبة ثم عدت وقد التحى فقلت فيه وكان أول شعر قلته
( نبتت لحية شقران ** شقيق النفس بعدي )
( حلقت كيف أتته ** قبل أن ينجز وعدي ) (1)
وحدث جحظة قال كان نسيم غلام البحتري الذي يقول فيه
( دعا عبرتي تجري على الجور والقصد ** أظن نسيما فارق الهجر من بعدي )
( خلا ناظري من طيفه بعد شخصه ** فوا عجبا للدهر فقدا على فقد ) + الطويل +
غلاما روميا ليس بحسن الوجه وكان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويعتمد أن يصير إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب فإذا حصل في ملكه شبب به وتشوقه ومدح مولاه حتى يهبه له فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفى الناس أمره
وقد قال ابن نباته المصري مشيرا إلى ذلك
( وغانية توافقني إذا ما ** صبوت لها بذا العقل السليم )
( وأعذر إن بسكيت على رياض ** بكاء البحتري على نسيم ) + الوافر +
____________________
1- من مجزوء الرمل
(1/239)
وحدث الأخفش قال كتب البحتري إلى محمد بن القاسم القمي يستهديه نبيذا فبعث إليه مع غلام له أمرد فخمشه البحتري فغضب الغلام غضبا شديدا ظن البحتري أنه سيخبر مولاه بما جرى فكتب إليه
( أبا جعفر كان تخميشنا ** غلامك إحدى الهنات الدنية )
( بعثت إلينا بشمس المدام ** تضيء لنا مع شمس البرية )
( فليت الهدية كان الرسول ** وليت الرسول إلينا الهدية ) (1)
فبعث محمد بن القاسم بالغلام إليه هدية فانقطع البحتري بعد ذلك عنه مدة خجلا مما جرى فكتب إليه محمد بن القاسم
( هجرت كأن البر أعقب حشمة ** ولم أر برا قبل ذا أعقب الهجرا ) + الطويل +
فقال فيه قصيدة يمدحه
( إني هجرتك إذ هجرتك حشمة ** لا العود يذهبها ولا الإبداء )
( أخجلتني بندى يديك فسودت ** ما بيننا تلك اليد البيضاء )
( وقطعتني بالبر حتى إنني ** متوهم أن لا يكون لقاء )
( صلة غدت في الناس وهي قطيعة ** عجب وبر راح وهو جفاء )
( ليواصلنك ركب شعر سائر ** يرويه فيك لحسنه الأعداء )
____________________
1- المتقارب
(1/240)
( حتى يتم لك الثناء مخلدا ** أبدا كما تمت لك النعماء )
( فتظل تحسدك الملوك الصيد بي ** وأظل تحسدني بك الشعراء ) (1)
وحدث البحتري قال أنشدت أبا تمام شيئا من شعري فتمثل ببيت اوس ابن حجر
( إذا مقرم منا ذرى حد نابه ** تخمط منا ناب آخر مقرم ) + الطويل +
ثم قال لي نعيت والله إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا القول فقال إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيئ مثلك أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شيبة وهو بين رهطه يتكلم فقال يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط إلا مات الذي من قبله قلت بل يبقيك الله ويجعلني فداك قال ومات أبو تمام رحمه الله بعد سنة
وحدث أبو عنبس الصيمري قال كنت عند المتوكل والبحتري ينشده قوله
( عن أي ثغر تبتسم ** وبأي طرف تحتكم ) + من مجزوء الكامل +
حتى بلغ إلى قوله فيه
( قل للخليفة جعفر المتوكل بن المعتصم ** )
( والمجتدى ابن المجتدى ** والمنعم ابن المنتقم )
( اسلم لدين محمد ** فإذا سلمت فقد سلم ) + من مجزوء الكامل +
____________________
1- الكامل
(1/241)
قال وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيته مرة جائيا ومرة القهقرى ويهز رأسه مرة ومنكبة أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون لي أحسنت هذا والله مما لا يحسن أحد أن يقول مثله فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي فقال أما تسمع ما يقول يا صيمري فقلت بلى يا سيدي فمرني فيه بما أحببت فقال بحياتي أهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه فقلت تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول فدعا بدواة وقرطاس وحضرني على البديهة
( أدخلت رأسك في الرحم ** وعلمت أنك تنهزم )
( يا بحتري حذار ويحك من قضاضة ضغم ** )
( فلقد اسلت بوالديك من الهجا سيل العرم ** )
( فبأي عرض تعتصم ** وبهتكه جف القلم )
( والله حلفة صادق ** وبقبر أحمد والحرم )
( وبحق جعفر الإمام ** ابن الإمام المعتصم )
( لأصيرنك شهرة ** بين المسيل إلى العلم ) (1)
في أبيات أخر من هذا النمط قال فخرج مغضبا يعدو وجعلت أصيح به
( أدخلت رأسك في الرحم ** وعلمت أنك تنهزم )
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/242)
والمتوكل يضحك ويصفق بيديه حتى غاب عنه وامر لي بالصلة التي أعدت للبحتري
وقال أحمد بن يزيد حدثني أبي جاءني البحتري فقال لي يا أبا خالد أنت عشيرتي وابن عمي وصديقي وقد رأيت ما جرى علي افترى أني أخرج إلى منبج بغير إذن فقد ضاع العلم وهلك الأدب فقلت له لا تفعل من هذا شيئا فإن لي علما بأن الملوك تمزح بأكثر من هذا ومضيت معه إلى الفتح بن خاقان فشكا إليه ذلك فقال له نحوا من قولي ووصله وخلع عليه وسكن منه فسكن إلى ذلك
وقد ذكرت بحال البحتري في إنشاده فصلا ذكره الصاحب بن عباد في وصف أبي الحسن المنجم الشاعر فأحببت إثباته وهو
لما قتل المتوكل قال أبو العنبس الصيمري يرثيه
( يا وحشة الدنيا على جعفر ** على الهمام الملك الأزهر )
( على قتيل من بني هاشم ** بين سرير الملك والمنبر )
( والله رب البيت والمشعر ** والله لو أن قتل البحتري )
( لثار بالشام له ثائر ** في ألف بغل من بني عض خري )
( يقدمهم كل أخي ذلة ** على حمار دبر أعور ) (1)
____________________
1- السريع
(1/243)
فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتري فضحك ثم قال هذا الأحمق الأعوريري أني أجيبه عن مثل هذا ولو عاش امرؤ القيس فقال مثل هذا القول لم أجبه
وقال أبو العباس بن طومار كنت أنادم المتوكل ومعنا البحتري وبين يديه غلام اسمه راح حسن الوجه فقال المتوكل يا فتح إن البحتري يعشق راحا فنظر إليه الفتح وأدمن النظر فلم يره ينظر إليه فقال الفتح يا أمير المؤمنين أرى البحتري في شغل عنه فقال ذاك دليل عليه يا راح خذ قدحا بلورا واملأه شرابا وناوله إياه فلما ناوله بهت البحتري ينظر إليه فقال المتوكل كيف ترى ثم قال يا بحتري قل في راح شعرا ولا تصرح باسمه فقال
( جاز بالود فتى أمسى رهينا بك مدنف ** )
( اسم من أهواه في شعري مقلوب مصحف ** ) (1)
وقال الصولي سمعت عبد الله بن المعتز يقول لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى فليس للعرب سينية مثلها وقصيدته في وصف البركة لكان أشعر الناس في زمانه والقصيدة السينية أولها
( صنت نفسي عما يدنس نفسي ** وترفعت عن جدا كل جبس ) + الخفيف +
إلى أن قال فيها
____________________
1- من مجزوء الرمل
(1/244)
( وكأن الإيوان من عجب الصنعة ** جوب في جنب أرعن جلس )
( يتظنى من الكآبة أن يبدو ** لعيني مصبح أو ممسي )
( مزعجا بالفراق عن أنس إلف ** عز أو مرهقا بتطليق عرس )
( عكست حظه الليالي وبات المشتري ** فيه وهو كوكب نحس )
( فهو يبدي تجلدا وعليه ** كلكل من كلاكل الدهر مرسي )
( لم يعبه أن بزمن بسط الديباج ** واستل من ستور الدمقس )
( مشمخرا تعلو له شرفات ** رفعت في رؤوس رضوى وقدس )
( ليس يدرى أصنع إنس لجن ** سكنوه أم صنع جن لإنس )
( غير أني أراه يشهد أن لم ** يك بانيه في الملوك بنكس ) (1)
وحدث الأخفش قال سألني القاسم بن عبيد الله عن خبر البحتري وقد كان أسكت ومات بتلك العلة فأخبرته بوفاته وانه مات بالسكتة فقال ويحه رمى في أحسنه
وقد جمع الصولي ديوانه ورتبه على الحروف وجمعه ابن حمزة ورتبه على الأنواع وقد جمع البحتري كتاب الحماسة كما فعل أبو تمام وله كتاب معاني الشعر وعاش ثمانين سنة وانتقل في آخر عمره إلى الشأم وتوفي بمنبج
____________________
1- الخفيف
(1/245)
سنة ثلاث وقيل أربع وقيل خمس وثمانين ومائتين رحمه الله تعالى
42
( ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع )
البيت للخريمي من قصيدة من الطويل يرثي بها أبا الهيذام وأولها
( قضى وطرا منك الحبيب المودع ** وحل الذي لا يستطاع فيدفع ) (1)
إلى أن قال فيها
( وأعددته ذخرا لكل ملمة ** وسهم الرزايا بالذخائر مولع )
( وإني وإن أظهرت مني جلادة ** وصانعت أعدائي عليه لموجع )
( ملكت دموع العين حتى رددتها ** إلى ناظري إذ أعين القلب تدمع ) (1)
وبعده البيت
والساحة الفضاء بين الدور
والشاهد فيه ذكر المفعول وهو دما لكون تعلق فعل المشيئة به غريبا
وقد تفنن الشعراء في بكاء الدم وتشعبت مسالكهم في إيراده فمن ذلك قول أبي القاسم بن كيكس
( بكيت دما حتى بقيت بلا دم ** بكاء فتى فرد على سكن فرد )
____________________
1- الطويل
(1/246)
( أأبكي الذي أهواه بالدمع وحده ** لقد جل قدر الدمع فيه إذا عندي ) (1)
وقول الشريف الرضي
( ويوم وقفنا للوداع فكلنا ** يعد مطيع الشوق من كان أحزما )
( فصرت بقلب لا يعنف في الهوى ** وعين متى استمطرتها أمطرت دما ) (1)
ومثله قول مهيار الديلمي
( بكيت على الوادي فحرمت ماءه ** وكيف يحل الماء أكثره دم ) (1)
وقول أبي الحسين الباخرزي
( عجبت من دمعتي وعيني ** من قبل بين وبعد بين )
( قد كان عيني بغير دمع ** فصار دمعي بغير عين ) + من مخلع البسيط +
ومثله قول مؤلفه في مطلع قصيدة
( أواه من دمع بلا عين ** يجري على الخدين من عيني ) + السريع +
وما احسن قول بعضهم
( ولما التقينا للوداع عشية ** وقد راعها صبري لدى موقف البين )
( أتت بصحاح الجوهري دموعها ** فعارضت من دمعي بمختصر العين ) (1)
ولأبي الفتح البكتمري
( قالوا بكيت دما فقلت مسحت من خدي خلوقا ** )
( أبصرت لؤلؤ ثغره ** فنثرت من جفني عقيقا )
( لولا التمسك بالهوى ** لحملت من دمعي غريقا ) + من مجزوء الكامل +
ولابن حمديس
____________________
1- الطويل
(1/247)
( غشيت حجرها دموعي حمرا ** وهي من لوعة الهوى تتحدر )
( فانزوت بالشهيق خوفا وظنت ** حب رمان صدرها قد تنثر )
( قلت عند اختبارها بيديها ** ثمرا صانهن جيب مزرر )
( لم يكن ما ظننت حقا ولكن ** صبغة الوجد صبغ دمعي أحمر ) (1)
وهو ينظر إلى قول المنازي يصف واديا
( وقانا لفحة الرمضاء واد ** سقاه مضاعف الغيث العميم )
( نزلنا دوحه فحنا علينا ** حنو المرضعات على الفطيم )
( وأرشفنا على ظمإ زلالا ** أرق من المدامة للنديم )
( يصد الشمس أنى واجهتنا ** فيحجبها ويأذن للنسيم )
( يروع حصاه حالية العذارى ** فتلمس جانب العقد النظيم ) + الوافر +
أردت البيت الأخير
وقد قلب الشيخ بدر الدين بن الصاحب غالب هذه الأبيات هجوا في حمام فقال
( وحمام قليل الماء داج ** وفيه ألف شيطان رجيم )
( ولا غير المزاحم من رفيق ** ولا غير المدافع من حميم )
( طلبنا ماءه فحنا علينا ** حنو المرضعات على الفطيم )
( ونقطنا برشح بعد رشح ** كمص من أباريق النديم )
( يصد الحر عنا في شتاء ** فيحجبه ويأذن للنسيم )
( يروع بهوله من حل فيه ** فيحسب أنه هول الجحيم ) + الوافر +
رجع إلى وصف الدمع
ولأبي بكر الخالدي فيه
____________________
1- الخفيف
(1/248)
( بكى إلي غداة البين حين رأى ** دمعي بفيض وحالي حال مبهوت )
( فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ** ودمعه ذوب در فوق ياقوت ) (1)
وللوأواء الدمشقي في معناه
( كل دمع فبالتكلف يجري ** غير دمع المحب والمهجور )
( ورد البين دمع عيني فأضحى ** كعقيق أذيب في بلور ) + الخفيف +
وله أيضا في مثل ذلك
( فامزج بمائك نار كأسك واسقني ** فلقد مزجت مدامعي بدمائي ) + الكامل +
ولابن نباته المصري
( يا غزالا رنا وغصنا تثنى ** وهلالا سما وصبحا أنارا )
( كان دمعي على هواك لجينا ** فأحالته نار قلبي نضارا ) + الخفيف +
وما أبدع قوله بعده مع حسن التضمين
( حلية لا أعيرها لمحب ** شغل الحلي أهله أن يعارا )
ولابن قلاقس
( مضى معهم قلبي فلله دره ** لقد سرني إذ مر مع من يسره )
( وأطول من هجر الحبيب وصبوتي ** ويوم النوى ليلي وهمي وشعره )
( وليس دما ماء الجفون وإنما ** فؤادي بماء الدمع قد ذاب جمره ) + الطويل +
وما أحسن قول أسعد بن إبراهيم بن أسعد بن بليطة
( ظلت به والدموع جارية ** أقبل الخد منه والليتا )
( تقطر درا حتى إذا وردت ** روضة خديه عدن ياقوتا ) + المنسرح +
وقوله أيضا
( ليس ليوم البين عندي سوى ** مدامع نجيعها سكب )
____________________
1- البسيط
(1/249)
( كأنما فض بأجفانها ** رمانة فانتثر الحب ) (1)
وللمطوعي أيضا
( لما استقلت بهم عير النوى أصلا ** وشتتتهم صروف البين تشتيتا )
( جعلت انظم في وصف النوى دررا ** والعين تنثر من دمعي يواقيتا ) + البسيط +
وما احسن قول المسعودي
( قالت عهدتك تنبكي ** دما حذار التنأي )
( فما لعينك جادت ** بعد الدماء بماء )
( فقلت ما ذاك مني ** لسلوة وعزاء )
( لكن دموعي شابت ** من طول عمر بكائي ) + المجتث +
وهو يشبه قول القائل أيضا
( قالوا ودمعي قد صفا لفراقهم ** إنا عهدنا منك دمعا أحمرا )
( فأجبتهم إن الصبابة عمرت ** فيكم وشاب الدمع لما عمرا ) + الكامل +
وأحسن منه قول الآخر
( وقائلة ما بال دمعك أبيضا ** فقلت لها يا مي هذا الذي بقي )
( ألم تعلمي أن النوى طال عمره ** فشابت دموعي مثل ما شاب مفرقي ) + الطويل +
ومثله قول أيضا ابن الغويرة
( كانت دموعي حمرا قبل بينهم ** فمذ نأوا قصرتها لوعة الحرق )
( قطفت للحظ وردا من خدودهم ** فاستقطر البعد ماء الورد من حدقي ) + البسيط +
ومثله قول محمد بن هبة الله الشهير بأبي دلف الكاتب ويروي لعبد الكافي اليهودي الهاروني
( يا من يقرب وصلي منه موعده ** لولا عوائق من خلف تباعده )
____________________
1- السريع
(1/250)
( لا تحسبن دموعي البيض غير دمي ** وإنما نفسي الحامي يصعده ) (1)
وقول أبي القاسم بن العطار بديع وهو
( ما أدمعي تنهل سجا إنما ** هي مهجتي سالت من الآماق ) + الكامل + وهذا الباب واسع جدا وفيما أوردناه مقنع
وأبو الهيذام المرثي هنا هو عامر بن عمارة بن خريم وهو والد المحدث موسى بن عامر صاحب الوليد بن مسلم وراوي كتبه وكان أمير عرب الشام وزعيم قيس وفارسها المشهور وهو قائد العرب المضرية في الفتنة العظمى الكائنة بدمشق بين القيسية واليمانية في دولة الرشيد وهي التي من أجلها قال الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي ليس لهذا الأمر إلا أنا وأنت فإما أن تتوجه أو أتوجه أنا فمضى جعفر إلى الشام وأخمد الفتن وكان قد خرج على الرشيد لكونه قتل أخاه فظفر به وحمل إليه مقيدا فلما مثل بين يديه أنشده أبياتا يستعطفه بها منها
( فأحسن أمير المؤمنين فإنه ** أبى الله إلا أن يكون لك الفضل ) + الطويل +
فمن عليه وعفا عنه
ومن شعره في أخيه
( سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ** فإن بها ما يطلب الماجد الوترا )
( ولست كمن يبكي أخاه بعبرة ** يعصرها في جفن مقلته عصرا )
____________________
1- البسيط
(1/251)
( وإنا أناس ما تفيض دموعنا ** على هالك منا وإن قصم الظهرا ) (1)
وقيل أنه توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة
والخريمي هو إسحاق بن حسان ويكنى بأبي يعقوب وهو من العجم وكان مولى ابن خريم الذي يقال لأبيه خريم الناعم وهو خريم بن عمرو من بني مرة بن عوف بن سعيد بن ذيبان وكان لخريم ابن يقال له عمارة ولعمارة ابنان يقال لهما عثمان وأبو الهيذام وفي عثمان هذا يقول الخريمي
( جزى الله عثمان الخريمي خير ما ** جزى صاحبا جزل المواهب مفضلا )
( كفى جفوة الإخوان طول حياته ** وأورث مما كان أعطى وأخولا ) (1)
وكان عظيم القدر وأحد القواد وعمي الخريمي بعدما أسن وكان يقول في ذلك فمنه قوله
( فإن تك عيني خبا نورها ** فكم قبلها نور عين خبا )
( فلم يعم قلبي ولكنما ** أرى نور عيني إليه سرى )
( فأسرج فيه إلى نوره ** سراجا من العلم يشفي العمى ) + المتقارب +
واخذ هذا من قول حبر الأمة عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب وكان عمي فقال
( إن يأخذ الله من عيني نورهما ** ففي لساني وقلبي منهما نور )
( قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ** وفي فمي صارم كالسيف مأثور ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(1/252)
وكان أبو يعقوب الخريمي متصلا بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة وله فيه مدائح جياد ثم رثاه بعد موته فقيل له يا أبا يعقوب مراثيك لآل منصور بن زياد أحسن من مدائحك وأجود فقال كنا يومئذ نعمل على الرجاء ونحن الآن نعمل على الوفاء وبينهما بون بعيد
وهو القائل في عمى عينيه
( أصغي إلى قائدي لخبرني ** إذا التقينا عمن يحييني
( أريد أن أعدل السلام وأن ** أفصل بين الشريف والدون )
( أسمع مالا أرى فأكره أن ** أخطئ والسمع غير مأمون )
( لله عيني التي فجعت بها ** لو أن دهرا بها يواتيني )
( لو كنت خيرت ما أخذت بها ** تعمير نوح في ملك قارون )
( حق أخلاي أن يعودوني ** وأن يعزوا عيني ويبكوني ) (1)
وهو القائل أيضا
( إذا ما مات بعضك فابك بعضا ** فإن البعض من بعض قريب )
( يمنيني الطبيب شفاء عيني ** وهل غير الإله لها طبيب ) + الوافر +
ومن جيد شعره قوله
( الناس أحلامهم شتى وإن جبلوا ** على تشابه أرواح وأجساد )
( للخير والشر أهل وكلوا بهما ** كل له من دواعي نفسه هادي )
( منهم خليل صفاء ذو محافظة ** أرسى الوفاء أواخيه بأوتاد )
( ومشعر الغدر محني أضالعه ** على سريرة غمر غلها بادي )
( مشاكس خدع جم غوائله ** يبدي الصفاء ويخفي ضربة الهادي )
( يأتيك بالبغي في أهل الصفاء ولا ** ينفك يسعى بإصلاح لإفساد ) + البسيط +
____________________
1- المنسرح
(1/253)
ومن جيد شعره أيضا قوله
( أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ** ويخضب عندي والمحل جديب )
( وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ** ولكنما وجه الكريم خصيب ) (1)
وهو القائل
( وإن أشد الناس في الحشر حسرة ** لمورث مال غيره وهو كاسبه )
( كفى سفها بالكهل أن يتبع الصبا ** وان يأتي الأمر الذي هو عائبه ) (1)
وهو القائل أيضا
( ما أحسن الغيرة في حينها ** وأقبح الغيرة في كل حين )
( من لم يزل منهما عرسه ** مناصبا فيها لريب الظنون )
( أوشك أن يغريها بالذي ** يخاف أن يبرزها للعيون )
( حسبك من تحصينها وضعها ** منك إلى عرض صحيح ودين )
( لا تطلع منك على ريبة ** فيتبع المقرون حبل القرين ) + السريع +
43
( ولم يبق مني الشوق غير تفكري ** فلو شئت أن ابكي بكيت تفكرا )
البيت لأبي الحسن علي بن أحمد الجوهري من قصيدة من الطويل
والشوق نزاع النفس وحركة الهوى
والشاهد فيه أن عدم حذف المفعول فيه لانتفاء القرينة لا لغرابة المفعول لان المراد بالبكاء الأول في البيت البكاء الحقيقي لا الفكري فكأنه يقول أفناني الشوق فلم يبق مني غير التفكر فلو شئت البكاء وعصرت عيني ليسيل دمعها لم يخرج منها دمع وخرج بدله التفكر فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم غير معدي إلى الفكر البتة والبكاء الثاني مقيد معدي إلى
____________________
1- الطويل
(1/254)
التفكر فلا يصلح تفسيرا للأول وبيانا كذا قاله التفتازاني نقلا عن دلائل الإعجاز
والجوهري هو
44
( وكم ذدت عني من تحامل حادث ** وسورة أيام حززن إلى العظم )
البيت للبحتري من قصيدة من الطويل يمدح أبا الصقر وأولها
( أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم ** وقوف بربع أو بكاء على رسم )
( وما يعذر الموسوم بالشيب أن يرى ** معار لباس للتصابي ولا وسم )
( تخبر أيامي الحديثات أنني ** تركت السرور عند أيامي القدم )
( وأولعت بالكتمان حتى كأنني ** طويت على ضغن من الدين أو وغم )
( فإن تلقني نضو العظام فإنها ** جريرة قلبي منذ كنت على جسمي ) (1)
وهي طويلة فمنها في المديح
( كأنك من جذم من الناس مفرد ** وسائر من يأتي الدنيات من جذم )
( كأنا عدوا ملتقى ما تقاربت ** بنا الدار إلا زاد غرمك في غنمي )
وبعده البيت وبعده
( أحارب قوما لا أسر بسوئهم ** ولكنني أرمي من الناس من ترمي )
____________________
1- الطويل
(1/255)
والذود الطرد والدفع والتحامل تكليف الأمر المشق يقال تحامل علي فلان إذا كلفه ما لا يطاق وسورة الأيام شدتها وصولتها واعتداؤها والحز القطع
والشاهد فيه حذف المفعول لدفع توهم إرادة غير المراد من الكلام ابتداء وهو هنا اللحم إذ لو ذكر لتوهم قبل ذكر العظم أن الحز لم ينته إليه فترك دفعا لهذا الوهم
وتقدم ذكر البحتري قريبا
45
( قد طلبنا فلم نجد لك في السؤدد ** والمجد والمكارم مثلا )
البيت للبحتري من قصيدة من الخفيف يمدح بها المعتز لدين الله وأولها
( إن سير الخليط حين استقلا ** كان عونا للدمع لما استهلا )
( فالنوى خطة من الهجر ما ينفك يشجي بها المحب ويبلى ** )
( فأقلا في غلوة اللوم إني ** زائد في الغرام إن لم تقلا ) (1)
وهي طويلة فمنها في المديح
( لم يزل حقك المقدم يمحو ** باطل المستعار حتى اضمحلا )
وبعده البيت وبعده
( أنت أندى كفا وأشرف أخلاقا ** وأزكى قولا واكرم فعلا )
يعرض بذم المستعين
____________________
1- الخفيف
(1/256)
والسؤدد بالهمز السيادة والمجد نيل الشرف والكرم أو لا يكون إلا بالآباء والمكارم فعل الكرم والمثل الشبه
والشاهد فيه حذف المفعول لإرادة ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظ المفعول إظهارا لكمال العناية بوقوع الفعل عليه وترفعا عن إيقاعه على ضميره وإن كان كناية عنه لأنه لو قال قد طلبنا لك مثلا لناسب أن يقول فلم نجده وفيه تفويت غرض إيقاع نفي الوجدان على صريح لفظ المثل لكمال العناية بعدم وجدانه ولهذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله
( ولم أمدح لأرضيه بشعري ** لئيما أن يكون أصاب مالا ) (1)
فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو أمدح في صريح لفظ اللئيم لا الثاني الذي هو أرضي إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون الإرضاء
ويجوز أن يكون سبب حذف المفعول ترك مواجهة الممدوح بطلب مثل له مبالغة في التأدب إذ التصريح بطلب المثل يجوز وجوده لان طلب العاقل مبني عليه
____________________
1- الوافر
(1/257)
شواهد القصر
____________________
(1/258)
____________________
(1/259)
45
( أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي )
البيت للفرزدق من قصيدة من الطويل وسببها أن نساء بني مجاشع بلغهن فحش جرير بهن فأتين الفرزدق وهو مقيد وقد تقدم في ترجمته أنه قيد نفسه لحفظ القرآن فقلن قبح الله قيدك وقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم فأحفظنه ففك القيد وقال
( ألا استهزأت مني سويدة إذ رأت ** أسيرا يداني خطوة حلق الحجل )
( ولو علمت أن الوثاق أشده ** إلى النار قالت لي مقالة ذي عقل )
( لعمري لئن قيدت نفسي لطالما ** سعيت وأوضعت المطية في الجهل )
( ثلاثين عاما ما أرى من عماية ** إذا برقت إلا أشد لها رحلي )
( أتتني أحاديث البعيث ودونه ** زرود فشامات العقيق من الرمل )
( فقلت أظن ابن الخبيثة أنني ** غفلت عن الرامي الكنانة بالنبل )
( فإن يك قيدي كان نذرا نذرته ** فمالي عن أحساب قومي من شغل ) (1)
وبعده البيت وبعده
____________________
1- الطويل
(1/260)
( ولو ضاع ما قالوا ارع منا وجدتهم ** شحاحا على الغالي من الحسب الجزل )
وهي طويلة
والذمار بكسر المعجمة ما يلزمك حفظه وحمايته والأحساب جمع حسب وهو ما يعد من مفاخر الآباء أو هو المال أو الدين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الشرف الثابت في الآباء وقد يكون الحسب والكرم لمن لا آباء له شرفاء بخلاف المجد كما تقدم
ومثل قول الفرزدق قول عمرو بن معدي كرب
( قد علمت سلمى وجاراتها ** ما قطر الفارس إلا أنا ) (1)
والشاهد فيه صحة انفصال الضمير مع إنما إلا أنه لما كان غرضه أن يخص المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير وهو أنا وأخره إذ لو قال وإنما أدافع عن أحسابهم لصارت المدافعة مقصورة على أحسابهم دون غيرها وليس هذا معناه بل معناه أن المدافع عن أحسابهم هولا غيره
____________________
1- السريع
(1/261)
____________________
(1/261)
____________________
(1/262)
شواهد الإنشاء
____________________
(1/263)
46
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** )
قائله امرؤ القيس بن حجر الكندي من قصيدته المشهورة السابقة في شواهد المقدمة وقبله
( وليل كموج البحر أرخى سدوله ** علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( فقلت له لما تمطى بصلبه ** وأردف أعجازا وناء بكلكل )
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبح وما الأصباح منك بأمثل )
( فيالك من ليل كأن نجومه ** بكل مغار الفتل شدت بيذبل )
والأصباح الصبح وهو الفجر أو أول النهار والانجلاء الانكشاف ومعناه أنه تمنى زوال ظلام الليل بضياء الصبح ثم قال وليس الصبح بأمثل منك عندي لاستوائهما في مقاساة الهموم أو لان نهاره يظلم في عينيه لتوارد الهموم فليس الغرض طلب الانجلاء من الليل لأنه لا يقدر عليه لكنه يتمناه تخلصا مما يعرض له فيه ولاستطالته تلك الليلة كأنه لا يرتقب انجلاءها ولا يتوقعه فلهذا يحمل على التمني دون الترجي
والشاهد فيه استعمال صيغة الأمر للتمني
وقد أخذ الطرماح هذا البيت وغير قافيته فقال
( ألا أيها الليل الطويل ألا أصبح ** بيوم وما الأصباح منك بأروح ) (1)
وما احسن قول أبي العلاء المعري في طول الليل
( وليلين حال بالكواكب جوزه ** وآخر من حلى الكواكب عاطل )
( كأن دجاه الهجر والفجر موعد ** بوصل وضوء الصبح حب مماطل )
( قطعت به بحرا يعب عبابه ** وليس له إلا التبلج ساحل ) (1)
وللوأواء الدمشقي فيه أيضا
____________________
1- الطويل
(1/264)
( أطال ليل الصدود حتى ** أيست من غرة الصباح )
( كأنه إذ دجا غراب ** قد حضن الأرض بالجناح ) (1)
وما أحسن قول الخطيري
( شابت ذوائب صبري يا معذبتي ** في ليلتي وعذار الليل لم يشب )
( ودون صبحي ستر من زمردة ** مسمر بمسامير من الذهب ) + البسيط +
ولبعضهم فيه من قصيدة وأحسن ما شاء
( تراه كملك الزنج من فرط كفره ** إذا رام مشيا في تبختره أبطأ )
( مطلا على الآفاق والبدر تاجه ** وقد علق الجوزاء في أذنه قرطا ) + الطويل +
ولشرف الدين بن منقذ فيه أيضا
( ولرب ليل تاه فيه نجمه ** فقطعته سهرا فطال وعسعسا )
( وسألته عن صبحه فأجابني ** لو كان في قيد الحياة تنفسا ) + الكامل +
ومثله قول الآخر
( مات الصباح بليل ** أحييته حين عسعس )
( لو كان لليل صبح ** يعيش كان تنفس ) + المجتث +
ولابن منقذ أيضا
( لما رأيت النجم ساه طرفه ** أو القطب قد ألقى عليه سباتا )
( وبنات نعش في الحداد سوافرا ** أيقنت أن صباحهم قد ماتا ) + الكامل +
وللوأواء الدمشقي
( وليل مثل يوم البين طولا ** إذا أفلت كواكبه تعود )
( بدائع نومها فيه انتباه ** فأعينها مفتحة رقود ) + الوافر +
وله أيضا
____________________
1- من مخلع البسيط
(1/265)
( وليل مثل يوم الحشر طولا ** كأن ظلامه لون الصدود )
( بياض هلاله فيه سواد ** كإثر العلم في يقق الخدود ) (1)
وما احسن اعتذار الأرجاني عن طول الليل
( لا أدعي جور الزمان ولا أرى ** ليلى يزيد على الليالي طولا )
( لكن مرآة الصباح تنفسي ** للهم أصدأ وجهها المصقولا ) + الكامل +
وقد أخذه من قول علي بن هشام
( لا أظلم الليل ولا ادعي ** أن نجوم الليل ليست تغور )
( ليلي كما شاءت فإن لم تجد ** طال وإن جادت فليلي قصير ) + السريع +
وأورد ابن الصولي لابن الخليل أيضا قوله
( يقولون طال الليل والليل لم يطل ** ولكن من يهوى من الشوق يسهر )
( أنام إذا ما الليل مهد مضجعي ** وأفقد نومي حين أجفي وأهجر )
( فكم ليلة طالت علي لصدها ** وأخرى ألاقيها بوصل فتقصر ) + الطويل +
وفي معناه قول الأديب الحراني
( جاءت تسائل عن ليلي فقلت لها ** وسورة الهم تمحو سيرة الجذل )
( ليلي بكفيك فاغني عن سؤالك لي ** إن بنت طال وإن واصلت لم يطل ) + البسيط +
وقول بعض المتأخرين
( ليلي وليلي نفى نومي خلافهما ** حتى لقد صيراني في الهوى مثلا )
( يجود بالطول ليلي كلما بخلت ** بالطول ليلى وإن ~ جادت به بخلا ) + البسيط +
____________________
1- الوافر
(1/266)
وقول ابن أبي حصينة
( يا ليل ما طلت عما كنت اعرفه ** وإنما طال بي فيك الذي أجد ) (1)
وما أحسن قول بعضهم فيه
( سهرت ليلات وصلى فرحة بهم ** وليلة الهجر كم قضيها سهرا )
( إذا تقضى زماني كله سهرا ** فما أبالي أطال الليل أم قصرا ) (1)
ومثله قول الآخر
( في الهجر والوصل ما تذوق كرى ** عيني فما ينقضي تسهدها )
( فليلة الهجر لا رقاد بها ** وليلة الوصل كيف أرقدها ) + المنسرح +
وقول أبي الحسن البصري
( ولما تعرض لي زائرا ** وما كان عندي له موعد )
( سهرت اغتناما لليل الوصال ** لعلمي به أنه ينفد )
( فقال وقد رق لي قلبه ** وأيقن أني به مكمد )
( إذا كنت تسهر الوصال ** وليل النوى فمتى ترقد ) + المتقارب +
وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى وفيما أوردته مقنع
____________________
1- البسيط
(1/267)
شواهد الوصل والفصل
47
( لا والذي هو عالم أن النوى ** مر وأن أبا الحسين كريم )
البيت لأبي تمام الطائي من قصيدة من الكامل يمدح بها أبا الحسين محمد بن الهيثم وأولها
( أسقى طلولهم أجش هزيم ** وغدت عليهم نضرة ونعيم )
( جادت معاهدهم عهاد سحابة ** ما عهدها عند الديار ذميم )
( سفه الفراق عليك يوم تحملوا ** ربما أراه وهو عنك حليم )
( ظلمتك ظالمة البريء ظلوم ** والظلم من ذي قدرة مذموم )
( زعمت هواك عفا الغداة كما عفا ** منها طلول باللوى ورسوم ) (1)
لا والذي هو عالم . . . . . البيت وبعده
( ما حلت عن سنن الوفاء ولا غدت ** نفسي على إلف سواك تحوم )
والنوى الفراق
والشاهد فيه أن شرط عطف جملة على جملة أن يكون بينهما جهة خاصة ولا كذلك في هذا البيت إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى سواء كان نواه أو نوى غيره فهذا العطف غير مقبول سواء جعل عطف مفرد على مفرد كما هو الظاهر أو عطف جملة على جملة باعتبار وقوعه موضع مفعول العلم لان وجود الجامع شرط فيهما ولهذا عيب على أبي تمام كما سيأتي في أحسن التخلص إن شاء الله تعالى
____________________
1- الكامل
(1/270)
( وهمت بالأوطان وجدا بها ** وبالغواني أين مني الغوان )
( فقرباني بأبي أنتما ** من وطني قبل اصفرار البنان )
( وقبل منعاي إلى نسوة ** مسكنها حران والرقتان )
( سقى قصور الشاذياخ الحيا ** من بعد عهدي وقصور الميان )
( فكم وكم من دعوة لي بها ** أن تتخطاها صروف الزمان ) (1)
والترجمان يقال بضم تائه وجيمه وفتحهما وفتح التاء وضم الجيم وهو المفسر للسان يقال ترجمة وعنه والفعل يدل على أصالة التاء
ولقد أجاد الغزي في تضمينه صدر البيت بقول
( طول حياة مالها طائل ** تغض عندي كل ما يشتهى )
( أصبحت مثل الطفل في ضعفه ** تشابه المبدأ والمنتهى )
( فلا تلم سمعي إذا خانني ** إن الثمانين وبلغتها ) (1)
ولطيف قول الشهاب المنصوري رحمه الله
( نحو ثمانين من العمر قد ** قطعتها مثل عقود الجمان )
( ما أحوجت يوما يميني إلى ** عصا ولا سمعي إلى ترجمان ) (1)
والشاهد فيه الاعتراض ويسمى الالتفات وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام وهو هنا الدعاء في قوله وبلغتها لأنها جمله معترضة بين اسم إن وخبرها والواو فيه اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية
____________________
1- السريع
(1/270)
48
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ** )
هو من البسيط وقائله الأخطل كذا ذكره سيبويه وليس هو في ديوانه وتمامه
( وكل حتف امرئ يجري بمقدار ** )
وبعده
إما نموت كراما أو نفوز بها ** فواحد الدهر من كد وأسفار ) (1)
والرائد المرسل في طلب الكلأ وأرسوا بقطع الهمزة من رست السفينة ترسو رسوا إذا وقفت على الأنجر معرب لنكر وهو مرساة السفينة وهي خشبات يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة إذا رست رست السفينة أو هو من رست أقدامهم في الحرب أي ثبتت ونزاولها من المزاولة وهي المحاولة والمعالجة في تحصيل الشيء والضمير للسفينة وقيل للحرب وقيل للخمر وهو لا يناسب ظاهر البيت الذي بعده
والشاهد في قوله نزاولها فإنه فصله عن قوله أرسوا لان الأول أمر والثاني خبر فامتنع العطف بينهما لاختلافهما خبرا وطلبا لفظا ومعنى
ومن هذا الضرب قول اليزيدي أو إبراهيم بن المدبر
( ملكته حبلي ولكنه ** ألقاه من زهد على غاربي )
____________________
1- البسيط
(1/271)
( وقال إني في الهوى كاذب ** انتقم الله من الكاذب ) (1)
وحمله الشيخ عبد القاهر على الاستئناف بتقدير قلت قال الشيرازي وهو أنسب بالمقام
والأخطل هو غياث بن غوث بن الصلت بن الطارقة ينتهي نسبه لتغلب ويكنى أبا مالك والأخطل لقبه عن أبي عبيده أن السبب فيه أنه هجا رجلا من قومه فقال له يا غلام إنك لأخطل والأخطل السفيه وكان نصرانيا من أهل الجزيرة ومحله في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف وهو وجرير والفرزدق طبقة واحدة جعلها ابن سلام أول طبقات الإسلام ولم يقع إجماع على أحدهم أنه أفضلهم ولكل واحد منهم عصبة تفضله على الجماعة
وقال أبو عمرو لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا
وقال الأصمعي إنما أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم وكان الأخطل أسن من جرير وكان أبو عبيدة يشبه الأخطل بالنابغة لصحة شعره وكان حماد يفضل الأخطل على جرير والفرزدق فقال له الفرزدق إنما تفضله لأنه فاسق مثلك فقال لو فضلته بالفسق لفضلتك وقال الأخطل لعبد الملك ابن مروان يا أمير المؤمنين زعم ابن المراغة يعني جريرا أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيام وقد أقمت في مدحتك
____________________
1- السريع
(1/272)
( خف القطين فراحوا منك أو بكروا ** )
سنة فما بلغت ما أردت فقال عبد الملك أسمعناها يا أخطل فلما أنشدها قال له عبد الملك أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب قال أكتفي بقول أمير المؤمنين وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم وألقيت عليه خلع وخرج به مولى لعبد الملك على الناس وهو يقول هذا شاعر أمير المؤمنين هذا أشعر العرب
وأنشد لعبد الملك قول كثير فيه
( فما تركوها عنوة عن مودة ** ولكن بحد المشرفي استقالها ) (1)
فأعجب به فقال له الأخطل ما قلت لك والله يا أمير المؤمنين احسن منه قال وما قلت قال قلت
( أهلوا من الشهر الحرام فأصبحوا ** موالي ملك لا طريف ولا غصب ) (1)
جعلته لك حقا وجعله لك غصبا قال صدقت
واصبح عبد الملك يوما في غداة باردة فتمثل بقول الأخطل
____________________
1- الطويل
(1/273)
( إذا اصطبح الفتى منها ثلاثا ** بغير الماء حاول أن يطولا )
( مشى قرشية لا شك فيها ** وأرخى من مآزره فضولا ) (1)
ثم قال كأني أنظر إليه الساعة محلل الإزار مستقبلا للشمس في حانوت من حوانيت دمشق ثم بعث رجلا يطلبه فوجده كذلك
وقدم الأخطل مرة على عبد الملك بن مروان فنزل على سرجون كاتبة فقال له على من نزلت فأخبره فقال له قاتلك الله ما أخبرك بصالح المنازل فما تريد أن ننزلك قال في درمك من درمككم هذا ولحم وخمر من بيت رأس فضحك عبد الملك وقال ويلك وعلى أي شيء اقتتلنا إلا على هذا ثم قال له ألا تسلم فنفرض لك ألفين في عطائك وتوصل بعشرة آلاف درهم قال فكيف بالخمر قال وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر قال أما إن قلت ذاك فإن بينهما لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من ماء الفرات بالأصبع فضحك عبد الملك ثم قال ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك فقال أطائع أم كاره قال بل طائع قال ما كنت لأختار نواله على نوالك ولاقربة على قربك إني إذا لكما قال الشاعر
( كمبتاع لمركبه حمارا ** يغيره من الفرس الكريم ) (1)
فأمر له بعشر آلاف درهم وأمره أن يمدح الحجاج فمدحه بقوله
____________________
1- الوافر
(1/274)
( صرمت حبالك زينب ورعوم ** وبدا المجمجم منهما المكتوم ) (1)
ووجه بالقصيدة مع ابنه إليه
ودخل الأخطل على بشر بن مروان وعنده الراعي الشاعر فقال له بشر أأنت أشعر أم هذا قال أنا أشعر منه وأكرم فقال للراعي ما تقول فقال أما اشعر مني فعسى وأما اكرم مني فإن كان في أمهاته من ولدت مثل الأمير فنعم فلما خرج الأخطل قال له رجل أتقول لخال الأمير أنا أكرم منك فقال ويحك إن أبا نسطوس قد وضع في رأسي أكؤسا ثلاثا والله لا أعقل معها
وحدث قحافة المري قال دخل الأخطل على عبد الملك فاستنشده فقال قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال اسقوه ماء فقال هو شراب الحمار وهو عندنا كثير قال فاسقوه لبنا قال عن اللبن فطمت قال فاسقوه عسلا قال شراب المريض قال فتريد ماذا قال خمرا يا أمير المؤمنين قال أو عهدتني أسقي الخمر لا أم لك لولا حرمتك بنا لفعلت وفعلت فخرج فلقى فراشا لعبد الملك فقال ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر فسقاه رطلا فقال أعدله بآخر فسقاه رطلا آخر فقال تركتهما يعتر كأن في بطني فاسقني ثالثا فسقاه ثالثا فقال تركتني أمشي على واحدة اعدل ميلي برابع فسقاه رابعا فدخل على عبد الملك فأنشده
( خف القطين فراحوا منك أو بكروا ** )
فقال لا بل منك وتطير من قوله قال ومر في القصيدة حتى بلغ إلى قوله
____________________
1- الكامل
(1/275)
( شمس العداوة حتى يستقاد لهم ** وأعظم الناس احلاما إذا قدروا )
فقال عبد الملك خذ بيديه يا غلام فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره وأحسن جائزته ثم قال إن لكل قوم شاعرا وإن شاعر بني أمية الأخطل
وقال أبو عبد الملك كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل وكان يدخل المسجد فيقومون إليه ورأيته بالجزيرة وقد شكى إلى القس وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه وهو يصئ كما يصئ الفرخ فقلت له أين هذا مما كنت عليه بالكوفة فقال يا ابن أخي إذا جاء الدين ذللنا
وحدث إسحاق بن عبد الله المطلبي قال قدمت الشام وأنا شاب مع أبي فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها فدخلت كنيسة دمشق فإذا الأخطل فيها محبوس فسأل عني فأخبر بنسبي فقال يا فتى إنك رجل شريف وأنا أسألك حاجة فقلت حاجتك مقضية فقال إن القس قد حبسني هنا فتكلمه ليخلي عني فأتيت القس فانتسبت له فرحب بي وعظم فقلت إن لي إليك حاجة قال وما حاجتك فقلت الأخطل تخلي عنه فقال أعيذك بالله من هذا فإن مثلك لا يتكلم فيه فإنه فاسق يشتم أعراض الناس ويهجوهم فلم أزل أطلب إليه حتى مضى متكئا على عصاه فوقف عليه ورفع عصاه وقال يا عدو الله أتعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف المحصنات وهو يقول لست بعائد ولا أفعل ويستخزي له فقلت يا أبا مالك الناس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك في الناس رفيع وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع وتستخزي له قال فجعل يقول لي أنه الدين
وحدث الهيثم قال كانت امرأة الأخطل حاملا وكان متمسكا بدينه فمر
____________________
(1/276)
به الأسقف يوما فقال لها الحقيه فتمسحي به فعدت وراءه فلم تلحق إلا ذنب حماره فتمسحت به ورجعت فأخبرته فقال لها هو وذنب حماره سواء
وسمع هشام الأخطل وهو يقول
( وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ** ذخرا يكون كصالح الأعمال ) (1)
فقال له هنيئا لك يا أبا مالك هذا الإسلام فقال له يا أمير المؤمنين ما زلت مسلما في ديني
وحدث أبو محمد اليزيدي قال خرج الفرزدق يوما يؤم بعض ملوك بني أمية فرفع له في طريقه بيت احمر من أدم فدنا منه وسأل فقيل له الأخطل فاستقري فقيل له انزل فقام إليه الأخطل وهو لا يعرف إلا أنه ضيف فجلسا يتحادثان فقال له الأخطل ممن الرجل قال من تميم قال فأنت إذن من رهط أخي الفرزدق فهل تحفظ من شعره شيئا قلت نعم كثيرا فما زالا يتناشدان ويتعجب الأخطل من حفظه شعر الفرزدق إلى أن عمل فيه الشراب وقد كان الأخطل قال له قبل ذلك انتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا فقال الفرزدق
( خفض عليك قليلا ** وهات لي من شرابك ) + المجتث +
فلما عملت الراح فيه قال والله أنا الذي أقول في جرير وانشده فقام الأخطل وقبل رأسه وقال لا جزاك الله عني خيرا لم كتمتني نفسك منذ اليوم وأخذا في شرابهما وتناشدا إلى أن قال له الأخطل والله إنك وإياي لأشعر من جرير ولكنه أوتي من سير الشعر ما لم نؤته قلت أنا بيتا ما اعلم أحدا
____________________
1- الكامل
(1/277)
قال أهجى منه قلت وما هو قال الأخطل قلت
( قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ** قالوا لأمهم بولي على النار ) (1)
فلم يروه إلا حكماء أهل الشعر وقال هو
( والتغلبي إذا تنحنح للقرى ** حك استه وتمثل الامثالا ) + الكامل +
فلم تبق سفلة ولا أمثالها إلا رووه قال فقضوا له أنه أسير شعرا منهما
وعن محمد بن سلام قال قيل أنه لما حضرت الأخطل الوفاة قيل له يا أبا مالك ألا توصي قال بلى ثم قال
( أوصي الفرزدق عند الممات ** بأم جرير وأعيارها )
( وزار القبور أبو مالك ** برغم العداة واوتارها ) + المتقارب +
49
( أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ** وإلا فكن في السر والجهر مسلما )
البيت من الطويل ولا أعرف قائله وكذلك ذكر العيني في شواهده
ومعناه إن لم ترحل فكن على ما يكون عليه المسلم من استواء الحالين في السهر والجهر
والشاهد فيه كون الجملتين بينهما كمال الاتصال لكونه الثانية أوفى بتأدية المراد من الأولى فنزلت منزلة بدل الاشتمال فلم تعطف عليها وهما ههنا قوله ارحل وقوله لا تقيمن عندنا لان في قوله ارحل كمال إظهار الكراهة لإقامة المخاطب وقوله لا تقيمن عندنا أو في بتأدية المراد لدلالته على إظهار الكراهة لإقامته بالمطابقة مع التأكيد الحاصل من اللفظين
____________________
1- البسيط
(1/278)
50
( أقسم بالله أبو حفص عمر ** )
هو من الرجز قائله أعرابي وبعده
( ما إن بها من نقب ولا دبر ** اغفر له اللهم إن كان فجر ) الرجز
يروى أن هذا الأعرابي جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال إن أهلي ببادية بعيدة وإني على ناقة دبراء عجفاء نقباء واستحمله فظنه كاذبا فلم يحمله فانطلق الأعرابي فحل ناقته ثم استقبل البطحاء وجعل يقول الأبيات وعمر رضي الله عنه مقبل من أعلى الوادي فجعل إذا قال اغفر له اللهم إن كان فجر قال اللهم صدق حتى التقيا فأخذ بيده وقال له ضع عن راحلتك فوضع فإذا هي كما وصف فحمله على بعير وزوده وكساه
والنقب رقة الأخفاف والدبر قرحة الدابة
والشاهد فيه جعل عمر بيانا وتوضيحا لأبي حفص
51
( وتظن سلمى أنني أبغي بها ** بدلا أراها في الضلال تهيم )
البيت من الكامل ولا اعرف قائله وكذلك ذكر العيني أيضا والضلال ضد الهدى
____________________
(1/279)
والشاهد فيه عدم عطف الجملة الثانية لكونه موهما له على غيرها لان بين الجملتين الخبريتين وهما وتظن سلمى واراها مناسبة ظاهرة لاتحادهما في المسند لأن معنى أراها أظنها والمسند إليه في الأولى محبوب وفي الثانية محب فلو عطف أراها على تظن لتوهم أنه عطف على أبغي وهو أقرب إليه فيكون من مظنونات سلمى وليس كذلك
( قال لي كيف أنت قلت عليل ** سهر دائم وحزن طويل )
البيت من الخفيف وتقدم في شواهد المسند إليه
والشاهد فيه هنا وقوع الجملة الثانية مستأنفة جوابا عن الجملة الأولى المتضمنة للسؤال عن سبب مطلق أي ما بال علتك فقال سهر وذلك لأن العادة جرت بأنه إذا قيل فلان عليل أن يسأل عن سبب علته لا أن يقال هل سبب علته كذا وكذا لا سيما السهر والحزن فإنه قلما يقال هل سبب مرضه السهر والحزن لأنه أبعد أسبابه فعلم أن السؤال عن السبب المطلق دون السبب الخاص وعدم التوكيد يشعر به
ومثله قول أبي العلاء المعري
( وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ** معط حياتي لغر بعدما غرضا )
( جربت دهري وأهليه فما تركت ** لي التجارب في ود امرئ غرضا ) (1)
____________________
1- البسيط
(1/280)
أي لم تقول هذا وما ألجأك إليه فقال جربت إلخ
52
( زعم العواذل أنني في غمرة ** صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي )
البيت من الكامل ولا اعرف قائله
والعواذل جمع عاذلة بمعنى جماعة عاذلة لا امرأة عاذلة بدليل قوله صدقوا وغمرة الشيء شدته ومزدحمه
والشاهد فيه وقوع الجملة المستأنفة جوابا للسؤال عن غير سبب مطلق أو خاص كأنه قيل أصدقوا في هذا الزعم أم كذبوا فقال صدقوا وفصله عما قبله لكونه استئنافا
ومنه قول جندب بن عمار
( زعم العواذل أن ناقة جندب ** بجنوب خبت عريت وأجمت )
( كذب العواذل لو رأين مناخنا ** بالقادسية قلن لج وذلت ) (1)
ومثله قول لبيد
( عرفت المنزل الخالي ** عفا من بعد أحوال )
____________________
1- الكامل
(1/281)
( عفاه كل هتان ** عسوف الوبل هطال ) (1)
وقول أبي الطيب المتنبي
( وما عفت الرياح لهم محلا ** عفاه من حدا بهم وساقا ) + الوافر +
53
( زعمتم أن إخوتكم قريش ** لهم إلف وليس لكم إلاف )
البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير من الوافر يهجو بني أسد وبعده
( أولئك أومنوا جوعا وخوفا ** وقد جاعت بنو أسد وخافوا ) + الوافر +
والزعم إدعاء العلم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( زعموا مطية الكذب ) وعن شريح رحمه الله لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا لكن سيبويه رحمه الله يكثر في كتابه من قول زعم الخليل لا يريد بذلك إبطال قوله وقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم
( ودعوتني وزعمت أنك صادق ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا ) + الكامل +
وقريش هي القبيلة المشهورة سموا بذلك لتجمعهم في الحرم أو لأنهم كانوا يتقرشون المبتاعات فيشترونها أو لان النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه فقيل تقرش أو لأنه جاء إلى قومه فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد أو سموا بمصغر القرش وهو دابة بحرية تخافها دواب البحر كلها والإلف
____________________
1- الهزج
(1/282)
والإيلاف العهد وشبه الإجازة بالخفارة وأول من أخذها هاشم من ملك الشام فكان هاشم يولف إلى الشام وعبد شمس إلى الحبشة والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس وكان تجار قريش يتخلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الأخوة فلا يتعرض لهم أحد وكان كل أخ منهم قد أخذ حبلا من ملك ناحية سفره أمانا له
والشاهد فيه حذف الاستئناف وقيام شيء مقامه فكأنهم قالوا أصدقنا في هذا الزعم أم كذبنا فقيل كذبتم فحذف هذا الاستئناف وأقيم قوله لهم إلف وليس لكم إلاف مقامه لدلالته عليه
ومساور بن هند بن قيس بن زهير العبسي شاعر وكان جده قيس مشهورا في الجاهلية ولا سيما في حرب داحس والغبراء وذكر الأصمعي ما يدل على أن له إدراكا للنبي صلى الله عليه وسلم قال وكان نحو أبي عمرو بن العلاء رحمهما الله في السن وقال حدثني من رأى مساور بن هند أنه ولد في حرب داحس والغبراء قبل الإسلام بخمسين عاما وذكره المرزباني في معجم الشعراء وذكر له قصة مع عبد الملك بن مروان وفي حكاية الأصمعي أنه لما عمر صغرت عيناه وكبرت أذناه فجعلوا في بيت صغير ووكلوا به امرأة فرأى ذات
____________________
(1/283)
يوم غفلة فخرج فجلس في وسط البيت وكوم كومة من تراب ثم أخذ بعرتين فقال هذه فلانة وهذه فلانة ثم أحس بالمرأة فقام وهرب وقال الأصمعي بلغني أنه أتى به إلى الحجاج فقال له ما تصنع بقولك الشعر وقد كبرت فقال أسقي به الماء وأرعى به الكلأ وتقضي لي به الحاجة فإن كفيتني ذلك تركته
وقال المرزباني كان أعور وهو من المتقدمين في الإسلام هو وأبوه وجده أشراف من بني عبس شعراء فرسان وهو القائل
( جزى الله خيرا غالبا من قبيلة ** إذا حدثان الدهر نابت نوائبه )
( إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ** تجرد فيهم متلف المال كاسبه ) (1)
يقال أخذت الإبل سلاحها إذا استحياها صاحبها فلم يذبحها
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** )
هو من البسيط وتمامه
( شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر ** )
وقد تقدم الكلام عليه في شواهد المسند
والشاهد فيه هنا بيان أن الجامع بين الثلاثة المذكورة فيه وهمي وهو ما بينها من شبه التماثل حمل الوهم على أن يحتال في اجتماعها في المفكرة وإبرازها في معرض الأمثال متوهما أنها من نوع واحد وإنما اختلفت بالعوارض والمشخصات بخلاف العقل فإنه إذا خلي ونفسه حكم بان كلا منها من نوع
____________________
1- الطويل
(1/284)
آخر وإنما اشتركت في عارض هو إشراق الدنيا ببهجتها على أن ذلك في أبي إسحاق مجاز
ونظيره قول الآخر
( إذا لم يكن للمرء في الخلق مطمع ** فذو التاج والسقاء والذر واحد ) (1)
54
( فلما خشيت أظافيرهم ** نجوت وأرهنهم مالكا ) البيت لعبد الله بن همام السلولي من المتقارب وبعده
( عريفا مقيما بدار الهوان ** أهون علي به هالكا ) + المتقارب + وهذان البيتان من جملة أبيات منها
( فقلت أجرني أبا خالد ** وإلا تجدني امرأ هالكا ) + المتقارب +
يريد بأبي خالد هنا يزيد بن معاوية والذي خشيه عبيد الله بن زياد وكان قد توعده فهرب إلى الشام واستجار بيزيد فأمنه وكتب إلى عبيد الله يأمره بالصفح عنه ومالك المذكور هو عريفة والأظافير جمع ظفر وأظفور ويجمع أيضا على أظفار
والمعنى لما خشيت حملته وإنشاب أظفاره ونجوت وخليت بينه وبين مالك
والشاهد فيه دخول واو الحال على المضارع المثبت الممتنع دخولها عليه في الجملة الفعلية الواقعة حالا من ضمير صاحبها الغير الخالية منه إذ قد قيل أنه على حذف المبتدأ أي وأنا أرهنهم فتكون اسمية فيصح دخولها وعليه
____________________
1- الطويل
(1/285)
قوله تعالى ! ( لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ) ! أي وأنتم قد تعلمون وقيل ضرورة وقال عبد القاهر هي فيه للعطف والأصل ورهنتهم عدل إلى المضارع لحكاية حال ماضية ومعناه أنه يفرض ما كان في الزمن الماضي واقعا في هذا الزمان فعبر عنه بلفظ المضارع كما في قول الشاعر
( ولقد أمر على اللئيم يسبني ** ) (1)
أي مررت وروى وأرهنتهم والأول رواية الأصمعي واستحسنه ثعلب
وعبد الله هو أبو عبد الرحمن السلولي الكوفي من بني مرة بن صعصعة
____________________
1- الكامل
(1/286)
من قيس عيلان وبنو مرة يعرفون ببني سلول وهي أمهم وهي بنت ذهل ابن شيبان بن ثعلبة وهم رهط أبي مريم السلولي وكانت له صحبة وعبد الله هو القائل في الفلاقس
( أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ** وذمي زمانا ساد فيه الفلاقس )
( وساع من السلطان ليس بناصح ** ومحترس من مثله وهو حارس )
وهو القائل ليزيد بن معاوية لما مات أبوه رضي الله عنه
( اصبر يزيد فقد فارقت ذامقة ** واشكر حباء الذي بالملك رداكا )
( لا رزء أعظم بالأقوام إذ علموا ** مما رزئت ولا عقبي كعقباكا )
( أصبحت راعي أهل الدين كلهم ** فأنت ترعاهم والله يرعاكا )
( وفي معاوية الباقي لنا خلف ** إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا ) (1)
55
( خرجت مع البازي علي سواد ** ) قائله بشار بن برد من أبيات من الطويل قالها في خالد بن برمك
____________________
1- البسيط
(1/287)
وكان قد وفد عليه وهو بفارس فأنشده قوله
( أخالد لم أهبط عليك بذمة ** سوى أنني عاف وأنت جواد )
( أخالد إن الأجر والحمد حاجتي ** فأيهما تأتي فأنت عماد )
( فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي ** وإن تأب لم تضرب علي سداد )
( ركابي على حرف وقلبي مشيع ** ومالي بأرض الباخلين بلاد )
( إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ** خرجت مع البازي علي سواد )
فدعا خالد بأربعة آلاف في أربعة أكياس فوضع واحدا منها عن يمينه وآخر عن شماله وآخر بين يديه وآخر من ورائه وقال يا أبا معاذ هل استقل العماد فلمس الأكياس بيديه ثم قال استقل والله أيها الأمير
ومعنى البيت إذا لم يعرف قدري أهل بلدة ولم أعرفهم خرجت عنهم وفارقتهم متنكرا مصاحبا للبازي الذي هو أبكر الطيور مشتملا على شيء من ظلمة الليل غير منتظر لإسفار الصبح فقوله على سواد أي بقية من الليل
والشاهد فيه كونه حالا ترك فيه الواو
ومثله قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن ذى يزن
( اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ** في راس غمدان دارا منك محلالا )
____________________
(1/288)
والشاهد في قوله عليك التاج وغمدان اسم قصر باليمن مبني على أربعة أوجه أحمر وابيض وأصفر وأخضر وفي داخله قصر مبنى بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعا ويرى ظله إذا طلعت عليه الشمس من ثلاثة أميال والمحلال بمعنى المنزل صيغة مبالغة
ومثله قول الآخر يهجو خطيبا
( لقد صبرت للدل أعواد منبر ** تقوم عليها في يديك قضيب )
وبشار بن برد بن يرجوخ ينتهي نسبه للهراسف وكان يرجوخ من طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة ويكني بشار أبا معاذ ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه والإطالة بذكره
وهو من شعراء مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد اشتهر فيهما ومدح وهجا وأخذ سني الجوائز مع الشعراء
وعن يحيى بن الجون العبدي رواية بشار بن برد قال قال بشار لما دخلت على المهدي قال لي فيمن تعتد يا بشار فقلت أما اللسان والزي فعربي وأما الأصل فعجمى كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين
( ونبئت قوما بهم جنة ** يقولون من ذا وكنت العلم )
____________________
(1/289)
( ألا أيها السائلي جاهلا ** ليعرفني إنا أنف الكرم )
( نمت في الكرام بني عامر ** فروعي وأصلي قريش العجم )
( وإني لأغنى مقام الفتى ** وأصبى الفتاة فما تعتصم ) (1)
قال وكان أبو دلامة حاضرا فقال كلا لوجهك أقبح من ذلك ووجهي مع وجهك فقلت كلا والله ما رأيت رجلا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك والله إني لطويل القامة عظيم الهامة تام الألواح أسجح الخدين ولرب مسترخي المذروين للعين منه مراد مثلك قد جلس من الفتاة حجزة وجلست منها حيث أريد فأنت مثلي يا مرقعان قال فسكت عنى ثم قال لي المهدي فمن أي العجم أصلك قلت من أكثرها في الفرسان وأشدها على الأقران أهل طخارستان فقال بعض القوم أولئك الصغد فقلت لا الصغد تجار فلم يردد ذلك المهدي
وكان يلقب بالمرعث لقوله
( قال ريم مرعت ** ساحر الطرف والنظر )
( لست والله نائلي ** قلت أو يغلب القدر )
____________________
1- المتقارب
(1/290)
( أنت إن رمت وصلنا ** فانج هل يدرك القمر ) (1)
وقيل لقب به لأنه كان لقميصه جيبان جيب عن يمينه وجيب عن شماله فإذا أراد لبسه ضمه عليه من غير أن يدخل رأسه فيه وإذا أراد نزعه حل أزراره وخرج منه فشبهت تلك الجيوب بالرعاث لاسترسالها وتدليها وقال أبو عبيدة لقب بالمرعث لأنه كانت في آذانه وهو صغير رعاث واحدها رعثة وهي القرط ورعثة الديك اللحم المتدلي تحت حنكه
وقال الأصمعي كان بشار ضخما عظيم الخلق والوجه مجدورا طويلا جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وأفظعهم منظرا وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب
وقال ولد بشار أعمي فما نظر إلى الدنيا قط وكان يشبه الأشياء في شعره بعضها ببعض فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله
وقال أبو عبيدة قال بشار الشعر ولم يبلغ عشر سنين ثم بلغ الحلم وهو يخشى معرة اللسان قال وكان بشار يقول هجوت جريرا فأعرض عنى وأستصغرني ولو أجابني لكنت أشعر الناس
وكان بشار وهو صغير إذا هجا قوما جاؤا إلى أبيه فشكوه إليه فيضربه ضربا مبرحا فكانت أمه تقول كم تضرب هذا الصبي الصغير الضرير أما ترحمه فيقول بلى والله أني لأرحمه ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلى فسمعه بشار فطمع فيه فقال يا أبت إن هذا الذي يشكونه إليك منى هو قولي الشعر وأني إن أتممت عليه أغنيتك وسائر أهلي فإذا شكوني فقل لهم أليس الله عز وجل يقول ! ( ليس على الأعمى حرج ) ! فلما أعادوا شكواه قال لهم ذلك فانصرفوا وهم يقولون فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار
وحكى الأصمعي أن بشارا كان من أشد الناس تبرما بالناس وكان يقول
____________________
1- من مجزوء الخفيف
(1/291)
الحمد لله الذي حجب بصري فقيل له ولم يا أبا معاذ قال لئلا أرى من أبغض
وكان بالبصرة رجل يقال له حمدان الخراط فأتخذ جاما لانسان وكان بشار عنده فسأله بشار أن يتخذ له جاما فيه صورة طير يطير فأتخذه له وجاء به إليه فقال له ما في هذا الجام قال صورة طير يطير فقال له قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذا الطير طيرا من الجوارح كأنه يريد صيده فأنه كان أحسن قال لم أعلم قال بلى قد علمت ولكنك قد علمت أنني أعمى لا أبصر شيئا وتهدده بالهجاء فقال له حمدان لا تفعل فانك تندم قال أو تهددني أيضا قال نعم قال وأي شيء تصنع بي إن هجوتك قال أصورك على باب داري في صورتك هذه وأجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يمر بك الصادر والوارد فقال بشار اللهم أخزه أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد
وحدث محمد بن الحجاج السوادي قال كنا عند بشار وعنده رجل ينازعه في اليمانية والمضرية إذ أذن المؤذن فقال له بشار رويدا تفهم قوله فلما قال المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله قال له بشار أهذا الذي نودي باسمه مع اسم الله عز وجل من مضر هو أم من صداء وعك وحمير فسكت الرجل
وحدث حماد عن أبيه قال كان بشار جالسا في دار المهدي والناس ينتظرون الإذن فقال بعض موالى المهدي لمن حضر ما عندكم في قول الله عز وجل ! ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ) ! فقال له بشار النحل التي يعرفها الناس قال هيهات يا أبا معاذ النحل بنو هاشم وقوله تعالى ! ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) ! يعني العلم فقال له بشار أراني الله شرابك وطعامك وشفاءك مما يخرج من بطون بنى هاشم فقد أوسعتنا
____________________
(1/292)
غثاثة فغضب وشتم بشارا فبلغ المهدي الخبر فدعا بهما وسألهما عن القصة فحدثه بشار بها فضحك حتى أمسك على بطنه ثم قال للرجل أجل فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم فانك بارد غث
ودخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور وكانت فيه غفلة فقال له يا شيخ ما صناعتك فقال له أثقب اللؤلؤ فضحك المهدي ثم قال لبشار أعزب ويلك أتتنادر على خالي قال وما أصنع به يرى شيخا أعمى قائما ينشد الخليفة شعرا يسأله عن صناعته
ووقف بعض المجان على بشار وهو ينشد شعرا فقال له استر شعرك هذا كما تستر عورتك فصفق بشار بيديه وغضب وقال له من أنت ويلك قال أنا أعزك الله رجل من باهلة وأخوالى من سلول وأصهاري من عكل واسمي كلب ومولدي بأضاخ ومنزلي بنهر بلال فضحك بشار وقال اذهب ويلك فأنت عتيق لؤمك قد علم الله أنك استترت منى بحصون من حديد
وحدث رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوج النهاريات قال تزوجت امرأة
____________________
(1/293)
منهن فاجتمعت معها في علو بيت وبشار تحتنا أو كنا في اسفل بيت وبشار في علوه مع امرأة فنهق حمار في الطريق فجاوبه حمار آخر في بيت الجيران وحمار في الدار فارتجت الناحية بنهيقها وضرب الحمار الذي في الدار برجله الأرض وجعل يدقها دقا شديدا فسمعت بشارا يقول للمرأة نفخ يعلم الله في الصور وقامت القيامة أما تسمعين كيف يدق على أهل القبور حتى يخرجوا منها ولم تلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها وعدت فألقت طبقا من نحاس فيه غضارة إلى الدار فانكسرت فتطاير حمام ودجاج كان في الدار لصوت الغضارة والطبق وبكى من ذلك صبي في الدار فقال بشار صح يعلم الله الخبر ونشر أهل القبور من قبورهم أزفت يشهد الله الآزفة وزلزلت الأرض زلزالها فعجبت من كلامه وغاطنى فسألت من المتكلم فقيل لي بشار فقلت قد علمت أنه لا يتكلم بمثل هذا الكلام غيره
ومر بشار برجل قد رمحته بغلته وهو يقول الحمد لله شكرا فقال له بشار استزده يزدك
ومر قوم يحملون جنازة وهو يسرعون المشي بها فقال ما لهم مسرعين أتراهم قد سرقوها فهم يخافون أن يلحقوا فتؤخذ منهم
ورفع غلامه إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فصاح به بشار وقال والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم والله لو صدأت عين الشمس حتى بقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم
وعن خلاد قال قلت لبشار إنك لتجيء بالشي المهجر المتفاوت قال
____________________
(1/294)
وما ذاك قلت له تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك
( إذا ما غضبنا غضبة مضرية ** هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما )
( إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ** ذرى منبر صلى علينا وسلما ) (1)
إلى أن تقول
( ربابة ربة البيت ** تصب الخل في الزيت )
( لها عشر دجاجات ** وديك حسن الصوت ) + من الوافر المجزوء +
فقال لكل شيء وجه وموضع فالقول الأول جد وهذا قلته في جاريتي ربابة وأنا لا آكل البيض من السوق فربابة هذه لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع البيض وتحفظه فهذا عندها أحسن من قول ^ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** ^ عندك
وقال هلال لبشار وكان صديقا له يمازحه إن الله عز وجل لم يذهب بصر أحد إلا عوضه منه شيئا فما الذي عوضك قال الطويل العريض قال وما هو قال لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء ثم قال له يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال نعم قال إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت وصرت رافضيا فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض
وعن أبي دهمان العلائي قال مررت ببشار يوما وهو جالس على باب
____________________
1- الطويل
(1/295)
داره وحده وليس معه أحد وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق فيه تفاح وأترج فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق مما بين يديه فجئت من خلفه قليلا قليلا وهو كاف يده حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب وضرب به يدي ضربة كاد يكسرها فقلت له قطع الله يدك يا ابن الفاعلة أنت الآن أعمى فقال يا أحمق فأين الحس
وقعد إلى بشار رجل فاستثقله فضرط عليه بشار ضرطة فظن الرجل أنها أفلتت منه ثم ضرط أخرى فقال أفلتت ثم ضرط ثالثة فقال له يا أبا معاذ ما هذا فقال مه أرأيت أم سمعت قال لا بل سمعت صوتا قبيحا فقال له لا تصدق حتى ترى
وحدث محمد بن الحجاج قال جاءنا بشار يوما وهو مغتم فقلنا له ما لك مغتما فقال مات حماري فرأيته في النوم فقلت له لم مت ألم أكن أحسن إليك فقال
( سيدي خذ بي أتانا ** عند باب الإصبهاني )
( تيمتني ببنان ** وبدل قد شجاني )
( تيمتني يوم رحنا ** بثناياها الحسان )
( وبغنج ودلال ** سل جسمي وبراني )
( ولها خد أسيل ** مثل خد الشنفراني )
( فلذا مت ولو عشت إذا طال هواني ** ) (1)
____________________
1- من مجزوء الرمل
(1/296)
فقلت له ما الشنفراني قال ما يدريني هذا من غريب الحمار فإذا لقيته فاسأله عنه
وقال الجاحظ كان بشار يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمم ويصوب رأي إبليس عليه اللعنة في تقديم عنصر النار على الطين وذكر ذلك في شعره فقال
( الأرض مظلمة والنار مشرقة ** والنار معبودة مذ كانت النار ) (1)
وكان الشر قد نشب بين بشار وحماد عجرد لأمور يطول ذكرها فكانا يتقارضان الهجاء فأجمع علماء البصرة أنه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار شيء جيد إلا أربعين بيتا معدودة ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت جيد وكل واحد منهما هو الذي هتك صاحبة بالزندقة وأظهرها عليه وكانا يجتمعان عليها فسقط حماد عجرد وتهتك بفضل بلاغة بشار وجودة معانية وبقي بشار على حاله لم يسقط وعرف مذهبه في الزندقة فقتل به
وكان رجل من أهل البصرة يدخل بين حماد وبشار على اتفاق منهما ورضى بأن ينقل إلى كل واحد منهما ما يقول الآخر من الشعر فدخل يوما على بشار فقال له بشار إيه يا فلان ما قال ابن الزانية في من الشعر فأنشده
( إن تاه بشار عليكم فقد ** أمكنت بشارا من التيه ) + السريع +
فقاق بشار بأي شيء ويحك فقال
( وذاك إذ سميته باسمه ** ولم يكن حر يسميه )
فقال سخنت عينه فبأي شيء كنت أعرف إيه فقال
( فصار إنسانا بذكري له ** ما يبتغى من بعد ذكريه )
____________________
1- البسيط
(1/297)
فقال ما صنع شيئا إيه ويحك فقال
( لم أهج بشارا ولكنني ** هجوت نفسي بهجائيه )
فقال على هذا المعنى دار وحوله حام إيه أيضا وأي شيء قال فأنشده
( أنت ابن برد مثل برد ** في النذالة والرذاله )
( من كان مثل أبيك يا ** أعمى أبوه فلا أبا له ) (1)
وحدث خالد الأرقط قال أنشد بشارا روايته قول جماد عجرد فيه
( دعيت إلى برد وأنت لغيره ** فهبك لبرد نكت أمك من برد ) + الطويل +
فقال بشار لروايته ها هنا أحد قال لا فقال أحسن والله ما شاء ابن الزانية
وقال بشار يوما لراوية حماد ما هجاني به اليوم حماد فأنشده
( ألا من مبلغ عني الذي والده برد ** ) + الهزج +
قال صدق ابن الفاعلة فما قال بعده فأنشده
( إذا ما نسب الناس ** فلا قبل ولا بعد )
فقال كذب أين الفاعلة وأين هذه العرضات من عقيل فما قال فأنشده
( وأعمى قلطبان ما ** على قاذفه حد )
فقال كذب ابن الفاعلة بل ثمانون جلدة عليه هيه فقال
( وأعمى يشبه القرد ** إذا ما عمي القرد )
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/298)
فقال والله ما أخطأ ابن الزانية حين شبهني بقرد حسبك حسبك ثم صفق بيديه وقال ما حيلتي يراني فيشبهني ولا أراه فأشبهه
وفي حماد عجرد يقول بشار
( ما لمت حمادا على فسقه ** يلومه الجاهل والمائق )
( وما هما من أيره واسته ** ملكه إياهما الخالق )
( ما بات إلا فوقه فاسق ** ينيكه أو تحته فاسق ) (1)
قال ابن أبي سعيد وأبلغ ما هجا به حماد عجرد بشارا قوله
( نهاره أخبث من ليله ** ويومه أخبث من أمسه )
( وليس بالمقلع عن غيه ** حتى يوارى في ثرى رمسه ) (1)
قال وكان أغلظ على بشار من ذلك كله وأوجعه له قوله فيه
( لو طليت جلدته عنبرا ** لأفسدت جلدته العنبرا )
( أو طليت مسكا ذكيا إذا ** تحول المسك عليه خرا ) (1)
قال وكان حماد عجرد قد أتصل بالربيع يؤدب ولده فكتب إليه بشار رقعة فأوصلت إلى الربيع فإذا فيها مكتوب
( يا أبا الفضل لا تنم ** وقع الذئب في الغنم )
( إن حماد عجرد ** إن رأى غفلة هجم )
( بين فخذيه حربة ** في غلاف من الأدم )
( إن خلا البيت ساعة ** مجمج الميم بالقلم ) + من مجزوء الخفيف +
فلما قرأها الربيع قال صيرني حماد دريئة الشعراء أخرجوا عنى حمادا فأخرج
____________________
1- السريع
(1/299)
وقد فعل مثل هذا بعينه حماد عجرد بقطرب حين أتخذ مؤدبا لبعض ولد المهدي وكان هو يطمع في ذلك فلم يتم له لشهرته في الناس بما قاله فيه بشار فلما تمكن قطرب في موضعه صار حماد كالملقى على الرصد فجعل يقوم ويقعد بقطرب في الناس ثم أخذ رقعة فكتب فيها
( قل للإمام جزاك الله صالحة ** لا تجمع الدهر بين السخل والذيب )
( السخل غر وهم الذئب فرصته ** والذئب يعلم ما في السخل من طيب ) (1)
فلما قرأ المهدي هذين البيتين قال انظروا لا يكون هذا المؤدب لوطيا ثم قال انفوه عن الدار فأخرج عنها وجيء بمؤدب غيره ووكل بولده تسعون خادما بنوابها يحفظونه فخرج قطرب هاربا مما شهر به إلى الكرج فأقام هنالك إلى أن مات
وكان بشار بلغه أن حمادا عليل ثم نعي إليه قبل موته فقال بشار
( لو عاش حماد لهونا به ** لكنه صار إلى النار ) + السريع +
فبلغ هذا البيت حمادا قبل موته وهو في السياق فقال يرد عليه
( نبئت بشارا نعاني وللموت براني الخالق الباري ** )
( يا ليتني مت ولم أهجه ** نعم ولو صرت إلى النار )
( وأي خزي هو أخزى من أن ** يقال لي يا سب بشار ) + السريع +
وكان حماد قد نزل بالأهواز على سليم بن سالم فأقام عنده مدة مستترا من
____________________
1- البسيط
(1/300)
محمد بن سليمان ثم خرج من عنده يريد البصرة فمر بشيراز في طريقه فمرض بها فاضطر إلى المقام بها بسبب علته واشتد مرضه فمات هناك ودفن على تلعة
ثم أن المهدي لما قتل بشارا بالبطيحة اتفق أنه حمل إلى منزله ميتا فدفن مع حماد على تلك التلعة فمر بهما هشام الباهلي الشاعر البصري الذي كان يهاجي بشارا فوقف على قبريهما وقال
( قد تبع الأعمى قفا عجرد ** فأصبحا جارين في دار )
( قالت بقاع الأرض لا مرحبا ** بقرب حماد وبشار )
( تجاورا بعد تنائيهما ** ما أبغض الجار إلى الجار )
( صارا جميعا في يدي مالك ** في النار والكافر في النار ) (1)
وكان السبب في قتل المهدي بشارا أنه كان نهاه عن التشبيب فمدحه بقصيدة فلم يحظ منه بشيء فهجاه فقال من قصيدة
( خليفة يزني بعماته ** يلعب بالدبوق والصولجان )
( أبدلنا الله به غيره ** ودس موسى في حر الخيزران ) (1)
وأنشدها في حلقة يونس النحوي فسعى به إلى يعقوب بن داود الوزير وكان بشار قد هجاه بقوله
____________________
1- السريع
(1/301)
( بني أمية هبوا طال نومكم ** إن الخليفة يعقوب بن داود )
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ** خليفة الله بين الزق والعود ) (1)
فدخل يعقوب على المهدي فقال يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك قال بأي شيء قال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري فقال بحياتي أنشدني إياه فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي فحلف عليه المهدي بالأيمان التي لا فسحة له فيها فقال أما لفظا فلا ولكنني أكتب ذلك فكتبه ودفعه فكاد ينشق غيظا وعمل على الانحدار إلى البصرة لينظر في أمرها وما في فكره غير بشار فانحدر فلما بلغ إلى البطيحة سمع أذانا في وقت إضحاء النهار فقال انظروا ما هذا الأذان فإذا بشار سكران فقال له يا زنديق يا عاض بظر أمه عجبت أن يكون هذا من غيرك أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط فضربه بين يديه على صدر الحراقة سبعين سوطا أتلفه فيها فكان إذا أصابه السوط يقول حس وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع فقال انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين يقول حس ولا يقول بسم الله فقال ويلك أطعام هو فأسمي عليه فقال له آخر أفلا قلت الحمد لله فقال أو نعمة هي فأحمد الله عليها فلما استوفى السبعين بان الموت فيه فألقي في سفينة حتى مات ثم رمي به في البطيحة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة فدفنوه إلى جانب حماد عجرد كما قدمناه
وقال أبو هشام الباهلي فيه
( يا بؤس ميت لم يبكه أحد ** اجل ولم يفتقده مفتقد )
____________________
1- البسيط
(1/302)
( لا أم أولاده بكته ولم ** يبك عليه لفرقة أحد )
( ولا ابن أخت يبكي ولا ابن أخ ** ولا حميم رقت له كبد )
( بل زعموا أن أهله فرحا ** لما أتاهم نعيه سجدوا ) (1)
وكان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم فأتاه في بعض السنين فقال له هلم الجزية يا أبا معاذ فقال ويحك أوجزية هي أيضا قال هو ما تسمع فقال له بشار يمازحه أنت افصح مني قال لا قال فأعلم مني بمثالب الناس قال لا قال فأشعر مني قال لا قال فلم أعطيك قال لئلا أهجوك فقال له إن هجوتني هجوتك فقال له أبو الشمقمق أو هكذا هو قال نعم فقل ما بدا لك فقال أبو الشمقمق
( إني إذا ما شاعر هجانيه ** ولج في القول له لسانيه )
( أدخلته في أست أمه علانية ** بشار يا بشار . . . . . . . . ) + الرجز +
وأراد أن يقول يا ابن الزانية فوثب بشار فأمسك فاه وقال أراد والله أن يشتمني ثم دفع إليه مائتي درهم وقال لا يسمعن منك هذا الصبيان
وحدث الأصمعي قال أمر عقبة بن سلم لبشار بعشرة آلاف درهم فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشارا فقال له يا أبا معاذ إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون
( هللينه هللينه ** طعن قثاة لتينه )
( إن بشار بن برد ** تيس أعمى في سفينة ) + من مجزوء الرمل +
فأخرج له بشار مائتي درهم وقال خذ هذه ولا تكن رواية للصبيان يا أبا الشمقمق
____________________
1- المنسرح
(1/303)
ولما ضرب بشار وطرح في السفينة قال ليت عين أبي الشمقمق تراني حيث يقول
( إن بشار بن برد ** تيس أعمى في سفينة )
وكان قتله سنة ثمان وستين ومائة وقد بلغ نيفا وتسعين سنة
ومن شعره قوله
( طالبتها دينا فضنت به ** وأمسكت قلبي مع الدين )
( فرحت كالعير غدا يبتغي ** قرنا فلم يرجع بأذنين )
( أعتقت ما أملك إن لم أكن ** أحب أن ألقاك فالقيني )
