بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وجنده، وعلى كل من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هديه... إلى يوم الدين.
أما بعد
بين يديك أخي الموحد رسالة وافرة مفعمة بأدلة صريحة صحيحة في أحكام صلاة المسافر جمعتها من كتب أهل العلم أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله أجمعين.
وهذه الرسالة منقسمة إلى قسمين:
? قسم متعلق بأحاكم القصر وما يتعلق به.
? قسم الثاني متعلق بأحاكم الجمع وما يتعلق به.
حاولت جاهداً أن يجد القارىء فيه بغيته، ومما قد يطرأ بباله في ما يتعلق باحكام صلاة المسافر.
فأرجو الرحمن تعالى ذكره أن ينفع كل من قرأه، وإن كان فيه من زلل أو خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه براء، وإن كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له.
والله أسأله أن يجعلها نافعة على الدوام، وخالصة لوجهه الكريم.
أبو محمد البقاعي الشامي(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مشروعية قصر الصلاة في السفر
شرع الله تعالى ذكره قصر الصلاة في السفر في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ).(1)
والذي ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة، والذي لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم سواها مطلقاً، أنه كان يصلي صلاة السفر ركعتين لا يزيد عليهما البتة، ما عدا صلاة المغرب ثلاث ركعات، وهذا ما داوم عليه في جميع أسفاره، وقد اتفقت عليه الأمة.
فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئا، قال: أقمنا بها عشرا.(2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وجعلوا يسألونه عن الصلاة في السفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من أهله لم يزد على ركعتين حتى يرجع.(3)
__________
(1) سورة النساء 117.
(2) أخرجه البخاري/ 1031، ومسلم/ 639، وابن حبان/ 2791، وابن خزيمة/ 2996، والنسائي في الكبرى/ 1896، وأبو داود/ 1233، وابن ماجة/ 1077، والبيهقي/ 5172، والترمذي/ 548، وأحمد/ 13042، والطبراني في الأوسط/ 5007، وابن حزم في المحلى: 5/26.
(3) إسناده صحيح، أخرجه الطيالسي/ 2273، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية عن شعبة به. وأحمد/ 2575، والطبراني في الأوسط/ 807، وفي الكبير/ 12711، وأبو نعيم من طرق عن شعبة به. وتابعه إسرائيل عند أحمد وعبدالغفار بن القاسم عند الطبراني. ورواه أبو عبد الله المقدسي في الأحاديث المختارة/ 427.(1/1)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من هذه المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها.(1)
كما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بعد الهجرة صلاة رباعية فسلم على رأس ركعتين، ثم التفت إلى القوم فقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر.(2)
وأما الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة: في حج، أو عمرة، أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصلها ركعتين،(3)وأجمعوا على أن لا يقصر في المغرب ولا في صلاة الصبح.(4)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما في السفر فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من ثلاثين سفرة وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر أربعاً قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره كان يصلي بالمسلمين بمنى ركعتين ركعتين، وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله جميع أصحابه ومن أخذ العلم عنهم.(5)
__________
(1) رواه ابن ماجة/ 1067، وأبو داود والطيالسي في مسنده/ 1863 وهو صحيح لغيره.
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك/ 315، والبيهقي في الكبرى/ 511، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/419، والبغوي في شرح السنة/ 1029، وابن أبي شيبة/ 3865، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار/ 2138، وابن حزم في المحلى: 5/18، ورواه عبد الرزاق من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه برقم: 4369، ورواه كذالك من طريق عبد الله عن نافع عن ابن عمر برقم: 4370، ومن طريق الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه برقم: 4371.
(3) انظر: الإجماع لابن المنذر ص46، والمغني لابن قدامة 3/105.
(4) انظر: الإجماع لابن المنذر ص46.
(5) مجموع الفتاوى 22/78.(1/2)
قال ابن القيم رحمه الله: وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة.(1)
حكم قصر الصلاة
تباينت آراء الفقهاء في حكم قصر الصلاة، فذهبوا بذلك إلى مذاهب عدة: فمنهم من قال على أن القصر فريضة واجبة، ومنهم من ذهب على أن قصر الصلاة رخصة إن شاء أتم وإن شاء قصر، ومنهم من ذهب على أن القصر هو سنة مؤكدة مثل الجماعة. وإليك تفصيل كل من المذاهب.
المذهب الأول:
ذهب الأمام أبو حنيفة، وأهل الظاهر، ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية، وهي رواية عن مالك على أن قصر الصلاة فريضة واجبة.
قال ابن عبد البر: فذهب الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن القصر واجب في السفر فرضا، وهو قول عمر بن عبد العزيز وحماد بن أبي سليمان وطائفة، وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن الجهمي.
وذكر بن الجهمي أن أشهب روى ذلك عن مالك، قال أبو عمر من ذهب إلى أن الركعتين في السفر فرض أبطل صلاة من أتم الصلاة في السفر عامدا أو رأى الإعادة عليه واجبة ركعتين، على أنهم اختلفوا في ذلك، فقال الثوري إن قعد المسافر في اثنتين لم يعد،
وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى المسافر أربعا متعمدا أعاد وإن كان ساهيا لم يعد، وقال الحسن بن حي من صلى في السفر أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإن طال ذلك في سفره وكثر لم يعد، وقال أبو حنيفة وأصحابه في المسافر يصلي أربعا عامداً بطلت صلاته وعليه الإعادة ركعتين، وإن صلاها ساهيا فإن قعد في اثنتين فقرأ التشهد قضيت صلاته، وإن لم يقعد فصلاته فاسدة.(2)
قال الشوكاني: وروي عن علي وعمر، ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم.
__________
(1) أنظر: زاد المعاد 168.
(2) أنظر الإستذكار لإبن عبد البر: 2/222-223.(1/3)
قال الخطابي: كان مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن الواجب في السفر القصر، وهو قول علي وعمر، وابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وقال حماد بن سليمان: يعيد من يصلي السفر أربعاً.(1)
واستدلوا على وجوب قصر الصلاة بأدلة كثيرة منها:
عن أمنا أم عبد الله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: فرضت الصلاة ركعتان ركعتان، فأقرّت صلاة السفر، وزيد في الحضر.(2)
وفي رواية عن عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان أول من افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثاً، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً في الحضر وأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر.
__________
(1) أنظر نيل الأوطار: 3/213.
(2) أخرجه مالك/ 335، والبخاري/ 3720، ومسلم/ 685، وأبو عوانة: 2/26، وابن حبان 2736، والنسائي/ 317، وأبو داود/ 1198، وابن أبي شيبة/ 8166، وأحمد/ 20684، والربيع/ 186، والطبراني في الكبير/ 6676، والشافعي: 1/156، وفي الأم: 1/180، وابن حزم في المحلى: 4/265، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/183، وأبو يعلى/ 2638، وابن راهويه/ 573، أنظر الإستذكار: 304.(1/4)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، والفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة.(2)
قال الشوكاني: فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله عز وجل فرض الصلاة، وهو أتقى وأخشى من أن يحكي أن الله فرض الصلاة بلا برهان.(3)
__________
(1) أخرجه أحمد/ 248، وابن ماجة/ 1054، والنسائي/ 118 وابن أبي شيبة/ 5851 ، وأبو يعلى / 241 ، والبزار/ 231، والطيالسي/ 136، وعبد الرزاق/ 4278، وابن حبان/ 2783، والطحاوي في شرح المعاني: 1/421، وابن حزم في المحلى: 4/265، وذكره ابن القيم في زاد المعاد: 1/467 قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: 3/86 رواه أحمد والنسائي وابن ماجه قال في النيل رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن زياد بن أبي الجعد وقد وثقه أحمد وبن معين، وصححه الألباني في إروا الغليل صفحة: 638.
(2) أخرجه مسلم/ 687، وأحمد/ 3332، وابن أبي شيبة/ 8282، وابن حبان/ 2868، وابن خزيمة/ 304، والنسائي/ 509، وأبو داود1247، وابن ماجة/ 1068، والبيهقي/ 5166، وسيعد بن منصور/ 2508، وأبو عوانة: 2/27، والطبراني/ 11042، والطحاوي في شرح المعاني: 2/421، وابن عبد البر في الإستذكار: 2/221، وفي التمهيد: 6/295 ، وابن حجر في الفتح: 1/465، وفي المحلى: 4/271، وفي تحفة الأحوذي: 3/85، وفي عمدة القاري: 7/123.
(3) أنظر نيل الأوطار 3/213.(1/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين . (1)
عن سماك الحنفي قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة.(2)
__________
(1) أخرجه أحمد/ 9189، قال الهيثمي في المجمع: 2/154 رواه أحمد وفيه عبيد الله بن زحر عن أبي هريرة ولم أجد من ترجمه وهكذا ضبطته من المسند بعد المراجعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، قلت: قال ابن حجر في تقريب التهذيب: 1/371 عبيد الله بن زحر: صدوق يخطىء، قال الذهبي في الكاشف: 1/680 فيه اختلاف وله مناكير ضعفه أحمد وقال النسائي لا بأس به. إلا أن المزي نقل عن الآجري قال أبو داود : سمعت أحمد يقول : عبيد الله بن زحر ثقة، وقال: ذكر ذلك عقيب شيء حكاه عن أبي داود عن أحمد بن صالح المصري وقال أبو زرعة لا بأس به صدوق، وقال أبو حاتم لين الحديث، وقال النسائي ليس به بأس، وقال أبو بكر الخطيب كان رجلا صالحا وفي حديثه لين روى له البخاري في الأدب والباقون سوى مسلم، وقال عباس الدوري وأبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين ليس بشيء وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين كل حديثه عندي ضعيف وقال أبو الحسن بن البراء عن علي بن المديني منكر الحديث أنظر تهذيب الكمال للمزي رحمه الله: 19/38. والحديث صحيح لشواهده.