( والله لو نلتك لا أتقي ** عينا لقبلتك ألفين ) (1)
قوله فرحت كالعير البيت مثل قول بعضهم
( ذهب الحمار ليستفيد لنفسه ** قرنا فآب وماله أذنان ) + الكامل +
ومن شعره قوله
( خير إخوانك المشارك في المر وأين الشريك في المر أيناش ** )
( الذي إن شهدت سرك في الحي وإن غبت كان أذنا وعينا ** )
( مثل سر الياقوت إن مسه النار جلاه البلاء فازداد زينا ** )
( أنت في معشر إذا غبت عنهم ** بدلوا كل ما يزينك شينا )
( وإذا ما رأوك قالوا جميعا ** أنت من أكرم البرايا علينا )
( ما أرى للأنام ودا صحيحا ** عاد كل الوداد زورا ومينا ) + الخفيف +
56
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ** بني حوالي الأسود الحوارد )
البيت من الطويل قائله الفرزدق من جملة أبيات قالها مخاطبا لزوجته النوار
____________________
1- السريع
(1/304)
وكان قد مكث زمانا لا يولد له فعيرته بذلك وأول الأبيات
( وقالت أراه واحدا لا أخا له ** يؤمله يوما هو والد ) (1)
وبعده البيت وبعده
( فإن تميما قبل أن يلد الحصا ** أقام زمانا وهو في الناس واحد ) (1)
والحوارد من حرد إذا غضب
والشاهد فيه ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية لدخول حرف على المبتدأ أيحصل به نوع من الارتباط وهو هنا كأن إذ لو لم تدخل لما حسن الكلام إلا بالواو وبني إلخ جملة اسمية وقعت حالا من مفعول تبصرني ومعنى حوالي في أكنافي وجوانبي وهو حال من بني لما في حرف التشبيه من معنى الفعل
57
( والله يبقيك لنا سالما ** برداك تبجيل وتعظيم )
البيت لابن الرومي من قصيدة من السريع منها قبل البيت
( قل له الملك ولو أنه ** مجموعة فيه الأقاليم ) + السريع +
والتبجيل التعظيم
والشاهد فيه ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية وهي برداك إلخ لوقوعها بعقب حال مفرد وهو سالما إذ لو لم يتقدمها لم يحسن فيها ترك الواو والحالان اعني الجملة وسالما يجوز أن يكونا من الأحوال المترادفة وهي أن تكون أحوال المتداخلة وهي أن يكون صاحب الحال المتأخرة الاسم الذي يشتمل عليه الحال السابقة مثل أن يجعل قوله برداك تعظيم حالا من الضمير في سالما
وابن الرومي تقدم ذكره في شواهد المسند إليه
____________________
1- الطويل
(1/305)
شواهد الإيجاز والإطناب والمساواة
58
( والعيش خير في ظلال ** النوك ممن عاش كدا )
البيت للحارث بن حلزة اليشكري من الكامل المضمر المرقل وقبله
( فعش بجد لا يضرك ** النوك ما أوليت جدا ) (1) والنوك بضم النون وفتحها الحمق ومعنى كدا مكدودا متعوبا
والشاهد فيه الإخلال لكونه غير واف بالمراد إذ أصل مراده أن العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل ولفظه غير واف بذلك
وما احسن قول ابن المعتز
( وحلاوة الدنيا لجاهلها ** ومرارة الدنيا لمن عقلا ) (1)
ولأبي عبد الله محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي
( عابوا الجهالة وازدروا بحقوقها ** وتهاونوا بحديثها في المجلس )
( وهي التي ينقاد في يدها الغنى ** وتجيئها الدنيا برغم المعطس )
( إن الجهالة للغنى جذابة ** جذب الحديد حجارة المغنطيس ) (1)
ولأبي محمد اليزيدي من أبيات
( عش بجد ولا يصرك نوك ** إنما عيش من ترى بالجدود )
( عاش بجد وكن هبنقة العبسي نوكا أو شيبة بن الوليد ** ) + الخفيف +
وما أحسن قول بعضهم
____________________
1- الكامل
(1/308)
( إن المقادير إذا ساعدت ** ألحقت العاجز بالقادر ) (1)
وبديع قول بعضهم
( بالجد يسعى الفتى وإلا ** فليس يغني أب وجد )
( وليس يجدي عليك كد ** ما دام يكدي عليك جد ) + من مخلع البسيط +
وما أحذق قول ابن لنكك
( دنياك باتت على الأحرار غاضبة ** وطاوعت كل صفعان وضراط ) + البسيط +
وقوله أيضا
( كن ساعيا ومصافعا ومضارطا ** تنل الرغائب في الزمان وتنفق ) + الكامل +
ولمؤلفه من أبيات
( من يبغ بالفضل معاشا يمت ** جوعا ولو كان بديع الزمان )
( ومن يقد أو يتمسخر يعش ** عيشا رخيا في ظلال الأمان )
( تبغي الحجا ثم تروم الغنى ** يا قلما تجتمع الضرتان ) (1)
ولطيف قول بعضهم
( قد يحد اللبيب عن سعة الرزق ** وقد يسعد الضعيف بجده )
( رب مال أتى بأهون سعي ** وكدود لم يغنه طول كده ) + الخفيف +
ولابن نباته السعدي
( ما بال طعم العيش عند معاشر ** خلو وعند معاشر كالعلقم )
( من لي بعيش الأغبياء فإنه ** لا عيش إلا عيش من لم يعلم ) + الكامل +
____________________
1- السريع
(1/309)
والحارث بن حلزة هو من بني يشكر من بكر بن وائل وكان أبرص وهو القائل
( آذنتنا ببينها أسماء ** رب ثاو يمل منه الثواء ) (1)
ويقال إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالا في شيء كان بين بكر وتغلب في الصلح وكان ينشده من وراء السجف للبرص الذي كان به فأمر برفع السجف بينه وبينه استحسانا له وكان الحارث متوكئا على عنزة فأثرت في جسده وهو لا يشعر وكان له ابن يقال له مذعور ولمذعور ابن يقال له شهاب ابن مذعور وكان ناسبا وفيه يقول مسكين الدارمي
( هلم إلي ابن مذعور شهاب ** ينبئ بالسفال وبالمعالي ) + الوافر +
قال الأصمعي قد أقوى الحارث بن حلزة في قصيدته التي ارتجلها
( فملكنا بذلك الناس إذ ما ** ملك المنذر بن ماء السماء )
قال أبو محمد ولن يضر ذلك في هذه القصيدة لأنه ارتجلها فكانت كالخطبة
59
( والفي قولها كذبا ومينا ** ) هو من الوافر وصدره
____________________
1- الخفيف
(1/310)
( وقددت الأديم لراهشية ** )
وقائله عدي بن زيد العبادي من قصيدة طويلة أولها
( أبدلت المنازل أم عنينا ** بقادم عهدهن فقد بلينا )
يقول فيها يخاطب النعمان بن المنذر بن ماء السماء
( ألا يا أيها المثري المرجى ** ألم تسمع بخطب الأولينا )
ومنها ويذكر غدر الزباء بجذيمة الأبرش
( دعا بالبقة الأمراء يوما ** جذيمة عصر ينجوهم ثبينا )
( فطاوع أمرهم وعصى قصيرا ** وكان يقول لو تبع اليقينا )
( ودست في صحيفتها إليه ** ليملك بضعها ولأن تدينا )
( ففاجأها وقد جمعت فيوجا ** على أبواب حصن مصلتينا )
( فأردته ورغب النفس يردي ** ويبدي للفتى الحين المبينا )
( وحدثت العصا الأنباء عنه ** ولم أر مثل فارسها هجينا )
وبعده البيت المستشهد بعجزه وبعده
____________________
(1/311)
( ومن حذر الملاوم والمخازي ** وهن المنديات لمن منينا )
( أطف لأنفه الموسى قصير ** ليجدعه وكان به ضنينا )
( فأهواه لما رنه فأضحى ** طلاب الوتر مجدوعا مشينا )
( وصادفت امرأ لم تخش منه ** غوائله وما أمنت أمينا )
( فلما ارتد منها ارتد صلبا ** يجر المال والصدر الضغينا )
( أتتها العيس تحمل ما دهاها ** وقنع في المسوح الدارعينا )
( ودس لها على الأنفاق عمرا ** بشكته وما خشيت كمينا )
( فجللها قديم الأثر عضبا ** يصك به الحواجب واتجبينا )
( فأضحت من خزائنها كأن لم ** تكن زباء حاملة جنينا )
( وأبرزها الحوادث والمنايا ** وأي معمر لا يبتلينا )
( إذا أمهلن ذا جد عظيم ** عطفن عليه ولو فرطن حينا )
( ولم أجد الفتى يلهو بشيء ** ولو أثرى ولو ولد البنينا ) وكان من خبر جذيمة والزباء أن جذيمة كان من العرب الأولى من بني إياد كما ذكره ابن الكلبي وكنيته أبو مالك وكان في أيام ملوك الطوائف وقال أبو عبيدة كان جذيمة بعد عيسى صلوات الله وسلامه عليه بثلاثين سنة وكان قد ملك شاطئ الفرات إلى ما والى ذلك إلى السواد ستين سنة وكان به برص فهابت العرب ان تصفه بذلك فقالوا الابرش والوضاح وقيل سمي بذلك لأنه أصابه حرق نار فبقي أثره نقطا سودا وحمرا وكان الملك قبله أباه وهو أول من ملك الحيرة وكان جذيمة هذا يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم
____________________
(1/312)
على كثير مما في أيديهم وهو أول من أوقد الشمع ونصب المجانيق للحرب وأول من اجتمع له الملك بأرض العراق وكان قد قتل أبا الزباء وغلب على غالب ملكه وألجأ الزباء إلى أطراف مملكتها وكانت عاقلة أريبة فبعثت إليه تخطبه لنفسها ليتصل ملكه بملكها فدعته نفسه إلى ذلك وقيل هو الذي بعث إليها يخطبها فكتبت إليه إني فاعلة ومثلك يرغب فيه فإذا شئت فاشخص إلي فشاور وزراءه فكل أشار عليه أن يفعل إلا قصير بن سعد فإنه قال له أيها الملك لا تفعل فإن هذه خديعة ومكر فعصاه وأجابها إلى ما سألت فقال قصير عند ذلك لا يطاع لقصير رأي وقيل أمر فأرسلها مثلا ولم يكن قصيرا ولكن كان اسما له ثم إنه قال له أيها الملك أما إذ عصيتني فإذا رأيت جندها قد أقبلوا إليك فإن ترجلوا وحيوك ثم ركبوا وتقدموا فقد كذب ظني وإن رأيتهم إذا حيوك طافوا بك فإني معرض لك العصا وهي فرس لجذيمة لا تدرك فاركبها وانج فلما أقبل جيشها حيوه ثم طافوا به فقرب قصير إليه العصا فشغل عنها فركبها قصير فنجا فنظر جذيمة إلى قصير على العصا وقد حال دونه السراب فقال ما ذل من جرت به العصا فأرسلها مثلا وأدخل جذيمة على الزباء وكانت قد ربت شعر عانتها حولا فلما دخل تكشفت له وقالت أمتاع عروس ترى يا جذيمة فقال بل متاع أمة بظراء فقالت إنه ليس من عدم المواسي ولا من قلة الأواسي ولكنها شيمة ما أقاسي وأمرت فأجلس على نطع ثم أمرت برواهشة فقطعت وكان قد قيل لها احتفظي بدمه فإنه إن أصاب الأرض قطرة من دمه طلب بثأره فقطرت قطرة من دمه في الأرض فقالت
____________________
(1/313)
لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة دعواد ما ضيعه أهله فلم يزل الدم يسيل إلى أن مات
ثم إن قصيرا أتى عمرا ابن أخت جذيمة وأخبره الخبر وحرضه على أخذ الثأر واحتال لذلك بأن قطع أنفه وأذنيه ولحق بالزباء وزعم أن عمرا فعل به ذلك وانه اتهمه بممالأته لها على خاله ولم يزل يخدعها حتى اطمأنت له وصارت ترسله إلى العراق بمال فيأتي إلى عمرو فيأخذ منه ضعفه ويشتري به ما تطلبه ويأتي إليها به إلى أن تمكن منها وسلمته مفاتيح الخزائن وقالت له خذ ما أحببت فاحتمل ما أحب من مالها وأتى عمرا فانتخب من عسكره فرسانا وألبسهم السلاح وأتخذ غرائر وجعل أشراجها من داخل ثم حمل على كل بعير رجلين معهما سلاحهما وجعل يسير النهار حتى إذا كان الليل اعتزل عن الطريق فلم يزل كذلك حتى شارف المدينة فأمرهم فلبسوا الحديد ودخلوا الغرائر ليلا وعرف أنه مصبحها فلما أصبح عندها دخل عليها وسلم وقال هذه العير تأتيك الساعة بما لم يأتك قط مثله فصعدت فوق قصرها وجعلت تنظر العير وهي تدخل المدينة فأنكرت مشيها وجعلت تقول
( ما للجمال مشيها وئيدا ** أجندلا يحملن أم حديدا )
( أم صرفانا باردا شديدا ** أم الرجال جثما قعودا ) (1)
فلما توافت العير المدينة حلوا أشراجهم وخرجوا في الحديد وأتى قصير بعمرو فأقامه على سرب كان لها إذا خشيت خرجت منه فأقبلت لتخرج من السرب فأتاها عمرو فجعلت تمص خاتما وفيه سم وتقول بيدي لا بيد عمرو وفارقت الدنيا والراهشان عرقان في باطن الذراعين
والشاهد فيه التطويل وهو أن يكون اللفظ زائدا على أصل المراد لا لفائدة واللفظ الزائد غير متعين إذ جمعه بين الكذب والمين في البيت لا فائدة فيه
____________________
1- الرجز
(1/314)
لأنهما بمعنى واحد
وعدي هو ابن زيد بن حماد بن أيوب ينتهي نسبه لنزار وكان أيوب هذا فيما يزعم ابن الأنباري أول من سمى من العرب أيوب وكان عدي شاعرا فصيحا من شعراء الجاهلية وكان نصرانيا وكذلك كان أبوه وأهله وليس ممن يعد من الفحول إذ هو قروي وقد أخذ عنه أشياء عيب بها وكان أبو عبيدة والأصمعي يقولان عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت الثقفي ومثلهما عندهم من الإسلاميين الكميت والطرماح وقال ابن قتيبة كان يسكن الحيرة ويدخل الأرياف فثقل لسانه واحتمل عنه شيء كثير جدا وعلماؤنا لا يرون شعره حجة
وله أربع قصائد غرر إحداهن أولها
( أرواح مودع أم بكور ** لك فاعمد لأي حال تصير ) (1)
وفيها يقول
( أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور ** )
( أم لديك العهد الوثيق من الأيام أم أنت جاهل مغرور ** )
( من رأيت المنون جازته أم من ** ذا عليه من أن يضام خفير )
( أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ** وإن أم أين قبله سابور )
____________________
1- الخفيف
(1/315)
( وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم ** لم يبق منهم مذكور )
( وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور ** )
( شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور ** )
( وتبين رب الخورنق إذ أشرف يوما وللهدى تفكير ** )
( سره حاله وكثرة ما يملك ** والبحر معرضا والسدير ** )
( فارعوى قلبه وقال وما غبطة حي إلى الممات يصير ** )
( ثم بعد الفلاح والملك والأمة وارتهم هناك القبور ** )
( ثم أضحوا كأنهم ورق جف فألوت به الصبا والدبور ** ) الحسن
والثانية أولها
( أتعرف رسم الدار من أم معبد ** نعم فرماك الشوق قبل التجلد )
( أعاذل ما يدريك أن منيتي ** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد )
( ذريني فإني إنما لي ما مضى ** أمامي من مالي إذا خف عودي )
( وحمت لميقات إلي منيتي ** وغودرت قد وسدت أو لم أوسد )
( وللوارث الباقي من المال فاتركي ** عتابي فإني مصلح غير مفسد ) (1)
والثالثة أولها
( لم أر مثل الفتيان في غبن الأيام ** ينسون ما عواقبها ) + المنسرح +
والرابعة أولها
( طال ليلي أراقب التنويرا ** أرقب الليل بالصباح بصيرا ) + الخفيف +
انتهى ما قاله ابن قتيبة
____________________
1- الطويل
(1/316)
وكان جده أيوب منزله باليمامة فأصاب دما في قومه فهرب فلحق بأوس ابن قلام أحد بني الحرث بن كعب بالحيرة وكان بينهما نسب من قبل النساء فأقام بالحيرة واتصل بالملوك الذين كانوا بها وعرفوا حقه وحق بنيه ولما ولد عدي وأيفع طرحه أبوه في الكتاب حتى إذا حذق أرسله مرزبان الحيرة مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية فكان يختلف مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بهما وأفصحهم بالعربية وقال الشعر وتعلم الرمي وبالنشاب فخرج من الأساورة الرماة وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها ثم إن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد فبينما هما واقفان بين يديه إذ سقط طائران على السور فتطاعما كما يتطاعم الذكر والأنثى يجعل كل واحد منهما منقاره في منقار الآخر فغضب كسرى من ذلك ولحقته غيرة شديدة فقال للمرزبان وابنه ليرم كل واحد منكما واحدا من هذين الطائرين فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجوهر ومن اخطأ منكما عاقبته فاعتمد كل واحد منهما طائرا منهما ورميا فقتلاهما جميعا فبعث بهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهرا وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته فقال عند ذلك للملك إن عندي غلاما من العرب مات أبوه وخلفه في حجري فربيته وهو أفصح الناس واكتبهم بالعربية والفارسية والملك محتاج إلى مثله فإن رأى الملك أن يثبته في ولدي فعل فقال ادعه فأرسل إلى عدي بن زيد وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل فلما كلمه وجده اظرف الناس وأحضرهم جوابا فرغب فيه وأثبته مع ولد المرزبان فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى فرغب أهل الحيرة إلى عدي ورهبوه فلم يزل بالمدائن في ديوان
____________________
(1/317)
كسرى يؤذن له عليه في الخاصة وهو معجب به قريب منه وأبوه زيد بن حماد حي إلا أن ذكر عدي قد ارتفع وخمل ذكر أبيه فكان عدي إذا دخل على المنذر قام له هو وجميع من عنده حتى يقعد عدي فعلا له بذلك صيت عظيم وكان إذا أراد المقام في الحيرة مع أبيه وأهله استأذن كسرى فأقام فيهم الشهر والشهرين وأكثر وأقل ثم إن كسرى أرسله إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله إلى أعماله على البريد ليريه سعة أرضه وعظم ملكه وكذلك كانوا يصنعون فمن ثم وقع عدي بدمشق وقال بها الشعر فمما قاله بالشام وهو أول شعر قاله فيما ذكر
( رب دار بأسفل الجزع من دومة ** أشهى إلي من جيرون )
( وندامى لا يفرحون بما نالوا ** ولا يتقون صرف المنون )
( قد سقيت الشمول في دار بشر ** قهوة مرة بماء سخين ) (1)
ثم إن عديا قدم المدائن على كسرى بهدية قيصر فصادف أباه والمرزبان الذي رباه قد هلكا جميعا فاستأذن كسرى في المقام بالحيرة فتوجه إليها وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه ورجع معه وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم ولو أراد أن يملكوه لملكوه ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك فمكث سنين يبدو في فصلي السنة فيقم في البر صيفا ويشتو
____________________
1- الخفيف
(1/318)
بالحيرة ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى فمكث بذلك سنين ثم إن المنذر هلك وقام ابنه النعمان مقامه بمعاونة عدي في خبر طويل ثم لم يزل الحسدة يوقعون بينه وبين عدي إلى أن حبسه فقال في ذلك أشعارا كثيرة منها
( طال ذا الليل علينا واعتكر ** وكأني بادر الصبح شمر )
( من نجي الهم عندي ثاويا ** فوق ما أعلن منه وأسر )
( وكأن الليل فيه مثله ** ولقدما ظن بالليل القصر )
( لم أغمض طوله حتى انقضى ** أتمنى لو أرى الصبح حشر )
( غير ما عشق ولكن طارق ** خلس النوم وأجداني السهر ) (1)
وقال يخاطب النعمان بن المنذر أيضا
( أبلغ النعمان عني مألكا ** أنه قد طال حبسي وانتظار )
( لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصار )
( ليت شعري من دخيل يعتري ** حينما أدرك ليلي ونهار )
( قاعدا يكرب نفسي بثها ** وحرام كان سجني واختصار ) (1)
____________________
1- الرمل
(1/319)
في قصائد كثيرة كان يقولها ويكتب بها إليه فلا تجدي عنده شيئا
ولقد تداول الشعراء معنى بيت عدي لو بغير الماء حلقي شرق إلخ بعد عدي فقال أبو نواس
( غصصت منك بما لا يدفع الماء ** وصح حبك حتى ما به داء ) (1)
وقال الآخر
( من غص داوى بشرب الماء غصته ** فكيف يصنع من قد غص بالماء ) (1)
وقال الخزأرزي
( بالماء أدفع شيئا إن غصصت به ** فما احتيالي وغصي منك بالماء ) (1)
ثم لما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي وهو مع كسرى يعلمه بحاله فلما قرأ كتابه قام إلى كسرى فكلمه في أمره وعرفه بخبره فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه وبعث معه رجلا وكتب خليفة النعمان إليه إنه قد كتب إليك في أمره فأتى النعمان أعداء عدي وقالوا اقتله الساعة فأبى عليهم وجاء الرسول وقد كان أخو عدي تقدم إليه ورشاه وأمره أن يبدأ بعدي فيدخل عليه وهو محبوس بالصنين فقال له ادخل عليه وانظر ماذا يأمرك به فامتثله فدخل الرسول على عدي فقال له إني قد جئت بإرسالك فما عندك قال عندي الذي تحب ووعده عدة سنية وقال لا تخرجن من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله إليه فإنك والله لئن خرجت من عندي لأقتلن فقال لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب فأوصله إليه فانطلق بعض من كان هناك من أعداء عدي فأخبر النعمان أن رسول كسرى دخل على عدي وهو ذاهب به وإن فعل والله لم يستبق منا أحدا أنت ولا غيرك فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات ثم دفنوه ودخل الرسول إلى النعمان فأوصل الكتاب إليه فقال حبا وكرامة وأمر له بأربعة آلاف
____________________
1- البسيط
(1/320)
مثقال ذهب وجارية حسناء وقال له إذا أصبحت فادخل أنت بنفسك الحبس فأخرجه فلما أصبح ركب فدخل السجن فأخبره الحارس أنه قد مات منذ أيام ولم نجترئ على إخبار الملك بذلك خوفا منه وقد عرفنا كراهيته لموته فرجع إلى النعمان فقال إني قد كنت أمس دخلت على عدي وهو حي وجئت اليوم فجحدني السجان وبهتني وذكر لي أنه قد مات منذ أيام فقال له النعمان أيبعث بك الملك إلي فتدخل إليه قبلي كذبت ولكنك أردت الرشوة والخبث وتهدده ثم زاد جائزته وأكرمه وتوثق منه أن لا يخبر كسرى إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه فرجع الرسول إلى كسرى وقال إني قد وجدت عديا قد مات قبل أن ادخل عليه وندم النعمان على قتله وعلم أنه قد احتيل عليه في قتله واجترأ أعداؤه عليه وهابهم هيبة شديدة
وكان لعدي ولد اسمه زيد فسيره النعمان إلى كسرى ووصفه بأوصاف جميلة فوقع من كسرى الموقع فما زال يعمل الحيلة إلى أن غير كسرى على النعمان وأرسل إليه أن أقبل علينا فحمل سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبل طيئ ثم بعث إلى كسرى بخيل وحلل وجواهر وطرف فقبلها كسرى وأظهر له الرضا وأمره بالقدوم فعاد الرسول وأخبره بذلك وأنه لم ير له عند كسرى سوءا فمضى إليه حتى إذا وصل إلى ساباط لقيه زيد بن عدي عند قنطرة ساباط فقال له انج نعيم إن استطعت النجاة فقال له أفعلتها يا زيد أما والله إن عشت لك لأقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط ولألحقتك بأبيك فقال له زيد امض لشأنك نعيم فقد والله أخيت لك أخية لا يقطعها المهر
____________________
(1/321)
الأرن فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى سجن له بخانقين فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هنالك فمات فيه وقال ابن الكلبي ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات وأنكر هذا من زعم أنه مات بخانقين وقالوا لم يزل محبوسا مدة طويلة وإنما مات بعد ذلك بحين قبيل الإسلام وغضبت له العرب حينئذ وكان قتله سبب وقعة ذي قار
وكان عدي يهوى هند بنت النعمان بن المنذر ولها يقول
( علق الأحشاء من هند علق ** مستسر فيه نصب وأرق ) (1)
وفيها يقول أيضا
( من لقلب دنف أو معتمد ** قد عصى كل نصيح ومفد ) (1)
وفيها يقول أيضا
( يا خليلي يسرا التعسيرا ** ثم روحا فهجرا تهجيرا )
( عرجا بي على ديار لهند ** ليس أن عجتما المطي كبيرا ) + الخفيف +
وقد تزوجها عدي في خبر طويل فمكثت معه حتى قتله النعمان فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة وكان هلاكها بعد الإسلام بزمن طويل في ولاية المغيرة بن شعبة الكوفة وخطبها المغيرة فردته
____________________
1- الرمل
(1/322)
وقالت والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك ولكنك أردت أن تقول في المواسم ملكت مملكة النعمان بن المنذر وتزوجت ابنته فبحق معبودك أهذا أردت قال أي والله قالت فلا سبيل إليه
60
( ولا فضل فيها للشجاعة والندى ** وصبر الفتى لولا لقاء شعوب )
البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة من الطويل يمدح بها سيف الدولة ابن حمدان ويعزيه بغلامه يماك التركي وأولها وفيه الخرم وهو حذف الحرف الأول من الوتد المجموع
( لا يحزن الله الأمير فإنني ** لآخذ من حالاته بنصيب )
( ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ** بكى بعيون سرها وقلوب )
( وإني وإن كان الدفين حبيبه ** حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي )
( وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ** وأعيا دواء الموت كل طبيب )
( سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ** منعنا بها من جيئة وذهوب )
( تملكها الآتي تملك سالب ** وفارقها الماضي فراق سليب ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وأؤفي حياة الغابرين لصاحب ** حياة امرئ خانته بعد مشيب )
( لأبقى يماك في حشاي صبابة ** إلى كل تركي النجار جليب )
( وما كل وجه أبيض بمبارك ** ولا كل جفن ضيق بنجيب )
( لئن ظهرت فينا عليه كآبة ** لقد ظهرت في حد كل قضيب )
____________________
1- الطويل
(1/323)
( وفي كل قوس كل يوم تناضل ** وفي كل طرف كل يوم ركوب )
( يعز عليه أن يخل بعادة ** وتدعو لأمر وهو غير مجيب )
( وكنت إذا أبصرته لك قائما ** نظرت إلى ذي لبدتين أريب )
( فإن يكن العلق النفيس فقدته ** فمن كف متلاف أغر وهوب )
( لأن الردى عاد على كل ماجد ** إذا لم يعوذ مجده بعيوب )
( ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ** غفلنا فلم نشعر له بذنوب ) (1)
وهي طويلة
وشعوب اسم للمنية غير منصرف للعلمية والتأنيث وصرفه للضرورة سميت النتية بذلك لأنها تشعب أي تفرق
والشاهد فيه الحشو الزائد المفسد وهو هنا لفظة الندى لأن المعنى أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والعطاء والصبر على الشدائد على تقدير عدم الموت وهذا إنما يصح في الشجاعة والصبر دون العطاء فإن الشجاع إذا تيقن الخلود هان عليه الاقتحام في الحروب لعدم خوفه من الهلاك فلم يكن في ذلك فضل وكذلك الصابر إذا تيقن زوال الشدائد والحوادث وبقاء العمر هان عليه صبره على المكروه لوثوقه بالخلاص منه بل مجرد طول العمر يهون على النفوس الصبر على المكاره ولهذا يقال هب أن لي صبر أيوب فمن أين لي عمر نوح بخلاف الباذل ماله فإنه إذا تيقن الخلود شق عليه بذل المال لاحتياجه إليه فيكون بذله حينئذ أفضل أما إذا تيقن الموت فقد هان عليه بذله ولهذا قال طرفة
____________________
1- الطويل
(1/324)
( فإن كنت لا أستطيع دفع منيتي ** فذرني أبادرها بما ملكت يدي ) (1)
ومثله قول مهيار الديلمي
( فكل إن أكلت وأطعم أخاك ** فلا الزاد يبقى ولا الآكل ) + المتقارب +
وقيل المراد بالندى بذل النفس لا المال كما قال مسلم بن الوليد
( يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود ) + البسيط +
ورد بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس وإن استعمل فعلى وجه الإضافة والأقرب ما ذكره ابن جني وهو أن في الخلود وتنقل الأحوال فيه من عسر إلى يسر ومن شدة إلى رخاء ما يسكن النفوس ويسهل البؤس فلا يظهر لبذل المال كثير فضل
61
( وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** )
هو من البحر الطويل وتمامه
( ولكنني عن علم ما في غد عم ** )
وقائله زهير بن أبي سلمى وهو من آخر قصيدة قالها في الصلح الواقع بين عبس وذبيان وأولها
( أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ** بحومانة الدراج فالمتثلم )
____________________
1- الطويل
(1/325)
( ودار لها بالرقمتين كأنها ** مراجيع وشم في نواشر معصم )
( بها العين والآرام يمشين خلفة ** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم ) (1)
ومعنى البيت إن علمي قد يحيط بما مضى وبما هو حاضر ولكنني عمي القلب عن الإحاطة بما هو منتظر متوقع يريد لا أدري ماذا يكون غدا
والشاهد فيه الحشو الغير مفسد للمعنى وهو لفظة قبله
ومثله قول عدي المتقدم
( نحن الرؤس وما الرؤس إذا سمت ** في المجد للأقوام كالأذناب ) + الكامل +
فقوله للأقوام حشو وفيه نظر لان استعمال الرأس في المقدم والرائس مجاز وذكر الأقوام كالقرينة
وقول الآخر
( ذكرت أخي فعاودني ** صداع الرأس والوءصب ) + من مجزوء الوافر +
فلفظة الرأس حشو فإن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس
ومن الحشو المفسد قول ديك الجن
( فتنفست في البيت إذ مزجت ** بالماء واستلت سنا اللهب )
( كتنفس الريحان خالطه ** من ورد جور ناضر الشعب ) + الكامل +
فذكره المزاج يغني والماء فضل لا يحتاج إليه وقد قصر عن قول أبي نواس
____________________
1- الطويل
(1/326)
( سلوا قناع الطين عن رمق ** حي الحياة مشارف الحتف )
( فتنفست في البيت إذ مزجت ** كتنفس الريحان في الأنف ) (1)
وزهير بن أبي سلمى هو أبو كعب وبجير واسم أبي سلمى ربيعة بن رباح بن قرة ينتهي نسبه لنزار وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء وإنما الخلاف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه فأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم وهو امرؤ القيس وزهير والنابغة الذبياني
وعن عمر بن عبد الله الليثي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في مسيرة إلى الجابية أين ابن عباس قال فأتيته فشكا إلي تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت أو لم يعتذر إليك قال بلى قلت هو ما اعتذر به ثم قال إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر رضي الله عنه إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم بين الخلافة والنبوة ثم ذكر رضي الله عنه قصة طويلة قال ثم قال لي هل تروي لشاعر الشعراء قلت ومن هو قال الذي يقول
( ولو أن حمدا يخلد الناس خلدوا ** ولكن حمد الناس ليس بمخلد ) + الطويل +
قلت ذاك زهير بن أبي سلمى قال هو شاعر الشعراء قلت وبم كان شاعر الشعراء قال لأنه كان لا يعاظل في الكلام وكان يتجنب وحشي الشعر وكان لا يمدح أحدا إلا بما هو فيه
____________________
1- الكامل
(1/327)
وفي رواية أنه قال له أنشدني له فأنشدته حتى برق الفجر فقال حسبك الآن اقرأ القرآن قلت وما أقرأ قال الواقعة فقرأتها ونزل فأذن وصلى
وسأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء فقال زهير قال وكيف ذاك قال كف عن المادحين فضول الكلام قال بماذا قال بقوله
( فما يك من خير أتوه فإنما ** توارثه آباء آبائهم قبل ) (1)
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى زهير بن أبي سلمى وله مائة سنة فقال اللهم أعذني من شيطانه فما لاك بيتا حتى مات
وعن الأصمعي قال قال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان أنشدني مدح زهير أباك فأنشده فقال عمر إن كان ليحسن القول فيكم فقال ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء فقال ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم
قال وبلغني أن هرم بن سنان كان قد حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه غرة عبدا أو وليدة أو فرسا فاستحيا زهير مما كان يقبل منه فكان إذا رآه في ملأ قال انعموا صباحا غير هرم وخيركم استثنيت
وعن عمر بن شيبة قال قال عمر رضي الله عنه لابن زهير ما فعلت بالحلل التي كساها هرم أباك قال أبلاها الدهر قال لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر
وقال أبو زيد الطائي أنشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قول زهير
____________________
1- الطويل
(1/328)
( ومهما يكن عند امرئ من خليقة ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم ) (1)
فقال احسن زهير وصدق ولو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت لتحدث به الناس قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تعمل عملا تكره أن يتحدث الناس به عنك ) ومنه قول عمرو بن الأهتم
( إذا المرء لم يجببك إلا تكرها ** بدا لك من أخلاقه ما يغالب ) (1)
وقول أبي الطيب المتنبي
( وللنفس أخلاق تدل على الفتى ** أكان سخاء ما أتى أم تساخيا ) (1)
وعن المدائني أن عروة بن الزبير رضي الله عنه لحق بعبد الملك بن مروان رضي الله عنهما فكان إذا دخل عليه منفردا أكرمه وإذا دخل عليه وعنده أهل الشام استخف به فقال له يوما يا أمير المؤمنين بئس المزور أنت تكرم ضيفك في الخلا وتهينه في الملا ثم قال لله در زهير حيث يقول
( فحلى من ديارك أن قوما ** متى يدعوا ديارهم يهونوا ) + الوافر +
ثم استأذنه في الرجوع إلى المدينة المنورة فقضى حوائجه وأذن له
وقال ابن الأعرابي كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره كان أبوه شاعرا وهو شاعر وخاله شاعر وابناه كعب وبجير شاعران وأخته سلمى شاعرة وأخته الخنساء شاعرة وهي القائلة ترثيه
( وما يغني توقي المرء شيئا ** ولا عقد التميم ولا الغضار )
( إذا لاقى منيته فأمسى ** يساق به وقد حق الحذار )
( ولاقاه من الأيام يوم ** كما من قبل لم يخلد قدار ) + الوافر +
وكان زهير يضرب به المثل في التنقيح فيقال حوليات زهير لأنه كان يعمل القصيدة في ليلة ثم يبقى حولا ينقحها
____________________
1- الطويل
(1/329)
ومما يعد من محاسنه قوله
( وأبيض فياض نداه غمامة ** على مقتفيه ما تغب فواضله )
( تراه إذا ما جئته متهللا ** كأنك تعطيه الذي أنت سائله ) (1)
وقوله أيضا
( كم زرته وظلام الليل منسدل ** مسهم راق إعجابا بأنجمه )
( وأبت والصبح منحور بكوكبه ** وسائق الشفق المحمر من دمه ) + البسيط +
ومحاسنه ومحاسن أولاده كثيرة وغرتها قصيدة كعب وهي
( بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ** )
المشرفة بمن قيلت فيه صلى الله عليه وسلم 62
( فإنك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع )
البيت للنابغة الذبياني من قصيدة من الطويل يمدح بها أبا قابوس وهو النعمان بن المنذر ملك الحيرة وأولها
( عفاذ وحسا من فرتني فالفوارع ** فجنبا أريك فالتلاع الدوافع )
( فمجتمع الأشراج غير رسمها ** مصايف قد مرت بنا ومرابع )
( توهمت آيات لها فعرفتها ** لستة اعوام وذا العام سابع ) (1)
إلى أن قال فيها
( وقد حال هم دون ذلك شاغل ** مكان الشغاف تبتغيه الأصابع )
( وعيد أبي قابوس في غير كهنه ** أتاني ودوني راكس فالضواجع )
____________________
1- الطويل
(1/330)
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ** من الرقش في أنيابها السم ناقع )
( يسهد من ليل التمام سليمها ** لحلي النساء في يديه قعاقع )
( تناذرها الراقون من سوء سمها ** تطلقه طورا وطورا تراجع )
( أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ** وتلك التي تستك منها المسامع )
( مقالة أن قد قلت سوف أناله ** وذلك من تلقاء مثلك رائع ) (1)
إلى أن قال فيها
( فإن كنت لا ذو الضغن عني مكذب ** ولا حلفي على البراءة نافع )
( ولا أنا مأمون بشيء أقوله ** وأنت بأمر لا محالة واقع )
وبعده البيت وبعده
( خطاطيف حجن في حبال متينة ** تمد بها أيد إليك نوازع )
( ستبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ ** إلى ربه رب البرية راكع )
( أتوعد عبدا لم يخنك أمانة ** ويترك عبد ظالم وهو ظالع )
( وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ** وسيف أعيرته المنية قاطع )
( أبى الله إلا عدله ووفاءه ** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع )
____________________
1- الطويل
(1/331)
( وتسقي إذا ما شئت غير مصرد ** بزوراء في حافاتها المسك كانع ) (1)
والمنتأى اسم موضع من انتأى عنه أي بعد وشبهه بالليل لأنه وصفه في حال سخطه وهوله
والمعنى أنه لا يفوت الممدوح وإن أبعد في الهرب وصار إلى أقصى الأرض لسعة ملكه وطول يده ولأن له في جميع الآفاق مطيعا لأمره يرد الهارب إليه
وقد اعترض الأصمعي على النابغة فقال أما تشبيهه الإدراك بالليل فقد تساوى الليل والنهار فيما يدركانه وإنما كان سبيله أن يأتي بما لا قسيم له حتى يأتي بمعنى منفرد فلو قال قائل إن قول النميري في ذلك أحسن منه لوجد مساغا إلى ذلك حيث يقول
( فلو كنت كالعنقاء أو كسموها ** لخلتك إلا أن تصد تراني ) (1)
والشاهد فيه مساواة اللفظ للمعنى المراد
وفي معنى بيت النابغة قول علي بن جبلة
( وما لامرئ حاولته منك مهرب ** ولو رفعته في السماء المطالع )
( بلى هارب لا يهتدي لمكانه ** ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع ) (1)
وأكثر الأدباء يرجحه على بيت النابغة وفي هذا المعنى أيضا قول سلم الخاسر
( فأنت كالدهر مبثوثا حبائله ** والدهر لا ملجأ منه ولا هرب )
( ولو ملكت عنان الريح أصرفها ** في كل ناحية ما فاتك الطلب ) + البسيط +
وتناوله البحتري أيضا فقال
( ولو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن ** ينجيهم من خوف بأسك مهرب ) + الكامل +
____________________
1- الطويل
(1/332)
وما أبدع قول أبي القاسم بن هانئ فيه
( أين المفر ولا مفر لهارب ** ولك البسيطان الثرى والماء ) (1)
وقول الآخر
( فلو كنت فوق الريح ثم طلبتني ** لكنت كمن ضاقت عليه المذاهب ) + الطويل +
وبديع قول أبي العرب الصقلي
( كأن بلاد الله كفاك إن يسر ** بها هارب تجمع عليه الأنامل )
( وأبن يفر المرء عنك بجرمه ** إذا كان تطوى في يديك المراحل ) + الطويل +
والنابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب ينتهي نسبه إلى ذبيان ثم لمضر ويكنى أبا أمامة وإنما سمي النابغة لقوله
( وقد نبغت لهم منا شؤون ** )
وهو أحد الأشراف الذين غض منهم الشعر وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء
عن ربعي بن خراش قال قال لنا عمر رضي الله عنه يا معشر غطفان من الذي يقول
( أتيتك عاريا خلقا ثيابي ** على خوف تظن بي الظنون ) + الوافر +
قلنا النابغة قال ذاك أشعر شعرائكم
وعن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا عند الجنيد
____________________
1- الكامل
(1/333)
أراد لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية
والبحتري هو الوليد بن عبيد بن يحيى ينتهي نسبة إلى طيئ ويكنى أبا عبادة وهو شاعر فصيح فاضل حسن المشرب والمذهب نفي الكلام مطبوع وله تصرف في ضروب الشعر سوى الهجاء فإن بضاعتة فيه نزرة وجيده منه قليل وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لما حضره الموت دعا به وقال له أجمع كل شيء قلته في الهجاء ففعل فأمره بإحراقه
وكان البحتري يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو حذو مذهبه وينحو نحوه في البدائع التي كان أبو تمام يستعملها ويراه صاحبا وإماما ويقدمه على نفسه ويقول في الفرق بينه وبينه قول منصف أن جيد أبي تمام خير من جيدة ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تمام وردئيه وكذا هو حكم لنفسه
وسئل أبو العلاء المعرى أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي فقال هما حكيمان والشاعر البحتري
____________________
(1/334)
ابن عبد الرحمن بخراسان وعنده بنو مرة وجلساؤه من الناس فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله
( فانك كالليل الذي هو مدركي ** )
البيت فقال شيخ من بني مرة وما الذي رأى في النعمان حتى يقول مثل هذا وهل كان النعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة وقالت ذلك القيسية أيضا فأكثرت فنظر إلي الجنيد فقال يا أبا خالد لا يهولنك قول هؤلاء الأعاريب وأقسم بالله لو عاينوا من النعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال ولكنهم قالوا ما تسمع وهم آمنون
وقال عمر بن المنتشر المرادي وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه فقام رجل فاعتذر إليه من أمر وحلف عليه فقال له عبد الملك ما كنت حريا أن تفعل ولا تعتذر ثم أقبل على أهل الشام فقال أيكم يروي من اعتذار النابغة إلى النعمان
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب ) (1)
فلم يجد فيهم من يرويه فأقبل علي فقال أترويه قلت نعم فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب
وعن أبي عبيدة وغيره أن النابغة كان خاصا بالنعمان وكان من ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته المتجردة يوما وقد غشيها شيء شبيه بالفجاءة فسقط نصيفها فاستترت بيديها وذراعيها فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها
____________________
1- الطويل
(1/334)
وغلظها فقال قصيدته التي أولها
( من آل مية رائح أو مغتدي ** عجلان ذا زاد وغير مزود )
( زعم البوارح أن رحلتنا غدا ** وبذاك تنعاب الغراب الأسود )
( لا مرحبا بغد ولا أهلا به ** إن كان تفريق الأحبة في غد )
( أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما نزل برحالنا وكأن قد )
( في إنرغانية رمتك بسهمها ** فأصاب قلبك غير أن لم تقصد )
( بالدر والياقوت زين نحرها ** ومفصل من لؤلؤ وزبرجد )
( سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد )
( بمخضب رخص كأن بنانه ** عنم على أغصانه لم يعقد )
( وبفاحم رجل أثيث نبته ** كالكرم مال على الدعام المسند )
( نظرت إليك لحاجة لم تقضها ** نظر السقيم إلى وجوه العود ) (1)
وهي طويلة فأنشدها النابغة مرة بن سعد القريعي فأنشدها مرة النعمان فامتلأ غضبا وأوعد النابغة وتهدده فهرب فأتى قومه ثم شخص إلى ملوك غسان بالشام فامتدحهم
وقد اعترض الأصمعي على البيت الأخير من هذه الأبيات فقال أما تشبيهه مرض الطرف فحسن إلا أنه هجنه بذكر العلة وتشبيهه المرأة بالعليل
____________________
1- الكامل
(1/335)
وأحسن منه قول عدي بن الرقاع العاملي
( وكأنها بين النساء أعارها ** عينيه أحور من جآذر جاسم )
( وسنان أقصده النعاس فرنقت ** في عينيه سنة وليس بنائم ) (1)
وأما قوله سقط النصيف البيت فيروى أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه أتعلمون أن النابغة كان مخنثا قالوا وكيف ذلك يا أمير المؤمنين قال أو ما سمعتم قوله يعني هذا البيت والله ما عرف هذه الإشارة إلا مخنث
وقد أخذ هذا المعنى أبو حية النميري فقال
( فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ** بأحسن موصولين كف ومعصم ) + الطويل +
ثم أخذه الشماخ فقال
( إذا مر من تخشى اتقته بكفها ** وسب بنضح الزعفران مضرج ) + الطويل +
وأظرف ما يعرف من هذا المعنى ما أنشده القاضي التنوخي لنفسه
( لم أنس شمس الضحى تطالعني ** ونحن في روضة على فرق )
( وجفن عيني بمائة شرق ** وقد بدت في معصفر شرق )
( كأنه دمعتي ووجنتها ** حين رمتنا العيون بالحدق )
( ثم تغطت بكمها خجلا ** كالشمس غابت في حمرة الشفق ) + المنسرح +
رجع إلى أخبار النابغة
عن المفضل أن مرة الذي وشى بالنابغة كان له سيف قاطع يقال له ذو الريقة من كثرة فرنده وجودته فذكره النابغة للنعمان فاضطغن من ذلك مرة حتى وشى به إلى النعمان وحرضه عليه
وقيل إن الذي من أجله هرب النابغة من النعمان أنه كان هو والمنخل بن عبيد ابن عامر اليشكري جالسين عنده وكان النعمان دميما أبرش قبيح المنظر وكان
____________________
1- الكامل
(1/336)
المنخل من اجمل العرب وكان يرمى بالمتجردة زوجة النعمان وتتحدث العرب أن ابني النعمان منها كانا من المنخل فقال النعمان للنابغة يا أبا أمامة صف المتجردة في شعرك فقال قصيدته هذه ووصف فيها بطنها وروادفها وفرجها فلحق المنخل من ذلك غيرة فقال للنعمان ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جرب فوقر ذلك في نفس النعمان وبلغ النابغة فخافه فهرب فصار إلى غسان فنزل بعمرو بن الحارث الأصغر ومدحه ومدح أخاه النعمان ولم يزل مقيما مع عمرو حتى مات وملك أخوه النعمان فصار معه إلى أن استعطفه النعمان فعاد إليه
وعن أبي بكر الهذلي قال قال حسان بن ثابت رضي الله عنه قدمت على النعمان بن المنذر وقد امتدحته فأتيت حاجبه عصام بن شهير فجلست إليه فقال إني أرى عربيا أفمن الحجاز أنت قلت نعم قال فكن قحطانيا قلت فإني قحطاني قال فكن يثربيا قلت فإني يثربي قال فكن خزرجيا قلت فإني خزرجي قال فكن حسان بن ثابت قلت فأنا هو قال أجئت بمدحة الملك قلت نعم قال فإني سأرشدك إذا دخلت عليه فإنه سيسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبه فإياك أن تساعده على ذلك ولكن أمرر ذكره إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف وقل ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه فإن دعاك إلى الطعام فلا تواكله فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة مبر قسمة متشرف بمواكلته لا أكل جائع سغب ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك ولا تطل الإقامة في مجلسه فقلت أحسن الله رفدك قد أوصيت واعيا ودخل ثم خرج إلي فقال ادخل فدخلت وحييت بتحية الملك فجاراني في أمر جبلة ما قاله لي عصام كأنه كان حاضرا فأجبت بما امرني ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته ثم دعا بالطعام ففعلت مثل ذلك فأمر لي بجائزة سنية وخرجت فقال لي عصام بقيت عليك واحدة لم أوصك بها بلغني أن النابغة الذبياني
____________________
(1/337)
( ورنة تحت غنة قدرت ** من هالك الراء ذامر الألف )
( كأن في فيه لقمة عقلت ** لسانه فالتوى على حنف )
( محرك رأسه توهمه ** قد قام من عطسة على شرف ) (1)
وهو بليغ التشبيه في معناه
وأنشد البحتري شيئا من شعر أبي سهل بن نوبخت فجعل يحرك رأسه فقيل له ما تقول فيه فقال هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم ولا معنى
وقد نظمت هذا لغرض عرض لي فقلت
( رب خذ للشعر من زمر ** أسمعونا منه ما أضنى )
( مثل طعم الماء ليس له ** في فم طعم ولا معنى ) + المديد +
ورأيت بعد ذلك بيتا آخر في المعنى وهو
( حديث مثل لعق الماء بحتا ** وليس للعق بحت الماء طعم ) + الوافر +
والبحت بالمثناه فوق الصرف
وذكرت بأبيات البحتري في الحبسة ما نظمته قديما وهو
( إن قال شعرا خلته ** علكا قويا يعلك )
( وإن شدا فصوته ** صوت دجاج يمسك ) + الرجز +
واجتازت جارية بالمتوكل معها كوز ماء وهي أحسن من القمر فقال ما اسمك قالت برهان قال ولمن هذا الماء قالت لستي قبيحة قال صبيه في حلقي فشربه عن آخره ثم قال للبحتري قل في هذا شيئا فقال
( ما قهوة من رحيق كأسها ذهب ** جاءت بها الحور من جنات رضوان )
( يوما بأطيب من ماء بلا عطش ** شربته عبثا من كف برهان ) + البسيط +
____________________
1- المنسرح
(1/338)
قادم عليه وإذا قدم عليه فليس لأحد منه حظ سواه فاستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير من أن تنصرف مجفوا قال فأقمت ببابه شهرا ثم قدم عليه خارجه ابن سنان ومنظور بن زبان الفزاريان وكان بينهما وبين النعمان دخلل أي خاصة وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه فضرب عليهما قبة ولم يشعر أن النابغة معهما فدس النابغة قينة تغنيه بشعرة
( يا دارمية بالعلياء فالسند ** )
فلما سمع الشعر قال أقسم بالله إنه لشعر النابغة وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين وكلماه فيه فأمنه ثم خرج في غب سماء فعارضه الفزاريان والنابغة بينهما قد خضب بحناء وأقنى خضابه فلما رآه النعمان قال هي بدم كانت أحرى أن تخضب فقال الفزاريان أبيت اللعن لا تثريب قد أجرناه والعفو أجمل قال فأمنه واستنشده أشعاره فعند ذلك قال حسان بن ثابت فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت أشد له حسدا على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسايرته له وإصغائه إليه أم على جودة شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها
قال وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك
وقيل إن السبب في رجوع النابغة إليه بعد هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه فألفاه محمولا على سرير ينقل ما بين العمران وقصور الحيرة فقال لعصام حاجبه
____________________
(1/338)
( ألم أقسم عليك لتخبرني ** أمحمول على النعش الهمام )
( فإني لا ألام على دخولي ** ولكن ما وراءك يا عصام )
( فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام )
( ونمسك بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام ) (1)
ومات النابغة الذبياني على جاهليته ولم يدرك الإسلام
63
( أنا ابن جلا . . . . . . . ** ) هو أول بيت لسحيم بن وثيل الرياحي ولفظه
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني )
وهذا البيت من قصيدة من الوافر أولها
( أفاطم قبل بينك متعيني ** ومنعك ما سألت كأن تبيني ) (1)
يقول فيها أيضا
( فإن علالتي وجراء حولي ** لذو شق على الضرع الظنون )
( أنا ابن الغر من سلفي رياح ** كنصل السيف وضاح الجبين ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وإن مكاننا من حميري ** مكان الليث من وسط العرين )
____________________
1- الوافر
(1/339)
( وإن قناتنا مشظ شظاها ** شديد مدها عنق القرين )
( وإني لا يعود إلي قرني ** غداة الغب إلا في قرين )
( بذي لبد يصد الركب عنه ** ولا تؤتي فريسته لحين )
( عذرت البزل إذ هي صاولتني ** فما بالي وبال ابني لبون )
( وماذا يبتغي الشعراء مني ** وقد جاوزت حد الأربعين )
( أخو الخمسين مجتمع أشدى ** ونجذني مداورة الشؤون )
( سأجني ما جنيت وإن ظهري ** لذو سند إلى نضد أمين ) (1)
وكان السبب في قوله هذه الأبيات أن رجلا أتى الأبيرد الرياحي وابن عمه الأحوص وهما من ردف الملوك من بني رياح يطلب منهما قطرانا لإبله فقالا له إن أنت ابلغت سحيم بن وثيل الرياحي هذا الشعر أعطيناك قطرانا فقال قولا فقالا اذهب فقل له
____________________
1- الوافر
(1/340)
( فإن بداهتي وجراء حولي ** لذو شق على الحطم الحرون )
فلما أتاه وأنشده الشعر أخذ عصاه وانحدر في الوادي يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر ثم قال اذهب فقل لهما وأنشد الأبيات قال فأتياه فاعتذرا فقال إن أحد كما لا يرى أنه صنع شيئا حتى يقيس شعره بشعرنا وحسبه بحسبنا ويستطيف بنا استطافة المهر الأزب فقالا له فهل إلى النزع من سبيل فقال إنا لم نبلغ أنسابنا
وذكر ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء مطلع هذه القصيدة في أبيات أخر ونسبها للمثقب العبدي وقال لو كان الشعر كله على هذه القصيدة لوجب على الناس أن يتعلموه وصورة ما أورده ابن قتيبة
( أفاطم قبل بينك متعيني ** ومنعك ما سألت كان تبيني )
( ولا تبدي مواعد كاذبات ** تمر بها رياح الصيف دوني )
( فإني لو تخالفني شمالي ** بنصر لم تصاحبها يميني )
( إذا لقطعتها ولقلت بيني ** كذلك أجتوي من يجتويني )
( فإما أن تكون احي بحق ** فأعرف منك غثي من سميني )
( وإلا فاطرحني واتركنني ** عدوا أتقيك وتتقيني )
____________________
(1/341)
( وما أدري إذا يممت أرضا ** أريد الخير أيهما يليني )
( أألخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني )
والأبيات المارة تقوي أنها لسحيم المذكور فلعل اتفاقهما في المطلع من باب توارد الخواطر والله أعلم
وجلا هنا غير منون لأنه أراد الفعل فحكاه مقدرا فيه الضمير الذي هو فاعل والفعل إذا سمي به غير منتزع عنه الفاعل لم يكن إلا حكاية كقول تأبط شرا
( كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ** بني شاب قرناها تصر وتحلب ) (1)
وكقول الشاعر
( والله ما زيد ينام صاحبه ** ولا مخالط النيام جانبه ) + الرجز +
وإنما أراد أنا ابن الذي جلا وبني التي يقال لها شاب قرناها ووالله ما زيد بالذي يقال فيه نام صاحبه
وابن جلا يقال للرجل المشهور أي ابن رجل قد انكشف أمره أو جلا الأمور أي كشفها والثنايا جمع ثنية وهي العقبة يقال فلان طلاع الثنايا أي ركاب لصعاب الأمور
والشاهد فيه إيجاز الحذف والمحذوف موصوف وهو هنا رجل من قوله أنا ابن جلا
وهذا البيت تمثل به الحجاج على منبر الكوفة حين دخلها أميرا حدث
____________________
1- الطويل
(1/342)
عبد الملك بن عمير الليثي قال بينما نحن بالمسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالة حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال هذا الحجاج قدم أميرا على العراق وإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدا سيفا متنكبا قوسا يؤم المنبر فمال الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال بعض الناس لبعض قبح الله بني أمية كيف تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي ألا أحصبه لكم فقالوا أمهل حتى ننظر فلما رأى الحجاج أعين الناس تدور إليه حسر اللثام عن وجهه ونهض فقال أنا ابن جلا وأنشد البيت وقال يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى
( هذا أوان الشد فاشتدي زيم ** قد لفها الليل بسواق حطم )
( ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجزار على ظهر وضم )
ثم قال
( قد لفا الليل بعصلبي ** أروع خراج من الدوي )
( مهاجر ليس بأعرابي ** معاود للطعن بالخطي )
ثم قال أيضا
( قد شمرت عن ساقيها فشدوا ** وجدت الحرب بكم فجدوا )
( والقوس فيها وتر عرد ** مثل ذراع البكر أو أشد )
إني والله يا أهل العراق لا يقعقع لي بالشنان ولا يغمر جانبي كتغماز التنين
____________________
(1/343)
ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وإن أمير المؤمنين نثل كنانته بين يديه فعجم عيدانها عودا عودا فرآني أمرها عودا وأصلبها مكسرا وأبعدها مرمى فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وان أجهزكم إلى عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا ضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم فلم يقل أحد منهم شيئا فقال الحجاج اكفف يا غلام ثم أقبل على الناس فقال أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئا هذا أدب ابن سمية أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن
____________________
(1/344)
اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين فلما بلغ إلى قوله سلام عليكم لم يبق في المسجد أحد إلا قال وعلى أمير المؤمنين السلام ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذونها حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني أفتقبله مني بدلا فقال له الحجاج نفعل أيها الشيخ فلما ولى قال له قائل أتدري من هذا أيها الأمير قال لا قال هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه
( هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله )
ودخل هذا الشيخ على عثمان رضي الله عنه يوم الدار وهو مقتول فوطئ بطنه وكسر ضلعين من أضلاعه وهو يقول أين تركت ضابئا يا نعثل فقال ردوه فلما ردوه قال له الحجاج أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلا يوم الدار إن في قتلك لصلاحا للمسلمين يا حرسي أضرب عنقه فسمع الحجاج ضوضاء فقال ما هذا قالوا هذه البراجم جاءت لتنصر عميرا فيما ذكرت فقال أتحفوهم برأسه فرموهم برأسه فولوا هاربين وجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده وازدحم الناس على الجسر للعبور إلى المهلب بن أبي صفرة وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي
( أقول لإبراهيم لما رأيته ** أرى الأمر أمسى داهيا متشعبا )
( تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ** عميرا وأما أن تزور المهلبا )
____________________
(1/345)
( هما خطتا خسف نجاؤك منهما ** ركوبك حوليا من الثلج أشهبا )
( فأضحى ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا ) (1)
64
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ** كأنه علم في رأسه نار )
البيت للخنساء من مرثية في أخيها صخر وهي قصيدة من البسيط أولها
( قذى بعينك أم بالعين عوار ** أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار )
( كأن عيني لذكراه إذا خطرت ** فيض يسيل على الخدين مدرار )
( تبكي خناس على صخر وحق لها ** إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار )
( تبكي لصخر هي العبرى وقد ثكلت ** ودونه من جديد الترب أستار )
( لا بد من ميتة في صرفها غير ** والدهر في صرفه حول وأطوار )
( يا صخر وارد ماء قد تناذره ** أهل الموارد ما في ورده عار )
( مشى السبنتي إلى هيجاء معضلة ** له سلاحان أنياب وأظفار )
( فما عجول على بو تطيف به ** لها حنينان إصغار وإكبار )
( ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت ** فإنما هي إقبال وإدبار )
____________________
1- الطويل
(1/346)
( لا تسمن الدهر في أرض وإن ربعت ** فإنما هي تحنان وتسجار )
( يوما بأوجد مني حين فارقني ** صخر وللدهر إحلاء وإمرار )
( وإن صخرا لوالينا وسيدنا ** وإن صخرا إذا نشتو لنحار ) (1)
وبعده البيت وبعده
( لم تره جارة يمشي بساحتها ** لريبة حين يخلي بيته الجار )
( ولا تراه وما في البيت يأكله ** لكنه بارز بالصحن مهمار )
( مثل الرديني لم تنفذ شبيبته ** كأنه تحت طي البرد أسوار )
( في جوف رمس مقيم قد تضمنه ** في رمسه مقمطرات وأحجار )
( طلق اليدين بفعل الخير ذو فجر ** ضخم الدسيعة بالخيرات أمار ) (1)
والعلم الجبل الطويل وقيل هو عام في كل جبل
والشاهد فيه زيادة المبالغة في الإيغال وهو قولها في رأسه نار
____________________
1- البسيط
(1/347)
فإن قولها علم واف بالمقصود وهو تشبيه بما هو معروف بالهداية لكنها أتت بالتتمة إيغالا وزيادة للمبالغة
وقد ضمن عز الدين الموصلي عجز البيت في سامري اسمه نجم فقال
( وسامري أعار البدر فضل سنا ** سموه نجما وذاك النجم غرار )
( تهتز قامته من تحت عمته ** كأنه علم في رأسه نار ) (1)
والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد ينتهي نسبها لمضر والخنساء لقب غلب عليها وفيها يقول دريد بن الصمة وكان خطبها فردته وكان رآها تهنأ بعيرا
( حيوا تماضر واربعوا صحبي ** وقفوا فإن وقوفكم حسبي )
( أخناس قد هام الفؤاد بكم ** وأصابه تبل من الحب )
( ما إن رأيت ولا سمعت به ** كاليوم طالي أنيق جرب )
( متبذلا تبدو محاسنه ** يضع الهناء مواضع النقب ) + الكامل +
قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام لما خطبها دريد بعثت خادما لها وقالت انظري إليه إذا بال فإن كان بوله يخرق الأرض ويخد فيها ففيه بقية وإن كان بوله يسيح على الأرض فلا بقية فيه فرجعت إليها وأخبرتها أن بوله ساح على وجه الأرض فقالت لا بقية في هذا وأرسلت إليه ما كنت لأدع
____________________
1- البسيط
(1/348)
بني عمى وهم مثل عوالي الرماح وأتزوج شيخا فقال
( وقاك الله يا ابنة آل عمرو ** من الفتيان اشباهي ونفسي )
( وقالت إنني شيخ كبير ** وما نبأتها أني ابن أمس )
( فلا تلدي ولا ينكحك مثلي ** إذا ما ليلة طرفت بنخس )
( تريد شر نبث القدمين شثنا ** يباشر بالعشية كل كرس ) (1)
فقالت الخنساء
( معاذ الله ينكحني حبركي ** يقال أبوه من جشم بن بكر )
( ولو أصبحت في جشم هديا ** إذا أصبحت في دنس وفقر ) (1)
وكانت الخنساء في أول أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخواها معاوية وصخر وكان صخر أخاها لأبيها وكان أحبهما إليها لأنه كان حليما جوادا محبوبا في العشيرة
وكان من حديث قتله ما ذكره أبو عبيدة قال غزا صخر بن عمرو وأنس ابن عباس الرعلي بني أسد بن خزيمة فأصابوا غنائم وسبيا واخذ صخر يومئذ بديلة امرأة من بني أسد وأصابته يومئذ طعنة طعنه بها رجل يقال له ربيعة بن ثور ويكنى أبا ثور فأدخل جوفه حلقا من الدرع فاندمل عليه حتى شق عليه بعد سنين وكان ذلك سبب موته وروى أن صخرا مرض من تلك الطعنة قريبا من حول
____________________
1- الوافر
(1/349)
حتى مله أهله فسمع صخرا امراة تسأل سلمى امرأته كيف بعلك فقالت لا حي فيرجى ولا ميت فيسلى وقد لقينا منه الأمرين فقال صخر في ذلك
( أرى أم صخر لا تمل عيادتي ** وملت سليمى مضجعي ومكاني )
( وما كنت أخشى أن أكون جنازة ** عليك ومن يغتر بالحدثان )
( أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنزوان )
( لعمري بقد نبهت من كان نائما ** وأسمعت من كانت له أذنان )
( وللموت خير من حياة كأنها ** محلة يعسوب برأس سنان )
( وأي امرئ ساوى بأم حليلة ** فلا عاش إلا في شقا وهوان ) (1)
وزعم قوم أن التي قالت هذه المقالة بديلة الأسدية التي كان سباها من بني أسد واتخذها لنفسه وانشد مكان البيت الأول
( ألا تلكم عرسي بديلة أوجست ** فراقي وملت مضجعي ومكاني )
قال أبو عبيدة فما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة مثل اليد في جنبه من موضع الطعنة فتدلت واسترخت قالوا له لو قطعتها لرجونا أن تبرأ فقال شأنكم وهي فأشفق عليه بعضهم فنهاهم فأبى صخر وقال الموت أهون علي مما أنا فيه فأحموا له شفرة ثم قطعوها فيئس من نفسه قال وسمع صخر أخته الخنساء وهي تقول كيف كان صبره فقال صخر في ذلك
( أجارتنا إن الخطوب تنوب ** على الناس كل المخطئين تصيب )
____________________
1- الطويل
(1/350)
( فإن تسأليني هل صبرت فإنني ** صبور على ريب الزمان أريب )
( كأني وقد أدنوا إلي شفارهم ** من الصبر دامي الصفحتين ركوب )
( أجارتنا لست الغداة بظاعن ** ولكن مقيم ما أقام عسيب ) (1)
فمات فدفن هناك فقبره قريب من عسيب وهو جبل بأرض بني سليم إلى جنب المدينة المنورة
وروى أنه لما طعن ودخلت حلق الدرع في جوفه ضجر منها زمانا وبعث إلى ربيعة الأسدي الذي طعنه إنك أخذت خلقا من درعي بسنانك فقال له ربيعة اطلبها في جوفك فكان ينفث الدم وتلك الحلق معه فملته امرأته وكان يكرمها ويعينها على أهله فمر بها رجل وهي قائمة وكانت ذات كفل وأوراك فقال لها أيباع هذا الكفل فقالت عما قليل وصخر يسمع ذلك فقال لئن استطعت لأقدمنك أمامي ثم قال لها ناوليني السيف انظر هل تقله يدي فدفعته إليه فإذا هو لا يقله فعندها أنشد الأبيات السابقة ثم لم يلبث أن مات وكان أخوه معاوية قد قتل قبله ورثته الخنساء أيضا وكان صخر قد أخذ بثأره وقتل قاتله
ثم لما كانت وقعة بدر وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة أقبلت هند بنت عتبة ترثيهم وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها وأخويها وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد سومت هودجها براية وأنها تقول أنا أعظم العرب مصيبة وان العرب عرفت ذلك لها فقالت هند بل أنا أعظم العرب مصيبة فأمرت بهودجها قسوم براية أيضا وشهدت الموسم بعكاظ وكانت عكاظ سوقا تجتمع فيه العرب فقالت
____________________
1- الطويل
(1/351)
اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا فلما دنت منها قالت لها الخنساء من أنت يا أخية قالت أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة وقد بلغني انك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم قالت بأبي عمرو بن الشريد وأخوي صخر ومعاوية فبم تعاظمينهم أنت قالت بأبي عتبة وعمي شيبة وأخي الوليد قالت الخنساء لسواهم عندك ثم أنشأت تقول
( أبكي أبي عمرا بعين غزيرة ** قليل إذا نام الخلي هجودها )
( وصنوي لا أنسى معاوية الذي ** له من سراة الحرتين وفودها )
( وصخرا ومن ذا مثل صخر إذا غدا ** بسلهبة الآطال قب يقودها )
( فذلك يا هند الرزية فاعلمي ** ونيران حرب جين شب وقودها ) (1)
فقالت هند بنت عتبة تجيبها
( أبكي عميد الأبطحين كليهما ** وحاميها من كل باغ يريدها )
( أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي ** وشيبة والحامي الذمار وليدها )
( أولئك آل المجد من آل غالب ** وفي العز منها حين ينمي عديدها ) (1)
وقالت الخنساء أيضا يومئذ
( من حس لي الأخوين كالغصنين أو من رآهما ** )
____________________
1- الطويل
(1/352)
( قرمين لا يتظالمان ** ولا يرام حماهما )
( ويلي على الأخوين والقبر ** الذي واراهما )
( لا مثل كهلي في الكهول ** ولا فتى كفتاهما )
( رمحين خطيين في ** كبد السماء سناهما )
( ما خلفا إذ ودعا ** في سؤود شرواهما )
( سادا بغير تكلف ** عفوا يفيض نداهما ) (1)
وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها
ووفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنشدهما ويعجبه شعرها وكانت تنشده وهو يقول هيه يا خناس ويومئ بيده صلى الله عليه وسلم
وعن أبي وجرة عن أبيه قال حضرت الخنساء بنت عمرو السليمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال رضي الله عنهم أجمعين فقالت لهم من أول الليل يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وقد تعلمون ما اعد الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية لقوله عز وجل ! ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) ! فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى مساقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها فلما أضاء لهم الصبح بادروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول
____________________
1- من مجزوء الرمل
(1/353)
( يا إخوتي إن العجوز الناصحة ** قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة )
( بقالة ذات بيان واضحة ** فباكروا الحرب الضروس الكالحة )
( وإنما تلقون عند الصائحة ** من آل ساسان كلابا نابحة )
( قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة ** وأنتم بين حياة صالحة )
( وميتة تورث غنما رابحة ** ) (1)
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ثم حمل الثاني وهو يقول
( إن العجوز ذات حزم وجلد ** والنظر الأوفق والرأي السدد )
( قد أمرتنا بالسداد والرشد ** نصيحة منها وبرا بالولد )
( فباكروا الحرب كماة في العدد ** إما بفوز بارد على الكبد )
( أو ميتة تورثكم غنم الأبد ** في جنة الفردوس والعيش الرغد ) (1)
وقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى ثم حمل الثالث أيضا وهو يقول
( والله لا نعصي العجوز حرفا ** قد أمرتنا حربا وعطف )
( نصحا وبرا صادقا ولطفا ** فبادروا الحرب الضروس زحفا )
( حتى تلفوا آل كسرى لفا ** أو تكشفوهم عن حماكم كشفا )
( إنا نرى التقصير منكم ضعفا ** والقتل فيكم نجدة وعرفا ) (1)
وقاتل أيضا حتى استشهد رحمه الله ثم حمل الرابع وهو يقول
____________________
1- الرجز
(1/354)
( لسنا لخنساء ولا للأحزم ** ولا لعمرو ذي السناء الأقدم )
( إن لم أرى في الجيش جيش الأعجم ** ماض على هول خضم خضرم )
( إما لفوز عاجل ومغنم ** أو لوفاة في السبيل الأكرم ) (1)
وقاتل حتى قتل أيضا رحمه الله عليه وعلى إخوته فبلغها الخبر رضي الله عنها فقالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطيها أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد منهم مائتي درهم إلى أن قبض رحمه الله ورضي عنه
وكانت وفاتها في زمن معاوية بن أبي سفيان نحو سنة خمسين من الهجرة
65
( كأن عيون الوحش حول خبائنا ** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب )
البيت لامرىء القيس من قصيدة من الطويل أولها
( خليلي مرا بي على أم جندب ** لنقضي حاجات الفؤاد المعذب )
( فإنكما إن تنظراني ساعة ** من الدهر تنفعني لدى أم جندب )
____________________
1- الرجز
(1/355)
( ألم ترياني كلما جئت طارقا ** وجدت بها طيبا وإن لم تطيب )
( عقيلة أخذان لها لا ذميمة ** ولا ذات خلق إن تأملت جأنب ) (1)
إلى أن يقول فيها
( وقلت لفتيان كرام ألا انزلوا ** فعالوا علينا فضل برد مطنب )
( ففئنا إلى بيت بعلياء مردح ** سماوته من أتحمي معصب )
( وأوتاده عادية وعماده ** ردينية فيها أسنة قعضب )
( فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ** إلى كل حاري جديد مشطب )
( فظل لنا يوم لذيذ بنعمة ** فقل في مقيل نحسه متغيب ) (1)
وبعده البيت وبعده
( نمش بأعراف الجياد أكفنا ** إذا نحن قمنا عن شواء مضهب ) (1)
وهي طويلة
قال الأصمعي الظبي والبقرة إذا كانا حيين فعيونهما كلها سود فإذا ماتا بدا بياضها وإنما شبهها بالجزع وفيه سواد وبياض بعد ما موتت والمراد كثرة الصيد يعني مما أكلناه كثرت العيون عندنا كذا في شرح ديوان امرىء القيس وبه يتبين بطلان ما قيل إن المراد أنها قد طالت مسايرتهم حتى ألفت الوحوش رحالهم وأخبيتهم
____________________
1- الطويل
(1/356)
والشاهد فيه تحقيق التشبيه في الإيغال لأنه شبه عيون الوحش بالجزع وهو بفتح الجيم وتكسر الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض تشبه به عيون الوحش لكنه أتى بقوله لم يثقب إيغالا وتحقيقا للتشبيه لان الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون
وقد اشتمل هذا البيت على نوع من أنواع البديع يسمى التبليغ والتتميم ويسمى الإيغال أيضا وهو أن يتم قول الشاعر دون مقطع البيت ويبلغ به القافية فيأتي بما يتمم به المعنى ويزيد في فائدة الكلام لان للقافية محلا من الأسماع والخواطر فاعتناء الشاعر بها آكد ولا شيء أقبح من بنائها على فضول الكلام الذي لا يفيد
ومن الشواهد عليه قول ذي الرمة أيضا
( قف الصبر في أطلال مية فأسأل ** رسوما كأخلاق الرداء . . . . . . . ) (1) فتم كلامه ثم احتاج إلى القافية فقال المسلسل فزاده شيئا ثم قال
( أظن الذي يجدي عليك سؤالها ** دموعا كتبديد الجمان . . . . )
فتم كلامه ثم احتاج إلى القافية فقال المفصل فزاده شيئا
قيل وكان الرشيد يعجب بقول مسلم بن الوليد
( إذا ما علت منا ذؤابة شارب ** تمشت به مشي المقيد في الوحل ) (1)
وكان يقول قاتله الله أما كفاه أن يجمله مقيدا حتى جعله في وحل
ومنه قول ابن الرومي
( لها صريح كأنه ذهب ** ورغوة كاللآلئ الفلق ) + المنسرح +
فزاد بقوله الفلق تمكينا في التشبيه
ومن أبدع ما وقع فيه لمتأخر قول أبي بكر بن مجير
( وخليفة ابن خليفة ابن خليفة وستفعل ** ) + من مجزوء الكامل +
____________________
1- الطويل
(1/357)
فقوله وستفعل تبليغ بديع أفاد به بشارة الممدوح بأن سلسلة الخلافة في عقبه
وحكى أن بعض الشعراء قال لأبي بكر بن مجير هذا إني نظمت قصيدة مقصورة الروي وأعجزني منها روي بيت واحد فما ادري كيف أتممه فقال له أبو بكر أنشدنيه فأنشده قوله
( سليل الإمام وصنو الإمام ** وعم الإمام . . . . . . . . ) (1)
فقال له من غير تفكير ولا روية قل ولا منتهى فوضعه في قصيدته على ما تممه له وكان أمكن قوافيه وأقواها
وللسيد أبي القاسم شارح مقصورة حازم في هذا النوع قوله
( لم يبرح المجد يسمو ذاهبا بهم ** حتى أجاز الثريا وهو ما قنعا ) + البسيط +
فقوله وهو ما قنعا من التبليغ الذي أفاد زيادة في المعنى ظاهرة
66
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب )
البيت للنابغة الذبياني من قصيدة من الطويل يخاطب بها النعمان أولها
( أرسما جديدا من سعاد تجنب ** عفت روضة الأجداد منها فيثقب )
____________________
1- المتقارب
(1/358)
( عفا آية نسج الجنوب مع الصبا ** وأسحم دان مزنه متصوب ) (1)
يقول فيها أيضا
( فلا تتركني بالوعيد كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب )
( ألم تر أن الله أعطاك سورة ** يرى كل ملك دونها يتذبذب )
( فإنك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ) (1)
وبعده البيت وبعده
( فإن يك مظلوما فعبد ظلمته ** وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب )
( أتاني أبيت اللعن انك لمتني ** وتلك التي أهتم منها وأنصب )
والشعث انتشار الأمر والمهذب المنقح الفعال المرضي الخصال
والمعنى لا تقدر على استبقاء مودة أخ حال كونك ممن لا تلمه ولا تصلحه على تفرق وذميم خصال
ذكرت هنا قول الشاعر معارضا للنابغة في هذا البيت وهو
( ألوم زيادا في ركاكة عقله ** وفي قوله أي الرجال المهذب )
( وهل يحسن التهذيب منك خلائقا ** أرق من الماء الزلال وأطيب )
( تكلم والنعمان شمس سمائه ** وكل مليك عند نعمان كوكب )
( ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ** لأبصر منه شمسه وهو غيهب ) (1)
وهذا نوع من البديع يسمى التوليد وسيأتي الكلام على شيء منه في الفن الثالث إن شاء الله تعالى
____________________
1- الطويل
(1/359)
والشاهد فيه التذييل لتأكيد مفهوم فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال وعجزه تأكيد لذلك وتقرير لأن الاستفهام فيه إنكاري أي لا مهذب في الرجال
وفي معنى البيت قول أبي الحسن محمد الموقت المكي
( إذا المرء لم يبرح يمارى صديقه ** ولم يحتمل منه فكيف يعايشه )
( وأنى يدوم الود والعهد بينه ** وبين أخ في كل وقت يناقشه ) (1)
وما أحسن قول مؤيد الدين الطغرائي
( أخاك أخاك فهو اجل ذخر ** إذا نابتك نائبة الزمان )
( فإن رابت إساءته فهبها ** لما فيه من الشيم الحسان )
( تريد مهذبا لا عيب فيه ** وهل عود يفوح بلا دخان ) + الوافر +
وبديع قول ابن الحداد أيضا
( واصل أخاك وإن أتاك بمنكر ** فخلوص شيء قلما يتمكن )
( ولكل حسن آفة موجودة ** إن السراج على سناه يدخن ) + الكامل +
وما احسن قول ابن شرف أيضا
( لا تسأل الناس والأيام عن خبر ** هما يبثانك الأخبار تفصيلا )
( ولا تعاقب على نقص الطباع أخا ** فإن بدر السما لم يعط تكميلا ) + البسيط +
ومن النفيس قول ابن حمديس
( أكرم صديقك عن سؤالك ** عنه واحفظ منه ذمة )
( فلربما استخبرت عنه عدوه فسمعت ذمه ** ) + من مجزوء الكامل +
وقول عمر الخراط وهو رجل من القيروان
( لا تسألن عن الصديق وسل وسل فؤادك عن فؤاده ** )
____________________
1- الطويل
(1/360)
( فلربما بحث السؤال ** على فسادك أو فسادة ) (1)
ولمؤلفه في معناه
( لست عن ود صديقي ساثلا ** غير قلبي فهو يدري وده )
( فكما أعلم ما عندي له ** فكذا أعلم مالي عنده ) + الرمل +
وما أحسن قول بعضهم
( عتبي عليك مقارن العذر ** قد رد عنك حفيظتي صبري )
( فمتى هفوت فأنت في سعة ** ومتى جفوت فأنت في عذر )
( ترك العتاب إذا استحق أخ ** منك العتاب ذريعة الهجر ) + الكامل +
وقول بعضهم
( إذا أنت لم تغفر ذنوبا كثيرة ** تريبك لم يسلم لك الدهر صاحب )
( ومن لم يغمض عينه عن صديقه ** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ) + الطويل +
وقول أبي الفتح البستي
( تحمل أخاك على ما به ** فما في استقامته مطمع )
( وأنى له خلق واحد ** وفيه طبائعه الأربع ) + المتقارب +
وما أحسن قول بعضهم
( لا تثق من آدمي ** في وداد بصفاء )
( كيف ترجو منه صفوا ** وهو من طين وماء ) + من مجزوء الرمل +
وهو كقول الآخر
( ومن يك أصله ماء وطينا ** بعيد من جبلته الصفاء ) + الوافر +