(2) أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار/ 506، وإسناده حسن، وأورده السيوطي في الدر المنثور: 2/658 وقال: رواه ابن جرير وعبد بن حميد، وابن كثير في التفسير: 1/547، ورواه ابن ماجة/ 1194، من طريق إسماعيل بن موسى ثنا شريك عن جابر عن عامر عن بن عباس وبن عمر قالا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين وهما تمام غير قصر والوتر في السفر سنة.(1/6)
وفي الطبراني ولفظه: عن بن عمر رضي الله عنهما، قال: إنها ليست بقصر ولكنها تمام -يعني- الركعتين في السفر.(1)
وعن يزيد الفقير – وهو يزيد بن صهيب – قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الركعتين في السفر أأقصرها؟ قال لا، إن الركعتين في السفر ليستا بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال.(2)
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد ذكر الإتمام في السفر، فقال: لا، الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما.(3)
المذهب الثاني:
ذهب أصحاب المذهب الثاني على أنها رخصة إن شاء قصر وإن شاء أتم، وهو قول بعض أصحاب مالك، وأصحاب الشافعي، وأصحاب أحمد. وقول الشافعي الصحيح وأحمد في إحدى الروايتين أن القصر أفضل.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
ظاهر قوله تعالى: ( الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ )، يشعر بعدم الوجوب لأن رفع الجناح دليل على الإباحة لا على الوجوب، ولو كان القصر واجباً لجاء النص القرآني مفيداً ذلك.
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر حديث عائشة الثابت، وابن عباس وعمر رضوان ربي عليهم: ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع، كما قاله ابن عباس والله أعلم.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط/ 5829.
(2) أخرجه ابن خزيمة/ 1364، والطيالسي/ 1789، ومن طريقه البيهقي/ 5848، وابن حزم في المحلى 3/192، ورواه ابن المبارك في كتاب الجهاد/ ، وإسناده حسن.
(3) أخرجه ابن حزم في المحلى 3/191.(1/7)
لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم على أن صلاة السفر ركعتان، وأنها تامة غير مقصورة، كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) قصر الكيفية كما في صلاة الخوف، ولهذا قال: ( إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) الآية، ولهذا قال بعدها: ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ ) الآية.
فبين مَن المقصود بالقصر ههنا وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ – إلى قوله تعالى – حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا )، وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط عن السدي في قوله: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ ) الآية، أن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة...انتهى كلام ابن كثير.(1)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: والكتاب يدل على أن القصر بلا خوف رخصة من الله عز وجل لا لأنه حتماً عليهم أن يقصروا، كما كان ذلك في الخوف والسفر.
وقال: فالإختيار والذي أفعل مسافراً، وأحب أن يُفعل، قصر الصلاة في الخوف والسفر، وفي السفر بلا خوف، ومن أتم الصلاة فيهما لم تفسد صلاته، جلس في مثنى قدر التشهد أو لم يجلس، وأكره ترك القصر، وأنهى عنه إذا كان رغبة عن السنة.(2)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 2/258 و 259.
(2) الأم: 2/356.(1/8)
فعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ( الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). فقد أمن الناس. قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.(1)
قال العيني في عمدة القاري: ولنا أحاديث منها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث ابن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة رواه مسلم.
ومنها حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في (صحيحه) والجواب عن حديث يعلى بن أمية أنه دليلنا لأنه أمر بالقبول والأمر للوجوب.(2)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 686، والنسائي/ 594، وأبو داود/ 1199، وابن ماجة/ 1065، وأحمد/ 174، والبيهقي/ 5161، والمنتقى لإبن الجارود/ 146، وابن حبان/ 2741، وابن خزيمة/ 945، وابن أبي شيبة/ 8159، وعبد الرزاق في المصنف/ 4275، وأبو يعلى في المسند/ 181، والشافعي في المسند: 1/24، وفي الأم: 1/179، وابن عبد البر في الإستذكار: 2/217، وابن حزم في المحلى: 4/267، والطحاوي في شرح المعاني: 1/415.
(2) عمدة القاري للعيني: 4/52.(1/9)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة.(1)
قال ابن عمر رضي الله عنهما عندما سأله أبي الودّاك عن الركعتين في السفر فقال: هي رخصة نزلت من السماء فردوها.(2)
وعند الطبراني كذلك عن أبي الكنود قال سألت بن عمر عن صلاة السفر فقال ركعتان نزلتا من السماء فإن شئتم فردوها.(3)
وأخرج عبد الرزاق عن داود بن أبي عاصم قال سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ركعتان، قلت: كيف ترى ونحن ههنا بمنى، قال: ويحك سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، قلت: نعم، قال: فإنه كان يصلي ركعتين! فصل ركعتين إن شئت أو دع.(4)
__________
(1) أخرجه أحمد/ 5392، وعبد ابن حميد/ 841، والطبراني/ 4535، وأرده المنذري في الترغيب والترهيب/ 1608، والديلمي في الفردوس/ 5957، ورواه أحمد والطبراني في الكبير وإسناد أحمد حسن وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يقبل رخصة الله عز وجل كان عليه من الذنوب مثل جبال عرفة رواه أحمد والطبراني في الأوسط وفيه رزيق الثقفي ولم أجد من وثقه ولا جرحه وبقية رجاله ثقات وعن عمرو بن حزم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يقبل رخصة الله فعليه من الإثم مثل جبال عرفات آثما رواه الطبراني في الكبير وفيه سليمان بن عمرو بن إبراهيم الأنصاري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
(2) أخرجه الطبراني في الصغير/ 997، قال الهيثمي في الزائد: 2/154 رجاله موثوقون، وأورده ابن كثير في تفسيره: 1/546 وقال: قال رواه ابن مردويه .. الحديث....
(3) نفسه.
(4) أخرجه /4279، ومن طريقه ابن حزم المحلى: 5/31، وإسناده صحيح.(1/10)
قلت: فهؤلاء التابعين الثلاثة سألوا الصحابي ابن عمر رضي الله عنهما عن الركعتين في السفر، فقال: هي السنة التي يجب اتباعها، وهي الصدقة التي أمر بقبولها، والذي لا يعجبه ذلك فليصل أربعاً ويرد الصدقة الى الله سبحانه وتعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقصر الصلاة في سفري؟ قال: نعم إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بفريضته.(1)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه.(2)
وفي رواية عن نافع عن بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته.(3)
قال الشوكاني رحمه الله: وفي أن الله يحب إتيان ما شرعه من الرخص، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية دليل على أن ترك إتيان الرخصة ترك الطاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية.(4)
__________
(1) أخرجه ابن جرير وصححه/ 504، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال/ 22718.
(2) أخرجه رواه ابن حبان/ 354، والبيهقي/ 5199، وفي شعب الإيمان/ 3889، ورواه في الأوسط/ 8032، كذلك القضاعي في الشهاب/ 1079 عن أمنا رضي الله عنها، وفيه قالت: وما عزائمه قال: فرائضه. ورواه ابن حبان /354، وابن أبي شية/ 1611، والمنذري/ 1611 عن ابن عباس رضي الله عنها، ورواه والطبرني في الكبير/ 10030، وفي معجم الشيوخ/ 386 عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه ابن أبي شيبة/ 26471 موقوفا عليه.