وما أبدع قول الجمال بن نباته
( يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجا ** ودار وقتك من حين إلى حين )
____________________
1- من مجزوء الكامل
(1/361)
( ولا تعاند إذا أمسيت في كدر ** فإنما أنت من ماء ومن طين ) (1)
وللصلاح الصفدي فيه أيضا
( دع الإخوان إن لم تلق منهم ** صفاء واستعن واستغن بالله )
( أليس المرء من ماء وطين ** وأي صفا لهاتيك الجبلة ) + الوافر +
ومما ينظر إلى معنى البيت المستشهد به قول بعضهم
( إذا أنت لم تترك أخاك وزلة ** أراد لها أوشكتما أن تفرقا ) + الطويل +
وقوله أيضا
( صديقك مهما جنى غطه ** ولا تخف شيئا إذا أحسنا )
( وكن كالظلام مع النار إذ ** يواري الدخان ويبدي السنا ) + المتقارب +
ولمؤلفه
( أخاك اغتفر ذنبه ** وسامح إذا ما هفا )
( وغط على عيبه ** يدم منه عهد الوفا )
( وإن رمت تقويمه ** تجد وده قد عفا ) + من مجزوء المتقارب +
67
( فسقى ديارك غير مفسدها ** صوب الربيع وديمة تهمي )
البيت لطرفة بن العبد من قصيدة من الكامل يمدح بها قتادة بن مسلمة الحنفي وكان قد أصاب قومه سنة فأتوه فبذل لهم وأولها
( إن امرأ سرف الفؤاد يرى ** عسلا بماء سحابة شتمي )
____________________
1- البسيط
(1/362)
( وأنا امرؤ أكوى من القصر البادي ** وأغشى الدهم بالدهم )
( وأصيب شاكلة الرمية إذ ** صدت بصفحتها عن السهم )
( وأجر ذا الكفل القناة على ** أنسائه فيظل يستدمي )
( وتصد عنك مخيلة الرجل العريض ** موضحة عن العظم )
( بحسام سيفك أو لسانك والكلم ** الأصيل كأرغب الكلم )
( أبلغ قتادة غير سائله ** مني الثواب وعاجل الشكم )
( أبى حمدتك للعشيرة إذ ** جاءت إليك مرقة العظم )
( ألقوا إليك بكل أرملة ** شعثاء تحمل مبقع البرم )
( وفتحت بابك للمكارم حين ** تواصت الأبواب بالأزم ) (1)
وبعده البيت وهو آخرها
وصوب الربيع نزول المطر ووقعة في الربيع والديمة مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق أو يدوم خمسة أيام أو ستة أو سبعة أو يدوم يوما وليلة أو أقله ثلث النهار أو الليل وأكثره ما بلغت وجمعها ديم وديوم ومعنى تهمي تسيل
والشاهد فيه التكميل ويسمى الاحتراس أيضا وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه وهو هنا قوله غير مفسدها فإن نزول المطر قد يكون سببا لخراب الدنيا وفسادها فدفع ذلك بتوسط قوله غير مفسدها
____________________
1- الكامل
(1/363)
وفي معنى البيت قول جرير
( فسقاك حيث حللت غير فقيدة ** هزج الرياح وديمة لا تقلع ) (1)
ومن الاحتراس قول زهير بن أبي سلمى
( من يلق يوما على علاته هرما ** يلق السماحة منه والندى خلقا ) + البسيط +
وقول امرىء القيس أيضا
( على هيكل يعطيك قبل سؤاله ** أفانين جري غير كز ولا واني ) + الطويل +
وقول نافع بن خليفة الغنوي
( رجال إذا لم يقبل الحق منهم ** ويعطوه عادوا بالسيوف القواضب ) + الطويل +
ومثله قول عنترة العبسي
( أثنى علي بما علمت فإنني ** سهل محالفتي إذا لم أظلم ) (1)
وقول الآخر
( فإني إن أفتك يفتك مني ** فلا تسبق به علق نفيس ) + الوافر +
ومن مليح الاحتراس قول الرمادي في وصف فرس
( قامت قوائمه لنا بطعامنا ** غضا وقام العرف بالمنديل ) (1)
فقوله غضا احتراس عجيب إذ لو لم يذكر لتوهم أنهم ينقلون عليه أزوادهم
وطرفة بن العبد هو ابن سفيان بن سعد بن مالك بن عباد بن صعصعة ابن قيس بن ثعلبة ويقال إن اسمه عمرو وسمي طرفة بسبب بيت قاله
____________________
1- الكامل
(1/364)
وأمه وردة من رهط أبيه وفيها يقول لأخوالها وقد ظلموها حقها
( ما تنظرون بحق وردة فيكم ** صغر البنون ورهط وردة غيب ) (1)
وكان أحدث الشعراء سنا واقلهم عمرا قتل وهو ابن عشرين سنة فيقال له ابن العشرين وقيل قتل وهو ابن ست وعشرين سنة والى ذلك تشير أخته حيث قالت ترثيه
( عددنا له ستا وعشرين حجة ** فلما توفاها استوى سيدا ضخما )
( فجعنا به لما رجونا إيابه ** على خير حال لا وليدا ولا فحما ) + الطويل +
وكان السبب في قتله أنه كان ينادم عمرو بن هند فأشرفت ذات يوم أخته فرأى طرفه ظلها في الجام الذي في يده فقال
( ألا يأتي لي الظبي الذي ** يبرق شنفاه )
( ولولا الملك القاعد ** قد ألثمني فاه ) + الهزج +
فحقد عليه وكان قد قال أيضا قبل ذلك
( وليت لنا مكان الملك عمرو ** رغوثا حول قبتنا تخور )
( لعمرك إن قابوس بن هند ** ليخلط ملكه نوك كثير ) + الوافر +
وقابوس هذا هو أخو عمرو بن هند وكان فيه لين ويسمى قينة الفرس فكتب له عمرو بن هند إلى الربيع بن حوثرة عامله على البحرين كتابا أوهمه فيه أنه أمر له بجائزة وكتب للمتلمس بمثل ذلك فأما المتلمس ففك كتابه
____________________
1- الكامل
(1/365)
وعرف ما فيه فبخا كما سيأتي في خبره وأما طرفة فمضى بالكتاب فأخذه الربيع فسقاه الخمر حتى أثمله ثم فصد أكحله فقبره بالبحرين وكان لطرفة أخ يقال له معبد فطالب بديته فأخذها من الحواثر
قال أبو عبيدة مر لبيد بمجلس لنهد بالكوفة وهو يتوكأ على عصا فلما جاوز امروا فتى منهم أن يلحقه فيسأله من أشعر العرب ففعل فقال له لبيد الملك الضليل يعني امرأ القيس فرجع فأخبرهم فقالوا له ألا سألته ثم من فرجع فسأله فقال له ابن العشرين يعني طرفة فلما رجع قالوا ليتك سألته ثم من فرجع فقال صاحب المحجن يعني نفسه قال أبو عبيدة طرفة أجودهم وأجده لا يلحق بالبحور يعني امرأ القيس وزهيرا والنابغة ولكنه يوضع مع أصحابه الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل
ومن شعر طرفة وهو صبي قوله
( فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ** وجدك لم أحفل متى قام عودي )
( فمنهن سبقي العاذلات بشربة ** كميت متى ما تغل بالماء تزبد )
( وكرى إذا نادى المضاف محنبا ** كسيد الغضا نبهته المتورد )
( وتقصير يوم الدجن والدحن معجب ** ببهكنة تحت الخباء المعمد ) (1)
وقد أخذه عبد الله بن نهيك بن أساف الأنصاري فقال
( ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ** وجدك لم أحفل متى قام رامس )
( فمنهن سبقي العاذلات بشربة ** كأن أخاها مطلع الشمس ناعس )
( ومنهن تجريد الكواعب كالدمى ** إذا ابتز عن أكفالهن الملابس )
____________________
1- الطويل
(1/366)
( ومنهن تقريط الجواد عنانه ** إذا استبق الشخص القوي الفوارس ) (1)
وقد ناقض عبد الحميد بن ابي الحديد البغدادي أبيات طرفة السابقة فقال
( لولا ثلاث لم أخف صرعتي ** ليست كما قال فتى العبد )
( أن أنصر التوحيد والعدل في ** كل مكان باذلا جهدي )
( وأن أناجي الله مستمتعا ** بخلوة أحلى من الشهد )
( وأن أتيه الدهر كبرا على ** كل لئيم أصغر الخد )
( لذاك أهوى لا فتاة ولا ** خمر ولا ذي ميعة نهد ) + السريع +
ومما سبق إليه أيضا وكان يتمثل به النبي صلى الله عليه وسلم قوله
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود ) (1)
وقال غيره
( ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ** بتاتا ولم تضرب له وقت موعد ) (1)
ومما يستجاد من قصيدته التي منها البيت السابق على هذا قوله
( ألا أيهاذا الزاجري أحضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي )
____________________
1- الطويل
(1/367)
( فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ** فذرني أبادرها بما ملكت يدي )
( أرى قبر نحام بخيل بماله ** كقبر غوي في البطالة مفسد )
( أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ** وما تنقص الأيام والدهر ينفد )
( لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطول المرخى وثنياه باليد ) (1)
ومما يعاب من شعره قوله يمدح قوما
( أسدغيل فإذا ما شربوا ** وهبوا كل أمون وطمر )
( ثم راحوا عبق المسك بهم ** يلحفون الأرض أهداب الأرز ) + الرمل +
ذكر أنهم يعطون إذا سكروا ولم يشترط ذلك في صحوهم كما قال عنترة
( وإذا شربت فإنني مستهلك ** مالي وعرضي وافر لم يكلم )
( وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ** وكما علمت شمائلي وتكرمي ) + الكامل +
قالوا والجيد هو قول زهير بن أبي سلمى
( أخو ثقة لا يتلف الخمر ماله ** ولكنه قد يتلف المال نائله ) (1)
وقال بعض المحدثين
( فتى لا يلوك الخمر شحمة ماله ** ولكن عطاياه ندى وبواد ) (1)
وما ألطف قول ابن حمديس في معنى قول عنترة
( يعيد عطايا سكره عند صحوه ** ليعلم أن الجود منه على علم )
( ويسلم في الإنعام من قول قائل ** تكرم لما خامرته ابنة الكرم ) (1)
____________________
1- الطويل
(1/368)
68
( إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
البيت لعوف بن ملحم الشيباني من قصيدة من السريع قالها لعبد الله بن طاهر وكان قد دخل عليه فسلم عليه عبد الله فلم يسمع فأعلم بذلك فدنا منه ثم ارتجل هذه القصيدة وأولها
( يا ابن الذي دان له المشرقان ** طرا وقد دان له المغربان ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وبدلتني بالشطاط انحنا ** وكنت كالصعدة تحت السنان )
( وعوضتني من زماع الفتى ** وهمتي هم الجبان الهدن )
( وقاربت مني خطا لم تكن ** مقاربات وثنت من عنان )
( وأنشأت بيني وبين الورى ** سحابة ليست كنسج العنان )
( ولم تدع في لمستمتع ** إلا لساني وبحبسي لسان )
( أدعو به الله وأثني به ** على الأمير المصعبي الهجان )
____________________
1- السريع
(1/369)
ومن الاعتراض أيضا قول كثير عزة
( ولو أن عزة حاكمت شمس الضحى ** في الحسن عند موفق لقضى لها ) (1)
وهو معترض إذ لا بد فيه من ذكر موفق لأنه لا يتم المعنى بدونه ومنه قول كثير أيضا
( لو أن الباخلين وأنت منهم ** رأوك تعلموا منك المطالا ) + الوافر +
ومن مليح ما سمع فيه قول نصيب وكان اسود
( فكدت ولم أخلق من الطير إن بدا ** سنا بارق نحو الحجاز أطير ) + الطويل +
يروي أن التي قيل فيها هذا البيت لما سمعته تنفست نفسا شديدا فصاح ابن أبي عتيق أوه قد والله أجابته بأحسن من شعره والله لو سمعك لنعق وطار فجعله غرابا لسواده
ومن المستحسن فيه أيضا قول العباس بن الأحنف
( قد كنت أبكي وأنت راضية ** حذار هذا الصدود والغضب )
( إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا ** تم فمالي في العيش من أرب ) + المنسرح +
وما أحسن قول أبي الفتح البستي
( أراح الله قلبي من زمان ** محت يده سروري بالإساءة )
( فإن حمد الكريم صباح يوم ** وأنى ذاك لم يحمد مساءه ) + الوافر +
والمتأخرون يسمون هذا الاعتراض حشو اللوزينج وما أبدع قول ابن الساعاتي فيه
____________________
1- الكامل
(1/371)
( حال من دونك يا أخت الكلل ** مقل الحي وفرسان الأسل )
( ومواض مرهفات فتكت ** بي وحاشاك ولا مثل الكحل ) (1)
وقول أبي الحسين الجزار
( ويهتز للجدوى إذا ما مدحته ** كما اهتز حاشا وصفه شارب الخمر ) + الطويل +
وقد أخذه من ابن الساعاتي فإنه قال
( يهزه المدح هز الجود سائله ** أولا وحاشاه هز الشارب الثمل ) + البسيط +
وما أحسن قول الفقيه عمارة اليمني
( له راحة ينهل جودا بنانها ** ووجه إذا قابلته يتهلل )
( يرى الحق للزوار حتى كأنه ** عليهم وحاشا قدره يتطفل ) + الطويل +
والكل أخذوا لفظه حاشا من أبي الطيب المتنبي حيث يقول
( ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ** يرى كل ما فيها وحاشاه فانيا ) + الطويل +
وما أحسن أيضا قوله فيه
( وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ** يا جنتي لوجدت فيه جهنما ) + الكامل +
وللقاضي مهذب الدين الغسساني
( ومالي إلى ماء سوى النيل غلة ** ولو أنه أستغفر الله زمزم ) + الطويل +
وبديع قول أبي الوليد محمد بن يحيى بن حرم
( أتجزع من دمعي وأنت أسلته ** ومن نار أحشائي ومنك لهيبها )
( وتزعم أن النفس غيرك علقت ** وأنت ولا من عليك حبيبها ) + الطويل +
ومن الحشو الذي زاد حلاوة قول الجمال بن نباته
( لو ذقت برد رضاب من مقبله ** يا حار ما لمت أعطافي التي ثملت ) + البسيط +
____________________
1- الرمل
(1/372)
وقول السراج الوراق
( إن عيني وهي عضو دنف ** ما على ما كابدته جلد )
( ما كفاها بعدها عنك إلى ** أن دهاها وكفيت الرمد ) (1)
وما أحسن قول ابن اللبانة في ناصر الدولة صاحب ميورقة
( وغمرت بالإحسان أهل ميورقة ** وبنيت فيها ما بنى الإسكندر )
( فكأنها بغداد أنت رشيدها ** ووزيرها وله السلامة جعفر ) + الكامل +
قوله وله السلامة من املح الحشو وأحلاه قالوا وهو أملح وأوضح من قول المتنبي ويحتقر الدنيا . . البيت المار
ومن المضحك فيه قول الجزار
( لئن قطع الغيث الطريق فبغلتي ** وحاشاك قبقابي وجوختي الدار )
( وإن قيل لي لا تخش فهو عبورة ** خشيت على علمي بأني جزار ) + الطويل +
وما ألطف قوله في معنى رقة الحال وإن لم يكن من هذا الباب
( لي من الشمس حلة صفراء ** لا أبالي إذا أتاني الشتاء )
( ومن الزمهرير إن حدث الغيم ثيابي وطيلساني الهواء ** )
( بيتي الأرض والفضافية سور ** لي مدار وسقف بيتي السماء )
( شنع الناس أنني جاهلي ** ثانوي وما لهم أهواء )
( أخذوني بظاهري إذ رأوني ** عبد شمس تسوءني الظلماء ) + الخفيف +
وما ألطف قول البهاء زهير في هذا المعنى
( أدركوني فبي من البرد هم ** ليس ينسى وفي حشاي التهاب )
( كلما ازرق لون جسمي من البرد ** تخيلت أنه سنجاب ) + الخفيف +
____________________
1- الرمل
(1/373)
رجع إلى الاعتراض
ومنه قول أبي محمد الميطراني وكتب به إلى صديق له رأى عنده غلاما استخدمه
( رأيت ظبيا يطوف في حرمك ** أغر مستأنسا إلى كرمك )
( أطمعني فيه أنه رشأ ** يرشي ليخشى وليس من خدمك )
( فاشغله بي ساعة إذا فرغت ** دواته إن رأيت من قلمك ) (1)
ومن بديعه مع الرقة والانسجام قول ريسم بن شادلوية صاحب أذربيجان
( سعاد تسبني ذكرت بخير ** وتزعم أنني ملق خبيث )
( وان مودتي كذب ومين ** وأنى بالذي أهوى بثوث )
( وليس كذا ولا رد عليها ** ولكن الملول هو النكوث )
( رأت شغفي بها ونحول جسمي ** فصدت هكذا كان الحديث ) + الوافر +
وما ألطف قول البهاء زهير يهجو
( صديق لي سأذكره بخير ** وإن عرفت باطنه الخبيثا )
( وحاشا السامعين يقال عنهم ** وبالله اكتموا هذا الحديثا ) + الوافر +
وبالغ ابن الساعاتي بقوله
( تود نجوم الليل لو نصلت بها ** وإن لقيت بؤسا ذوابل ملده )
( ولو تملك الحكم الأهلة لم تكن ** ويا فخرها إلا نعالا لجرده ) + الطويل +
____________________
1- المنسرح
(1/374)
وعوف بن ملحم الخزاعي أبو المنهال هو أحد العلماء الأدباء الرواة الفهماء الندماء الظرفاء الشعراء الفصحاء وكان صاحب نوادر وأخبار ومعرفة بأيام الناس واختصه طاهر بن الحسين بن مصعب لمنادمته ومسامرته فلا يسافر إلا وهو معه فيكون زميله وعديله ويعجب به وقال محمد بن داود إن سبب اتصاله بطاهر أنه نادى على الجسر بهذه الأبيات أيام الفتنة ببغداد وطاهر منصرف في حراقة له بدجلة فأدخله معه وأنشده إياها وهي
( عجبت لحراقة ابن الحسين كيف تعوم ولا تغرق ** )
( وبحران من تحتها واحد ** وآخر من فوقها مطبق )
( وأعجب من ذاك عيدانها ** وقد مسها كيف لا تورق ) (1)
وأصله من حران وبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه وكلما استأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه لا يأذن له فلما مات ظن أنه تخلص وانه يلحق بأهله فقر به عبد الله بن طاهر وأنزله منزلته من أبيه وأفضل عليه حتى كثر ماله وحسنت حاله وتلطف بجهده أن يأذن له في العود إلى أهله فاتفق أنه خرج عبد الله من بغداد إلى خراسان فجعل عوفا عديله فلما شارف الري سمع صوت عندليب يغرد أحسن تغريد فأعجب ذلك عبد الله والتفت إلى عوف وقال يا ابن ملحم هل سمعت بأشجى من هذا فقال لا والله فقال عبد الله قاتل الله أبا كبير حيث يقول
( ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ** وغصنك مياد ففيم تنوح )
____________________
1- المتقارب
(1/375)
( أفق لا تنج من غير بين فإنني ** بكيت زمانا والفؤاد صحيح )
( ولوعا فشطت غربة دار زينب ** فها أنا أبكي والفؤاد قريح ) (1)
فقال عوف أحسن والله وأجاد أبو كبير أنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعرا ما فيهم إلا مفلق وما كان فيهم مثل أبي كبير وأخذ يصفه فقال له عبد الله أقسمت عليك إلا أجزت قوله فقال له قد كبر سني وفني ذهني وأنكرت كل ما كنت اعرفه فقال عبد الله بحق طاهر إلا فعلت فابتدر عوف فقال
( أفي كل عام غربة ونزوح ** أما للنوى من ونية فتريح )
( لقد طلح البين المشت ركائبي ** فهل أرين البين وهو طليح )
( وأرقني بالري نوح حمامة ** فنحت وذو اللب الغريب ينوح )
( على أنها ناحت ولم تذر دمعة ** ونحت وأسراب الدموع سفوح )
( وناحت وفرخاها بحيث تراهما ** ومن دون أفراخي مهامه فيح )
( ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ** وغصنك مياد ففيم تنوح )
( عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ** فتلفى عصا التطواف وهي طريح )
( فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ** وعدم الفتى بالمغربين طروح ) (1)
فاستعبر عبد الله ورق له وجرت دموعه وقال والله إنني لضنين بمفارقتك شحيح على الفائت من محاضرتك ولكن والله لا أعملت معي خفا ولا حافرا إلا راجعا إلى أهلك وأمر له بثلاثين ألف درهم فقال عوف الأبيات المشهورة وسار راجعا إلى أهله فلم يصل إليهم ومات في حدود العشرين والمائتين
ومن شعره رحمه الله تعالى قوله
( وكنت إذا صحبت رجال قوم ** صحبتهم ونيتي الوفاء )
____________________
1- الطويل
(1/376)
( فأحسن حين يحسن محسنوهم ** وأجتنب الإساءة إن أساءوا )
( وأبصر ما يريبهم بعين ** عليها من عيوبهم غطاء ) (1)
ومنه قوله
( وصغيرة علقتها ** كانت من الفتن الكبار )
( بلهاء لم تعرف لغرتها ** اليمين من اليسار )
( كالبدر إلا أنها ** تبقي على ضوء النهار ) + من مجزوء الكامل +
69
( واعلم فعلم المرء ينفعه ** أن سوف يأتي كل ما قدرا )
البيت من السريع وأنشده أبو علي الفارسي ولم يعزه إلى أحد
وأن هنا مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف يعني أن المقدور آت لا محالة وإن وقع فيه تأخير وفي هذا تسلية وتسهيل للأمر
والشاهد فيه الاعتراض بالتنبيه وهو قوله فعلم المرء ينفعه وهو جملة معترضة بين اعلم ومعمولية والفاء اعتراضية وفيها شائبة من السببية
70
( يصد عن الدنيا إذا عن سؤود ** )
هو من الطويل وتمامه
( ولو برزت في زي عذراء ناهد ** )
وقائله أبو تمام من قصيدة يمدح بها أبا الحسين محمد بن الهيثم أولها
( قفوا جددوا من عهدكم بالمهاهد ** وإن هي لم تسمع لنشدان ناشد )
____________________
1- الوافر
(1/377)
( لقد أطرق الربع المحيل لفقدهم ** وبينهم إطراق ثكلان فاقد )
( وأبقوا لضيف الشوق مني بعدهم ** قرى من جوى سار وطيف معاود )
( سقته ذعاقا عادة الدهر فيهم ** وسم الليالي فوق سم الأساود )
( به علة صماء للبين لم تصخ ** لبرء ولم توجب عيادة عائد )
( وفي الكلة الوردية اللون جؤذر ** من العين وردي الخدود المجاسد )
( رمته بخلف بعد ما عاش حقبة ** له رسفان في قيود المواعد )
( غدت مغتدى الغضبى وأوصت خيالها ** بهجران نضو العيس نضو الخرائد )
( وقالت نكاح الحب يفسد شكله ** وكم نكحوا حبا وليس بفاسد ) (1)
وهي طويلة يقول في مديحها
____________________
1- الطويل
(1/378)
( هم حسدوه لا ملومين مجده ** وما حاسد في المكرمات بحاسد )
( قراني اللهى والود حتى كأنما ** أفاد الغنى من نائلي وفوائدي )
( فأصبحت يلقاني الزمان من أجله ** بإعظام مولود وإشفاق والد )
وبعده البيت وبعده
( إذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ** بعصفرها الدنيا فليس بزاهد )
( فواكبدي الحرى وواكبد النوى ** لأيامه لو كن غير بوائد )
( وهيهات ما ريب الزمان بمخلد ** غريبا ولا ريب الزمان بخالد )
والزي بكسر الزاي الهيئة والعذراء البكر والناهد التي نهد ثديها أي ارتفع
والشاهد فيه وصفه بالإيجاز بالنسبة إلى كلام آخر مساو له في أصل المعنى وهو البيت الآتي بعده وهو إذا المرء لم يزهد إلخ
71
( ولست بميال إلى جانب الغنى ** إذا كانت العلياء في جانب الفقر )
البيت من الطويل وهكذا رويته وإن كان في التلخيص بلفظ نظار بدل ميال وقائله وقائله المعذل بن غيلان أبو عبد الصمد أحد الشاعرين المشهورين روي ذلك عنه الأخفش عن المبرد ومحمد بن خلف المرزبان عن الربعي وبعد البيت
____________________
(1/379)
( وقد قال الأديب مقال صدق ** رآه الآخرون لهم إماما )
( إذا كرمتكم وأهنتموني ** ولم أغضب لذلكم فداما ) (1)
قال وانصرف فبكر إليه عبد الله بن سوار فقال له رأيتك أبا عبد الله مغضبا فقال أجل ماتت بنت أختي ولم تأتني قال ما علمت ذلك قال ذنبك أيسر من عذرك ومالي أنا أعرف خبر حقوقك وأنت لا تعرف خبر حقوقي فما زال عبد الله يعتذر إليه حتى رضي عنه
وحدث الجماز قال هجا أبان اللاحقي المعذل بن غيلان فقال
( كنت أمشي مع المعذل يوما ** ففسا فسوة فكدت أطير )
( فتلفت هل أرى ظربانا ** من ورائي والأرض بي تستدير )
( فإذا ليس غيره وإذا إعصار ذاك الفساء منه يفور ** )
( فتعجبت ثم قلت لقد أعرق في ذا فيما أرى خنزير ** ) + الخفيف +
فأجابه المعذل بقوله
( صحفت أمك إذ سمتك ** في المهد أبانا ** )
( صيرت باء مكان التاء ** فالله أعانا )
( قطع الله وشيكا ** من مسميك اللسانا ) + الرمل +
وقد روي عن المعذل وأبيه شيء من الأخبار والحديث واللغة ليس بالكثير ومن شعره
____________________
1- الوافر
(1/381)
( إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ** أرى صالح الأعمال لا أستطيعها )
( أرى خلة في إخوة وقرابة ** وذي رحم ما كان مثلي يضيعها )
( فلو ساعدتني في المكارم قدرة ** لفاض عليهم بالنوال ربيعها ) (1)
وأما ابن المعذل عبد الصمد فكان شاعرا فصيحا من شعراء الدولة العباسية وكان هجاء خبيث اللسان شديد المعارضة وكان أخوه أحمد شاعرا أيضا إلا أنه كان عفيفا ذا مروءة ودين وتقدم عند المعتزلة وجاه واسع في بلده وعند سلطانه لا يقاربه عبد الصمد فيه وكان يحسده ويهجوه فيحلم عنه وعبد الصمد أشعرهما ومن هجاء أحمد لأخيه عبد الصمد قوله وهو في غاية الأذى مع ما فيه من اللطافة
( قال لي أنت أخو الكلب وفي ** ظنه أن قد هجاني واجتهد )
( أحمد الله تعالى أنه ** ما دري أني أخو عبد الصمد ) + الرمل +
72
( وتنكر إن شئنا على الناس قولهم ** ولا ينكرون القول حين نقول )
البيت للسموأل بن عادياء اليهودي من قصيدة من الطويل أولها
( إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ** فكل رداء يرتديه جميل )
( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ** فليس إلى حسن الثناء سبيل )
( تعيرنا أنا قليل عديدنا ** فقلت لها إن الكرام قليل )
____________________
1- الطويل
(1/382)
( وما قل من كانت بقاياه مثلنا ** شباب تسامت للعلا وكهول )
( وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ** إذا ما رأته عامر وسلول )
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ** وتكرهه آجالهم فتطول )
( وما مات منا سيد في فراشه ** ولا طل منا حيث كان قتيل )
( تسيل على حد الظبات نفوسنا ** وليس على غير السيوف تسيل ) (1)
إلى أن يقول فيها
( فنحن كماء المزن ما في نصالنا ** كهام ولا فينا يعد بخيل )
وبعده البيت وبعده
( إذا سيد منا خلا قام سيد ** قؤول لما قال الكرام فعول )
( وما أخمدت نار لنا دون طارق ** ولا ذمنا في النازلين نزيل )
( وأيامنا مشهورة في عدونا ** لها غرر معروفة وحجول )
( وأسيافنا في كل شرق ومغرب ** بها من قراع الدارعين فلول )
( معودة أن لا تسل نصالها ** فتغمد حتى يستباح قتيل )
( سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ** فليس سواء عالم وجهول ) (1)
ومعنى البيت إنا نغير ما نريد تغييره من قول غيرنا ولا يجسر أحد على الاعتراض علينا انقيادا لهوانا واقتداء بحرمنا يصف رياستهم ونفاذ حكمهم ورجوع الناس في المهمات إلى رأيهم
____________________
1- الطويل
(1/383)
والشاهد فيه وصفه بالإطناب بالنسبة إلى قوله تعالى ^ لا يسأل عما يفعل وهو يسألون ^ ووصف الآيات الكريمة بالإيجاز بالنسبة إليه
وفي قوله من القصيدة وإنا لقوم لا نرى القتل سبة . . . البيت نوع من البديع يسمى الاستطراد وهو أن يرى الشاعر أنه يريد وصف شيء وهو إنما يريد غيره ومنه قول الفرزدق
( كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ** إذا اجتمعوا أفواه بكر بن وائل ) (1)
وقول جرير
( لما وضعت على الفرزدق ميسمي ** وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل ) + الكامل +
ويروى أن الفرزدق وقف على جرير بالبصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا فيها الراعي فلما بلغ إلى قوله
( بها برص بأسفل أسكتيها ** )
وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال جرير
( كعنفقة الفرزدق حين شابا ** )
فانصرف الفرزدق وهو يقول اللهم أخزه والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا ولكنني طمعت أن لا يأتي به فغطيت وجهي فما أغنى ذلك شيئا ويقال إن يونس كان يقول ما أرى جريرا قال هذا المصراع إلا حين غطى الفرزدق عنفقته فإنه نبهه عليه بتغطيته إياها
ومن الاستطراد قول أبي تمام في وصف فرس
( فلو تراه مشيخا والحصا فلق ** تحت السنابك من مثنى ووحدان )
____________________
1- الطويل
(1/384)
( حلفت إن لم تثبت أن حافره ** من صخر تدمر أو من وجه عثمان ) (1)
وقول بكر بن النطاح في مالك بن طوق
( عرضت عليها ما أرادت من المنى ** لترضى فقالت قم فجئني بكوكب )
( فقلت لها هذا التعنت كله ** كمن يشتهي من لحم عنقاء مغرب )
( سلى كل أمر يستقيم طلابه ** ولا تذهبي يا درتي كل مذهب )
( فأقسم لو أصبحت في عز مالك ** وقدرته أعيا بما رمت مطلبي )
( فتى شقيت أمواله بعفاته ** كما شقيت قيس بأرماح تغلب ) + الطويل +
وقول بعضهم يمدح الوزير المهلبي
( بأبي من إذا أراد سراري ** عبرت لي أنفاسه عن عبير )
( وسباني ثغر كدر نظيم ** تحته منطق كدر نثير )
( وله طلعة كنيل الأماني ** أو كشعر المهلبي الوزير ) + الخفيف +
وقول أبي الطاهر الخزاعي
( وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ** وبرد أغانيه وطول قرونه )
____________________
1- البسيط
(1/385)
( قطعت دياجيه بنوم مشرد ** كعقل سليمان بن فهد ودينه )
( على أولق فيه التفات كأنه ** أبو جابر في خبطه وجنونه )
( إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ** سنا وجه قرواش وضوء جبينه ) (1)
وقول إسحاق بن إبراهيم يهجو أحمد بن هشام
( وصافية يغشي العيون صفاؤها ** رهينة عام في الدنان وعام )
( أدرنابها الكأس الروية موهنا ** من الليل حتى إنجاب كل ظلام )
( فما ذر قرن الشمس حتى رأيتنا ** من العي نحكي أحمد بن هشام ) (1)
وقول الحسين بن علي القمي
( جاوزت أجبالا كأن صخورها ** وجنات نجم ذي الحياء البارد )
( والشوك يعمل في ثيابي مثل ما ** عمل الهجاء بعرض عبد الواحد ) + الكامل +
وقول أبي الفرج الببغاء
( لنا روضة في الدار صيغ لزهرها ** قلائد من حلى الندى وشنوف )
( يطيف بنا منها إذا ما تنفست ** نسيم كعقل الخالدي ضعيف ) (1)
ومن ظريف الاستطراد وغريبه قول بعضهم
( اكشفي وجهك الذي أو حلتني ** فيه من قبل كشفه عيناك )
____________________
1- الطويل
(1/386)
( غلطي في هواك يشبه عندي ** غلطي في أبي علي بن زاكي ) (1)
وقول أبي بكر الخوارزمي
( وصفراء كالدينار بنت ثلاثة ** شمال وانهار ودهر مجرم )
( مسرة محزون وعذر معربد ** وكنز مجوسي وفتنة مسلم )
( ممات لأحياء حياة لميت ** وعدم لمن أثرى ثراء لمعدم )
( يدور بها ظبي تدور عيوننا ** على عينه من شرط يحيى بن أكثم )
( ينزهنا من ثغره ومدامه ** وخديه في شمس وبدر وأنجم )
( نهضت إليها والظلام كأنه ** معاش فقير أو فؤاد معلم ) + الطويل +
وقوله
( ولقد بكيت عليك حتى قد بدا ** دمعي يحاكي لفظك المنظوما )
( ولقد حزنت عليك حتى قد حكى ** قلبي فؤاد حسودك المحموما ) + الكامل +
ومنه قول ابن رشيق وكتب به إلى بعض الرؤساء
( إني لقيت مشقة ** فابعث إلي بشقة )
( كمثل وجهك حسنا ** ومثل ديني رقة ) + المقتضب +
فقال له الرئيس أما مثل دينك رقة فلا يوجد بوزن أمثال رمال الرقة
ولشرف الدين ابن عنين الشاعر على هذا الأسلوب في فقيهين كانا بدمشق يدعي أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس
البغل والجاموس في جدليهما ** قد أصبحا عظة لكل مناظر )
( برزا عشية ليلة فتباحثا ** هذا بقرنيه وذا بالحافر )
( ما أتقنا غير الصياح كأنما ** لقيا جدال المرتضي بن عساكر )
( لفظ طويل تحت معنى قاصر ** كالعقل في عبد اللطيف الناظر )
____________________
1- الخفيف
(1/387)
( اثنان مالهما وحقك ثالث ** إلا رقاعة مدلوية الشاعر ) (1)
ومنه قول ابن جابر الأندلسي
( تطول به للمجد أشرف همة ** فما باعه عن غاية بقصير )
( سما لاقتناص المكرمات كما سما ** بعمرو إلى الزباء سعي قصير ) + الطويل +
وقوله أيضا
( سراة كرام من ذؤابة هاشم ** يقولون للأضياف أهلا ومرحبا )
( ويفعل في فقر المقلين جودهم ** كفعل علي يوم حارب مرحبا ) + الطويل +
والسموأل هو ابن غريض بن عادياء ذكر ذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام والسكري عن الطوسي وأبي حبيب وذكر أن الناس يدرجون غريضا في النسب وينسبونه إلى عادياء جده وقال عمرو بن شيبة هو السموأل ابن عادياء ولم يذكر غريضا وقد قيل إن أمه كانت من غسان وكلهم قال إنه صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء وقيل بل هو من ولد الكاهن بن هارون بن عمران وكان هذا الحصن لجده عادياء واحتفر فيه بئرا عذبة روية وقد ذكرته الشعراء في أشعارها قال السموأل
( فبالأبلق الفرد بيتي به ** وبيت النضير سوى الأبلق ) + المتقارب +
وكانت العرب تنزل به فيضيفها وتمتار من حصنه ويقيم هناك سوقا وبه يضرب المثل في الوفاء لأنه رضي بقتل ابنه ولم يخن أمانته في أدراع أودعها وكان السبب في ذلك أن امرأ القيس بن حجر الكندي لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل بن عادياء بحصنه الأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم
____________________
1- الكامل
(1/388)
بنو أسد وكراهة من معه لفعله وتفرقهم عنه حتى بقي وحده واحتاج إلى الهرب وطلبه المنذر بن ماء السماء ووجه إلى طلبه جيوشا وخذلته حمير وتفرقت عنه فلجأ إلى السموأل بن عادياء وكان معه خمسة أدراع الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذيول وكانت لبني آكل المرار يتوارثونها ملك عن ملك ومعه ابنته هند وابن عمه يزيد بن الحارث بن معاوية بن الحارث وسلاح ومال وكان بقي مما كان معه رجل من بني فزارة يقال له الربيع وهو الذي قال فيه امرؤ القيس
( بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** وأيقن أنا لا حقان بقيصرا )
( فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا ) (1)
فقال له الفزاري قل في السموأل شعرا تمدحه به فإن الشعر يعجبه فقال فيه امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها
( طرقتك هند بعد طول تجنب ** وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق ) + الكامل +
فقال له الفزاري إن السموأل يمنع منها وهو في حصن حصين ومال كثير فقدم به على السموأل وعرفه إياه وأنشده الشعر فعرف لهما حقهما وضرب على هند قبة من أدم وأنزل القوم في مجلس له فأقاموا عنده ما شاء الله ثم إن امرأ القيس سأله أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
____________________
1- الطويل
(1/389)
أن يوصله إلى قيصر ففعل واستصحب رجلا يدله على الطريق وأودع ابنته وماله وأدراعه السموأل ورحل إلى الشام وخلف ابن عمه مع ابنته هند
قال ونزل الحارث بن ظالم في بعض غاراته بالأبلق ويقال بل كان المنذر وجهه في خيل وأمره بأخذ مال امرىء القيس من السموأل فلما نزل به تحصن منه وكان له ابن قد يفع وخرج إلى قنص له فلما رجع أخذه الحارث بن ظالم ثم قال للسموأل أتعرف هذا قال نعم هذا ابني فقال أفتسلم ما قبلك أو أقتله قال شأنك به فلست أخفر ذمتي ولا أسلم مال جاري فضرب الحارث وسط الغلام فقتله وقطعه قطعتين وانصرف عنه فقال السموأل في ذلك
( وفيت بأدراع الكندي إني ** إذا ما ذم أقوام وفيت )
( وأوصي عاديا يوما بأن لا ** تهدم يا سموأل ما بنيت )
( بنى لي عاديا حصنا حصينا ** وبئرا كلما شئت استقيت ) (1)
وفي ذلك يقول الأعشى وكان قد استجار بشريح بن السموأل من رجل كلبي قد هجاه ثم ظفر به فأسره وهو لا يعرفه فنزل بابن السموأل فأحسن ضيافته ومر بالأسرى فناداه الأعشى من جملة أبيات
( كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ** في عسكر كسواد الليل جرار )
( إذ سامه خطتي خسف فقال له ** قل ما تشاء فإني سامع حار )
( فقال غدر وثكل أنت بينهما ** فاختر وما فيها حظ لمختار )
( فشك غير طويل ثم قال له ** اقتل أسيرك إني مانع جاري )
____________________
1- الوافر
(1/390)
( وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ** رب كريم وبيض ذات أطهار )
( لا سرهن لدينا ذاهب أبدا ** وحافظات إذا استودعن أسراري ) فاختار أدراعه كيلا يسب بها ** ولم يكن وعده فيها بختار ) (1)
فجاء شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأجيزك فقال له الأعشى إن تمام صنيعك أن تعطيني ناقة ناجية فأعطاه ناقة نجية فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلى الأسير الذي وهبته لك حتى أحبوه وأعطيه فقال قد مضى فأرسل الكلبي وراءه فلم يلحقه
وشعيه بن غريض أخو السموأل شاعر أيضا ومن شعره
( إنا إذا مالت دواعي الهوى ** وأنصت السامع للقائل )
( لا نجعل الباطل حقا ولا ** نلظ دون الحق بالباطل )
( نخاف أن تسفه أحلامنا ** فنخمل الدهر مع الخامل ) + السريع +
عن العتبي قال كان معاوية رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر
وعن يوسف بن الماجشون قال كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفا على رأسه فأنشده هذه الأبيات ثم يجتهد في الحق بين الخصمين
____________________
1- البسيط
(1/391)
قد تم بعون الله تعالى وحسن تيسيره طبع الجزء الأول من كتاب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص للشيخ عبد الرحيم بن أحمد العباسي ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني مفتتحا بشواهد الفن الثاني وهو علم البيان نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يعين على إكماله وييسر سبيل اختتامه آمين
____________________
(1/392)
____________________
(2/2)
2 الجزء الثاني شواهد الفن الثاني وهو علم البيان
____________________
(2/3)
73
( وكأن محمر الشقيق إذا تصوب أو تصعد ** )
( أعلام ياقوت نشرن ** على رماح من زبرجد )
البيتان من الكامل المجزوء المرفل ولم أقف على اسم قائلهما ورأيت بعض أهل العصر نسبهما في مصنف له إلى الصنوبري الشاعر
والشقيق أراد به شقائق النعمان وهو النور المعروف ويطلق على الواحد والجمع وسمي بذلك لحمرته تشبيها بشقيقة البرق وأضيف إلى النعمان بن المنذر وهو آخر ملوك الحيرة لأنه خرج إلى ظهر الحيرة وقد اعتم نبته ما بين أصفر وأحمر وأخضر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير فقال ما أحسنها احموها فكان أول من حماها فنسبت إليه
وكان أبو العميثل يقول النعمان اسم من أسماء الدم ولذلك قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها قال وقولهم إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر ليس بشيء قال وحدثت الأصمعي بهذا فنقله عني انتهى والذي قدمناه هو الذي ذكره أرباب اللغة
والشاهد فيهما التشبيه الخيالي وهو المعدوم الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحس فإن الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لا يدركه الحس إنما يدرك ما هو موجود في المادة حاضر عند المدرك على هيآت محسوسة مخصوصة لكن مادته التي تركب منها كالأعلام والياقوت والرماح والزبرجد كل منها محسوس بالبصر
وقريب من هذا النوع قول بعضهم
( كلنا باسط اليد ** نحو نيلو فرندي )
( كدبابيس عسجد ** قضبها من زبرجد ) (1)
ومثله قول أبي الغنائم الحمصي
____________________
1- المقتضب
(2/4)
( خود كأن بنانها ** في خضرة النقش المزرد )
( سمك من البلور في ** شبك تكون من زبرجد ) (1)
وقد تفنن الشعراء في وصف الشقائق فمما ورد من ذلك قول ابن الرومي أو الأخيطل الأهوازي
( هذي الشقائق قد أبصرت حمرتها ** مع السواد على قضبانها الذبل )
( كأنها أدمع قد غسلت كحلا ** جادت بها وقفة في وجنتي خجل ) + البسيط +
وقول سيدوك الواسطي
( انظر إلى مقل العقيق تضمنت حدق السبج ** )
( من فوق قامات حسن وما سمجن من العوج ** ) (1)
وقول الخباز البلدي من أبيات
( إلى الروض الذي قد أضحكته ** شآبيب السحائب بالبكاء )
( كأن شقائق النعمان فيه ** ثياب قد روين من الدماء ) + الوافر +
وقول ولد القاضي عياض رحمهما الله تعالى
( انظر إلى الزرع وخاماته ** تحكي وقد ولت أمام الرياح )
( كتيبة خضراء مهزومة ** شقائق النعمان فيها جراح ) + السريع +
وقول الخالدي أيضا
( وصبغ شقائق النعمان يحكي ** يواقيتا نظمن على اقتران )
( وأحيانا تشبهها خدودا ** كساها الراح ثوبا أرجواني )
( شقائق مثل أقداح ملاء ** وخشخاش كفارغة القناني )
( ولما غازلتنا الريح خلنا ** بها جيشي وغى يتقاتلان ) + الوافر +
وقول الصنوبري
____________________
1- من مجزوء الكامل
(2/5)
( وجوه شقائق تبدو وتحفي ** على قضب تميس بهن ضعفا )
( تراها كالعذارى مسبات ** عليها من حميم الشعر سجفا )
( إذا طلعت أرتك السرج تذكي ** وإن غربت أرتك السرج تطفا )
( تخال إذا هي اعتدلت قواما ** زجاجات ملئن الراح صرفا )
( تنازعت الخدود الحمر حسنا ** فما قد أخطات منهن وصفا ) (1)
وقول ابن الدويدة
( كأن الشقائق والأقحوان ** خدود تقبلهن الثغور )
( فهاتيك أخجلهن الحياء ** وهاتيك أضحكن السرور ) + المتقارب +
وقول أبي الحسن بن وكيع من أرجوزة
( يضحك فيها زهر الشقيق ** كأنه مداهن العقيق )
( مضمنات قطعا من السبج ** فأشرقت بين احمرار ودعج )
( كأنما المحمر في المسود ** منه إذا لاح عيون الرمد ) + الرجز +
وقول أبي الفضل الميكالي
( تصوغ لنا أيدي الربيع حدائقا ** كعقد عقيق بين سمط لآل )
( وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ** خدود عذارى نقطت بغوالي ) + الطويل +
وقول الخبرأرزي أيضا
( وروضة راضها الندى فغدت ** لها من الزهر أنجم زهر )
( تنشر فيها أيدي الربيع لنا ** ثوبا من الوشى حاكه القطر )
( كأنما شق من شقائقها ** على رباها مطارف خضر )
( ثم تبدت كأنها حدق ** أجفانها من دمائها حمر ) + المنسرح +
____________________
1- الوافر
(2/6)
74
( ومسنونة زرق كانياب أغوال ** )
هو من الطويل وصدره
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** )
وقائله امرؤ القيس الكندي من قصيدة أولها
( ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ** وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( وهل يعمن إلا سعيد مخلد ** قليل هموم ما يبيت بأوجال )
( وهل يعمن من كان آخر عهده ** ثلاثين شهرا أو ثلاثة أحوال )
( ديار لسلمى عافيات بذي الخال ** ألح عليها كل أسحم هطال )
( وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ** بوادي الخزامى أو على رأس أوعال )
( ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ** كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي )
( بلى رب يوم قد لهوت وليلة ** بآنسة كأنها خط تمثال )
( يضيء الفراش وجهها لضجيعها ** كمصباح زيت في قناديل ذبال )
( إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ** تميل عليه هونة غير معطال )
( كدعص النقا يمشي الوليدان فوقه ** لما احتسبا من لين مس وتسهال )
____________________
(2/7)
( إذا ما استحمت كان فيض حميمها ** على متنتيها كالجمان لدى الجالي )
( تنورتها من أذرعات وأهلها ** بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
( نظرت إليها والنجوم كأنها ** مصابيح رهبان تشب لقفال )
( سموت إليها بعد ما نام أهلها ** سمو حباب الماء حالا على حال )
( فقالت سباك الله إنك فاضحي ** ألست ترى السمار والناس أحوالي )
( فقلت يمين الله لا أنا بارح ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي )
( فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال )
( فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ** ورضت فذلت صعبة أي إذلال )
( حلفت لها بالله حلفة فاجر ** لناموا فما إن من حديث ولا صالي )
( فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها ** عليه قتام كاسف اللون والبال )
( يغط غطيط البكر شد خناقه ** ليقتلني والمرء ليس بقتال ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وليس بذي سيف فيقتلني به ** وليس بذي رمح وليس بنبال )
( أيقتلني وقد قطرت فؤادها ** كما قطر المهنوة الرجل الطالي )
____________________
1- الطويل
(2/8)
( وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ** بأن الفتى يهذي وليس بفعال )
( وماذا عليه إن ذكرت أوانسا ** كغزلان رمل في محاريب اقوال ) (1)
وهي طويلة
والمشرفي بفتح الميم والراء نسبة إلى مشارف الشام وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف منها السيوف المشرفية والمسنون المحدد المصقول ووصف النصال بالزرقة للدلالة على صفائها وكونها مجلوة وأراد بقوله أنياب أغوال أي شياطين وإنما أراد أن يهول قال أبو نصر سألت الأصمعي عن الغول فقال همرجة من همرجة الجن
والشاهد فيه التشبيه الوهمي وهو الغير المدرك بإحدى الحواس ولكنه بحيث لو أدرك لكان مدركا بها فإن أنياب الغول مما لا يدركه الحس لعدم تحققها مع أنها لو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر
وذكرت بأول القصيدة ما حكاه ناشب بن هلال الحراني الواعظ البديهي وكان يلقب به لقوله الشعر بديها قال قصدت ديار بكر متكسبا بالوعظ فلما نزلت قلعة ماردين دعاني بها صاحبها تمرداس بن المغان بن أرتق للإفطار عنده في شهر رمضان فحضرت إليه فلم يرفع مجلسي ولم يكرمني وقال بعد الإفطار لغلام عنده إئتنا بكتاب فجاء به فقال له ادفعه إلى الشيخ ليقرأ فيه فازداد غيظي لذلك وفتحت الكتاب فإذا هو ديوان امرىء القيس وإذا أول ما فيه
( ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ** وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
____________________
1- الطويل
(2/9)
فقلت في نفسي أنا ضيف وغريب واستفتح ما أقرأه على سلطان كبير وقد مضى هزيع من الليل ألا عم صباحا فقلت
( ألا عم مساء أيها الملك العالي ** ولا زلت في عز يدوم وإقبال )
ثم أتممت القصيدة فتهلل وجه السلطان لذلك ورفع مجلسي وأدناني إليه وكان ذلك سبب حظوتي عنده
75
( وكأن النجوم بين دجاها ** سنن لاح بينهن ابتداع )
البيت للقاضي التنوخي من أبيات من الخفيف أولها
( رب ليل قطعته بصدود ** أو فراق ما كان فيه وداع )
( موحش كالثقيل تقذى به العين وتأبى حديثه الأسماع ** ) (1)
وبعده البيت وبعده
( مشرقات كأنهن حجاج ** تقطع الخصم والظلام انقطاع )
( وكان السماء خيمة وشي ** وكأن الجوزاء فيها شراع ) (1)
والدجى جمع دجية وهي الظلمة والضمير راجع إلى الليالي أو النجوم والابتداع الحدث في الدين بعد الكمال أو ما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال
والشاهد فيه التشبيه التخييلي وهو أن لا يوجد في أحد الطرفين أو في كليهما إلا على سبيل التخييل والتأويل ووجهه في هذا البيت هو الهيئة
____________________
1- الخفيف
(2/10)
الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم اسود فتلك الهيئة غير موجودة في المشبه به إلا على طريق التخييل وذلك أنه لما كانت البدعة وكل ما هو جهل تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي للطريق ولا يأمن أن ينال مكروها شبهت بالظلمة ولزم بطريق العكس أن تشبه السنة وكل ما هو علم بالنور لان السنة والعلم تقابل البدعة والجهل كما أن النور يقابل الظلمة
والقاضي التنوخي هو علي بن محمد بن داود أبو القاسم التنوخي قدم بغداد وتفقه على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكان حافظا للشعر ذكيا وله عروض بديع وولي القضاء بعدة بلدان وهو والد أبي علي الحسن التنوخي صاحب نشوار المحاضرة وكتاب الفرج بعد الشدة وغيرهما وكان أبو القاسم هذا بصيرا بعلم النجوم قرأ على الكسائي المنجم ويقال أنه كان يقوم بعشرة علوم وكان يحفظ للطائيين سبعمائة قصيدة ومقطوعة سوى ما يحفظ لغيرهم من المحدثين وغيرهم وكان يحفظ من النحو واللغة شيئا كثيرا وكان في الفقه والفرائض والشروط غاية واشتهر بالكلام والمنطق والهندسة وكان في الهيئة قدوة
وقال الثعالبي في حقه رحمهما الله تعالى هو كما قرأته في فصل للصاحب إن أردت فإني سبحة ناسك أو أحببت فإني تفاحة فاتك أو اقترحت فإني مدرعة راهب أو آثرت فإني نخبة شارب
وكان الوزير المهلبي وغيره من وزراء العراق يميلون إليه جدا ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء وتاريخ الظرفاء ويعاشرون منه من تطيب عشرته
____________________
(2/11)
وتلين قشرته وتكرم أخلاقه وتحسن أخباره وتسير أشعاره ناظمة حاشيتي البر والبحر وناحيتي الشرق والغرب
ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على أطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة وهم ابن قريعة وابن معروف والأيذحي وغيرهم وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها وكذاك كان المهلبي فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا أثواب الوقار للعقار وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش ووضع في يد كل منهم طاس من ذهب ألف مثقال مملوء شرابا قطربليا أو عكبريا فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ثم يرش بها بعضهم على بعض ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم وإياهم عنى السرى الرفاء بقوله
( مجالس ترقص القضاة بها ** إذا انتشوا في مخانق البرم )
( وصاحب يخلط المجون لنا ** بشيمة حلوة من الشيم )
( تخضب بالراح شيبه عبثا ** أنامل مثل حمرة العنم )
( حتى تخال العيون شيبته ** شيبة عثمان ضرجت بدم ) (1)
فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم من التزام التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء
وكان له غلام يؤثره على غيره من غلمانه يسمى نسيما فكتب إلى القاضي التنوخي بعض أصحابه
( هل علي لامه مدغمة ** لاضطرار الوزن في ميم نسيم ) + الرمل +
____________________
1- المنسرح
(2/12)
فوقع تحته نعم ولم لا
وقال منصور الخالدي كنت ذات ليلة عند التنوخي في ضيافة فاغفي إغفاءة فخرج منه ريح فضحك بعض القوم فانتبه بضحكه وقال لعل ريحا فسكتنا من هيبته فمكث ساعة ثم قال
( إذا نامت العينان من متيقظ ** تراخت بلا شك تشاريج فقحته )
( فمن كان ذا عقل فيعذر نائما ** ومن كان ذا جهل ففي جوف لحيته ) (1)
وهذه نبذة من شعره
قال من قصيدة كثيرة العيون وكان الصاحب بن عباد يفضلها على سائر شعره ويروي أنها من أمهات قلائده وهي
( أحبب إلي بنهر معقل الذي ** فيه لقلبي من همومي معقل )
( عذب إذا ما عب منه ناهل ** فكأنه من ريق حب ينهل )
( متسلسل وكأنه لصفائه ** دمع بخدي كاعب يتسلسل )
( وإذا الرياح جرين فوق متونه ** فكأنه درع جلاها صقيل )
( وكأن دجلة إذ تغطغط موجها ** ملك يعظم خيفة ويبجل )
( وكأنه ياقوتة أو أعين ** زرق يلاءم بينها ويوصل )
____________________
1- الطويل
(2/13)
( عذبت فما ندري أماء ماؤها ** عند المذاقة أم رحيق سلسل )
( ولها بمد بعد جزر ذاهب ** جيشان يدبر ذا وهذا يقبل )
( وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ** من جنة الفردوس حين تخيل )
( كم منزل في نهرها آلى السرور ** بأنه في غيره لا ينزل )
( وكأنما تلك القصور عرائس ** والروض حلى فهي فيه ترفل )
( غنت قيان الورق في أرجائها ** هزجا يقل له الثقيل الأول )
( وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ** يوم الوداع وعيرهم تترحل )
( ربع الربيع بها فحاكت كفه ** حللا بها عقد الهموم تحلل )
( فمدبج وموشح ومدنر ** ومعمد ومحبر ومهلهل )
( فتخال ذا عينا وذا ثغرا وذا ** خدا يعضض مرة ويقبل ) (1)
ومن شعره أيضا قوله
( كأنما المريخ والمشتري ** أمامه في شامخ الرفعة )
( منصرف بالليل عن دعوة ** قد أوقدت قدامه شمعة ) + السريع +
ومثله قول أبي عتيق السفار
( وكأن البدر والمريخ إذ وافى إليه ** )
( ملك توقد ليلا ** شمعة بين يديه ) + الرمل +
رجع إلى شعر القاضي التنوخي رحمه الله قال
____________________
1- الكامل
(2/14)
( وليلة مشتاق كأن نجومها ** قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوم )
( كأن سواد الليل والفجر ضاحك ** يلوح ويخفى أسود يبتسم ) (1)
وله أيضا في غور الكواكب عند الصباح
( عهدي بها وضياء الصبح يطفئها ** كالسرج تطفأ أو كالأعين العور )
( اعجب بها حين وافى وهي نيرة ** فظل يطمس منها النور بالنور ) + البسيط +
وكتب إلى الوزير المهلبي وقد منعه المطر من خدمته
( سحاب أتى كالأمن بعد تخوف ** له في الثرى فعل الشفاء بمدنف )
( أكب على الآفاق إطراق مطرق ** يفكر أو كالنادم المتلهف )
( ومد جناحيه على الأرض جانحا ** فراح عليها كالغراب المرفرف )
( غدا البر بحرا زاجرا وانثنى الضحى ** بظلمته في ثوب ليل مسجف )
( يعبس عن برق به متبسم ** عبوس بخيل في تبسم معتفي )
( تحاول منه الشمس في الجو مخرجا ** كما حاول المغلوب تجريد مرهف ) (1)
أين هذا من قول ابن المعتز رحمه الله
( تحاول فتق غيم وهو يأبى ** كعنين يريد نكاح بكر )
( فأفرغ ماء قال حوضه وارد حوضه ** أسلسال ماء أم سلافة قرقف )
____________________
1- الطويل
(2/15)
أتى رحمة للناس غيري فإنه ** علي عذاب ماله من تكشف )
( سحاب عدا بي عن سحاب وعارض ** منعت به من عارض متكفكف ) (1)
أخذه من قول الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات
( لست أدري ماذا أذم وأشكو ** من سماء تعوقني عن سماء ) + الخفيف +
ومن شعر القاضي التنوخي أيضا
( أما ترى البرد قد وافت عساكره ** وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا )
( فالأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ** قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا )
( فانهض بنار إلى فحم كأنهما ** في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا )
( جاءت ونحن كقلب الصب حين سلا ** بردا فصرنا كقلب الصب إذ عشقا ) + البسيط +
ومنه أيضا
( رضاك شباب لا يليه مشيب ** وسخطك داء ليس منه طبيب )
( كأنك من كل النفوس مركب ** فأنت إلى كل النفوس حبيب ) + الطويل +
وله في معذر
( قلت لأصحابي وقد مر بي ** منتقبا بعد الضياء بالظلم )
( بالله يا أهل ودادي قفوا ** كي تبصروا كيف زوال النعم ) + السريع +
ومحاسنه رحمه الله كثيرة وهذا الأنموذج كاف فيها وكانت وفاته سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة
____________________
1- الوافر
(2/16)
76
( وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى ** كعنقود ملاحية حين نورا )
البيت لأبي القيس بن الأسلت من الطويل
والملاحي بضم الميم وتخفيف اللام وقد تشدد عنب ابيض في حبه طول ومعنى نور تفتح نوره والثريا مصغرة قيل تصغير تعظيم وقيل تصغير تقريب إعلاما بان نجومها قريب بعضها من بعض ومكبرها ثروى وهي الكثرة وسميت هذه النجوم المجتمعة بالثريا لكثرة نورها وقيل لكثرة نجومها مع صغر مرآها فكأنها كثيرة العدد بالاضافة إلى ضيق المحل وعدد نجومها سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي تختبر به الناس أبصارهم وذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراها أحد عشر نجما
والشاهد فيه المركب الحسي في التشبيه الذي طرفاه مفردان الحاصل من الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض الصغار المقادير في المرأى وإن كانت كبارا في الواقع على الكيفية المخصوصة منضمة إلى المقدار المخصوص والمراد بالكيفية المخصوصة أنها لا مجتمعة اجتماع التضام والتلاصق ولا هي شديدة الافتراق بل لها كيفية مخصوصة من التقارب والتباعد على نسبة قريبة مما نجده في رأى العين بين تلك الأنجم والطرفان المفردان هما الثريا والعنقود
ومما جاء في وصف الثريا أيضا قول امرىء القيس
( إذا ما الثريا في السماء تعرضت ** تعرض أثناء الوشاح المفصل ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/17)
وقد أبدع المتأخرون في وصفها فمن ذلك قول ابن المعتز
( قد انقضت دولة الصيام وقد ** بشر سقم الهلال بالعيد )
( يتلو الثريا كفاغر شره ** يفتح فاه لأكل عنقود ) (1)
ومثله قوله أيضا
( زارني والدجى أحم الحواشي ** والثريا في الغرب كالعنقود )
( وهلال السماء طوق عروس ** بات يجلي على غلائل سود ) + الخفيف +
وقول ابن بابك
( وليلة جوزاؤها ** مثل الخباء المنهتك )
( قطعتها والبدر عن ** سمت الثريا منفرك )
( كأنها في عرضه ** باز على كف ملك ) + من مجزوء الرجز +
وقول سهل بن المرزبان
( كم ليلة أحييتها ومؤانسي ** طرف الحديث وطيب حث الأكؤس )
( شبهت بدر سمائها لما دنت ** منه الثريا في قميص سندسي )
( ملكا مهيبا قاعدا في روضة ** حياه بعض الزائرين بنرجس ) + الكامل +
ومثله قول ابن المعتز أيضا
( أتاني والإصباح يرفل في الدجى ** بصفراء لم تفسد بطبخ وإحراق )
____________________
1- المنسرح
(2/18)
( فناولنيها والثريا كأنها ** جني نرجس حيا الندامى به الساقي ) (1)
ومثله قول الناشئ الأصغر
( وليل توارى النجم من طول مكثه ** كما ازور محبوب لخوف رقيبه )
( كأن الثريا فيه باقة نرجس ** يحيي بها ذو صبوة لحبيبه ) (1)
وقول أبي الفرح الببغاء من أبيات
( ترى الثريا والبدر في قرن ** كما يحيا بنرجس ملك ) + المنسرح +
وقول الوزير أبي العباس الضبي
( خلت الثريا إذا بدت ** طالعة في الحندس )
( مرسلة من لؤلؤ ** أو باقة من نرجس ) + من مجزوء الرجز +
وقوله أيضا
( إذا الثريا اعترضت ** عند طلوع الفجر )
( حسبتها لامعة ** سبيكة من در ) + من مجزوء الرجز +
ونفيس قول ابن حمديس أيضا من قصيدة
( فاسقني عن إذن سلطان الهوى ** ليس يشفي الروح إلا كاس راح )
( وانتظر للحلم مني كرة ** كم فساد كان عقباه صلاح )
( فالقضيب اهتز والبدر بدا ** والكثيب ارتج والعنبر فاح )
( والثريا زجج الجو بها ** كابن ماء ضم للوكر جناح )
( وكأن الغرب منها ناشق ** باقة من ياسمين أو أفاح ) + الرمل
وقول الصاحب بن عباد
( تنير الثريا وهي قرط مسلسل ** ويعقل منها الطرف در مبدد ) (1)
وما ألطف قول ابن حصين
____________________
1- الطويل
(2/19)
( علي أن أتذلل ** له وان يتدلل )
( خد كأن الثريا ** عليه قرط مسلسل ) (1)
وقول أبي الفرج الببغاء
( خذوا من العيش فالأعمار فانية ** والدهر منصرف والعيش منقرض )
( في حامل الكأس من بدر الدجى خلف ** وفي المدامة من شمس الضحى عوض )
( كأن نجم الثريا كف ذي كرم ** مبسوطة للعطايا ليس تنقبض ) + البسيط +
وقول ابن سكره الهاشمي
( ترى الثريا والغرب يجذبها ** والبدر يسري والفجر ينفجر )
( كف عروس لاحت خواتمها ** أو عقد در في الجو ينتثر ) + المنسرح +
ومثله قول أبي القاسم علي بن جلبات
( وخلت الثريا كف عذراء طفلة ** مختمة بالدر منها الأنامل )
( تخيلتها في الأفق طرة جعبة ** مكوكبة لم تعتلقها حبائل ) + الطويل +
وقول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي
( وولت نجوم للثريا كأنها ** خواتم تبدو في بنان يد تخفى ) + الطويل +
وما أحسن قول محيي الدين بن عبد الظاهر
( ملأت الليالي من علا وختمتها ** فقد أصبحت محشوة من مكارمك )
( ختمت عليها بالثريا فقل لنا ** أهذا الذي في كفها من خواتمك ) + الطويل +
وقد أحسن الصنوبري في تشبيهه الثريا في جميع أحوالها حيث يقول من أبيات
( قم فاسقني والظلام منهزم ** والصبح باد كأنه علم )
( والطير قد طربت فأفصحت الألحان طرا وكلها عجم ** )
____________________
1- المقتضب
(2/20)
( وميلت رأسها الثريا لإسرار إلى الغرب وهي تحتشم ** )
( في الشرق كأس وفي مغاربها ** قرط وفي أوسط السما قدم ) (1)
وقد وصفها الوأواء الدمشقي في حالتي الشروق والغروب فقط فقال
( قد تأملت الثريا ** في شروق وغروب )
( فهي كأس في شروق ** وهي قرط في غروب ) + من مجزوء الرمل +
وما أبدع قول بعضهم أيضا
( وكأنما نجم ** إذ تعرض كالوشاح ** )
( كأس بكف خريدة ** تسقي المسابيد الصباح ) + من مجزوء الكامل +
وقول الوأواء الدمشقي
( وجلا الثريا في ملاءة ** نوره بدر التمام )
( فكأنها كأس ليشربها الدجى والبدر جام ** )
( وكأن زرق نجومها ** حدق مفتحة نيام ) + من مجزوء الكامل +
وبديع قول عبد الوهاب الأزدي المشهور بالمثقال
( يا ساقي الكأس اسق صحبي ** واسقني إنني أواسي )
( وانظر إلى حيرة الثريا ** والليل قد سد باندماس )
( ما بين بهرامها الملاحي ** وبين مريخها المواسي )
( كأنها راحة أشارت ** لأخذ تفاحة وكاس ) + من مخلع البسيط +
وقوله أيضا
( رأيت بهرام والثريا ** والمشتري في القران كرة )
( كراحة حيرت يداها ** ما بين ياقوتة ودره ) + من مخلع البسيط +
____________________
1- المنسرح
(2/21)
قال عبد الوهاب المذكور هذين البيتين لما أنشده ابن رشيق قوله
( والثريا قبالة البدر تحكي ** باسطا كفه ليأخذ جاما ) (1)
وللوأواء الدمشقي
( رب ليل ما زلت ألثم فيه ** قمرا لابسا غلالة ورد )
( والثريا كأنها كف خود ** داخلتها للبين رعدة وجد ) (1)
ومثله قول بعضهم
( كأن الثريا بين شرق ومغرب ** وقد سلمت للصبح طوعا عنانها )
( مروعة بالبين نحو أليفها ** تقلب من خوف الفراق بنانها ) + الطويل +
وقول الآخر
( والليل قد ولى يقلص برده ** كدا ويسحب ذيله في المغرب )
( وكأنما نجم الثريا سحرة ** كف تمسح عن معاطف أشهب ) + الكامل +
ولإبراهيم بن العباس الصولي في اقتران الثريا والهلال
( وليلة من ليالي النس بت بها ** والروض ما بين منظوم ومنضود )
( والنسر قد حام في الظلماء من ظمإ ** وللمجرة نهر غير مورود )
( وابن الغزالة فوق النجم منعطف ** كما تأود عرجون بعنقود ) + البسيط +
ولأبي عاصم البصري في اقتران الهلال والثريا والزهرة
( رأيت الهلال وقد أحدقته ** نجوم السماء لكي تسبقه )
( فشبهته وهو في إثرها ** وبينهما الزهرة المشرقة )
( بقوس لرام رمى طائرا ** فأتبع في إثره بندقه ) + المتقارب +
ولأبي الحسن الكرخي في مثله
____________________
1- الخفيف
(2/22)
( كأن الهلال المستنير وقد بدا ** ونجم الثريا واقف فوق هالته )
( مليك على أعلاه تاج مرصع ** ويزهي على من دونه بجلالته ) (1)
وما أحسن قول ابن طباطبا العلوي
( أما والثريا والهلال جلتهما ** لي الشمس إذ ودعت كرها نهارها )
( كأسماء إذ زارت عشيا وغادرت ** دلالا لدينا قرطها وسوارها ) (1)
وقول أبي على الحاتمي
( وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ** إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر )
( ونجم الثريا في السماء كأنه ** على حلة زرقاء جيب مدنر ) (1)
ومن بديع أوصاف الثريا قول البديع القليوبي الكاتب
( وصافية بات الغلام يديرها ** على الشرب في جنح من الليل أدعج )
( كأن حباب الماء في وجناتها ** فرائد در في عقيق مدحرج )
( ولا ضوء إلا من هلال كأنما ** نفرق عنه الغيم عن نصف دملج )
( وقد حال دون المشتري من شعاعه ** وميض كمثل الزئبق المترجرج )
( كأن الثريا في أواخر ليلها ** نجية ورد فوق زهر بنفسج ) (1)
وما أحسن قول ابن فضال
( كأن بهرام وقد عارضت ** فيه الثريا نظر المبصر )
( ياقوتة يعرضها بائع ** في كفه والمشتري المشتري ) + السريع +
وبديع قول الشهاب محمود في تشبيه الثريا والهلال والدارة
( كأن الثريا والهلال ودارة ** حوته وقد زان الثريا التئامها )
( حباب طفا من فوق زورق فضة ** بكف فتاة طاف بالراح جامها ) (1)
وقد أغرب ابن عون بقوله
____________________
1- الطويل
(2/23)
( رب ليل لم أنمه ** ونجوم الليل تشهد )
( والثريا في مداها ** حين تنحط وتصعد )
( عقرب يسعى من الدر ** على صحن زبرجد )
( خلفها طالب نار ** وشهاب ليس يخمد )
( فهي حيرى ما أراها ** من سبيل الغي ترشد ) (1)
وبديع قول ظافر الحداد
( كأن الثريا تقدم الفجر والدجى ** يضم حواشي سجفه للمغارب )
( مقدم جيش الروم أوما بكفه ** لتبديد جيش من بني الزنج هارب ) + الطويل +
وقوله أيضا
( كأن نجوم الليل لما تنحلت ** توقد جمر في سواد رماد )
( حكى فوق ممتد المجرة شكلها ** فواقع تطفو فوق لجة واد )
( وقد سبحت فيه الثريا كأنها ** بقية وشى في قميص حداد )
( ولاحت بتو نعش كتنقيط كاتب ** بيسراه للتعليم هيئة صاد )
( إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ** رداء عروس فيه صبغ مداد ) + الطويل +
وقوله أيضا
( وليلة مثل عين الظبي داجية ** عسفتها ونجوم الليل لم تقد )
( كأن أنجمها في الليل زاهرة ** دراهم والثريا كف منتقد ) + البسيط +
وظريف قول بعضهم في شكاية طول الليل
( كأن الثريا راحة تشبر الدجى ** لتعلم طال الليل أم لي تعرضا )
( عجبت لليل بين شرق ومغرب ** يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا ) + الطويل +
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/24)
ولبعضهم
( والثريا كأنها رأس طرف ** أدهم زين باللجام المحلى ) (1)
ومثله قول ابن المعتز
( ألا فاسقنيها والظلام مقوض ** ونجم الدجى في لجة الليل يركض )
( كأن الثريا في أواخر ليلها ** مفتح نور أو لجام مفضض ) + الطويل +
واالاطلاع على تفنن الأدباء في أوصاف الثريا يغتقر الإطالة هنا
وأبو قيس لم يقع لي إلى الآن اسمه والأسلت لقب أبيه واسمه عامر بن جشم بن وائل ينتهي نسبه للأوس وهو شاعر من شعراء الجاهلية وأسلم ابنه عقبة بن أبي قيس رضي الله عنه واستشهد يوم القادسية وكان يزيد بن مرداس السلمي أخو عباس بن مرداس السلمي الشاعر قتل قيس بن أبي قيس في بعض حروبهم فطلب بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكن من يزيد ابن مرداس فقتله بقيس ابن عمه ولقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت المذكور
( أقيس إن هلكت وأنت حي ** فلا تعدم مواصلة الفقير ) + الوافر +
وقال هشام الكلبي كانت الأوس قد أسندوا امرهم في يوم بغاث إلى
____________________
1- الخفيف
(2/25)
أبي قيس بن الأسلت الوائلي فقام بحربهم وآثرها على كل أمر حتى شحب وتغير ولبث أشهرا لا يقرب امرأته ثم أنه جاء ليلة فدق على امرأته وهي كبشه بنت ضمرة بن مالك من بني عمرو بن عوف ففتحت له فأهوى بيده إليها فأنكرته ودفعته فقال أنا أبو قيس فقالت والله ما عرفتك حتى تكلمت فقال في ذلك أبو قيس
( قالت ولم تقصد مقال الخنا ** مهلا فقد أبلغت أسماعي )
( استنكرت لونا له شاحبا ** والحرب غول ذات أوجاع )
( من يذق الحرب يجد طعمها ** مرا وتتركه بجمجاع )
( لا نألم القتل ونجزي له الأعداء كيل الصاع بالصاع ** ) (1)
ولما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير رضي الله عنهما خطب الناس بالنخيلة فقال في خطبته أيها الناس دعوا الأهواء المضلة والآراء المشتتة ولا تكلفونا اعمال المهاجرين وانتم لا تعلمون بها فقد جاريتمونا إلى السيف برأيتم كيف صنع بكم ولا أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جراءة فإني لا أزداد فعدها إلا عقوبة وما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو قيس بن الأسلت
____________________
1- السريع
(2/26)
( من يصل ناري بلا ذنب وترلاة ** يصل بنار كريم غير غدار )
( أنا النذير لكم مني مجاهرة ** كيلا ألام على نهي وإعذار )
( فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ** أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار )
( لتتركن أحاديثا وملعبة ** عند المقيم وعند المدلج الساري )
( وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ** عندي وإني لطلاب لأوتار )
( أقيم عوجته إن كان ذا عوج ** كما يقوم قدح النبعة الباري )
وعن الهيثم بن عدي قال كنا جلوسا عند صالح بن حسان فقال لنا أنشدوني بيتا خفرا في امرأة خفرة فقلنا قول حاتم
( يضيء بها البيت الظليل خصاصه ** إذا هي يوما حاولت أن تبسما ) (1)
فقال هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا فقلنا قول الأعشى
( كأن مشيتها من بيت جارتها ** مر السحابة لا ريث ولا عجل ) + البسيط +
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الاختلاف فقلنا ما عندنا شيء فقال قول أبي القيس بن الأسلت
( ويكرمها جاراتها فيزرنها ** وتعتل عن إتيانهن فتعذر )
( وليس لها أن تستهين بجارة ** ولكنها منهن تحيا وتخفر ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/27)
ثم قال أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا فقلنا بيت الزبير الأسدي وهو
( وقد لاح في الغور الثريا كأنما ** به راية بيضاء تخفق للطعن ) (1)
فقال أريد أحسن من هذا فقلنا بيت امرىء القيس
( إذا ما الثريا في السماء تعرضت ** تعرض أثناء الوشاح المفضل ) (1)
قال أريد أحسن من هذا قلنا بيت ابن الطثرية
( إذا ما الثريا في السماء كأنها ** جمان وهي من سلكه فتسرعا ) (1)
قال أريد أحسن من هذا قلنا ما عندنا شيء قال قول أبي قيس ابن الأسلت
( وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى ** كعنقود ملاحية حين نورا ) (1)
قال فحكم له بالتقدم عليهم في هذين المعنيين والله اعلم
77
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
البيت لبشار بن برد من قصيدة من الطويل يمدح بها ابن هبيرة وأولها
( جفا وده فازور أو مل صاحبه ** وأزرى به أن لا يزال يعاتبه )
( خليلي لا تستكثر الوعة الهوى ** ولا سلوة المحزون شطت حبائبه ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/28)
يقول فيها
( إذا كنت في كل الأمور معاتبا ** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه )
( فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ** مقارف ذنب مرة ومجانبه )
( إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ** ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه )
( رويدا نصاهل بالعراق جيادنا ** كأنك بالضحاك قد قام نادبه ) (1)
ومنها
( وسام لمروان ومن دونه الشجا ** وهول كلج البحر جاشت غواربه )
( أخلت به أم المنايا بنانها ** بأسيافنا إنا ردى من نحاربه )
( وكنا إذا دب العدو لسخطنا ** وراقبنا في ظاهر لا نراقبه )
( ركبنا له جهرا لكل مثقف ** وأبيض تستسقي الدماء مضاربه )
( وجيش كجنح الليل يزحف بالحصا ** وبالشوك والخطي حمرا ثعالبه ) (1)
ومنها
( غدونا له والشمس في خدر أمها ** تطالعها والطل لم يجر ذائبه )
( بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ** وتدرك من نجي الفرار مثالبه )
وبعده البيت وبعده
( بعثنا لهم موت الفجاءة إننا ** بنو الموت خفاق علينا سبائبه )
( فراحوا فريق في الأسارى ومثله ** قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه )
( إذا الملك الجبار صغر خده ** مشينا إليه بالسيوف نعاتبه ) (1)
وهي طويلة فوصله ابن هبيرة بعشرة آلاف درهم وكانت أول عطية سنية أعطيها بشار بالشعر ورفعت من ذكره
____________________
1- الطويل
(2/29)
والنقع الغبار ومعنى تهاوى كواكبه يتساقط بعضها في إثر بعض والأصل تتهاوى فحذفت إحدى التاءين
والشاهد فيه المركب الحسي في التشبيه الذي طرفاه مركبان الحاصل من الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم فوجه الشبه مركب كما ترى وكذا طرفاه كما في أسرار البلاغة
يروي أنه قيل لبشار وقد أنشد هذا البيت ما قيل أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئا منها فقال إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته وأنشدهم قوله
( عميت جنينا والذكاء من العمى ** فجئت عجيب الظن للعلم موئلا )
( وغاض ضياء العين للعلم رافدا ** لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا )
( وشعر كنور الروض لاءمت بينه ** بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا ) (1)
وحدث أبو يعقوب الخريمي الشاعر أن بشارا قال لم أزل منذ سمعت قول امرىء القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكرها العناب والحشف البالي ) (1)
أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين حتى قلت
( كأن مثار النقع . . . البيت ** )
وقد كرره بشار فقال
( خلقت سماء فوقنا بنجومها ** سيوفا ونقعا يقبض الطرف أقتما ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/30)
وقد أخذ هذا المعنى منصور النمري فقال وأحسن
( ليل من النقع لا شمس ولا قمر ** إلا جببنك والمذروبة الشرع ) (1)
ومسلم بن الوليد أيضا حيث يقول
( في عسكر تشرق الأرض الفضاء به ** كالليل أنجمه القضبان والأسل ) (1)
ولمؤلفه رحمه الله من قصيدة عثمانية مظفرية
( والنقع ليل سماء لا نجوم له ** إلا الأسنة والهندية البتر ) (1)
وله في معناه من قصيدة مظفرية أيضا مع زيادة مخترعة فيما يظن
( يعقد النقع فوقها سحبا كالليل فيه السيوف أضحت نجوما ** )
( فمتى ما رأت سواد شياطين بغاة الحروب عادت رجوما ** ) + الخفيف +
وابن المعتز حيث قال
( إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا ** وسارت ورائي هاشم ونزار )
( وعم السماء النقع حتى كأنه ** دخان وأطراف الرماح شرار ) + الطويل +
وبعضهم أيضا حيث قال
( نسجت حوافرها سماء فوقها ** جعلت أسنتها نجوم سمائها ) + الكامل +
وأبو الطيب المتنبي حيث قال
( فكأنما كسي النهار بها دجى ** ليل وأطلعت الرماح كواكبا ) + الكامل +
وقد نقله إلى مثال آخر فقال
( تزور الأعادي في سماء عجاجة ** أسنتها في جانبيها الكواكب ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(2/31)
وقد ضمنه سيف الدين بن المشد فقال
( كأن دخان العود والند بيننا ** وأقداحنا ليل تهاوى كواكبه )
( ولاحت لنا شمس العقار فمزقت ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) (1)
والبرهان القيراطي ضمن المصراع الأخير وإن كان من غير هذه القصيدة بقوله وأجاد
( ولما بدا والليل أسود فاحم ** قد انتشرت في الخافقين ذوائبه )
( أضاء ببدر الثغر عند ابتسامه ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) (1)
78
( والشمس كالمرآة في كف الأشل ** )
هو من الرجز واختلف في قائله فقيل الشماخ وقيل ابن أخيه وقيل أبو النجم وقيل ابن المعتز
والأشل هو الذي يبست يده أو ذهبت
والشاهد فيه مجيء المركب الحسي في الهيآت التي تقع عليها الحركة من الاستدارة والاستقامة وغيرها ويعتبر فيها التركيب ويكون ما يجيء في تلك الهيآت على وجهين أحدهما أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم كالشكل
____________________
1- الطويل
(2/32)
واللون والثاني أن تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها فالأول كما في البيت ووجه الشبه من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة مع تموج الإشراق واضطرابه بسبب تلك الحركة حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض فالشمس إذا أحد الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدية إلى هذه الهيئة وكذلك المرآة إذا كانت في كف الأشل
وما أعدل قول المعوج الشاعر في معناه
( كأن شعاع الشمس في كل غدوة ** على ورق الأشجار أول طالع )
( دنانير في كف الأشل يضمنها ** لقبض فتهوي من فروج الأصابع ) (1)
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب المتنبي
( وألقى الشرق منها في ثيابي ** دنانيرا تفر من البنان ) + الوافر +
واخذه أيضا القاضي عبد الرحيم الفاضل فقال
( والشمس من بين الأرائك قد حكت ** سيفا صقيلا في يدرعشاء ) + الكامل +
وما أبدع قول الشهاب التلعفري
( أفدي الذي زارني في الليل مستترا ** أحلى من الأمن عند الخائف الدهش )
( ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها ** مرآة تبر بدت في كف مرتعش ) + البسيط +
وبديع قول إدريس بن اليماتي العبدي
( قبلة كانت على دهش ** أذهبت ما بي من العطش )
( ولها في القلب منزلة ** لو عدتها النفس لم تعش )
( طرقتني والدجى لابس ** خلعا من جلدة الحبش )
( وكأن النجم حين بدا ** درهم في كف مرتعش ) + المديد +
____________________
1- الطويل
(2/33)
وقول النامي
( سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ** على الأرض إلا مثل نثر الدراهم ) (1)