(3) أخرجه ابن حبان/ 2742، وقال الهيثني في مجمع الزوائد: 3/162 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(4) نيل الأوطار 3/233.(1/11)
وعند ابن جرير، عن سعيد بن المسيب أن رجلا سأله: أتم الصلاة وأصوم في السفر؟ فقال: لا، قال: إني قوي على ذلك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى منك وكان يفطر في السفر ويقصر الصلاة، وقال: خياركم من قصر الصلاة، وأفطر في السفر - وفي لفظ - وقال سعيد: إنه قال: خيركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر.(1)
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب المعرفة، ورواه ابن حجر في تلخيص الحبير برقم/ 619 وقال: عن جابر رفعه: خياركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر، قال أبو حاتم غالب بن فائد: ليس به بأس، ورواه أيضا عن سهل بن عثمان العسكري عن غالب نحوه، ورواه الطبراني في الدعاء والأوسط من حديث بن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: خير أمتي الذين إذا أساؤا استغفروا وإذا أحسنوا استبشروا وإذا سافروا قصروا وأفطروا، ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب الأحكام له عن نصر بن علي عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عروة بن رويم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكر نحوه، وهو مرسل، ورواه فيه أيضا عن إبراهيم بن حمزة عن عبد العزيز بن محمد عن بن حرملة عن سعيد بن المسيب بلفظ: خيار أمتي من قصر الصلاة في السفر وأفطر، وهكذا رواه الشافعي عن بن أبي يحيى عن بن حرملة بلفظ خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة وأفطروا أو قال لم يصوموا، واخرجه ابن جرير الطبري/ 738، أورده المناوي في فيض القدير: 3/467 ، وقال ورواه إسماعيل القاضي في كتاب الأحكام عن عروة بن رويم مرسلا، ووصله أبو حاتم في العلل عن جابر يرفعه بلفظ خياركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر، رواه الديلمي في مسند الفردوس/ 2859.(1/12)
عن سالم عن أبيه قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع عمر فكانا لا يزيدان على ركعتين، وكنا ضلالاً فهدانا الله.(1)
قال الشوكاني: فإن الظاهر في قوله صدقة إن القصر رخصة فقط، وأجيب: بأن الأمر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها وهو المطلوب.(2)
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ولم يخص عليه الصلاة والسلام سفراً من سفر بل عم فلا يجوز تخصيص ذلك، ولم يجز رد صدقة الله تعالى التي أمر عليه الصلاة والسلام بقبولها، فيكون من لا يقبلها عاصيا.ً(3)
قال ابن تيمية رحمه الله: وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها وإن شئنا لم نقبلها فإن قبول الصدقة لا يجب، ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين، وهذا غلط فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا، والأمر للإيجاب وكل إحسانه إلينا صدقة علينا، فإن لم نقبل ذلك هلكنا.(4)
قلت: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي.(5)
__________
(1) إسناده لا بأس به: أخرجه أحمد في المسند/5698، ورواه أبو يعلى في المسند/5557 من طريق أبو خيثمة عن عبد الصمد به، ورواه أحمد عن عفان به أيضاً، وفيه مطر الوراق وهو صالح الحديث كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقال البخاري: لا بأس به، وليس بالقوي قاله النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وبقية رجال الحديث ثقات.
(2) نيل الأوطار 3/214.
(3) المحلى 3/19.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل 2/29.
(5) أخرجه البخاري/ 6810، وابن خزيمة/397، وابن حبان، 1658، والدارمي/ 1253، والبيهقي/ 3672، والدارقطني/ 1، والشافعي في المسند: 3/55.(1/13)
وعن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم.(1)
وفي رواية البيهقي: كان يقصر وتتم، ويفطر وتصوم.
قال ابن حجر في التلخيص: وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة.
قال ابن تيمية: والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر وتتم، ويفطر وتصوم. باطل في الإتمام، وإن كان صحيحاً في الإفطار بخلاف النقل المتواتر المستفيض.(2)
قال الشوكاني: واختلف قول الدارقطني فيه: فقال في السنن: إسناده حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه، قال في البدر المنير: إن في متن الحديث نكارة.(3)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت يا عائشة.(4)
قال ابن تيمية رحمه الله: فهذا لو صح لم يكن فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم أتم، وإنما فيه إذن في الإتمام، مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح بل هو خطأ لوجوه:
أحدها: أن الذي في الصحيحين عن عائشة: أن الصلاة ركعتان. وقد ذكر ابن أخيها وهو أعلم الناس بها: أنها أتمّت الصلاة في السفر بتأويل تأولته، لا بنص كان معها. فعلم أنه لم يكن معها فيه نص.
__________
(1) أخرجه الدارقطني/44، والبيهقي في الصغرى/ 596، وذكره العقيلي في الضعفاء: 4/175، ورواه البيهقي/ 5208، وابن عبد البر في التمهيد من طريق المغيرو بن زياد عن عطاء والمغير متكلم فيه، قال ابن حزم في المحلى: 3/191 أما حديث عطاء فانفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غير. قال الإمام أحمد: هو ضعيف وكل حديث أسنده فهو منكر، نقل ابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/85 قول الأمام أحمد.
(2) أنظر: مجموع الفتاوى: 22/78.
(3) أنظر: نيل الأوطار 3/215.
(4) أخرجه: رواه البيهقي/ 5207، والدارقطني/ 39.(1/14)
الثاني: أن في الحديث أنها خرجت معتمرة معه في رمضان، وكانت صائمة، وهو كذب باتفاق أهل العلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم، بطل هذا الحديث.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سافر في رمضان غزوة بدر فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة، وأما غزوة الفتح فقد صام فيها أول سفره ثم أفطر، خلاف ما في هذا الحديث المفتعل.
الرابع: أن عائشة لم تكن بالتي تصوم وتصلي طول سفرها إلى مكة، وتخالف فعله بغير إذنه، بل كانت تستفتيه قبل الفعل، فإن الإقدام على مثل هذا لا يجوز.(1)
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم رواه الدارقطني فهو حديث فيه كلام لا يصلح للاحتجاج وإن صحح الدارقطني إسناده، وكذا حديثها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال أحسنت يا عائشة .
رواه الدارقطني لا يصلح للاحتجاج وإن حسن الدارقطني إسناده
وقد بين الشوكاني في النيل عدم صلاحيتهما للاحتجاج في النيل بالبسط من شاء الوقوف عليه فليرجع إليه.(2)
قال أبو عمر كانت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين فكانت تقول كل موضع أنزله بعض بنى فتعد ذلك منزلا لها وتتم الصلاة من أجله، وهذا عندي فاسد لأن عائشة وإن كانت هى أم المؤمنين، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين، وهو أولى بهم من عائشة فقد كان ينزل في منازلهم فلا يخرج بذلك من حكم السفر الذي يقصر فيه الصلاة إلى حكم الإقامة التي تكمل فيها الصلاة.(3)
__________
(1) الفتاوى22/80 و 81.
(2) أنظر: تحفة الأحوذي: 3/85.
(3) أنظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1/427.(1/15)
عن أبي نجيح المكي أنه قال: إصطحبت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر، وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء.(1)
قال الشوكاني: ولم نجد في صحيح مسلم قوله فمنهم القاصر ومنهم المتم، وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار. وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى الله عليه اطلع على ذلك وقررهم، وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك.(2)
قال ابن تيمية: فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي: أن الأصل أربع وإنما الركعتان رخصة.(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وكذلك عثمان.(4)
وفي رواية لمسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتم.
__________
(1) أورده النووي، وعزاه لمسلم في المجموع شرح التقريب 2/224، وأخرجه ابن أبي شيبة/ 8190.
(2) أنظر: نيل الأوطار 3/214.
(3) أنظر: مجموع الفتاوى 2/81.
(4) أخرجه البخاري/ 1051، ومسلم/ 694 بلفظ: ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتم.، والنسائي/ 1916، وأبو عوانة: 2/336.(1/16)
وفي رواية أخرى لمسلم وغيره: عن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: صحبت بن عمر في طريق مكة قال فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء، قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي، يا بن أخي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وقد قال الله ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).(1)
عن أبي نضرة قال سئل عمران بن حصين عن صلاة المسافر فقال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، وحججت مع أبي بكر فصلى ركعتين، ومع عمر فصلى ركعتين، ومع عثمان ست سنين من خلافته أو ثماني سنين فصلى ركعتين.(2)
قال النووي: وتأول العلماء هذه الرواية على أن المراد أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى والروايات المشهورة باتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة، وقد فسر عمران بن الحصين في روايته أن اتمام عثمان إنما كان بمنى وكذا ظاهر الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا.(3)
وعن الزهري عن عروة عن عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر قال: الزهري فقلت: لعروة ما بال عائشة تتم في السفر قال إنها تأولت كما تأول عثمان.(4)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 689، وابن ماجة/ 1071، والبيهقي/ 5295، وأبو يعلى/ 5778.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة/ 13977، والترمذي/ 545، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أنظر: شرح مسلم للنووي: 5/199.
(4) أخرجه مسلم/ 685، والدارمي/ 1509، أنظر فتح الباري: 1/564، وشرح مسلم للنوي: 5/195.(1/17)
قال ابن القيم رحمه الله: وكان ذلك أحدَ الأسباب التي أُنكِرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجُوا تلك السنة، فأراد أن يُعلِّمَهم أن فرضَ الصلاة أربع، لئلا يتوهَّموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا حديثي عهد بالإِسلام، والعهدُ بالصلاة قريبٌ، ومع هذا، فلم يُربِّعْ بهم النبي صلى الله عليه وسلم.
التأويل الثاني: أنه كان إماماً للناس، والإِمام حيث نزل، فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه، ورُدَّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإِطلاق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك، وكان هو الإِمامَ المطلق، ولم يُربِّع.
التأويل الثالث: أن مِنى كانت قد بُنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت فضاءً، ولهذا قيل له: يا رسول الله ألا نبني لك بمِنى بيتاً يُظِلُكَ مِن الحر؟ فقال: لا منى مُنَاخُ مَنْ سَبَق. فتأوَّل عثمانُ أن القصر إنما يكون في حال السفر. هذا التأويلُ بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصُر الصلاة.
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُقيمُ المُهَاجر بَعْدَ قَضَاءِ نسُكِهِ ثَلاثاً. فسماه مقيماً، والمقيم غيرُ مسافر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإِقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصُر الصلاة، وأقام بمِنى بعد نسُكه أيامَ الجمار الثلاث يقصُرُ الصَّلاة.(1/18)
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإِقامة والاستيطان بمِنى، واتخاذِها دارَ الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يَرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم مِن شراء المتصدِّق لصدقته، وقال لعمر: لا تَشتَرِهَا، ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ. فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهَّل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ويُروى في ذلك حديث مرفوع، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي، عن ابن أبي ذُباب، عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل مِنى أربعاً وقال: يا أيُّها الناسُ! لما قَدِمتُ تأهَّلت بها، وإني سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تَأهَّل الرَّجُل بِبَلْدَةٍ، فإنَّه يُصَلِّي بها صلاةَ مُقيم. رواه الإِمام أحمد رحمه اللّه في مسنده، وعبد الله بن الزبير الحُميدي في مسنده، أيضاً، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم. قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادتُه ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج، لزمه الإِتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتُذِر به عن عثمان.(1)
__________
(1) زاد المعاد: 1/220.(1/19)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين، ومع أبي بكر وعمر ركعتين، ثم تفرقت السبل فوالله لوددت أن أخص من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.(1)
وفي رواية قال: إن لله وإن إليه راجعون صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا يدل على أنه كان يرى الإتمام جائزاً وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها فإنها كانت تكون فاسدة كلها، وإنما استرجع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى.
ويؤيده ما روى أبو داود: أن ابن مسعود صلى أربعاً، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً فقال: الخلاف شر.
وفي رواية البيهقي: إني لأكره الخلاف، ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول، وهذا يدل أنه لم يكن يعتقد أن القصر واجب كما قال الحنفية ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد، ونقل الداوودي عن ابن مسعود انه كان يرى القصر فرضاً، وفيه نظر لما ذكرته. أ هـ(2)
قال ابن القيم: ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلافائه على صلاة ركعتين في السفر.(3)
المذهب الثالث:
__________
(1) أخرجه البخاري/ 1034 ، ومسلم/ 695، والنسائي في الكبرى/ 513، وأحمد/ 3953، والدارمي/ 1874 والبيهقي/ 5218، والطيالسي/ 318، رواه ابن خزيمة/ 2962، والبزار/ 1480، وأبو داود، وابن أبي شيبة، والطبراني في الأوسط والكبير/ 10141، والصغير/ 759،، والروياني/ 459، والشاشي/ 459، شرح معاني الآثار: 1/416.
(2) أنظر فتح الباري2/719.
(3) أنظر زاد المعاد 175.(1/20)
ذهب أصحاب المذهب الثالث على أنها سنة مؤكة آكد من الجماعة والإتمام مكروه، وهو أرجح الأقوال وهو قول مالك في إحدى الروايتين وهو أشهر الأقوال عنه، وأحمد في الرواية الأخرى.
قال ابن رشد ومذهب مالك رحمه الله أصحابه الذي تأتي عليه مسائلهم ومسائله إن قصر الصلاة في السفر سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيره خطيئة، فلذلك قال: إنه لا ينبغي لهم أن يقدموا مقيماً يتم بهم الصلاة لأن فضيلة السنة في القصر أكثر من فضيلة الجماعة.(1)
وهذا ما رجحه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله وجمع كثير من مشايخنا المتأخرين، وإستدلوا بإدلة كثيرة منها ما ذكرناها آنفاً. ونستفيض بأحاديث أخرى:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي في السفر ركعتين.(2)
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة السفر ركعتان من ترك السنة فقد كفر.(3)
قال ابن تيمية: أي من اعتقد أن الصلاة ركعتين ليس بمسنون ولا مشرع فقد كفر.(4)
قال ابن عبد البر في التمهيد: قال أبو عمر الكفر ههنا كفر النعمة وليس بكفر ينقل عن الملة كأنه قال كفر لنعمة التأسي التي أنعم الله على عباده بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه الأسوة الحسنة في قبول رخصته كما في امتثال عزيمته صلى الله عليه وسلم(5)
__________
(1) مواهب الجليل 2/151.
(2) أخرجه النسائي في المجتبى /457.
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط/ 7846، والبيهقي في الكبرى/ 5202، وعبد الرزاق في المصنف/ 4281، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/422، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رجاله رجال الصحيح، والمتقي الهندي في كنز العمال/ 20185، والديلمي في الفردوس، وابن عبد البر في التمهيد: 11/175، قال ابن حجر في المطالب العالية: إسناده صحيح.
(4) الفتاوى 22/79.
(5) التمهيد لإبن عبد البر: 11/ 175و176.(1/21)
وقال ابن تيمية: من قال أنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعاً فهو بمنزلة من قال: أنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان كلاهما ضلال مخالف لإجماع المسلمين يستتاب قائله، فإن تاب وإلا قتل.(1)
وعن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة، والصوم، وعن الحبلى والمرضع.(2)
وفي رواية: إن الله وضع عن المسافرالصوم وشطر الصلاة.
وفي رواية: إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم.
وقد روى الخطيب البغدادي بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة المسافر ركعتان حتى يؤوب إلى أهله أو يموت.(3)
وروى ابن جرير ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : " المسافر يصلي ركعتين حتى يرجع إلى أهله .(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/31.
(2) أخرجه أبو داود/ 2408، والنسائي في الكبرى وفي المجتبى برقم/ 2275، والترمذي/ 711 وقال: حديث حسن، وابن ماجة/ 1667، وأحمد: 4/47 ، والبيهقي في الكبرى/ 7869، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/422، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني: 3/163، وعبد بن حميد في مسنده/ 431، والطبراني في الكبير/ 765 و 766 و 767، والسراج في المسند كما قال العيني في عمدة القاري، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير/ 1831، ورواه ابن حزم في المحلى: 5/32 عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، وإسناده جيد كما قال العيني رحمه الله. واورده المتقي الهندي في كنز العمال برقم 20181، والديلمي في الفردوس/ 650، والتمهيد لإبن عبد البر: 16/312.
(3) وأورده الديلمي في مسند الفردوس/ 3719، والمتقي الهندي في كنز العمال/ 20169.
(4) تهذيب الآثار/ 736.(1/22)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر كلهم صلى من حين خرج من المدينة إلى أن يرجع إليها ركعتين في المسير والمقام بمكة .(1)
وعن ثمامة بن شراحيل قال: خرجت إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: ما صلاة المسافر فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً.(2)
وروى الطرسوسي عن ابن عمر رضي الله عنهما: صلاة المسافر بمنى وغيرها ركعتان.(3)
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال: من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين.(4)
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين، وسن صلاة الحضر أربع ركعات.(5)
عن ابن عباس قال: إن الله أنزل جملة الصلاة، وأنه فرض للمسافر صلاة وللمقيم صلاة، فلا ينبغي للمقيم أن يصلي صلاة المسافر ولا ينبغي للمسافر أن يصلي صلاة المقيم.(6)
__________
(1) أخرجه أبو يعلى/ 5862، قال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى رجال الصحيح 2/156 .
(2) أخرجه أحمد/ 5552، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات 2/158، وأورده ابن حجر في فتح الباري 2/572.
(3) وأورده والمتقي الهندي في كنز العمال/ 20174، والمناوي في فيض القدير 4/223.
(4) أخرجه أحمد /2262، وابن حزم في المحلى 3/191. قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد وفيه حميد بن علي العقيلي قال الدارقطني : لا يحتج به، وذكره ابن حبان في الثقات 2/155، وأورده ابن عبد البر في التمهيد: 16/298، وابن قدامة في المغني: 2/54.
(5) إسناده حسن،: أخرجه الطبراني /10982 من طريق يحيى بن عبدالله البابلتي عن الأوزاعي به.
(6) أخرجه عبد الرزاق في مصنف/ 4466، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال/ 22779.(1/23)
عن المسور بن مخرمة : أنهم كانوا يصلون مع سعد بقرية من قرى الشام أربعا ، وسعد يصلي ركعتين.(1)
عن زكرياء بن عمر أن سعد بن أبي وقاص وفد إلى معاوية فأقام عنده شهرا يقصره أو شهر رمضان فأفطره.(2)
وروى أبي إسحاق السبيعي، عن أبي ليلى قال: أقبل سلمان في اثني عشر راكباً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فقالوا: تقدم يا أبا عبد الله، فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم، إن الله هدانا بكم. قال: فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعاً. قال سلمان: ما لنا وللمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج.(3)وفي رواية: تكفينا نصف المربوعة ، نحن إلى التخفيف أفقر.(4)
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تهذيب الاثار/ 511، والبيهقي في المعرفة كما في نصب الراية للزيلعي: 2/185، والدارية لإبن حجر العسقلاني: 1/212 وإسناده على شرط الشيخين، ورواه الطحاوي في شرح المعاني: 1/420 ، وابن عبد البر في التمهيد: 16/309 من طريق مالك عن الزهري عن رجل مجهول، ورواه ابن جرير في التهذيب/ 512 من طريق وهب، ورواه الطحاوي: 1/419 من طريق شعبة، ورواه عبد الرزاق/ 4350، وابن جرير/ 513 من طريق سفيان الثوري، وابن أبي شيبة/ 8200 من طريق مسعر وسفيان، وأورده ابن قدامة في المغني: 2/68 عن عبد الرحمن بن المسور عن أبيه وعزاه للأثرم، ونقله ابن تيمية عن الأثرم أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/289.