79
( وكان البرق مصحف قار ** فانطباقا مرة وانفتاحا )
البيت لابن المعتز من قصيدة من المديد وأولها
( عرف الدار فحيا وناحا ** بعدما كان صحا واستراحا )
( ظل يلحاه العذول ويأبى ** في عنان العذل إلا جماحا )
( علموني كيف أسلو وإلا ** فخذوا من مقلتي الملاحا )
( من رأى برقا يضيء التماحا ** ثقب الليل سناه فلاحا ) + المديد +
وبعده البيت وبعده
( لم يزل يلمع بالليل حتى ** خلته نبه فيه صباحا )
( وكأن الرعد فحل لقاح ** كلما يعجبه البرق صاحا ) + المديد +
____________________
1- الطويل
(2/34)
والبرق واحد بروق السحاب أو هو ضرب ملك السحاب وتحريكه إياه لينساق فترى النيران
والشاهد فيه الوجه الثاني وهو تجرد الحركة عن غيرها من الأوصاف مع اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له كأن يتحرك بعضه إلى اليمين وبعضه إلى الشمال وبعضه إلى العلو وبعضه إلى السفل ليتحقق التركيب وإلا لكان وجه الشبه مفردا وهو الحركة لا مركبا فحركة المصحف الشريف في انطباقه وانفتاحه فيها تركيب لأن المصحف يتحرك في الحالتين إلى جهتين في كل حالة إلى جهة
ومثله قول القلعي المغربي
( والسحب تلعب بالبروق كأنها ** قار على عجل يقلب مصحفا )
( قد قلدت بالنور أجياد الربا ** حليا وألبست الخمائل مطرفا ) (1)
وما أحسن قول بعضهم في وصف البرق
( عارض أقبل في جنح الدجى ** يتهادى كتهادي ذي الوجى )
( أتلفت ريح الصبا لؤلؤه ** فانبرى يوقد عنها سرجا )
( وكأن الرعد حادي مصعب ** كلما صال عليه وشجا )
( وكأن البرق كأس سكبت ** في لهاه المزن حتى لهجا )
( وكأن الجو ميدان وغى ** رفعت فيه المذاكي رهجا ) + الرمل +
وما أحسن قول ابن المعتز فيه أيضا
( رأيت فيها برقها منذ بدت ** كمثل طرف العين أو قلب وجب )
____________________
1- الكامل
(2/35)
( ثم حدا بها الصبا حتى بدا ** فيها لي البرق كأمثال الشهب )
( تحسبه فيها إذا ما انصدعت ** أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب )
( وتارة تحسبه كأنه ** أبلق مال جله حين وثب )
( حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ** حسبته سلاسلا من الذهب ) (1)
وقد ولد أبو العباس بن أبي طالب العربي من تشبيه البرق بالسلاسل توليدا بديعا فقال يصف ممدوحه بسرعة البديهة إذا كتب
( له قلم لو يجاري البروق ** لخلت السلاسل فيه قيودا ) + المتقارب +
وللأديب أبي حفص أحمد بن برد في السحاب والبرق
( ويوم تفنن في طيبه ** وجاءت مواقيته بالعجب )
( تجلى الصباح به عن حيا ** قد أسقى وعن زهر قد شرب )
( وما زلت أحسب فيه السحاب ** ونار بوارقه تلتهب )
( بخاتي توضع في سيرها ** وقد فزعت بسياط الذهب ) + المتقارب +
ولأبي عثمان الخالدي في مثله
( أدن من الدن لي فداك أبي ** واشرب واسق الكبير وانتخب )
( أما ترى الطل وهو يلمع في ** عيون نور تدعو إلى الطرب )
____________________
1- الرجز
(2/36)
( والصبح قد جردت صوارمه ** والليل قد هم منه بالهرب )
( والجو في حلة ممسكة ** قد كتبتها البروق بالذهب ) (1)
وللسري الرفاء في مثله
( غيوم تمسك أفق السماء ** وبرق يكتبها بالذهب ) + المتقارب +
وله أيضا وينسب للخالدي
( وبرق مثل حاشيتي رداء ** جديد مذهب في يوم ريح ) + الوافر +
وللخالدي فيه أيضا وأجاد
( ألا فاسقني والليل قد غاب نوره ** لغيبة بدر في الظلام غريق )
( وقد فضح الظلماء برق كأنه ** فؤاد مشوق مولع بخفوق ) + الطويل +
وقد سرقه من قول ابن المعتز
( أمنك سرى يا بشر طيف كأنه ** فؤاد مشوق مولع بخفوق ) + الطويل +
وسرقة السري الرفاء أيضا فقال من قصيدة
( أما ترى الصبح قد قامت عساكره ** في الشرق تنشر أعلاما من الذهب )
( والجو يختال في حجب ممسكة ** كأنما البرق فيها قلب ذي رعب ) + البسيط +
وما أحسن قوله فيه أيضا
( وحدائق يسبيك وشي برودها ** حتى تشبهها سبائب عبقر )
( يجري النسيم خلالها فكأنما ** غمست فضول ردائه في عنبر )
( باتت قلوب المحل تخفق بينها ** بخفوق رايات السحاب الممطر )
( من كل نائي الحجزتين مولع ** بالبرق داني الظلتين مشهر )
____________________
1- المنسرح
(2/37)
( تحدى بألسنة الرعود عشاره ** فتيسير بين مغرد ومزمجر )
( طارت عقيقة برقه فكأنما صدعت ممسك غيمه بمعصفر ) (1)
ولأبي القاسم الزاهي فيه أيضا
( الريح تعصف والأغصان تعتنق ** والمزن باكية والزهر معتبق )
( كأنما الليل جفن والبروق له ** عين من الشمس تبدو ثم تنطبق ) + البسيط +
ولبعضهم
( برق أطار القلب لما استطار ** أنار جنح الليل لما استنار )
( ذاب لجين المزن لما رمى ** معدنه منه بمقياس نار ) + السريع +
وابن المعتز هو عبد الله بن محمد وقيل الزبير المعتز بالله ابن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي الأمير الأديب صاحب النظم البديع والنثر الفائق أخذ الأدب والعربية عن المبرد وثعلب ومؤدبه أحمد بن سعيد الدمشقي ومولده في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين وهو أول من صنف في صنعة الشعر وضع كتاب البديع وهو أشعر بني هاشم على الإطلاق وأشعر الناس في الأوصاف والتشبهات وكان يقول إذا قلت كأن ولم آت بعدها بالتشبيه ففض الله فاي
____________________
1- الكامل
(2/38)
وحدث جعفر بن قدامة قال كنت عند ابن المعتز يوما وعنده سريه وكان يحبها ويهيم بها فخرجت علينا من صدر البستان في زمن الربيع وعليها غلالة معصفرة وفي يدها جنابي من باكورة باقلاء والجنابي لعبة للصبيان فقالت له يا سيدي تلعب معي جنابي فالتفت إلينا وقال على بديهته غير متفكر ولا متوقف
( فديت من مر يمشي في معصفرة ** عشية فسقاني ثم حياني )
( وقال تلعب جنابي فقلت له ** من جد بالوصل لم يلعب بهجران ) (1)
وأمر فغنى به
وحدث جعفر قال كان لعبد الله بن المعتز غلام يحبه وكان يغني غناء صالحا وكان يدعى بنشوان فجدر فجزع عبد الله لذلك جزعا شديدا ثم عوفي ولم يؤثر الجدري في وجهه أثرا قبيحا فدخلت عليه ذات يوم فقال لي يا أبا القاسم قد عوفي فلان بعدك وخرج أحسن مما كان وقلت فيه بيتين وغنت زرياب فيهما رملا ظريفا فاسمعهما إنشادا إلى أن تسمعهما غناء فقلت يتفضل الأمير أبده الله بإنشادي إياهما فأنشدني
( بي قمر جدر لما استوى ** فزاده حسنا وزالت هموم )
( أظنه غنى لشمس الضحى ** فنقطته طربا بالنجوم ) + السريع +
فقلت أحسنت والله أيها الأمير فقال لو سمعته من زرياب كنت أشد استحسانا له وخرجت زرياب فغنته لنا في طريقة الرمل غناء شربنا عليه عامة يومنا
قال وغضب هذا الغلام عليه فجهد أن يترضاه فلم تكن له فيه حيلة ودخلت عليه فأنشدني فيه
____________________
1- البسيط
(2/39)
( بأبي أنت قد تماديت ** في الهجر والغضب )
( واصطباري على صدودك ** يوما من العجب )
( ليس لي إن فقدت وجهك في العيش من أرب ** )
( رحم الله من أعان ** على الصلح واحتسب ) (1)
قال فمضيت إلى الغلام ولم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضيته له وجئته به فمر لنا يومئذ أطيب يوم وأحسنه وغنتنا زرياب في هذا الشعر رملا عجيبا
وحدث عبد الله بن موسى الكاتب قال دخلت على عبد الله بن المعتز وفي داره طبقات من الصناع وهو يبنيها ويبيضها فقلت له ما هذه الغرامة الجادة والكلفة فقال السيل الذي جاء من ليال أحدث في داري ما أحوج إلى هذه الغرامة الجادة والكلفة فقلت
( ألا من لنفس وأحزانها ** ودار تداعى بحيطانها )
( أظل نهاري في شمسها ** شقيا معنى ببنيانها )
( أسود وجهي بتبييضها ** وأهدم كيسي بعمرانها ) + المتقارب +
____________________
1- من مجزوء الخفيف
(2/40)
ومن هنا أخذ أبو الحسين الجزار قوله
( أكلف نفسي كل يوم وليلة ** شرورا على من لا أفوز بخيره )
( كما سود القصار في الشمس وجهه ** ليجهد في تبييض أثواب غيره ) (1)
وحدث جعفر بن قدامه قال كنت عند عبد الله بن المعتز ومعنا النميري فحضرت الصلاة فقام النميري فصلى صلاة خفيفة جدا ثم دعا بعد انقضاء صلاته وسجد سجدة طويلة جدا حتى استثقله جميع من حضر بسببها وعبد الله ينظر متعجبا ثم قال
( صلاتك بين الملا نقرة ** كما اختلس الجرعة الوالغ )
( وتسجد من بعدها سجدة ** كما ختم المزود الفارغ ) + المتقارب +
وقال كنا عند عبد الله بن المعتز يوما ومعنا النميري وعنده جارية لبعض بنات المعتز تغنيه وكانت محسنة إلا أنها كانت في غاية القبح فجعل عبد الله يجمشها ويتعاشق فلما قامت قال له النميري أيها الأمير سألتك بالله أتعشق هذه التي ما رأيت قط أقبح منها فقال وهو يضحك
( قلبي وثاب إلى ذا وذا ** ليس يرى شيئا فيأباه )
( يهيم بالحسن كما ينبغي ** ويرحم القبح فيهواه ) + السريع +
وقال كنت أشرب مع عبد الله بن المعتز في يوم من أيام الربيع بالعباسية والدنيا كالجنة المزخرفة فقال عبد الله
( حبذا آذار شهرا ** فيه للنور انتشار )
( ينقص الليل إذا حل ويمتد النهار ** )
____________________
1- الطويل
(2/41)
( وعلى الأرض اصفرار ** واخضرار واحمرار )
( فكان الروض وشي ** بالغت فيه التجار )
( نقشه آس ونسرين وورد وبهار ** ) (1)
وكتب ابن المعتز إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد استخلف مؤنس ابنه محمد بن عبيد الله على شرطة بغداد
( فرحت بما أضعافه دون قدركم ** وقلت عسى قد هب من نومه الدهر )
( فترجع فينا دولة طاهرية ** كما بدأت والأمر من بعده الأمر )
( عسى الله إن الله ليس بغافل ** ولا بد من يسر إذا ما انتهى العسر ) + الطويل +
فكتب إليه عبيد الله قصيدة منها
( ونحن لكم إن نالنا مس جفوة ** فمنا على لأوائها الصبر والعذر )
( فإن رجعت من نعمة الله دولة ** إلينا فمنا عندها الحمد والشكر ) + الطويل +
وجاء محمد بن عبيد الله المذكور بعقب هذا شاكرا لتهنئته ولم يعد إليه مدة طويلة فكتب إليه ابن المعتز يقول
( قد جئتنا مرة ولم تكد ** ولم تزر بعدها ولم تعد )
( لست ترى واجدا بنا عوضا ** فاطلب وجرب واستقص واجتهد )
( ناولنى حبل وصله بيد ** وهجره جاذب له بيد )
( فلم يكن بين ذا وذا أمد ** إلا كما بين ليلة وغد ) + المنسرح +
ولم يزل في طيب عيش ودعة من عوادي الزمان إلى أن قامت الدولة ووثبوا على المقتدر وخلعوه وأقاموا ابن المعتز فقال بشرط أن لا يقتل بسبب مسلم ولقبوه المرتضي بالله وقيل المنصف وقيل الغالب وقيل الراضي
فحدث المعافي بن زكريا الجريري قال لما خلع المقتدر وبويع ابن المعتز
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/42)
دخلوا على شيخنا محمد بن جرير رحمه الله فقال ما الخبر فقيل له بويع ابن المعتز قال فمن رشح للوزارة فقيل محمد بن داود قال فمن ذكر للقضاء قيل الحسن بن المثنى فأطرق ثم قال هذا الأمر لا يتم قيل وكيف قال كل واحد ممن سميتم فتقدم في معناه علي الرتبة والدنيا مولية والزمان مدبر وما أرى هذا إلا لاضمحلال وما أرى لمدته طولا
وبعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالتحول إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل هو إلى دار الخلافة فأجاب ولم يكن بقي معه غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن وغريب خاله وجماعة من الخدم فباكر الحسين بن حمدان دار الخلافة فقاتلها فاجتمع الخدم فدفعوه عنها بعد أن حمل ما قدر عليه من المال وسار إلى الموصل ثم قال الذين عند المقتدر يا قوم نسلم هذا الأمر ولا نجرب أنفسنا في دفع ما نزل بنا فنزلوا في الزوارق وألبسوا جماعة منهم السلاح وقصدوا المخرم وبه عبد الله بن المعتز فلما رآهم من حوله أوقع الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا منهزمين بلا حرب وخرج ابن المعتز فركب فرسا ومعه وزيره محمد بن داود وحاجبه يمن وقد شهر سيفه وهو ينادي معاشر العامة ادعوا لخليفتكم وأشاروا إلى الجيش ليتبعوهم إلى سامرا ليثبتوا أمرهم فلم يتبعهم أحد فنزل ابن المعتز عن دابته ودخل دار بن الجصاص الجوهري واختفى الوزير ابن داود والقاضي الحسن بن المثنى ونهبت دورهم ووقع النهب والقتل في بغداد وقبض المقتدر على الأمراء والقضاة الذين خلعوه وسلمهم إلى مؤنس الخازن فقتلهم واستقام الأمر للمقتدر واستوزر ابن الفرات ثم بعث جماعة فكبسوا دار ابن الجصاص وأخذوا ابن المعتز وابن الجصاص فصودر ابن الجصاص وحبس ابن المعتز ثم اخرج فيما بعد ميتا ورثاه علي بن محمد بن بسام بقوله
( لله درك من ملك بمضيعة ** ناهيك في العقل والآداب والحسب )
____________________
(2/43)
( ما فيه لو لا ولا ليت تنقصه ** وإنما أدركته حرفة الأدب ) (1)
وهو مأخوذ من قول أبي تمام الطائي
( ما زلت أرمي بآمالي مطالبها ** لم يخلق العرض مني سوء مطلبي )
( إذا قصدت لشأو خلت أني قد ** أدركته أدركتني حرفة الأدب ) (1)
وقد تلاعب الشعراء بهذا المعنى فقال ابن الساعاتي
( عفت القريض فلا أسمو له أبدا ** حتى لقد عفت أن أرويه في الكتب )
( هجرت نظمي له لا من مهانته ** لكنها خيفة من حرفة الأدب ) (1)
وقال ابن قلاقس
(
( لا أقتضيك لتقديم وعدت به ** من عادة الغيث أن يأتي بلا طلب )
( عيون جاهك عني غير نائمة ** وإنما أنا أخشى حرفة الأدب ) (1)
وذكرت بهذا ما أنشدنيه بعض أدباء العصر متسليا حين قعدت الأحوال وقامت الأهوال وهو الشهاب ابن محمود النابلسي رحمه الله تعالى
( عبد الرحيم أضاعوا ** بدولة ضيعته )
( ما فيه لو ولا ليت ** إنما أدركته ) + المجتث +
رجع إلى أخبار ابن المعتز رحمه الله
قال بعض من كان يخدمه أنه خرج يوما يتنزه ومعه ندماؤه وقصد باب الحديد وبستان الناعورة وكان ذلك آخر أيامه فأخذ خزقة وكتب على الجص
____________________
1- البسيط
(2/44)
( سيقا لظل زماني ** ودهري المحمود )
( ولي كليلة وصل ** قدام يوم صدود ) (1)
قال وضرب الدهر ضرباته ثم عدت بعد قتله فوجدت خطه خفيا وتحته مكتوب
( أف لظل زماني ** وعيشي المنكود )
( فارقت أهلي وإلفي ** وصاحبي وودودي )
( ومن هويت جفاني ** مطاوعا لحسودي )
( يا رب موتا وإلا ** فراحة من صدود ) (1)
ويقال أنه لما سلم لمؤنس الخادم ليهلكه أنشد
( يا نفس صبرا لعل الخير عقباك ** خانتك من بعد طول الأمن دنياك )
( مرت بنا سحرا طير فقلت لها ** طوباك يا ليتني إياك طوباك )
( إن كان قصدك شوقا بالسلام على ** شاطئ الفرات أبلغي إن كان مثواك )
( من موثق بالمنايا لا فكاك له ** يبكي الدماء على إلف له باكي ) + البسيط +
إلى أن قال
( أظنه آخر الأيام من عمري ** وأوشك اليوم أن يبكي له الباكي )
ومن نثره الجاري مجرى الحكم والأمثال من تجاوز الكفاف لم يغنه الإكثار ربما أورد الطمع ولم يصدر من ارتحل الحرص أضناه الطلب
____________________
1- المجتث
(2/45)
الحظ يأتي من لا يأتيه أشقى الناس أقربهم من السلطان كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إلى الاحتراق من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة يكفيك للحاسد غمه بسرورك
ومن شعره
( وإني لمعذور على طول حبها ** لأن لها وجها يدل على عذري )
( إذا ما بدت والبدر ليلة تمه ** رأيت لها فضلا مبينا على البدر )
( وتهتز من تحت الثياب كأنها ** قضيب من الريحان في الورق الخضر )
( أبى الله إلا أن أموت صبابة ** بساحرة العينين طيبة النشر ) (1)
ومنه
( من لي بقلب صيغ من صخرة ** في جسد من لؤلؤ رطب )
( جرجت حديه بلحظي فما ** برحت حتى اقتص من قلبي ) + السريع +
ومنه ويعزى لغيره
( تفقد مساقط الخظ المريب ** فإن العيون وجوه القلوب )
( وطالع بوادره في الكلام ** فإنك تجني ثمار الغيوب ) + المتقارب +
ومنه
( سابق إلى مالك وراثه ** ما المرء في الدنيا بلباث )
( كم صامت تحفق أكياسه ** قد صاح في ميزان ميراث ) + السريع +
ومنه
( يا طارقي في الدجى والليل منبسط ** على البلاد بهيم ثابت الدعم )
( طرقت باب غنى طابت موارده ** ونائلا كانهمال العارض السجم )
____________________
1- الطويل
(2/46)
( حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ** حكم الخلائف آبائي على الأمم )
( فكل ما فيه مبذول لطارقه ** ولا زمام له إلا على الحرم ) (1)
ومنه قوله في القلم
( قلم ما أراه أم فلك يجري بما شاء قاسم ويسير ** )
( راكع ساجد يقبل قرطاسا ** كما قبل البساط شكور ) + الخفيف +
ومنه قول ابن طباطبا
( قلم يدور بكفه فكأنه ** فلك يدور بنحسه وسعوده ) + الكامل +
وقوله فيه أيضا وأجاد
( أقسمت بالقلم الحسام فلم يزل ** يردى به حي وينتاش الردي )
( وإذا رضيت فريقه أربى وإن ** أضمرت سخطا مج سمعت الأسود )
( فكأنه فلك بكفك دائر ** يجري النجوم بأنحس وبأسعد ) + الكامل +
وما أحسن قول الآخر فيه
( قلم يفل الجيش وهو عرمرم ** والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهبت له الآجام حين نشا بها ** كرم السيول وصولة الآساد ) + الكامل +
وقول التهامي فيه أيضا
( قلم يقلم ظفر كل ملمة ** ويكف كف حوادث الأيام ) + الكامل +
وقول أبي سعيد بن بوقة
( قلم يمج على العداة سمامه ** لكنه للمرتجين سماء )
( كم قد أسلت به لعبدك ريقة ** سوداء فيها نعمة بيضاء ) + الكامل +
ومحاسن ابن المعتز كثيرة وكان قتله في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين رحمه الله وسامحه
____________________
1- البسيط
(2/47)
80
( يقعي جلوس البدوي المصطلى ** )
قائله المتنبي من أرجوزة قالها ارتجالا في مجلسه يصف كلبا أخذ ظبيا وحده بغير صقر وأولها
( ومنزل ليس لنا بمنزل ** ولا لغير الغاديات الهطل )
( ندى الخزامى ذفر القرنفل ** محلل ملوحش لم يحلل )
( عن لنا فيه مراعي مغزل ** محين النفس بعيد الموئل )
( كأنه مضمخ بصندل ** معترضا بمثل قرن الأيل )
( يحول بين الكلب والتأمل ** فحل كلابي وثاق الأحبل )
( عن أشدق مسوجر مسلسل ** أقب ساط شرس شمردل )
( منها إذا يثغ له لا يغزل ** مؤجد الفقرة رخو المفصل )
( له إذا أدبر لحظ المقبل ** يعدو إذا أحزن عدو المسهل )
( إذا تلا جاء المدى وقد تلي ** )
وبعده البيت وبعده
____________________
(2/48)
( بأربع مجدولة لم تجدل ** فتل الأيادي ربذات الأرجل )
( آثارها أمثالها في الجندل ** يكاد في الوثب من التفتل )
( يجمع بين متنه والكلكل ** وبين أعلاه وبين الأسفل )
وهي طويلة
والإقعاء الجلوس على الأليتين والمصطلى المتدفئ بالنار
والشاهد فيه وقوع التركيب في هيئة السكون لوجه الشبه من الهيئة الحاصلة من موقع كل عضو من الكلب في إقعائه فإنه يكون لكل عضو منه موقع خاص والمجموع صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع وكذلك صورة جلوس البدوي عند الاصطلاء بالنار الموقدة على الأرض
وفي مثل ذلك قول الأخيطل الأهوازي يصف مصلوبا
( كأنه عاشق قد مد صفحته ** يوم الفراق إلى توديع مرتحل )
( أو قائم من نعاس فيه لوثته ** مواصل لتمطيه من الكسل ) (1)
شبهه بالمتمطي المواصل لتمطية مع التعرض لسببه وهو اللوثة والكسل فنظر إلى الجهات الثلاث فلطف بحسب التركيب والتفصيل بخلاف تشبيهه بالمتمطي فإنه قريب التناول يقع في نفس الرائي للمصلوب لكونه أمرا جليا
وقد أحسن ابن الرومي في وصف المصلوب بقوله
( كأن له في الجو حبلا يبوعه ** إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل )
( يعانق أنفاس الرياح مودعا ** وداع رحيل لا يحط له رحل ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(2/49)
وللبحتري فيه
( فتراه مطردا على أعواده ** مثل اطراد كواكب الجوزاء )
( مستشرفا للشمس منتصبا لها ** في أخريات الجذع كالحرباء ) (1)
ولابن المعتز فيه
( أرانيك الإله قرين جذع ** يضمك غير ضم الالتزام )
( كلوطي له أير طويل ** يفخد للمواجر من قيام ) + الوافر +
ولإبراهيم بن المهدي فيه
( كأنه شلو كبش والهجير له ** تنور شاوية والجذع سفود ) + البسيط +
ولابن حمديس فيه
( ومرتفع في الجذع إذ حط قدره ** أساء إليه ظالم وهو محسن )
( كذي غرق مد الذراعين سابحا ** من الجو بحرا عومه ليس يمكن )
( وتحسبه من جنة الخلد دانيا ** يعانق حورا لا تراهن أعين ) + الطويل +
وما أحسن قول ابن الأنباري في ابن بقية الوزير لما صلب من أبيات
( كأن الناس حولك حين قاموا ** وفود يديك أيام الصلات )
( كأنك قائم فيهم خطيبا ** وكلهم قيام للصلاة ) + الوافر +
وقد أخذ معنى البيت الأول من قول ابن المعتز
( وصلوا عليه خاشعين كأنهم ** وفود وقوف للسلام عليه ) + الطويل +
____________________
1- الكامل
(2/50)
ولعمر الخراط فيه
( انظر إليه كأنه في وصفه ** متظلم لحظ السماء بطرفه )
( بسط اليدين كأنه يدعو على ** من قد أشار على الأمير بحتفه ) (1)
وللفقيه عمارة اليمني فيه
( ومد على صليب الصلب منه ** يمينا لا تطول إلى شمال )
( ونكس رأسه لعتاب قلب ** دعاه إلى الغواية والضلال ) + الوافر +
ومن العجيب أنه صلب بعد قوله هذا بقليل صلبه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فكانت هذه الكلمات كالفأل عليه وله في معناه أيضا
( ورأت يداه عظيم ما جنتا ** ففررن ذي شرقا وذي غربا )
( وأمال نحو الصدر منه فما ** ليلوم في أفعاله القلبا ) (1)
81
( كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ** فلما رأوها أقشعت وتجلت )
البيت من الطويل ولا أعرف قائله
والمعنى أبرقت الغمامة للقوم فحذف الجار وأوصل الفعل ومعنى أقشعت وتجلت تفرقت وانكشفت
والشاهد فيه المركب العقلي من وجه الشبه وانه قد ينزع من متعدد فيقع الخطأ لوجوب انتزاعه من اكثر كما إذا انتزع وجه الشبه من الشطر الأول من البيت فإنه يكون خطأ لوجوب انتزاعه من جميعه فإن المراد تشبيه الحالة
____________________
1- الكامل
(2/51)
المذكورة في الأبيات السابقة على هذا البيت بظهور الغمامة لقوم عطاش ثم تفرقها وانكشافها بواسطة اتصال مطمع بانتهاء مؤنس لان البيت مثل في أن يظهر للمضطر إلى الشيء الشديد الحاجة إليه أمارة وجوده ثم يفوته ويبقي تحسره وزيادة ترجيه
وفي معناه قول مسلم بن الوليد
( وشمتك إذ أقبلت في عارض الغنى ** فأقلعت لم تنبض بري ولا محل ) (1)
وقول بشار بن برد
( أظلت علينا منك يوما سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطأ رشاشها )
( فلا غيمها يجلي فييأس طامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها ) (1)
وقوله
( لمروان مواعد كاذبات ** كما برق الحياء وما استهلا ) + الوافر +
والأصل فيه قول الأحوص
( وكنت وما أملت منك كبارق ** لوى قطره من بعد ما كان غيما ) (1)
وما أحسن قول بعضهم
( ألا إنما الدنيا كظل غمامة ** إذا ما رجاها المستهل اضمحلت )
( فلا تك مفراحا إذا هي أقبلت ** ولا تك محزانا إذا ما تولت ) (1)
ولابن الطراوة النحوي في معنى البيت وقد خرجوا ليستسقوا على إثر قحط في يوم غامت سماؤه فزال ذلك عند خروجهم
( خرجوا ليستسقوا وقد نشأت ** بحرية قمن بها السح )
( حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ** وبدا لأعينهم بها نضح )
( كشف الغمام إجابة لهم ** فكأنهم خرجوا ليستصحوا ) + الكامل +
وقد سبقه إلى ذلك أبو علي المحسن التنوخي فقال
____________________
1- الطويل
(2/52)
( خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ** وقد كاد هدب الغيم أن يلبس الأرضا )
( فلما بدا يدعو تقشعت السما ** فما تم إلا والغمام قد ارفضا ) (1)
ومنه قول بعضهم
( لما بدا وجه السماء لهم ** متجهما لم يبد أنواء )
( قاموا ليستسقوا الإله لهم ** غيثا فلم يسقيهم الماء ) + الكامل +
82
( فإن تفق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال )
البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة من الوافر يرثي بها والدة سيف الدولة بن حمدان أولها
( نعد المشرفية والعوالي ** وتقتلنا المنون بلا قتال )
( ونرتبط السوابق مقربات ** وما ينجين من خبب الليالي ) + الوافر + وهي طويلة وقبل البيت قوله يخاطب سيف الدولة
( رأيتك في الذين أرى ملوكا ** كأنك مستقيم في محال )
حكى أن المتنبي قيل له إن المحال لا يطابق الاستقامة ولكن القافية ألجأتك إلى ذلك فلو فرض أنك قلت كأنك مستقيم في اعوجاج كيف كنت تصنع في الثاني فقال ولم يتوقف فإن البيض بعض دم الدجاج فاستحسن هذا من بديهته
والشاهد فيه بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه فإنه أراد أن يقول إن الممدوح
____________________
1- الطويل
(2/53)
قد فاق الناس بحيث لم يبق بينه وبينهم مشابهة بوجه بل صار أصلا برأسه وجنسا بمفرده وهذا في الظاهر كالممتنع لاستبعاد أن تتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع إلى أن يصير كأنه ليس منها فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها بأن شبه حاله بحال المسك الذي هو من الدماء ثم إنه لا يعد منها لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم ويسمى مثل هذا تشبيها ضمنيا أو مكنيا عنه لدلالة البيت عليه ضمنا
وقد أحسن السراج الوراق تضمينه بقوله
( وأصيد ظل يدرك يوم صيد ** طرائده بجرد كالسعالي )
( فإن عبقت لنا يمناه مسكا ** فإن المسك بعض دم الغزال ) (1)
والشهاب ابن بنت الأعز بقوله
( وقالوا بالعذار تسل عنه ** وما أنا عن غزال الحسن سالي )
( وإن أبدت لنا خداه مسكا ** فإن المسك بعض دم الغزال ) (1)
ويشبه قول أبي الطيب المتنبي هنا في سيف الدولة قوله في عضد الدولة
( ولولا كونكم في الناس كانوا ** هراء كالكلام بلا معان ) (1)
ومثله قول يحيى بن بقي
( هل يستوي الناس قالوا كلنا بشر ** فالمندل الرطب والطرفاء أعواد ) + البسيط +
وللغزي في مثله
( فلا غرو إن كنت بعض الورى ** فإن اليلنجوج بعض الحطب ) + المتقارب +
____________________
1- الوافر
(2/54)
ومنه قول خلف بن عبد العزيز النحوي
( ما أنت بعض الناس إلا مثل ما ** بعض الحصا الياقوتة الحمراء ) (1)
وللحصري فيه
( أبا بكر إن أصبحت بعض ملوكهم ** فإن الليالي بعضها ليلة القدر ) + الطويل +
ومثله قول ابن قلاقس وأجاد
( أنشرت من آبائك الصيد الأولى ** ذكرا لسان الدهر ناشر نشره )
( كرموا فزدت عليهم فكأنهم ** شهر الصيام وأنت ليلة قدره ) (1)
ومثله قول التهامي
( لقد شرف الرحمن قدرك في الورى ** كما في الليالي شرفت ليلة القدر )
( وإن كنت من جنس البرايا وفقتهم ** فللمسك نشر ليس يوجد في العطر ) + الطويل +
وما أحسن قول شيخ الشيوخ رحمه الله
( فاقت بيوسفها الدنيا وفاح لها ** طيب طوى المسك من نشر لها أرج )
( فإن يشاركه في اسم الملك طائفة ** فإن شمس الضحى من جملة السرج ) + البسيط +
ومثله قول عبد الصمد بن بابك
( تقاعس عنك الفاخرون فأحجموا ** وخيل المغاني غير خيل المواكب )
( فإن زعم الأملاك أنك منهم ** فخارا فإن الشمس بعض الكواكب ) + الطويل +
ومن البديع في معناه قول ابن شرف القيرواني
( سلك الورى آثار فضلك فانثنى ** متكلف عن مسلك مطبوع )
( أبناء جنسك في الحلى لا في العلا ** وأقول قولا ليس بالمدفوع ) (1)
أبدا ترى البيتين يختلفان في المعنى ويتفقان في التقطيع
____________________
1- الكامل
(2/55)
وفي مقلوب معنى البيت قول الصاحب بن عباد يهجو
( أبوك أبو علي ذو اعتلاء ** إذا عد الكرام وأنت نجله )
( وإن أباك إذ تعزى إليه ** لكالطاووس تقبح منه رجله ) (1)
83
( ولا زور دية تزهو بررقتها ** وسط الرياض على حمر اليواقيت )
( كأنها وضعاف القضب تحملها ** أوائل النار في أطراف كبريت )
البيتان لابن الرومي يصف البنفسج وقبلهما
( بنفسج جمعت أوراقه فحكى ** كحلا تشرب دمعا يوم تشتيت )
وهي من قصيدة من البسيط
والشاهد فيهما كون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه فإن صورة اتصال النار بأطراف الكبريت يندر حضورها في الذهن عند حضور صورة البنفسج فيستطرف لمشاهدة عناق بين صورتين متباعدتين غاية التباعد فإنه أراك شبها لنبات غض يرف وأوراق رطبة من لهب نار استولى عليه اليبس ومبني الطبائع على أن الشيء إذا ظهر من موضع لم يعهد ظهوره منه كان ميل النفوس إليه أكثر وهي بالشغف به وأجدر
وهذا البيتان من نادر التشبيه وغريبه وليس يعدلهما إلا قول النميري
____________________
1- الوافر
(2/56)
( بنفسج بذكي المسك مخصوص ** ما في زمانك إن وافاك تنغيص )
( كأنما شغل الكبريت منظره ** أوخد أغيد بالتخميش مقروص ) (1)
وقول الآخر
( ما زلت من شغفي ألمع كفها ** وذراعها بالقرص والآثار )
( حتى جعلت أديمها وكأنما ** غرس البنفسج في نقا الجمار ) + الكامل +
وقد لطف ابن كيغلغ في استعارة المعنى فقال
( لما التقينا للوداع وأعربت ** عبراتنا عنا بدمع ناطق )
( فرقن بين محاجر ومعاجر ** وجمعن بين بنفسج وشقائق ) + الكامل +
واستعارة أبو تمام في قوله
( لها من لوعة البين التدام ** يعيد بنفسجا ورد الخدود ) + الوافر +
وقوله التدام مما أخذ عليه به في جملة ما أخذ
84
( وبدا الصباح كأن غرته ** وجه الخليفة حين يمتدح )
البيت لمحمد بن وهيب الحميري من قصيدة من الكامل يمدح بها المأمون أولها
( العذر إن أنصفت متضح ** وشهود حبك أدمع سفح )
____________________
1- البسيط
(2/57)
( وإذا تكلمت العيون على ** إعجامها فالسر مفتضح )
( فضحت ضميرك عن ودائعه ** إن الجفون نواطق فصح )
( ربما أبيت معانقي قمر ** للحسن فيه مخايل تضح )
( نشر الجمال على محاسنه ** بدعا وأذهب همه الفرح )
( يختال في حلل الشباب به ** مرح وداؤك أنه مرح )
( ما زال يلثمني مراشفه ** ويعلني الإبريق والقدح )
( حتى استرد الليل خلعته ** ونشا خلال سوادة وضح ) (1)
وبعده البيت ثم أنه يقول فيها
( نشرت بك الدنيا محاسنها ** وتزينت بصفاتك المدح )
( وكأن ما قد غاب عنك له ** بإزاء طرفك عارضا شبح )
( وإذا سلمت فكل حادثة ** جلل فلا بؤس ولا ترح )
والشاهد في البيت إيهام أن المشبه به أتم من المشبه ويسمى التشبيه
____________________
1- الكامل
(2/58)
المقلوب فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والضياء وفي قوله حين يمتدح دلالة على اتصاف الممدوح بمعرفة حق المادح وتعظيم شأنه عند الحاضرين بالإصغاء إليه والارتياح له وعلى كونه كاملا في الكرم يتصف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح
وفي معناه قول البحتري
( كأن سناها بالعشي لصبحها ** تبسم عيسى حين يلفظ بالوعد ) (1)
وتقدم ذكر ابن وهيب في شواهد المسند
85
( تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ** فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب )
( فوالله ما أدري أبالخمر أسبلت ** جفوني أم من عبرتي كنت أشرب )
البيتان لأبي إسحاق الصابي من الطويل ورأيت في اليتيمة البيت الأول بلفظ تورد بدل تشابه
والشاهد فيهما ترك التشبيه والعدول إلى الحكم بالتشابه ليكون كل واحد من الشيئين مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح أحد المتساويين في وجه الشبه فإن الشاعر لما اعتقد التساوي بين الخمر والدمع ولم يعتقد أن أحدهما زائد في الحمرة والآخر ناقص يلحق به حكم بينهما بالتشابه وترك التشبيه
وفي معناه قول الصاحب بن عباد
____________________
1- الطويل
(2/59)
( رق الزجاج وراقت الخمر ** وتشابها فتشاكل الأمر )
( فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر ) (1)
وقوله أيضا من أبيات
( متغايرات قد جمعن وكلها ** متشاكل أشباحها أرواح )
( وإذا أردت مصرحا تفسيرها ** فالراح والمصباح والتفاح )
( لم يعلم الساقي وقد جمعن لي ** من أي هذي تملأ الأقداح ) (1)
ومثله ما كتب به أبو الوليد بن زيدون إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية مع تفاح أهداه إليه
( يا من تزينت السيادة ** حين ألبس ثوبها )
( جاءتك جامدة المدام ** فخذ عليها ذوبها ) + من مجزوء الكامل +
وهو مأخوذ من قول الخليع
( الراح تفاح جرى ذائبا ** كذلك التفاح راح جمد )
( فاشرب على جامدة ذوبه ** ولا تدع لذة يوم لغد ) + السريع +
وللسري الرفاء في معناه
( وقد أضاءت نجوم مجلسنا ** حتى اكتسى غرة وأوضاحا )
( لو جمدت راحنا اغتدت ذهبا ** أو ذاب تفاحنا اغتدى راحا ) + المنسرح +
ولطاهر العتابي في هذا المعنى
( أيا ليلة قد بت أهزم بردها ** بجيشين من خمر عتيق ومن جمر )
____________________
1- الكامل
(2/60)
( فطورا أظن الخمر من ذوب جمرها ** وطورا أظن الجمر من جمد الخمر ) (1)
والصابي هو إبراهيم بن هلال بن هارون الحراني قال في حقه أبو منصور الثعالبي هو أوحد العراق في البلاغة ومن به تثنى الخناصر في الكتابة وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية من البراعة في الصناعة وكان قد بلغ التسعين في خدمة الخلفاء وخلافة الوزراء وتقلد الأعمال الجلائل مع ديوان الرسائل وحلب الدهر أشطره وذاق حلوه ومره ولابس خيره ومارس شره ورئس ورأس وخدم وخدم ومدحه شعراء العراق في جملة الرؤساء وشاع ذكره في الآفاق ودون له من الكلام البهي النقي العلوي ما تناثرت درره وتكاثرت غرره وفيه يقول بعض أهل العصر
( أصبحت مشتاقا حليف صبابة ** برسائل الصابي أبي إسحاق )
( صوب البلاغة والحلاوة والحجى ** ذوب البراعة سلوة العشاق )
( طورا كما رق النسيم وتارة ** يحكي لنا الأطواق في الأعناق )
( لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ** كتبت بدائعه على الأحداق ) + الكامل +
ويقول أيضا
( يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ** يهمي على حجب الفؤاد الوجم )
( لولا تعلله بكأس مدامة ** ورسائل الصابي وشعر كشاجم ) + الكامل +
____________________
1- الطويل
(2/61)
ويحكى أن الخلفاء والملوك والوزراء راودوه كثيرا على الإسلام وأداروه بكل حيلة وتمنية جميلة حتى إن السلطان بختيار عرض عليه الوزارة إن أسلم فلم يهده الله تعالى للإسلام كما هداه إلى محاسن الكلام وكان يعاشر المسلمين أحسن عشرة ويخدم الأكابر أوقع خدمة ويساعدهم على صيام شهر رمضان ويحفظ القرآن الكريم حفظا يدور على طرف لسانه وسن قلمه وكان في أيام شبابه واقتباله أحسن حالا وأرخى بالامنه في أيام استكماله وفي زمن اكتهاله أورى زندا وأسعد جدا منه حين مسه الكبر وأخذ منه الهرم ففي ذلك يقول من قصيدة في فنها فريدة كتب بها إلى الصاحب يشكو بثه وحزنه ويستمطر سحابة وحزنه بعد أن كان يخاطبه بالكاف ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء
( عجبا لحظي إذ أراه مصالحي ** عصر الشباب في المشيب مغاضبي )
( أمن الغواني كان حتى خانني ** شيخا وكان لدى الشبيبة صاحبي )
( أمع التضعضع ملني متجنبا ** ومع الترعرع كان غير مجانبي )
( يا ليت صبوته إلي تأخرت ** حتى تكون ذخيرة لعواقبي ) (1)
وكان المهلبي لا يرى الدنيا إلا به ويحن إلى براعته وتقدم قدمه ويصطنعه لنفسه ويستدعيه في أوقات أنسه فلما مات المهلبي وأبو إسحاق
____________________
1- الكامل
(2/62)
يلي ديوان الرسائل والخلافة على ديوان الوزارة اعتقل في جملة عمال المهلبي وأصحابه فمن قوله في ذلك الاعتقال من قصيدة
( يا أيها الرؤساء دعوة خادم ** أوفت رسائله على التعديد )
( أيجوز في حكم المروءة عندكم ** حبسي وطول تهدودي ووعيدي )
( أنسيتم كتبا شحنت فصولها ** بفصول در عنكم منضود )
( ورسائلا نفذت إلى أطرافكم ** عبد الحميد بهن غير حميد )
( يهتز سامعهن من طرب كما ** هز النديم سماع صوت العود ) (1)
ومنها
( قصرت خطاه خلاخل من قيده ** فتراه فيها كالفتاة الرود )
( يمشي الهوينى ذلة لا عزة ** مشي النزيف الخائف المزؤد )
ولما خلي عنه وأعيد إلى عمله لم يزل يطير ويقع وينخفض ويرتفع إلى أن دفع في أيام عضد الدولة إلى النكبة العظمى والطامة الكبرى إذ كان في صدره حزازات كثيرة من إنشا آت له عن الخليفة وعن بختيار نقمها منه واحتقدها عليه قيل كان من أقوى أسباب تغير عضد الدولة على أبي إسحاق بعد ميله إليه وضنه به فصل له من كتاب أنشأه عن الخليفة في شأن بختيار وهو وقد جدد له أمير المؤمنين مع هذه المساعي السوابق والمعالي
____________________
1- الكامل
(2/63)
السوامق التي يلزم كل دان وقاص وعام وخاص أن يعرف له حق ما أكرم به منها ويتزحزح عن رتبة المماثلة فيها فإن عضد الدولة أنكر هذه اللفظة أشد إنكار ولم يشك في التعريض به وأسرها في نفسه إلى أن ملك بغداد وسائر العراق وأمر أبا إسحاق بتأليف كتاب في أخبار الدولة الديلمية يشتمل على ذكر قديمه وحديثه وشرح سيره وحروبه وفتوحه فامتثل أمره وافتتح كتابه المترجم بالتاجي واشتغل به في منزله وأخذ يتأنق في تصنيفه وترصيفه وينفق من روحه على تقريظه وتشنيفه فرفع إلى عضد الدولة أن صديقا للصابي دخل إليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبديل والتبيض فسأله عما يعمل من ذلك فقال أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها فانضاف تأثير هذه الكلمة في قلب عضد الدولة إلى ما كان في نفسه من أبي إسحاق وتحرك من ضغنة الساكن وثار من سخطه الكامن فأمر أن يلقى تحت أرجل الفيلة فأكب جماعة من أرباب الدولة على الأرض يقبلونها بين يديه ويشفعون إليه في أمره ويتلطفون في استيهابه إلى أن أمر باستحيائه مع القبض عليه وعلى أسبابه واستصفاء أمواله فبقي في ذلك الاعتقال بضع سنين إلى أن تخلص في آخر أيام عضد الدولة وقد رزحت حاله وتهتك ستره
وكان الصاحب ابن عباد يحبه أشد الحب ويتعصب له ويتعهده على بعد الدار بالمنح والصابي يخدم حضرته بالمدح وكان الصاحب يتمنى انحيازه إليه وقدومه عليه ويضمن له الرغائب على ذلك إما تشوقا أو تشرفا وكان هو يحتمل ثقل الخلة وسوء أثر العطلة ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب بعد كونه من نظرائه وتحليه بالرياسة في أيامه
وكان الصاحب كثيرا ما يقول كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة
____________________
(2/64)
الأستاذ ابن العميد وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف وأبو إسحاق الصابي ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه
فأما الترجيح بين هذين الصادين أعني الصاحب والصابي فقد خاض فيه الخائضون وخب فيه المخبون ومن أشف ما سمعته من ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد والصابي يكتب كما يؤمر أي كما يراد وبين الحالين بون بعيد وكيف جرى الأمر فهما هما ولقد وقف فلك البلاغة بعدهما
ولنذكر نبذا من نثره ونظمه لتكون كالعنوان على محاسنه
فمن ذلك فصل له من كتاب إلى عضد الدولة في التهنئة بتحويل سنة أسأل الله مبتهلا لديه مادا يدي إليه أن يحيل على مولانا هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات والزيادات الغامرات ليكون كل دهر يستقبله وأمد يستأنفه موفيا على المتقدم له قاصرا عن المتأخر عنه ويوفيه من العمر أطوله وأبعده ومن العيش أعذبه وأرغده عزيزا منصورا محميا موفورا باسطا يده لا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحساد ساميا طرفه فلا يعضه إلا على لذة غمض ورقاد مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك فائزة قداحه فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك حق ينال أقصى ما تتوجه إليه أمنية صالحة وتسمو له همة طامحة
فصل من رسالته في وصف المتصيد والصيد وخيلنا كالأمواج المتدفقة والأطواد الموثقة متشوقة عاطية مستبقة جارية تشتاق الصيد وهي لا تطعمه وتحن إليه كأنه قضيم تقضمه وعلى أيدينا جوارح مؤللة المخالب والمناسر
____________________
(2/65)
مذربة النصال والخناجر طامحة الألحاظ والمناظر بعيدة المرامي والمطارح ذكية القلوب والنفوس قليلة القطوب والعبوس سابغة الأذناب كريمة الأنساب صلبة الأعواد قوية الأوصال تزيد إذا طعمت شرها وقرما وتتضاعف إذا شبعت كلبا ونهما فبينا نحن سائرون وفي الطلب ممعنون إذ وردنا ماء زرقا جمامه طامية أرجاؤه يبوح بأسراره صفاؤه وتلوح في قراره حصباؤه وأفانين الطير به محدقة وغوائبه عليه واقعة متغايرة الألوان والصفات مختلفات الأصوات واللغات فمن صريح خلص وتهذب نوعه ومن مشوب تهجن أو أقرف عرقه فلما أوفينا عليها أرسلنا الجوارح إليها كأنها رسل المنايا أو سهام القضايا فلم نسمع إلا مسميا ولم نر إلا مذكيا ثم عدنا لشأننا دفعات وأطلقنا مرات
ومن فصل منها ثم عدلنا عن مطارح الخيام إلى مسارح الآرام نستقرئ ملاعبها ونؤم مجامعها حتى أفضينا إلى أسراب لاهية بأطلائها راتعة بأكلائها ومعنا فهود أخطف من البروق وألقف من الليوث وامكر من الثعالب وأدب من العقارب وأنزى من الجنادب خمص الخصور قب البطون رقش المتون حمر الأماق خزر الأحداق هرت الأشداق عراض الجباه غلب الرقاب كاشرة عن أنياب كالحراب
وله فصل في ذكر الأقدار لله تعالى أقدار ترد في أوقاتها وقضايا تجري إلى غاياتها لا يرد شيء منها عن شأوه ومداه ولا يصددون مطلبه ومنحاه فهي كالسهام التي لا تثبت إلا في الأغراض ولا ترجع بالاعتراض والناس
____________________
(2/66)
فيها بين عطية يجب الشكر عليها ورزية يوثق بالعوض عنها
وله من فصل عن بختيار إلى سبكتكين الغزني ليت شعري بأي قدم توافينا وراياتنا خافقة على رأسك ومماليكنا عن يمينك وشمالك وخيلنا الموسومة بأسمائنا تحتك وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك
ومن فصل في ذكره هو أرق دنيا وأمانة وأخفض قدرا ومكانة واتم ذلا ومهانة واظهر عجزا وزمانة من أن تستقل به قدم في مطاولتنا أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا وهو في نشوره عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة وفيما نرجو من الظفر به كالظلامة المردودة
ومن ملح شعره قوله في الغزل وهو في معنى البيتين المستشهد بهما
( جرت الدموع دما وكأسي في يدي ** شوقا إلى من لج في هجراني )
( فتخالف الفعلان شارب قهوة ** يبكي دما وتشابه اللونان )
( فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ** وكأن ما في الكأس من أجفاني ) (1)
وقال
( لست أشكو هواك يا من هواه ** كل يوم يروعني منه خطب )
( مر ما مر بي من أجلك حلو ** وعذابي في مثل حبك عذب ) + الخفيف +
وقال
( إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ** حفنا عليك به ظلما وعدوانا )
( الغصن أحسن ما نلقاه مكتسيا ** وأنت أحسن ما نلقاك عريانا ) + البسيط +
____________________
1- الكامل
(2/67)
وقال
( مرضت من الهوى حتى إذا ما ** بدا ما بي لإخواني الحضور )
( تكنفني ذوو الإشفاق منهم ** ولاذوا بالدعاء وبالنذور )
( وقالوا للطبيب أشر فإنا ** نعدك للمهم من الأمور )
( فقال شفاؤه الرمان مما ** تضمنه حشاه من السعير )
( فقلت لهم أصاب بغير عمد ** ولكن ذاك رمان الصدور ) (1)
وقال
( ما أنس لا أنس ليلة الأحد ** والبدر ضيفي وأمره بيدي )
( قبلت منه فما مجاجته ** تجمع بين المدام والشهد )
( كأن مجرى سواكه برد ** وريقه ذوب ذلك البرد ) + المنسرح +
وقال في شمامة كافور
( وشمامة كالبدر عند اعتراضه ** وكالكوكب الدري عند انقضاضه )
( يود سواد العين من شغف بها ** لو اعتاضها مستبدلا ببياضه ) + الطويل +
وقال
( وحرورة الأحشاء تحسب أنها ** متيمة تشكو من الحب تبريجا )
( تناجيك نجوى يسمع الأنف وحيها ** وتجهله الأذن السمعية إذ يوحي )
( تحرق فيها الند عودا وبدأة ** فتأخذه جسما وتنفثه روحا ) + الطويل +
وقال في غلام له اسود اسمه رشد
( أبصرت في رشد وقد أحببته ** رشدي ولم أحفل بمن قد ينكر )
____________________
1- الوافر
(2/68)
( يا لائمي أعلى السواد تلومني ** من لونه وبه عليك المفخر )
( دع لي السواد وخذ بياضك إنني ** أدرى بما آتي وما أتخير )
( مثوى البصيرة في الفؤاد سواده ** والعين بالمسود منها تبصر )
( فالدين أنت مناظر فيه بذا ** وكذاك في الدنيا بهذي تنظر )
( بسواد ذينك تستضيء ولوهما ابيضا تغشاك الظلام الأكدر ** )
( فغدا بياضك وهو ليل دامس ** وغدا سوادي وهو فجر أنور ) (1)
وقال فيه أيضا
( قد قال رشد وهو أسود للذي ** ببياضه يعلو علو الخاتن )
( ما فحر خدك بالبياض وهل ترى ** أن قد أفدت به مريد محاسن )
( لو أن مني فيه خالا زانه ** ولو أن منه في خالا شانني ) (1)
ولقد تفنن الشعراء في مدح السودان وأكثروا فمن ذلك قول ابن الرومي من قصيدة طويله
( أكسبها الحب أنها صبغت ** صبغة حب القلوب والحدق ) + المنسرح +
وقول ابن خفاجة الندلسي أيضا
( وأسود يسبح في لجة ** لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في شكلها مقلة ** زرقاء والأسود إنسانها ) + السريع +
وقول الآخر
( يا أسودا يسبح في بركة ** فقت الورى حسنا وإحسانا )
____________________
1- الكامل
(2/69)
( كنت لحسن الخد خالا وقد ** صرت لعين العين إنسانا ) (1)
وقول شرف الدين بن عنين
( وماذا عليهم أن كلفت بأسود ** محلته بالقلب والعين منهم )
( وقد عابني قوم بتقبيل خده ** وما ذاك عيب أسود الركن يلثم )
( وما شانه ذاك السواد لأنه ** لغير الثنايا والخلائق معلم ) + الطويل +
وقال ابن رياح الملقب بالحجام
( يا لعبة بذوي الألباب لاعبة ** في أصل حسنك معنى غير متفق )
( خلقت بيضاء كالكافور ناصعة ** فصرت سوداء من مثواك في الحدق ) + البسيط +
وقال أحمد بن بكر الكاتب
( يا من فؤادي فيها ** متيما لا يزال )
( إن كان لليل بدر ** فأنت للصبح خال ) + المجتث +
وقال الوزير المغربي
( يا رب سوداء تيمتني ** يحسن في مثلها الغرام )
( كالليل تستهل المعاصي ** فيه ويستعذب الحرام ) + من مخلع البسيط +
وقريب منه قول ابن أبي الجهم
( غصن من الآبنوس أهدى ** من مسك دارين لي ثمارا )
( ليل نعيم أظل فيه ** للطيب لا أشتهي نهارا ) + من مخلع البسيط +
وما أحسن قول بعضهم مضمنا
( وسوداء الأديم إذا تبدت ** ترى ماء النعيم جرى عليه )
( رآها ناظري فصبا إليها ** وشبه الشيء منجذب إليه ) + الوافر +
____________________
1- السريع
(2/70)
وقال نجم الدين يعقوب بن صابر
( وجارية من بنات الحبوش ذات جفون صحاح مراض ** )
( تعشقها للتصابي فشبت ** غراما ولم أك بالشيب راضي )
( وكنت أعيرها بالسواد ** فصارت تعيرني بالبياض ) (1)
وقد أغرب ابن دفتر خوان بقوله
( إن لمعت ليلا نجوم السما ** بيضا على أدهم مرخى الإزار )
( وأوجب العكس مثالا لها ** في الأرض فالسود نجوم النهار ) + السريع +
رجع إلى شعر الصابي
قال يرثي ابنه سنانا
( أسعداني بالدمعة الحمراء ** جل ما حل بي عن البيضاء )
( يؤلم القلب كل فقد ولا مثل افتقاد الآباء للأبناء ** )
( كنت مني وكنت منك اتفاقا ** والتئاما مثل العصا واللحاء )
( كنت لليتم في أجمل مني ** فيك للثكل في أوان فنائي )
( ولئن كان من أخيك وأولادكما ** ما يغض من برحائي )
( فلعمري لربما هيجوا الشوق ** فزادوا في لوعتي وبكائي ) + الخفيف +
ألم فيه بقول ابن الرومي ولم يحسن إحسانه
____________________
1- المتقارب
(2/71)
( وإني وإن متعت بابني بعده ** لذاكره ما حنت النيب في نجد )
( وأولادنا مثل الجوارح أيما ** فقدناه كان الفاجع البين الفقد )
( لكل مكان لا يسد اختلاله ** مكان أخيه من جزوع ومن جلد )
( هل العين بعد السمع تكفي مكانه ** أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي ) (1)
وقال الصابي مفتخرا من قصيدة
( وقد علم السلطان أني أمينه ** وكاتبه الكافي السديد الموفق )
( أوازره فيما عرى وأمده ** برأي يريه الشمس والليل أغسق )
( يجدد بي نهج العلا وهو دارس ** ويفتح بي باب الهدى وهو مغلق )
( فيمناي يمناه ولفظي لفظه ** وعيني له عين بها الدهر يرمق )
( ولي فقر تضحي الملوك فقيرة ** إليها لدى أحداثها حين تطرق )
( أرد بها رأس الجموح فينثني ** وأجعلها سوط الحرون فيعنق )
( فإن حاولت لطفا فماء مروق ** وإن حاولت عنفا فنار تألق )
( يسلم لي قس وسحبان وائل ** ويرضى جرير مذهبي والفرزدق )
( فيغضي لنثري خاطب وهو مصقع ** ويعنو لنظمي شاعر وهو مفلق )
( معال لو الأعشى رآهن لم يقل ** وبات على النار الندى والمحلق ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/72)
وقال في المهلبي الوزير
( قل للوزير أبي محمد الذي ** قد أعجزت كل الورى أوصافه )
( لك في المحافل منطق يشفي الجوى ** ويسوغ في أذن الأديب سلافه )
( فكأن لفظك لؤلؤ متنخل ** وكأنما آذاننا أصدافه ) (1)
وقال أيضا
( تلوح نواجذي والكاس شربي ** وأشربها كأني مستطيب )
( وفوق السر لي جهر ضحوك ** وتحت الجهر لي سر كئيب )
( سأثبت إذ يصادمني زماني ** بركنية كما ثبت النحيب )
( وأرقب ما تجيء به الليالي ** ففي أثنائه فرج قريب ) + الوافر +
وقال أيضا في عضد الدولة
( لا تحسب الملك الذي أوتيته ** يفضي وإن طال الزمان إلى مدى )
( كالدوح في أفق السماء فروعه ** وعروقه متولجات في الندى )
( في كل عام يستجد شبيبة ** فيعود ماء العود فيه كما بدا )
( حتى كأنك دائر في حلقة ** فلكية في منتهاها المبتدا ) (1)
وكتب إلى عضد الدولة في يوم مهرجان مع اصطرلاب أهداه إليه
( أهدى إليك بنو الأموال واختلفوا ** في مهرجان جديد أنت مبليه )
( لكن عبدك إبراهيم حين رأى ** علو قدرك عن شيء يدانيه )
____________________
1- الكامل
(2/73)
( لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ** أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه ) (1)
ومن لطيف شعره قوله
( دفتري مؤنسي وفكري سميري ** ويدي خادمي وحلمي ضجيعي )
( ولساني سيفي وبطشي قريضي ** ودواتي غيثي ودرجي ربيعي ) + الخفيف +
ومثله قول أبي محمد الخازن
( فدفتري روضتي ومحبرتي ** غدير علمي وصارمي قلمي )
( وراحتي في قرار صومعتي ** تعلمني كيف موقع النعم ) + المنسرح +
وقال أبو إسحاق الصابي وهو في الحبس
( إذا لم يكن للمرء بد من الردى ** فأسهله ما جاء والعيش انكد )
( وأصعبه ما جاءه وهو راتع ** تطيف به اللذات والحظ مسعد )
( فإن أك سوء العيشتين أعيشها ** فإني إلى خير المماتين أقصد )
( وسيان يوما شقوة وسعادة ** إذا كان غبا واحدا لهما الغد ) + الطويل +
وقال
( لقد أخلقت جدتي الحادثات ** ومن عاش في ريبها يخلق )
( وبذلني صلعا شاملا ** من الشعر الفاحم الأغسق )
____________________
1- البسيط
(2/74)
( وقد كنت أمرد من عارضني ** فقد صرت أمرد من مفرقي ) (1)
وكتب إلى قاضي القضاة ابن معروف وكان قد زاره في معتقله رقعة نسختها
قوى دخول قاضي القضاة إلى نفسي وجدد أنسي وأغرب نحسي ووسع حبسي فدعوت الله له بما قد ارتفع إليه وسمعه فإن لم أكن أهلا لان يستجاب مني فهو أيده الله تعالى أهل لأن يستجاب فيه وأقول مع ذلك
( دخلت حاكم حكام الزمان إلى ** صنيعة لك رهن الحبس ممتحن )
( أخنت عليه خطوب جار جائرها ** حتى توفاه طول الهم والحزن )
( فعاش عن كلمات منك كن له ** كالروح عائدة منه إلى البدن ) + البسيط +
وكتب إلى بعض الرؤساء عرفت أن سيدنا الأستاذ الجليل أطال الله بقاءه يشتكي الثنايا
( فلو استطعت أخذت علة جسمه ** فقرنتها مني بعلة حالي )
( وجعلت صحتي التي تصف لي ** صفوا له مع صحة الإقبال )
( فتكون عندي العلتان كلاهما ** والصحتان له بغير زوال ) + الكامل +
وقال
( عهدي بشعري وكله غزل ** يضحك عنه السرور والجذل )
( أيام همي أحبة بهم القلب عن النائبات يشتغل ** )
( والآن شعري في كل داهية ** نيرانها في الضلوع تشتعل )
( أخرج من نكبة وأدخل في ** أخرى فنحسي بهن متصل )
____________________
1- المتقارب
(2/75)
( كأنها سنة مؤكدة ** لا بد من أن تقيمها الدول )
( فالعيش مر كأنه صبر ** والموت حلو كأنه عسل ) (1)
وقال يهجو
( أيها النابح الذي يتصدى ** بقبيح يقوله لجوابي )
( لا تؤمل أني أقول لك اخسأ ** لست أسخو بها لكل الكلاب ) + الخفيف +
وحكى أبو القاسم بن برهان قال دخلت على أبي إسحاق الصابي وكان قد لحقه وجع المفاصل وقد أبل والمجلس عنده حافل وأراد أن يريهم أنه قادر على الكتابة ففتح الدواة ليكتب فتطاولوا بالنظر إلى كتابته فوضع القلم وقال بديها
( وجع المفاصل وهو أيسر ما لقيت من الأذى ** )
( جعل الذي استحسنته ** واليأس من حظي كذا )
( والعمر مثل الكاس يرسب ** في أواخره القذى ) + الكامل +
وقد ألم بهذا المعنى أمين الدولة سبط التعاويذي وزاد فيه فقال
( فمن شبه العمر كأسا يقر ** قذاه ويرسب في أسفله )
( فإني رأيت القذى طافيا ** على صفحة الكأس من أوله ) + المتقارب +
والأمير سيف الدين بن المشد بقوله
( إن ترقى إلى المعالي أولو الفضل وساخت تحت الثرى السفهاء ** )
( فحباب المدام يعلو على الكأس ** محلا وترسب الأقذاء ) + الخفيف +
____________________
1- المنسرح
(2/76)
وما أحسن قول ابن زياد فيه أيضا
( باضطراب الزمان ترتفع الأنذال فيه حتى يعم البلاء ** )
( وكذا الماء راكدا فإذا حرك ثارت من قعره الأقذاء ** ) (1)
وقول الآخر
( بادر إلى العيش فالأيام راقدة ** ولا تكن لصروف الدهر تنتظر )
( فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ** صفوا وآخره في قعره كدر ) + البسيط +
ولما مات أبو إسحاق الصابي رثاه الشريف أبو الحسن الموسوي بقوله
( أعلمت من حملوا على الأعواد ** أرأيت كيف خبا ضياء النادي )
( جبل هوى لو خر في البحر اغتدى ** من وقعة متتابع الإزباد )
( ما كنت اعلم قبل حطك في الثرى ** أن الثرى يعلو على الأطواد ) + الطويل +
ومنها
( بعدا ليومك في الزمان فإنه ** أقذى العيون وفت في الأعضاد )
( لا تطلبي يا نفس خلا بعده ** فلمثله أعيا على المرتاد )
( فقدت ملاءمة الشكول بفقده ** وبقيت بين تباين الأضداد )
( ما مطعم الدنيا بحلو بعده ** أبدا وما ماء الحياة ببادي )
( لك في الحشا قبر وإن لم تأوه ** ومن الدموع روائح وغوادي )
( سلوا من الأبراد جسمك فانثنى ** جسمي يسل عليك في الأبراد )
____________________
1- الخفيف
(2/77)
ومنها
( الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن ** شرفي مناسبه ولا ميلادي )
( إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي ** فلأنت أعقلهم يدا بفؤادي )
( أولا تكن عالي الأصول فقد وفى ** عظم الجدود بسودد الأجداد ) (1)
وهي طويلة ورثاه بغير ذلك أيضا وقال وقد ليم على رثائه له إني رثيت علمه وكان سنه أربعا وثمانين سنة ومات ابنه المحسن على كفره أيضا وابن ابنه هلال أسلم بآخرة وتوفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
86
( يا صاحبي تقصيا نظريكما ** تريا وجوه الأرض كيف تصور )
( تريا نهارا مشمسا قد شابه ** زهر الربا فكأنما هو مقمر )
البيتان لأبي تمام الطائي من قصيدة من الكامل يمدح بها المعتصم أولها
( رقت حواشي الدهر فهي تمرمر ** وغدا الثرى في حلية يتكسر )
____________________
1- الطويل
(2/78)
( بذلت مقدمة المصيف حميدة ** ويد الشتاء جديدة لا تكفر )
( لولا الذي غرس الشتاء بكفه ** قاسى المصيف هشائما لا تثمر )
( كم ليلة آسى البلاد بنفسه ** فيها ويوم وبله متفجر )
( مطر يذوب الصخر منه وبعده ** صحو يكاد من الغضارة يقطر )
( غثيان فالأنواء غيث ظاهر ** لك وجهه والصحو غيث مضمر )
( وندى إذا ادهنت به لمم الثرى ** خلت السحاب أتاه له وهو معذر )
( أربيعنا في تسع عشرة حجة ** حقا لوجهك للربيع الأزهر )
( ما كانت الأيام تسلب بهجة ** لو أن حسن الروض كان يعمر )
( أولا ترى الأشياء إن هي غيرت ** سمجت وحسن الأرض حين تغير ) (1)
وبعده البيتان وبعدهما
( دنيا معاش للورى حتى إذا ** حل الربيع فإنما هي منظر )
( أضحت تصوغ بطونها لظهورها ** نورا تكاد له القلوب تنور )
( من كل زاهرة ترقرق بالندى ** فكأنها عين لديك تحدر ) (1)
وهي طويلة
____________________
1- الكامل
(2/79)
ومعنى تقصيا نظريكما أبلغا أقصى نظريكما وغاية ما تبلغانه واجتهدا في النظر وتصور أصلها تتصور فحذف إحدى التاءين
والشاهد فيهما تشبيه المركب بالمفرد فإنه شبه المشمس الذي اختلط به أزهار الربوات فنقصت باخضرارها من ضوء الشمس حتى صار يضرب إلى السواد بالليل المقمر فالمشبه مركب والمشبه به مفرد قيل ولا يخلو هذا من تسامح
87
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكرها العناب والحشف البالي )
البيت من الطويل وقائله امرؤ القيس من قصيدته السابقة في أول هذا الفن وقبله
( كاني بفتخاء الجناحين لقوة ** على عجل منها أطأطئ شمالي )
( تخطف خزان الأنيعم بالضحى ** وقد حجرت منها ثعالب أورال )
____________________
(2/80)
وبعده البيت وبعده
( فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ** كفاني ولم أطلب قليل من المال )
( ولكنما أسعى لمجد مؤثل ** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي )
( وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي ) (1)
والحشف أردأ التمر والضعيف الذي لا نوى له أو اليابس الفاسد
والشاهد فيه التشبيه الملفوف وهو أن يؤتي على طريق العطف أو غيره بالمشبهات أولا ثم بالمشبه بها فهنا شبه الرطب الطري من قلوب الطير بالعناب وبالبابس العتيق منها بالحشف البالي إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها ويقصد تشبيهها ولذا قال الشيخ عبد القاهر أنه إنما يتضمن الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه لا أن للجمع فائدة في عين التشبيه
وذكرت بهذا البيت ما ضمنه الجمال ابن نباته مجونا وهو
( دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ** فواخجلتي لما دنوت وإذلالي )
( وقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ** لدى وكرها العناب والحشف البالي ) (1)
88
( النشر مسك والوجوه دنانير ** وأطراف الأكف عنم )
البيت لمرقش الأكبر من قصيدة من السريع قالها في مرثية عم له أولها
( هل بالديار أن تجيب صمم ** لو أن حيا ناطقا كلم )
____________________
1- الطويل
(2/81)
( الدار وحش والرسوم كما ** رقش في ظهر الأديم قلم )
( ديار أسماء التي سلبت ** قلبي فعيني ماؤها يسجم )
( أضحت خلاء نبتها ثئد ** نور فيها زهره فاعتم )
( بل هل شجتك الظعن باكرة ** كأنهن النخل من ملهم ) (1)
وبعده البيت ومنها
( لسنا كأقوام خلائقهم ** نث الحديث ونهكة المحرم )
( إن يخصبوا يبغوا بخصبهم ** أو يجدبوا فهم به ألأم ) (1)
وهي قصيدة طويلة ليست بصحيحة الوزن ولا حسنة الروي ولا متخيرة اللفظ ولا لطيفة المعنى قال ابن قتيبة ولا أعلم فيها شيئا يستحسن إلا قوله النشر مسك . . . البيت
ويستجاد منها أيضا قوله
( ليس على طول الحياة ندم ** ومن وراء المرء ما يعلم )
____________________
1- السريع
(2/82)
النشر الريح الطيبة أو أعم أو ريح فم المرأة وأعطافها بعد النوم والعنم شجر لين الأغصان يشبه بنان الجواري وقيل هي أطراف الخروب الشامي عن أبي عبيدة وقيل هو شجر له أغصان حمر وقيل هو ثمر العوسج يكون أحمر ثم يسود إذا عقد ونضج
والشاهد فيه التشبيه المفروق وهو أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم آخر وأخر وهو واضح في البيت
ونظيره قول المتنبي
( بدت قمرا ومالت خوط بان ** وفاحت عنبرا ورنت غزالا ) (1)
وتبعه أبو القاسم الزاهي فقال
( سفرن بدورا وانتقبن أهلة ** ومسن غصونا والتفتن جآذرا )
( وأطلعن في الأجياد بالدر أنجما ** جعلن لحبات القلوب ضرائرا ) + الطويل +
وممن نسج على هذا المنوال إسماعيل الشاشي فإنه قال من قصيدة
( رأيت على أكوارنا كل ماجد ** يرى كل ما يبقى من المال مغرما )
( ندوم أسيافا ونعلو قواضبا ** وننقض عقبانا ونطلع أنجما ) + الطويل +
وقال أبو الحسن الجوهري في وصف الخمر إلا أنه ثلث التشبيه
( يقولون بغداد التي اشتقت نزهة ** تباكرها والعبقري المقيرا )
( إذا فض عنه الختم فاح بنفسجا ** وأشرق مصباحا ونور عصفرا ) + الطويل +
ولبعض الشعراء في غلام مغن
____________________
1- الوافر
(2/83)
( فديتك يا أتم الناس ظرفا ** وأصلحهم لمتخذ حبيبا )
( فوجهك نزهة الأبصار حسنا ** وشدوك متعة الأسماع طيبا )
( وسائلة تسائل عنك قلنا ** لها في وصفك العجب العجيبا )
( رنا ظبيا وغنى عندليبا ** ولاح شقائقا ومشى قضيبا ) (1)
ولابن الأثير الجزري
( منوع الحسن يبدي من محاسنه ** لأعين الناس أوصافا وأشكالا )
( فلاح بدرا ووافى دمية وذكا ** مسكا وعل طلا وازور رئبالا )
( وافتر درا وغنى بلبلا وسطا ** عضبا وماس نقا واهتز عسالا ) + البسيط +
وما أحسن قوله أيضا
( إن التي ملكتني في الهوى ملكت ** مجامع الحسن حتى لم تدع حسنا )
( رنت غزالا وفاحت روضة وبدت ** بدرا وماجت غديرا وانثنت غصنا ) + البسيط +
ولابن سكره الهاشمي أيضا
( في وجه إنسانة كلفت بها ** أربعة ما اجتمعن في أحد )
( الخد ورد والصدغ غالية ** والريق خمر والثغر من برد ) + المنسرح +
والمرقش اسمه عمرو وقيل عوف بن سعد بن مالك ينتهي نسبه لبكر بن وائل وهو أحد من قال شعرا فلقب به وهو أحد المتيمين كان يهوى ابنة عم له وهي أسماء بنت عوف بن مالك وكان المرقش الأصغر ابن أخي
____________________
1- الوافر
(2/84)
المرقش الأكبر واسمه ربيعة وقيل عمرو وهو عم طرفة بن العبد وهو أيضا أحد المتيمين كان يهوى فاطمة بنت المنذر الملك ويشبب بها وكان للمرقشيين جميعا موقع في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب وبأس وشجاعة ونجدة وتقدم في المشاهد ونكاية في العدو وحسن أثر
وكان من خبر المرقش الأكبر أنه عشق ابنة عمه أسماء بنت عوف وهو غلام فخطبها إلى أبيها فقال لا أزوجك إياها حتى تعرف بالبأس وكان يعده فيها المواعيد الكاذبة ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك وكان عنده زمانا ومدحه فأجازه وأصاب عوفا زمان شديد فأتاه رجل من مراد فأرغبه في المال فزوجه أسماء على مائة من الإبل ثم تنحى عن بني سعد ابن مالك ورجع مرقش فقال إخوته لا تخبروه إلا أنها ماتت فذبحوا كبشا وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه ولفوها في ملحفة ثم قبروها فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت وأتوا به موضع القبر فنظر إليه وصار بعد ذلك يعتاده ويتردد إليه ويزوره فبينا هو ذات يوم مضطجع وقد تغطى بثوبه وابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب فقال أحدهما هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه وقالوا إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء فكشف مرقش عن رأسه ودعا الغلام وكان قد ضنى ضني شديدا فسأله عن الحديث فأخبره به وبتزوج المرادي أسماء فدعا مرقش وليدة له ولها زوج من عقيل كان عشير المرقش فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته وكان له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المرادي فأحضره إياها فركبها ومضى في طلبه فمرض في الطريق حتى ما يحمل إلا معروضا ثم أنهما نزلا كهفا بأسفل نجران وهي أرض مراد ومع العقيلي امرأته وليدة مرقش فسمع مرقش زوج الوليدة يقول لها اتركيه فقد هلك سقما وهلكنا معه ضرا وجوعا فجعلت الوليدة تبكي من ذلك فقال لها زوجها اطيعيني وإلا فإني
____________________
(2/85)
تاركك وذاهب قال وكان مرقش يكتب كان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط فلما سمع مرقش قول العقيلي للوليدة كتب مرقش على مؤخر الرحل هذه الأبيات
( يا صاحبي تلبثا لا تعجلا ** إن الرواح رهين أن لا تفعلا )
( فلعل لبثكما يفرط سيئا ** أو يحدث الإسراع سيبا مثقلا )
( يا راكبا إما وصلت فبلغن ** أنس بن سعد إن لقيت وحرملا )
( لله دركما ودر أبيكما ** إن أفلت العبدان حتى يقتلا )
( من مبلغ الأقوام أن مرقشا ** أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا )
( وكأنما ترد السباع بشلوه ** إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا ) (1)
قال فانطلق العقيلي وامرأته حتى رجعا إلى أهليهما فقالا مات المرقش ونظر حرملة إلى الرحل وجعل يقلبه وقرأ الأبيات فدعاهما وخوفهما وامرهما أن يصدقاه فأخبراه الخبر فقتلهما وكان العقيلي قد وصف له الموضع فركب في طلب المرقش حتى أتى المكان فسأل عن خبره وعرف أن مرقشا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه وأقبل
____________________
1- الكامل
(2/86)
راعيها إليها فلما أبصر به قال له من أنت وما شأنك فقال له مرقش أنا رجل من مراد وقال له فراعي من أنت قال راعي فلان فإذا هو راعي زوج أسماء فقال له مرقش أتستطيع أن تكلم أسماء امرأة صاحبك قال لا ولا أدنو منها ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزا فتأتيها بلبنها فقال له خذ خاتمي هذا فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه وإنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك فأخذ الراعي الخاتم وفعل ذلك ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يديها فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع فقرع الخاتم ثنيتها فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته فقالت للجارية ما هذا الخاتم قالت مالي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو في شرف بنجران فأقبل فزعا فقال لها لم دعوتني فقالت له ادع عبدك راعي غنمك فدعاه فقالت سله أين وجد هذا الخاتم فقال وجدته مع رجل في كهف خبان وقال لي اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك تصيب به خيرا وما أخبرني من هو ولقد تركته بآخر رمق فقال لها زوجها وما هذا الخاتم قالت خاتم مرقش فاعجل الساعة في طلبه فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما فاحتملاه إلى أهليهما فمات عند أسماء فدفن في أرض مراد
وحدث التوزي قال كان مساور الوراق وحماد عجرد وحفص بن أبي بردة مجتمعين على شراب وكان حفص مرميا بالزندقة وكان اعمش أفطس
____________________
(2/87)
أغضف مقبح الوجه فجعل حفص يعيب شعر المرقش ويلحفه فأقبل عليه مساور فقال
( لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ** وأنف كثيل العود عما تتبع )
( تتبعت لحنا في كلام مرقش ** ووجهك مبني على اللحن اجمع )
( فأذناك إقواء وانفك مكفأ ** وعيناك أيطاء فأنت المرقع ) (1)
فقام حفص من المجلس خجلا وهجره مدة
89
( صدغ الحبيب وحالي ** كلاهما كالليالي )
هو من المجتث ولا أعرف قائله
والشاهد فيه تشبيه التسوية وهو تعدد طرف المشبه وهو هنا الصدغ والحال دون المشبه به وهو الليالي
ومثله قول أبي محمد المطراني
( مهفهفة لها نصف قصيف ** كخوط البان في نصف رداح )
( حكت لونا ولينا واعتدالا ** ولحظا قاتلا سمر الرماح ) + الوافر +
90
( كأنما يبسم عن لؤلؤ ** منضد أو برد أو أقاح )
البيت للبحتري من قصيدة من السريع يمدح بها أبا نوح عيسى ابن إبراهيم أولها
( بات نديما لي حتى الصباح ** أغيد مجدول مكان الوشاح )
( كأنما يضحك عن لؤلؤ ** منظم أو برد أو أقاح ) + السريع +
____________________
1- الطويل
(2/88)
هكذا وجدت البيت في ديوانه
( تحسبه نشوان أنى رنا ** للفتر من أجفانه وهو صاح )
( بت أفديه ولا أرعوى ** لنهى ناه عنه أو لحى لاح )
( أمزج كأسي يجني ريقه ** وإنما أمزج راحا براح )
( يساقط الورد علينا وقد ** تبلج الصبح نسيم الرياح )
( أغضيت عن بعض الذي يتقى ** من حرج في حبه أو جناح )
( سحر العيون النجل مستهلك ** لبي وتوريد الخدود الملاح )
والمنضد المنظم والبرد حب الغمام والأقاح جمع أقحوان وهو ورد له نور
والشاهد فيه تعدد طرف المشبه به وهو هنا اللؤلؤ والبرد والأقاح دون المشبه وهو الثغر
وقد جاء تشبيه الثغر بخمسة في قول الحريري
( يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ** وعن أقاح وعن طلع وعن حبب ) (1)
ومثل البيت المستشهد به قول امرىء القيس
( كأن المدام وصوب الغمام ** وريح الخزامى ونشر العطر )
( يعل به برد أنيابها ** إذا غرد الطائر المستحر ) + المتقارب +
ومن محاسن تعدد التشبيه قول الصاحب ابن عباد في وصف أبيات أهديت إليه
( أتتني بالأمس أبياته ** تعلل روحي بروح الجنان )
____________________
1- البسيط
(2/89)
( كبرد الشباب وبرد الشراب ** وظل الأمان ونيل الأماني )
( عهد الصبا ونسيم الصبا ** وصفو الدنان ورجع القيان ) (1)
وقول الثعالبي في الأمير أبي الفضل الميكالي
( لك في المحاسن معجزات جمة ** أبدا لغيرك في الورى لم تجمع )
( بحران بحر في البلاغة شابه ** شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي )
( كالنور أو كالسحر أو كالدر أو ** كالوشى في برد عليه موشع ) + الكامل +
91
( صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ** عني وعاوده ظني فلم يخب )
( كالغيث إن جئته وافاك ريقه ** وإن ترحلت عنه لج في الطلب )
البيتان لأبي تمام من قصيدة من البسيط يمدح بها الحسن بن رجاء ابن الضحاك أولها
( أبدت أسى أن رأتني مخلس القصب ** وآل ما كان من عجب إلى عجب )
( ست وعشرون تدعوني فأتبعها ** إلى المشيب ولم تظلم ولم تجب )
( يومي من الدهر مثل الدهر تجربة ** حزما وعزما منه وساعي كالحقب )
( وأصغري أن شيبا لاح لي حدثا ** وأكبري أنني في المهد لم أشب )
( ولا يؤرقك أيماض القتير به ** فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب ) + البسيط +
____________________
1- المتقارب
(2/90)
يقول في مديحها
( ستصبح العيس بي والليل عند فتى ** كثير ذكر الرضى في ساعة الغضب )
وبعده البيتان
ومعنى صدفت أعرضت وربق كل شيء أوله وأصله والرواية في ديوان أبي تمام مروءته بدل مواهبه وكان بدل لج
وذكرت بقول فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب قول أبي الحسن علي بن طاهر بن منصور
( أعرضت حين أبصرت شعرات ** في عذاري كأنهن الثغام )
( قلت هذا تبسم الدهر قالت ** قد سعى في صدودك الابتسام ) (1)
والشاهد في البيتين التشبيه المجمل المذكور فيه وصف المشبه والمشبه به فإنه وصف الممدوح بان عطاياه فائضة عليه أعرض أو لم يعرض وكذا وصف الغيث بأنه يصيبك جئته أو ترحلت عنه وهذان الوصفان مشعران بوجه الشبه أعني الإفاضة في حالتي الطلب وعدمه وحالتي الإقبال عليه والإعراض عنه
92
( وثغره في صفاء ** وأدمعي كاللآلي )
البيت من المجتث وهو كالبيت السابق
والشاهد فيه التشبيه المفصل وهو ما ذكر فيه وجه الشبه وهو هنا الصفاء
____________________
1- الخفيف
(2/91)
93
( حملت ردينيا كأن سنانه ** سنا لهب لم يتصل بدخان )
البيت لامرىء القيس من قصيدة من الطويل أولها
( لمن طلل أبصرته فشجاني ** كخظ زبور في عسيب يماني )
( ديار لهند والرباب وفرتني ** ليالينا بالنعف من بدلان )
( ليالي يدعوني الصبا فأجيبه ** وأعين من اهوى إلى رواني )
( فإن أمس مكروبا فيارب بهمة ** كشفت إذا ما اسود وجه جبان )
( وإن أمس مكروبا فيارب قينة ** منعمة أعملتها بكران )
( لها مزهر يعلو الخميس بصوته ** أجش إذا ما حركته يدان ) (1)
وهي طويلة
والرديني الرمح نسبة إلى امرأة كان تعمل الرماح اسمها ردينة
والشاهد فيه تفصيل التشبيه وهو على وجوه أعرفها أن يأخذ بعضا من الأوصاف ويدع بعضا كما فعل امرؤ القيس هنا حيث عزل الدخان عن السنا وجرده
____________________
1- الطويل
(2/92)
وذكرت بأبيات امرىء القيس هذه تضمين أبي الحسين الاشبيلي لبعضها وكان قد تناول من يد معذر الأشعار الستة فأول ما وقعت عينه على قصيدة امرىء القيس هذه قال
( وذي صلف خط العذار بخده ** كخط زبور في عسيب يماني )
( فقلت له مستفهما كنه حاله ** لمن طلل أبصرته فشجاني )
( فقال ولم يملك عزاء لنفسه ** تمتع من الدنيا فإنك فاني )
( فما كان إلا برهة إذ رأيته ** كتيس ظباء الحلب العدوان ) (1)
94
( لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ** ألا بوجه ليس فيه حياء )
البيت للمتنبي من قصيدة من الكامل يمدح بها هارون بن عبد العزيز الأوارجي وأولها
( امن ازديارك في الدجى الرقباء ** إذ حيث كنت من الظلام ضياء )
( قلق المليحة وهي مسك هتكها ** ومسيرها في الليل وهي ذكاء )
( أسفي على أسفي الذي دلهتني ** عن علمه فبه علي خفاء )
( وشكيتي فقد السقام لأنه ** قد كان لما كان لي أعضاء )
( مئلت عينك في حشاي جراحة ** فتشابها كلتاهما نجلاء )
( نفذت علي السابري وربما ** تندق فيه الصعدة السمراء )
( أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ** فإذا نطقت فإنني الجوزاء )
____________________
1- الطويل
(2/93)
( وإذا خفيت على الغبي فعاذر ** أن لا تراني مقلة عمياء ) (1)
ومنها
( فإذا سئلت فلا لأنك محوج وإذا كتمت وشت بك الآلاء )
( وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ** للشاكرين على الإله ثناء )
( وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ** يسقي الخصيب وتمطر الداماء )
والشاهد في البيت التصرف في التشبيه القريب المبتذل بما يجعله غريبا ويخرجه عن الابتذال فإن تشبيه الوجه بالشمس قريب مبتذل لكن حدوث الحياء عنه قد أخرجه عن الابتذال إلى الغرابة لاشتماله على زيادة دقة وخفاء ثم إن كان قوله لم تلق من لقيته بمعنى أبصرته فالتشبيه فيه مكنى غير مصرح وإن كان بمعنى قابلته وعارضته فهو فعل ينبئ عن التشبيه أي لم تقابله ولم تعارضه في الحسن والبهاء إلا بوجه ليس فيه حياء
ومثله قول الآخر
( إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ** إلى نداك فقاسته بما فيها ) + البسيط +
95
( عزماته مثل النجوم ثواقبا ** لو لم يكن للثاقبات أفول )
البيت لرشيد الدين الوطواط من قصيدة من الكامل
والثواقب جمع ثاقب وهو النجم المرتفع على النجوم والأفول الغيبة