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4351.
(3) أخرجه عبد الرزاق/ 4283 و /10429، ومن طريقه البيهقي/ 5224، والطاحوي في شرح المعاني: 1/419 و 1/420، والطبراني في الكبير/ 6053، وأبو نعيم في الحلية: 1/189، وأورده ابن عبد البر في التمهيد: 16/ 308.
(4) أخرجه: ابن جرير في التهذيب/ 515 من طريق زائدة، وابن أبي شيبة/ 8161 من طريق وكيع ، كذلك في المطالب العالية/ 729 قال الألباني في إرواء الغليل/ 6/218 وهذا سند صحيح.(1/24)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه خلاف السنة المعروفة عندهم، فإنه لم تكن الأئمة يربّعون في السفر. وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة وهي مأمور بها.(1)
وروى سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: اعتلّ عثمان وهو بمنى فأتى علي فقيل له: صل بالناس. فقال إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين يعنون أربعاً، فأبى.(2)
قال أبو جعفر فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفره يقصر الصلاة حتى يرجع الى أهله.(3)
قلت: إن القصر هو السنة الثابتة المؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي داوم عليها، ولم يفعل سواها البتة، وهذا ما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، والتي لا يجوز إلا اتباعها.
والعجب كل العجب من بعض الشافعية والحنابلة يقولون بقضاء سنة الفجر لتأكدها بينما يخيرون المسافر بين الإتمام والقصر بعد تأكد سنته بأقواله وأفعاله بصلاته ركعتين في السفر والتي لم يفعل غيرها في أسفاره كلها.
قال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه التي اتفقت الأمة على نقلها عنه: أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين، ولم يصليها في السفر أربعاً قط، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في حج ولا في عمرة، ولا في جهاد.(4)
وقال رحمه الله: فثبت في السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات أخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي سنّه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي إن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة.(5)
النية في القصر
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 283.
(2) المحلى: 4/270.
(3) شرح معاني الآثار 1/419.
(4) الفتاوى 22/543.
(5) الفتاوى 22/81.(1/25)
نية القصر ليست شرطاً في الصلاة لعدم الدليل ولأن الرسول صلى الله عليه لم يأمر الصحابة بذلك فيلزم المأموم متابعة إمامه في الإتمام والقصر ولأن القصر هو الأصل في السفر فلا يحتاج إلى نية كالإتمام في الحضر .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية، وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قاله جماهير العلماء، وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره، بل والأثرم وأبي داود، وابراهيم الحربي وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع.
وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أم لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، وما علمت أحداً من الصحابة والتابعين لم بإحسان اشترط نية لا في قصر ولا في جمع ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعاً كان ذلك مكروهاً كما لم ينوه.
ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم مع أن أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجون معه وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر إما لحدوث عهده بالإسلام وإما لكونه لم يسافر بعد، لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر، وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد ان أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.... انتهى كلام ابن تيمية.(1)
القصر للخائف والآمن
اتفق السواد الأعظم من فقهاء أهل السنة على أن للمسافر القصر كان خائفاً أم آمناً، وأدلة ذلك:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 292.(1/26)
عن يعلى بن أمية رضي الله قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما قال تعالى: (أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) فقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.(1)
وفي رواية: عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس اليوم وإنما قال تعالى: (الآية).
قال ابن تيمية رحمه الله: فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقاً مشروط بعدم الأمن.(2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين.(3)
عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.(4)
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) مجموع الفتاوى 22/543.
(3) أخرجه: الترمذي/ 502 وقال حديث حسن صحيح، ورواه النسائي/ 1419 قال: إسناده صحيح، وأحمد/ 3163، والبيهقي/ 5167، والطبراني في المعجم الكبير/ 12855،وابن جرير في التهذيب/ 453، السنن المأثورة/ 13، وأورده ابن عبد البر في التمهيد: 16/301.
(4) أخرجه البخاري/696، ومسلم/ 1033، والترمذي/ 822، والنسائي في المجتبى/ 1445، وأبو يعلى/ 1474، والطبراني في الكبير/ 3242.(1/27)
وعن أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال عبد الله: يا بن أخي إن الله بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا يفعل.(1)
وقد أخرج ابن جرير عن أبي المنيب الجرشي أنه قيل لإبن عمر رضي الله عنهما: قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ) الآية: فنحن آمنون لا نخاف فنقصر، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.(2)
__________
(1) أخرجه مالك / 334، من طريق ابن شهاب عن رجل من آل خال بن أسيد وهو أمية بن عبد الله بن خالد وثقه العجلى في معرفة الثقات: 1/236، وذكره ابن حبان في الثقات: 4/40، ووثقه ابن حجر في تقريب التهذيب: 1/114، والذهبي في الكاشف: 1/255، وأخرجه أحمد من طريق مالك/ 5081، وأخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار/ 517 من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أمية بن عبد الله بن خالد، وأخرجه النسائي/ 1852، وابن ماجة/ 1066، وأحمد/ 5683، وابن حبان/ 1451، وابن خزيمة/ 946، والربيع/ 187، وعبد الرزاق/ 4276، كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد، وعبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن قال فيه ابن حجر في تقريب التهذيب: 1/297 صدوق وقال فى تهذيب التهذيب: 5/164 و سماه ابن سعد لما عد أولاد أبى بكر بن عبد الرحمن : عبد الرحمن . و قال ابن خلفون : وثقه ابن عبد الرحيم، وذكره ابن عدى، و نقل عن البخارى أنه قال : لا يصح حديثه . اهـ، والحاكم في المستدرك/ 946 وقال: هذا حديث رواته ثقات ولم يخرجاه، وأورده والمتقي الهندي في كنز العمال/ 22744، وابن عبد البر في الإستذكار: 2/215. قال المزي في تهذيب الكمال: 3/373 رواه النسائي عن قتيبة فوقع لنا موافقة له عالية ورواه بن ماجة عن محمد بن رمح عن الليث.
(2) أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار/ 699، وأورده في كنز العمال/ 22747.(1/28)
عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: ركعتان، قلت: إنا آمنون لا نخاف أحداً قال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(1)
وأورده ابن عبد البر في الإستذكار: عن أبي حنظلة الحذاء قال قلت لابن عمر رضي الله عنهما أصلي ركعتين في السفر والله تعالى يقول ( إِنْ خِفْتُمْ ) ونحن نجد الزاد والمزاد فقال كذا سن رسول الله.(2)
من هو المسافر الذي يباح له القصر
تبين من الأحاديث السالفة الذكر أن مطلق السفر مبيحاً للقصر ولو كان سفر معصية. لأن الأحاديث لم تفرق بين سفر وسفر.
وبهذا قال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، وداود الظاهر، وعبد الرحمن الأوزاعي، والمزني.
قال الشوكاني: سواء "أي السفر"، كان طاعة أو معصية فهو صواب وأن الأدلة الآنفة الذكر لم تفرق بين سفر وسفر، ومن ادعى فعليه الدليل.(3)
أما الشافعية، والحنابلة، والمالكية: فاشترطوا في القصر أن يكون السفر سفر طاعة: كالجهاد، والحج، والعمرة، وطلب العلم، وغير ذلك، أو يكون سفراً مباحاً كالتجارة والسياحة. واستدلوا بذلك بحديث مرسل رواه ابن أبي شيبة عن ابراهيم قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين.(4)
__________
(1) أخرجه أحمد/ 6194، وابن أبي شيبة/ 8158، والدولابي في الكنى بإسناد صحيح، وأورده السيوطي في الدر المنثور: 2/655، وابن كثير في التفسير: 1/545.
(2) الإستذكار 2/216.
(3) السيل الجرار 1/208.
(4) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة/ 4162، وأورده ابن كثير: 1/545 من طريقه وقال فهذا مرسل، قال ابن حجر في الدارية: 1/37 وأخرج ابن عدي في الكامل عن يحي بن معين قال مراسيل إبراهيم النخعي صحيحة إلا حديث تاجر البحرين وحديث القهقهة.(1/29)
قلت: فإن صح هذا الحديث فليس فيه دليل واضح على أن شرط القصر السفر المباح، والظاهر أن الصحابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تاجر ويذهب إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين، وهل يظن ظان أن أحداً يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا رسول الله إني أسافر لقطع الطريق أصلي ركعتين أم أربع؟ لكان منعه رسول الله من السفر أصلاً، ولو افترضنا أن أحداً سافر لقطع الطريق أو غيره أنقول له: أترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة ولا تصلي ركعتين وصلي أربعاً، أو لو افترضنا أن احداً سافر للتجارة وكان يصلي ركعتين فطرأ عليه أمر ما ولم يتجار، وعصى الله سبحانه وتعالى بأمر ما، هل يبدأ بالتربيع لأنه لم يتاجر وعصى الله سبحانه وتعالى. فالسفر هو السفر، والسنّة هي السنّة.