والشاهد فيه كما في البيت الذي فان قبله تشبيه العزم بالنجم مبتذل لكن الشرط المذكور أخرجه إلى الغرابة ويسمى هذا التشبيه المشروط وهو
____________________
1- الكامل
(2/94)
أن يقيد المشبه أو المشبه به أو كلاهما بشرط وجودي أو عدمي يدل عليه بصريح اللفظ أو سياق الكلام
وسيأتي ذكر الوطواط في شواهد التفريق إن شاء الله تعالى
96
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ** ذهب الأصيل على لجين الماء )
البيت من الكامل ولا أعرف قائله
وعبث الريح بالغصون عبارة عن إمالتها إياها والأصيل هو الوقت من بعد العصر إلى الغروب ويوصف بالصفرة قال الشاعر
( ورب نهار للفراق أصيله ** ووجهي كلا لونيهما متناسب ) (1)
وما أحسن قول الخطيب أبي القاسم بن معاوية فيه
( كان الموج في عبريه ترس ** تذهب متنه كف الأصيل ) + الوافر +
وقوله ايضا
( فجدوله في سرحة الماء منصل ** ولكنه في الجذع عطف سوار )
( وأمواجه أرداف غيد نواعم ** تلفعن بالآصال ريط نضار ) (1)
( ومثله لابن الأبار
( ونهر كما ذابت سبائك فضة ** حكى بمحانيه انعطاف الأراقم )
( إذا الشفق استولى عليه احمراره ** تبدى خضيبا مثل دامي الصوارم ) (1)
ولابن قلاقس في تشبيه الشمس وقت الأصيل
( والشمس في وقت الأصيل بهارة لفت بورد ** ) + من مجزوء الكامل +
وله أيضا في معنى ما سبق
( كأن الشعاع على متنه ** فرند بصفحة سيف صدي )
____________________
1- الطويل
(2/95)
( وأشبه إذ درجته الصبا ** برادة تبر على مبرد ) (1)
ومن بديع ما وقع لشاعر في وصف نهر جعده النسيم قول ابن حمديس وقد جلس في متنزه بإشبيلية ومعه جماعة من الأدباء وقد هبت ريح لطيفة صنعت من الماء حبكا جميلة فأنشد
( حاكت الريح من الماء زرد ** )
واستجاز الحاضرين فأتوا بما لم يرض إلى أن قال الشاعر المشهور بالحجام مجيزا له
( هو درع لقتال لو جمد ** )
ومن الأندلسيين من ينسب هذا البيت إلى أبي القاسم بن عباد
ولابن حمديس المذكور مطلع قصيدة من وزن هذا البيت وقريب من معناه وهو
( نشر الجو على الترب برد ** هو در لنحور لو جمد )
( لؤلؤ أصدافه السحب التي ** أنجز البارق فيها ما وعد ) + الرمل +
ومن بديع ما وقع له فيها من التشبيه أيضا قوله
( وكأن الصبح كف حللت ** من ظلام الليل بالنور عقد )
( وكأن الشمس تجري ذهبا ** طائرا من جيده في كل يد ) + الرمل +
ومن بديع ما يذكر في معنى البيت المستشهد به قول عبد العزيز بن المنفتل القرطبي أو ابن الحداد
( إني أرى شمس الأصيل عليلة ** ترتاد من بين المغارب مغربا )
( مالت لتحجب شخصها فكأنها ** مدت على الدنيا بساطا مذهبا ) + الكامل +
وما أحسن قول ابن لؤلؤة الذهبي
____________________
1- المتقارب
(2/96)
وما ذهبت شمس الأصيل عشية ** إلى الغرب حتى ذهبت فضة النهر ) (1)
وما أبدع قول الآخر أيضا
( ونهر إذا ما الشمس حان غروبها ** عليه ولاحت في ملابسها الصفر )
( رأينا الذي أبقت به من شعاعها ** كأنا أرقنا فيه كأسا من الخمر ) (1)
وقول إبراهيم بن خفاجة أيضا
( وقد غشي النبت بطحاءه ** كبدو العذار بخد أسيل )
( وقد ولت الشمس محتثة ** إلى الغرب ترنو بطرف كحيل )
( كأن سناها على نهره ** بقايا نجيع بسيف صقيل ) + المتقارب +
وبديع أيضا قول ابن سارة هنا
( النهر قد رقت غلاله صفوة ** وعليه من صبغ الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ** عكن الخصور تهزها الأعجاز ) + الكامل +
وما أعذب قول الحسن بن سراح فيه
( عمري أبا حسن لقد جئت التي ** عطفت عليك ملامة الإخوان )
( لما رأيت اليوم ولى عمره ** والليل مقتبل الشبيبة داني )
( والشمس تنفض زعفرانا بالربا ** وثغت مسكتها على الغيطان )
( أطلعتها شمسا وأنت صباحها ** وحففتها بكواكب الندمان )
( وأتيت بدعا في الأنام مخلدا ** فيما قرنت ولات حين قران ) + الكامل +
وما أبدع قول عيسى بن لبون أيضا
( لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا ** والمزن يسكب أحيانا وينحدر )
( والأرض مصفرة بالمزن كاسية ** أبصرت تبرا عليه الدر ينتثر ) + البسيط +
وبديع أيضا قول أبي العلاء المعري
____________________
1- الطويل
(2/97)
( ثم شاب الدجى وخاف من الهجر فغطى المشيب بالزعفران ** ) (1)
وقول أسعد بن إبراهيم بن أسعد بن بليطه
( لو كنت شاهدنا عشية أنسها ** والمزن يبكينا بعيني مذنب )
( والشمس قد مدت أديم شعاعها ** في الأرض تجنح غير أن لم تذهب )
( خلت الرذاذ برادة من فضة ** قد غربلت من فوق نطع مذهب ) + الكامل +
ولابن حمديس في وصف نهر ألقت الشمس عليه حمرتها عند الشروق من أبيات
( ومشرق كيمياء الشمس في يده ** ففضة الماء من إلقائها ذهب ) + البسيط +
ومثله أيضا قول أبي العلاء المعري
( يظن به ذوب اللجين فإن بدت ** له الشمس أجرت فوقه ذوب عسجد ) + الطويل +
وبديع قول الشريف أبي القاسم شارح مقصورة حازم
( وغريبة الإنشاء سرنا فوقها ** والبحر يسكن تارة ويموج )
( عجنا نؤم بها معاهد طالما ** كرمت فعاج الحسن حين تعوج )
( وامتد من شمس الأصيل أمامنا ** نور له مرأى هناك بهيج )
( فكأن ماء البحر ذائب فضة ** قد سال فيه من النضار خليج ) + الكامل +
وبديع قول ابن العطار وهو في معنى قول ابن حمديس السابق وهو
( مررنا بشاطئ النهر بين حدائق ** بها حدق الأزهار تستوقف الحدق )
( وقد نسجت كف النسيم مفاضة ** عليه وما غير الحباب لها حلق ) + الطويل +
وقوله أيضا
( هبت الريح بالعشي فحاكت ** زردا للغدير ناهيك جنة )
____________________
1- الخفيف
(2/98)
( فانجلى البدر بعد هدء فصاغت ** كفه للقتال فيه أسنه ) (1)
والشاهد في البيت حذف أداة التشبيه ويسمى التشبيه المؤكد وهو هنا تشبيه صفرة الأصيل بالذهب وبياض الماء وصفائه باللجين وهو الفضة
ومن محاسن التشبيه من غير أداته قول الوأواء الدمشقي
( قالوا وقد فتكت فينا لواحظها ** مهلا أما لقتيل الحب من قود )
( وأسبلت لؤلؤا من نرجس وسقت ** وردا وعضت على العناب بالبرد ) + البسيط +
ومثله قول الحريري
( سألتها حين زارت نضو برقعها القاني وإيداع سمعي أطيب الخبر ** )
( فزحزحت شفقا غشى سنا قمر ** وساقطت لؤلؤا من خاتم عطر ) + البسيط +
وقوله أيضا
( وأقبلت يوم حد البين في خلل ** سود تعض بنان النادم الحصر )
( فلاح ليل على صبح أقلهما ** غضن وضرست البلور بالدرر ) + البسيط +
وقول الغزي الشاعر
( وما نسيت وما أنسي تبسمها ** وملبس الجو غفل غير ذي علم )
( حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ** وانحل بالضم عقد السلك في الظلم )
( تبسمت فأضاء الجو فالتقطت ** حبات منتثر في ضوء منتظم ) + البسيط +
وقول أبي طالب المأموني
( عزماتهم قضب وفيض أكفهم ** سحب وبيض وجوههم أقمار ) + الكامل +
وقول صردر
( الباذلي العرف والأنواء باخلة ** والمانعي الجار والأعمار تخترم )
( حيث الدجى النقع والفجر الصوارم والأسد ** الغوارس والخطية الأجم ) + البسيط +
____________________
1- الخفيف
(2/99)
وقول محمد بن حمدون القنوع من قصيدة في شبل الدولة بن صالح لما هزم ملك الروم
( لبسوا دروعا من ظباك تقيهم ** كانت عليهم للحتوف شباكا )
( نالت بك العرب الغنى من مالهم ** وتقاسمت أتراكك الأتراكا )
( لو لم يفر جعلت صفحة خده ** نعلا وقوسى حاجبيه شراكا ) (1)
أردت البيت الأخير ومنه قول أبي حفص عمر المطوعي
( ومعسول الشمائل قام يسعى ** وفي يده رحيق كالحريق )
( فأسقاني عقيقا حشو در ** ونقلني بدر في عقيق ) + الوافر +
وما أبدع قول أبي الحسن العقيلي
( وللأقاحي قصور كلها ذهب ** من حولها شرفات كلها درر ) + البسيط +
ولنذكر هنا طرفا من التشبيهات على اختلاف أنواعها وغريب أسلوبها واختراعها فمن ذلك قول منصور بن كيغلغ وهو
( عاد الزمان بمن هويت فأعتبا ** يا صاحبي فأسقياني واشربا )
( كم ليلة سامرت فيها بدرها ** من فوق دجلة قبل أن يتغيبا )
( قام الغلام يديرها في كفه ** فحسبت بدر التم يحمل كوكبا )
( والبدر يجنح للغروب كأنه ** قد سل فوق الماء سيفا مذهبا ) (1)
وأحسن ما سمع في هذا المعنى قول التنوخي
( أحسن بدجلة والدجى متصوب ** والبدر في أفق السماء يغرب )
( فكأنها فيه بساط أزرق ** وكأنه فيها طراز مذهب ) (1)
ولأبي فراس في وصف الجلنار
( وجلنار مشرق ** على أعالي شجرة )
____________________
1- الكامل
(2/100)
( كأن في رؤوسه ** أحمره وأصفره )
( قراضة من ذهب ** في خرق معصفرة ) (1)
ولأبي الفرج الببغاء في وصف كانون نار من أبيات وتعزي إلى السري الرفاء
( وذي أربع لا يطيق النهوض ** ولا يألف السير فيمن سرى )
( تحمله سبجا أسودا ** فيجعله ذهبا أحمرا ) + المتقارب +
وله في معناه أيضا
( وأحدقنا بأزهر خافقات ** حوله العذب )
( فما ينفك عن سبج ** يعود كأنه ذهب ) + من مجزوء الوافر +
وله أيضا فيه أيضا
( والتهبت نارنا فمنظرنا ** يغنيك عن كل منظر عجب )
( إذا رمت بالشرار واضطرمت ** على ذراها مطارف اللهب )
( رأيت ياقوتة مشبكة ** تطير منها قراضة الذهب ) + المنسرح +
ولأبي محمد الخالدي في معناه
( ومقعد لا حراك ينهضه ** وهو على أربع قد انتصبا )
( مصفر محرق تنفسه ** تخاله العين عاشقا وصبا )
( إذا نظمنا في جيده سبجا ** صيره بعد ساعة ذهبا ) + المنسرح +
ولأبي بكر الخالدي في وصف الصباح من هذه القصيدة أيضا
( طوى الظلام البنود منصرفا ** حين رأى الفجر ينشر العذبا )
( والليل من فتكه الصباح به ** كراهب شق جيبه طربا )
وللسري الرفاء في مثله
____________________
1- من مجزوء الرجز
(2/101)
( كراهب جن للهوى طربا ** فشق جلبابه من الطرب ) (1)
وله في معناه أيضا
( والفجر كالراهب قد مزقت ** من طرب عنه الجلابيب ) + السريع +
وما أحسن قول ابن حيان الكاتب أيضا
( كأنما الفحم والزناد وما ** تفعله النار فيهما لهبا )
( شيخ من الزنج شاب مفرقه ** عليه درع منسوجة ذهبا ) (1)
وقول مجير الدين بن تميم
( وكأنما النار التي قد أوقدت ** ما بيننا ولهيبها المتضرم )
( سوداء أحرق قلبها فلسانها ** بسفاهة للحاضرين يكلم ) + الكامل +
وقوله أيضا
( كأنما نارنا وقد خمدت ** وجمرها بالرماد مستور )
( دم جرى من فواخت ذبحت ** من فوقها ريشهن منشور ) (1)
وقوله أيضا
( كأنما النار في تلهبها ** والفحم من فوقها يغطيها )
( زنجية شبكت أناملها ** من فوق نارنجة لتخفيها ) (1)
وقول الآخر
( كأن كانوننا سماء ** والجمر في وسطه نجوم )
( ونحن جن بخافتيه ** والشرر الطائر الرجوم ) + من مخلع البسيط +
وبديع أيضا قول ابن مكنسة
( إبريقنا عاكف على قدح ** كأنه ألأم ترضع الولدا )
( أو عابد من بني المجوس إذا ** توهم الكأس شعلة سجدا ) (1)
____________________
1- المنسرح
(2/102)
وفي معنى البيت الثاني قول القاضي أبي الفتح بن قادوس
( وليلة كاغتماض الجفن قصرها ** وصل الحبيب ولم تقصر عن الأمل )
( وكلما رام نطقا في معاتبتي ** سددت فاه بنظم اللثم والقبل )
( وبات بدر تمام الحسن معتنقي ** والشمس في فلك الكاسات لم تفل )
( فبت منها أرى النار التي سجدت ** لها المجوس من الأبريق تسجد لي ) (1)
ومن بديع التشبيه وغريبه قول ابن حمديس من أبيات
( حمراء تشرب بالأنوف سلافها ** لطفا مع الأسماع والأحداق )
( بزجاجة صور الفوارس نقشها ** فترى لها حربا بكف الساقي )
( وكأنما سفكت صوارمها دما ** لبست به عرفا إلى الأعناق )
( وكأن للكاسات حمر غلائل ** أزرارها درر على الأطواق ) + الكامل +
وما أحسن قول ابن عطية أيضا
( بتنا ندير الراح في شاهق ** ليلا على نغمة عودين )
( والنار في الأرض التي دوننا ** مثل نجوم الجو في العين )
( فيا له من منظر مونق ** كأننا بين سماءين ) + السريع +
وما أحسن قول الخالدي من قصيدة أولها
( لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج ** لأرتك سالفتي غزال أدعج )
( أرعى النجوم كأنها في أفقها ** زهر الأقاحي في رياض بنفسج )
( والمشتري وسط السماء تخاله ** وسناه مثل الزئبق المترجرج )
( مسمار تبر أصفر ركبته ** في فص خاتم فضة فيروزج )
( وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ** ميلان شارب قهوة لم تمزج )
( وتنقبت بخفيف غيم أبيض ** هي فيه بين تخفر وتبرج )
____________________
1- البسيط
(2/103)
( كتنفس الحسناء في المرآة إذ ** كملت محاسنها ولم تتزوج ) (1)
وهذا تشبيه بديع لم يسبق إليه ومثله قول أبي حفص بن برد
( والبدر كالمرآة غير صقلها ** عبث الغواني فيه بالأنفاس ) (1)
وقول ابن طباطبا العلوي
( متى أبصرت شمسا تحت غيم ** ترى المرآة في كف الحسود )
( يقابلها فيلبسها غشاء ** بأنفاس تزايد في الصعود ) + الوافر +
وللخالدي في وصف النجوم
( كأنما انجم السماء لمن ** يرمقها والظلام منطبق )
( مال بخيل يظل يجمعه ** من كل وجه فليس يفترق ) + المنسرح +
ولأخيه أبي عثمان الخالدي في وصف النجوم أيضا
( وليلة ليلاء في اللون كلون المفرق ** )
( كأنما نجومها ** في مغرب ومشرق )
( دراهم منثورة ** على بساط أزرق ) + من مجزوء الرجز +
ومن التشبيه النفيس قول ابن حمديس في وصف خضاب الشيب
( وكأن الخضاب دهمة ليل ** تحته للمشيب غرة صبح ) + الخفيف +
وقوله أيضا في تشبيه العذار من أبيات
( أو دب بالحسن فوق عارضة ** نمل أصاب المداد أرجلها ) + المنسرح +
وقوله أيضا في وصف الشمعة
( كأنها راقصة بيننا ** لم تنتقل بالرقص منها قدم )
____________________
1- الكامل
(2/104)
( قائمة في ملبس أصفر ** قد حركت منه لنا فردكم ) (1)
وبديع قوله أيضا في وصف الشيب
( ولى شبابي وراع شيبي ** مني سرب المها وفضه )
( كأنما المشط في يميني ** يجر منه خيوط فضة ) + من مخلع البسيط +
وللوأواء الدمشقي
( ولرب ليل ضل عنه صباحه ** وكأنه بك خطرة المتذكر )
( والبدر أول ما بدا متلثما ** يبدي الضياء لنا بخد مسفر )
( فكأنما هو خوذة من فضة ** قد ركبت في هامة من عنبر ) + الكامل +
ولأبي طالب الرفاء في وصف أترجة مقنعة
( مصفرة الظاهر بيضاء الحشى ** أبدع في صنعتها رب السما )
( كأنها كف محب دنف ** مبعد يحسب أيام الجفا ) + الرجز +
ولابن لنكك البصري
( وروض عبقري الوشى غض ** يشاكل حين زخرف بالشقيق )
( سماء زبرجد خضراء فيها ** نجوم طالعات من عقيق ) + الوافر +
وللنفري الكاتب في الباقلاء الأخضر
( فصوص زبرجد في غلف در ** بأقماع حكت تقليم ظفر )
( وقد صاغ الإله لها ثيابا ** لها لونان من بيض وخضر ) + الوافر +
ولعبدان الخوذي في قينة
( لنا قينة تحمي من الشرب شربنا ** فقد أمنوا سكرا وخوف خمار )
( تكشر عن أنيابها في غنائها ** فتحكي حمارا شم بول حمار ) + الطويل +
وما الطف قول عبد الله بن النطاح في أحدب
____________________
1- السريع
(2/105)
( وقصير قد جمعت أعضاؤه ** ليكون في باب الخلاعة أطبعا )
( قصرت أخادعه وغاص قذاله ** فكأنه متوقع أن يصفعا )
( وكأنه قد ذاق أول صفعة ** وأحس ثانية لها فتجمعا ) (1)
وبديع قول السراج المحار يهجو امرأة سوداء زامرة
( ولرب زامرة تهيج بزمرها ** ريح البطون فليتها لم تزمر )
( شبهت أنملها على صرنابها ** وقبيح مبسمها الشنيع الأبخر )
( بخنافس قصدت كنيفا واغتدت ** تسعى إليه على خيار الشنبر ) (1)
وهو من قول الأول يهجو زامرا اسود أيضا
( فكأنها في حالة العيان ** خنافس دبت على ثعبان ) + الرجز +
وقول محمد بن الحسن المصري الكاتب
( رأيت يحيى إذ أفاد الغنى ** هاج به ذكر ووسواس )
( كأنه كلب على جيفة ** يخاف أن يطرده الناس ) + السريع +
وقول البسامي في رجل لبس خلعة تطول عليه ويقصر عنها
( كأنه لما بدا طالعا ** في خلعة يقصر عن لبسها )
( جارية رعناء قد قدرت ** ثياب مولاها على نفسها ) + السريع +
ولطيف قول ابن قلاقس في عواد اسمه حسن
( حسن ملاوي عوده ** مهما تناوله مساوي )
( وكأنه إن جسه ** من بعد تحرير الملاوي )
( كلب تجاذب كفه ** أنشوطة والكلب عاوي ) (1)
ولأبي طالب المأموني في رمانة تفت
( رمانة ما زلت مستخرجا ** في الجام من خقتها جوهرا )
____________________
1- الكامل
(2/106)
( فالجام أرض وبناني حيا ** يمطر منها ذهبا أحمرا ) (1)
وللصادع بالحق الواثقي وأجاد
( وليلة شاب بها المفرق ** بل جمد الناظر والمنطق )
( كأنما فحم الغضا بيننا ** والنار فيه ذهب محرق )
( أو سبج في ذهب احمر ** بينهما لينوفر أزرق ) (1)
وللإمام أبي عامر التميمي رحمه الله تعالى
( يا رب كوماء خضبت نحرها ** بمدية مثل القضاء السابق )
( كأنها والدم حبس حولها ** سوسنة زرقاء في شقائق ) + الرجز +
وله في وصف الرمان
( خذوا صفة الرمان عني فإن لي ** لسانا عن الأوصاف غير قصير )
( حقاق كأمثال الكرات تضمنت ** فصوص بلخش في غشاء حرير ) + الطويل +
وله في النرجس
( يا نرجسا لم تعد قامته ** سهم الزمرذ حين تنتسب )
( فرصافه عظم وقدته ** قطع اللجين وفوقه ذهب ) + الكامل +
ولأبي منصور البغوي رحمه الله تعالى
( تراءت لنا من خدرها بسوالف ** كما لاح بدر من خلال سحاب )
( وهز الصبا صدغا لها فوق خدها ** كما روحت نار بريش غراب ) + الطويل +
ولنصر بن بشار الهروي في تفاحة معضوضة
( تفاحة قد عضها قمر ** عمدا ومسك موضع العضة )
( وكأن عضته ممسكة ** صدغ أحاط بوجنة غضة )
( وكأنما نونان قد كتبا ** بالمسك في كرة من الفضة ) + الكامل +
____________________
1- السريع
(2/107)
وله أيضا
( وبدا لنا بدر الدجى والليل قد ** شمل الأنام بفاضل الجلباب )
( غطى الكسوف عليه إلا لمعة ** فكأنه حسناء تحت نقاب ) (1)
وله في النرجس
( ونرجس غادرني ** ما بين عجب وعجب )
( كطبق من فضة ** عليه كأس من ذهب ) + الرجز +
وما أبدع قول أسعد بن إبراهيم بن بليطة
( أحبب بنور الأقاح نوارا ** عسجده في لجينة حارا )
( كأن ما اصفر من موسطه ** عليل قوم أتوه زوارا )
( كأن مبيضه صقالبة ** كانوا مجوسا فاستقبلوا نارا )
( كأنه ثغر من هويت وقد ** وضعت فيه بفي دينارا ) + المنسرح +
ومن بديع ما قيل فيه قول ابن عباد الإسكندراي أيضا
( كأن شمعته من فضة حرست ** خوف الوقوع بمسمار من الذهب ) + البسيط +
وقول ظافر الحداد الإسكندراي أيضا
( والأقحوانة تحكي ثغر غانية ** تبسمت فيه من عجب ومن عجب )
( كشمسة من لجين في زبرجدة ** قد شرفت تحت مسمار من الذهب )
( وللشقائق جمر في جوانبها ** بقية الفحم لم تستره باللهب ) + البسيط +
ومن لطيف التشبيه قول محمد بن عبد الله بن طاهر في الورد
( أما ترى شجرات الورد مظهرة ** منها بدائع قد ركبن في قضب )
( أوراقها حمر أوساطها جمم ** صفر ومن حولها خضر من الشطب )
( كأنهن يواقيت يطيف بها ** زمرد وسطه شذر من الذهب ) + البسيط +
____________________
1- الكامل
(2/108)
ولأبي الحكم مالك بن المرحل يصف قصر الليل وأجاد
( وعشية سبق الصباح عشاءها ** قصرا فما أمسيت حتى اسفرا )
( مسكية لبست حلى ذهبية ** وجلا تبسمها نقابا أحمرا )
( وكأن شهب الرجم بعض حليها ** عثرت به من سرعة فتكسرا ) (1)
وما أحسن قول صفوان بن إدريس من أبيات
( والورد في شط الخليج كأنه ** رمد ألم بمقلة زرقاء ) (1)
وما ألطف قول بعضهم
( وشادن أبصرته راكبا ** في كفه جوكانة يلعب )
( كالبدر فوق البرق في كفه ** هلاله والكرة الكوكب ) + السريع +
ومثله قول الصفي الحلي ولم أدر أيهما أخذ من الآخر
( ملك بروض فوق طرف ضاربا ** كرة بجوكان حناه ضرابا )
( فكأن بدرا في سماء راكبا ** برقا يزحزح بالهلال شهابا ) (1)
ومن بديع التشبيه قول الأستاذ علي بن الحسن بن علي بن سعد الخير في دولاب
( لله دولاب يفيض بسلسل ** في روضة قد أينعت أفنانا )
( قد طارحته بها الحمائم شجوها ** فيجيبها ويرجع الألحانا )
( فكأنه دنف يدور بمعهد ** يبكي ويسأل فيه عمن بانا )
( ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ** فتفتحت أضلاعه أجفانا ) (1)
وباب التشبيه واسع جدا تضيق الطاقة عن حصره وهذا القدر كاف فيه
____________________
1- الكامل
(2/109)
شواهد الاستعارة
97
( لدى أشد شاكى السلاح مقذف ** )
قائله زهير بن أبي سلمى من قصيدته السابقة في شواهد الإيجاز وسيأتي كاملا فيما بعد وقبله
( لعمرى لنعم الحي جر عليهم ** بما لا يوايتهم حصين بن ضمضم )
( وكان طوى كشحا على مستكنة ** فلا هو أبداها ولم يتقدم )
( وقال سأقضي مأربي ثم أتفي ** عدوى بألف من ورائي ملجم )
( فشد ولم ينظر بيوتا كثيرة ** لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم )
وبعده البيت والقصيدة طويلة يقول منها أيضا
( سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين عاما لا أبالك يسأم )
( رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ** تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم )
( ومهما تكن عند امرئ خليقة ** وإن خالها تخفي على الناس تعلم )
وشاكى السلاح وشاكه وشائكه حديده والمقذف الذي يقذف به كثيرا إلى الوقائع أو الذي رمى باللحم رميا
والشاهد فيه الاستعارة التحقيقية فالأسد هنا مستعار للرجل الشجاع وهو أمر متحقق حسا
____________________
(2/112)
98
( قامت تظللني من الشمس ** نفس أعز على من نفسي )
( قامت تظللني ومن عجب ** شمس تظللني من الشمس )
البيتان لابن العميد وهما من الكامل قالهما في غلام حسن قام على رأسه يظلله من الشمس وقال ابن النجار في تاريخه قرأت على إسماعيل بن سعد الله أنبأنا بكر بن على التاجر قال أنشدنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي الواعظ في ولده أبي العباس لأنه كان يقوم إذا جاءت عليه الشمس ويظله فقال
( قامت تظللني من الشمس ** نفس أعز على من نفسي )
( قامت تظللني ومن عجب ** شمس تظللني من الشمس )
( لما رأيت الشمس بارزة ** سترت عين الشمس بالخمس )
( ثم استعنت على التي اختلست ** منى الفؤاد بآية الكرسي )
وقال ياقوت في معجم الأدباء كان أبو إسحاق الصابي واقفا بين يدي عضد الدولة وعلى رأسه غلام تركي جميل فكان إذا رأى الشمس عليه حجبها عنه فقال للصابي هل قلت شيئا يا إبراهيم فقال
( وقفت لتحجبني عن الشمس ** نفس أعز علي من نفسي )
( ظلت تظللني ومن عجب ** شمس تغيبني عن الشمس )
فسر بذلك
والشاهد فيهما أن إطلاق المشبه به على المشبه إنما يكون بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به وإذا كان كذلك فيكون استعمال الاستعارة في المشبه
____________________
(2/113)
استعمالا فيما وضعت له فهنا لولا أنه ادعى له معنى الشمس الحقيقي وجعله شمسا لما كان لهذا التعجب معنى إذ لا تعجب في أن إنسانا حسانا يظلل إنسانا آخر
وقريب من معنى البيتين ما حكى أن سيماء التركي غلام المعتصم كان أحسن تركي على وجه الأرض في وقته وكان المعتصم لا يفارقه ولا يصبر عنه محبة له ووجدا به فاتفق أن المعتصم دعا أخاه المأمون ذات يوم إلى داره فأجلسه في بيت على سقفه جامات فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيماء فصاح المأمون لأحمد بن محمد اليزيدي فقال انظر ويلك إلى ضوء الشمس على وجه سيماء أرأيت أحسن من هذا قط وقد قلت
( قد طلعت شمس على شمس ** وزالت الوحشة بالأنس ) (1)
فأجز فقال البزيدي بعده
( قد كنت أشنا الشمس من قبل ذا ** فصرت أرتاح إلى الشمس )
قال وفطن المعتصم فعض شفتيه لأحمد قال أحمد للمأمون والله يا أمير المؤمنين لئن لم يعلم الأمير حقيقة الأمر منك لأقعن منه فيما أكره فدعاه المأمون فأخبره الخبر فضحك المعتصم فقال له المأمون كثر الله يا أخي في غلمانك مثله
ويقرب من هذا ما حكى أن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية جلس يوما وبين يديه جارية تسقيه فخطف البرق فارتاعت منه فقال ابن عباد في ذلك
( روعها البرق وفي كفها ** برق من القهوة لماع )
( عجبت منها وهي شمس الضحى ** من مثل ما تحمل ترتاع ) (1)
____________________
1- السريع
(2/114)
ثم أنشد الأول لعبد الجليل بن وهبون المرسى واستجازه فقال
( ولن ترى أعجب من آنس ** من مثل ما يمسك يرتاع )
وابن العميد هو أبو الفضل محمد بن الحسين عين المشرق ولسان الجبل وعماد ملك آل بويه وصدر وزرائهم قال في حقه أبو منصور الثعالبي كان أوحد العصر في الكتابة وكان يدعى الجاحظ الآخر والأستاذ والرئيس ويضرب به المثل في البلاغة وينتهي إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها مع براعة المعاني ونفاستها وما أحسن وأصدق ما قاله الصاحب وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد وكان يقال بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد وقد أجرى ذكرهما معا أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن في قصيدة مدح بها الصاحب بن عباد حيث وصف بلاغته فقال
( دعوا الأقاصيص والأنباء ناحية ** فما على ظهرها غير ابن عباد )
( والى بيان متى يطلق أعنته ** يدع لسان إياد رهن أقياد )
( ومورد كلمات عطلت زهرا ** على رياض ودرا فوق أجياد )
( وتارك أولا عبد الحميد بها ** وابن العميد أخيرا في أبي جاد ) (1)
____________________
1- البسيط
(2/115)
ولم يرث ابن العميد الكتابة عن كلالة بل كان كما قال ذو الرمة في وصف صائد حاذق
( ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب ** ) (1)
لأن أباه أبا عبد الله الملقب بكله كان في الرتبة الكبرى من الكتابة وكان قد تقلد ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر وكان يحضر ديوان الرسائل في محفة لسوء أثر النقرس في قدمه وفيه يقول أبو القاسم الإسكافي وكان يكتب في ديوانه إذ ذاك ويرى نفسه أحق منه برتبته ويتمنى زوال أمره ليقوم مقامه
( يا ذا الذي ركب المحفة ** جامعا فيها جهازه )
( أترى الإله يعيشني ** حتى يرينيها جنازه ) + الكامل +
ولم تطل الأيام حتى أتت على أبي عبد الله منيته ووافت أبا القاسم أمنيته وتولى ديوان الرسائل فسبق من قبله وأتعب من بعده ولم يزل أبو الفضل هذا في حياة أبيه وبعد وفاته بالرى وكورة الجبل وفارس يتدرج إلى المعالي ويزداد فضلا وبراعة على الأيام والليالي حتى بلغ ما بلغ واستقر في الذروة من وزارة ركن الدولة ورياسة الجبل وخدمة الكبراء وانتجعه الشعراء وورد عليه أبو الطيب المتنبي عند صدوره من حضرة كافور الأخشيدي فمدحه بتلك القصيدة المشهورة التي منها يقول
( من مبلغ الأعراب أني بعدها ** شاهدت رسطاليس والاسكندرا )
( ومللت نحر عشارها فأضافني ** من ينحر البدر النضار لمن قرى )
( وسمعت بطليموس دارس كتبه ** متملكا متبديا متحضرا )
____________________
1- البسيط
(2/116)
( ولقيت كل الفاضلين كأنما ** رد الإله نفوسهم والأعصرا ) (1)
ومنها
( نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ** وأنى فذلك إذ أتيت مؤخرا )
( بأبي وأمي ناطق في لفظه ** ثمن تباع له القلوب وتشترى )
( قطف الرجال القول قبل نباته ** وقطفت أنت القول لما نورا ) (1)
ومدحه الصاحب بن عباد بقصائد كثيرة استفرغ فيها جهده فمنها قوله فيه
( من القلب يهيم في كل وادي ** وقتيل للحب من غير وادي )
( إنما أذكر الغواني والمقصد سعدي تكثرا للسواد ** )
( وإذا ما صدقت فهي مرامي ** ومرادي وروضتي ومرادي )
( وندى ابن العميد إني عميد ** من هواها ألية الأمجاد )
( لو درى الدهر أنه من بنيه ** لازدرى قدر سائر الأولاد )
( أورأي الناس كيف يهتز للجود ** لما عددوه في الأطواد ) + الخفيف +
____________________
1- الكامل
(2/117)
وله أيضا
( قالوا ربيعك قد قدم ** فلك البشارة بالنعم )
( قلت الربيع أخو الشتاء ** أم الربيع أخو الكرم )
( قالوا الذي بنواله ** يغني المقل من العدم )
( قلت الرئيس ابن العميد إذا فقالوا لي نعم ** ) (1)
ولبعضهم فيه عند انتقاله إلى قصر جديد قد بناه وهو مستبدع
( لا يعجبنك حسن القصر تنزله ** فضيلة الشمس ليست في منازلها )
( لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ** ما زاد ذلك شيئا في فضائلها )
وهذه نبذة من محاسن نثره
فصل من رسالة كتب بها إلى أبي العلاء السروي كتابي جعلني الله تعالى فداك وأنا في جد وتعب منذ فارقت شعبان وفي جهد ونصب من رمضان وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم ومرتهن بتضاعف حر لو أن اللحم يصلى ببعضه غريضا أتى أصحابه وهو منضج وممتحن بهواجر يكاد أوراها يذيب دماغ الضب ويصرف وجه الحرباء عن التحنف ويزويه عن التنصر ويقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق
( ويترك الجأب في شغل عن الحقب ** ويقدح النار بين الجلد والعصب )
____________________
1- الكامل
(2/118)
ويغادر الوحش قد مالت هواديها
( سجودا لدى الأرطى كأن رؤسها ** علاها صداع أو فواق يصورها ) (1)
كما قال الفرزدق
( ليوم أتى دون الظلال شموسه ** تظل المها صورا جماجمها تغلى ) (1)
وكما قال مسكين الدارمي
( وهاجرة ظلت كأن ظباءها ** إذا ما اتقتها بالقرون سجود )
( تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ** كما لاذ من وخز السنان طريد ) (1)
وممنو بأيام تحاكى ظل الرمح طولا وليال كإبهام القطاة قصرا ونوم كلا ولا قلة وكحسو الطائر من الماء الثماد دقة وكتصفيقة الطائر المستحرخفة
( كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ** فلما رأها أقشعت وتجلت )
وكنقر العصافير وهي خائفة من النواطير يانع العنب وأحمد الله تعالى على كل حال وأسأله أن يعرفني بركته ويلقيني الخير في أيامه وخاتمته وأرغب إلى الله أن يقرب على القمر دوره ويقصر سيره ويخفف حركته ويعجل نهضته وينقص مسافة فلكه ودائرته ويزيل بركة الطول من ساعاته ويرد على غرة شوال فهي أسر سائر الغرر عندي وأقرها لعيني ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان ويعرض على هلاله أخفى من السر وأظلم من الكفر وأنحف من مجنون بنى عامر وأضنى من قيس
____________________
1- الطويل
(2/119)
ابن ذريح وأبلى من أسير الهجر ويسلط عليه الحور بعد الكور ويرسل على رقاقته التي يغشى العيون ضوءها ويحط من الأجسام نوءها كلفا يغمرها وكسوفا يسترها ويرينيه مغمور النور مقمور الظهور قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة وينقص من أطرافه كما تنقص النار من أطراف الزند ويبعث إليه الأرضة ويهدي إليه السوس ويغرى به الدود ويبليه بالفأر ويخترمه بالجراد ويبيده بالنمل ويجتحفه بالذر ويجعله من نجوم الرجم ويرمى به مسترق السمع ويخلصنا من معاودته ويريحنا من دوره ويعذبه كما عذب عباده وخلقه ويفعل به فعله بالكتان ويصنع به صنيعه بالألوان ويقابله بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتضح بضوئه وتهتك بطلوعه ويرحم الله عبدا قال آمينا وأستغفر الله جل وجهه مما قلته إن كرهه وأستعفيه من توفيقي لما يذمه وأسأله صفحا يفيضه وعفوا يسبغه وحالي بعد ما شكوت صالحة وعلى ما تحب وتهوى جارية ولله الحمد تقدست أسماؤه والشكر
ومن فصوله القصار الجارية مجرى الأمثال قوله متى خلصت للدهر حال من اعتوار أذى وصفا فيه شرب من اعتراض قذى خير القول ما أغناك جده وألهاك هزله الرتب لا تبلغ إلا بتدرج وتدرب ولا تدرك إلا بتجشم كلفه وتصعب المرء أشبه شئ بزمانه وصفه كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه المرء يبذل ماله في إصلاح أعدائه فكيف يذهل العاقل عن حفظ
____________________
(2/120)
أوليائه هل السيد إلا من يهابه إذا حضر وتغتابه إذا أدبر اجتنب سلطان الهوى وشيطان الميل المرح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر وفحلان إذا لقحا لم ينتجا غير الشر
ومما أخرج له من الشعر قوله
( آخ الرجال من الأباعد ** والأقارب لا تقارب )
( إن الأقارب كالعقارب ** بل أضر من العقارب ) (1)
وكتب إلى العلوي
( يا من تخلى وولى ** وصد عنى وملا )
( وأوسع العهد نكثا ** وأتبع العقد حلا )
( ما كان عهدك إلا ** عهد الشبيبة ولى )
( أو طائفا من خيال ** ألم ثم تولى )
( أو عارضا لاح حتى ** إذا دنا فتدلى )
( ألوت به نسمات ** من الصبا فتجلى )
( أهلا بما ترتضيه ** في كل حال وسهلا )
( ليجزينك ودي ** بمثل فعلك فعلا )
( إن شئت هجرا فهجرا ** أو شئت وصلا فوصلا )
( صبرت عني فانظر ** ظفرت بالصبر أم لا )
____________________
1- الكامل
(2/121)
( إني إذا الخل ولي ** وليته ما تولى ) (1)
وكتب إلى أبي الحسن بن هندو وأرسلها إليه صبيحة عرسه
( أنعم أبا حسن صباحا ** وازدد بزوجتك ارتياحا )
( قد رضت طرفك خاليا ** فهل استلنت له جماحا )
( وقدحت زندك جاهدا ** فهل استبنت له انقداحا )
( وطرقت منغلقا فهل ** سن الإله له انفتاحا )
( قد كنت أرسلت العيون ** صباح يومك والرواحا )
( وبعثت مصغية تبيت ** لديك ترتقب النجاحا )
( فغدت علي بجملة ** لم تولني إلا افتضاحا )
( وشكت إلي خلاخلا ** خرسا وأوشجة فصاحا )
( منعت وساوسها المسامع ** مع أن تحس لكم صباحا ) + الكامل +
وللصاحب ابن عباد في هذا المعنى إلا أنه أقرب في التصريح
( قلبي على الجمرة يا أبا العلا ** فهل فتحت الموضع المقفلا )
( وهل فككت الختم عن كيسه ** وهل كحلت الناظر الأكحلا )
( إن قلت يا هذا نعم صادقا ** أبعث نثارا يملأ المنزلا )
( وإن تجبني من حياء بلا ** أبعث إليك القطن والمغزلا ) + السريع +
ولابن العميد في المغنى القرشي
( إذا غناني القرشي يوما ** وعناني برؤيته وضربه )
( وددت لو أن أذني مثل عيني ** هناك وأن عيني مثل قلبه ) + الوافر +
____________________
1- المقتضب
(2/122)
وللوزير المهلبي فيه أيضا
( إذا غناني القرشي ** دعوت الله بالطرش )
( وإن أبصرت طلعته ** فوالهفي على العمش ) (1)
واجتمع عند ابن العميد يوما أبو محمد بن هندو وأبو القاسم بن أبي الحسين وأبو الحسين بن فارس وأبو عبد الله الطبري وأبو الحسن البديهي فحياه بعض الزائرين بأترجة حسنة فقال لهم تعالوا نتجاذب أهداب وصفها فقالوا إن رأى سيدنا أن يبتدئ فعل فابتدأ وقال
( وأترجة فيها طبائع أربع ** ) + الطويل +
فقال أبو محمد
( وفيها فنون اللهو والشرب أجمع ** ) فقال أبو القاسم
( يشبهها الرائي سبيكة عسجد ** )
فقال أبو القاسم بن أبي الحسين
( على أنها من فأرة المسك أضوع ** )
فقال أبو عبد الله
( وما اصفر منها اللون للعشق والهوى ** )
فقال أبو الحسن
( ولكن أراها للمحبين تجمع ** )
وكان ابن العميد متفلسفا متهما برأي الأوائل ويقال إنه كان مع فنونه لا يدري الشرع فإذا تكلم أحد بحضرته في أمر الدين شق عليه وخنس ثم
____________________
1- من مجزوء الوافر
(2/123)
قطع على المتكلم فيه وكان قد ألف كتابا سماه الخلق والخلق ولم يبيضه ولم يكن الكتاب بذاك ولكن جعس الرؤساء خبيص وصنان الأغنياء ند
وتوفي في سنة ثلثمائة وستين
وقام ابنه علي أبو الفتح ذو الكفايتين مقامه إذ هو ثمرة تلك الشجرة وشبل ذلك القسورة وحق علي ابن الصقر أن يشبه الصقرا وما أصدق قول الشاعر
( إن السري إذا سراره فبنفسه ** وابن السري إذا سرا أسراهما ) (1)
وكان نجيبا ذكيا لطيفا سخيا رفيع الهمة كامل المروءة تأنق أبوه في تأديبه وتهذيبه وجالس به أدباء عصره وفضلاء وقته وخرج حسن الترسل متقدم القدم في النظم آخذا من محاسن الأدب بأوفر الحظ ولما قام مقام أبيه قبل الاستكمال وعلى مدى بعيد من الاكتهال وجمع تدبير السيف والقلم لركن الدولة بن بويه لقب بذي الكفايتين وعلا شأنه وارتفع قدره وطاب ذكره وجرى أمره أحسن مجرى إلى أن توفي ركن الدولة وأفضت حال أبي الفتح إلى ما سيذكر إلى قريبا بمشيئة الله تعالى وعونه
ومن طرف أخباره أن أباه كان قد قيض جماعة من ثقاته في السر يشرفون على ولده الأستاذ أبي الفتح في منزله ومكتبه ويشاهدون أحواله ويعدون أنفاسه وأفعاله وينهون إليه جميع ما يأتيه ويذره ويقوله ويفعله
____________________
1- الكامل
(2/124)
فرفع إليه بعضهم أن أبا الفتح اشتغل ليلة بما يشتغل به الأحداث المترفون من عقد مجلس أنس واتخاذ الندماء وتعاطي ما يجمع شمل اللهو في خفية شديدة واحتياط تام وانه في تلك الحال كتب رقعة إلى بعض أصدقائه في استهداء الشراب فحمل إليهم ما يصلح لهم من المشروب والنقل والمشموم فدس أبوه إلى ذلك الإنسان من أتاه بالرقعة فإذا فيها بخطه بسم الله الرحمن الرحيم قد اغتنمت الليلة أطال الله بقاك يا سيدي ومولاي رقدة من عين الدهر وانتهزت فرصة من فرص العمر وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات نعش والسلام فاستطير الأستاذ فرحا وإعجابا بهذه الرقعة البديعة وقال الآن ظهر لي أمر براعته ووثقت بجريه في طريقي ونيابته منابي ووقع له بألفي دينار
وحكى أبو الحسين بن فارس قال كنت عند الأستاذ أبي الفتح في يوم شديد الحر فرمت الشمس بجمرات الهاجرة فقال لي ما قول الشيخ في قلبه فلم أحر جوابا لأني لم أفطن لما أراد ولما كان بعد هنية أقبل رسول والده الأستاذ يستدعيني إلى مجلسه فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكا إلي وقال ما قول الشيخ في قلبه فبهت وسكت وما زلت متفكرا حتى تنبهت أنه يريد الخيش وكأن من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة فأفرط اهتزازه لها وقرأت صحيفة السرور في وجهه ثم أخذت أتحفه بنكت نظمه ونثره فكان مما أعجب به واستضحك له رقعة له وردت علي وصدرها وصلت رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة وأقصر من أنملة نملة
قال أبو الحسين وجرى في بعض أيامنا ذكر أبيات استحسن الرئيس الأستاذ وزنها واستحلى رويها وأنشد كل من الحاضرين ما حضره على ذلك وهو قول القائل
____________________
(2/125)
( لئن كففت وإلا ** شققت منك ثيابي ) (1)
فأصغى الأستاذ أبو الفتح ثم أنشد في الوقت وقال
( يا مولعا بعذابي ** أما رحمت شبابي )
( تركت قلبي قريحا ** نهب الأسى والتصابي )
( إن كنت تنكر ما بي ** من ذلتي واكتئابي )
( فارفع قليلا قليلا ** عن العظام ثيابي )
وله من نوروزيه
( أبشر بنوروز أتاك مبشرا ** بسعادة وزيادة ودوام )
( واشرب فقد حل الربيع نقابه ** عن منظر متهلل بسام )
( وهديتي شعر عجيب نظمه ** ومديحه يبقى على الأيام )
( فاقبله وأقبل عذر من لم يستطع ** إهداء غير نتيجة الأفهام ) + الكامل +
ومن بدائعه المشهورة قوله من قصيدة
( عودي وماء شبيبتي في عودي ** لا تعمدي لمقاتل المعمود )
( وصليه ما دامت أصائل عيشه ** تؤويه في ظل لها ممدود )
( ما دام من ليل الصبا في فاحم ** رجل الذرى متهدل العنقود )
( قبل المشيب وطارقات جنوده ** يبدلنه يققا بسحم سود ) + الكامل +
ومن شعره
____________________
1- المقتضب
(2/126)
( أين لي من يفي بشكر الليالي ** إذ أضافت خيالها وخيالي )
( لم يكن لي على الزمان اقتراح ** غيرها منية فجاد بها لي ) (1)
ومنه
( إذا أنا بلغت الذي كنت أشتهي ** وأضعافه ألفا فكلني إلى الخمر )
( وقل لنديمي قم إلى الدهر واقترح ** عليه الذي يهوى وكلني إلى الدهر ) + الطويل +
يحكى أنه سر يوما وطلب الندماء وهيأ مجلسا عظيما بآلات الذهب والفضة والمغاني والفواكه وشرب بقية يومه وعامة ليلته ثم عمل شعرا وغنوه به وهو هذا
( دعوت الغنا ودعوت المنى ** فلما أجابا دعوت القدح )
( إذا بلغ المرء آماله ** فليس له بعدها مقترح ) + المتقارب +
وكان ذلك بعد تدبيره على الصاحب وإبعاده عن ركن الدولة وانفراده بالدست كما سنذكره ثم طرب بالشعر وشرب إلى أن سكر وقال غطوا المجلس لأصطبح عليه غدا وقال لندمائه باكروني ثم نام فدعاه مؤيد الدولة في السحر وقبض عليه وأخذ ما يملكه ثم قتله وكان من خبر ذلك أنه لما توفي ركن الدولة وقام بعده ولده مؤيد الدولة مقامه خليفة لأخيه عضد الدولة أقبل من أصبهان إلى الري ومعه الصاحب أبو القاسم بن عباد فخلع علي أبي الفتح هذا خلع الوزارة وألقى إليه مقاليد المملكة والصاحب على حالته في الكتابة لمؤيد الدولة والاختصاص به وشدة الحظوة لديه فكره أبو الفتح مكانه وأساء به الظن فبعث الجند على أن يشغبوا عليه وهموا بما لم ينالوا منه فأمره مؤيد الدولة بمعاودة أصبهان وأسر في نفسه الموجده على أبي الفتح وانضاف إلى ذلك تغير عضد الدولة واحتقاده عليه أشياء كثيرة في أيام أبيه وبعدها منها ممايلته عز الدولة بختيار ومنها ميل القواد إليه بل غلوهم في موالاته ومحبته ومنها ترفعه عن التواضع له في مكاتباته واجتمع رأى الأخوين على اعتقاله وأخذ أمواله ولما قبض عليه بدرت منه كلمات
____________________
1- الخفيف
(2/127)
أيضا نقلت إلى عضد الدولة فزادت في استيحاشه منه وأنهض من حضرته من طالبه بالأموال وعذبه بأنواع العذاب ويقال إنه سمل إحدى عينيه وقطع أنفه وجز لحيته
وفي تلك الحال يقول وقد أيس من نفسه واستأذن في صلاة ركعتين ودعا بدواة وقرطاس وكتب
( بدل من صورتي المنظر ** لكنه ما غير المخبر )
( ولست ذا حزن على فائت ** لكن على من بات يستعبر )
( وواله القلب لما مسني ** مستخبر عني ولا يخبر ) (1)
وحدث أبو جعفر الكاتب قال كان أبو الفتح قبل النكبة التي أتت على نفسه قد لهج بإنشاد هذين البيتين في أكثر أوقاته ولست أدري أهماله أم لغيره وهما
( سكن الدنيا أناس قبلنا ** رحلوا عنها وخلوها لنا )
( ونزلناها كما قد نزلوا ** ونخليها لقوم بعدنا ) + الرمل +
ولما تيقن بهلاكه وانه لا ينجو منهم ببذل المال مد يده إلى جيب جبة كانت عليه ففتقه عن رقعة فيها مكتوب ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره وألقاها في كانون كان بين يديه ثم قال للموكل به المأمور بقتله اصنع ما أنت صانع فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك الدرهم الواحد فما زال يعرضه على العذاب ويمثل به حتى تلف
وفيه يقول بعض الشعراء المتعصبين له
( آل العميد وآل برمك مالكم ** قل المعين لكم وقل الناصر )
( كان الزمان يحبكم فبداله ** إن الزمان هو المحب الغادر )
ورثاه كثير من الشعراء بغرر القصائد
____________________
1- السريع
(2/128)
99
( لا تعجبوا من بلى غلالته ** قد زر أزراره على القمر )
البيت لأبي الحسن بن طباطبا العلوي من المنسرح وقبله
( يا من حكى فرط رقته ** وقلبه في قساوة الحجر )
( يا ليت حظي كحظ ثوبك من ** جسمك يا واحدا من البشر ) (1)
وبعده البيت ورأيته بلفظ
( قد زر كتانها على القمر ** )
ولعله أبلغ في المراد والغلالة بكسر الغين المعجمة شعار يلبس تحت الثوب
والشاهد فيه ما في البيت الذي قبله لأنه لو لم يجعله قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى لان الكتان إنما يسرع إليه البلى بسبب ملازمته للقمر الحقيقي لا بسبب ملابسة إنسان كالقمر حسنا ورد كون الاستعارة مجازا عقليا بان ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يقتضي كونها مستعملة فيما وضعت له للعلم الضروري بأنها مستعملة في الرجل الشجاع مثلا والموضوع له هو السبب المخصوص وأما التعجب والنهي عنه في البيت والذي قبله فللبناء على تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة ودلالة على أن المشبه بحيث لا يتميز عن المشبه به أصلا حتى إن كل ما يترتب على المشبه به من التعجب والنهي عنه يترتب على المشبه أيضا
وأبو الحسن ابن طباطبا اسمه محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو شاعر مفلق وعالم محقق مولده بأصبهان وبها مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وله عقب كثير بأصبهان فيهم علماء
____________________
1- المنسرح
(2/129)
وأدباء ومشاهير وكان مذكورا بالفطنة والذكاء وصفاء القريحة وصحة الدهن وجودة المقاصد
وله من المصنفات كتاب عيار الشعر وكتاب تهذيب الطبع وكتاب العروض ولم يسبق إلى مثله
ومن شعره قصيدة تسعة وثلاثون بيتا ليس فيها راء ولا كاف أولها
( يا سيدا دانت له السادات ** وتتابعت في فعله الحسنات ) (1)
يقول منها في وصف القصيدة
( ميزانها عند الخليل معدل ** متفاعلن متفاعلن فعلات )
( لو واصل بن عطاء الباني لها ** تليت توهم أنها آيات )
ومن شعره يهجو أبا علي الرستمي ويرميه ** بالدعوة والبرص
( أنت أعطيت من دلائل رسل الله آيا بها علوت الرؤسا ** )
( جئت فردا بلا أب وبيمناك ** بياض فأنت عيسى وموسى ) + الخفيف +
وما أحسن قول أبي المطاوع ناصر الدولة ابن حمدان في معنى البيت المستشهد به
( ترى الثياب من الكتان يلمحها ** نور من البدر أحيانا فيبليها )
( فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ** والبدر في كل وقت طالع فيها ) + البسيط +
وقال منصور البستي المعروف بالغزال فيه من قصيدة يصف الساقي
( ومشى بكتان فخلت عناكبا ** نسجت على الياقوت ثوب قتام )
( أعجب ببدر سالم كتانه ** وبه يحرق أنفس الأقوام ) (1)
____________________
1- الكامل
(2/130)
ومثله قول الآخر
( كيف لا تبلى غلائله ** وهو بدر وهي كتان ) (1)
100
( فإن تعافوا العدل والإيمانا ** فإن في إيماننا نيرانا )
قائله بعض العرب من الرجز
والشاهد فيه ذكر القرينة في الاستعارة لأنها مجاز ولا بد لها من قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له وهي إما أمر واحد أو أكثر وهو هنا قوله تعافوا فإن تعلقه بكل من العدل والإيمان قرينة دالة على أن المراد بالنيران السيوف أي سيوفا تلمع كشعل النيران لدلالته على أن جواب هذا الشرط تحاربون وتلجئون إلى الطاعة بالسيوف
101
( وصاعقة من نصله تنكفي بها ** على أرؤس الأقران حمس سحائب )
البيت للبحتري من قصيدة من الطويل أولها
( هبيه لمنهل الدموع السواكب ** وهبات شوق في حشاه لواعب )
( وإلا فردي نظرة فيه تعجبي ** لما فيه أولا تحفلي بالعجائب ) + الطويل + وهي طويلة والرواية فيه وصاعقة في كفه كما في الديوان وبعده
____________________
1- المديد
(2/131)
( يكاد الندى منها يفيض على العدا ** لدى الحرب في ثنيتي قنا وقواضب )
والصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب والمحراق الذي بيد الملك سائق السحاب ولا يأتي على شيء إلا أحرقه أو نار تسقط من السماء والانكفاء الانقلاب والأرؤس جمع رأس والأقران جمع قرن وهو الكفء
والشاهد فيه مجيء القرينة معاني ملتئمة مربوطة بعضها ببعض يكون الجميع قرينة لا كل واحد فههنا أراد بخمس سحائب أنامل الممدوح الخمس التي هي في الجود وعموم العطاء سحائب أي يصبها على اكفائه في الحرب فيهلكهم بها وأراد بأرؤس الأقران جمع الكثرة بقرينة المدح لان كلا من صيغة جمع القلة والكثرة يستعار للآخر فههنا لما استعار السحائب لأنامل الممدوح ذكر أن هناك صاعقة وبين أنها من نصل سيفه ثم قال على أرؤس الأقران ثم قال خمس فذكر العدد الذي هو عدد الأنامل فظهر من جميع ذلك أنه أراد بالسحائب الخمس الأنامل
102
( وإذا احتبى قربوسه بعنانه ** )
قائله يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان من قصيدة من الكامل يصف فرسا له بأنه مؤدب وانه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه وتمامه
( علك الشكيم إلى انصراف الزائر ** )
والقربوس بفتح الراء ولا تسكن إلا في ضرورة الشعر وهو حنو السرج وهما قربوسان والعنان بكسر العين سير اللجام الذي تمسك
____________________
(2/132)
به الدابة والشكيم والشكيمة الحديدة المعترضة في فم الفرس فيها الفأس وأراد بالزائر نفسه بدليل ما قبله وهو
( عودته فيما أزور حبائبي ** إهماله وكذاك كل مخاطر ) (1)
والشاهد فيه الاستعارة الخاصة وهي الغريبة والغرابة قد تكون في نفس الشبه كما في البيت فإنه شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج ممتدا إلى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثوب موقعه من ركبة المحتبي ممتدا إلى جانبي ظهره وساقيه بثوب أو غيره كوقوع العنان في قربوس السرج فجاءت الاستعارة غريبة كغرابة المشبه
ومن الاستعارات الغريبة قول طفيل الغنوي
( وجعلت كوري فوق ناجية ** يقتات شحم سنامها الرحل ) (1)
وكذا قول الأستاذ ابن المعتز
( حتى إذا ما عرف الصيد أنصار ** وأذن الصبح لنا بالأبصار ) + الرجز +
وقول جرير
( تحيي الروامس ربعها فتجده ** بعد البلى وتميته الأمطار ) (1)
وقول أبي نواس
( بصحن خد لم يغض ماؤه ** ولم تخضه أعين الناس ) + السريع +
وقوله أيضا
____________________
1- الكامل
(2/133)
( فإذا بدا اقتادت محاسنه ** قسرا إليه أعنه الحدق ) (1)
103
( وسالت بأعناق المطي الأباطح ** )
قائله كثير عزة من قصيدة من الطويل وصدره
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** )
وقبله
( ولما قضينا من منى كل حاجة ** ومسح بالأركان من هو ماسح )
( وشدت على حدب المهاري رحالنا ** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
وقيل الأبيات لابن الطثرية وذكر الشريف الرضى في كتابه غرر الفرائد قال أنشدني ابن الأعرابي للمضرب وهو عقبة بن كعب بن زهير بن أبى سلمى رحمهم الله تعالى
( وما زلت أرجو نفع سلمى وودها ** وتبعد حتى ابيض مني المسائح )
( وحتى رأيت الشخص يزداد مثله ** إليه وحتى نصف رأسي واضح )
____________________
1- الكامل
(2/134)
( علا حاجبي الشيب حتى كأنه ** ظباء جرت منها سنيح وبارح )
( وهزة أظعان عليهن بهجة ** طلبت وريعان الصبا بي جامح )
( فلما قضينا من منى كل حاجة ** ومسح بالأركان من هو ماسح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** وسالت بأعناق المطي الأباطح )
( وشدت على حدب المهاري رحالها ** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
( قفلنا على الخوص المراسيل وارتمت ** بهن الصحاري والصفاح الصحاصح )
والأباطح جمع بطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى
والمعنى لما فرغنا من أداء مناسك الحج ومسحنا أركان البيت الشريف عند طواف الوداع وشددنا الرحال على المطايا وارتحلنا ولم ينظر السائرون في الغداة السائرين في الرواح للاستعجال أخذنا في الأحاديث وأخذت المطايا في سرعة السير
والشاهد فيه حصول الغرابة في الاستعارة العامية بتصرف فيها فإنه استعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل سيرا عنيفا حثيثا في غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة والشبه فيها ظاهر عامي لكنه تصرف فيه بما أفاد اللطف والغرابة حين أسند الفعل وهو سالت إلى الأباطح دون المطي أو أعناقها حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل وأدخل الأعناق في السير لان السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في الأعناق ويتبين أمرهما في الهوادي وسائر الأجزاء يستند إليها في الحركة ويتبعها في الثقل والخفة
ومثل هذه الاستعارة في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز رحمه الله تعالى حيث يقول
( سالت عليه شعاب الحي حين دعا ** أنصاره بوجوه كالدنانير ) (1)
____________________
1- البسيط
(2/135)
أراد أنه مطاع في الحي وأنهم يسرعون إلى نصرته كالسيل وكما أن إدخال الأعناق في السير أكد كلا من الرقة والغرابة في الأول أكده هنا تعدية الفعل إلى ضمير الممدوح بعلى لأنه يؤكد مقصوده من كونه مطاعا في الحي
وكثير عزة هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر ابن عويمر أبو صخر الخزاعي الشاعر المشهور أحد عشاق العرب وإنما صغروه لأنه كان شديد القصر حدث الوقاصي قال رأيت كثيرا يطوف بالبيت فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدقه وكان إذا دخل على عبد الملك ابن مروان أو أخيه عبد العزيز رحمهما الله تعالى يقول له طأطئ رأسك لئلا يصيبه السقف وكان يلقب زب الذباب
وعن أبي عبيدة قال كان الحزين الكناني قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين في كل شهر منهم ابن أبي عتيق فجاءه لأخذ درهميه على حمار له أعجف قال وكثير مع ابن أبي عتيق فأمر ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال الحزين لابن أبي عتيق من هذا الذي معك قال أبو صخر كثير بن أبي جمعة قال وكان قصيرا دميما فقال له الحزين أتأذن لي في أن أهجوه ببيت من الشعر قال لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي ولكني أشتري عرضه منك بدرهمين ودعا له بهما فأخذهما وقال لا بد لي من هجائه ببيت قال وأشتري ذلك منك بدرهمين آخرين فدعا له بهما فأخذهما أيضا وقال ما أنا بتاركه حتى أهجوه قال وأشتري ذلك منك بدرهمين أيضا فقال له كثير
____________________
(2/136)
ايذن له وما عسى أن يقول في بيت واحد قال فأذن له ابن عتيق فقال
( قصير القميص فاحش عند بيته ** يعض القراد باسته وهو قائم ) (1)
قال فوثب إليه كثير فلكزه فسقط عن الحمار فخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال لكثير قبحك الله أتاذن له وتسفه عليه فقال كثير وأنا ما ظننت أن يبلغ بي في بيت واحد هذا كله
وكان كثير يقول بتناسخ الأرواح وكان يدخل على عمة له يزورها فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها فقال لها يوما لا والله ما تعرفينني ولا تكرمينني حق كرامتي قالت بلى والله إني لأعرفك قال فمن أنا قالت فلان بن فلان وابن فلانه وجعلت تمدح أباه وأمه فقال قد علمت أنك لا تعرفينني قالت فمن أنت قال أنا يونس بن متى وكان يقرأ ! ( في أي صورة ما شاء ركبك ) ! وكان يؤمن بالرجعة ودخل عليه عبد الله بن حسن بن حسن ين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال له كثير أبشر فكأنك بي بعد أربعين ليلة قد طلعت عليك على فرس عتيق فقال له عبد الله بن حسن رضي الله عنه مالك عليك لعنة الله فوالله لئن مت لا أشهدك ووالله لا أعودك ولا أكلمك أبدا وكان شيعيا غاليا في التشيع وكان يأتي ولد حسن بن حسن رضي الله عنهم إذا أخذ العطاء فيهب لهم الدراهم ويقول بأبي الأنبياء
____________________
1- الطويل
(2/137)
الصغار
وقال عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى إني لأعرف صالح بني هاشم من فاسدهم بحب كثير من أحبه منهم فهو فاسد ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبيا يؤمن بالرجعة
وحدث رجل من مزينة قال ضفت كثيرا ليلة وبت عنده ثم تحدثنا ونمنا فلما طلع الفجر تضور ثم قمت فتوضأت وصليت وكثير نائم في لحافه فلما طلع قرن الشمس تضور ثم قال يا جارية اسجري لي ماء أي سخني قال فقلت تبا لك سائر اليوم وبعده وركبت راحلتي وتركته
وكان كثير عاقا لأبيه وكان أبوه قد أصابته قرحة في أصبع من أصابع يديه فقال له كثير أتدري لم أصابتك القرحة في أصبعك قال لا أدري قال مما ترفعها إلى الله في يمين كاذبة
وعن طلحة بن عبيد الله قال ما رأيت أحمق من كثير دخلت عليه في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نهزأ به وكان يتشيع تشيعا قبيحا فقلت له كيف تجدك يا أبا صخر وهو مريض فقال أجدني ذاهبا فقلت كلا فقال هل سمعتم الناس يقولون شيئا قلت نعم يتحدثون بأنك الدجال قال أما إذ قلت ذاك فإني لأجد في عيني هذه ضعفا منذ أيام
____________________
(2/138)
وعن عبد العزيز بن عمر رحمهما الله أن أناسا من أهل المدينة المنورة كانوا يهزأون بكثير فيقولون وهو يسمع إن كثيرا لا يلتفت من تيهه فكان الرجل يأتيه من ورائه فيأخذ رداءه فلا يلتفت من الكبر ويمضي في قميص
وكان عبد الملك بن مروان معجبا بشعره قال له يوما كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين قال أراه يسبق السحر ويغلب الشعر
وقال عبد الملك له يوما من أشعر الناس يا أبا صخر قال من يروي أمير المؤمنين شعره فقال له عبد الملك إنك لمنهم
وحدث كثير قال ما قلت الشعر حتى قولته قيل له وكيف ذاك قال بينا أنا نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم أو بقاع حمران إذ راكب قد دنا إلي حتى صار إلى جنبي فتأملته فإذا هو من صفر وهو يجر نفسه في الأرض جرا فقال لي قل الشعر وألقاه علي قلت من أنت قال قرينك من الجن فقلت الشعر
وكان أول أمره مع عزة التي يتعشقها أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة فقالت له يقلن لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع فأعطاها كبشا وأعجبته فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه فقال وأين الصبية التي أخذت مني الكبش قالت وما تصنع بها هذه دراهمك قال لا أخذ دراهمي إلا ممن دفعت إليه وولى وهو يقول
( قضى كل ذي دين فوفى غريمه ** وعزة ممطول معنى غريمها ) (1)
فقلن له أبيت إلا عزة وأبرزنها له وهي كارهة ثم إنها أحبته بعد ذلك أشد من حبه لها
____________________
1- الطويل
(2/139)
وعن الهيثم بن عدي أن عبد الملك سأل كثيرا عن أعجب خبر له مع عزة فقال حججت سنة من السنين وحج زوج عزة بها ولم يعلم أحد منا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن يصلح به طعاما لأجل رفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبري سهما لي فلما رأيتها جعلت أبري وأنظر إليها ولا اعلم حتى بريت ذراعي وأنا لا أشعر به والدم يجري فلما تبينت ذلك دخلت إلي فأمسكت بيدي وجعلت تمسح الدم بثوبها وكان عندي نحي من سمن فحلفت لتأخذنه فجاءت به إلى زوجها فلما رأى الدم سألها عن خبره قال فكاتمته حتى حلف عليها لتصدقنه فلما أخبرته ضربها وحلف لتشتمني في وجهي فوقفت علي وهو معها فقالت لي يا ابن الزانية وهي تبكي ثم انصرفا فذلك حيث أقول
( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقلية إن تقلت )
( هنيئا مريئا غير داء مخامر ** لعزة من أعراضنا ما استحلت ) (1)
ومنه قوله فيها أيضا
( وددت وحق الله أنك بكرة ** وأني هجان مصعب ثم نهرب )
( كلانا به عر فمن يرنا يقل ** على حسنها جرباء تعدي وأجرب )
( نكون لذي مال كثير مغفل ** فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب )
( إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ** علينا فما ننفك نرمى ونضرب ) (1)
يحكى أن عزة لما بلغها ذلك وحضر إليها أنشدته الأبيات وقالت له ويحك لقد أردت بي الشقاء أما وجدت أمنية أوطأ من هذه فخرج من عندها خجلا
وأسوأ من هذه الأمنية أمنية الفزاري حيث قال
____________________
1- الطويل
(2/140)
( من حبها أتمنى أن يلاقيني ** من نحو بلدنها ناع فينعاها )
( كيما أقول فراق لا لقاء له ** وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها ) (1)
ولكنه استدرك بعد ذلك فقال
( ولو تموت وراعتني لقلت لها ** يا بؤس للموت ليت الدهر أبقاها ) (1)
وقال الآخر
( تمنيت من حبي بثينة أننا ** وئدنا جميعا ثم تحيا ولا أحيا )
( فترجع دنياها عليها وإنني ** بساعة ضميها رضيت من الدنيا ) + الطويل +
وكل امرئ أمانيه تليق بمعاليه قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى علية ما تتمنى قال سندا عاليا وبيتا خاليا وقيل لبعض الوراقين ما تتمنى قال قلما مشاقا وحبرا براقا وجلودا وأوراقا وقيل لبعض الصوفية ما تتمنى قال دقنا ودلقا ولا أريد رزقا وقال بعضهم
( لو قال لي خالقي تمنى ** قلت له سائلا بصدق )
( أريد في صبح كل يوم ** فتوح خير يأتي برزق )
( كف حشيش ورطل لحم ** ومن خبز ونيك علق ) + من مخلع البسيط +
وقول الآخر
( لو قيل ما تتمنى قلت في عجل ** أخا صدوقا أمينا غير خوان )
( إذا فعلت جميلا ظل يشكرني ** وإن أسأت تلقاني بغفران ) (1)
وما أحسن قول ابن سارة في الأماني
( أماني من ليلى حسان كأنما ** سقني بها ليلى على ظمإ بردا )
____________________
1- البسيط
(2/141)
( منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ** وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا ) (1)
وبديع قول الوزير مؤيد الدين الطغرائي رحمه الله تعالى
( أعلل النفس بالآمال أرقبها ** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ) + البسيط +
وقد أخذه العماد الكاتب فقال
( وما هذه الأيام إلا صحائف ** نؤرخ فيها ثم تمحى وتمحق )
( ولم أر عيشا مثل دائرة المنى ** توسعها الآمال والعيش ضيق ) (1)
وقال العفيف إسحاق بن خليل كاتب الإنشاء للناصر داود
( لولا مواعيد آمال أعيش بها ** لمت يا أهل هذا الحي من زمن )
( وإنما طرف آمالي به مرح ** يجري بوعد الأماني مطلق الرسن ) + البسيط +
وقال آخر
( في المنى راحة وإن عللتنا ** من هواها ببعض ما لا يكون ) + الخفيف +
وقال أبو الوليد بن زيدون أيضا
( أما منى قلبي فأنت جميعه ** يا ليتني أصبحت بعض مناك )
( يدني مزارك حين شط به النوى ** وهم أكاد به أقبل فاك ) + الكامل +
ومن هنا أخذ الحاجري قوله
( يمثلك الشوق الشديد لناظري ** فأطرق إجلالا كأنك حاضر ) (1)
وقال ابن رزين من شعراء الذخيرة
( لأسرحن نواظري ** في ذلك الروض النضير )
( ولآكلنك بالمنى ** ولأشربنك بالضمير ) + من مجزوء الكامل +
وقال علم الدين أيدمر المحيوي
( كم لدينا أمانيا ** قد حوت محكم العمل )
( فارغات من الدنا ** نير ملأى من الأمل ) + من مجزوء الخفيف +
____________________
1- الطويل
(2/142)
وهو عكس قول الآخر
( وإن رجاء كامنا في نواله ** لكالمال في الأكياس تحت الخواتم ) (1)
وقال أبو الحسين الجزار
( ليت شعري ما العذر لولا قضاء الله في رزقه وفي حرماني ** )
( ولقد كدت أن أهيم بحمل الهم لولا تعللي بالأماني ** ) + الخفيف +
وله أيضا
( حسب الفتى حسن الأماني إنه ** لا يعتريه مدى الزمان زوال ) + الكامل +
وقال أبو البركات محمد بن الحسن الخاتمي
( لي حبيب لو قيل ما تتمنى ** ما تعديته ولو بالمنون )
( أشتهي أن أحل في كل طرف ** فأراه بلحظ كل العيون ) + الخفيف +
وقال غيره
( أعلل بالمنى قلبي لأني ** أفرج بالأماني الهم عني )
( وأعلم أن وصلك لا يرجى ** ولكن لا أقل من التمني ) + الوافر +
وقال الآخر وهو أصرح مما قبله
( إذا ما عن ذكرك في ضميري ** وقابلني محياك الجميل )
( أصير لفرط أشواقي أيورا ** لعلمي أن نيكك مستحيل ) + الوافر +
وهو يشبه قول الصفي الحلي أيضا
( إذا صد الحبيب لغير ذنب ** وقاطعني واعرض عن وصالي )
( أمثله وأنكسح عند صلحي ** بأير الفكر في ثقب الخيال ) + الوافر +
وقد سد ابن المعتز باب المنى بقوله
( لا تأسفن من الدنيا على أمل ** فليس باقيه إلا مثل ماضيه ) + البسيط +
وتابعه الخالدي فقال
____________________
1- الطويل
(2/143)
( ولا تكن عبد المنى فالمنى ** رءوس أموال المفاليس ) (1)
وقال الآخر
( من نال من دنياه أمنية ** أسقطت الأيام منها الألف ) (1)
وقال شرف الدين القيرواني أيضا
( غلف تمنوا في البيوت أمانيا ** وجميع أعمار اللئام أماني ) + الكامل +
وقال الآخر
( ألا يا نفس إن ترضى بقوت ** فأنت عزيزة أبدا غنية )
( دعي عنك المطامع والأماني ** فكم أمنية جلبت منية ) + الوافر +
وقال أبو الحسين الجزار
( أنا في راحة من الآمال ** أين من همتي بلوغ المعالي )
( لي عجز أراح قلبي من الهم ومن طول فكرتي في المحال ** )
( ما لباس الحرير مما ارجيه فيرجى ولا ركوب البغال ** )
( راحة السر في التخلف عن كل محل أضحى بعيد المنال ** ) + الخفيف +
وقال بعضهم
( وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا ** فإن صدقت جازت بصاحبها القدرا ) + الطويل +
( وقال آخر
( ولي من تمني النفس دنيا عريضة ** ومستفتيح يغدو علي ويطرق )
( فقدت المنى لا النفس تلهو عن المنى ** لتجربة منها ولا هي تصدق ) + الطويل +
وقال الصلاح الصفدي
( ألا فاطرح عنك التمني ولا تبت ** بكاساته نشوان غير مفيق )
( فإن كان مما لا غنى عنه فليكن ** وفاة عدو أو حياة صديق ) + الطويل +
____________________
1- السريع
(2/144)
وقد أكثرنا في طول الأمل وضده فلنرجع إلى أخبار كثير عزة
يحكى أنه خرج في الحج بجمل يبيعه فمر بسكينة بنت الحسين رضي الله عنهما ومعها عزة وهو لا يعرفها فقالت لها سكينة هذا كثير سوميه بالجمل فسامته فاستام بمائتي درهم فقالت ضع عنا كذا وكذا لشيء قليل فأبى فدعت له بتمر وزبد فأكل فقالت له ضع عنا كذا وكذا لشيء قليل فأبى أيضا فقالتا له قد أكلت بأكثر مما نسألك فقال ما أنا بواضع شيئا فقالت سكينة اكشفوا فكشفوا عنها وعن عزة فلما رآها استحيا وانصرف وهو يقول هو لكم هو لكم
وحدث محمد بن سلام قال كان كثير يتقول ولم يكن عاشقا وكان جميلا صادق الصبابة والعشق وقال أبو عبيدة كان جميل يصدق في حبه وكان كثير يكذب في حبه
ويروى أنه نظر ذات يوم إلى عزة وهي تميس في مشيتها فلم يعرفها فاتبعها وقال لها يا سيدتي قفي لي أكلمك فإني لم أر مثلك قط فمن أنت قالت ويحك وهل تركت عزة فيك بقية لأحد فقال بأبي أنت لو أن عزة أمه لوهبتها لك قالت فهل لك في المخاللة قال وكيف لي بذلك قالت وكيف بما قلته في عزة قال أقلبه كله وأحوله إليك فكشفت عن وجهها وقالت أغدرا يا فاسق وإنك لهكذا فأبلس ولم ينطق وبهت فلما مضت أنشأ يقول
( ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ** من السم جرعات بماء الذرارح )
(
( فمت ولم تعلم علي خيانة ** وكم طالب للربح ليس برابح )
( ابوء بذنبي إنني قد ظلمتها ** وإني بباقي سرها غير بائح ) (1)
وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة المنورة فاشتاق إليها فسافر ليلقاها فصادفها في الطريق وهي متوجهة إلى مصر فجرى بينهما كلام طويل الشرح ثم أنها
____________________
1- الطويل
(2/145)
انفصلت عنه وقدمت مصر ثم عاد كثير إلى مصر فوافاها توفيت والناس منصرفون عن جنازتها فأتى قبرها وأناخ راحلته ومكث ساعة ثم رحل وهو يقول أبياتا منها قوله
( أقول ونضوى واقف عند قبرها ** عليك سلام الله والعين تسفح )
( وقد كنت أبكي من فراقك حية ** فأنت لعمري الآن أنأي وأنزح ) (1)
وقال له عبد الملك بن مروان يوما بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحدا أعشق منك قال يا أمير المؤمنين لو أنشدتني بحقك لأخبرتك بيننا أنا أسير في بعض الفلوات إذ أنا برجل قد نصب حبالته فقلت له ما حبسك ها هنا فقال أهلكني وأهلي الجوع فنصبت حبالتي هنا لأصيب لهم شيئا يكفينا ويعصمنا يومنا هذا قلت أرأيت إن أقمت معك فأصبت صيدا تجعل لي جزءا منه قال نعم فبينا نحن كذلك وقعت ظبية في الحبالة فخرجنا نبتدر فبدرني إليها قحلها وأطلقها فقلت ما حملك على هذا قال دخلتني لها رقة لشبهها بليلى وأنشأ يقول
( أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ** لك اليوم من وحشية لصديق )
( أقول وقد أطلقتها من وثاقها ** فأنت لليلى ما حييت طليق ) (1)
وحدث عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال بكى بعض آل كثير عليه حين نزل به الموت فقال له كثير لا تبك فكأني بك بعد أربعين يوما تسمع خشفة نعلي من تلك الشعبة راجعا إليكم
وحدث يزيد ين عروة رحمهم الله تعالى قال مات كثير وعكرمة رحمه الله تعالى في يوم واحد فقيل مات اليوم أعلم الناس وأشعر الناس ولم تتخلف امرأة ولا رجل عن جنازتيهما وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن عزة في ندبهن فقال أبو جعفر محمد بن علي افرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها
____________________
1- الطويل
(2/146)
قال فجعلنا ندفع عنها النساء وجعل محمد بن علي رضي الله عنهما يضربهن بكمه ويقول تنحين يا صويحبات يوسف فانتدبت له امرأة منهن فقالت يا ابن رسول الله لقد صدقت إننا لصويحباته وقد كنا خيرا منكم له فقال أبو جعفر لبعض مواليه احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا فلما انصرف أتى بتلك المرأة كأنها شرر النار فقال لها أية أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا قالت نعم تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله قال أنت آمنة من غضبي فأبيني قالت نحن يا ابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والمتمتع والمتنعم وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن فأينا كان عليه أحن وبه أرأف فقال لها محمد لله درك لن تغالب امرأة إلا غلبت ثم قال ألك بعل فقالت لي من الرجال من أنا بعله فقال لها ما أصدقك مثلك من تملك زوجها ولا يملكها فلما انصرفت قال رجل من القوم هذه ربيبة فلانه بنت معيقب الأنصارية
وكانت وفاة كثير سنة خمس ومائة في ولاية يزيد بن عبد الملك رحمهم الله تعالى
104
( قتل البخل وأحيا السماحا ** )
هو لابن المعتز من قصيدته السابقة في التشبيه وصدره
( جمع الحق لنا في إمام ** )
وبعده قوله
( إن عفا لم يلغ لله حقا ** أو سطا لم يخش منه جناحا )
____________________
(2/147)
( ألف الهيجاء طفلا وكهلا ** يحسب السيف عليه وشاحا )
والشاهد فيه مدار قرينة الاستعارة التبعية على المفعول فإن القتل والإحياء الحقيقيين لا يتعلقان بالبخل والجود
105
( نقريهم لهذميات )
قائله القطامي ولفظه
( نقريهم لهذميات نقد بها ** ما كان خاط عليهم كل زراد )
وهو من قصيدة من البسيط يمدح بها زفر بن الحارث الكلابي أولها
( ما اعتاد حب سليمى غير معتاد ** ولا تقضى بوافي دينها الطادي )
( بيضاء محطوطة المتنين بهكنة ** ريا الروادف لم تمغل بأولاد )
( ما للكواعب ودعن الحياة كما ** ودعنني واتخذن الشيب ميعادي )
( أبصارهن إلى الشبان مائلة ** وقد أراهن عني غير صداد )
( إذ باطلي لم تقشع جاهليته ** عني ولم يترك الخلان تقوادي )
( كنية الحي من ذي اليقظة احتملوا ** مستحقبين فؤادا ما له فادي )
____________________
(2/148)
( باتوا وكانت حياتي في اجتماعهم ** وفي تفرقهم قتلي وإقصادي )
( يقتلننا بحديث ليس يعلمه ** من يتقين ولا مكنونه بادي )
( فهن ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلة الصادي ) (1)
وهي طويلة
واللهذم القاطع من الأسنة وأراد بلهذميات طعنات منسوبة إلى الأسنة القاطعة أو أراد نفس الأسنة والتشبيه للمبالغة والقد القطع والزراد صانع الدروع
والشاهد فيه أن مدار قرينة الاستعارة التبعية في الفعل وما يشتق منه على الفاعل أو المفعول كما هنا فإن المفعول الثاني وهو اللهذميات قرينة على أن نقريهم استعارة
وقد تقدم ذكر القطامي في شواهد القلب والله اعلم
106
( غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ** )
هو من الكامل وتمامه
( غلقت لضحكته رقاب المال ** )
وهو من قصيدة لكثير عزة وأراد بغمر الرداء كثير العطاء
والشاهد فيه الاستعارة المجردة وهي ما قرنت بملائم المستعار له فإنه استعار الرداء للعطاء لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ثم وصفه بالغمر الذي يلائم العطاء دون الرداء تجريدا للاستعارة والقرينة سياق
____________________
1- البسيط
(2/149)
الكلام وهو قوله إذا تبسم ضاحكا أي شارعا في الضحك آخذا فيه غلقت لضحكته رقاب المال يقال غلق الرهن في يد المرتهن إذا لم يقدر على انفكاكه وهو يريد في البيت أن ممدوحه إذا تبسم غلقت رقاب أمواله في أيدي السائلين
ومن استعارة الرداء قوله
( ينازعني ردائي عبد عمرو ** رويدك يا أخا عمرو بن بكر )
( لي الشطر الذي ملكت يميني ** فدونك فاعتجز منه بشطر ) (1)
فإنه استعار الرداء للسيف وأثبت له الاعتجاز وهو من صفة الرداء
وما أحسن استعارة الرداء في قول أبي الوليد بن الجنان الشاطبي وهو
( فوق خد الورد دمع ** من عيون السحب يذرف )
( برداء الشمس أضحى ** بعد ما سال يجفف ) + من مجزوء الرمل +
وفي معنى عجز البيت قول امرىء القيس
( غلقن برهن من حبيب به ادعت ** سليمى فأضحى حبلها قد تبترا ) + الطويل +
وقول زهير
( وفارقتك برهن لا فكاك له ** يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا ) + البسيط +
وقول الوليد
( ومن يك رهنا للحوادث يغلق ** ) + الطويل +
وقول عمر بن أبي ربيعة
( وكم من قتيل لا يباء به دم ** ومن غلق رهن إذا ضمه مبنى ) + الطويل +
وقول أبي جعفر بن مسلمة بن وضاح يخاطب ساجع حمام من أبيات
( وهاج مبكاك ببستان إبراهيم للنجدي ذكر القطين ** )
____________________
1- الوافر
(2/150)
( فرج فساعدني على لوعتي ** فإن رهني غلق في الرهون ) (1)
وقول أبي نصر الساجي
( تشكو إليك جملتي ما نالها ** فيا لها إن صبرت ويالها )
( لأنها مرهونة بحبكم ** طوبى لها إن غلقت طوبى لها ) + الرجز +
وما ألطف قول الصلاح الصفدي مع زيادة إبهام وإيهام الطباق
( سهام لحظك أصمت ** قلبي ولم تترفق )
( ما تفتح الجفن ألا ** ورهن قلبي يغلق ) + المجتث +
( لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم )
تقدم قريبا أن قائله زهير بن أبي سلمى من قصيدة من الطويل
واللبد بالكسر شعر زبرة الأسد وكنيته أبو لبد والتقليم مبالغة القلم وهو قطع الأظفار
والشاهد فيه اجتماع التجريد والترشيح في الاستعارة فالتجريد قد عرف قبله والترشيح هو ما قرن بملائم المستعار منه فقوله هنا لدى أسد شاكي السلاح تجريد لأنه وصف يلائم المستعار له وهو الرجل الشجاع وباقي البيت ترشيح لأنه وصف يلائم المستعار منه وهو الأسد الحقيقي
ومعنى البيت أخذه زهير من قول أوس بن حجر حيث قال
____________________
1- السريع
(2/151)
( لعمرك إنا والأحاليف هؤلآ ** لفي حقبة أظفارها لم تقلم ) (1)
أي نحن في حرب وكذلك أخذه النابغة حيث قال أيضا
( وبنو قعين لا محالة إنهم ** آتوك غير مقلمي الأظفار ) + الكامل +
107
( ويصعد حتى يظن الجهول ** بأن له حاجة في السماء )
البيت لأبي تمام الطائي من قصيدة من المتقارب يرثي بها خالد بن يزيد الشيباني ويذكر أباه وأولها
( نعاء إلى كل حي نعاء ** فتى العرب اختط ربع الفناء )
( أصبنا جميعا بسهم النضال ** فهلا أصبنا بسهم الغلاء )
( ألا أيها الموت فجعتنا ** بماء الحياة وماء الحياء )
( فماذا حبوت به حاضرا ** وماذا خبأت لأهل الخباء )