وأقول: والحديث نفسه دليل عليهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخير السائل أن يصلي ركعتين إن شاء وإن شاء أربع. بل أمره أمراً واضحاً بأن يصلي ركعتين... والرحمن تعالى ذكره أعلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعاً في جنس السفر ولم يخص سفراً من سفر وهذا القول هو الصحيح، فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، قال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ،(1)كما قال تعالى في آية التيمم: (وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) .(2)وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط احد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفر من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراماً ومباحاً، ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات، ولو بين ذلك لنقلته الأمة ما علمت عن الصحابة في ذلك شيئاً.(3)
الفرق بين السفر الطويل والقصير
__________
(1) سورة البقرة/ 184.
(2) سورة النساء/43.
(3) مجموعة الرسال والمسائل/ 295.(1/30)
قال ابن تيمية رحمه الله: هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها مطلقاً كقوله تعالى: (وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ )، وقوله تعالى في آية الصيام: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )، وقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة.(1)وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر.(2)
وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) حديث متواتر: أخرجه مسلم/ 414، والنسائي/ 128، وأبو داود/ 135، وابن ماجة/ 547، وأحمد/ 1181، وابن خزيمة/ 194، وابن حبان/ 1330، والبيهقي/ 1260، ومصنف ابن أبي شيبة/ 1366، وأبو يعلى/ 264، وابن حزم في المحلى: 2/82، وابن الجعد/ 2282، وأورده ابن حجر في الدارية: 1/727 إلى /77 وذكر في المسح من ستة وأبعون وجهاً ، والزيلعي: 1/166.(1/31)
وقول صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم.(1)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم.(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله.(3)
فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وقصير فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع بينه فرقاً لا أصل له في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(4)
__________
(1) أخرجه: الشافعي: 1/17، والترمذي/ 98 وصححه، والنسائي/ 126، وابن ماجة/ 478، واحمد/ 17396،وابن الجعد/ 2587 والمنتقى لإبن الجارود/ 4، وابن خزيمة/ 17، وابن حبان/ 1100، وسنن سعيد بن منصرو/ 940، والبيهقي/ 557، والطحاوي في شرح المعاني: 1/81، والطبراني في الأوسط/ 1124، وفي الكبير/ 7351، وأبو نعيم في الحلية: 7/308، والخطيب في التاريخ: 11/247، وأورده ابن حجر في التلخيص: 1/157 وقال: قال الترمذي عن البخاري حديث حسن وصححه الترمذي، والزيلعي في نصب الراية: 1/164.
(2) أخرجه البخاري/ 2996، وأبو داود/ 2687، واحمد/ 418 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) أخرجه مالك/ 1552، ومن طريقه البخاري/ 1804، ومسلم/ 3554، والنسائي/ 8783، وابن ماجة/ 2873، واحمد/ 6927، والدرارمي/ 2554، وابن حبان/ 2708، وأبو عوانة/ 7595، والبييهقي/ 10141، وعبد الرزاق/ 9255، والطبراني في الأوسط/ 4451.
(4) مجموع الرسائل والمسائل: 243 و 245.(1/32)
فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر لا بقصر ولا بفطر ولا تيمم ، ولم يَحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد لا زماني ولا مكاني . ولا يمكن أن يُحدّ ذلك بِحَدٍّ صحيح ، فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار ، وحركة المسافر تختلف ، والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع ، ويُقيَّد ما قيّده ، فيَقْصُر المسافر الصلاة في كل سفر ، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة والمسح على الخفين ، ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل ، وخَصّ بعض الأحكام بهذا ، وبعضها بهذا ، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل ، فليس معه حجة يجب الرجوع إليها.(1)
قال ابن القيم: ولم يحدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، واللّه أعلم.(2)
متى يبدأ المسافر بقصر الصلاة
ذهب الجمهور الأكثر من العلماء على أن المسافر يبدأ بقصر الصلاة من حين تجاوز أبنية البلدة التي يسكن فيها.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المريد للسفر أن يقصر إذا خرج من جميع القرية التي يخرج منها.(3)
قال الإمام مالك : لا يَقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ، ولا يتم حتى يدخلها أو يقاربها(4).
قال ابن عبد البر رحمه الله : وهو مذهب جماعة العلماء إلا من شذّ .
وقال : فإذا تأهّب المسافر وخرج من حَضَرِه عازما على سفره فهو مسافر ، ومن كان مسافرا فله أن يُفطر ويقصر الصلاة إن شاء . اهـ(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى 24 / 12 ، 13 .
(2) زاد المعاد 175 (الطبعة الجديدة).
(3) نيل الأوطار 3/219.
(4) الاستذكار 6 / 78 .
(5) المرجع السابق ، وهذه الآثار وإن كانت في القصر دون الجمع إلا أنها عامة في رُخَص السّفر .(1/33)
وقال الحافظ في الفتح: وهذا مذهب جمهور أهل العلم، أن المسافر إذا أراد سفراً تقصر في مثله الصلاة لا يقصر حتى يفارق جميع البيوت.(1)
الأدلة على ذلك:
عن أنس رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين.(2)
عن جبير بن نفير قال: خرج ابن السمط – وهو شرحبيل ابن السمط رضي الله عنه – إلى أرض يقال لها "دومين" من حمص على ثلاثة عشر ميلاً فكان يقصر الصلاة. فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بذي الحليفة ركعتين، فسألته فقال: أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.(3)
ورى مالك بإسناد صحيح عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج حاجاً أو معتمراً قصر الصلاة بذي الحليفة(4)
وخرج علي رضي الله عنه من الكوفة فقصر وهو يرى البيوت، فمل رجع قيل له هذه الكوفة، قال: لا حتى ندخلها.(5)
__________
(1) فتح الباري 2/259.
(2) أخرجه البخاري/ 1039، ومسلم/ 690، والحميدي/ 1191، وابن خزيمة / 947، وابن حبان/ 2743، والترمذي/ 546، وأبو داود/ 1202، والنسائي في المجتبى/ 469، واحمد/ 12100، وأبو يعلى/ 2811، والطحاوي في الشرح: 1/417، والدارمي/ 1507، والبيهقي في الكبرى/ 5229، وابن الجارود/ 145، والشافعي في المسند: 1/25، وأبو نعيم: /3/158.
(3) رواه مسلم/ 1117، والنسائي/ 1420، واحمد/ 193، وأبو عوانة: 2/346، والبزار/ 316، ومن طريقه ابن حزم في المحلى: 5/7.
(4) أخرجه مالك/ 306، ومن طريقه عبد الرزاق/ 4324.
(5) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم: 1/396، وعبد الرزاق/ 4321، وابن عدي في الكامل، كذا في كنز العمال/ 2270، واورده ابن حجر في الفتح: 2/569، وفي تحفة الأحوذي: 3/88، ونصب الراية للزيلعي: 1/183، تغليق التعليق لإبن حجر: 2/420،(1/34)
قال الحافظ: وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال: لا حتى ندخل. وصله الحاكم من رواية الثوري عن وقاء بن إياس وهو بكسر الواو بعدها قاف ثم مدة عن على بن ربيعة. قال خرجنا مع على بن أبي طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت.
وأخرجه البيهقي(1)من طريق يزيد بن هارون عن وقاء بن إياس بلفظ خرجنا مع على متوجهين ههنا وأشار بيده إلى الشام فصلى ركعتين ركعتين حتى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة حضرت الصلاة، قالوا: يا أمير المؤمنين هذه الكوفة أتم الصلاة. قال: لا حتى ندخلها. وفهم بن بطال من قوله في التعليق: لا حتى ندخلها، أنه أمتنع من الصلاة حتى يدخل الكوفة قال: لأنه لو صلى فقصر ساغ له ذلك، لكنه اختار أن يتم لاتساع الوقت أهـ.
وقد تبين من سياق أثر على أن الأمر على خلاف ما فهمه بن بطال وأن المراد بقولهم هذه الكوفة أي فأتم الصلاة. فقال: لا حتى ندخلها أي لا نزال نقصر حتى ندخلها في حكم المسافرين.(2)
وعن أبي الأسود الدؤلي قال: خرج علي بن أبي طالب من البصرة فرأى خصاً(3)فقال: لولا هذا الخص لصليت ركعتين.(4)
عن عبد الرحمن بن يزيد قال خرجت مع علي بن أبي طالب إلى صفين فلما كان بين الجسر والقنطرة صلى ركعتين.(5)
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى/ 5233.
(2) فتح الباري 2/725.
(3) الخُص: هو البيت من قصب أو شجر.
(4) رواه ابن أبي شيبة/ 8169، وعبد الرزاق/ 4319، وابن جرير/ 1296، والمتقي الهندي في كنز العمال، وابن عبد البر في الإستذكار: 2/231، والزيلعي في نصب الراية: 2/183، المدونة 1/210، وفي عمدة القاري: 7/131، وإسناده صحيح.
(5) أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار/ 1297، عمدة القاري 7/131 وقال: سنده صحيح.(1/35)
وعن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يقصر من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حين يدخل بيوتها.(1)
قال مالك: في الرجل يريد سفراً أن يتم الصلاة حتى يبرز من بيوت القرية، فإذا برز قصر الصلاة وإذا رجع من سفر قصر الصلاة حتى يدخل بيوت القرية أو قربها، قال: قلت لمالك: إن كان على ميل؟ قال: يقصر الصلاة. قال ابن القاسم ولم يحد لنا في القرب حداً.(2)
مسافة القصر
تضاربت أقوال العلماء في مقدار المسافة التي تقصر الصلاة في مثلها ابتداء من مسافة الميل وهو الذي ذهب إليه ابن حزم ومن وافقه، إلى ستة عشر فرسخاً وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، انتهاء بأربعة وعشرين فرسخاً وهو مذهب الأحناف.
أدلة كل من المذاهب:
عن محارب قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر الصلاة.(3)
عن سفيان الثوري قال: سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً(4)قصرت الصلاة.(5)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ – شك شعبة - صلى ركعتين.(6)
__________
(1) رواه عبد الرزاق/ 4323، وذكره ابن حجر في الدارية: 1/212.
(2) المدونة1/206.
(3) رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح/ 8139، قال ابن حجر إسناده صحيح انظر فتح الباري 2/567، وابن حزم في الحلى من طريق ابن أبي شيبة: 5/8.
(4) الميل يساوي 1.68كلم. والفرسخ يساوي ثلاث أميال والبريد يساوي أربعة فراسخ.
(5) اورده ابن حزم في المحلى: 5/8، قال ابن حجر إسناده صحيح انظر فتح الباري 2/567 .
(6) رواه مسلم/ 691، والنسائي في الصغرى/ 604، وأحمد/ 12335، والبيهقي/ 5231، وأبو داود/ 1201، وابن حبان/2745، وأبو عوانة وابن أبي شيبة/ 8132، وأبو يعلى/ 4198، وأخرجه ابن حزم في المحلى: 5/8، قال ابن حجر هو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه.(1/36)
قال الصنعاني في سبل السلام: فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث القصر ثلاثة أميال وأجيب عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة الأميال نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر وهو الاحتياط.(1)
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وقد صح عن ابن عمر جواز القصر في ثلاثة أميال وهي فرسخ، فالأخذ بحديث أنس أولى لرفعه وعمل بعض الصحابة به، وقد صح عن ابن عمر القصر في أقل من بريد في الساعة من نهار، وفي الميل ، وهذه الآثار أقرب إلى السنة.(2)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة.(3)
من المعروف أن الفرسخ ثلاث أميال فيكون حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رافعاً للشك في حديث أنس رضي الله عنه ومبيناً أن أقل مسافة قصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث أميال.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاث أميال.(4)
وعن اللجلاج قال: كنا نسافر مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة فيقصر ويفطر.(5)
__________
(1) سبل السلام: 2/39.
(2) منارالسبيل 199.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8113، وعبد الرزاق في مصنفه/ 4318، وعبد بن حميد/ 947، وابن عبد البر في الإستذكار: 2/238، وذكره الحافظ في التلخيص وقال رواه سعيد بن منصر وأقره بسكوته عنه: 2/47.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8120، ومن طريقه ابن حزم في المحلى: 5/8 وقال: قال علي محمد بن زيد هذا طائي ولاه علي بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين، والحديث صحيح الإسناد، وأورده ابن عبد البر في الإستذكار: 2/234.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8137، ومن طريقه ابن حزم في المحلى: 5/7، والطبري في تهذيب الآثار/ 1292. انظر عمدة القاري: 7/119.(1/37)
قال أنس رضي الله عنه: صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين.(1)
المسافة بين المدينة وذي الحليفة فرسخ أي ثلاث أميال.
وروى أبو داود أن دحية بن خليفة رضي الله عنه خرج من قرية(2)من دمشق مرة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال في رمضان ثم أنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك.(3)
واختار الشيخ تقي الدين جواز القصر فرسخ وقال أيضا إن حد فتحديده ببريد أجود.(4)
وعن شرحبيل بن السمط عن ابن عمر أنه قصر في أربعة أميال(5)
وذكر العيني في عمدة القاري قال: وعن ابن مسعود أربعة أميال.(6)
قال ابن حزم في المحلى: وروى عنه شرحبيل بن السمط ومحمد بن زيد بن خليدة ومحارب بن دثار وجبلة بن سحيم وكلهم أئمة القصر في أربعة أميال وفي ثلاثة أميال وفي ميل واحد وفي سفر ساعة وأقصى ما يكون سفر الساعة من ميلين إلى ثلاثة.(7)
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) قال في عون المعبود: 7/41: ان ظاهرالعبارة يدل على أن عقبة قرية من الفسطاط ومن المعلوم أن الفسطاط يقال لمصر والبصرة فعلى هذا المسافة التي بين قرية عقبة وبين الفسطاط هي مقدار المسافة التي كانت بين مزة وبين الموضع الذي خرج إليه دحية الكلبي والمسافة بين عقبة وبين الفسطاط هي ثلاثة أميال كما ذكره الراوي.
(3) أخرجه أبو داود/ 2060، والبيهقي/ 7933، وأورده ابن القيم في الحاشية، وابن عساكر في التاريخ.
(4) والإنصاف للماوردي 2/318.
(5) ابن حزم في المحلى: 6/244.
(6) عمدة القاري: 7/119.
(7) المحلى: 5/11.(1/38)
عن النزال بن سبرة: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إلى النخيلة فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه وقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم.(1)
عن أبي معبد قال : كنا مع ابن عباس رضي الله عنهما في سفر فغابت الشمس ، فقيل له : يا أبا العباس الصلاة ، فقال : أَخْبَرَنَا قوم سفر ، ثم سار حتى أتى مر الظهران ، فنزل ، وإن بينه وبين حيث قيل له : الصلاة حين غابت الشمس ، فرسخين .(2)
عن أبي الشعثاء قال: تقصر الصلاة في ستة أميالٍ.(3)
عن عبد الرحمن بن حرملة قال: سألت سعيد بن المسيب أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة قال نعم.(4)
عن شعبة قال: سمعت قيس بن عمران ابن عمير عن أبيه، عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، قال شعبة: أخبر بهذا قيس بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهد وعمير مولى ابن مسعود.(5)
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة/ 8114، ومن طريقه ابن حزم في المحلى: 5/7، أنظر عمدة القاري: 7/119.
(2) المطالب العالية 740.
(3) رواه ابن أبي شيبة/ 8129، وفي المحلى: 5/9.
(4) رواه ابن أبي شيبة/ 9014، وابن حزم في المحلى: 5/9 وقال إسناده كالشمس.
(5) أخرجه ابن جرير/ 1285، رواه الخطيب البغدادي في الجامع، والمحلى: 5/8.(1/39)
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله: ورويت عن أنس بن مالك وابن محيريز ، وهانئ بن كلثوم وغيرهم أنهم قصروا فيما بين الرملة وبيت المقدس ، فكيف تدعي من علماء الأمة إجماعا على أن قصر الصلاة غير جائز في قدر مسافة ما بين المدينة وذي الحليفة ؟ قيل : مسافة ما بين المدينة وذي الحليفة أقل من أربعة فراسخ ، وأقل من مسافة ما بين الرملة وبيت المقدس ، ولا أحد ممن روي عنه قصر الصلاة في قدر ما ذكرت يرى جواز قصرها فيما بين المدينة وذي الحليفة ، أو في قدر ذلك من المسافة ، فصح ما قلناه في تأولنا قول ابن السمط الذي ذكرناه عنه ، فعل عمر الذي روى عنه على ما بينا وتأولنا ، وليس هذا الموضع من موضع الإبانة عن قدر المسافة التي يجوز قصر الصلاة لمن سارها ، فنشتغل بالبيان عن صحة ما نقول : فيه وفساد ما خالفه ، وإنما اكتفينا بقدر ما بينا من ذلك في هذا الموضع ، لأن قصدنا فيه كان الإبانة عن معنى الخبر الذي روينا عن ابن السمط ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه بخلاف المعنى الذي يسبق إلى وهم أهل الغباوة ، فإذ كان معنى الخبر الذي روينا عن ابن السمط ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا ، فبين بذلك أن لمن خرج مسافرا إلى غاية يجوز له قصر الصلاة إليها ، أن له القصر حين يخرج من البلدة التي ابتدأ منها سفره فيخلفها وراءه حتى لا يكون شيء منها أمامه ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصر بذي الحليفة صلاته ، وقد خرج من مدينته يريد سفرا تقصر في مثله الصلاة ، كان معلوما بذلك أن ما كان خارجا عن مدينته ، مما ليس هو منها في معنى ذي الحليفة ، في أن له قصر الصلاة عنده ، إذا كان قد ابتدأ سفرا إلى غاية تقصر إليها الصلاة وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمعت على القول به علماء الأمة.(1)
__________
(1) تهذيب الآثار: 2/911.(1/40)
وروى حماد بن زيد قال: حدثنا أنس بن سرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه وهي على رأس خمسة فراسخ، فصلى بنا العصر ركعتين ثم سلم، ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم.(1)
عن زكريا ابن أبي زائد أنه سمع الشعبي يقول: لو خرجت إلى دير الثعالب لقصرت.(2)
قال أبو حامد الغزالي: حتى ولو خرج إلى بستان خارج البلد قصر.(3)
عن جبير بن نفير قال: خرج ابن السمط – وهو شرحبيل ابن السمط رضي الله عنه – إلى أرض يقال لها "دومين" من حمص على ثلاثة عشر ميلاً فكان يقصر الصلاة. فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بذي الحليفة ركعتين، فسألته فقال: أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.(4)
لهذه الأدلة الآنفة الذكر يتبين لنا أن أقل ما قيل في مسافة القصر هو الميل وبه أخذ ابن حزم ومن وافقه.