( نعاء نعاء شقيق الندى ** إليه نعيا قليل الجداء )
( وكانا زمانا شريكي عنان ** رضيعي لبان خليلي صفاء ) + المتقارب +
إلى أن قال يخاطب ولده
____________________
1- الطويل
(2/152)
( أبا جعفر ليعزك الزمان ** عزا ويكسك طول البقاء )
( فما مزنك المرتجى بالجهام ** ولا ريحنا منك بالجربياء )
( فلا رجعت فيك تلك الظنون ** حيارى ولا انسد شعب الرجاء )
( وقد نكس الثغر فابعث له ** صدور القنا في ابتغاء الشقاء )
( فقد مات جدك جد الملوك ** ونجم أبيك حديث الضياء )
( ولم يرض قبضته للحسام ** ولا حمل عاتقه للواء )
( فما زال يقرع تلك العلا ** مع النجم مرتديا بالعماء ) (1)
وبعده البيت وهي قصيدة طويلة وهذا البيت في مدح أبيه وذكر علوه
والشاهد فيه أن مبني الترشيح على تناسي التشبيه حتى إن المرشح يبني على علو القدر الذي يستعار له علو المكان ما يبني على علو المكان والارتقاء إلى السماء فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصر على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه
ومثله قول بشار
( أتتني الشمس زائرة ** ولم تك تبرح الفلكا ) + من مجزوء الوافر +
وقول ابن الرومي يمدح به بني نوبخت
( شافهتم البدر بالسؤال عن الأمر ** إلى أن بلغتم زحلا ) + المنسرح +
وقول أبي الطيب المتنبي أيضا
( كبرت حول ديارهم لما بدت ** منها الشموس وليس فيها المشرق ) + الكامل +
____________________
1- المتقارب
(2/153)
وقول الآخر
( ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه ** ولا رجلا قامت تعانقه الأسد ) (1)
وقد اتفق علماء البديع على تقديم الاستعارة المرشحة على غيرها في هذا الباب وانه ليس فوق رتبتها رتبة ولنذكر نبذه منها ومن غيرها فمن محاسن ما ورد فيها قول أبي جعفر الشقري
( يا هل ترى أظرف من يومنا ** قلد جيد الأفق طوق العقيق )
( وأنق الورق بعيدانه ** مرقصة كل قضيب وريق )
( والشمس لا تشرب خمر الندى ** في الروض إلا بكؤوس الشقيق ) + السريع +
ومثله في الرشاقة قول ابن رشيق
( باكر إلى اللذات واركب لها ** سوابق اللهو ذوات المزاح )
( من قبل أن ترشف شمس الضحى ** ريق الغوادي من ثغور الأقاح ) + السريع +
ولطيف قول بعضهم أيضا
( شرابنا الريق وكاساتنا ** شفاهنا والقبل النقل ) + السريع +
ويقرب من البيت الأول من قول ابن رشيق قول ابن المعتز
( وقد ركضت بنا خيل الملاهي ** وقد طرنا بأجنحة السرور ) + الوافر +
وبديع أيضا قول ابن وكيع
( غرد الطير فنبه من نعس ** وأدر كأسك فالعيش خلس )
( سل سيف الفجر من غمد الدجى ** وتعرى الصبح من ثوب الغلس )
( وانجلى عن حلل فضية ** نالها من ظلم الليل دنس ) + الرمل +
وقول أبي نواس
____________________
1- الطويل
(2/154)
( بصحن خد لم يغض ماؤه ** ولم تخصه أعين الناس ) (1)
وقوله أيضا
( فإذا بدا اقتادت محاسنه ** قسرا إليه أعنة الحدق ) + الكامل +
وقوله أيضا وهو عجيب هنا
( ما زلت أستل روح الزق في لطف ** وأستقي دمه من جفن مجروح )
( حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ** والزق منطرح جسم بلا روح ) + البسيط +
وقول البدر الذهبي وأجاد
( ما نظرت مقلتي عجيبا ** كاللوز لما بدا نواره )
( اشتعل الرأس منه شيبا ** واخضر من بعد ذا عذاره ) + من مخلع البسيط +
وقول ابن خفاجة الأندلسي
( وقد جال من حول الغمامة أدهم ** له البرق سوط والشمال عنان )
( وضمخ درع الشمس نحر حديقة ** عليه من الطل السقيط جمان )
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ** لها النور ثغر والنسيم لسان ) + الطويل +
وقول ابن قرناص
( قد أتينا الرياض حين تجلت ** وتحلت من الندى بجمان )
( ورأينا خواتم الزهر لما ** سقطت من أنامل الأغصان ) + الخفيف +
وبديع أيضا قول ابن نباته السعدي
( خرقنا بأطراف القنا لظهورهم ** عيونا لها وقع السيوف حواجب )
( لقوا نبلنا مرد العوارض وانثنوا ** لأوجههم منها لحي وشوارب ) + الطويل +
وقول الشريف أبي الحسن العقيلي
____________________
1- السريع
(2/155)
( وفرق تيجان نواره ** فلم ينس من غصن مفرقا ) (1)
وقوله أيضا
( إذا أبدى مؤامرة التجني ** أقمت له وجوه الاحتمال )
وقوله أيضا
( خلص بجاه الوصل قلب متيم ** غمر الصدود عليه أعوان الضنى ) + الكامل +
وقوله أيضا
( كلما لاح وجهه بمكان ** كثرت زحمة العيون عليه ) + الخفيف +
وقوله أيضا
( فلما تبدى لنا وجهه ** نبهنا محاسنه بالعيون ) (1)
وقول السري الرفاء في يوم بارد من أبيات
( متلون يبدي لنا ** طرفا بأطراف النهار )
( فهواه منكسب الرداء ** وغيمة جافي الإزار )
( يبكي فيجمد دمعه ** والبرق يكحله بنار ) + من مجزوء الكامل +
وقول أبي القاسم الدينوري
( من عذيري من بديع الحسن ** ذي قد رشيق )
( أنبتت في فمه اللؤلؤ ** أرض من عقيق ) + من مجزوء الرمل +
وما الطف قول أبي زكرياء المغربي من قصيدة أولها
( نام طفل النبت في حجر النعامي ** لاهتزاز الطل في مهد الخزامى ) + الرمل +
يقول فيها
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ** وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثمل ** قد سقته راحة الفجر مداما )
وقول السلامي وهو بديع
( والكأس للسكر التبري صائغة ** والماء للحبب الدري نظام )
____________________
1- المتقارب
(2/156)
( بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا ** كأننا في حجور الروض أيتام ) (1)
وما أبدع قوله أيضا
( تبسطنا على الآثام لما ** رأينا العفو من ثمر الذنوب ) + الوافر +
قيل كان الصاحب بن عباد يستحسن هذا البيت وكان يستشهد به كثيرا ويقول ما درى قائله أي درة رمى بها وأي غرة سيرها وخلدها
وقول التنوخي وهو من غريب الاستعارات
( ورياض حاكت لهن الثريا ** حللا كان غزلها للرعود )
( نثر الغيث در دمع عليها ** فتخلت بمثل در العقود )
( أقحوان معانق لشقيق ** كثغور تعض ورد الخدود )
( وعيون من نرجس تتراأى ** كعيون موصولة التسهيد )
( وكأن الشقيق حين تبدى ** ظلمة الصدغ في خدود الغيد )
( وكأن الندى عليها دموع ** في عيون مفجوعة بفقيد ) + الخفيف +
وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب البلخي من أبيات
( وكم قد مضى ليل على أبرق الحمى ** مضيء ويوم بالمشذرق مشرق )
( تسرقت فيه اللهو أملس ناعما ** وأطيب أنس المرء ما يتسرق )
( ويا حسن طيف قد تعرض موهنا ** وقلب الدجى من صولة الصبح يخفق ) + الطويل +
وقول ابن الساعاتي
( ولولا وشاة بل رواة تخرصوا ** أحاديث ليست في سماع ولا نقل )
( لثمت ثغور النور في شنب الندى ** خلال جبين النهر في طرر الظل ) + الطويل +
وقول القاضي كمال الدين بن النبيه
____________________
1- البسيط
(2/157)
( تبسم ثغر الروض عن شنب القطر ** ودب عذار الظل في وجنة النهر ) (1)
وقوله أيضا
( والنهر خد بالشعاع مورد ** قد دب فيه عذار ظل البان )
( والماء في سوق الغصون خلاخل ** من فضة والزهر كالتيجان ) + الكامل +
وقول ابن قرناص أيضا
( لقد عقد الربيع نطاق زهر ** يضم بغصنه خصرا نحيلا )
( ودب مع العشي عذار ظل ** على نهر حكى خدا أسيلا ) + الوافر +
وكلهم قد أخذوا الوجه والعذار من ابن خفاجة حيث قال
( وإني وإن جئت المشيب لمولع ** بطرة ظل فوق وجه غدير ) (1)
وما أحسن قول الشهاب محمود الوراق
( إذا الكرى ذر في أجفاننا سنة ** من النعاس نفضناها عن الهدب ) + البسيط +
وقول ابن نباته المصري أيضا
( ولما جنى طرفي رياض جمالكم ** جعلت سهادي في عقوبة من جنى )
( أأحبابنا إن عفتم السفح منزلا ** وأخليتم من جانب الجذع موطنا )
( فقد حزتم دمعي عقيقا ومهجتي ** غضى وسكنتم من ضلوعي منحنى ) (1)
وقوله أيضا
( هذي الحمائم في منابر أيكها ** تملي الغنا والطل يكتب في الورق )
( والقضب تخفض للسلام رؤوسها ** والزهر يرفع زائريه على الحدق ) + الكامل +
وهو أحسن من قول الأمير مجير الدين بن تميم
( إني لأشهد للحمى بفضيلة ** من أجلها أصبحت من عشاقه )
____________________
1- الطويل
(2/158)
( ما زاره أيام نرجسه فتى ** إلا وأجلسه على أحداقه ) (1)
وقول مجد الدين الأربلي
( أصغي إلى قول العذول بجملتي ** مستفهما عنكم بغير ملال )
( لتلقطي زهرات ورد حديثكم ** من بين شوك ملامة العذال ) (1)
وقول ماني الموسوس
( دعتني إلى وصلها جهرة ** ولم تدر أني لها أعشق )
( فقمت وللسكر من مفرقي ** إلى قدمي ألسن تنطق ) + المتقارب +
وما أجود قول أبي طاهر البغدادي في نار القرى
( خطرت فكاد الورق تسجع فوقها ** إن الحمام لمولع بالبان )
( من معشر نشروا على تاج الريا ** للطارقين ذوائب النيران ) (1)
وهو مأخوذ من قول الأول
( يبيتون في المشتى خماصا وعندهم ** من الزاد فضلات تعد لمن يقرى )
( إذا ضل عنهم طارق رفعوا له ** من النار في الظلماء ألوية حمرا ) + الطويل +
وقول صر در فيها
( قوم إذا حيا الضيوف جفانهم ** ردت عليهم ألسن النيران ) (1)
ومنه قول التهامي
( نادته نارك وهي غير فصيحة ** وهنا بخفق ذوائب النيران ) (1)
وقد بالغ مهيار الديلمي في قوله
( ضربوا بمدرجة الطريق قبابهم ** يتقارعون على قرى الضيفان )
( ويكاد موقدهم يجود بنفسه ** حب القرى طربا على النيران ) (1)
____________________
1- الكامل
(2/159)
وما أحسن قول ابن سكرة وهو صاحب البيتين الجامعين لكافات الشتاء
( قيل ما أعددت للبرد ** فقد جاء بشدة )
( قلت دراعة عري ** تحتها جبة رعدة ) (1)
وما ألطف قول ابن عمار
( أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ** والنجم قد صرف العنان عن السرى )
( والصبح قد أهدى لنا كافوره ** لما استرد الليل منا العنبرا ) + الكامل +
ومن بديع الاستعارة على سخفه ومجونة قول سعيد بن سناء الملك
( يا هذه لا تستحي ** مني قد انكشف المغطى )
( إن كان كسك قد تثاءب ** إن أبري قد تمطى ) + من مجزوء الكامل +
فاستعارة التثاؤب والتمطي هنا من أحسن الاستعارات قال ابن جبارة أنشدني هذا ابن سناء الملك وزاد في الإعجاب به فلما عدت إلى البيت أخذت جزءا من البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي فوجدت فيه أن بغدادية قالت لأخرى خرجت اليوم إلى العيد قالت إي وحياتك قالت لها فما رأيت قالت أحراحا تتثاءب وأيورا تتمطى فلما اجتمعت به قلت له قد عرفت وعثرت على الكنز الذي انتهبته وحكيت له الحكاية قال سيدنا يفتش عن أمري
ومن ظريف الاستعارات قول الأمير مجير الدين بن تميم
( كيف السبيل لأن أقبل خد من ** أهوى وقد نامت عيون الحرس )
( وأصابع المنثور تومي نحونا ** حسدا وتغمزها عيون النرجس ) + الكامل +
وبديع قول السلامي أيضا في وصف الحرب
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/160)
( والنقع ثوب بالنسور مطرز ** والأرض فرش بالجياد مخيل )
( وسطور خيلك إنما ألفاتها ** سمر تنقط بالدماء وتشكل ) (1)
وأجاد البدر بن يوسف الذهبي بقوله
( هلم يا صاح إلى روضة ** يجلو بها العاني صداهمه )
( نسيمها يعثر في ذيله ** وزهرها يضحك في كمه ) + السريع +
ومن ظريف الاستعارة أيضا قول ابن الغويرة
( عاينت حبة خاله ** في روضة من جلنار )
( فغدا فؤادي طائرا ** فاصطاده شرك العذار ) + من مجزوء الكامل +
وما أبدع أيضا قول الشريف الرضي الموسوي
( أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ** حوامل المزن في أجداثكم تضع )
( ولا يزال جنين النبت ترضعه ** على قبوركم العراضة الهمع ) + البسيط +
وقد أخذه ابن أسعد الموصلي فقال من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق
( سقى دمشق وأياما مضت فيها ** حوامل السحب باديها وعاديها )
( ولا يزال جنين النبت ترضعه ** حوامل المزن في أحشا أراضيها ) + البسيط +
ومحاسن هذا الباب كثيرة والاقتصار على هذه النبذة أولى
108
( هي الشمس مسكنها في السماء ** فعز الفؤاد عزاء جميلا )
( فلن تستطيع إليها الصعود ** ولن تستطيع إليك النزولا )
البيتان للعباس بن الأحنف من المتقارب
____________________
1- الكامل
(2/161)
والشاهد فيهما جواز البناء على الفرع وهو المشبه به مع جحد الأصل وهو المشبه لأنه هنا طوى ذكر الأصل وجعل الكلام خلوا منه ويسمى هذا المجاز المفرد ومنه قول الفرزدق
( أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ** متى تبخل الجوزاء والدلو يمطر ) (1)
وقول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين
( يتعاوران من الغبار ملاءة ** بيضاء محكمة إذا نسجاها )
( تطوى إذا وردا مكانا محزنا ** وإذا السنابك أسهلت نشراها ) + الكامل +
وقول سعيد الكاتب التستري النصراني
( قلت زوري فأرسلت ** أنا آتيك سحرة )
( قلت فالليل كان أخفى وأدني مسرة ** )
( فأجابت بحجة ** زادت القلب حسرة )
( أنا شمس وإنما ** تطلع الشمس بكرة ) + من مجزوء الخفيف +
وله في معناه أيضا
( وعد البدر بالزيارة ليلا ** فإذا ما وفى قضيت نذوري )
( قلت يا سيدي فلم تؤثر الليل على بهجة النهار المنير ** )
( قال لي لا أحب تغيير رسمي ** هكذا الرسم في طلوع البدور ) + الخفيف +
وقال في معناه أيضا
( قلت للبدر حين أعتب زرني ** واشمت الوصل بالقلا والتجافي )
( قال إني مع العشاء سآتي ** فانتظرني ولا تخف من خلاف )
( قلت يا سيدي فزرني نهارا ** فهو أدنى لقربة الإيلاف )
( قال لا أستطيع تغيير رسمي ** إنما البدر في الظلام يوافي ) + الخفيف +
____________________
1- الطويل
(2/162)
وقد جمع أبو العلاء المعري المعنيين في قوله
( هي قالت لما رأت شيب رأسي ** وأرادت تنكرا وازورارا )
( أنا بدر وقد بدا الصبح من شيبك والصبح يطرد الأقمارا ** )
( قلت لا بل أراك في الحسن شمسا ** لا ترى في الدجى وتبدو نهارا ) (1)
109
( وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع )
البيت لأبي ذؤيب الهذلي من قصيدة من الكامل قالها وقد هلك له خمس بنين في عام واحد وكانوا فيمن هاجر إلى مصر فرثاهم بهذه القصيدة وأولها
( أمن المنون وريبها تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع )
( قالت أمامة ما لجسمك شاحبا ** منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع )
( أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا ** إلا أقض عليك ذاك المضجع )
( فأجبتها أما لجسمي إنه ** أودى بني من البلاد فودعوا )
( أودى بني فأعقبوني حسرة ** عند الرقاد وعبرة لا تقلع )
( فالعين بعدهم كأن حداقها ** كحلت بشوك فهي عور ثدمع )
____________________
1- الخفيف
(2/163)
( فغبرت بعدهم بعيش ناصب ** وإخال أني لاحق مستتبع )
( سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم ** فتخرموا ولكل جنب مصرع )
( ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ** فإذا المنية أقبلت لا تدفع )
وبعده البيت وبعده
( وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع )
( حتى كأني للحوادث مروة ** بصفا المشرق كل يوم تقرع )
( والدهر لا يبقى على حدثانه ** جون السراة له جدائد أربع ) (1)
يروى أن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أستأذن على معاوية في مرض موته ليعوده فادهن واكتحل وأمر أن يقعد ويسند وقال ائذنوا له وليسلم قائما ولينصرف فلما سلم عليه وولى أنشد معاوية قول الهذلي في هذه القصيدة وتجلدي للشامتين . . . البيت فأجابه ابن عباس على الفور وإذا المنية أنشبت . . . . . البيت ثم ما خرج من داره حتى سمع الناعية عليه
والشاهد فيه الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية فهو هنا شبه في نفسه المنية بالسبع في اغتياله النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفاع وضرار ولا رقة لمرحوم فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل الاغتيال في السبع بدونها تحقيقا للمبالغة في التشبيه فتشبيه المنية بالسبع استعارة بالكناية وإثبات الأظفار لها استعارة تخييلية
____________________
1- الكامل
(2/164)
وأبو ذؤيب اسمه خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم ينتهي نسبه لنزار وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام ولم تثبت له رؤية
وحدث أبو ذؤيب قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل فاستشعرت حزنا وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها فظللت أقاسي طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول
( خطب أجل أناخ بالإسلام ** بين النخيل ومغقد الأطام )
( قبض النبي محمد فعيوننا ** تذري الدموع عليه بالتسجام ) (1)
قال أبو ذؤيب فوثبت من نومي فزعا فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض فركبت ناقتي وسرت فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به فعن لي شيهم يعني القنفذ قد قبض على صل يعني الحية فهي تلتوي عليه والشيهم يقضمها حتى أكلها فزجرت ذلك وقلت شيهم شيء مهم والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرني بوفاته ونهب غراب سانح فنطق بمثل ذلك فتعوذت بالله من شر ما عن
____________________
1- الكامل
(2/165)
لي في طريقي وقدمت المدينة المنورة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا انطوى بالإحرام فقلت مه قالوا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت إلى المسجد فوجدته خاليا فأتيت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجا وقيل هو مسجى وقد خلا به أهله فقلت أين الناس فقيل في سقيفة بني ساعده صاروا إلى الأنصار فجئت إلى السقيفة فوجدت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما وجماعة من قريش ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم فأويت إلى قريش وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب وأكثروا الصواب وتكلم أبو بكر فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخصام والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا مال إليه وانقاد له ثم تكلم عمر بعده بكلام دون كلامه ومد يده فبايعه وبايعوه ورجع أبو بكر ورجعت معه فشهدت الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وشهدت مدفنه صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ أبو ذؤيب يبكي النبي صلى الله عليه وسلم
( لما رأيت الناس في عسلانهم ** ما بين ملحود له ومضرح )
( متنابذين لشرجع بأكفهم ** نص الرقاب لفقد أبيض أروح )
( فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت ** جار الهموم يبيت غير مروح )
____________________
(2/166)
( كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ** وتضعضعت آطام بطن الأبطح )
( وتزعزعت أجبال يثرب كلها ** ونخيلها لحلول خطب مفدح )
( ولقد زجرت الطير قبل وفاته ** بمصابه وزجرت سعد الأذبح )
( وزجرت أن نعب المشحج سانحا ** متفائلا فيه بفأل أقبح ) (1)
ثم اصرف أبو ذؤيب رحمه الله تعالى إلى باديته فأقام بها
وقال محمد بن سلام كان أبو ذؤيب شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهق وسئل حسان بن ثابت من أشعر الناس قال أحيا أم رجلا قالوا حيا قال أشعر الناس حيا هذيل وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب وقال محمد بن معاذ العمري في التوراة مكتوب أبو ذؤيب مؤلف زوراء وكان اسم الشاعر بالعبرانية مؤلف زوراء فأخبرت بذلك بعض أصحاب العبرانية وهو كثير بن إسحاق فعجب منه وقال قد بلغني ذلك
وكان أبو ذؤيب يهوى امرأة يقال لها أم عمرو وكان يرسل إليها خالد ابن زهير فخانه فيها وكذلك كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويمر ابن مالك بن عويمر وكان رسوله إليها فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم يفعل وقال فيها
( تريدين كيما تجمعيني وخالدا ** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد )
( أخالد ما راعيت من ذي قرابة ** فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدى )
( دعاك إليها مقلتاها وجيدها ** قملت كما مال المحب على عمد )
____________________
1- الكامل
(2/167)
( وكنت كرقراق السراب إذا جرى ** لقوم وقد بات المطي بهم تخدي )
( فآليت لا أنفك أحذو قصيدة ** تكون وإياها لها مثلا بعدي ) (1)
وقال أبو زيد عمرو بن شيبة تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية يعني قصيدته المثبتة قريبا
وعن ابن عياش بالياء التحتية والشين المعجمة قال لما مات جعفر الأكبر بن منصور مشى في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ثم انصرف إلى قصره فأقبل على الربيع فقال يا ربيع انظر من في أهلي ينشدني
( أمن المنون وريبها يتوجع ** )
حتى أتسلى عن مصيبتي قال الربيع فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها فرجعت فأخبرته فقال والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذه القصيدة لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني ثم قال انظر هل في القواد والعوام من يعرفها فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها إلا شيخا مؤدبا قد انصرف من تأديبه فسألته هل يحفظ شيئا من الشعر قال نعم شعر أبي ذؤيب فقلت أنشدني
____________________
1- الطويل
(2/168)
فابتدأ بهذه القصيدة العينية فقلت أنت بغيتي فأوصلته إلى المنصور فأنشده إياها فلما قال
( والدهر ليس بمعتب من يجزع ** )
قال صدق والله فأنشدني هذا البيت مائة مرة لتردد هذا المصراع علي فأنشده ثم مر فيها فلما انتهى إلى قوله
( والدهر لا يبقي على حدثانه إلخ . . ** )
قال سلا أبو ذؤيب عند هذا القول ثم أمر الشيخ بالانصراف فاتبعته فقلت أمر لك أمير المؤمنين بشيء قال نعم وأراني صرة في يده فيها مائة درهم
وعن الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي إلى إفريقية سنة ست وعشرين غازيا في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه وبعث معه نفرا منهم أبو ذؤيب ففي عبد الله يقول
( وصاحب صدق كسيد الضراء ** ينهض في الغزو نهضا نجيحا ) (1)
في قصيدة له فلما قدموا إلى مصر مات أبو ذؤيب بها
وعن أبى عمرو عبد الله بن الحارث الهذلي من أهل المدينة المنورة قال خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له أبو عبيد حتى قدموا على عمر
____________________
1- المتقارب
(2/169)
ابن الخطاب رضي الله عنه فقال أي العمل افضل يا أمير المؤمنين قال الإيمان بالله ورسوله قال قد فعلت فأيه افضل بعده قال الجهاد في سبيل الله قال ذلك كان عملي ولا أرجو جنة ولا اخاف نارا ثم خرج فغزا أرض الروم مع المسلمين قلما قفلوا أخذه الموت فأراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعا فمنعهما صاحب الساقة وقال ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول فكلاهما أراد أن يتخلف عليه فقال لهما أبو ذؤيب اقترعا فطارت القرعة لأبي عبيد فتخلف عليه ومضى ابنه مع الناس فكان أبو عبيد يحدث قال قال لي أبو ذؤيب يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضد من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ فاغسلني وكفني بكفني ثم اجعلني في حفيرتي وانثل على الجرف برمحك وألق على الغصون والحجارة ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا أمسيت كأنها جهامة قال فما أخطأ مما قال شيئا ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش وقال وهو يجود بنفسه
( أبا عبيد رفع الكتاب ** واقترب الموعود والحساب )
( وعند رجلي جمل نحاب ** أحمر في حاركه انصباب ) (1)
ثم مضيت حتى لحقت بالناس فكان يقال إن أهل الإسلام أبعدوا الأثر في بلاد الروم فما كان وراء قبر أبو ذؤيب قبر يعلم لأحد من المسلمين وهذا يخالف رواية الزبير بن بكار السابقة والله اعلم أي ذلك كان
110
( ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ** فلسان حالي بالشكاية أنطق )
البيت من الكامل ولا أعرف قائله
____________________
1- الرجز
(2/170)
والشاهد فيه ما في البيت قبله فإنه شبه الحال بإنسان متكلم في الدلالة على المقصود وهذا هو الاستعارة بالكناية فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان المتكلم وهذه الاستعارة التخييلية
وقريب من معناه قول ابن الخيمي
( أبدا أحن إلى محياك الذي ** يصبي البعيد إليه نور مشرق )
( وأروم شكوى موجعات الحب لا استحظا بها لكن لعلك تشفق ** )
( فأرى لساني بالصبابة اخرسا ** ولسان حالي بالشكاية ينطق )
( وأفوه باسمك والمسافة بيننا ** قصوى فيضحى الجو طيبا يعبق ) (1)
111
( صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ** وعرى أفراس الصبا ورواحله )
البيت لزهير بن أبي سلمى وهو أول قصيدة من الطويل وبعده
( وأقصرت عما تعلمين وسددت ** علي سوى قصد السبيل معاد له ) + الطويل +
إلى أن يقول فيها
( فقلنا له أبصر وسدد طريقه ** وما هو فيه عن وصاتي شاغله )
( وقلت تعلم أن في الصيد غرة ** وإن لا تضيعه فإنك قاتله )
( فأتبع آثار الشياه وليدنا ** كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله )
____________________
1- الكامل
(2/171)
( نظرت إليه نظرة فرأيته ** على كل حال مرة وهو حامله ) (1)
وهي طويلة
يقال أقصر عن الشيء بمعنى انتهى أو عجز عنه
والشاهد فيه ما في البيت قبله أيضا فإنه أراد أن يبين أنه ترك ما كان يرتكبه من المحبة زمن الجهل والغي واعرض عن معاودته فبطلت آلاته فشبه في نفسه الصبا بجهة من جهات المسير كالحج والتجارة قضى منها الوطر فأهملت آلاتها
ووجه الشبه الاشتغال التام به وركوب المهامة والمسالك الصعبة غير مبال بمهلكه ولا متحرز عن معركة
وهذا التشبيه المضمر في النفس استعارة بالكناية أثبت له بعض ما يختص بتلك الجهة وهي الأفراس والرواحل التي بها قوام السير والسفر فإثبات الأفراس والرواحل استعارة تخييلية والصبا على هذا من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوة ويحتمل أنه أراد بالأفراس والرواحل دواعي النفس وشهواتها والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات أو أراد بها الأسباب التي قلما تتخذ في اتباع الغي إلا أوان الصبا وعنفوان الشباب فتكون استعارة الأفراس والرواحل تحقيقية لتحقق معناها عقلا إذا أريد بها الدواعي وحسا إذا أريد بها اتباع أسباب الغي
112
( والطاعنين مجامع الأضغان ** )
هو من الكامل ولا أعرف قائله وصدره
____________________
1- الطويل
(2/172)
( الضاربين بكل أبيض مخذم ** )
والمخذم بالذال المعجمة السيف والأضغان جمع ضغن وهو الحقد
والشاهد فيه القسم الأول من أقسام الكناية وهو أن يكون المطلوب بها غير صفة ولا نسبة وتكون لمعنى واحد كما هنا وتكون لمجموع معان فقوله بمجامع الأضغان معنى واحد كناية عن القلوب
ونحوه قول البحتري
( فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ** بحيث يكون اللب والرعب والحقد ) (1)
113
(
( إن السماحة والمروءة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج )
البيت لزياد الأعجم من أبيات من الكامل قالها في عبد الله بن الحشرج وكان قد وفد عليه وهو أمير على نيسابور فأمر بإنزاله وألطفه وبعث إليه بما يحتاجه فغدا إليه فأنشده البيت وبعده
( ملك أغر متوج ذو نائل ** للمعتفين يمينه لم تشنج )
( يا خير من صعد المنابر بالتقى ** بعد النبي المصطفى المتحرج )
( لما أتيتك راجيا لنوالكم ** ألفيت باب نوالكم لم يرتج ) + الكامل +
فأمر له بعشرة آلاف درهم
والمروءة كمال الرجولية
والشاهد فيه القسم الثالث من أقسام الكناية وهو أن يكون المطلوب بها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه فهو هنا أراد أن يثبت اختصاص ممدوحه بهذه الصفات وترك التصريح باختصاصه بها إلى الكناية بان جعلها في قبة ضربت
____________________
1- الطويل
(2/173)
عليه تنبيها على أن محلها ذو قبة وهي تكون فوق الخيمة يتخذها الرؤساء قال أبو تمام
( لولا بنو جشم بن بكر فيكم ** كانت خيامكم بغير قباب ) (1)
وإنما احتاج في هذا البيت إلى هذا لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين فأفاد إثبات الصفات المذكورة له لأنه إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته له
وفي معنى البيت قول زياد أيضا في مرثية المغيرة بن المهلب
( إن السماحة والمروءة ضمنا ** قبرا بمرو على الطريق الواضح ) (1)
وقريب منه قول ابن خلاد يمدح ابن العميد
( لقد شهدت عقول الخلق طرا ** وحسبك بالبصائر من شهود )
( بأن محاسن الدنيا جميعا ** بأفنية الرئيس ابن العميد ) + الوافر +
وقول الآخر
( والمجد يدعو أن يدوم بجيده ** عقد مساعي ابن العميد نظامه ) (1)
وابن الحشرج الممدوح اسمه عبد الله وكان سيدا من سادات قيس وأميرا من أمرائها ولى كثيرا من أعمال خراسان ومن أعمال فارس وكرمان وكان جوادا ممدوحا وفيه يقول زياد أيضا
( إذا كنت مرتاد السماحة والندى ** فسائل تخبر عن ديار الأشاهب ) + الطويل +
وكان عبد الله كثير العطاء أعطى بخراسان حتى أعطى فراشه ولحافه فقالت له امرأته لشد ما تلاعب بك الشيطان وصرت من إخوانه مبذرا كما قال الله
____________________
1- الكامل
(2/174)
تعالى ! ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) ! فقال عبد الله بن الحشرج لرفاعه ابن دري النهدي وكان أخا له وصديقا ألا تسمع ما تقول هذه النوكي وما تتكلم به فقال له رفاعة صدقت والله وبرت وإنك لمبذر وإن المبذرين لإخوان الشياطين فقال ابن الحشرج في ذلك
( متى يأتنا الغيث المغيث تجد لنا ** مكارم ما تعيي بأموالنا التلد )
( مكارم قد جد نابها إذ تمنعت ** رجال وضنت في الرخاء وفي الجهد )
( أردنا بما جدنا به من تلادنا ** خلاف الذي يأتي خيار بني نهد )
( تلوم على إتلافي المال خلتي ** ويسعدها نهد بن زيد على الزهد )
( أنهد بن زيد لست منكم فتشفقوا ** علي ولا منكم غوائي ولا رشدي )
( أتيت صغيرا ناشئا ما أردتم ** وكهلا وحتى تبصروني في اللحد )
( سأبذل مالي إن مالي ذخيرة ** لعقبي وما أجني به ثمر الخلد )
( ولست بمبكاء على الزاد باسل ** يهر على الأزواد كالأسد الورد )
( ولكنني سمح بما حزت باذل ** لما كلفت كفاي في الزمن الجحد )
( بذلك أوصاني الرقاد وقبله ** أبوه بأن أعطى وأوفي بالعهد ) (1)
والرقاد كان أحد عمومته وكان سيدا جوادا
____________________
1- الطويل
(2/175)
شواهد الفن الثالث وهو علم البديع
114
( تردي ثياب الموت حمرا فما اتى ** لها الليل إلا وهي من سندس خضر )
البيت لأبي تمام الطائي من قصيدة من الطويل يرثي بها أبا نهشل محمد بن حميد حين استشهد وأولها
( كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ** وليس لعين لم يفض ماؤها عذر )
( توفيت الآمال بعد محمد ** فأصبح في شعل عن السفر السفر )
( وما كان إلا مال من قل ماله ** وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر )
( وما كان يدري من بلا يسر كفه ** إذا ما استهلت أنه خلق العسر ) (1)
يقول فيها
( غدا غدوة والحمد نسج ردائه ** فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر )
وبعده البيت وبعده
( كأن بني نبهان يوم وفاته ** نجوم سماء خر من بينها البدر )
( يعزون عن ثاو تعزى به العلا ** ويبكي عليه البأس والجود والنصر )
( وأنى لهم صبر عليه وقد مضى ** إلى الموت حتى استشهدا هو والصبر ) (1)
ومعنى البيت أنه ارتدى الثياب الملطخة بالدم فلم ينقض يوم قتله ولم
____________________
1- الطويل
(2/178)
يدخل في ليلته إلا وقد صارت الثياب خضرا من سندس الجنة
أقول ولو قال أبو تمام
( تردى ثياب الموت حمرا فما اختفى ** عن العين إلا وهي من سندس خضر )
لكان أبلغ في القصد وأبدع فإنه جعل غاية تبديلها بالسندس دخوله في الليل وهذا ليس بمعلوم فإن الميت إذا غيب بالدفن عن الأعين تبدلت أحواله إلى خير أو شر والعياذ بالله تعالى ويشهد لذلك ما ورد أن الميت بمجرد ستره عن الأعين يأتيه ملكا السؤال
وفي معنى بيت أبي تمام قول القاضي الفاضل عبد الرحيم رحمه الله
( لهفي لمقتول تلاحظه ** عيون البيض شزرا )
( متضرجا بدم رأته الحور في الجنات عطرا ** )
( متكفن بملابس ** حمراء وهي تعود خضرا ) (1)
يروى أنه لما ورد نعي هذا المرثي غمس أبو تمام طرف ردائه في مداد ثم ضرب به كفيه وصدره وأنشد هذه القصيدة
وإلى ذلك أشار ابن زنجي الكاتب المغربي في قوله يرثي الشيخ أبا علي ابن خلدون
( لولا الحياء وان أجيء بفعلة ** تنضى علي بها سيوف ملام )
( وأكون متبعا لأشنع سنة ** قد سنها فبلي أبو تمام )
( للبست لبس الثاكلات وكنت في ** سود الوجوه كأنني من حام ) + الكامل +
والشاهد في البيت الطباق المسمى بالتدبيج وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر في معنى من المدح أو غيره ألوانا لقصد الكناية أو التورية ويسمى
____________________
1- من مجزوء الكامل
(2/179)
تدبيج الكناية أيضا فإنه هنا ذكر لون الحمرة والخضرة والمراد من الأول الكناية عن القتل ومن الثاني الكناية عن دخول الجنة
ومن طباق التدبيج قول عمرو بن كلثوم
( بأنا نورد الرايات بيضا ** ونصدرهن حمرا قد روينا ) (1)
ولو اتفق له أن يقول
( من الأسل الظماء يردن بيضا ** ونصدرهن حمرا قد روينا )
لكان أبدع بيت للعرب في الطباق لأنه يكون قد طابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة والظمأ والري وقد تم لأبي الشيص فقال
( فأوردها بيضا ظماء صدورها ** وأصدرها بالري ألوانها حمرا ) + الطويل +
فصار أخذه مغفورا بكمال معناه وما أحسن قول ابن حيوس
( وتملك العلياء بالسعي الذي ** أغناك عن متعالم الأنساب )
( ببياض عرض واحمرار صوارم ** وسواد نقع واخضرار رحاب )
( وافخر بعم عم جود نواله ** وأب لأفعال الدنية آبي ) + الكامل +
وقوله أيضا
( إن ترد علم حالهم عن يقين ** فالقهم في مكارم أو نزال )
( تلق بيض الأعراض سمر مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال ** ) + الخفيف +
وقد أخذه ابن النبيه فقصر عنه في قوله
( لهم بنان طافح بالندى ** فهن إما ديم أو بحار )
( بيض الأيادي خضر روض الربا ** حمر المواضي في العجاج المثار ) + السريع +
وقول بعضهم
____________________
1- الوافر
(2/180)
( الغصن فوق الماء تحت شقائق ** مثل الأسنة خضبت بدماء )
( كالصعدة السمراء تحت الراية الحمراء ** فوق اللأمة الخضراء ) (1)
وقريب من لفظه قول الصلاح الصفدي رحمه الله تعالى
( ما أبصرت عيناك أحسن منظرا ** فيما يرى من سائر الأشياء )
( كالشامة الخضراء فوق الوجنة الحمراء ** تحت المقلة السوداء ) (1)
ولابن النبيه
( دع النوح خلف حدوج الركائب ** وسل فؤادك عن كل ذاهب )
( ببيض السوالف حمر المراشف صفر الترائب سود الذوائب ** )
( فما العيش إلا إذا ما نظمت ** ثغر الحباب ثنايا الحبائب ) + المتقارب +
ولابن الساعاتي
( من معشر ويجل قدر علائه ** عن أن يقال لمثله من معشر )
( بيض الوجوه كأن زرق رماحهم ** سر يحل سواد قلب العسكر ) (1)
ولابن دبوقاء العماد من أبيات
( أرى العقد في ثغره محكما ** يرينا الصحاح من الجوهر )
( وتكملة الحسن إيضاحها ** رويناه عن وجهك الأزهر )
( ومنثور دمعي غدا أحمرا ** على آس عارضك الأخضر )
( وبعت رشادي بغي الهوى ** لأجلك يا طلعة المشتري ) + المتقارب +
ولأبي الحسن محمد بن القنوع من أبيات
( ويخترم الأرواح والموت أحمر ** بأبيض يتلوه لدى الطعن أزرق ) + الطويل +
وما أحسن ما قال بعده
( ويجري عتاق الخيل قبا شوازبا ** تباري هبوب الريح بل هي أسبق )
____________________
1- الكامل
(2/181)
( إذا حفرت منها الحوافر في الصفا ** محاريب ظلت بالنجيع تخلق ) (1)
ولأبي الفرح الببغاء في قريب من معناه
( وكأنما نقشت حوافر خيله ** للناظرين أهلة في الجلمد ) + الكامل +
وما أحسن قوله بعده
( وكأن طرف الشمس مطروف وقد ** جعل الغبار له مكان الأثمد )
ولأبي سعيد الرستمي
( من النفر العالين في السلم والوغى ** وأهل المعالي والعوالي واللها )
( إذا نزلوا اخضر الثرى من نزولها ** وإن نازلوا احمر القنا من نزالها ) (1)
ولابن جابر الأندلسي
( تشتكي الصفر من يديه وترضى السمر من راحتيه عند الحروب ** )
( أحمر السيف أخضر السيب حيث الأرض غبراء من سواد الخطوب ** ) + الخفيف +
ولأبي القاسم عبد الصمد بن علي الطبري من قصيدة
( حمر يدي بالكأس فالروض مخضر الربا قبل اصفرار البنان ** ) + السريع +
ولأبي بكر الخالدي
( ومدامة صفراء في قارورة ** زرقاء تحملها يد بيضاء )
( فالراح شمس والحباب كواكب ** والكف قطب والإناء سماء ) + الكامل +
ولنجم الدين البارزي في وصف قلم
( ومثقف للخط يحكي فعل سمر الخط إلا أن هذا أصغر ** )
( في رأسه المسود إن أجروه في المبيض للأعداء موت أحمر ** ) + الكامل +
ومن المضحك فيه قول ابن لنكك البصري يهجو أبا رياش وكان نهما شرها على الطعام
____________________
1- الطويل
(2/182)
( يطير إلى الطعام أبو رياش ** مبادرة ولو واراه قبر )
( أصابعه من الحلواء صفر ** ولكن الأخادع منه حمر ) (1)
وكان أبو رياش هذا باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها مع فصاحة وبيان وإعراب وإتقان ولكنه كان عديم المروءة وسخ اللبسة كثير التقشف قليل التنظف وفيه يقول أبو عثمان الخالدي
( كأنما قمل أبي رياش ** ما بين صئبان قفاه الفاشي )
( وذا وذا قد لج في انتفاش ** شهدانج يذر في خشخاش ) + الرجز +
وفيه يقول ابن لنكك وقد ولى عملا بالبصرة
( قل للوضيع أبي رياش لا تبل ** به كل تيهك بالولاية والعمل )
( ما ازددت حين وليت إلا خسة ** كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ) + الكامل +
وله فيه أيضا
( نبئت أن أبا رياش قد حوى ** علم اللغات وفاق فيما يدعي )
( من مخبري عنه فإني سائل ** من كان حنكه بأير الأصمعي ) + الكامل +
وله فيه أو في غيره من الأدباء
( يا من تطيب وهو من خرق أسته ** قلق يكابد كل داء معضل )
( فشل الصيال وما عهدنا دبره ** مذ كان بغشل عن صيال الفيشل )
( وأراه في الكتب الجليلة زاهدا ** لا يستجيد سوى كتاب المدخل )
( قبلته ولثمت فاه مسلما ** لثم الصديق فم الصديق المجمل )
____________________
1- الوافر
(2/183)
( فدنا إلي على المكان وقال لي ** أفديك من متعشق متعزل )
( إن كنت تلثمني بود فاشفني ** بلسان بطنك في فمي من أسفلي ) (1)
وقد زاغ القلم وطاش بجريرة أبي رياش وأنا أستغفر الله من ذلك
115
( لا تعجبي يا سلم من رجل ** ضحك المشيب برأسه فبكى )
البيت لدعبل من قصيدة من الكامل أولها
( أين الشباب وأية سلكا ** لا أين يطلب ضل بل هلكا )
وبعده البيت وبعده
( يا سلم ما بالشيب منقصة ** لا سوقة يبقي ولا ملكا )
( قصر الغواية عن هوى قمر ** أجد السبيل إليه مشتركا )
( يا ليت شعري كيف نومكما ** يا صاحبي إذا دمي سفكا )
( لا تأخذا بظلامتي أحدا ** قلبي وطرفي في دمي اشتركا ) (1)
حدث أبو هفان قال قال مسلم بن الوليد
( مستعبر يبكي على دمنة ** ورأسه يضحك فيه المشيب ) + السريع +
فسرقه دعبل فقال وأنشأ البيت فجاء به أجود من قول مسلم فصار أحق به منه
وحدث أبو المثنى قال كنا في مجلس الأصمعي فأنشده رجل لدعبل لا تعجبي يا سلم . . . . البيت فاستحسناه فقال الأصمعي إنما سرقه من قول الحسين
____________________
1- الكامل
(2/184)
ابن مطير الأسدي
( أين أهل القباب بالدهناء ** أين جيراننا على الأحساء )
( فارقونا والأرض ملبسة نور ** الأقاحي تجاد بالأنواء )
( كل يوم بأقحوان جديد ** تضحك الأرض من بكاء السماء ) (1)
وروى عن أبي العباس المبرد أنه قال أخذ ابن مطير قوله تضحك الأرض من بكاء السماء من قول دكين الراجز
( جن النبات في ذراها وركا ** وضحك المزن به حتى بكى ) + الرجز +
وقال أبو هفان أنشدت يوما بعض البصريين الحمقاء قول دعبل ضحك المشيب برأسه فبكى فجاءني بعد أيام فقال قد قلت أحسن من البيت الذي قاله دعبل فقلت يا هذا وأي شيء قلت فتمنع ساعة ثم قال
( قهقه في رأسه القتير ** ) + الرجز +
وقد تداول الشعراء معنى بيت دعبل فمنه قول الراضي القرطبي
( ضحك المشيب برأسه ** فبكى بأعين كأسه )
( رجل تخونه الزمان ** ببوسه وببأسه )
( فجرى على غلوائه ** طلق الجموح بفأسه )
( أخذا بأوفر حظه ** لرجائه من يأسه ) + من مجزوء الكامل +
ومنه أيضا قول ابن نباته المصري رحمه الله تعالى
( تبسم الشيب بذقن الفتى ** يوجب سح الدمع من جفنه )
( حسب الفتى بعد الصبذلة ** أن يضحك الشيب على ذقنه ) + السريع +
ولمؤلفه رحمه الله تعالى أيضا في هذا المعنى
____________________
1- الخفيف
(2/185)
( ضحك الشيب برأسي ** فبكت عيني الشبابا ) (1)
ومن البكاء على الشباب وهو أبكى بيت قيل في فقده وينسب لأبي الغصن الأسدي
( أتأمل رجعة الدنيا سفاها ** وقد سار الشباب إلى الذهاب )
( فليت الباكيات بكل أرض ** جمعن لنا فنحن على الشباب ) + الوافر +
وما أحسن قول أبي العلاء المعري فيه أيضا
( وقد تعوضت عن كل بمشبهه ** فما وجدت لأيام الصبا عوضا ) + البسيط +
وقول الآخر
( شيآن لو بكت الدماء عليهما ** عيناي حتى تؤذنا بذهاب )
( لم تبلغا المعشار من حقيهما ** فقد الشباب وفرقة الأحباب ) + الكامل +
ولأبي بكر بن مجير
( رحل الشباب وما سمعت بعبرة ** تجري لمثل فراق ذاك الراحل )
( قد كنت أزهى بالشباب ولم أخل ** أن الشبيبة كالخضاب الناصل )
( ظل صفا لي ثم زال بسرعة ** يا ويح مغتر بظل زائل ) + الكامل +
ولابن حمديس في قريب من معناه
( ولم أر كالدنيا خؤونا لصاحب ** ولا كمصابي بالشباب مصابا )
( فقدت الصبا فابيض مسود لمتي ** كأن الصبا للشيب كان خضابا ) + الطويل +
ولأبي الفتح البستي فيه
( دع دموعي تسيل سيلا بدارا ** وضلوعي يصلين بالوجد نارا )
( قد أعاد الأسى نهاري ليلا ** مذ أعاد المشيب ليلي نهارا ) + الخفيف +
ولعلي بن محمد الكوفي في البكاء من المشيب والبكاء عليه
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/186)
( بكى للشيب ثم بكى عليه ** فكان أعز من فقد الشباب )
( فقل للشيب لا تبرح حميدا ** إذا نادى شبابي بالذهاب ) (1)
ومثله قول مسلم بن الوليد
( الشيب كره وكره أن يفارقني ** فأعجب لشيء على البغضاء مودود )
( يمضي الشباب وقد يأتي له خلف ** والشيب يذهب مفقودا بمفقود ) + البسيط +
وقد أعاد مسلم بن الوليد هذا المعنى فقال
( لا يرحل الشيب عن دار أقام بها ** حتى يرحل عنها صاحب الدار ) + البسيط +
ويقال إن مسلما أخذ هذا المعنى من قول بعض الأعراب
( أستغفر الله وأستقيله ** ما أنا ممن شيبه يهوله )
( أعظم من حلوله رحيله ** ) + الرجز +
ومثل قول مسلم قول البحتري
( يعيب الغانيات علي شيبي ** ومن لي أن أمتع بالمشيب )
( ووجدي بالشباب وإن تقضى ** حميدا دون وجدي بالمشيب ) (1)
وما أحسن قول كشاجم الكاتب
( تفكرت في شيب الفتى وشبابه ** فأيقنت أن الحق للشيب واجب )
( يصاحبني شرخ الشباب فينقضي ** وشيبي إلى حين الممات مصاحب ) + الطويل +
وبديع قول الغزي
( ذهب الشباب ذهاب سهم مارق ** لا يستطاع مع التأسف رده )
( واتى المشيب بقضه وقضيضه ** وأشد من وجدان ذلك فقده )
( أنا في السرى والسير كالطفل الذي ** يجد السكون إذا تحرك مهده )
( من يقتدح زندا بكف مالها ** زند فكيف تراه يقدح زنده ) + الكامل +
____________________
1- الوافر
(2/187)
وبديع أيضا قول حسن بن النقيب رحمه الله تعالى
( لا تأسفن على الشباب وفقده ** فعلي المشيب وفقده يتأسف )
( هاذاك يخلفه سواه إذا انقضى ** ومضى وهذا إن مضى لا يخلف ) (1)
وقوله أيضا
( عجبت للشيب كنت أكرهه ** فأصبح القلب وهو عاشقه )
( وكنت لا أشتهي أراه وقد ** أصبحت لا أشتهي أفارقه ) + المنسرح +
وما أحسن قول الصفي الحلي
( لو تيقنت أن شين بياض الشيب يبقى لما كرهت البياضا ** )
( غير أني علمت من ذلك الزائر ** ما يقتضي وما يتقاضى ) + الخفيف +
ولأبي الفتح البستي رحمه الله تعالى فيه
( يا شيبتي دومي ولا تترحلي ** وتيقني أني بوصلك مولع )
( قد كنت اجزع من حلولك مرة ** والآن من خوف ارتحالك اجزع ) (1)
ولأبي اليمن الكندي فيه أيضا
( عفا الله عما جره اللهو والصبا ** وما مر من قال الشباب وقيله )
( زمان صحبناه بأرغد عيشة ** إلى أن مضى مستكرها لسبيله )
( وأعقبنا من بعده غير مشتهي ** مشيبا نفى عنا الكرى بحلوله )
( لئن عظمت أحزاننا بقدومه ** فأعظم منها خوفنا من رحيله ) + الطويل +
وقد خالف ابن الرومي حيث يقول
____________________
1- الكامل
(2/188)
( من كان يبكي الشباب من أسف ** فلست أبكي عليه من أسف )
( كيف وشرخ الشباب عرضني ** يوم حسابي لموقف التلف )
( لا صوحبت شرة الشباب ولا ** عدمت ما في المشيب من خلف ) (1)
ومثله قول بعضهم
( لم أقل للشباب في دعة الله ولا حفظة غداة استقلا ** )
( زائر زارنا أقام قليلا ** سود الصحف بالذنوب وولى ) + الخفيف +
ومن الجيد أيضا قول العلوي
( لعمرك للمشيب علي مما ** فقدت من الشباب أجل فوتا )
( تمليت الشباب فصار شيبا ** ومليت المشيب فصار موتا ) + الوافر +
وما أحسن أيضا قول الآخر
( والمرء إن حل شيب في مفارقه ** فما يفارقه أو يرحلان معا ) + البسيط +
وما أحسن قول المعري في مدح الشيب
( خبريني ماذا كرهت من الشيب فلا علم لي بذنب المشيب ** )
( أضياء النهار أم وضح اللؤلؤ ** أم كونه كثغر الحبيب )
( أخبريني فضل الشباب وماذا ** فيه من منظر يسر وطيب )
( غدره بالخليل أم حبه للغي أم كونه كعيش الأديب ** ) + الخفيف +
وبالجملة فما أحسن قول الحافظ بن سهل بن غانم الأصفهاني وأصدقه
( من شاب قد مات وهو حي ** يمشي على الأرض مشي هالك )
( لو كان عمر الفتى حسابا ** لكان في شيبه فذلك ) + من مخلع البسيط +
والشاهد في البيت الجمع بين معنيين غير متقابلين عبر عنهما بلفظيين يتقابل معنياهما الحقيقيان فإنه هنا لا تقابل بين البكاء وظهور الشيب لكنه عبر
____________________
1- المنسرح
(2/189)
عن ظهوره بالضحك الذي يكون معناه الحقيقي مضادا لمعنى البكاء ويسمى إيهام التضاد لان المعنيين المذكورين وان لم يكونا متقابلين حتى يكون التضاد حقيقيا لكنهما قد ذكرا بلفظيين يوهمان التضاد نظرا إلى الظاهر والحمل على الحقيقة
ومن الشواهد على إيهام التضاد قول أبي تمام الطائي
( وتنظري خبب الركاب ينصها ** محيي القريض إلى مميت المال ) (1)
فليس بين محيي ومميت هنا تضاد بالمعنى إلا بما يتوهم من اللفظ لان محيي القريض هنا كناية عن مجيده ويعني به نفسه ومميت المال كناية عن مفنيه في الكرم وليس بينهما تضاد
ومنه قول الشاعر
( يبدي وشاحا أبيضا من سيفه ** والجو قد لبس الرداء الأغبرا ) (1)
فإن الأبيض ليس بضد الأغبر وإنما يوهم بلفظه أنه ضده
ودعبل هو ابن علي بن رزين بن سليمان بن تميم الخزاعي ويكنى أبا علي وهو شاعر مطبوع متقدم هجاء خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا من أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن ولا أفلت منه كبير أحد
وحدث أبو هفان قال قال لي دعبل قال لي أبو زيد الأنصاري مم اشتق دعبل قلت لا أدري قال الدعبل الناقة التي معها أولادها
وحدث محمد بن أيوب قال دعبل اسمه محمد وكنيته أبو جعفر ودعبل لقب لقب به
____________________
1- الكامل
(2/190)
وعن أبي عمرو الشيباني قال الدعبل البعير المسن
وحدث دعبل قال كنت جالسا مع بعض أصحابنا ذات يوم فلما قمت سأل الرجل ولم يعرفني أصحابي عني فقالوا هذا دعبل قال قولوا في جليسكم خيرا كأنه ظن اللقب شتما
وقال دعبل صرع مجنون مرة فصحت في أذنه دعبل ثلاث مرات فأفاق
وكان سبب خروجه من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة فجلسا على طريق رجل من الصيارفة كان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله فلما طلع مقبلا عليهما وثبا عليه وجرحاه وأخذا ما في كيسه فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة ولم يكن كيسه معه ليلتئذ ومات الرجل في مكانه واستتر دعبل وصاحبه وجد أولياء الرجل في طلبهما وجد السلطان أيضا في ذلك فطال على دعبل الاستتار فاضطر إلى أن يهرب من الكوفة فما دخلها حتى كتب إليه أهله أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد
وحدث أحمد بن أبي كامل قال كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاد وأثرى وكانت الشراه والصعاليك يلفونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه نفنف وشنغف وكانا مغنيين فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم فكانوا قد عرفوه وألفوه لكثرة
____________________
(2/191)
أسفاره وكانوا يواصلونه ويصلونه قال وأنشدني دعبل لنفسه في بعض أسفاره
( حللت محلا يقصر البرق دونه ** ويعجز عنه الطيف أن يتجشما ) (1)
وحدث محمد بن عمر الجرجاني قال دخل دعبل الري في أيام الربيع فجاءهم ثلج لم ير مثله في الشتاء فجاء شاعر من شعرائهم فقال شعرا وكتبه في رقعة وهو
( جاءنا دعبل بثلج من الشعر فجادت سماؤنا بالثلوج ** )
( نزل الري بعد ما سكن البرد ** وقد أينعت رياض المروج )
( فكسانا ببرده لا كساه الله ثوبا من كرسف محلوج ** ) + الخفيف +
وألقى الرقعة في دهليز دعبل فلما قرأها ارتحل عن الري
وحدث أحمد بن خالد قال كنا يوما عند دار رجل يقال له صالح ابن علي ابن عبد القيس ببغداد ومعنا جماعة من أصحابنا فسقط على كنيسة في سطحها ديك طار من بيت دعبل فلما رأيناه قلنا هذا صيد فأخذناه فقال صالح ما نصنع به قلنا نذبحه فذبحناه وشويناه يومنا وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح فطلبه منا فجحدناه وشربنا يومنا فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة ثم جلس على باب المسجد وكان ذلك المسجد مجمع الناس يجتمع فيه جماعة من العلماء ونبهاء الناس فجلس دعبل على باب المسجد وقال
( أسر المؤذن صالح وضيوفه ** أسر الكمي هفا خلال المأقط )
____________________
1- الطويل
(2/192)
( بعثوا عليه بناتهم وبنيهم ** ما بين ناتفة وآخر سامط )
( يتنازعون كانهم قد أوثقوا ** خاقان أو هزموا كتائب ناعط )
( نهشوه فانتزعت له أسنانهم ** وتهشمت أقفاؤهم بالحائط ) (1)
قال فكتبها الناس عنه ومضوا فقال لي أبي وقد رجع إلى البيت ويحكم ضاقت عليكم المآكل فلم تجدوا شيئا تأكلونه سوى ديك دعبل ثم أنشدنا الشعر وقال لي لا تدع ديكا ولا دجاجة تقدر عليها إلا اشتريت ذلك لدعبل وبعثت به إليه وإلا أوقعتنا في لسانه ففعلت ذلك
قال وناعط قبيلة من همدان وأصله جبل نزلوا به فنسبوا إليه
وقال دعبل كنا يوما عند سهل بن هارون الكاتب البليغ وكان شديد البخل فأطلنا الحديث واضطره الجوع إلى أن دعا بغداء له فأتى بقصعة فيها ديك جاس هرم لا تخرقه سكين ولا يؤثر فيه ضرس فأخذ كسرة خبز فخاض بها مرقته وقلب جميع ما في القصعة ففقد الرأس فبقي مطرقا ساعة ثم رفع رأسه وقال للطباخ أين الرأس قال رميت به فقال ولم قال ظننتك لا تأكله قال بئس ما ظننت والله إني لأمقت من يرمي برجليه فكيف من يرمي برأسه والرأس رئيس وفيه الحواس الأربع ومنه يصيح ولولا صوته لما فضل وفيه فرقة الذي يتبرك به وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجب لوجع الكليتين ولم ير عظم قد أهش من عظم رأسه أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق فإن كان قد بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإنا نأكله فانظر أين هو قال لا أدري والله أين هو رميت به قال لكني أدري أين هو رميت به في بطنك فالله حسيبك
وحدث إبراهيم بن المدبر قال لقيت دعبل بن علي فقلت له أنت
____________________
1- الكامل
(2/193)
أخبر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول يعني في حق المأمون
( إني من القوم الذين سيوفهم ** قتلت أخاك وشرفتك بمقعد )
( رفعوا محلك بعد طول خموله ** واستنقذوك من الحضيض الأوهد ) (1)
فقال لي يا أبا إسحاق أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها بعد
وبات دعبل ليلة عند صديق له من أهل الشأم وبات عندهم رجل من أهل بيت لهيان يقال له حوى بن عمرو السكسكي وكان جميل الوجه فدب إليه صاحب البيت وكان شيخا كبيرا فانيا أتى عليه حين فقال له دعبل
( لولا حوى لبيت لهيان ** ما قام أير العزب الفاني )
( له دواة في سراويله ** يليقها النازح والداني ) + السريع +
وشاع هذا البيتان فهرب حوى من ذلك البلد وكان الشيخ إذا رأى دعبلا سبه وقال فضحتني أخزاك الله
وحدث محمد بن الأشعث قال سمعت دعبلا يقول ما كانت لأحد عندي منه قط إلا تمنيت موته
وكان دعبل قد مدح محمد بن عبد الملك الزيات فأنشده ما قاله فيه وهو جالس وفي يده طومار قد جعله على فيه كالمتكئ عليه وهو جالس فلما فرغ أمر له بشيء قليل لم يرضه فقال
( يا من يقبل طومارا ويلثمه ** ماذا بقلبك من حب الطوامير )
( فيه مشابه من شيء تسر به ** طولا بطول وتدويرا بتدوير )
____________________
1- الكامل
(2/194)
( لو كنت تجمع أموالا كجمعكها ** إذا جمعت بيوتا من دنانير ) (1)
وقال دعبل في الفضل بن مروان
( نصحت فأخلصت النصحية في الفضل ** وقلت فسيرت المقالة في الفضل )
( ألا إن في الفضل بن سهل لعبرة ** إذا اعتبر الفضل بن مروان بالفضل )
( وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ ** إذا فكر الفضل بن مروان في الفضل )
( فأبق جميلا من حديث تفز به ** ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل )
( فإنك قد أصبحت للملك قيما ** وصرت مكان الفضل والفضل والفضل )
( ولم أر أبياتا من الشعر قبلها ** جميع قوافيها على الفضل والفضل )
( وليس لها عيب إذا هي أنشدت ** سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل ) + الطويل +
فبعث إليه الفضل بدنانير وقال له قد قبلت نصيحتك فاكفني خيرك وشرك
وحدث محمد بن حاتم المؤدب قال فيل للمأمون إن دعبلا قد هجاك فقال وأي عجب في هذا هو يهجو أبا عباد فلا يهجوني أنا ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي ثم قال لجلسائه من كان فيكم يحفظ شعره في أبي عباد فلينشده فأنشده بعضهم
( أولى الأمور بضيعة وفساد ** أمر يدبره أبو عباد )
( خرق على جلسائه فكأنهم ** حضروا لملحمة ويوم جلاد )
( يسطو على كتابه بدواته ** فمضمخ بدم ونضح مداد )
( وكأنه من دير هرقل مفلت ** خرد يجر سلاسل الأقياد )
( فاشدد أمير المؤمنين وثاقه ** فأصح منه بقية الحداد ) + الكامل +
قال وكان بقية هذا مجنونا في المارستان فضحك المأمون وكان إذا
____________________
1- البسيط
(2/195)
نظر إلى أبي عباد يضحك ويقول لمن يقرب منه والله ما كذب دعبل في قوله
وحدث أبو ناجية قال كان المعتصم يبغض دعبلا لطول لسانه وبلغ دعبلا أنه يريد اغتياله وقتله فهرب إلى الجبل وقال يهجوه
( بكى لشتات الدين مكتئب صب ** وفاض بفرط الدمع من عينه غرب )
( وقام إمام لم يكن ذا هداية ** فليس له دين وليس له لب )
( وما كانت الأنباء تأتي بمثله ** يملك يوما أو تدين له العرب )
( ولكن كما قال الذين تتابعوا ** من السلف الماضي إذا عظم الخطب )
( ملوك بني العباس في الكتب سبعة ** ولم تأتيا عن ثامن لهم كتب )
( كذلك أهل الكهف في العد سبعة ** خيار إذا عدوا وثامنهم كلب )
( وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة ** لأنك ذو ذنب وليس له ذنب )
( لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم ** وصيف وأشناس وقد عظم الكرب )
( وفضل بن مروان سيثلم ثلمة ** يظل لها الإسلام ليس له شعب ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/196)
ولما مات المعتصم قال ابن الزيات يرثيه
( قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا ** في خير قبر لخير مدفون )
( لن يجبر الله أمة فقدت ** مثلك إلا بمثل هرون ) (1)
فقال دعبل يعارضه
( قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا ** في شر قبر لشر مدفون )
( اذهب إلى النار والعذاب فما ** خلتك إلا من الشياطين )
( ما زلت حتى عقدت بيعة من ** أضر بالمسلمين والدين ) (1)
وحدث محمد بن جرير قال أنشدني عبد الله بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكل وما سمعت له غيره فيه
( ولست بقائل بدعا ولكن ** لأمر ما تعبدك العبيد ) + الوافر +
قال يرميه في هذا البيت بالأبنة
وحدث محمد بن جرير قال كنت مع دعبل بالصيمرة وقد جاءنا نعي المعتصم وقيام الواثق فقال لي دعبل أمعك ما تكتب فيه قلت نعم فأخرجت قرطاسا فأملى علي بديها
( الحمد لله لا صبر ولا جلد ** ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا )
( خليفة مات لم يحزن له أحد ** وآخر قام لم يفرح به أحد ) + البسيط +
وكان المأمون قد تطلب دعبلا وجد في ذلك وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله
( علم وتحكيم وشيب مفارق ** تطميس ريعان الشباب الرائق )
( وإمارة في دولة ميمونة ** كانت على اللذات أشغب عائق )
____________________
1- المنسرح
(2/197)
( نعوا ابن شكلة بالعراق وأهله ** فهفا إليه كل أخرق مائق )
( أنى يكون ولا يكون ولم يكن ** يرث الخلافة فاسق عن فاسق )
( إن كان إبراهيم مضطلعا بها ** فلتصلحن من بعده المخارق ) (1)
ولما قرأها المأمون ضحك وقال قد صفحت عن كل ما هجانا به إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده ثم أنه كتب إلى دعبل أمانا فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه وقال أنشدني
( مدارس آيات خلت من تلاوة ** )
فجزع فقال له لك الأمان فلا تخف وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى اخضلت لحيته بدمعه ثم أنه أحسن إليه وانسر به حتى كان أول داخل إليه وآخر خارج من عنده ثم عاد إلى خباثته وشاعت له أبيات بعدها أيضا يهجو بها المأمون
وحدث دعبل قال دخلت على علي بن موسى الرضى فقال أنشدني مما أحدثت فأنشدته
( مدارس آيات خلت من تلاوة ** ومنزل وحي مقفر العرصات ) + الطويل +
____________________
1- الكامل
(2/198)
حتى انتهيت إلى قولي فيها
( إذا وتروا مدوا إلى واتريهم ** أكفا عن الأوتار منقبضات )
قال فبكى عنده حتى أغمي عليه فأومأ إلي خادم كان على رأسه أن أسكت فسكت فمكث ساعة ثم قال لي عد فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم أيضا إلي أن اسكت فسكت ثم مكث ساعة أخرى ثم قال لي أعد فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها فقال أحسنت أحسنت ثلاث مرات ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلي الخادم فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة اشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته
ثم أن دعبلا استوهب من علي بن موسى الرضى رضي الله عنهما ثوبا قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها غصبا وقالوا له إن شئت أن تأخذ المال فافعل وإلا فأنت اعلم فقال لهم إني والله لا أعطيكم إياها طوعا ولا تنفعكم غصبا وأشكوكم إلى الرضى فصالحوه على أن أعطوه ثلاثين ألف درهم وفردكم من بطانتها فرضي بذلك
وحدث دعبل قال لما هربت من الخليفة بت ليلة بنيسابور وحدي وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود علي قائلا يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أألج يرحمك الله فاقشعر بدني من ذلك ونالني أمر عظيم فقال لي لا ترع فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن طرأ علينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك مدارس آيات . . . إلى آخرها فأحببت أن أسمعها منك
____________________
(2/199)
قال فأنشدته إياها فبكى حتى خر ثم قال يرحمك الله ألا أحدثك بحديث في نيتك ويعينك على التمسك بمذهبك قلت بلى قال مكثت حينا أسمع بجعفر بن محمد رحمهما الله تعالى فصرت إلى المدينة المنورة فسمعته يقول حدثني أبي عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( علي وشيعته هم الفائزون ) ثم ودعني لينصرف فقلت يرحمك الله إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل قال أنا ظبيان بن عامر
وحدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد وقد قل المال عنده وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوباش الناس وأوغادهم فاحتبس عليهم العطاء فجعل إبراهيم يسوفهم وهم لا يرون لوعده حقيقة إلى أن خرج رسوله إليهم يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح إليهم بأنه لا مال عنده فقال قوم من غوغاء أهل بغداد أخرجوا إلينا خليفتنا ليقي أهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءهم ولآهل هذا الجانب مثلها قال إسحاق فأنشدني دعبل بعد أيام
( يا معشر الأجناد لا تقنطوا ** وارضوا بما كان ولا تسخطوا )
( فسوف تعطون حنينية ** يلتذها الأمرد والأشمط )
( والمعبديات لقوادكم ** لا تدخل الكيس ولا تربط )
( وهكذا يرزق قواده ** خليفة مصحفه البربط ) (1)
ودخل عبد الله بن طاهر على المأمون فقال له أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل قال أحفظ أبياتا له في أهل بيت أمير المؤمنين قال هاتها فأنشده عبد الله قوله
____________________
1- السريع
(2/200)
( سقيا ورعيا لأيام الصبابات ** أيام أرفل في أثواب لذاتي )
( أيام غصني رطيب من ليانته ** أصبو إلى غير جارات وكنات )
( دع عنك ذكر زمان فات مطلبه ** واقذف برجلك عن متن الجهالات )
( واقصد بكل مديح أنت قائله ** نحو الهداة بني بيت الكرامات ) (1)
فقال المأمون إنه وجد والله مقالا فقال ونال ببعيد ذكراهم ما لا يناله في وصف غيرهم ثم قال المأمون لقد أحسن في وصف سفر سافره فطال ذلك السفر عليه فقال فيه
( ألم يأن للسفر الذين تحملوا ** إلى وطن قبل الممات رجوع )
( فقلت ولم أملك سوابق عبرة ** نطقن بما ضمت عليه ضلوع )
( تبين فكم دار تفرق شملها ** وشمل شتيت عاد وهو جميع )
( كذاك الليالي صرفهن كما ترى ** لكل أناس جدبة وربيع ) + الطويل +
ثم قال المأمون ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني وهجيراي ومسليتي حتى أعود
ومن شعره يهجو
( رفع الكلب فاتضع ** ليس في الكلب مصطنع )
( بلغ الغاية التي ** دونها كل ما ارتفع )
( إنما قصر كل شيء ** إذا طار أن يقع )
( لعن الله نخوة ** صار من بعدها ضرع ) + من مجزوء الخفيف +
ومن شعره يهجو أيضا
____________________
1- البسيط
(2/201)
( سمت المديح رجالا دون مالهم ** رد قبيح وقول ليس بالحسن )
( فلم أفز منهم إلا بما حملت ** رجل البعوضة من فخارة اللبن ) (1)
ومنه قوله فيمن استشفع به في حاجة فاحتاج إلى شفيع يشفع له
( يا عجبا للمرتجي فضله ** لقد رجا ما ليس بالنافع )
( جئنا به يشفع في حاجة ** فاحتاج في الإذن إلى شافع ) + السريع +
وحدث دعبل قال خرجت إلى الجبل هاربا من المعتصم فكنت أسير في بعض طريقي والمكاري يسوق بي بغلا تحتي وقد أتعبني تعبا شديدا فتغنى المكاري بقولي
( لا تعجبي يا سلم من رجل ** ضحك المشيب برأسه فبكى ) + الكامل +
فقلت له وأنا أريد أن أتقرب إليه ليكف ما يستعمله من الحث للبغل لئلا يتعبني تعرف لمن هذا الشعر يا فتى قال لمن ناك أمه وغرم درهمين فما أدري من أي أموره أعجب أمن هذا الجواب أم من قلة الغرم على عظم الجناية
وحدث علي بن عبد الله بن مسعدة قال قال لي دعبل وقد أنشدته قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني
( زناره في خصره معقود ** كأنه من كبدي مقدود ) + الرجز +
والله ما أعلم أني حسدت أحدا كما حسدت بكرا على قوله كأنه من كبدي مقدود وكان بكر هذا وراقا ضيقا عيشه معاقرا للشراب في منازل الخمارين وحاناتهم وكان طيب الشعر مليحا مطبوعا حسنا ماجنا خليعا وكانت الخمرة قد أفسدت عقله في آخر عمره فصار يهجو ويمدح بالدرهم والدرهمين ونحو هذا فاطرح
وحدث بعض الكوفيين قال حضرنا دعوة ليحيى بن أبي يوسف القاضي وبتنا عنده ونمت فما أنبهني إلا صياح بكر يستغيث من العطش فقلت له مالك قم فاشرب فالدار ملأى ماء قال أخاف قلت من أي شيء قال في الدار
____________________
1- البسيط
(2/202)
كلب كبير فأخاف أن يظنني غزالا فيثب علي ويقطعني ويأكلني فقلت له خرب الله بيتك أنت والله بالخنازير أشبه منك بالغزلان قم فاشرب إن كنت عطشانا وأنت آمن وكان عقله قد فسد من كثرة الشرب
وحدث أحمد بن عثمان الطبري قال سمعت دعبل بن على يقول لما هاجيت أبا سعد المخزومي أخذت معي جوزا ودعوت الصبيان فأعطيتهم منه وقلت لهم صيحوا به قائلين
( يا أبا سعد قوصره ** زاني الأخت والمره )
( لو تراه مجيبا ** خلته عقد قنطرة )
( أو ترى الأير في أسته ** قلت ساق بمقطره ) (1)
فصاحوا به فغلبته
ولأبي سعد المخزمي يهجو دعبلا وكان قد دعاه إلى بيته وأضافه
( لدعبل منة يمن بها ** فلست حتى الممات أنساها )
( أدخلنا بيته فأكرمنا ** ودس امرأته فنكناها ) + المنسرح +
وحدث أبو سعد المخزومي واسمه عيسى بن خالد الوليد قال أنشدت المأمون قصيدتي الداليه التي رددت فيها على دعبل قوله
( ويسومني المأمون خطة عاجز ** أو ما رأى بالأمس رأس محمد ) + الكامل +
وأول قصيدتي
( أخذ المشيب من الشباب الأغيد ** والنائبات من الأنام بمرصد ) + الكامل +
ثم قلت له يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أجيئك برأسه فقال لا هذا رجل قد فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا فأما قتله فلا حجة فيه
وكان الرشيد قد غنى بقول دعبل
____________________
1- من مجزوء الخفيف
(2/203)
( لا تعجبي يا سلم من رجل ** . . . . الأبيات )
فطرب لها وسأل عن قائلها فقيل لدعبل غلام نشأ من خزاعة فأمر له بعشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه ومركب من مراكبه وجهز له ذلك مع خادم من خدمه إلى خزاعة فأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه فلما دخل عليه وسلم أمره بالجلوس فجلس واستنشده الشعر فأنشده إياه فاستحسنه وأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا فكان أول من حرضه على قول الشعر ثم أنه ما بلغه أن أن الرشيد مات حتى كافأه على فعله بأقبح مكافأة وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت رضي الله عنهم وهجا الرشيد
( وليس حي من الأحياء نعلمه ** من ذي يمان ولا بكر ولا مضر )
( إلا وهم شركاء في دمائهم ** كما تشارك أيسار على جزر )
( قتل وأسر وتحريق ومنهبة ** فعل الغزاة بأرض الروم والخزر )
( أرى أمية معذورين إن قتلوا ** ولا أرى لبني العباس من عذر )
( أربع بطوس على القبر الزكي إذا ** ما كنت تربع من دير إلى وطر )
( قبران في طوس خير الناس كلهم ** وقبر شرهم هذا من العبر )
( ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا ** على الزكي بقرب الرجس من ضرر )
( هيهات كل امرىء رهن بما كسبت ** له يداه فخذ ما شئت أو فذر ) (1)
يعني قبر الرشيد وقبر موسى الكاظم ولعمري لقد هذا هذا ولنفسه ظلم وآذى
____________________
1- البسيط
(2/204)
وحدث أبو حفص النحوي مؤدب آل طاهر قال دخل دعبل على عبد الله بن طاهر فأنشده وهو ببغداد
( جئت بلا حرمة ولا سبب ** إليك إلا بحرمة الأدب )
( فاقض ذمامي فإنني رجل ** غير ملح عليك في الطلب ) (1)
قال فانتقل عبد الله ودخل إلى الحرم ووجه إليه بصره فيها ألف درهم وكتب إليه معها
( أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ** ولو انتظرت كثيره لم يقلل )
( فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ** ونكون نحن كأننا لم نفعل ) + الكامل +
وكان دعبل قد قصد مالك بن طوق ومدحه فلم يرض ثوابه فخرج عنه وقال فيه
( إن ابن طوق وبني تغلب ** لو قتلوا أو جرحوا قصره )
( لم يأخذوا من دية درهما ** يوما ولا من أرشهم بعره )
( دماؤهم ليس لها طالب ** مطلولة مثل دم العذرة )
( وجوههم بيض وأحسابهم ** سود وفي آذانهم صفرة ) + السريع +
وقال فيه أيضا
( سألت عنكم يا بني مالك ** في نازح الأرضين والدانية )
( طرا فلم نعرف لكم نسبة ** حتى إذا قلت بني الزانية )
( قالوا فدع دارا على يمنة ** وتلك هادارهم ثانية ) + السريع +
فبلغت الأبيات مالكا فطلبه فهرب فأتى البصرة وعليها إسحاق بن العباس ابن محمد بن علي العباسي وكان قد بلغه هجاء دعبل وعبد الله بن عيينة نزارا فأما ابن عيينة فإنه هرب منه فلم يظهر بالبصرة طول أيامه وأما دعبل فإنه حين دخل البصرة بعث إليه فقبض عليه ودعا بالنطع والسيف ليضرب عنقه فحلف
____________________
1- المنسرح
(2/205)
بالطلاق على جحدها وبكل يمين تبرىء من الدم أنه لم يقلها وأن عدوا له قالها أما أبو سعد المخزومي أو غيره ونسبها إليه ليغري بدمه وجعل يتضرع إليه ويقبل الأرض ويبكي بين يديه فرق له فقال أما إذا أعفيتك من القتل فلا بد أن أشهرك ثم دعا له بالعصي فضربه حتى سلخ وأمر به فألقى على قفاه وفتح فمه فرد سلحة فيه والمقارع تأخذ رجليه وهو يحلف أن لا يكف عنه حتى يستوفيه ويبلعه أو يقتله فما رفعت عنه حتى بلع سلحة كله ثم خلاه فهرب إلى الأهواز وبعث مالك بن طوق رجلا حصيفا مقداما وأعطاه سما وأمره أن يغتاله كيف شاء وأعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم فلم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السوس فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة فضرب ظهر قدمه بعكاز لها زج مسموم فمات من الغد ودفن بتلك القرية وقيل بل حمل إلى السوس فدفن فيها
وكانت ولادته في سنة ثمان وأربعين ومائة ووفاته في سنة ست وأربعين ومائتين
ولما مات وكان صديق البحتري وكان أبو تمام قد مات قبله رثاهما البحتري بقوله
( قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ** مثوى حبيب يوم مات ودعبل )
( أخوي لا تزل السماء مخيلة ** تغشاكما بسماء مزن مسبل )
( جدث على الأهواز يبعد دونه ** مسرى النعي ورمة بالموصل ) (1)
ودعبل بكسر الدال وسكون العين المهملتين وكسر الباء الموحدة
____________________
1- الكامل
(2/206)
116
( ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ** وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل )
البيت من البسيط ويعزى لأبي دلامة
يحكى أن أبا جعفر المنصور سأل أبا دلامة عن أشعر بيت قالته العرب في المقابلة فقال بيت يلعب به الصبيان قال وما هو على ذاك قال قول الشاعر وأنشده البيت
قال ابن أبي الأصبع لا خلاف في أنه لم يقل قبله مثله فإنه قابل بين أحسن وأقبح والدين والكفر والدنيا والإفلاس وهو من مقابلة ثلاثة بثلاثة وكلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ
واحسن من بيت أبي دلامة قول المتنبي
( فلا الجود يفني المال والجد مقبل ** ولا البخل يبقي المال والجد مدبر ) (1)
ومن المقابلة قول النابغة الجعدي
( فتى تم فيه ما يسر صديقه ** على أن فيه ما يسوء الأعاديا ) (1)
وقول الفرزدق
( وإنا لنمضي بالأكف رماحنا ** إذا أرعشت أيديكم بالمعالق ) (1)
وقول عبد الله بن الزبير الأسدي
( فرد شعورهن السود بيضا ** ورد وجوههن البيض سودا ) + الوافر +
وقول لأبي تمام
( يا أمة كان قبح الجور يسخطها ** دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها ) + البسيط +
وقول البحتري
( فإذا حاربوا أذلوا عزيزا ** وإذا سالموا أعزوا ذليلا ) + الخفيف +
وقول يزيد بن محمد المهلبي لسليمان بن وهب
( فمن كان للآثام والذل أرضه ** فأرضكم للأجر والعز معقل ) (1)
____________________
1- الطويل
(2/207)
وقول العباس بن الأحنف
( اليوم مثل الحول حتى أرى ** وجهك والساعة كالشهر ) (1)
لان الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر
ولمؤلفه من أبيات
( لو كان ذا الكاشح في بلدتي ** لم يستطع يومضني ومضا )
( وكنت في العز سماء له ** وكان لي من ذلة أرضا ) (1)
وحسن في المقابلة قول الشريف الموسوي
( ومنظر كان بالسراء يضحكني ** يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني ) + البسيط +
وقول أبي عبد الله الغواص
( جهل الرئيس وحق الله يضحكنا ** وفعله وآله الناس يبكينا ) + البسيط +
وقول ابن شمس الخلافة
( طالت الشقوة للمرء إذا ** قصر الرزق وطال العمر ) + الرمل +
وقول السري الرفاء
( وصاحب يقدح لي ** نار السرور بالقدح )
( في روضة قد لبست ** من لؤلؤ الطل سبح )
( والجو في ممسك ** طرازه قوس قزح )
( يبكي بلا حزن كما ** يضحك من غير فرح ) + من مجزوء الرجز +
وقوله وقد شرب ليلة في زورق
( ومعتدل يسعى إلي بكأسه ** وقد كاد ضوء الصبح بالليل يفتك )
____________________
1- السريع
(2/208)
( وقد حجب الغيم السماء كأنما ** يزر عليها منه ثوب ممسك )
( ظللنا نبث في الوجد والكأس دائر ** ونهتك أستار الهوى فتهتك )
( ومجلسنا في الماء يهوى ويرتقي ** وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك ) (1)
وقول التمتام الحداد المصري
( أما ترى الغيث كلما ضحكت ** كمائم الزهر في الرياض بكى )
( كالحب يبكي لديه عاشقه ** وكلما فاض دمعه ضحكا ) + المنسرح +
وما أحسن قول الأرجاني وأرشقه
( شبت أنا والتحي حبيبي ** حتى برغمي سلوت عنه )
( وأبيض ذاك السواد مني ** واسود ذاك البياض منه ) + من مخلع البسيط +
وما أصفى قول الصفي الحلي
( مليح يغير الغصن عند اهتزازه ** ويخجل بدر التم عند شروقه )
( فما فيه معنى ناقص غير خصره ** ولا فيه شيء بارد غير ريقه ) (1)
وما أشرق قول الشمس التلمساني
( فكم يتجافى خصره وهو ناحل ** وكم يتحالى ريقه وهو بارد )
( وكم يدعي صوتا وهذي جفونه ** بفترتها للعاشقين تواعد ) (1)
ومن مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبي
( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ** وأنثني وبياض الصبح يغري بي ) + البسيط +
وقد أخذه بعضهم أخذا مليحا فقال
( أقلى النهار إذا أضاء صاحبه ** وأظل انتظر الظلام الدامسا )
( فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ** والليل يرثي لي فيدير عابسا ) + الكامل +
والمتنبي أخذ معنى بيته من مصراع بيت لابن المعتز وهو قوله
____________________
1- الطويل
(2/209)
( لا تلق إلا بليل من تواعده ** فالشمس نمامة والليل قواد ) (1)
إلا أن ابن المعتز هجن هذا المعنى بذكر نمامة وقواد وأبو الطيب سبكه أحسن سبك وأبدعه فصار أحق به منه
وقال عبد الله بن خميس من شعراء المغاربة
( باتت له الأهواء أدهم سابقا ** وغدت به الأيام أشهب كابي ) + الكامل +
فأحسن ما شاء لمقابلته الأدهم بالأشهب والسبق بالكابي على أنه مأخوذ من قول ذي الوزارتين أبي عبد الله بن أبي الخصال رحمه الله تعالى
( وقد كنت أسري في الظلام بأدهم ** فها أنا أغدو في الصباح بأشهب ) + الطويل +
وفي بيت كل منهما زيادة على الآخر
ومن مقابلة ستة بستة ما أورده الصاحب شرف الدين مستوفي إربل وهو
( على رأس عبد تاج عز يزينه ** وفي رجل حر قيد ذل يشينه ) + الطويل +
حكى غرس الدين الأربلي أن الصاحب المذكور لما أنشد لغيره هذا البيت قال هو بديها
( تسر لئيما مكرمات تزينه ** وتبكي كريما حادثات تهينه ) + الطويل +
ومن مقابلة خمسة بخمسة قول القائل في ذي أبنه
( يأتي إلى الأحرار يجلس فوقهم ** وينام من تحت العبيد ويوتى ) + الكامل +
ومن مقابلة خمسة بخمسة قول النميري الغرناطي
( هن البدور تغيرت لما رأت ** شعرات رأسي آذنت بتغير )
( راحت تحب دجى شباب مظلم ** وغدت تعاف ضحى مشيب نير ) + الكامل +
____________________
1- البسيط
(2/210)
وأبو دلامة اسمه زند بن الجون وأكثر الناس يصحف اسمه ويقول زيد بالياء التحتية وهو خطأ وإنما هو بالنون وهو كوفي اسود مولى لبني أسد وكان أبو دلامة عبدا لرجل منهم يقال له قضاقض فأعتقه وأدرك آخر أيام بني أمية ولم يكن له فيها نباهة ونبغ في أيام بني العباس فانقطع إلى السفاح والمنصور والمهدي وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره ولم يصل لأحد من الشعراء ما وصل لأبي دلامة من المنصور خاصة وكان أبو دلامة فاسد الدين رديء المذهب مرتكبا للمحارم مجاهرا بذلك وكان يعلم هذا منه ويعرف به فيتجافى عنه للطف محله وكان أول ما حفظ من شعره وأسنيت له الجائزة به قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور وذكر قتله أبا مسلم وفيها يقول
( أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ** عليك بما خوفتني الأسد الورد )
( أبا مسلم ما غير الله نعمة ** على عبده حتى يغيرها العبد ) (1)
وانشدها المنصور في محفل من الناس فقال له احتكم فقال له عشرة آلاف درهم فأمر له بها فلما خلا به قال له أما والله لو تعديتها لقتلتك
وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها وأن يلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورها ! ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) ! فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي فقال له أبو جعفر ما حالك قال شر حال وجهي في وسطي وسيفي في استي وقد صبغت بالسواد ثيابي ونبذت كتاب الله وراء ظهري فضحك منه وأعفاه وحذره من ذلك وقال له إياك أن يسمع منك هذا أحد وفي ذلك يقول أبو دلامة
____________________
1- الطويل
(2/211)
( وكنا نرجي منحة من إمامنا ** فجاءت بطول زاده في القلانس )
( تراها على هام الرجال كأنها ** دنان يهود جللت بالبرانس ) (1)
وحدث الجاحظ قال كان أبو دلامة واقفا بين يدي المنصور أو السفاح فقال له سلني حاجتك قال أبو دلامة كلب صيد قال أعطوه إياه قال ودابة أتصيد عليها قال أعطوه قال وغلام يقود الكلب قال أعطوه غلاما قال وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه قال أعطوه جارية قال هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال فلا بد من دار يسكنونها قال أعطوه دارا تجمعهم قال وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون قال قد أقطعتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة قال وما الغامرة قال ما لا نبات فيه من الأرض قال قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيا في بني أسد فضحك وقال اجعلوا المائتين كلها عامرة قال فأذن لي أن أقبل يدك قال أما هذه فدعها فإني لا أفعل قال والله ما منعت عيالي شيئا أقل ضررا عليهم منها
قال الجاحظ فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها حيث ابتدأ بكلب فسهل القضية وجعل يأتي بما يليه على ترتيب فكاهه حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه
وحدث الهيثم بن عدي قال دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده قصيدته التي أولها
( إن الخليط أجد البين فانتجعوا ** وزودوك خبالا بئس ما صنعوا ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(2/212)
إلى أن قال فيها يهجو زوجته
( لا والذي يا أمير المؤمنين قضى ** لك بالخلافة في أسبابها الرفع )
( ما زلت أخلصها كسبي فتأكله ** دوني ودون عيالي ثم تضطجع )
( شوهاء مشنية في بطنها بجر ** وفي المفاصل من أوصالها فدع )
( ذكرتها بكتاب الله حرمتنا ** ولم تكن بكتاب الله ترتدع )
( فاخر نظمت ثم قالت وهي مغضبة ** أأنت تتلو كتاب الله يا لكع )
( اخرج لتبغ لنا مالا ومزرعة ** كما لجيراننا مال ومزدرع )
( واخدع خليفتنا عنا بمسألة ** إن الخليفة للسؤال ينخدع ) (1)
فضحك المنصور وقال أرضوها عنه واكتبوا لها ستمائة جريب عامرة وغامرة فقال أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف وإن شئت زدتك فضحك وقال اجعلوها كلها عامرة
وشهد أبو دلامة لجارة له عند ابن أبي ليلى القاضي على أتان نازعها فيه رجل فلما فرغ من الشهادة قال لابن أبي ليلى اسمع ما قلت قبل أن آتيك ثم اقض بما شئت قال هات فأنشده
( إن الناس غطوني تغطيت عنهم ** وإن بحثوا عني ففيهم مباحث )
( وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ** ليعلم يوما كيف تلك النبائت ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(2/213)
فأقبل القاضي على المرأة وقال أتبيعينني الأتان قالت نعم قال بكم قالت بمائة درهم قال ادفعوها إليها ففعلوا وأقبل على الرجل فقال قد وهبتها لك وقال لأبي دلامة قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك وابتعت ممن شهدت له ووهبت ملكي لمن رأيت أرضيت قال نعم وانصرف
ودخل أبو عطاء السندي يوما إلى أبي دلامة فاحتبسه ودعا بطعام وشراب فأكلا وشربا وخرجت إلى أبي دلامة صبية له فحملها على كتفه فبالت عليه فنبذها عن كتفه ثم قال
( بللت علي لأحييت ثوبي ** فبال عليك شيطان رجيم )
( فما ولدتك مريم أم عيسى ** ولا رباك لقمان الحكيم ) (1)
ثم التفت إلى أبي عطاء فقال له أجزيا أبا عطاء فقال
( صدقت أبا دلامة لم تلدها ** مطهرة ولا فحل كريم )
( ولكن قد حوتها أم سوء ** إلى لباتها وأب لئيم ) (1)
فقال له أبو دلامة عليك لعنة الله ما حملك على أن بلغت بي هذا كله والله لا أنازعك بيت شعر أبدا فقال له أبو عطاء يكون الذي من جهتك أحب إلي ثم غدا أبو دلامة إلى المنصور فأخبره بقصة ابنته وانشده الأبيات ثم اندفع فأنشده بعدها
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ** قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس )
( ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ** إلى السماء فأنتم أكرم الناس )
( وقدموا القائم المنصور رأسكم ** فالعين والأنف والأذنان في الراس ) + البسيط +
فاستحسنها وقال بأي شيء تحب أن أعينك على قبح ابنتك هذه
____________________
1- الوافر
(2/214)
فأخرج خريطة قد خاطها من الليل وقال تملأ لي هذه دراهم فوسعت أربعة آلاف درهم
ولما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس يعزونه فأنشأ أبو دلامة يقول
( أمسيت بالأنبار يا ابن محمد ** لم تستطع عن عقرها تحويلا )
( ويلي عليك وويل أهلي كلهم ** ويلا وعولا في الحياة طويلا )
( فلتبكين لك السماء بعبرة ** ولتبكين لك الرجال عويلا )
( مات الندى إذ مت يا ابن محمد ** فجعلته لك في التراب عديلا )
( إني سألت الناس بعدك كلهم ** فوجدت أسمح من سألت بخيلا )
( ألشقوتي أخرت بعدك للتي ** تدع العزيز من الرجال ذليلا )
( فلأحلفن يمين حق برة ** بالله ما أعطيت بعدك سولا )
فأبكي الناس قوله وغضب المنصور غضبا شديدا وقال لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك فقال أبو دلامة يا أمير المؤمنين إن أبا العباس كان لي مكرما وهو الذي جاءني من البدو كما جاء الله عز وجل بإخوة يوسف عليه السلام إليه فقل أنت كما قال يوسف ! ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ! فسري عن المنصور وقال قد أقلناك يا أبا دلامة فسل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا
____________________
(2/215)
وهو مريض ولم أقبضها فقال المنصور ومن يعلم ذلك قال هؤلاء وأشار إلى جماعة ممن حضر فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا صدق يا أمير المؤمنين فنحن نعلم ذلك فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغيظ يا سليمان ادفع إليه وسيره إلى هذا الطاغية يعني عبد الله بن علي وكان قد خرج بناحية الشام وأظهر الخلاف فوثب أبو دلامة فقال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن أخرج معهم فإني والله لمشؤم فقال له المنصور امض فإن يمني يغلب شؤمك فاخرج فقال والله يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر فإني لا أدري أيهما يغلب يمنك أو شؤمي إلا أني بنفسي أدرى وأوثق وأعرف وأطول تجربة فقال دعني من هذا فما لك من الخروج بد قال فإني أصدقك الآن شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت وكنت سببها فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك العشرين فافعل فاستفرغ المنصور ضحكا وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة
وحدث أبو دلامة قال أتي بي إلى المنصور أو إلى المهدي وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب فأخرجني مع روح بن عدي بن حاتم المهلبي لقتال الشراة فلما التقى الجمعان قلت لروح أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثرا ترتضيه مني فضحك وقال والله العظيم لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي ودعا له بغيرهما فاستبدل به فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع
____________________
(2/216)
قلت له أيها الأمير هذا مقام العائذ بك وقد قلت بيتين فاسمعهما فقال هات فأنشدته
( إني استجرتك أن أقدم الوغى ** لتطاعن وتنازل وضراب )
( فهب السيوف لما رأيتها مشهورة ** فتركتها ومضيت في الهراب )
( ماذا تقول لما يجيء ولا يرى ** من واردات الموت في النشاب ) (1)
فقال دع عنك هذا وستعلم فبرز رجل من الخوارج يطلب المبارزة فقال اخرج إليه يا أبا دلامة فقلت أنشدك الله أيها الأمير في دمي فقال والله لتخرجن قلت أيها الأمير أنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا والله جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي بشيء آكله ثم اخرج فأمر له برغيفين ودجاجة فأخذت ذلك وبرزت من الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فأقفعل وعيناه تقدان فأسرع إلي فقلت على رسلك يا هذا كما أنت فوقف فقلت أتقتل من لا يقاتلك قال لا قلت أفتستحل أن تقتل رجلا على دينك قال لا قلت أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من يقاتلك إلى دينك قال لا فاذهب عني إلى لعنة الله فقلت لا أفعل أو تسمع مني قال قل قلت هل كان بيننا عداوة قط أوترة أو تعلم بين أهلي واهلك وترا قال لا والله قلت ولا أنا والله لك إلا على جميل وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين بدينك
____________________
1- الكامل
(2/217)
وأريد الشر لمن أراده لك قال يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف قلت إن معي زادا وأريد أن آكله وأريد مواكلتك لتتأكد المودة بيننا ونري أهل العسكرين هوانهم علينا قال فافعل فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكا فلما استوفينا ودعني ثم قلت له إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني لك فتتعب وتتعبني فإن رأيت أن لا تبرز اليوم فافعل قال قد فعلت ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه قال ثم خرج آخر يريد البراز فقال اخرج إليه فقلت
( إني أعوذ بروح أن يقدمني ** إلى القتال فتخزى بي بنو أسد )
( إن البراز إلى الأقران أعلمه ** مما يفرق بين الروح والجسد )
( قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها ** وأصبحت لجميع الخلق بالرصد )
( إن المهلب حب الموت أورثكم ** وما ورثت اختيار الموت عن أحد )
( لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ** لكنها خلقت فردا فلم أجد ) (1)
فضحك وأعفاني
وعزم موسى بن داود على الحج فقال لأبي دلامة احجج معي ولك عشرة آلاف درهم فقال هاتها فدفعت إليه فأخذها وهرب إلى السواد فجعل ينفقها هناك ويشرب الخمر وطلبه موسى فلم يقدر عليه وخشي فوات الحج فخرج فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجا من قرية إلى قرية أخرى وهو سكران فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في المحمل بين يديه ففعل به ذلك فلما سار غير بعيد أقبل أبو دلامة على موسى وناداه بقوله
____________________
1- البسيط
(2/218)
( يا أيها الناس قولوا أجمعين معا ** صلى الإله على موسى بن داود )
( كأن ديباجتي خديه من ذهب ** إذا بدا لك في أثوابه السود )
( إني أعوذ بداود وأعظمه ** من أن أكلف حجا يا ابن داود )
( أنبئت أن طريق الحج معطشة ** من الشراب وما شربي بتصريد )
( والله ما في من أجر فتطلبه ** ولا الثناء على ديني بمحمود ) (1)
فقال موسى ألقوه لعنه الله عن المحمل ودعوه ينصرف فألقى وعاد إلى قصفة بالسواد حتى نفدت العشرة آلاف
ودخل أبو دلامة يوما على المنصور فأنشده
( رأيتك في المنام كسوت جلدي ** ثيابا جمة وقضيت ديني )
( وكان بنفسجي الخز فيها ** وساج ناعم فأتم زيني )
( فصدق يا فدتك النفس رؤيا ** رأتها في المنام كذاك عيني ) + الوافر +
فأمر بذلك وقال لا عدت تتحلم علي ثانية فأجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه ثم خرج من عنده ومضى فشرب في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو ثمل فلقيه العسس فأخذ فقيل له من أنت وما دينك فقال
( ديني على دين بني العباس ** ما ختم الطين على القرطاس )
( إذا اصطبحت أربعا بالكاس ** فقد أدار شربها براسي )
( فهل بما قلت لكم من باس ** ) + الرجز +
____________________
1- البسيط
(2/219)
فأخذوه ومضوا به فخرقوا أثوابه وساجه وأتوا به إلى المنصور وكان يؤتى بكل من أخذه العسس فحبسه مع الدجاج في بيت فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته مرة فلا يجيبه أحد وهو مع ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديكة فلما أكثر قال له السجان ما شأنك قال ويلك من أنت وأين أنا قال في الحبس وأنا فلان السجان قال ومن حبسني قال أمير المؤمنين قال ومن خرق طيلساني قال الحرس فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل فكتب إلى المنصور
( أمير المؤمنين فدتك نفسي ** على م حبستني وخرقت ساجي )
( أمن صهباء صافية المزاج ** كأن شعاعها لهب السراج )
( وقد طبخت بنار الله حتى ** لقد صارت من النطف النضاج )
( تهش لها القلوب وتشتهيها ** إذا برزت ترقرق في الزجاج )
( أقاد إلى السجون بغير جرم ** كأني بعض عمال الخراج )
( ولو معهم حبست لكان سهلا ** ولكني حبست مع الدجاج )
( وقد كانت تخبرني ذنوبي ** بأني من عقابك غير ناجي )
( على أني وإن لاقيت شرا ** لخيرك بعد الشر راجي ) (1)
فدعا به وقال له أين حبست يا أبا دلامة فقال مع الدجاج قال فما كنت تصنع قال أقوقىء معهم حتى أصبحت فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة فلما خرج قال له الربيع أنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين أما سمعت قوله وقد طبخت بنار الله يعني الشمس فأمر برده ثم قال له يا خبيث شربت الخمر قال لا قال أفلم تقل طبخت بنار الله تعني الشمس قال لا والله ما عنيت إلا نار الله المؤصدة التي تطلع على فؤاد الربيع فضحك وقال خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض له
____________________
1- الوافر
(2/220)
ولما قدم المهدي من الري دخل عليه أبو دلامة فأنشأ يقول
( إني نذرت لئن لقيتك سالما ** بقرى العراق وأنت ذو وفر )
( لتصلين على النبي محمد ** ولتملأن دراهما حجري ) (1)
فقال صلى الله على النبي محمد وسلم وأما الدراهم فلا فقال له أنت اكرم من أن تفرق بينها ثم تختار أسهلهما فضحك وأمر بان يملأ حجره دراهم
ودخل أبو دلامة على أم سلمة زوج السفاح بعد موته فعزاها به وبكى فبكت معه فقالت أم سلمة لم أجد أحدا أصيب به غيري وغيرك يا أبا دلامة قال ولا سواء يرحمك الله لك منه ولد وما ولدت أنا منه قط فضحكت ولم تكن ضحكت منذ مات السفاح إلا ذاك الوقت وقالت له لو حدثت الشيطان لأضحكته
ودخل يوما على المهدي وهو يبكي فقال له ما لك قال ماتت أم دلامة وانشد لنفسه فيها
( وكنا كزوج من قطا في مفازة ** لدى خفض عيش مونق ناضر رغد )
( فأفردني ريب الزمان بصرفه ** ولم أر شيئا قط أوحش من فرد ) + الطويل +
فأمر له بطيب وثياب ودنانير وخرج فدخلت أم دلامة على الخيزران وأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه
____________________
1- الكامل
(2/221)
وحدث المديني قال دخل أبو دلامة على المهدي وعنده جماعة من بني هاشم فقال المهدي له أنا أعطي الله تعالى عهدا لئن لم تهج واحدا ممن في البيت لأضربن عنقك فنظر إليه القوم وغمزوه بأن عليهم رضاه قال أبو دلامة فعلمت أني وقعت وانها عزمة من عزماته ولا بد منها فلم أر أحدا أحق بالهجاء مني ولا أدعى إلى السلامة من هجائي نفسي فقلت
( إلا أبلغ لديك يا أبا دلامة ** فليس من الكرام ولا كرامة )
( إذا لبس العمامة قلت قرد ** وخنزير إذا وضع العمامة )
( جمعت دمامة وجمعت لؤما ** كذاك اللؤم تتبعه الدمامة )
( فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ** فلا تفرح فقد دنت القيامة ) (1)
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه
وخرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد فسنح لهما قطيع من ظباء فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل فرمى المهدي سهما فصرع ظبيا ورمى علي بن سليمان فأصاب كلبا فقتله فقال في ذلك أبو دلامة
( قد رمى المهدي ظبيا ** شك بالسهم فؤاده )
( وعلي بن سليمان ** رمى كلبا فصاده )
( فهنيئا لهما كل امرىء يأكل زاده ** ) + من مجزوء الرمل +
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه وقال صدق والله أبو دلامة وأمر له بجائزة ولقب علي بن سليمان بصائد الكلب فعلق به
____________________
1- الوافر
(2/222)
وتوفيت حمادة بنت عيسى وحضر المنصور جنازتها فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة ما أعددت لهذه الحفرة قال بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها فضحك المنصور حتى غلب وستر وجهه
وحدث الهيثم بن عدي قال حجت الخيزران فلما خرجت صاح أبو دلامة جعلني الله فداك الله الله في أمري فقالت من هذا قالوا أبو دلامة قالت اسألوه ما أمره قال أدنوني من محملها فأدني فقال أيها السيدة إني شيخ كبير وأجرك في عظيم قالت فمه قال تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي قد أكلت رفدي وأطالت كدي فقد عاف جلدي جلدها وتمنيت بعدها وتشوقت فقدها فضحكت وقالت سوف آمر لك بما سألت فلما رجعت تلقاها واذكرها وخرج معها إلى بغداد وأقام حتى سئم ثم دخل على عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها
( أبلغي سيدتي بالله يا أم عبيدة ** )
( أنها أرشدها الله وإن كانت رشيدة ** )
( وعدتني قبل أن تخرج ** للحج وليدة )
( فتأتيت وأرسلت بعشرين قصيدة ** )
( كلما أخلقن اخلفت لها أخرى جديدة ** )
( ليس في بيتي لتمهيد فراشي من قعيدة ** )
( غير عجفاء عجوز ** ساقها مثل القديدة )
( وجهها أقبح من حوت ** طري في عصيده )
( ما حياتي مع أنثى ** مثل عرسي بسعيده ) (1)
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/223)
فلما قرئت عليها الأبيات ضحكت واستعادت قوله وجهها أقبح من حوت إلى آخره وجعلت تضحك ودعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها خذي كل ما لك في قصري ففعلت ثم دعت بخادم وقالت له سلمها إلى أبي دلامة فانطلق الخادم بها فلم يصبه في منزله فقال لامرأته إذا رجع فادفعيها إليه وقولي له تقول لك السيدة أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها فقالت له نعم فلما خرج دخل إليها ابنها دلامة فوجد أمه تبكي فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت إن أردت أن تبرني يوما من الدهر فاليوم قال قولي ما شئت فإني أفعله قالت تدخل عليها فتعلمها انك مالكها فتطؤها وتحرمها عليه وإلا ذهبت بعقله وجفاني وجفاك ففعل ودخل على الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه وخرج ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته أين الجارية فقالت في ذلك البيت فدخل إليها شيخ محطم ذاهب فمد يده إليها وذهب ليقبلها فقالت له ما لك ويلك تنح عني وإلا لطمتك لطمة دققت بها انفك فقال أبهذا أوصتك السيدة فقالت إنها بعثت بي إلى فتى من حاله وهيئته كيت وكيت وقد كان عندي آنفا ونال مني حاجته فعلم أنه قد دهى من أم دلامة وابنها فخرج إلى دلامة فلطمه وتلبب به وحلف أنه لا يفارقه إلى المهدي فمضى به متلببا حتى وقف على باب المهدي فعرف خبره وانه قد جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله فلما دخل قال له ما لك ويلك قال عمل هذا الخبيث ابن الخبيثة ما لم يعمله ولد بأبيه ولا يرضيني إلا أن تقتله فقال ويلك فما فعل بك فأخبره الخبر فضحك حتى استلقى على قفاه ثم جلس فقال له أبو دلامة أعجبك فعله فتضحك منه فقال علي بالسيف والنطع فقال له دلامة قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي قال هات قال هذا الشيخ أصفق الناس وجها وهو ينيك أمي منذ أربعين ما غضبت نكت أنا جاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى فضحك المهدي أشد من ضحكة الأول ثم قال دعها له وأنا أعطيك خيرا منها قال على أن
____________________
(2/224)
تخبأها لي بين السماء والأرض وإلا ناكها والله كما ناك هذه فتعهد المهدي إلى أبي دلامة أن لا يعاود دلامة مثل فعله وحلف أنه إن عاود قتله وأمر له بجارية أخرى كما وعده
ودخل أبو دلامة على المهدي وسلمه الوصيف واقف فقال إني قد أهديت لك يا أمير المؤمنين مهرا ليس لأحد مثله فإن رأيت أن تشرفني بقبوله فأمر بإدخاله إليه فخرج أبو دلامة وأدخل فرسه الذي كان تحته فإذا هو برذون محطم أعجف هرم فقال له المهدي أي شيء ويلك هذا ألم تزعم أنه مهر فقال له أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائما تسميه الوصيف وله ثمانون سنة وهو بعد عندك وصيفا فإن كان سلمة وصيفا فهذا مهر فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك ثم قال لسلمة ويحك إن لهذه منه أخوات وإن اتى بمثلها في محفل يفضحك فقال أبو دلامة أي والله يا أمير المؤمنين لأفضحنه فليس في مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره فإني ما شربت له الماء قط قال فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك قال قد فعلت على أن لا يعاود قال أفعل ولولا أني ما أخذت منه شئيا قط ما استعملت معه مثل هذا فمضى سلمة فحملها إليه وسلمه إياها
وجاء دلامة يوما إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جالسا فجلس بين يديه ثم أقبل على الجماعة فقال لهم إن شيخي كما ترون قد كبر سنه ودق عظمه وبنا إلى حياته حاجة شديدة ولا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقي قوته فيخالفني وإني أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته فأسعفوني بمسألته معي فقالوا نفعل وحبا وكرامة ثم أقبلوا على أبي دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضي ابنه وهو ساكت فقال قولوا لهذا الخبيث فليقل ما يريد فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية فقالوا قل فقال إن أبي ما يقتله إلا كثرة الجماع
____________________
(2/225)
فتعاونوني عليه حتى أخصيه فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصح لجسمه وأطول لعمره فعجبوا مما أتى به وعلموا أنه أراد أن يبعث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه ويرتفع له به ذكر فضحكوا منه ثم قالوا لأبي دلامة قد سمعت فأجب قال قد سمعتهم أنتم وعرفتم أنه لم يأت بخير قالوا فما عندك في هذا قال قد جعلت أمة حكما بينى وبينه فقوموا بنا إليها فقاموا بأجمعهم ودخلوا إليها وقص أبو دلامة القصة عليها وقال قد حكمتك فأقبلت على الجماعة فقالت إن ابنى هذا أبقاه الله فد نصح أباه وبره ولم يأل جهدا وما أنا إلى بقاء أبيه بأحوج منى إلى بقائه وهذا أمر لم تقع به تجربة ولا جرت بمثله عادة ولا أشك في معرفته بذلك فليبدأ بنفسه أولا فليخصها فاذا عوفى ورأينا ذلك قد أثر عليه أثرا محمودا استعمله أيضا فجعل أبوه يضحك منه وخجل ابنه دلامة وانصرف القوم يضحكون ويعجبون من خبثهم جميعا واتفاقهم في ذلك المذهب
وكان عند المهدى رجل من بنى مروان قد جاءه مسلما فأتى المهدى بعلج فأمر المرواني أن يضرب عنقه فأخذ السيف وقام فضربه فنبا عنه فرمى به المرواني وقال لو كان من سيوفنا ما نبا فسمعها المهدى فغاظه حتى تغير وجهه وبان فيه فقام يقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه ثم قال يا أمير المؤمنين إن هذه السيوف سيوف الطاعة ولا تعمل إلا في أيدى الأولياء ولا تعمل في أيدي أهل المعصية ثم قام أبو دلامة فقال يا أمير المؤمنين قد حضرني بيتان أفأقول قال قل فأنشده
( أبهذا الامام سيفك ماض ** وبكف الولى غير كهام )
( فإذا ما نبا بكف علمنا ** أنه كف مبغض للإمام ) (1)
فقام المهدى من مجلسه وسرى عنه وأمر حجابه بقتل المرواني فقتل وقال ابن النطاح دخل ابو دلامة على المهدى فأنشده قصيدته في بغلته
____________________
1- خفيف
(2/226)
____________________
(2/226)
المشهورة يهجوها ويذكر معايبها فلما انشده قوله
( أتاني خائب يستام مني ** عريقا في الخسارة والضلال )
( فقال تبيعها قلت ارتبطها ** بحكمك إن بيعي غير غالي )
( فأقبل ضاحكا نحوي سرورا ** وقال أراك سهلا ذا جمال )
( هلم إلي يخلو بي خداعا ** وما يدري الشقي لمن يخالي )
( فقلت بأربعين فقال أحسن ** إلي فان مثلك ذو سجال )
( فأترك خمسة منها لعلمي ** بما فيه يصير من الخبال ) (1)
فقال له المهدي لقد أفلت من بلاء عظيم فقال والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردها علي قال ثم أنشده
( فأبدلني بها يا رب طرفا ** يكون جمال مركبه جمالي ) (1)
فقال المهدي لصاحب دوابه خيره بين مركبين من الإصطبل فقال يا أمير المؤمنين إن كان الاختيار إلي وقعت في شر من البغلة ولكن مره أن يختار لي فقال اختر له
وأخبار أبي دلامة كثيرة وقد أثبتنا منها طرفا صالحا
وكانت وفاته سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى
117
( كالقسي المعطفات بل ** الأسهم مبرية بل الأوتار ** )
البيت للبحتري من قصيدة من الخفيف يمدح بها أبا جعفر بن حميد ويستوهبه غلاما ومنها قوله
( أبكاء في الدار بعد الدار ** وسلوا بزينب عن نوار )
____________________
1- الوافر
(2/227)
( لا هناك الشغل الجديد بحزوى ** عن رسوم برامتين قفار )
( ما ظننت الأهواء قبلك تمحى ** في صدور العشاق محو الديار ) (1)
إلى أن قال منها في وصف النوق
( يترقرقن كالسراب وقد خضن غمارا من السراب الجاري ** )
وبعده البيت والقصيدة طويلة يقول منها في تشكية من الغلام الأجير ويسأل مخدومه في هبته غلاما ويصفه
( قد مللناك يا غلام فغاد ** بسلام أو رائح أو ساري )
( سرقات مني خصوصا فهلا ** من عدو أو صاحب أو جار )
( أنا من ياسر وسعد وفتح ** لست من عامر ولا عمار )
( لا أحب النظير يخرجه الشم ** إلى الاحتجاج والافتخار )
( فإذا رعته بناحية السوط ** على الذنب راعني بالفرار )
( ما بأرض العراق يا قوم حر ** يشتريني من خدمة الأحرار )
( هل جواد بأبيض من بني الأصفر محض الجدود محض النجار ** )
( لم يرم قومه السرايا ولم يغزهم غير جحفل جرار ** )
( فحوته الرماح أغيد مجدولا ** قصير الزنار وافي الأزار )
( فوق ضعف الصغار إن وكل الأمر إليه ودون كبر الكبار ** )
____________________
1- الخفيف
(2/228)
( لك من ثغره وخديه ما شئت من الأقحوان والجلنار ** )
( وكأن الذكاء يبعث منه ** في سواد الأمور شعلة نار )
( يا أبا جعفر وما أنت بالمد ** عو إلا لكل أمر كبار )
( ولعمري للجود بالناس للناس ** سواه بالثوب والدينار )
( وقليل إلا لديك بهذا الفج أخذ الغلمان بالأشعار ** ) (1)
ومعنى البيت أنه يصف إبلا أنحلها السرى بحيث صارت من الهزال كالقسي بل السهام بل الأوتار
وقد تداول الشعراء هذا المعنى وتجاذبوا أطرافه فمن ذلك قول الشريف الموسوي
( هن القسي من النحول فإن سما ** خطب فهن من النجاء الأسهم ) + الكامل +
وقد أخذه ابن قلاقس فقال أيضا
( خوض كأمثال القسي نواحلا ** وإذا سما خطب فهن سهام ) + الكامل +
وقال أيضا
( طرحنا العجز عن أعجاز عيس ** توشحها على الحزم الحزاما )
( وندفع بالسرى منها قسيا ** فتقذف بالنوى منها سهاما ) + الوافر +
وقال ابن خفاجة أيضا
( وقد ما برت منها قسيا يد السرى ** وفوق منها فوقها المجد أسهما ) + الطويل +
وقال ابن النبيه
( إن خوض الظلماء أطيب عندي ** من مطايا أمست تشكي كلاله )
( فهي مثل القسي شكلا ولكن ** هي في السبق أسهم لا محالة ) (1)
____________________
1- الخفيف
(2/229)
والشاهد في البيت مراعاة النظير ويسمى التناسب والتوافق والائتلاف والمؤاخاة وهو جمع أمر وما يناسبه مع إلغاء التضاد لتخرج المطابقة فهو هنا قصد المناسبة بالأسهم والأوتار لما تقدم من ذكر القسي وهذه المناسبة هنا معنوية لا لفظية كما في قول مهيار
( ومدبر سيان عيناه والإبريق فتكا ولحظه والمدام ** ) (1)
والإبريق هنا السيف سمي بذلك لبريقه وكان يصح أن يقال سيان عيناه والصمصام أو الهندي فاختار الإبريق لمناسبته لفظا للمدام إذ الإبريق يطلق على إناء الخمر وليس هذا من المعنى في شيء وإنما هو مراعاة مجرد اللفظ
ومن أحسن ما ورد في مراعاة النظير قول ابن خفاجة يصف فرسا وهو
( وأشقر تضرم منه الوغى ** بشعلة من شعل الباس )
( من جلنار ناضر خده ** وأذنه من ورق الآس )
( تطلع للغرة في وجهه ** جبابة تضحك في الكاس ) + السريع +
فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس والنضارة
وقول ابن الساعاتي من أبيات في وصف الثلج
( السحب رايات ولمع بروقها ** بيض الظبي والأرض طرف اشهب )
( والند قسطله وزهر شموعنا ** صم القنا والفحم نبل مذهب ) + الكامل +
وما أبدع قول بعضهم في آل النبي صلى الله عليه وسلم
( أنتم بنو طه ون والضحى ** وبنو تبارك والكتاب المحكم )
( وبنو الأباطح والمشاعر والصفا ** والركن والبيت العتيق وزمزم ) + الكامل +
فإنه أحسن في المناسبة في البيت الأول بين أسماء السور وفي الثاني بين الجهات الحجازية وما اعجب قول السلامي
____________________
1- الخفيف
(2/230)
( أو ما ترى البروق توسطت ** أفقا كأن المزن فيه شنوف )
( واليوم من خجل الشقيق مضرج ** خجل ومن مرض النسيم ضعيف )
( والأرض طرس والرياض سطوره ** والزهر شكل بينها وحروف ) (1)
وقوله في وصف النارنج والسماريات في نهر طلعت عليه الشمس
( تنشط للصبوح أبا علي ** على حكم المنى ورضا الصديق )
( بنهر للرياح عليه درع ** يذهب بالغروب وبالشروق )
( إذا اصفرت عليه الشمس صبت ** على أمواجه ماء الخلوق )
( وقفت بع فكم خد رقيق ** يغازلني على قد رشيق )
( وجمر شب في الأغصان حتى ** أضاع الماء في وهج الحريق )
( فهم الحل في ميدان تبر ** يصاغ لها كرات من عقيق ) + الوافر +
وقوله أيضا في وصف الحب
( الحب كالدهر يعطينا ويرتجع ** لا اليأس يصرفنا عنه ولا الطمع )
( صحبته والصبا تعزى الصبابة بي ** والوصل طفل غرير والهوى يفع )
( أيام لا النوم في أجفاننا خلس ** ولا الزيارة من أحبابنا لمع )
( إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ** ورايتي اللهو واللذات لي شيع ) + البسيط +
وما أحسن قول السري الرفاء
( وغيم مرهفات البرق فيه ** عوار والرياض بها كواسي )
( وقد سلت جيوش الفطر فيه ** على شهر الصيام سيوف باس )
( ولاح لنا الهلال كشطر طوق ** على لبات زرقاء اللباس ) + الوافر +
وبديع قول أبي طالب البغدادي النحوي من أبيات
( ومهمه سرت فيه والبساط دم ** والجو نقع وهامات الرجال ربا ) + البسيط +
____________________
1- الكامل
(2/231)
وقول أبي حنيفة الأسترابادي غاية هنا وهو
( هل عثرت أقلام خط العذار ** في مشقها فالخال نضخ العثار )
( أو استدار الخط لما غدت ** نقطته مركز ذاك المدار )
( وريقه الخمر فهل ثغره ** در حباب نظمته العقار ) (1)
وقوله وهو بديع
( إذا الرمي بسهم اللحظ إذ رشقا ** فلم تدرع من أصداغه الحلقا ) + البسيط +
وقول أبي علي الحسن الباخرزي والد صاحب دمية القصر
( وذي زجل والي سهام رهامه ** وولى فألقى قوسه في انهزامه )
( ألم تر خد الورد مدمي لوقعها ** وأنصلها مخضوبة في كمامه ) + الطويل +
وما أحسن قول الحسين بن علي النميري من قصيدة
( روض إذا جرت الرياح مريضة ** في زهره استشفت به مرضاها )
( وإذا تقابلت الندامى وسطه ** سكر الصحاة كما صحا سكراها ) + الكامل +
وما أزهر قول بعضهم يرثي فقيها حنفيا
( روضة العلم قطبي بعد بشر ** والبسي من بنفسج جلبابا )
( وهبي النائحات منثور دمع ** فشقيق النعمان بان وغابا ) + الخفيف +
ولأبي العصب الملحي
( ذرفت عين الغمام ** فاستهلت بسجام )
( وبكى الإبريق في الكأس ** بدمع من مدام )
( فاسقني دمعا بدمع ** من مدام وغمام )
( واعص من لامك فيه ** ليس ذا وقت الملام ) + من مجزوء الرمل +
ولأبي العلاء المعري
____________________
1- السريع
(2/232)
( دع اليراع لقوم يفخرون بها ** وبالطوال الردينيات فافتخر )
( فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت ** مجدا أتت بمداد من دم هدر ) (1)
وما أحسن قول الوأواء الدمشقي
( سقيا ليوم غدا قوس الغمام به ** والشمس مشرقة والبرق خلاس )
( كأنه قوس رام والبروق له ** رشق السهام وعين الشمس برجاس ) (1)
وما أبدع قول السلامي
( وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ** على روضة خضراء ورد وأدهم )
( وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ** عقار وفوها الكأس أو كأسها الفم ) + الطويل +
ولبعض شعراء الذخيرة
( بدار سقتها ديمة إثر ديمة ** فمالت بها الجدران شطرا على شطر )
( فمن عارض يسقي ومن سقف مجلس ** يغني ومن بيت يميل من السكر ) + الطويل +
ومن الغايات في هذا الباب قول البديع الهمذاني من قصيدة يصف فيها طول السرى
( لك الله من عزم أجوب جيوبه ** كأني في أجفان عين الردى كحل )
( كأن السرى ساق كأن الكرى طلا ** كأنا لها شرب كان المنى نقل )
( كأنا جياع والمطي لنا فم ** كأن الفلا زاد كأن السرى أكل )
( كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ** وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل )
( كأنا على أرجوحة في مسيرنا ** لغور بنا تهوي ونجد بنا تعلو ) + الطويل +
ومنها في المديح ولم يخرج عن حسن المناسبة
( كأن فمي قوس لساني له يد ** مديحي له نزع به أملي نبل )
( ( كأن دواتي مطفل حبشية ** بناني لها بعل ونقشي لها نسل )
____________________
1- البسيط
(2/233)
( كأن يدي في الطرس غواص لجة ** بها كلمي در به قيمتي تغلو ) (1)
وله أيضا في قريب منه يمدح الممدوح في القصيدة قبله وهو الملك خلف ابن أحمد صاحب سجستان
( وليل كذكراه كمعناه كاسمه ** كدين ابن عباد كادبار فائق )
( شققنا بأيدي العيس برد ظلامه ** وبتنا على وعد من السير صادق )
( تزج بنا الأسفار في كل شاهق ** وترمي بنا الآمال في كل حالق )
( كأن مطايانا شفار كأنما ** تمد إليهن الفلا كف سارق )
( كأن نجوم الليل نظارة لنا ** تعجب من آمالنا والعوائق )
( كأن نسيم الصبح فرصة آيس ** كأن سراب القيظ خجله وامق ) (1)
ومن الغريب هنا قول ابن الرومي يصف أينقا
( تطوي الفلا وكأن الآل أردية ** وتارة وكأن الليل سيجان )
( كأنها في ضحاضيح الضحى سفن ** وفي الغمار من الظلماء حيتان ) + البسيط +
وما أرشق قول ابن رشيق
( أصح وأقوى ما سمعناه في الندى ** من الخبر المأثور منذ قديم )
( أحاديث ترويها السيول عن الحيا ** عن البحر عن كف الأمير تميم ) (1)
ومن المستحسن في هذا النوع قول ابن زيلاق في غلام معه خادم يحرسه
( ومن عجب أن يحرسوك بخادم ** وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر )
( عذارك ريحان وثغرك جوهر ** وخدك ياقوت وخالك عنبر ) (1)
وما أبدع قول ابن مطروح
( وليلة وصل خلت ** فيا عاذلي لا تسل )
____________________
1- الطويل
(2/234)
( لبسنا ثياب العناق ** مزررة بالقبل ) (1)
ومثله قول العماد السلمامسي
( شقت عليك يد الأسى ** ثوب الدموع إلى الذيول ) + من مجزوء الكامل +
وعجيب قول ابن الخشاب في المستضئ وأجاد
( ورد الورى سلسال جودك فارتووا ** ووقفت دون الورد وقفة حائم )
( ظمآن أطلب خفة من زحمة ** والورد لا يزداد غير تزاحم ) + الكامل +
وقول بن شرف في اجتماع البعوض والذباب والبراغيث في مجلس مخاطبا لصاحبه يستهزىء به
( لك مجلس كملت ستارتنا به ** للهو لكن تحت ذاك حديث )
( غنى الذباب وظل يزمر حوله ** فيه البعوض ويرقص البرغوث ) + الكامل +
ومن النهايات هنا قول القاضي عبد الرحيم الفاضل
( في خده فخ كعطفه صدغه ** والخال حبته وقلبي الطائر ) + الكامل +
وقول مجير الدين بن تميم
( لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ** في موقف ما الموت عنه بمعزل )
( لترى أنابيب القناة على يدي ** تجري دما من تحت ظل القسطل ) + الكامل +
وقد أغرب الأديب بدر الدين حسن الزغاري بقوله
( كأن السحاب الغر لما تجمعت ** وقد فرقت عنا الهموم بجمعها )
( نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ** حليب وكف الريح حالب ضرعها ) + الطويل +
والباب واسع ولا بد من مراعاة الاختصار هنا
____________________
1- من مجزوء المتقارب
(2/235)
118
( إذا لم تستطع شيئا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع )
البيت لعمرو بن معدي كرب الزبيدي من قصيدة من الوافر وأولها
( أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع )
( سباها الصمة الجشمى غصبا ** كأن بياض غرتها صديغ )
( وحالت دونها فرسان قيس ** تكشف عن سواعدها الدروع ) (1)
وبعده البيت وبعده
( وصله بالزمان فكل أمر ** سما لك أو سموت له ولوع )
وهي طويلة
قال المدائني حدثني رجل من قريش قال كنا عند فلان القرشي فجاءه رجل بجارية فغنته
( بالله يا ظبي بني الحارث ** هل من وفي بالعهد كالناكث ) + السريع + وغنته أيضا بغناء ابن سريج
____________________
1- الوافر
(2/236)
( يا طول ليلى وبت لم أنم ** وسادي الهم مبطن سقمي ) (1)
فأعجبته واستام مولاها فاشتط عليه فأبى شراءها وأعجبت الجارية بالفتى فلما امتنع مولاها من البيع إلا بشطط قال القرشي فلا حاجة لنا في جاريتك فلما قامت الجارية للانصراف رفعت صوتها تقول
( إذا لم تستطع شيئا فدعه ) البيت
قال فقال الفتى القرشي أفأنا لا أستطيع شراءك والله لأشترينك بما بلغت قالت الجارية فذلك أردت قال القرشي إني لا أخيبك وابتاعها من ساعته
والشاهد فيه الارصاد ويسميه بعضهم التسهيم وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز إذا عرف الروي وهو الحرف الذي تبنى عليه أواخر الأبيات أو الفقر ويجب تكراره في كل منها فإنه قد يكون منها ما لا يعرف منه العجز لعدم معرفته حرف الروي كقول البحتري
( أحلت دمي من غير جرم وحرمت ** بلا سبب يوم اللقاء كلامي )
( فليس الذي قد حللت بمحلل ** وليس الذي قد حرمت بحرام ) + الطويل +
فإنه لو لم يعرف أن القافية مثل سلام وكلام لربما توهم أن العجز بحرم وقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب
( وخرق تجاوزت مجهوله ** بوجناء حرف تشكى الكلالا )
( فكنت النهار به شمسه ** وكنت دجى الليل فيه الهلالا ) + المتقارب +
والقول فيه كالذي قبله
____________________
1- المنسرح
(2/237)
ومما اختير من شواهد هذا النوع قول الراعي
( وإن وزن الحصى فوزنت قومي ** وجدت حصى ضريبتهم وزينا ) (1)
وقد حكى أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي جلس إلى ابن عباس رضي الله عنهما فابتدأ ينشده
( تشط غدا دار جيراننا ** )
فقال ابن عباس رضي الله عنه
( وللدار بعد غد أبعد ** )
وكان كذلك ولم يسمع غير الشطر الأول
وكذلك يحكى عن عدي بن الرقاع أنه أنشد في صفة الظبية وولدها
( تزجي أغن كأن إبرة روقه ** ) + الكامل +
وغفل الممدوح عنه فسكت وكان جريرا حاضرا فقيل له ما تراه يقول فقال جرير
( قلم أصاب من الدواة مدادها ** )
وأقبل عليه الممدوح فقال كما قال جرير لم يغادر حرفا
ومنه قول الخنساء
( ببيض الصفاح وسمر الرماح ** فبالبيض ضربا وبالسمر وخزا ) + المتقارب +
وقول دعبل
( وإذا عاندنا ذو قوة ** غضب الروح عليه فعرج )
( فعلى أيماننا يجري الندى ** وعلى أسيافنا تجري المهج ) + الرمل +
ومن جيده قول بعضهم
( ولو أنني أعطيت من دهري المنى ** وما كل من يعطى المنى بمسدد )
____________________
1- الوافر
(2/238)
( لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ** وقلت لأيام أتين ألا ابعدي ) (1)
وما أحسن قول البحتري
( أبكيكما دمعا ولو أني على ** قدر الجوى أبكي بكيتكما دما ) + الكامل +
وحدث إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي قال كنت عند المأمون يوما وبحضرته عريب فقالت له على سبيل الولع يا سلعوس وكانت جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثا فقلت
( وقل لعريب لا تكوني مسلعسة ** وكوني كتعريف وكوني كمؤنسه ) (1)
فقال المأمون
( فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن ** هنالك شيء إن ذا منك وسوسة )
فقلت كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول وعجبت من ذهن المأمون وطبعه وفطنته
ولمؤلفه من أبيات
( ليس التقدم بالزمان مقدما ** أحدا ولا التأخير فيه يؤخر )
( فلكل عصر مستجد تبع ** ولكل وقت مقبل إسكندر ) + الكامل +
ومدح أبو الرجاء الأهوازي الصاحب ابن عباد لما ورد الأهواز بقصيدة منها
( إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب ** إسماعيل كافي الكفاة ) + السريع +
فاستحسن جمعه بين اسمه ولقبه وكنيته واسم أبيه في بيت واحد ثم ذكر وصوله إلى بغداد وملكه إياها فقال
( ويشرب الجند هنيئا بها ** )
فقال له ابن عباد أمسك أمسك أتريد أن تقول
( من بعد ماء الري ماء الفراة ** )
____________________
1- الطويل
(2/239)
فقال هكذا والله أردت وضحك
وعمرو بن معدي كرب هو أبو عبد الله وقيل أبو ربيعة بن عبد الله بن عمرو بن عاصم بن عمرو بن زبيد ينتهي نسبه لقحطان ويكنى أبا ثور وأمه وأم أخيه عبد الله امرأة من جرهم فيما ذكر وهي معدودة من المنجبات وعن أبي عبيدة قال عمرو بن معدي كرب فارس اليمن وهو مقدم على زيد الخيل في الشدة والبأس
وعن زيد بن قحيف الكلابي قال سمعت أشياخنا يزعمون أن عمرو بن معدي كرب كان يقال له مائق بني زبيد فبلغهم أن خثعم تريدهم فتأهبوا لهم وجمع معدي كرب بني زبيد فدخل عمرو على أخته فقال لها أشبعيني إني غدا آتي الكتيبة فجاء معدي كرب فأخبرته ابنته فقال هذا المائق يقول ذلك قالت نعم قال فسليه ما يشبعه فسألته فقال فرق من ذرة وعنز رباعية قال وكان الفرق يومئذ ثلاثة آصع فصنع له ذلك وذبح العنز وهيأ الطعام قال فجلس عمرو عليه فسلته جميعا وأتتهم خثعم الصباح فلقوهم وجاء عمرو فرمي بنفسه ثم رفع رأسه فإذا لواء أبيه قائم فوضع رأسه ثم رفعه فإذا هو قد زال فقام كأنه سرحه محرقة فتلقى أباه وقد انهزموا فقال له انزل عنها فقال إليك يا مائق فقال بنو زبيد خله أيها الرجل وما يريد فإن قتل كفيت مؤنته وإن ظهر فهو لك فألقى إليه سلاحه ثم ركب فرمى خثعم بنفسه حتى خرج من
____________________
(2/240)
بين أظهرهم ثم كر عليهم وفعل ذلك مرارا وحملت عليهم بنو زبيد فانهزمت خثعم وقهروا فقيل له يومئذ فارس بنو زبيد
وكان من خبر إسلام عمرو بن معدي كرب الزبيدي ما حكاه المدائني عن أبي اليقظان عن جويرية بن أسماء قال أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك يريد المدينة فأدرك عمرو بن معدي كرب الزبيدي في رجال من بني زبيد فتقدم عمرو ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك عنه حتى أودن به فلما تقدم ورسول الله يسير قال حياك إلهك أبيت اللعن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر فآمن بالله يؤمنك الله يوم الفزع الأكبر ) فقال عمرو ابن معدي كرب وما الفزع الأكبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنه فزع ليس كما تحسب وتظن إنه يصاح بالناس صيحة لا يبقى حي إلا مات إلا ما شاء الله تعالى من ذلك ثم يصاح بالناس صيحة لا يبقى ميت إلا نشر ثم تلج تلك الأرض بدوي تنهد منه الأرض وتخر منه الجبال وتنشق السماء انشقاق القبطية الجديدة ما شاء الله من ذلك ثم تبرز النار فينظر إليها حمراء مظلمة قد صار لها لسان في السماء ترمي بمثل رؤوس الجبال من شرر النار فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه أين أنت يا عمرو فقال إني أسمع أمرا عظيما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عمرو أسلم تسلم ) فأسلم وبايع لقومه على الإسلام وذلك منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وكانت في رجب سنة تسع
وعن أبي عبيدة قال لما ارتد عمرو ابن معدي كرب مع من ارتد عن الإسلام من مذحج استجاش فروة النبي صلى الله عليه وسلم فوجه إليهم خالد
____________________
(2/241)
ابن سعيد بن العاص وخالد بن الوليد وقال لهما إذا اجتمعتم فعلي بن أبي طالب أميركم وهو على الناس ووجه عليا رضي الله عنه فاجتمعوا بكسر من أرض اليمن فاقتتلوا وقتل بعضهم ونجا بعض فلم تزل جعفر وزبيد وأدد بنو سعد العشيرة بعدها قليلة يروى أنه لما بلغ عمرو ابن معدي كرب قرب مكانهم أقبل في جماعة من قومه فلما دنا منهم قال دعوني حتى آتي هؤلاء القوم فإني لم أسم لأحد قط إلا هابني فلما دنا منهم نادى أنا أبو ثور أنا عمرو ابن معدي كرب فابتدره علي وخالد وكلاهما يقول لصاحبه خلني وإياه ويفديه بأبيه وأمه فقال عمرو إذ سمع قولهما العرب تفزع مني وأراني لهؤلاء جزرا فانصرف عنهما ثم رجع إلى الإسلام وفي هذا الوجه وقعت الصمصامة إلى آل سعيد وكان سبب وقوعها إليهم أن ريحانة بنت معدي كرب وهي المعنية أول القصيدة سبيت يومئذ فأفداها خالد وأثابه عمرو الصمصامة فصار إلى أخيه سعيد فوجد سعيد جريحا يوم قتل عثمان رضي الله عنه حين حصر أي في الدار وقد ذهب السيف والغمد ثم وجد الغمد فلما قام معاوية جاءه أعرابي بالسيف بغير غمد وسعيد حاضر فقال سعيد هذا سيفي فجحد الأعرابي مقالته فقال سعيد الدليل على أنه سيفي أن تبعث إلى غمده فتغمده فيكون كفافه فبعث معاوية إلى الغمد فأتى به من منزل سعيد فإذا هو عليه فأقر الأعرابي أنه أصابه يوم الدار فأخذه سعيد منه وأثابه فلم يزل عندهم حتى أصعد المهدي من البصرة
____________________
(2/242)
فلما كان بواسط فأرسل إلى آل سعيد فيه فقالوا إنه للسبيل فقال خمسون سيفا قاطعا أغنى من سيف واحد فأعطاهم خمسين ألف درهم وأخذه
وعن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض لعمرو بن معدى كرب في الفىء ألفين فقال له يا أمير المؤمنين ألف ههنا وأوما إلى شق بظنه الأيمن وألف ههنا وأوما إلى شق بطنه الأيسر فما يكون ههنا وأوما إلى وسط بطنه فضحك عمر من كلام عمرو رضوان الله تعالى عليهما وزاده خمسمائة
وقال أبو اليقظان قال عمرو بن معدي كرب لو سرت بظعينة وحدى على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها مالم يلقني حراها وعبداها فأما الحران فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وأما العبدان فأسود بنى عبس يعني عنترة والسليك بن السلكة وكلهم لقيت فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت وأما عتيبة بن الحرث فأول الخيل إذا غارت وآخرها إذا آبت وأما عنترة فقليل النبوة شديد الكلب وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري
وعن قيس أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أني قد أمددتك بألفى رجل عمرو بن معدى كرب وطليحة بن خويلد وهو طليحة الأسدي فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئا
وعنه قال شهدت القادسية وكان سعد على الناس فجاء رستم فجعل يمر بنا وعمرو بن معدى كرب الزبيدي يمر على الصفوف ويحض الناس ويقول يا معشر المهاجرين كونوا أسدا أعنى عباسا فإنما الفارسي تيس بعد أن
____________________
(2/243)
يلقى يبرك قال وكان مع رستم أسوار لا تسقط له نشابة فقيل له يا أبا ثور اتق ذلك فانا لنقول له ذلك إذ رماه رمية فأصاب فرسه وحمل عليه عمرو فاعتنقه ثم ذبحه وسلبه سوارى ذهب كانا عليه وقباء ديباج قال غير قيس ورجع بسلبه وهو يقول
( أنا أبو ثور وسيفي ذو النون ** أضربهم ضرب غلام مجنون )
( يال زبيد إنهم يموتون ** ) (1)
وفي رواية عن أبي زيد أن عمرا شهد القادسية وهو ابن مائة وست سنين وقيل بل ابن مائة وعشر ولما قتل العلج عبر نهر القادسية هو وقيس ابن مكشوح المرادي ومالك بن الحارث الأشتر وكان عمرو آخرهم وكانت فرسه ضعيفة فطلب غيرها فأتى بفرس فأخذ بعكوة ذنبه وأخلد به إلى الأرض فأقعى الفرس فرده وأتى بآخر ففعل به مثل ذلك فتحلحل ولم يقع فقال هذا على كل حال أقوى من ذلك وقال لأصحابه إني حامل وعابر الجسر فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزور وجدتموني وسيعني بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عقرني القوم وأنا قائم بينهم وقد قتلت وجردت وإن أبطاتم وجدتموني قتيلا بينهم وقد قتلت وجردت ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم يابني زبيد على م تدعون صاحبكم والله ما نرى أن تدركوه حيا فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها وإن الفارس
____________________
1- الرجز
(2/244)
ليضرب الفرس فلا تقدر أن تتحرك من يده فلما غشينا رمى الأعجمي بنفسه وخلى فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم والله تفقدونني قالوا أين فرسك قال رمى بنشابة فشب فصرعني وعار
وعن أبان بن صالح قال قال عمرو بن معدي كرب يوم القادسية ألزموا خراطيم الفيلة السيوف فإنه ليس لها مقتل إلا خراطيمها ثم شد على رستم وهو على الفيل فضرب فيله فجذم عرقوبيه فسقط وحمل رستم على فرس وسقط من تحته خرج فيه أربعون ألف دينار فحازه المسلمون وسقط رستم بعد ذلك عن فرسه فقتله وانهزم المشركون وقيل إن الخرج سقط عليه فقتله
وعن الشعبي قال جاءت زيادة من عند عمر يوم القادسية فقال عمرو بن معدي كرب لطليحة أما ترى أن هذه الزعانف تزاد ولا نزاد انطلق بنا إلى هذا الرجل حتى نكلمه فقال هيهات والله لا ألقاه في هذا أبدا فلقد لقيني في بعض فجاج مكة فقال يا طليحة أقتلت عكاشة فتوعدني وعيدا ظننت أنه قاتلي ولا آمنه قال عمرو ولكنني ألقاه قال أنت وذاك فخرج إلى المدينة فقدم على عمر رضي الله عنه وهو يغدي الناس وقد جفن لعشرة
____________________
(2/245)
عشرة فأقعده عمر مع عشرة فأكلوا ونهضوا ولم يقم عمرو فأقعد معه تكملة عشرة حتى أكل مع ثلاثين ثم قام فقال يا أمير المؤمنين إنه كانت لى مآكل في الجاهلية منعنى منها الاسلام وقد صررت في بطني صرتين وتركت بينهما هواء فسده فقال عليك حجارة من حجارة الحرة فسده بها يا عمرو إنه بلغني أنك تقول إن لي سيفا يقال له الصمصامة وعندي سيف اسمه المصمم وإني إن وضعته بين أذنيك لم أرفعه حتى يخالط أضراسك
وحدث يونس وأبو الخطاب قالا لما كان يوم فتح القادسية أصاب المسلمون أسلحة وتيجانا ومناطق ورقابا فبلغت مالا عظيما فعزل سعد الخمس ثم فض البقية فأصاب الفارس ستة آلاف والراجل ألفان وبقى مال دثر فكتب إلى عمر رضي الله عنه بما فعل فكتب إليه أن رد على المسلمين الخمس وأعط من لحق بك ممن لم يشهد الوقعة ففعل فأجراهم مجرى من شهد وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه أن فض ما بقي على حملة القران فأتاه عمرو بن معد كرب فقال به سعد ما معك من كتاب الله فقال عمرو إني أسلمت باليمن ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن قال ما لك في هذا المال نصيب وأتاه بشر بن ربيعة الخثعمى وصاحب جباية بشر
____________________
(2/246)
فقال ما معك من كتاب الله قال بسم الله الرحمن الرحيم فضحك القوم ولم يعطه شيئا فقال عمرو في ذلك
( إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ** قالت قريش ألا تلك المقادير )
( نعطي السوية من طعن له نفذ ** ولا سوية إذ تعطى الدنانير ) (1)
وقال بشر بن ربيعة
( أنخت بياب القادسية ناقتي ** وسعد بن وقاص علي أمير )
( وسعد أمير شره دون خيره ** وخير أمير بالعراق جرير )
( وعند أمير المؤمنين نوافل ** وعند المثنى فضة وحرير )
( تذكر هداك الله وقع سيوفنا ** بباب قديس والمكر عسير )
( عشية ود القوم لو أن بعضهم ** يعار جناحي طائر فيطير )
( إذا ما فرغنا من قراع كتيبة ** دلفنا لأخرى كالجبال تسير )
( ترى القوم فيها واجمين كأنهم ** جمال بأجمال لهن زفير ) + الطويل +
فكتب سعد إلى عمر رضي الله عنه بما قال لهما وما ردا عليه وبالقصيدتين فكتب أن أعطهما على بلائهما فأعطى لكل واحد منهما ألفى درهم
وعن ابن قتيبة أن سعدا كتب إلى عمر رضي الله عنه يثنى على عمرو ابن معدي كرب فسأل عمر عمرا عن سعد فقال هو لنا كالأب أعرابي في نمرته أسد في تامورته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة فقال عمر رضي الله عنه لشد ما تقارضتما الثناء
____________________
1- البسيط
(2/247)
وجاء رجل وعمرو بن معدي كرب واقف بالكناسة على فرس له فقال لأنظرن ما بقي من قوة أبي ثور فأدخل يده بين ساقه وبين السرج ففطن عمرو فضمها عليه وحرك فرسه فجعل الرجل يعدو مع الفرس لا يقدر أن ينزع يده حتى إذا بلغ منه قال يا ابن أخي ما لك قال يدي تحت ساقك فخلى عنه وقال يا ابن أخي إن في عمك لبقيه بعد
وكان عمرو مع شجاعته ومواقفه مشهورا بالكذب فحدث المبرد قال كانت الأشراف بالكوفة يخرجون إلى ظهرها يتناشدون الأشعار ويتحدثون ويتذاكرون أيام الناس فوقف عمرو إلى جانب خالد بن الصقعب النهدي فأقبل عليه يحدثه ويقول أغرت على بنى نهد فخرجوا إلى مسترعفين بخالد بن الصقعب يقدمهم فطعنته طعنة فوقع وضربته بالصمصامة حتى فاضت نفسه فقال له الرجل يا أبا ثور إن مقتولك الذي تذكره هو الذي تحدثه فقال اللهم غفرا إنما أنت محدث فاستمع إنما نتحدث بمثل هذا وأشباهه لنرهب هذه المعدية
وقال محمد بن سلام أبت العرب إلا أن عمرا كان يكذب قال وقلت لخلف الأحمر وكان مولى للأشعريين وكان يتعصب لليمانية أكان عمرو يكذب قال كان يكذب باللسان ويصدق بالفعال
وعن زياد مولى سعد قال سمعت سعدا يقول وبلغه أن عمرو بن معدي كرب وقع في الخمر وأنه قد دله لقد كان له موطن صالح يوم القادسية عظيم الغناء شديد النكاية للعدو فقيل له فقيس بن مكشوح فقال هذا أبذل لنفسه من قيس وإن قيسا لشجاع
____________________
(2/248)
وعن أبي محمد المرهبي قال كان شيخ يجالس عبد الملك بن عمير فسمعته يحدث قال قدم عيينة بن حصن الكوفة فأقام بها أياما ثم قال والله ما لي بأبي ثور عهد منذ قدمنا هذا الغائط يعني بأبي ثور عمرو بن معدي كرب أسرج لي يا غلام فأسرج له فرسا أنثي من خيله فلما قربها إليه ليركبها قال له ويحك أرأيتني ركبت أنثي في الجاهلية فأركبها في الاسلام فأسرج لي حصانا فأسرجه فركبه وأقبل إلى محله بني زبيد فسأل عن محله عمرو بن معدي كرب فأرشد إليها فوقف ببابه ونادى أي أبا ثور أخرج إلينا فخرج عليه مؤتزرا كأنما كسر وجبر فقال أنعم صباحا ابا مالك قال أو ليس قد أبدلنا الله بهذا السلام عليكم قال دعنا مما لا نعرف أنزل فإن عندي كبشا شناحا فنزل فعمد إلى الكبش فذبحه ثم كشط جلده عنه وعضاه وألقاه في قدر جماع وطبخه حتى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها وألقى القدر عليها فقعدا فأكلاه ثم قال له أي الشراب أحب إليك أللبن أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية قال أو ليس قد حرمها الله عز وجل علينا في الإسلام قال أنت اكبر سنا أم أنا قال أنت قال أفانت أقدم إسلاما أم أنا قال أنت قال فاني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فوالله ما وجدت لها تحريما إلا أنه قال ! ( فهل أنتم منتهون ) ! فقلنا لا فسكت وسكتنا فقال له أنت أكبر سنا وأقدم إسلاما فجاء بها فجلسا يتنادمان ويشربان ويذكران أيام الجاهلية حتى أمسيا فلما أراد عيينة
____________________
(2/249)
الانصراف قال عمرو بن معدي كرب ولئن انصرف أبو مالك بغير حباء إنها لوصمة على فأمر بناقة له أرحبية كأنها جبيرة لجين فارتحلها وحمله عليها ثم قال يا غلام هات المزود فجاء بمزود فيه أربعة آلف درهم فوضعها بين يديه فقال أما المال فوالله لا قبلته قال فوالله إنه لمن حباء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يقبله عيينة وانصرف وهو يقول
( جزيت أبا ثور جزاء كرامه ** فنعم الفتى المزدار والمتضيف )
( قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ** خبية علم لم تكن قط تعرف )
( وقلت حلال أن ندير مدامة ** كلون انعقاق البرق والليل مسدف )
( وقدمت فيها حجة عربية ** ترد إلى الانصاف من ليس ينصف )
( وأنت لنا والله ذى العرش قدوة ** إذا صدنا عن شربها المتكلف )
( نقول أبو ثور أحل حرامها ** وقول أبي ثور أسد وأعرف ) (1)
وغزا عمرو بن معدى كرب هو وأبي المرادي فأصابوا غنائم فادعى أبي أنه قد كان مساندا فأبي عمرو أن يعطيه شيئا وبلغ عمرا أنه يتوعده فقال عمرو في ذلك قصيدة أولها
( أعاذل شكتي بدني ورمحي ** وكل مقلص سلس القياد )
( أعاذل إنما أفني شبابي ** وأقرح عاتقي ثقل النجاد )
____________________
1- الطويل
(2/250)
( تمناني ليلقاني أبي ** وددت وأينما منى ودادي )
( ولو لاقيتني ومعي سلاحى ** تكشف شحم قلبك عن سواد )
( أريد حياته ويريد قتلى ** عذيرك من خليلك من مراد ) (1)
وهذا البيت كان يتمثل به على بن أبي طالب رضي الله عنه إذا أعطى الناس ورأى ابن ملجم قاتله الله
وكان سبب موت عمرو بن معدي كرب ما حكاه ابن قتيبة وغيره قالوا كانت مغازي العرب إذ ذاك الرى ودمستى فخرج عمرو مع شباب من مذحج حتى نزل الخان الذي دون روذة فتعذى القوم ثم ناموا وقام كل رجل منهم لقضاء حاجته وكان عمرو إذا أراد الحاجة لم يجترىء أحد أن يدعوه وإن ابطأ فقام الناس للرحيل وترحلوا إلا من كان في الخان الذي فيه عمرو فلما أبطأ صحنا به يا أبا ثور فلم يجبنا وسمعنا علزا شديدا ومراسا في الموضع الذي دخله فقصدناه وإذا به محمرة عيناه مائلا شدقه مفلوجا فحملناه على فرس وأمرنا غلاما شديد الذراع فارتدفه ليعدل ميله فمات بروذة ودفن على قارعة الطريق فقالت امرأته الجعفية ترثية
( لقد غادر الركب الذين تحملوا ** بروذة شخصا لا ضعيفا ولا غمرا )
( فقل لزبيد بل لمذحج كلها ** فقدتم أبا ثور سنانكم عمرا )
( فإن تجزعوا لا يغن ذلك عنكم ** ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا ) + الطويل +
____________________
1- الوافر
(2/251)
119
( قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا )
البيت من الكامل وقائله أبو الرقعمق يروى أنه قال كان لي إخوان أربعة وكنت أنادمهم أيام الأستاذ كافور الأخشيدي فجاءني رسولهم في يوم بارد وليست لي كسوة تحصنني من البرد فقال إخوانك يقرأون عليك السلام ويقولون لك قد اصطبحنا اليوم وذبحنا شاة سمينة فاشته علينا ما نطبخ لك منها قال فكتبت إليهم
( إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ** فأتى رسولهم إلى خصوصا )
( قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا ) (1)
قال فذهب الرسول بالرقعة فما شعرت حتى عاد ومعه أربع خلع وأربع صرر في كل صرة عشرة دنانير فلبست إحدى الخلع وصرت إليهم
والشاهد فيه المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا وهي هنا قوله اطبخوا فأنه أراد خيطوا فذكر خياطة الجبة والقميص بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام
ومثل البيت قول ابن جابر الأندلسي
( قالوا اتخذ دهنا لقلبك يشفه ** قلت ادهنوه بخدها المتورد ) (1)
وذكرت باشتهاء أبي الرقعمق قول بعضهم
( قال لي عودي غداة أتوني ** ما الذي تشتهيه واجتهدوا بي )
( قلت مغلي فيه لسان وشاة ** قطعوه فيه بضع عجيب )
( وأضيفت إليه كبد حسود ** فقئت فوقها عيون الرقيب ) + الخفيف +
وقول الآخر
( عندي لكم يوم التواصل فرحة ** يا معشر الجلساء والندماء )
____________________
1- الكامل
(2/252)
( أشوى قلوب الحاسدين بها وألسنة الوشاة وأعين الرقباء ** ) (1)
ومن أمثلة المشاكلة قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا ) + الوافر +
أراد فنجازيه على جهله فجعل لفظه فنجهل موضع فنجازيه لأجل المشاكلة
ومثل الأول ما حكى عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه كان يشرب في متنزه وعنده ماني الموسوس فقال عبيد الله
( أرى غيما تؤلفه جنوب ** وأحسب أن ستأتينا بهطل )
( فحزم الرأي أن تأتي برطل ** فتشربه وتأتيني برطل ) + الوافر +
فقال ما هكذا قال الشاعر وإنما هو
( أرى غيما تؤلفه جنوب ** أراه على مساءتنا حريصا )
( فحرم الرأي أن تأتي برطل ** فتشربه وتكسوني قميصا )
وأبو الرقعمق هو أحمد بن محمد الأنطاكي الشاعر المشهور ذكره الثعالبي في اليتيمة فقال هو نادرة الزمان وجملة الاحسان ممن تصرف بالشعر الجزل في أنواح الجد والهزل وأحرز قصبات الفضل وهو أحد المداح المجيدين والشعراء المحسنين وهو بالشام كابن حجاج بالعرق ومدح ملوك مصر ووزراءها فمن غرر شعره قوله يمدح الوزير يعقوب بن كلس
____________________
1- الكامل
(2/253)
( قد سمعنا مقاله واعتذاره ** وأقلناه ذنبه وعثاره )
( والمعاني لمن عنيت ولكن ** بك عرضت فاسمعى يا جاره ) (1) منها
( سحرتني الحاظة وكذا كل مليح عيونه سحارة ** )
( ما على مؤثر التباعد والاعراض لو آثر الرضا والزياره ** )
وهي طويلة وأكثر شعره جيد على هذا الأسلوب مثل صريع الدلاء والقصار ومن شعره على طريق ابن حجاج قوله
( كتب الحصير إلى السرير ** أن الفصيل ابن البعير )
( فلأمنعن حمارتي ** سنتين من أكل الشعير )
( لاهم إلا أن تطير ** من الهزال مع الطيور )
( ولأخبرنك قصتى ** فلقد سقطت على الخبير )
( إن الذين تصافعوا ** بالقرع في زمن القشور )
( أسفوا علي لأنهم ** حضروا ولم أك في الحضور )
( لو كنت ثم لقيل هل ** من آخذ بيد الضرير )
( ولقد دخلت على الصديق البيت في اليوم المطير ** )
( متشمرا متبخترا ** للصفع بالدلو الكبير )
( فأدرت حين تبادروا ** دلوى فكان على المدير )
( يا للرجال تصافعوا ** فالصفع مفتاح السرور )
____________________
1- الخفيف
(2/254)
( هو في المجالس كالبخور ** وكالقلائد في النحور ) (1)
وله قصيدة طويلة مشهورة أولها
( وقوققى وقوققي ** هدية في طبق )
( أما ترون بينكم ** تيسا طويل العنق ) + من مجزوء الرجز +
وكانت وفاته سنة تسع وتسعين وثلثمائة
120 ( إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ** أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر )
البيت للبحتري من قصيدة من الطويل في الفتح بن خاقان أولها
( متى لاح برق أو بدا طلل قفر ** جرى مستهل لا بطىء ولا نزر )
( وما الشوق إلا لوعة بعد لوعة ** وغزر من الآماق تتبعها غزر )
( فلا تذكرا عهد التصابي فإنه ** تقضي ولم يشعر به ذلك العصر )
إلى أن يقول فيها
( هل العيش إلا أن تساعفنا النوى ** بوصل سعاد أو يساعدنا الدهر )
إلى أن يقول فيها
____________________
1- من مجزوء الكامل
(2/255)
( على أنها ما عندها لمواصل ** وصال ولا عنها لمصطبر صبر )
وبعده البيت وهي طويلة يقول منها في المخلص
( لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدا ** إذا بقى الفتح بن خاقان والقطر ) (1)
ومعنى أصاخت استمعت والواشي النمام الذي يشي حديثه ويزينه والشاهد فيه المزاوجة وهي أن يزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء فهنا زواج بين نهى الناهى وإصاختها إلى الواشي الواقعين في الشرط والجزاء في أن يترتب عليهما لجاج شيء
ومثله قوله أيضا
( إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ** تذكرت القربى ففاضت دموعها ) (1)
فزاوج بين الاحتراب وتذكر القربى الواقعين في الشرط والجزاء في ترتب فيضان شيء عليهما
ومن المزاوجة قول أبي تمام
( وكنا جمعيا شريكي عنان ** رضيعي لبان خليلي صفاء ) + المتقارب +
وفي معنى صدر البيت قول أبي نواس
( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ** وداوني بالتي كانت هي الداء ) + البسيط +
وقول ابن زريق البغدادي
( لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه ) + البسيط +
وقول ابن شرف القيرواني
( قل للعذول لو اطلعت على الذي ** عاينته لعناك ما يعنيني )
____________________
1- الطويل
(2/256)
( أتصدني أم للغرام تردني ** وتلومنى في الحب أم تغريني )
( دعني فلست معاقبا بجنايتي ** إذ ليس دينك لي ولا لك ديني ) (1)
وقول الصابي
( أيها اللائم والمضيق صدري ** لا تلمني فكثرة اللوم تغرى )
( قد أقام القوام حجة عشقى ** وأبان العذار في الحب عذري ) + الخفيف +
12( قف بالديار التي لم يعفها القدم ** بلى وغيرها الأرواح والديم )
البيت من البسيط وهو أول قصيدة لزهير بن أبي سلمى يمدح بها هرم بن سنان وبعده
( لا الدار غيرها بعد الأنيس ولا ** بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم )
( دار لأسماء بالغمرين ماثلة ** كالوحى لي لها من أهلها أرم )
يقول منها في مدحه
( إن البخيل ملوم حيث كان ولكن ** الجواد على علاته هرم )
____________________
1- الكامل
(2/257)
( هو الجواد الذي يعطيك نائلة ** عفوا ويظلم أحيانا فيظلم )
( فإن أتاه خليل يوم مسألة ** يقول لا غائب مالي ولا حرم ) (1)
وهي طويلة
والأرواح جمع ريح ويجمع على أرياح أيضا ورياح وريح بكسر الراء وفتح الياء والديم جمع ديمة وهي المطر الدائم في سكون
والشاهد في البيت الرجوع وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض والابطال لنكتة فهنا دل صدر البيت على أن تطاول الزمان وتقادم العهد لم يعف الديار ثم عاد إليه ونقضه في عجز البيت بأنه قد غيرتها الرياح والأمطار لنكتة وهي هنا إظهار الكآبة والحزن والحيرة والدهش كأنه أخبر أولا بما لم يتحقق ثم رجع إليه عقله وأفاق بعض الافاقة فنقض كلامه السابق
ومثله قول الشاعر
( فأف لهذا الدهر لا بل لأهله ** ) + الطويل +
وقول ابن الطثرية
( أليس قليلا نظرة إن نظرتها ** إليك وكلا ليس منك منك قليل ) + الطويل +
وقول أبي البيداء
____________________
1- البسيط
(2/258)
( ووالي أنتصار إن غدا الدهر جائرا ** على بلى إن كان من عندك النصر ) (1)
وقول المتنبي
( لجنيه أم غادة رفع السجف ** لوحشية لاما لوحشية شنف ) (1)
وما أحسن قول أبي بكر الخوارزمي في شمس المعالي قابوس بن وشكمير صاحب جرجان
( لم يبق في الأرض من شيء أهاب له ** فلم أهاب انكسار الجفن ذي السقم )
( أستغفر الله من قولي غلطت بلى ** أهاب شمس المعالي أمة الأمم ) + البسيط +
وله فيه أيضا
( إذا ما ظمئت إلى ريقه ** جعلت المدامة منه بديلا )
( وأين المدامة من ريقه ** ولكن أعلل قلبا عليلا ) + المتقارب +
وبديع قول السرواندي
( كالبدر بل كالشمس بل ككليهما ** كالليث بل كالغيث هطال الديم ) + الكامل +
وما ألطف قول ابن سناء الملك
( وملية بالحسن يسخر وجهها ** بالبدر يهزأ ريقها بالقرقف )
( لا ارتضي بالشمس تشبيها لها ** والبدر بل لا أكتفي بالمكتفى ) + الكامل +
وهو من قول ابن المعتز
( والله لا كلمتها لو أنها ** كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفى ) + الكامل +
____________________
1- الطويل
(2/259)
122
( إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا )
نسب غالب شارخي التلخيص هذا البيت لجرير وهو من قصيدة من الوافر أولها
( أقلى اللوم عاذل والعتابا ** وقولي إن أصبت لقد أصابا )
( أجدك ما تذكر عهد نجد ** وحيا طالما انتظروا الإيابا )
( بلى فارفض دمعك غير نزر ** كما عينت بالسرب الطبابا )
( وهاج البرق ليلة أذرعات ** هوى ما تستطيع له طلابا ) (1)
وهي طويلة والسماء الغيث
ونسبة المفضل في اختياراته لمعاوية بن مالك بن جعفر معود الحكماء وساقه في قصيدة طويلة أولها
( أجد القلب من سلمى اجتنابا ** وأقصر بعد ما شابت وشابا )
____________________
1- الوافر
(2/260)
( وشاب لداته وعدلن عنه ** كما أنضيت من لبس ثيابا )
( فإن يك نبلها طاشت ونبلي ** فقد نرمي بها حقبا صيابا )
( فتصطاد الرجال إذا رمتهم ** وأصطاد المخبأة الكعابا )
منها
( وكنت إذا العظيمة أفزعتهم ** نهضت ولا أدب لها دبابا )
( بحمد الله ثم عطاء قوم ** يفكون الغنائم والرقابا )
( إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا )
( بكل مقلص عبل شواه ** إذا وضعت أعنتهن ثابا ) (1)
ويدل على أن هذا البيت من هذه القصيدة أنه لم يوجد في قصيدة جرير على اختلاف رواة ديوانه
والشاهد فيه الاستخدام وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم يراد بضميره الآخر أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ثم يراد بالآخر الآخر فالأول كما في البيت هنا فإنه أراد بالسماء الغيث وبالضمير الراجع إليه من رعيناه النبت
____________________
1- الوافر
(2/261)
وجرير هو ابن عطية بن الخطفي وهو لقبه واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرة ينتهي نسبه لنزار ويكنى أبا حزرة بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة وهي المرة الواحدة من الحزر
هو والفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا ومختلف في أيهم المقدم ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح وسقط
وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى والفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة
وقد حكم مروان بن أبي حفصة بين الثلاثة بقوله
( ذهب الفرزدق بالفخار وإنما ** خلو الكلام ومره لجرير )
( ولقد هجا فأمض أخطل تغلب ** وحوى اللهى بمديحه المشهور )
( كل الثلاثة قد أبر بمدحه بمدحه ** وهجاؤه قد سار كل مسير ) (1)
فهو كما تراه حكم للفرزدق بالفخار والأخطل بالمدح والهجاء وبجميع فنون الشعر لجرير
وقال أبو العلاء بن جرير العنبري وكان شيخا قد جالس الناس إذا لم يجيء الأخطل سابقا فهر سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا
وحدث مولى لبني هاشم قال امترى أهل المجلس في جرير والفرزدق أيهما
____________________
1- الكامل
(2/262)
أشعر فدخلت على الفرزدق فما سألني عن شيء حتى نادى يا نوار أدركت برنيتك يا نوار قالت قد فعلت أو كادت قال فابعثي بدرهم فاشتري لحما ففعلت وجعلت تشرحه وتلقيه على النار ويأكل ثم قال هات برنيتك فشرب قدحا ثم ناولني وشرب آخر ثم ناولني ثم قال هات حاجتك يا ابن أخي فأخبرته فقال أعن ابن الخطفي تسألني ثم تنفس حتى انشقت حيازيمه ثم قال قاتله الله فما أحسن ناجيته وأشرد قافيته والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها والشابة على أحبابها ولكنهم هروه فوجدوه عند الهراش نابحا وعند الجد قادحا ولقد قال بيتا لان أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وهو
( إذا غضبت عليك بنو تميم ** لقيت القوم كلهم غضابا ) (1)
وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته فجاء الأحوص فقال أين هذا فقلنا قام آنفا ما تريد منه قال أخزيه والله إن الفرزدق لأشعر منه وأشرف فأقبل جرير علينا وقال من الرجل قلنا الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت ابن أبي الأفلح قال هذا الخبيث بن الطيب ثم أقبل عليه فقال قد قلت
( يقر بعيني ما يقر بعينها ** وأحسن شيء ما به العين قرت ) + الطويل +
فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقر ذلك بعينك قال وكان الأحوص يرمى بالأبنة فانصرف وأرسل إليه بتمر وفاكهة
____________________
1- الوافر
(2/263)
وكان راعي الإبل الشاعر يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من أشعر الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال هل تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي وهو يهجو قومه وأنا امدحهم قال جرير فضربت رأيي فيه ثم خرج جرير ذات يوم يمشي ولم يركب دابة وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بالمربد بالبصرة يجلسون فيها قال فخرجت أتعرض إليه لعلي ألقاه على حياله حيث كنت أراه يمر إذا انصرف من مجلسه وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض النسيب فلما استقبلته قلت مرحبا بك يا أبا جندل وضربت بشمالي على معرفة بغلته ثم قلت له يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل الفرزدق علي تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي دونك ويكفيك عن ذلك إذ ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة قال فبينا أنا معه وهو كذلك واقفا علي وما رد علي بذلك شيئا حتى لحق ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال لا أراك واقفا على كلب من كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا وضرب البغلة ضربة فرمحتني رمحة وقعت منها قلنسوتي فوالله ما عرج على الراعي فيقول سفيه عوى يعني جندلا ابنه ولكن لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على رأسي ثم قلت
( أجندل ما تقول بنو نمير ** إذا ما الأير في أست أبيك غابا ) (1)
____________________
1- الوافر
(2/264)
فسمعت الراعي قال لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة قال جرير ولا والله ما القلنسوة بأغيظ أمره لي لو كان عاج علي فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء ومنزله في علية له قال ارفعوا لي باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ قال فجعل يهينم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة فنظرت إليه فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك فنحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا يهجو بني نمير فلما ختمها بقوله
( فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
كبر ثم قال أخزيته ورب الكعبة ثم أصبح حتى علم أن الناس قد أخذوا مجالسهم بالمربد وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان موقع السلام قال يا غلام ولم يسلم قل لعبيد بعثتك نسوتك تكسبهن المال بالعراق أما والذي نفسي بيده لترجعن إليهن بميرة تسوءهن ولا تسرهن ثم اندفع فيها فأنشدها فنكس الفرزدق وراعي الإبل وأزم القوم حتى إذا فرغ منها وسار وثب راعي الإبل ساعتئذ فركب بغلته وبشر وعر وخلا المجلس حتى أوفى إلى المنزل الذي ينزله ثم قال لأصحابه ركابكم ركابكم فليس لكم هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعض القوم ذاك شؤمك وشؤم ابنك قال فما كان إلا ترحلهم فساروا إلى أهلهم سيرا ما ساره أحد وهم بالشريف وهو أعلى دار بني نمير فيحلف بالله راعي الإبل إنا وجدنا في أهلنا
____________________
(2/265)
( فغض الطرف أنك من نمير ** )
وأقسم بالله ما بلغه إنسي قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وابنه فهم يتشاءمون به إلى الآن
وحدث أبو عبيدة قال التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير
( فإنك لاق بالمنازل من منى ** فخارا فخبرني بمن أنت فاخر ) (1)
قال له جرير لبيك اللهم لبيك قال فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويتعجبون منه
وعن العتبى قال قال جرير ما عشقت قط ولو عشقت لنسبت نسيبا فتسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها وإني لأروي من الرجز أمثال آثار الخيل في الثرى ولولا أني أخاف أن يستفزغني لأكثرت منه
وعن أبي عبيدة قال رأت أم جرير وهي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود فلما خرج منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيقتله وفي عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثيرين فانتبهت فزعة فأولت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما أسود شاعرا ذا شدة وشر وشكيمة وبلاء على الناس فلما ولدته سمته جريرا باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها قال والجرير الحبل
وحدث بلال بن جرير أن رجلا قال لجرير من اشعر الناس قال قم حتى أعرفك الجواب فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها فصاح به اخرج يا أبت فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال أترى هذا قال نعم قال أو تعرفه قال لا قال هذا أبي أفتدري لم كان يشرب لبن العنز قلت لا قال مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن ثم قال أشعر الناس
____________________
1- الطويل
(2/266)
من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به فغلبهم جميعا
وحدث المدائني قال كان جرير من أعق الناس بأبيه وكان ابنه بلال أعق الناس به فراجع جرير بلالا الكلام فقال له بلال الكاذب مني ومنك ناك أمه فأقبلت أمه عليه فقالت له يا عدو الله أتقول هذا لأبيك فقال جرير دعيه فوالله لكأني أسمعها وأنا أقولها لأبي
ونظير ذلك ما حكى عن يونس بن عبد الله الخياط أنه مر به رجل وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقا به فقال له ويحك أتفعل هذا بأبيك وخلصه من يده ثم أقبل على الأب يعزيه ويسكنه فقال له الأب أخي لا تلمه واعلم أنه ابني حقا والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه فانصرف الرجل وهو يضحك ولأبيه يقول
( ما زال بي ما زال بي ** طعن أبي في النسب )
( حتى تربيت وحتى ** ساء ظني بأبى ) (1)
ونشأ ليونس ولد يقال له دحيم فكان أعق الناس به فقال يونس فيه
( جلا دحيم عماية الريب ** والشك مني والظن في نسبي )
( ما زال بي الطن والتشكك حتى عقتي مثل ما عققت أبي ** ) + المنسرح +
وقال يونس بن عبد الله الخياط جئت يوما إلى أبي وهو جالس وعنده أصحاب له فوقفت عليهم لأغيظه وقلت ألا أنشدكم شعرا قلته بالأمس قالوا بلى فأنشدتهم
( يا سائلي من أنا أو من يناسبني ** أنا الذي لا له أصل ولا نسب )
( الكلب يختال فخرا حين يبصرني ** والكلب أكرم مني حين ينتسب )
( لو قال لي الناس طرا أنت الأمنا ** ما وهم الناس في ذاكم ولا كذبوا ) + البسيط +
____________________
1- الرجز
(2/267)
قال فوثب إلى أبي ليضربني وعدوت من بين يديه فجعل يشتمني وأصحابه يضحكون
رجع إلى بقية أخبار جرير
حدث أبو العراف قال قال الحجاج لجرير والفرزدق وهو في قصره بجرين البصرة ائتياني بلباس أبيكما في الجاهلية فلبس الفرزدق الديباج والخز وقعد في قبة وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا له ما لباس آبائنا إلا الحديد فلبس جرير درعا وتقلد سيفا وأخذ رمحا وركب فرسا لعباد بن الحصين يقال له المنحاز وأقبل في أربعين فارسا من بني يربوع وجاء الفرزدق في هيبته فقال جرير
( لبست سلاحي والفرزدق لعبة ** عليه وشاحا كرج وجلاجله )
( أعد مع الحلي الملاب فإنما ** جرير لكم بعل وانتم حلائله ) (1)
ثم رجعا فوقف جرير في مقبرة بني حصن ووقف الفرزدق في المربد ونعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد الله وجرير عنده فقال
( مات الفرزدق بعدما جدعنه ** ليت الفرزدق كان عاش قليلا ) + الكامل +
فقال له المهاجر بئس لعمر الله ما قلت في ابن عمك أتهجو ميتا أما والله لو رثيته لكنت اكرم العرب وأشعرها فقال إن رأى الأمير أن يكتمها علي فإنها سوءة ثم قال من وقته البيتين السابقين في ترجمة الفرزدق في شواهد نجمنا واحدا وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقلما مات ضد أو صديق إلا تبعه صاحبه فكان كذلك مات بعد سنة
____________________
1- الطويل
(2/268)
قال ابن الجوزي مات سنة إحدى عشرة ومائة وكانت وفاته باليمامة وعمر نيفا وثمانين سنة وقال ابن قتيبة في المعارف إن أمه حملت به سبعة أشهر
123
( فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ** شبوه بين جوانح وقلوب )
البيت للبحتري وهكذا هو في ديوانه وإن كان في كثير من نسخ التلخيص بل وفي كثير من كتب هذا الفن بلفظ بين جوانحي وضلوعي وهو من قصيدة من الكامل أولها
( كم بالكثيب من اعتراض كثيب ** وقوام غصن في الثياب رطيب )
( تأبى المنازل أن تجيب ومن جوى ** يوم الديار دعوت غير مجيب ) (1)
وبعده البيت وهي طويلة
والغضا شجر معروف واحدته غضاة وأرض غضيانة كثيرته
والشاهد فيه الاستخدام أيضا فإنه أراد بأحد الضميرين الراجعين إلى الغضا وهو المجرور في الساكنية المكان وهو ارض لبني كلاب وواد بنجد وبالآخر وهو المنصوب في شبوه النار أي أوقدوا في جوانحي نار الغضا يعني نار الهوى التي تشبه نار الغضا وخص الغضا دون غيره لان جمره بطيء الانطفاء
وقد استخدم كثير من الشعراء لفظة الغضا فقال ابن أبي حصينة
____________________
1- الكامل
(2/269)
( أما والذي حج الملبون بيته ** فمن ساجد لله فيه وراكع )
( لقد جرعتني كأس بين مريرة ** من البعد سلمى بين تلك الأجارع )
( وحلت بأكناف الغضا فكأنما ** حشت ناره بين الحشى والأضالع ) (1)
وقال ابن جابر الأندلسي
( إن الغضا لست أنسى أهله فهم ** شبوه بين ضلوعي يوم بينهم )
( جرى العقيق بقلبي بعدما رحلوا ** ولو جرى من دموع العين لم ألم ) + البسيط +
وقال ابن قلاقس الاسكندري
( حلت مطاياهم بملتف الغضا ** فكأنما شبوه في الأكباد ) + الكامل +
وبديع قول البدر بن لؤلؤ الذهبي
( أحمامة الوادي بشرقي الغضا ** إن كنت مسعدة الكئيب فرجعي )
( ولقد تقاسمنا الغضا فغصونه ** في راحتيك وجمره في أضلعي ) + الكامل +
ولمؤلفة من قصيدة
( وحقك أني للرياح لحاسد ** ففي كل حين بالأحبة تخطر )
( تمر الصبا عفوا على ساكني الغضا ** وفي أضلعي نيرانه تتسعر )
( فتذكرني عهد العقيق وأدمعي ** تساقطه والشيء بالشيء يذكر )
( ويورث عيني السفح حتى ترى به ** معالم بالأحباب تزهو وتزهر ) (1)
ومن الاستخدام البديع قول المعرى يرثي فقيها حنفيا
( وفقيه ألفاظه شدن للنعمان ما لم يشده شعر زياد ** ) + الخفيف +
وقوله أيضا يصف درعا
( نثرة من ضمانها للقنا الخطى عند اللقاء نثر الكعوب ** )
( مثل وشيء الوليد لانت إن كانت من الصنع مثل وشي حبيب ** )
____________________
1- الطويل
(2/270)
( تلك ماذية وما لذباب السيف والصيف عندها من نصيب ** ) (1)
فاستخدم لفظ الذباب في معنييه الأول طرف السيف والثاني الطائر المعروف
ولابن جابر الأندلسي فيه
( في القلب من حبكم بدر أقام به ** فالطرف يزداد نورا حين يبصره )
( تشابه العقد حسنا فوق لبته ** والثغر منه إذا ما لاح جوهره ) + البسيط +
ومن ظريف الاستخدام قول السراج الوراق
( دع الهوينى وانتصب واكتسب ** واكدح فنفس المرء كداحه )
( وكن عن الراحة في معزل ** فالصفع موجود مع الراحة ) + السريع +
استخدم الراحة في معنييها الأول من الاستراحة والثاني من اليد
وبديع قول الصفى الحلى
( لئن لم أبرقع بالحيا وجه عفتي ** فلا أشبهته راحتي في التكرم )
( ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ** إذا أنا لم أغضضه عن رأى محرم ) + الطويل +
ومن الاستخدامات البديعة قول ابن نباته المصري يمدح النبي صلى الله عليه وسلم
( إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ** منازله بالقرب تبهى وتبهر )
( وإن لم تواصل عادة السفح مقلتي ** فلا عادها عيش بمغناه أخضر ) + الطويل +
ومنها
( سقى الله أكناف الغضا سائل الحيا ** وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر )
____________________
1- الخفيف
(2/271)
( وعيشا نضى عنه الزمان بياضه ** وخلفه في الرأس يزهر ويزهر )
( تغير ذاك اللون مع من أحبه ** ومن ذا الذي يا عز لا يتغير )
( وكان الصبا ليلا وكنت كحالم ** فيا أسفى والشيب كالصبح يسفر )
( يعللنى تحت العمامة كتمه ** فيعتاد قلبي جسرة حين أحسر )
( وتنكرني ليلى وما خلت أنه ** إذا وضع المرء العمامة ينكر )
ومن الاستخدام أيضا قول العلامة عمر بن الوردي رحمة الله تعالى
( ورب غزالة طلعت ** بقلبي وهو مرعاها )
( نصبت لها شباكا من ** لجين ثم صدناها )
( وقالت لي وقد صرنا ** إلى عين قصدناها )
( بذلت العين فاكحلها ** بطلعتها ومجراها ) (1)
ومنه قول ابن مليك رحمة الله تعالى
( فكم رد من عين وجاد بمثلها ** ولولاه ما ضاءت ولم تك تعذب ) + الطويل +
____________________
1- من مجزوء الوافر
(2/272)
وقوله من قصيدة أخرى نبوية
( كم رد من عين وجاد بهاوكم ** ضاءت به وسقى بها من صادى ) (1)
ومنه قول الرشيد الفارقي
( إن في عينيك معنى ** حدث النرجس عنه )
( ليت لي من غصنه سهما ففي قلبي منه ** ) + من مجزوء الرمل +
وقد أخذه الشهاب محمود ولم يحسن الأخذ فقال
( نازعت عيناه قلبي حبة ** لم تكن تقبل قبل الإنقساما )
( يالقومي هل علمتم قبلها ** أن للأعين في القلب سهاما ) + الرمل +
124 ( كيف أسلو وأنت حقف وغصن ** وغزال لحظا وقدا وردفا )
البيت من الخفيف وهو منسوب لابن حيوس ولم أره في ديوانه ولعله ابن حيوس الإشبيلي
والحقف بكسر الحاء الرمل العظيم المستدير
والشاهد فيه اللف والنشر وهو ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من آحاد المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يرد ما لكل من آحاد المتعدد إلى ما هو له ثم الذي على سبيل التفصيل ضربان لأن النشر إما على ترتيب اللف وإما على غير ترتيبه كما في البيت هنا وهو ظاهر
ومما جاء على الترتيب قول ابن الرومي
____________________
1- الكامل
(2/273)
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ** في الحادثات إذا دجون نجوم )
( فيها معالم للهدى ومصابح ** تجلو الدجى والأخريات رجوم )
وقول بعضهم
( ألست أنت الذي من ورد نعمته ** وورد راحته أجنى وأغترف ) (1)
وما أبدع قول ابن شرف القيرواني
( جاور عليا ولا تحفل بحادثة ** إذا ادرعيت فلا تسأل عن الأسل )
( سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ** ملء المسامع والأفواه والمقل ) (1)
( وقد أخذه تاج الدين الذهبي فقال
( بدر سما للمجتلي ثمر نما ** للمجتني بحر طما للمجتدي )
( سل عنه وادن إليه واستمسك تجد ** ملء المسامع والنواظر واليد ) + الكامل +
وما أزهر قول البهاء زهير
( ولى فيه قلب بالغرام مقيد ** له خبر يرويه طرفي مطلقا )
( ومن فرط وجدى في لماه وثغره ** أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا ) + الطويل +
وما أحلى قول ابن نباته المصري مع زيادة التورية
( لا تخف عيلة ولا تخش فقرا ** يا كثير المحاسن المختاله )
( لك عين وقامة في البرايا ** تلك غزالة وذى عساله ) + الخفيف +
وقوله أيضا
( سألته عن قومه فانثني ** يعجب من إسراف دمعي السخى )
( وأبصر المسك وبدر الدجى ** فقال ذا خالى وهذا أخى ) + السريع +
وبديع قول ابن مكنسة
( والسكر في وجنته وطرفه ** يفتح وردا ويغض نرجسا ) + الرجز +
____________________
1- البسيط
(2/274)
وقد جاء اللف والنشر بين ثلاثة فأكثر فمنه قول ابن حيوس
( ومقرطق يغنى النديم بوجهه ** عن كأسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ** من مقلتيه ووجنتيه وريقه ) (1)
وقول حمدة الأندلسية
( ولما أبى الوشوان إلا فراقنا ** وما لهم عندي وعندك من ثار )
( وشنوا على أسماعنا كل غارة ** وقل حماتي عند ذاك وأنصاري )
( غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ** ومن نفسي بالسيف والسيل والنار ) + الطويل +
وقول ابن نباته وأجاد إلى الغاية
( عرج على حرم المحبوب منتصبا ** لقبلة الحسن واعذرني على السهر )
( وانظر إلى الخال فوق الثغر دون لمى ** تجد بلالا يراعي الصبح في السحر ) + البسيط +
وبديع قول بعضهم
( ورد ومسك ودر ** خد وخال وثغر )
( الحظ وجفن وغنج ** سيف ونبل وسحر )
( غصن وبدر وليل ** قد ووجه وشعر ) + المجتث +
ومنه بين أربعة وأربعة قول الشاعر
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ** كالطلع والورد والرمان والبلح ) + البسيط +
ومثله قول الشاب الظريف محمد بن العفيف
( رأى جسدي والدمع والقلب والحشى ** فأضنى وأفنى واستمال وتيما ) + الطويل +
____________________
1- الكامل
(2/275)
ولأبي جعفر الأندلسي الغرناطي بين خمسة وخمسة
( ملك يجيء بخمسة من خمسة ** لقي الحسود بها فمات لما به )
( من وجهه ووقاره وجواده ** وحسامه بيديه يوم ضرابه )
( قمر على رضوى تسير به الصبا ** والبرق يلمع من خلال سحابه ) (1)
ولابن جابر الأندلسي بين ستة وستة
( إن شئت ظبيا أو هلالا أو دجى ** أو زهر غصن في الكثيب الأملد )
( فللحظها ولوجهها ولشعرها ** ولخدها والقد والردف اقصد ) (1)
ولنجم الدين البارزي بين سبعة وسبعة
( يقطع بالسكين بطيخة ضحى ** على طبق في مجلس لأصاحبه )
( كبدر ببرق قد شمسا أهلة ** لدى هالة في الأفق بين كواكبه ) + الطويل +
وسبقه إلى ذلك ابن قلاقس فقال
( أتانا الغلام ببطيخة ** وسكينة أحكموها صقالا )
( فقسم بالبرق شمس الضحى ** وأعطى لكل هلال هلالا ) + المتقارب +
ومثله قول محاسن الشواء وأجاد
( وغلام يحز بطيخة في اللون مثلي وفي المذاقة مثله ** )
( لأناس غر على طبق في ** مجلس مشرق يشابه أهله )
( قد بدر شمسا بأفق شهدت الليل في هالة ببرق أهله ** ) + الخفيف +
وقول الآخر
____________________
1- الكامل
(2/276)
( ولما بدا ما بيننا منية النفس ** يحزز بالسكين صفراء كالورس )
( توهمت بدر التم قد أهلة ** على أنجم بالبرق من كرة الشمس ) (1)
وقول الآخر
( خلناه لما حزز البطيخ في ** أطباقه بصقيلة الصفحات )
( بدرا يقد من الشموس أهلة ** بالبرق بين الشهب في الهالات ) + الكامل +
وقول البديع الدمشقي في غلام يقطع بطيخا بسكين نصابها اسود
( انظر بعينك جوهرا متلألئا ** سحرا لفرط بيانه وجماله )
( قمر يقد من الشموس أهلة ** بظلام هجرته وفجر وصاله ) + الكامل +
والسابق إلى فتح هذا الباب العسكري حيث يقول
( وجامعة لأصناف المعاني ** صلحن لوقت إكثار وقله )
( فمن أدم وريحان ونقل ** فلم ير مثلها سدا لخلة )
( فمنها ما تشبهه بدورا ** فإن قطعتها رجعت أهله ) + الوافر +
ولابن مقاتل بين ثمانية وثمانية
( خدود وأصداغ وقد ومقلة ** وثغر وأرياق ولحن ومعرب )
( ورود وسوسان وبان ونرجس ** وكأس وجريال وجنك ومطرب ) (1)
وللصفي الحلي
( وظبي بقفر فوق طرف مفوق ** بقوس رمى النقع وحشا بأسهم )
( كبدر بأفق فوق برق بكفه ** هلال رمى في الليل جنا بأنجم ) (1)
ولبعضهم بين عشرة وعشرة
( شعر جبين محيا معطف كفل ** صدغ فم وجنات ناظر ثغر )
____________________
1- الطويل
(2/277)
( ليل صباح هلال بانة ونقا ** آس أقاح شقيق نرجس در ) (1)
ولابن جابر بين اثني عشر واثني عشر
( فروع سنا قد كلام فم لمى ** حلى عنق ثغر شذا مقلة خد )
( دجى قمر غصن جنى خاتم طلا ** نجوم رشا در صبا نرجس ورد ) + الطويل +
وجل القصد هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو وعقادة التركيب جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة
وابن حيوس بحاء مهملة وياء تحتية مشددة مضمومة وواو ساكنة بعدها سين مهملة هو أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس الملقب بمصطفى الدولة الشاعر المشهور وهو أحد الشعراء الشاميين المحسنين وفحولهم المجيدين وله ديوان شعر كبير لقى جماعة من الملوك والأكابر ومدحهم وأخذ جوائزهم وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب وله فيهم القصائد الفائقة وقصته مع الأمير جلال الدولة وصمصامها نصر بن محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس مشهورة فإنه كان قد مدح أباه محمودا فأجازه ألف دينار فلما مات وقام مقامه ولده نصر المذكور قصده ابن حيوس المذكور بقصيدة رائية يمدحه بها ويعزيه عن أبيه أولها
( كفى الدين عزا ما قضاه لك الدهر ** فمن كان ذا نذر فقد وجب النذر ) + الطويل +
____________________
1- البسيط
(2/278)
منها
( صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ** على أنه لولاك لم يكن الصبر )
( غزانا ببؤسي لا يماثلها الأسى ** تقارن نعمي لا يقوم بها الشكر )
( تباعدت عنكم حرفة لا زهادة ** وسرت إليكم حين مسني الضر )
( فلاقيت ظل الأمن ما عنه حاجز ** يصد وباب العز ما دونه ستر )
( وطال مقامي في إسار جميلكم ** فدامت معاليكم ودام لي الأسر )
( وأنجز لي رب السموات وعدة الكريم بأن العسر يتبعه اليسر ** )
( فجاد أبو نصر بألف تصرمت ** وإني عليم أن سيخلفها نصر )
( لقد كنت مأمولا ترجى لمثلها ** فكيف وطوعا أمرك النهي والأمر )
( وما بي إلى الإلحاح والحرص حاجة ** وقد عرف المبتاع وانفصل السعر )
( وإني بآمالي لديكم مخيم مخيم ** وكم في الورى ثاو وآماله سفر )
( وعهدك ما أبغي بقولي تصنعا ** بأيسر ما توليه يستبعد الحر ) (1)
فلما فرغ من إنشادها قال الأمير نصر والله لو قال عوض قوله سيخلفها نصر سيضعفها لأضعفتها له وأعطاه ألف دينار في طبق فضة
وكان اجتمع على باب الأمير نصر جماعة من الشعراء وامتدحوه وتأخرت صلته عنهم ونزل بعد ذلك الأمير نصر إلى دار بولص النصراني وكانت له عادة بغشيان منزله وعقد مجلس الأنس عنده فأتت الشعراء الذين تأخرت
____________________
1- الطويل
(2/279)
جوائزهم إلى باب بولص وفيهم ابن الدويدة المعري الشاعر المعروف فكتبوا ثلاثة أبيات اتفقوا على نظمها وقيل بل نظمها ابن الدويدة المعري المذكور وصيروا الورقة إليه وفيها الأبيات وهي
( على بابك المحروس منا عصابة ** مفاليس فانظر في أمور المفاليس )
( وقد قنعت منك الجماعة كلها ** بعشر الذي أعطيته لابن حيوس )
( وما بيننا هذا التفاوت كله ** ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس ) (1)
فلما وقف عليها الأمير نصر أطلق لهم مائة دينار وقال والله لو قالوا بمثل الذي أعطيته لابن حيوس لأعطيتهم مثله
وكان الأمير نصر سخيا واسع العطاء تملك حلب بعد وفاة أبيه محمود سنة سبع وستين وأربعمائة ولم تطل مدته حتى ثار عليه جماعة من جنده فقتلوه ثاني شوال سنة ثمان وستين وأربعمائة
وكان ابن حيوس المذكور قد أثرى وحصلت له نعمة ضخمة من بني مرداس فبنى دارا بمدينة حلب وكتب على بابها من شعره
( دار بنيناها وعشنا بها ** في نعمة من آل مرداس )
( قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ** علي للأيام من باس )
( قل لبني الدنيا ألا هكذا ** فليفعل الناس مع الناس ) + السريع +
وقيل إن الأبيات لابن أبي حصينة الحلبي وهو الصحيح
وحكى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق قال أنشدنا أبو القاسم علي بن
____________________
1- الطويل
(2/280)
إبراهيم العلوي من حفظه سنة سبع وخمسمائة قال أخذ الأمير أبو الفتيان ابن حيوس بيدي وقال أروعني هذا البيت وهو في شرف الدولة مسلم ابن قريش
( أأنت الذي نفق الثناء بسوقه ** وجرى الندى بعروقه قبل الدم ) (1)
وهذا البيت في غاية المدح
ومن غرر قصائده السائرة قوله
( هو ذاك ربع العامرية فاربع ** واسأل مصيفا عافيا عن مربع )
( واستسق للدمن الخوالي بالحمى ** غر السحائب واعتذر عن أدمعي )
( فلقد غدوت أمام دان هاجر ** في قربه ووراء ناء مزمع )
( لو تخبر الركبان عني حدثوا ** عن مقلة عبرى وقلب موجع )
( ردي لنا زمن الكثيب فإنه ** زمن متى يرجع وصالك يرجع )
( لو كنت عالمة بأذني لوعتي ** لرددت أقصى نيلك المسترجع )
( بل لو قنعت من الغرام بمظهر ** عن مضمر بين الحشى والأضلع )
( أعتبت إثر تعتب ووصلت ** غب تجنب وبذلت بعد تمنع )
( ولو أنني أنصفت نفسي صنتها ** عن أن أكون كطالب لم ينجع )
( إني دعوت ندى الغرام فلم يجب ** فلا شكرن ندى أجاب وما دعي )
____________________
1- الكامل
(2/281)
( ومن العجائب والعجائب جمة ** شكر بطيء عن ندى متسرع )
ومن شعره يمدح سابق بن محمود
( يزداد إن قصر الخطي عن غرض ** طولا ويمضي إذا حد الحسام نبا )
( حل السماك وما حلت تمائمه ** عن جيده وحبا العافين منذ حبا )
( حوى من الفضل مولودا بلا طلب ** أضعاف ما أعجز الطلاب مكتسبا )
( طلق المحيا إذا ما زرت مجلسه ** حزت الغنى والعلا والبأس والأدبا ) (1)
ومحاسنه كثيرة
وكان أحمد بن محمد الخياط الشاعر قد وصل إلى حلب سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وبها يومئذ ابن حيوس المذكور فكتب إليه ابن الخياط يقول
( لم يبق عندي ما يباع بدرهم ** وكفاك مني منظري عن مخبري )
( إلا بقية ماء وجه صنتها ** عن أن تباع وأين أين المشتري ) + الكامل +
فقال لو قال ونعم أنت المشتري لكان أحسن
وكان مولد ابن حيوس سنة أربع وتسعين وثلثمائة بدمشق وتوفي سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
وابن حيوس الإشبيلي ذكره ابن فضل الله فقال لا يخف له ضرع خاطر
____________________
1- البسيط
(2/282)
ولا يجف له نوء سحاب ماطر لو مس بقريحته الصلد لتفجر أو الجهام لا ثعنجر وحسبك من مرمى غرضه البعيد ما ذكره له ابن سعيد وأورد له في المرقص قوله في أشتر العين لا تفارقه الدمعة
( شترت فقلنا زورق في لجة ** مالت بإحدى دفتيه الريح )
( فكأنما إنسانها ملاحها ** قد خاف من غرق فظل يميح ) (1)
125
( إن الشباب والفراغ والجدة ** مفسدة للمرء أي مفسدة )
البيت لأبي العتاهية من أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الأمثال يقال إن له فيها أربعة آلاف مثل فمنها
( حسبك مما تبتفيه القوت ** ما أكثر القوت لمن يموت )
( الفقر فيما جاوز الكفافا ** من اتقى الله رجا وخافا )
( هي المقادير فلمني أو فذر ** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر )
( لكل ما يؤذي وإن قل ألم ** ما أطول الليل على من لم ينم )
( ما انتفع المرء بمثل عقله ** وخير ذخر المرء حسن فعله )
( إن الفساد ضده الصلاح ** ورب جد جره المزاح )
( من جعل النمام عبنا هلكا ** مبلغك الشر كباغيه لكا )
وبعده البيت وبعده
( يغنيك عن كل قبيح تركه ** يرتهن الرأى الأصيل شكه )
( ما عيش من آفته بقاؤه ** نغض عيشا كله فناؤه )
( يا رب من أسخطنا بجهده ** قد سرنا الله بغير حمده )
____________________
1- الكامل
(2/283)
( ما تطلع الشمس ولا تعيب ** إلا لأمر شأنه عجيب )
( لكل شيء قدر وجوهر ** وأوسط وأصغر وأكبر )
( فكل شيء لاحق بجوهره ** أصغره متصل بأكبره )
( من لك بالمحض وكل ممتزج ** وساوس في الصدر منك تختلج )
( ما زالت الدنيا لنا دار أذى ** ممزوجة الصفو بأنواع القذى )
( الخير والشر بها أزواج ** لذا نتاج ولذا نتاج )
( من لك بالمحض وليس محض ** يخبث بعض ويطيب بعض )
( لكل إنسان طبيعتان ** خير وشر وهما ضدان )
( والخير والشر إذا ما عدا ** بينهما بون بعيد جدا )
( إنك لو تستنشق الشحيحا ** وجدته أنتن شيء ريحا )
( عجبت حتى ضمني السكوت ** صرت كأني حائر مبهوت )
( كذا قضى الله فكيف أصنع ** والصمت إن ضاق الكلام أوسع )
وهي طويلة جدا وهذا الأنموذج كاف منها
والجدة الاستغناء والمفسدة الخلة الداعية إلى الفساد
والشاهد فيه الجمع وهو الجمع بين متعدد في حكم وهو ظاهر في البيت وما أحسن قول الصفي الحلي فيه
( أراؤه وعطاياه ونعمته ** وعفوه رحمة للناس كلهم ) (1)
ومنه قول ابن حجة مع تسمية النوع
( آدابه وعطاياه ورأفته ** سجية ضمن جمع فيه ملتئم ) (1)
وقول ابن جابر الأندلسي
( قد أحرز السبق والإحسان في نسق ** والعلم والحلم قبل الدرك للحلم ) (1)
____________________
1- البسيط
(2/284)
وأبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة وكنيته أبو إسحاق وأبو العتاهية كنية غلبت عليه لأنه كان يحب الشهرة والمجون فكنى لعتوه بذلك وقيل إن المهدي قال له يوما أنت إنسان متعته متحذلق فاستوت له من ذلك كنيته ويقال للرجل المتحذلق عتاهية وفيه يقول أبو قابوس النصراني وقد بلغه أنه فضل عليه العتابي
( قل للمكنى نفسه ** متخيرا بعتاهية )
( والمرسل الكلم القبيح وعنه أذن واعية ** )
( إن كنت سرا سؤتني ** أو كان ذاك علانية )
( فعليك لعنة ذي الجلال ** وأم زيد زانية ) (1)
وأم زيد هي أم أبي العتاهية ومنشأه بالكوفة وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين ثم كان يبيع الفخار بالكوفة ثم قال الشعر فبرع فيه وتقدم ويقال أطبع الناس بالشعر بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية وما قدر
____________________
1- الكامل
(2/285)
أحد قط على جمع شعر هؤلاء الثلاثة بأسره لكثرته وكان غزير البحر كثير المعاني لطيفها سهل الألفاظ كثير الافتنان قليل التكلف إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك وأكثر شعره في الزهد والأمثال وكان قوم من أهل عصره ينسبونه إلى القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث والنشور ويحتجون بأن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون النشور والمعاد
وحدث الخليل بن أسد النوشجاني قال أتانا أبو العتاهية إلى منزلنا فقال زعم الناس أنني زنديق والله ما ديني إلا التوحيد فقلنا له قل شيئا نتحدث به عنك فقال
( ألا إننا كلنا بائد ** وأي بني آدم خالد )
( وبدؤهم كان من ربهم ** وكل إلى ربه عائد )
( فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ** )
( وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد ) (1)
وكان من أبخل الناس مع يساره وكثرة ما جمعه من الأموال
وحدث محمد بن عيسى الخرقي قال وقف عليه ذات يوم سائل من العيارين الظرفاء وجماعة من جيرانه حواليه فسأله دونهم فقال له صنع الله لك فأعاد السؤال فرد عليه فأعاد الثالثة فغضب وقال له ألست الذي يقول
( كل حي عند ميتته ** حظه من ماله الكفن ) + المديد +
قال نعم قال فبالله عليك أتريد أن تعد مالك كله لثمن كفنك قال لا قال فبالله كم قدرت لكفنك قال خمسة دنانير قال فاعمل على أن دينارا من الخمسه وضيعته قيراط وادفع إلى قيراطا واحدا وإلا فواحدة أخرى قال وما هي قال القبور تحفر بثلاث دراهم فأعطني درهما وأقيم لك كفيلا بأن أحفر لك به
____________________
1- المتقارب
(2/286)
قبرك متى مت وتربح درهمين لم يكونا في حسابك فان لم أحفر رددته على ورثتك أو رده كفيلي عليهم فخجل أبو العتاهية وقال اغرب لعنك الله وغضب عليك وضحك جميع من حضر ومر السائل يضحك فالتفت إلينا أبو العتاهية وقد اغتاظ فقال من أجل هذا وأمثاله حرمت الصدقة فقلنا له ومن حرمها ومتى حرمت فما رأيت أحدا ادعى أن الصدقة حرمت قبله ولا بعده
وقال قلت لأبي العتاهية أتزكي مالك فقال والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي فقلت له سبحان الله إنما ينبغي لك أن تخرج زكاة مالك للفقراء والمساكين فقال لي لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم
وحدث أيضا قال كنت جارا لأبي العتاهية وكان له جار يلتقط النوى ضعيف سيء الحال متجمل عليه ثياب فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار فيقول أبو العتاهية اللهم أعنه على ما هو بسبيله شيخ ضعيف سيءالحال عليه ثياب متجمل اللهم اصنع له اللهم بارك فيه فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحوا من عشرين سنة لا والله إن تصدق عليه بدرهمين ولا دانق قط وما كان زاده على الدعاء شيئا فقلت له يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقير معيل فلم لا تتصدق عليه بشيء فقال أخشى أن يعتاد الصدقة وهي آخر مكاسب العبد وإن في الدعاء خيرا كثيرا
وقال الجاحظ حدثني ثمامه بن أشرس قال دخلت يوما على أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلا شيء فقلت له كالمنكر كأنك رأيته يأكل خبزا وحده فقال لا ولكني رأيته يتأدم بلا شيء فقلت وكيف ذلك فقال رأيت قدامه خبزا يابسا من دقاق فطير وقدحا فيه حليب فكان يأخذ القطعة من الخبز فيغمسها في اللبن ويخرجها فلم تتعلق منه بقليل ولا كثير فقلت له كأنك اشتهيت أن تتأدم بلا شيء وما رأيت أحدا قبله تأدم بلا شيء
____________________
(2/287)
وقال ثمامة أنشدني أبو العتاهية
( إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ** تملكه المال الذي هو مالكه )
( ألا إنما مالي الذي أنا منفق ** وليس لي المال الذي أنا تاركه )
( إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ** يحق ولا استهلكته مهالكه ) (1)
فقلت له من أين قضيت بهذا قال من قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت ) فقلت أتؤمن بأن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه الحق قال نعم قلت فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك قال يا أبا معن والله إن ما قلت لحق ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس قلت وما يزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحزن لا تأكل ولا تشرب منها دائم الجمع شحيح على نفسك لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد فترك جواب كلامي كله ثم قال لي والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته وأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام
وقيل له ما لك تبخل بما رزقك الله تعالى فقال والله ما بخلت بما رزقني الله قط قيل له فكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى قال ليس ذلك رزقي ولو كان رزقي لأنفقته
وحدث أبو العتاهية قال أخرجني المهدي معه إلى الصيد فوقعنا منه على شيء كثير وتفرق أصحابه في طلبه وأخذ هو في طريق آخر غير طريقهم فلم يلتفتوا وعرض لنا واد جرار عظيم وتغيمت السماء وبدأت بمطر فتحيرنا وأشرفنا على الوادي وإذا فيه ملاح يعبر الناس فلجأنا إليه وسألناه
____________________
1- الطويل
(2/288)
عن الطريق فجعل يضعف رأينا ويعجزنا في بذل أنفسنا في ذلك الغيم والمطر للصيد حتى أبعدنا ثم أدخلنا كوخا له وكان المهدي يموت بردا فقال له أغطيك بجبتي هذه الصوف فقال نعم فغطاه بها فتماسك قليلا ونام وافتقده غلمانه وتبعوا أثره حتى جاؤونا فلما رأى الملاح كثرتهم على أنه الخليفة فهرب وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه وألقوا عليه الخز والوشى فلما انتبه قال لي ويحك ما فعل الملاح فوالله لقد وجب حقه علينا فقلت والله هرب خوفا مما خاطبنا به قال إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد أردت أن أغنيه وبأي شيء خاطبنا نحن والله مستحقون لأضعاف ما خاطبنا به بحياتي عليك إلا ما هجوتني فقلت يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك قال والله لتفعلن فإنني ضعيف الرأي مغرم بالصيد فقلت
( يا لابس الوشى على ثوبه ** ما أقبح الأشيب بالراح ) (1)
فقال زدني بحياتي عليك فقلت
( لو شئت أيضا جلت في خامة ** وفي وشاحين وأوضاح )
فقال ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا أستأهل زدني شيئا آخر فقلت أخاف أن تغضب فقال لا والله فقلت
( كم من عظيم القدر في نفسه ** قد نام في جبة ملاح )
فقال معنى سوء عليك لعنة الله وقمنا فركبنا وانصرفنا
وعن الحسن بن عابد قال كان أبو العتاهية يحج في كل سنة فإذا قدم أهدى للمأمون بردا قطريا ونعلا سوداء ومساويك أراك فيبعث إليه بعشرين ألف درهم فأهدى له مرة كما كان يهدي كل سنة إذا قدم فلم يثبه ولا بعث إليه بالوظيفة فكتب إليه أبو العتاهية يقول
( خبروني أن من ضرب السنة ** حددا بيضا وصفرا حسنه )
____________________
1- السريع
(2/289)
( أحدثت لكني لم أرها ** مثل ما كنت أرى كل سنة ) (1)
قال فأمر المأمون بحمل العشرين ألفا إليه وقال أغفلناه حتى أذكرنا
وحدث أبو عكرمة قال كان الرشيد إذا رأى عبد الله بن معن بن زائدة يتمثل بقول أبي العتاهية
( أخت بني شيبان مرت بنا ** ممشوطة كورا على بغل ) + السريع +
وهذا البيت من أبيات لأبي العتاهية يهجو بها عبد الله المذكور وبعده
( تكنى أبا الفضل ومن ذا رأى ** جارية تكنى أبا الفضل )
( قد نقطت في وجهها نقطة ** مخافة العين من الكحل )
( إن زرتموها قال حجابها ** نحن عن الزوار في شغل )
( مولاتنا مشغولة عندها ** بعل ولا إذن على البعل )
( يا بنت معن الخير لا تجهلي ** وأين تقصير عن الجهل )
( أتجلد الناس وأنت امرؤ ** تجلد في دبرك والقبل )
( ما ينبغي للناس أن ينسبوا ** من كان ذا جود إلى البخل )
( يبذل ما يمنع أهل الندى ** هذا لعمري منتهى البذل )
( ما قلت هذا فيك إلا وقد ** جفت به الأقلام من قبلي ) + السريع +
قال فبعث إليه عبد الله بن معن فأتى به فدعا بغلمان له ثم أمرهم أن يرتكبوا منه الفاحشة ففعلوا ذلك ثم أجلسه وقال له قد جزيتك على قولك فهل لك بعد هذا في الصلح ومعه مركب وعشرة آلاف درهم أو تقيم على الحرب وما ترى قال بل الصلح قال فأسمعني ما تقوله في معنى الصلح فقال
____________________
1- الرمل
(2/290)
( ما لعذالي ومالي ** أمروني بالضلال )
( عذلوني في اغتفاري ** لابن معن واحتمالي )
( إن يكن ما كان منه ** فبجرمي وفعالي )
( أنا منه كنت أسوأ ** عشرة في كل حال )
( قل لمن يعجب من حسن ** رجوعي ومقالي )
( رب ود بعد صد وهوى بعد الرجال ** )
( قد رأينا ذا كثيرا ** جاريا بين الرجال )
( إنما كانت يميني ** لطمت مني شمالي ) (1)
وكان أبو العتاهية في حداثته يهوى امرأة من أهل الحيرة نائحة لها حسن ودماثة يقال لها سعدى وكان ممن يهواها أيضا عبد الله بن معن وكانت مولاة لهم وكانت صاحبة حبائب وكان أبو العتاهية مولعا بالنساء فقال فيها
( ألا يا ذوات السحق في الغرب والشرق ** أفقن فإن النيك أشهى من السحق )
( أفقن فإن الخبز بالأدم يشتهى ** وليس يسوغ الخبز بالخبز في الحلق )
( أراكن ترقعن الخروق بمثلها ** وأي لبيب يرقع الخرق بالخرق )
( وهل يصلح المهراس إلا بعوده ** إذا احتيج منه ذات يوم إلى الدق ) + الطويل +
وقال فيها أيضا
( قلت للقلب إذ طوى وصل سعدى ** لهواه البعيدة الأسباب )
____________________
1- الرمل
(2/291)
( أنت مثل الذي يفر من القطر حذار الندى إلى الميزاب ** ) (1) فغضب ابن معن لسعدى فضرب أبا العتاهية مائة فقال فيه
( جلدتني بكفها ** بنت معن بن زائده )
( جلدتني بكفها ** بأبي تلك جالده )
( وتراها مع الخصي ** على الباب قاعده )
( تتكنى كني الرجال ** لعمد مكايده )
( جلدتني وبالغت ** مائة غير واحدة )
( اجلديني اجلدي اجلدي ** إنما أنت والده ) + من مجزوء الخفيف +
وقال في ضربه إياه أيضا
( ضربتني بكفها بنت معن ** أوجعت كفها وما أوجعتني )
( ولعمري لولا أذى كفها إذ ** ضربتني بالسوط ما تركتني ) (1)
وحدث أحمد بن أبي فنن قال كنا عند ابن الأعرابي فذكر قول يحيى بن نوفل في عبد الملك بن عمير القاضي وهو
( إذا كلمته ذات دل لحاجة ** فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل ) + الطويل +
وأن عبد الملك بن عمير قال تركني والله وإن السعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأهاب أن أسعل قال فقلت هذا ابن معن بن زائدة يقول له أبو العتاهية
____________________
1- الخفيف
(2/292)
( فصغ ما كنت حليت ** به سيفك خلخالا )
( فما تصنع بالسيف ** إذا لم تك قتالا ) (1)
فقال عبد الله ما لبست السيف قط فلمحني إنسان إلا قلت يحفظ شعر أبي العتاهية في فينظر إلي بسببه فقال ابن الأعرابي اعجبوا لهذا العبد يهجو مولاه وكان أبو العتاهية من موالي بني شيبان
وحدث المدائني قال اجتمع أبو نواس وأبو الشمقمق في بيت ابن أذين وجاء أبو العتاهية وكان بينه وبين أبي الشمقمق شر فخبأه من أبي العتاهية في بيت ودخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث فظنه جارية فقال لابن أذين متى استظرفت هذه الجارية قال قريبا يا أبا إسحاق فقل فيها ما حضر فمد أبو العتاهية يده إليه وقال
( مددت كفي نحوكم سائلا ** ماذا تردون على السائل ) + السريع +
فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من داخل البيت بهذا البيت
نرد في كفك ذا فيشة ** يشفي جوى في استك من داخل )
فقال أبو العتاهية أبو الشمقمق والله وقام مغضبا
وقال أبو العتاهية حبسني الرشيد لما تركت قول الشعر فأدخلت السجن وأغلق الباب علي فدهشت كما يدهش مثلي لذلك الحال فإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيد فجعلت أنظر إليه ساعة ثم تمثل وقال
( تعودت مس الضر حتى ألفته ** وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر )
( وصيرني يأسي من الناس راجيا ** لحسن صنيع الله من حيث لا أدري ) + الطويل +
فقلت له أعد أعزك الله هذين البيتين فقال لي ويلك يا أبا العتاهية ما أسوأ أدبك وأقل عقلك دخلت علي الحبس فما سلمت تسليم المسلم على المسلم
____________________
1- الهزج
(2/293)
ولا سألت مسألة الحر للحر ولا توجعت توجع المبتلي للمبتلي حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتهما ولم تقدم قبل مسألتهما عذرا لنفسك في طلبهما فقلت يا أخي إني دهشت لهذا الحال فلا تعذلني واعذرني متفضلا بذلك فقال والله أنا أولى بالدهش والحيرة منك لأنك حبست في أن تقول الشعر الذي به ارتفعت وبلغت ما بلغت فإذا قلت أمنت وأنا مأخوذ بأن أدل على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتل أو أقتل دونه ووالله لا أدل عليه أبدا والساعة يدعي بي فأقتل فأينا أحق بالدهش فقلت أنت والله أولى سلمك الله وكفاك ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك فقال لا نبخل عليك إذن ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما فسألته من هو قال أنا حاضر داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد ولم نلبث أن سمعت صوت الأقفال فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرة ولبس ثوبا نظيفا ودخل الحرس والجند معهم الشمع فأخرجنا جميعا وقدم قبلي إلى الرشيد فسأله عن أحمد بن عيسى فقال لا تسألني عنه واصنع ما أنت صانع فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفت عنه فأمر بضرب عنقه فضربت ثم قال لي أظنك ارتعت يا إسماعيل فقلت دون ما رأيته تسيل منه النفوس فقال ردوه إلى محبسه فرددت وانتحلت البيتين وزدت فيهما
( إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ** تكرهت منه طال عتبي على الدهر ) (1)
وكان أبو العتاهية مشتهرا بحب عتبة جارية المهدي وأكثر نسيبه فيها فمن ذلك قوله وكتب به إلى المهدي يعرض بها
____________________
1- الطويل
(2/294)
( نفسي بشيء من الدنيا معلقة ** والله والقائم المهدي يكفيها )
( إني لا يأس منها ثم يطمعني ** فيها احتقارك للدنيا وما فيها ) (1)
فهم المهدي بدفع عتبة إليه فخرجت وقالت يا أمير المؤمنين مع حرمتي وخدمتي أفتدفعني إلى قبيح المنظر بائع جرار ومكتسب بالعشق فأعفاها وكان قد كتب البيتين على حواشي ثوب مطيب ووضعه في برنية ضخمة فقال المهدي املأوا له البرنية مالا فقال للكتاب أمر لي بدنانير قالوا ما ندفع إليك ذلك ولكن إن شئت أعطيناك الدراهم إلى أن يفصح بما أراد فاختلف في ذلك حولا فقالت عتبة لو كان عاشقا كما يزعم لم يكن يختلف منذ حول في التمييز بين الدراهم والدنانير وقد أضرب عن ذكري صفحا
وجلس أبو العتاهية يوما يعذل أبا نواس ويلومه على استماع الغناء ومجالسته لأصحابه فقال أبو نواس
( أتراني يا عتاهي ** تاركا تلك الملاهي )
( أتراني مفسدا بالنسك عند القوم جاهي ) + من مجزوء الرمل +
فوثب أبو العتاهية وقال لا بارك الله عليك وجعل أبو نواس يضحك
وحدث مخارق قال جاءني أبو العتاهية يوما فقال لي قد عزمت على أن أتزود منك يوما تهبه لي فمتى تنشط لذلك فقلت متى شئت قال أنا أخاف أن تقطع بي فقلت لا والله ولو طلبني الخليفة فقال يكون ذلك في غد فقلت أفعل فلما كان من الغد باكرني رسوله فجئته فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف ثم دعا بمائدة وعليها خبز سميد سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي قال فأكلنا منها حتى اكتفينا ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه أيضا ثم دعا بفراخ ودجاج وفراريج مشوية فأكلنا منها حتى اكتفينا ثم أتونا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا ثم جاءونا بفاكهة وريحان وألوان من الأنبذه فقال
____________________
1- البسيط
(2/295)
لي اختر ما يصلح لك فاخترت وشربت وصب قدحا ثم قال غن لي قولي
( أحمد قال لي ولم يدر ما بي ** أتحب الفتاة عتبة حقا ) (1)
فغنيته فشرب أقداحا وهو يبكي أحر بكاء ثم قال غني في قولي
( ليس لمن ليست له حيلة ** موجودة خير من الصبر ) + السريع +
فغنيته وهو ينتحب ويبكي ثم قال غنني فديتك في قولي
( خليلي مالي لا تزال مضرتي ** تكون مع الأقدار حتما من الحتم ) + الطويل +
فغنيته إياه وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره ويقول غنني به فأغنيه ويشرب ويبكي ثم صارت العتمة فقال لي أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع فجلست فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما كان بين أيدينا من النبيذ وآلات الملاهى ثم أمر باخراج كل ما كان في بيته من النبيذ وآلاته فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء ثم نزع ثيابه واغتسل ولبس ثياب بياض من الصوف ثم عانقني وبكى وقال عليك السلام يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده وجعل يبكي ويقول هذا آخر عهدك بي في حال تعاشر أهل الدنيا فظننت أنها بعض حماقاته فانصرفت فما لقيته زمانا ثم تشوقته قأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص وثقب أخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل فلما رأيته نسيت ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط فقال لي من أي شيء تضحك
____________________
1- الخفيف
(2/296)
لا ضحكت فقلت أسخن الله عينيك أي شيء هو من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء أو الزهاد أو الصحابة أو التابعين أو المجانين انزع عنك هذا يا سخين العين فكأنه استحيا مني ثم بلغني عنه أنه جلس حجاما فجهدت أن أراه بتلك الحالة فلم أره ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه فأتيته عائدا فخرج إلي رسوله يقول إن دخلت جددت لي حزنا وتاقت نفسي إلى سماعك والى ما قد غلبتها عليه وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء ثم كان آخر عهدي به
وقيل لأبي العتاهية عند الموت ما تشتهي فقال اشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه عند أذني ثم يغنيني
( ستعرض عن ودي وتنسى مودتي ** ويحدث بعدي للخليل خليل )
( إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي ** فإن غناء الباكيات قليل ) (1)
وحدث محمد بن أبي العتاهية قال آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه
( إلهي لا تعذبني فإني ** مقر بالذي قد كان مني )
( فما لي حيلة إلا رجائي ** لعفوك إن عفوت وحسن ظني )
( وكم من زلة لي في الخطايا ** وأنت علي ذو فضل ومن )
( إذا فكرت في ندمي عليها ** عضضت أناملي وقرعت سني )
( أجن بزهرة الدنيا جنونا ** وأقطع طول عمري بالتمني )
( ولو أني صدقت الزهد عنها ** قلبت لأهلها ظهر المجن )
( يظن الناس بي خيرا وإني ** لشر الناس إن لم تعف عني ) + الوافر +
ومحاسنه كثيرة
وكان الأصمعي يستحسن قوله
____________________
1- الطويل
(2/297)
( أنت ما استغنيت عن صاحبك ** الدهر أخوه )
( فإذا احتجت إليه ** ساعة مجك فوه ) (1)
وحدث ابن الأنباري أبو بكر قال أرسلت زبيدة أم الأمين إلى أبي العتاهية أن يقول على لسانها أبياتا بعد قتل الأمين يستعطف بها المأمون فأرسل إليها هذه الأبيات
( ألا إن صرف الدهر يدني ويبعد ** ويمتع بالألاف طورا ويفقد )
( أصابت بريب الدهر مني يدي يدي ** فسلمت للأقدار والله أحمد )
( وقلت لريب الدهر إن هلكت يد ** فقد بقيت والحمد لله لي يد )
( إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ** ولي جعفر لم يفتقد ومحمد ) + الطويل +
قال فلما قرأها المأمون استحسنها وسأل عن قائلها فقيل له أبو العتاهية فأمر له بعشرة آلاف درهم وعطف على زبيدة وزاد في تكرمتها وقضى حوائجها جميعا
وحدث عمر بن أبي شيبة قال مر عابد براهب في صومعة فقال له عظني قال أعظك وعليكم نزل القرآن ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم قريب العهد بكم قلت نعم قال فاتعظ ببيت من شعر شاعركم أبي العتاهية حيث يقول
( تجرد من الدنيا فإنك إنما ** وقعت إلى الدنيا وأنت مجرد ) + الطويل +
ومن شعر أبي العتاهية قوله
( بادر إلى اللذات يوما أمكنت ** بحلولهن بوادر الآفات )
( كم من مؤخر لذة قد أمكنت ** لغد وليس غد له بموات )
( حتى إذا فاتت وفات طلابها ** ذهبت عليها نفسه حسرات )
____________________
1- من مجزوء الرمل
(2/298)
( تأتي المكاره حين تأتي جملة ** وأرى السرور يجيء في الفلتات ) (1)
ومنه قول بعضهم
( أي شيء يكون أعجب أمرا ** إن تنكرت من صروف الزمان )
( عارضات السرور توزن فيه ** والبلايا تكال بالقفزان ) + الخفيف +
ومن شعره أيضا قوله
( وإذا انقضى هم امرئ فقد انقضى ** إن الهموم أشدهن الأحدث ) (1)
ويومئ إلى هذا المعنى قوله أيضا وهو عجيب في معناه
( إنما أنت طول عمرك ما عمرت في الساعة التي أنت فيها ** ) + الخفيف +
ومن هذا قول من قال
( وكما تبلى وجوه في الثرى ** فكذا يبلى عليهن الحزن ) + الرمل +
ومن شعره أيضا قوله
( كأن عائبكم يبدي محاسنكم ** منكم فيمدحكم عندي فيغريني )
( إني لأعجب من حب يقربني ** مما يباعدني عنه ويقصيني ) + البسيط +
ومثل الأول قول عروة بن أذينة
( كأنما عائبها جاهدا ** زينها عندي يتزيين ) + السريع +
وكذا قول أبي نواس
( كأنهم أثنوا ولم يعلموا ** عليك عندي بالذي عابوا ) + السريع +
وقال أبو العتاهية لابنته رقية في علته التي مات فيها قومي يا بنية فارثي أباك واندبيه بهذه الأبيات فقامت فندبته بقوله
( لعب البلا بمعالمي ورسومي ** وقبرت حيا تحت ردم همومي )
( لزم البلا جسمي فأوهى قوتي ** إن البلا لموكل بلزومي ) (1)
____________________
1- الكامل
(2/299)
وكان مولده سنة ثلاثين ومائة ووفاته في يوم الاثنين لثمان من جمادى الأولى وقيل لثلاث من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة ومائتين وقيل سنة ثلاث عشرة ودفن حيال قنطرة الزياتين في الجانب الغربي ببغداد وأمر أن يكتب على قبره
( إن عيشا يكون آخره الموت ** لعيش معجل التنغيص ) (1)
وقيل أوصى أن يكتب عليه
( أذن حي تسمعي ** واسمعي ثم عي وعي )
( أنا رهن بمضجعي ** فاحذروا مثل مصرعي )
( عشت تسعين حجة ** اسلمتني لمضجعي )
( كم ترى الحي ثابتا ** في ديار التزعزع )
( ليس زاد سوى التقى ** فخذي منه أو دعي ) + من مجزوء الخفيف +
ولما مات رثاه ابنه محمد فقال
( يا أبي ضمك الثرى ** وطوى الموت أجمعك )
( ليتني مت يوم صرت ** إلى حفرة معك )
( رحم الله مصرعك ** برد الله مضجعك ) + من مجزوء الخفيف +
126
( ما نوال الغمام وقت ربيع ** كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة عين ** ونوال الغمام قطرة ماء )
البيتان لرشيد الدين الوطواط الشاعر من الخفيف
والنوال العطاء والبدرة كيس فيه ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار والعين هنا المال
____________________
1- الخفيف
(2/300)
والشاهد فيهما التفريق وهو إيقاع تباين بين أمرين من نوع في المدح أو في غيره فمن ذلك قول بعضهم
( حسبت جماله بدرا منيرا ** وأين البدر من ذاك الجمال ) (1)
وقول قوله الآخر
( قاسوك بالغصن في التثني ** قياس جهل بلا انتصاف )
( هذاك غصن الخلاف يدعى ** وأنت غصن بلا خلاف ) + من مخلع البسيط +
وما أحسن قول الموصلي مع تسمية النوع
( قالوا هو البحر والتفريق بينهما ** إذ ذاك غم وهذا فارق الغمم ) + البسيط +
وقد تلاعب الشعراء بمعنى البيتين المستشهد بهما فللوأواء الدمشقي
( من قاس جدواك بالغمام فما ** أنصف في الحكم بين شكلين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ** وهو إذا جاد باكي العين ) + المنسرح +
ولبعضهم فيه أيضا وأجاد جدا
( من قاس جدواك يوما ** بالسحب أخطأ مدحك )
( السحب تعطي وتبكي ** وأنت تعطي وتضحك ) + المجتث +
ولأبي الفتح البستي وأجاد
( يا سيد الأمراء يا من جوده ** أوفى على الغيث المطير إذا همى )
( الغيث يعطي باكيا متجهما ** ونراك تعطي ناصرا متبسما ) + الكامل +
ومثله لأبي منصور البوشنجي
( وذلك ضاحك أبدا بجود ** وجودك ليس يمطر غير باكي ) (1)
وقول الأديب يعقوب النيسابوري في الأمير أبي الفضل الميكالي
____________________
1- الوافر
(2/301)
( رأيت عبيد الله يضحك معطيا ** ويبكي أخوه الغيث عند عطائه )
( وكم بين ضحاك يجود بماله ** وآخر بكاء يجود بمائه ) (1)
ولشرف الدين السنجاري في معناه
( ما قست بالغيث العطايا منك إذ ** يبكي وتضحك أنت إذ تولى الندا )
( وإذا أفاض على البرية جوده ** ماء تفيض لنا يمينك عسجدا ) + الكامل +
وما أبدع قول البديع الهمذاني مع زيادة المعنى والمبالغة في الغلو
( يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ** لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا )
( والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ** والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا ) + البسيط +
وقول ابن بابك يمدح نظام الملك
( يقولون إن المزن يحكيك صوبه ** مجاملة ها قد شهدت وغابا )
( وكم عزمة عم البرية بؤسها ** فهل ناب فيها عن نداك منابا )
( همت ذهبا فيها يداك عليهم ** وضنت يداه أن ترش ذهابا ) (1)
وقول ابن اللبانة في المعتمد علي الله بن عباد
( سألت أخاه البحر عنه فقال لي ** شقيقي إلا أنه البارد العذب )
( لنا ديمتا ماء ومال فديمتي ** تماسك أحيانا وديمته سكب )
( إذا نشأت برية فله الندى ** وإن نشأت بحرية فلي السحب ) (1)
وينظر إلى معاني ما مر ولم يكن بعيدا منها قول بعضهم
( يا عيون السماء دمعك يفني ** عن قريب وما لدمعي فناء )
( أنا أبكي طوعا وتبكين كرها ** ودموعي دما ودمعك ماء ) + الخفيف +
____________________
1- الطويل
(2/302)
ولم أقف على ترجمة الوطواط الشاعر لكن رأيت ابن فضل الله ذكره في المسالك في معرض تراجم فأثبت ما رأيته قال في ترجمة الشمس بن دانيال أنه كان بينه وبين الوطواط ما يكون بين الأدباء ويدب بين الأحباء فعرضت للوطواط رمدة تكدر بها صفيحة وتكنى له فيها صريحة فقيل له لو طلبت ابن دانيال فقال ذاك لا يسمح بذرة يعني من كحله فبلغ ابن دانيال فقال في ذلك
( ولم أقطع الوطواط بخلا بكحله ** ولا أنا من يعييه يوما تردد )
( ولكنه ينبو عن الشمس طرفه ** فكيف به لي قدرة وهو أرمد ) (1)
وقال في ترجمة شافع بن علي بن عباس الكاتب ومن قوله في الوطواط الشاعر
( كم على درهم يلوح حراما ** يا لئيم الطباع سرا تواطي )
( دائما في الظلام تمشي مع الناس ** وهذي عوائد الوطواط ) + الخفيف +
وقوله فيه
( قالوا نرى الوطواط في شدة ** من تعب الكد ومن ويل )
( فقلت هذا دأبه دائما ** يسعى من الليل إلى الليل ) + السريع +
ثم إني رأيت المرحوم الجلال السيوطي ذكره في طبقات النحاة فقال محمد بن محمد بن عبد الجليل بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن مردويه بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
____________________
1- الطويل
(2/303)
المعروف بالرشيد الوطواط قال ياقوت كان من نوادر الزمان وعجائبه وأفراد الدهر وغرائبه أفضل أهل زمانه في النظم والنثر وأعلم الناس بدقائق كلام العرب وأسرار النحو والأدب طار في الآفاق صيته وسار في الأقاليم ذكره وكان ينشئ في حالة واحدة بيتا بالعربية من بحر وبيتا بالفارسية من آخر ويمليها معا وله من التصانيف حدائق السحر في دقائق الشعر أسفاره رسالة بالعربي ورسالة بالفارسي وغير ذلك مولده ببلخ ومات بخوارزم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
فتبين بهذا أن الذي ذكرناه أولا ليس هو
ومن رسائله ما كتبه إلى العلامة جار الله الزمخشري ليستأذنه في حضور مجلسه والاستفادات من سؤالاته
( لقد حاز جار الله دام جماله ** فضائل فيها لا يشق غباره )
( تجدد رسم الفضل بعد اندراسه ** بأيام جار الله فالله جاره ) (1)
أنا منذ لفظتي الأقدار من أوطاني ومعاهد أهلي وجيراني إلى هذه الخطة التي هي اليوم بمكان جار الله أدام الله جماله جنة للكرام وجنة من نكبات الأيام كانت قصوى منيتي وقصارى بغيتي أن أكون أحد الملازمين لسدته الشريفة التي هي مجثم السيادة ومقبل أفواه السادة فمن ألقى بها عصاه حاز في الدارين مناه ونال في المحلين مبتغاه ولكن سوء التقصير أو مانع التقدير حرمني مدة تلك الخدمة وحرم تلك النعمة والآن أظن وظن المؤمن لا يخطئ أن آفل جدي هم بالإشراق وذابل إيراقي
____________________
1- الطويل
(2/304)
تحرك للإيراق فقد أجد في نفسي نورا مجددا يهديني إلى جنته ومن شوق داعيا موفقا يدعوني إلى عتبته ويقرع سمعي كل ساعة لسان الدولة أن اخلع نعلك واطرح بالواد المقدس رحلك ولا تحفل بقصد قاصد وحسد حاسد فإن حضرة جار الله أوسع من أن تضيق على راغب في فوائده وأكرم من أن تستثقل وطأة طالب لعوائده ومع هذا أرجو إشارة تصدر عن مجلسه المحروس إما بخطه الشريف فإن في ذلك شرفا لي يدوم مدى الدهر والأيام وفخرا يبقى على مر الشهور والأعوام وإما على لسان من يوثق بصدق مقالته ويعتمد على تبليغ رسالته من المنخرطين في سلك خدمته والراتعين في رياض نعمته ورأيه في ذلك أعلى وأصوب
وكتب إليه يهنئه بالعيد الأعياد عرف الله سيدنا جار الله بركة قدومها وورودها وجعل له الحظ الأكمل والقسط الأجزل من ميامنها وسعودها فرائد قلائد الأيام وغرر جبهات الأعوام لكنها راحلة لا تقوم وزائلة لا تدوم ولقاء جار الله أدام الله مجده لنا معشر خدمه والمرتضعين در فضله وكرمه عيد لا زال العيد له كتصحيفه باقية محاسنه دائمة ميامنه يهدى كل ساعة إلى أبصارنا نورا والى أرواحنا راحة وسرورا فكيف نهنئ عيدا هذه حاله بعيد لا يؤمن زواله
____________________
(2/305)
( أتى العيد جار الله وهو مجدد ** بخدمته عهد المهيمن تجديدا )
( فلست بعيد لا يدوم مهنئا ** لصدر محياه يدوم لنا عيدا ) (1)
127
( ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلا الأذلان غير الحي والوتد )
( هذا على الخسف مربوط برمته ** وذا يشج فلا يرثي له أحد )
البيتان من البسيط وقائلهما المتلمس من أبيات وهي
( إن الهوان حمار الأهل يعرفه ** والحر ينكره والرسلة الأجد )
( كونوا كسامة إذ ضنك منازله ** إذ قيل جيش وجيش حافظ عتد )
( شد المطية بالأنساع فانحرفت ** عرض التنوفة حتى مسها النجد )
( كونوا كبكر كما قد كان أولكم ** ولا تكونوا كعبد القيس إذ قعدوا )
( يعطون ما سئلوا والبحر محتدهم ** كما أكب على ذي بطنه الفهد ) + البسيط +
____________________
1- الطويل
(2/306)
وبعده البيتان وبعدهما قوله
( وفي البلاد إذا ما خفت ثائرة ** مشهودة عن ولاة السوء تنتقد )
والضيم الظلم والعير بفتح المهملة الحمار وغلب على الوحشي والمناسب هنا الأهلي والخسف النقيصة والإذلال تحميل الإنسان ما يكره وحبس الدابة بلا علف والرمة بضم الراء وتكسر قطعه من حبل والشج الكسر والدق والاستثناء في إلا الأذلان استثناء مفرغ وقد أسند إليه فعل الإقامة في الظاهر وإن كان مسندا في الحقيقة إلى العام المحذوف
والشاهد فيهما التقسيم وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين فإنه ذكر العير والوتد ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف والى الثاني الشج على التعيين
ومما ورد في التقسيم قول زهير بن أبي سلمى السابق في شواهد الإيجاز والإطناب
( وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عمي ) (1)
وقد نقل أبو نواس هذا التقسيم من الجد إلى الهزل فقال
( أمر غد أنت منه في لبس ** وأمس قد فات فاله عن أمس )
( وإنما الشأن شأن يومك ذا ** فباكر الشمس بابنة الشمس ) + المنسرح +
وقد نقله بعضهم أيضا فقال
( تمتع من الدنيا بساعتك التي ** ظفرت بها ما لم تعقك العوائق )
____________________
1- الطويل
(2/307)
____________________
(2/308)
( فلا يومك الماضي عليك بعائد ** ولا يومك الآتي به أنت واثق ) (1)
ومن التقسيم قول بشار بن برد
( وراحوا فريق في الأسار ومثله ** قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه ) (1)
ومثله قول الصفي الحلي
( أفنى جيوش العدا غزوا فلست ترى ** سوى قتيل ومأسور ومنهزم ) + البسيط +
وهو مأخوذ من قول عمر بن الأيهم
( اشربا ما شربتما فهديل ** من قتيل أو هارب أو أسير ) + الخفيف +
ومنه وزعم قوم أنه أفضل بيت وقع فيه تقسيم قول نصيب
( فقال فريق القوم لا وفريقهم ** نعم وفريق أيمن الله ما ندري ) (1)
وزعم أبو العيناء أن خير تقسيم قول عمر بن أبي ربيعة
( تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ** ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر )
( ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ** ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر ) (1)
واختار آخرون قول الحاركي وقالوا إنه أفضل
( فلا كمدي يفني ولا لك رقة ** ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع ) (1)
وبديع قول الأمير السليماني
( وصلت فلما أن ملكت حشاشتي ** هجرت فجد وارحم فقد مسني الضر )
( فليت الذي قد كان لي منك لم يكن ** وليتك لا وصل لديك ولا هجر )
( فلا عبرتي ترقا ولا فيك رقة ** ولا منك إلمام ولا عنك لي صبر ) (1)
وقد ألم بنحو هذا التقسيم الشهاب محمود حيث قال
( وإني لفي نظري نحوها ** وقد ودعتني قبيل الفراق )
( ولا صبر لي فأطيق الهوى ** ولا طمع إن نأت في اللحاق )
____________________
1- الطويل
(2/308)
( ولا أمل يرتجي في الرجوع ** ولا حكم في رد تلك النياق )
( كمضني يودع روحا غدت ** يراها على رغمة في السياق ) (1)
ومن مليح التقسيم قول داود بن مسلم
( في باعة طول وفي وجهه ** نور وفي العرنين منه شمم ) + السريع +
وكان محمد بن موسى المنجم يحب التقسيم في الشعر وكان معجبا بقول العباس ابن الأحنف
( وصالكم صرم وحبكم قلا ** وعطفكم صد وسلمكم حرب ) + الطويل +
ويقول أحسن والله فيما قسم حيث جعل حيال كل شيء ضده والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس
ومن جيد التقسيم قول أبي تمام
( فما هو إلا الوحي أوحد مرهف ** تميل ظباه الحد عن كل مائل )
( فهذا دواء الداء من كل عالم ** وهذا دواء الداء من كل جاهل ) + الطويل +
وذكر الجاحظ أن قتيبة بن مسلم لما قدم خراسان خطب الناس فقال من كان في يده من مال عبد الله بن حازم شيء فلينبذه وإن كان في فمه فليلفظه وإن كان في صدره فلينفثه قال فعجب الناس من حسن ما فصل وقسم
ووقف أعرابي على حلقة الحسن فقال رحم الله من تصدق من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قوت
ولقد أجاد ابن حيوس في التقسيم بقوله
( ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ** فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر )
( ضميرك والتقوى وكفك والندى ** ولفظك والمعنى وسيفك والنصر ) + الطويل +
وما أحسن قول أبي ربيعة المخزومي
( وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ** عن الدار أو من غيبته المقابر ) + الطويل +
____________________
1- المتقارب
(2/309)
وعجيب هنا قول أبي تمام في مجوسي أحرق في النار
( صلى لها حيا وكان وقودها ** ميتا ويدخلها مع الفجار ) (1)
وما أعذب قول الشيخ شرف الدين بن الفارض
( يقولون لي صفها فأنت بوصفها ** خبير أجل عندي بأوصافها علم )
( صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ** ونور ولا نار وروح ولا جسم ) + الطويل +
وقول محمد بن دراج القسطلي وأجاد
( عطاء بلا من وحكم بلا هوى ** وملك بلا كبر وعز بلا عجب ) + الطويل +
وقول الآخر أيضا
( بني جعفر أنتم سماء رياسة ** مناقبكم في أفقها أنجم زهر )
( طريقتكم مثلي وهديكم رضى ** ومذهبكم قصد ونائلكم غمر )
( عطاء ولا من وحكم ولا هوى ** وحلم ولا عجز وعز ولا كبر ) + الطويل +
وبديع قول بعضهم أيضا
( قوس ولا وتر سهم ولا قود ** عين ولا نظر نحل ولا عسل ) + البسيط +
وقول بعضهم أيضا
( تسربل وشيا من خزوز تطرزت ** مطارفها طرزا من البرق كالتبر )
( فوشي بلا رقم ورقم بلا يد ** ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر ) + الطويل +
وقول الرستمي
( فتى خازرق المجد من كل جانب ** إليه وخلى كاهل الشكر ذا ثقل )
( بعفو بلا كد وصفو بلا قذى ** ونقد بلا وعد ووعد بلا مطل ) + الطويل +
وما أشرف قول ابن شرف
( لمختلفي الحاجات جمع ببابه ** فهذا له فن وهذا له فن )
( فللخامل العليا وللمعدم الغنى ** وللمذنب العتبى وللخائف الأمن ) + الطويل +
____________________
1- الكامل
(2/310)
وقول بعضهم ايضا
( نرجو سلوا في رسوم بينها الأغصان ** سكرى والحمام متيم )
( هذي تميل إذا تنسمت الصبا ** والورق تذكر شجوها فترنم ) (1)
ولابن جابر الأندلسي
( لقد عطفتني على حبها ** بوجه تبدى على عطفه )
( فهذا هو البدر في أفقه ** وهذا هو الغصن في حقفه ) + المتقارب +
ولأبي الحسين الجزار
( وزير ما تقلد قط وزرا ** ولا داناه في مثوى أنام )
( وجل فعاله صادات بر ** صلات أو صلاة أو صيام ) + الوافر +
ولشيخ شيوخ حماة
( لنا ملك واجد ما اشتهى ** ولكنه لم يجد مثله )
( ملاذي به ومثولي لديه ** وميلي إليه ومدحي له ) + المتقارب +
ومثله قول بعضهم مجونا
( وبديع الجمال معتدل القامة ** كالغصن حن قلبي إليه )
( أشتهي أن يكون عندي وفي بيتي وبعضي فيه وكلي عليه ** ) + الخفيف +
ومن المضحك فيه قول السراج الوراق
( رأت حالي وقد حالت ** وقد غال الصبا فوت )
( فقالت إذ تشاجرنا ** ولم يخفض لنا صوت )
( أشيخ مفلس يهوى ** ويعشق فاتك الفوت )
( فلا خير ولا مير ** ولا إير فذا موت ) + من مجزوء الوافر +
ولطيف قول بعضهم
____________________
1- الكامل
(2/311)
( وفي أربع منى حلت منك أربع ** فما منه أدرى أيها هاج لي كربي )
( أوجهنك في عيني أم الريق في فمي ** أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي ) (1)
وقد سمع يعقوب بن إسحاق الكندي هذا فقال هو تقسيم فلسفي وقد أخذه الحمايني العلوي فجعله خمسة فقال
( وفي خمسة مني حلت منك خمسة ** فريقك منها في فمي طيب الرشف )
( ووجهك في عيني ولمسك في يدي ** ونطقك في سمعي وعرفك في أنفي ) (1)
والمتلمس اسمه جرير بن عبد المسيح الضبعي وهو أحد الثلاثة المقلين الذين اتفق العلماء بالشعر على أنه أشعرهم وهم المتلمس والمسيب بن علس وحصين بن الحمام ولقب بالمتلمس لقوله
( وذاك أوان العرض طن ذبابه ** زنابيره والأزرق المتلمس ) (1)
وكان هو وطرفة بن العبد يتنادمان مع عمرو بن هند ملك الحيرة وكان سيء الخلق شديده وكان قد حرق من تميم مائة رجل فهجوه وكان مما هجاه به المتلمس قوله
( إن الخيانة والمغالة والخنا ** والغدر نتركه ببلدة مفسد )
____________________
1- الطويل
(2/312)
( ملك يلاعب أمه وقطينها ** رخو المفاصل بطنه كالمزود )
( فإذا حللت فدون بيتي غارة ** فأبرق بأرضك ما بدا لك وأرعد ) (1)
وهجاه طرفة بما تقدم في ترجمته في شاهد التكميل فاستحيا أن يقتلهما بحضرته وبينه وبينهما إدلال المنادمة فكتب لهما صحيفتين وختمهما لئلا يعلما ما فيهما وهو أول من ختم الكتاب وقال لهما اذهبا إلى عاملي بالبحرين فقد أمرته أن يصلكما بالجوائز فذهبا فمرا في طريقهما بشيخ يحدث ويأكل من خبز بيده ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه فقال المتلمس ما رأيت شيخا كاليوم أحمق من هذا فقال الشيخ ما رأيت من حمقى أخرج الداء وأدخل الدواء وأقتل الأعداء ويروي أطرح خبيثا وأدخل طيبا وأقتل عدوا أحمق والله منى من يحمل حتفه بيده فاستراب المتلمس بقوله فطلع عليهما غلام من أهل الحيرة من كتاب العرب فقال له المتلمس أتقرأ يا غلام قال نعم ففك حينئذ الصحيفة فإذا فيها إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فقال لطرفة ادفع إليه صحيفتك فإن فيها مثل هذا فقال طرفة كلا لم يكن ليجترىء علي وكان غرا صغير السن فقذف المتلمس بصحيفته في نهر الحيرة وقال
( قذفت بها بالثنى من جنب كافر ** كذلك أفتى كل قط مضلل )
____________________
1- الكامل
(2/313)
4
( رضيت بها لما رأيت مدادها ** يجول به التيار في كل جدول ) (1)
وأخذ نحو الشام وقال
( ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ** والزاد حتى نعله ألقاها ) + الكامل +
يريد أنه تخفف للفرار وألقى ما يثقل وما لا بد للسفر منه
وأما طرفة فإنه وصل الى البحرين وقتل كما مر في ترجمته وهلك المتلمس في الجاهلية وقال ابن فضل الله في حقه هو رجل نبيه الذكر معروف بصحة الفكر وهو الذي يضرب المثل بصحيفته ومن شعره
( ألم تر أن المرء رهن منية ** صريعا لعافي الطير أو سوف يرمس )
( فلا تقبلن ضيما حذار منية ** وموتن بها خرا وجلدك أملس )
( فمن حذر الأوتار ما حز أنفه ** قصير وخاض الموت بالسيف بيهس )
( وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ** وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا )
( فات تقبلوا بالود نقبل بمثله ** وإلا فإنا نحن آبى وأشمس ) (1)
ومن شعره أيضا
( تعيرني أمي رجال ولا أرى ** أخا كرم إلا بأن يتكرما )
____________________
1- الطويل
(2/314)
( أحارث إنا لو تساط دماؤنا ** تزيلن حتى لا يمس دم دما )
( لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ** وما علم الإنسان إلا ليعلما )
( وما كنت إلا مثل قاطع كفه ** بكف له أخرى فأصبح أجذما )
( يداه أصابت هذه حتف هذه ** فلم تجد الأخرى عليها مقدما )
( فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغا لنابه الشجاع لصمما )
( إذا ما أديم القوم أنهجه البلى ** تفرى وإن كتبته وتخرما ) (1)
ومما يتمثل به من شعره قوله
( وأعلم علم حق غير ظن ** لتقوى الله من خير العتاد )
( وحفظ المال خير من ضياع ** وضرب في البلاد بغير زاد )
( وإصلاح القليل يزيد فيه ** ولا يبقى الكثير مع الفساد ) + الوافر +
وهذه الأبيات من قصيدة له مطلعها
( صبا من بعد سلوته فؤادي ** وأسمح للقرينة بالقياد )
وقد ضمنه بعضهم في الهجاء فقال
( يحصن زاده عن كل ضرس ** ويعمل ضرسه في كل زاد )
( ولا يروي من الأشعار شيئا ** سوى بيت لأبرهة الإيادي )
( قليل المال تصلحه فيبقى ** ولا يبقى الكثير مع الفساد ) + الوافر +
____________________
1- الطويل
(2/315)
وشطر هذا البيت رواية في شطر البيت السابق وأخذه ابن وكيع فقال
( مال يخلفه الفتى ** للشامتين من العدا )
( خير له من قصده ** إخوانه مسترفدا ) (1)
ويقال إن حاتما الطائي لما سمع قول المتلمس هذا قال ماله قطع الله لسانه يحمل الناس على البخل والتباخل ألا كان يقول
( وما البذل يفني المال قبل فنائه ** ولا البخل في مال الشحيح يزيد )
( فلا تلتمس فقرا بعيش فإنه ** لكل غد رزق يعود جديد )
( ألم تدر أن المال غاد ورائح ** وإن الذي يعطيك ليس يبيد ) + الطويل +
انتهى
وقد قال البلغاء في معنى الأول إن في إصلاح مالك جمال وجهك وبقاء عزك ونقاء عرضك وسلامة دينك وطيب عيشك وبناء مجدك فأصلحه إن أردت هذا كله وفي المثل احفظ ما في الوعاء بشد الوكاء يضرب في الحث على أخذ الأمر بالحزم وقيل من أصلح ماله فقد صان الأكرمين الدين والعرض وقيل التدبير يثمر التيسير والتبذير يبرد الكثير ولا جود مع تبذير ولا بخل مع اقتصاد والاعتدال في الجود أحسن من الاعتداء على الموجود والرزق مقسوم محدود فمرزوق ومحدود والله اعلم بالوجود
قد تم بحمد الله تعالى وعونه الجزء الثاني من معاهد التنصيص ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث مفتتحا بشواهد الجمع مع التفريق نسأله سبحانه الإعانة على إكماله والتوقيق إلى إتمامه
____________________
1- من مجزوء الكامل
(2/316)