وقال: وبكل هذا نقول وبه يقول أصحابنا في السفر إذا كان على ميل فصاعدا في حج أو عمرة أو جهاد وفي الفطر في كل سفر قال علي فهم من الصحابة كما أوردنا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ودحية بن خليفة وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس وشرحبيل بن السمط، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي وجابر بن زيد والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن محيريز وكلثوم بن هانىء وأنس بن سيرين وغيرهم.(5)
وقد رجح ابن تيمية رواية القصر في بريد أو أدنى، قال: أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدّها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم فوجب أن لا يكون لها حد، بل ما يسمى سفراً يشرع. وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة، فعلم أن الأسفار ما قد يكون بريداً وأدنى ما يسمى سفراً في كلام الشارع.(6)
__________
(1) المحلى: 5/7.
(2) رواه ابن أبي شيبة/ 5127، وأورده ابن حزم المحلى: 5/9.
(3) أنظر عمدة القاري: 7/119، المجموع 3/215.
(4) سبق تخريجه.
(5) المحلى: 5/9.
(6) مجموعة الرسائل والمسائل 2/254.(1/41)
أما المالكية والشافعية والحنابلة قالوا: إن أقل مسافة يجوز القصر فيها يومان، وذلك مسير ستة عشر فرسخاً. واحتجوا بأدلة منها:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة مسيرة ذلك نحو أربعة برد.(1)
عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك. قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد.(2)
عن نافع عن بن عمر أنه كان يسافر إلى خيبر فيقصر الصلاة.(3)
قال ابن حزم رحمه الله: وليس في حديث نافع عن ابن عمر أنه منع القصر في أقل من أربعة برد فسقطت أقوال من حد ذلك بالأميال المذكورة سقوطا متيقنا وبالله تعالى التوفيق.(4)
__________
(1) رواه مالك/ 338، ومن طريقه الشافعي: 1/26، ومن طريقه النسائي/ 603، والبيهقي/ 5176، واورده في المحلى: 5/11.
(2) رواه مالك/ 339، ومن طريقه الشافعي: 1/25 ومن طريقه النسائي/ 604، والبيهقي/ 5175، وابن جرير/ 1285، واورده في المحلى: 5/11
(3) أخرجه مالك: 340، والبيهقي/ 5173.
(4) المحلى: 5/12.(1/42)
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان أنبأ أبو بكر بن الحارث الفقيه أنبأ علي بن عمر الحافظ حدثني أحمد بن محمد بن زياد ثنا أبو إسماعيل الترمذي ثنا إبراهيم بن العلاء ثنا إسماعيل بن عياش وهذا حديث ضعيف إسماعيل بن عياش لا يحتج به وعبد الوهاب بن مجاهد ضعيف بمرة والصحيح أن ذلك من قول بن عباس كما سبق ذكره.(1)
عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لإبن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى الطائف وعسفان.(2)
وعن عطاء قال قلت لإبن عباس أقصر إلى منى أو عرفة؟ قال: لا ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان، فإذا وردت على ماشية لك أو اهل فأتم الصلاة.(3)
__________
(1) وهذا حديث ضعيف جداً رواه البيهقي وضعفه، والطبراني. قال ابن الجوزي: إسماعيل بن عياش ضعيف وعبد الوهاب أشد ضعفا قال أحمد ويحيى ليس عبد الوهاب بشيء وقال الثوري هو كذاب وقال النسائي متروك الحديث .التحقيق في أحاديث الخلاف ابن الجوزي 1/493، وقال ابن حجر في التلخيص 2/46: الدارقطني والبيهقي وليس في روايتهما ذكر الطائف وكذلك الطبراني وإسناده ضعيف فيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك رواه عنه إسماعيل بن عياش.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع به/ 8138، وإسناده صحيح. ومن طريق وكيع أورده ابن حزم في المحلى: 5/5.
(3) أخرجه عبد الرزاق/ 8138، وابن أبي شيبة/ 8140، والشافعي في الأم: 1/183، وفي مسنده/ 25، وعنه البيهقي/156، والطبري في التهذيب/ 3065، وأورده ابن حزم في المحلى: 5/6، قال ابن حجر في التلخيص إسناده صحيح: 2/46.(1/43)
قال ابن تيمية رحمه الله: نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من روايات عنه، ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل نكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكروعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى، وابن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون من الحج إلى عرفة ومزدلفة كطاوس وغيره، وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج.
وهذه حجة قاطعة فإنه من المعلوم ان أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقاً كثيرا، وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه، وإنما صلى بمنى أيام منى قصراً، والناس كلهم يصلون خلفه، أهل مكة وسائر المسلمين، ولم يأمر أحدا منهم أن يتم صلاته، ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. أ هـ.(1)
وقال رحمه الله: وقد ذكر ابن حزم أنها إثنان وثلاثون ميلا، وغيره يقول أربعة برد ثمانية وأربعون ميلا، والذين حددوها ثمانية وأربعون ميلاً عمدتهم قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك فلو لم يكن إلا قولها لم يجز أن يأخذ ببعض أقوالهما دون بعض، بل إما أن يجمع بينهما وإما أن يطلب دليل آخر، فكيف عن الصحابة أنواع أخر؟ ولهذا كان المحددون بسة عشر فرسخا من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنما لهم طريقان، بعضهم يقول: لم أجد أحداً قال بأقل من القصر فيما دون هذا فيكون هذا إجماعاً، وهذه طريقة الشافعي، وهذا أيظاً منقول عن الليث بن سعد. فهذان الإمامان بيّنا عذرهما أنهما لا يعلما من قالبأقل من ذلك، وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك.(2)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل: 1/278.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل: 2/279.(1/44)
أما الأحناف فقالوا: لا يجوز القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام واستدلوا بالذي رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا تسافر المرأة ثلاثة أيام(1)إلا مع ذي محرم(2).
قلت: لا دليل بذلك البتة إذ روى البخاري ومسلم وغيرهم عن أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة يومين إلا معها زوجها أو ذو محرم.(3)
وروى أبو داود لا تسافر بريداً.(4)
__________
(1) ثلاثة أيام تساوي 72 ميلاً.
(2) أخرجه البخاري/ 1024، ومسلم/ 2381، والترمذي/ ، وأبو داود /1467، وأحمد/ 4386، والطبراني في الأوسط/ 912، وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري/ 2384، والترمذي 9809، وابن ماجة/ 2889، وأحمد/ 10615، والدرارمي 1562، وابن حبان/ 2719، والبيهقي/ 5191، وابن أببي شيبة/ 15170. وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني: 2/114عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحميدي في المسند/ 1006. واخرجه الطبراني في الكبير/181 عن عدي بن حاتم وفيه لا تسافر المرأة فوق ثلاث ليال..، وابن حجر في المطالب العالية/ 1976، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/214 وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير عن علي بن زيد الصدائي عن أبي هانيء وفيهما كلام وقد وثقا.
(3) أخرجه البخاري/ 1122، ومسلم/ 2383، وابن حبان/ 2723، والبيهقي/ 9916، والطحاوي في شحر معاني الآثار: 2/ 113، وأبو يعلى/ 1160. وأخرجه ابن خزيمة/ 2722 عن عمرو بن العاص رض الله عنهما.
(4) أخرجه أبو داود/ 1725، والحاكم في المستدرك/ 1616 وقال: وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه النووي في المجموع: 345/8.(1/45)
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها.(1)
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر امرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم.(2)
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها.(3)
وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو مع ذي محرم، فقيل لابن عباس الناس يقولون ثلاثة أيام قال إنما هو وهم منهم.(4)
فالإستدلال قياسا على حديث ابن عمر أعلاه غير صحيح البتة.
قال الشوكاني رحمه الله: ولا حجة في جميع ذلك ... والبريد لا ينافي القصر في ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ كما في حديث أنس لأن الحكم على الأقل حكم على الأكثر.(5)
قال صاحب المغني: وروي عن جماعة من السلف رحمة الله عليهم ما يدل على أن جواز القصر في أقل من يوم فقال الأوزاعي كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ وكان قبيصة بن ذؤيب وهانىء بن كلثوم وابن محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت المقدس.(6)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 1339، وابن حبان/ 2725، وابن خزيمة/ 2523، وأبو داود/ 1724، والبيهقي/ 5192، ومسند الربيع/ 730، والشافعي في المسند: 1/171، وابن حزم في المحلى: 5/13.
(2) أخرجه مسلم/ 1339، وابن ماجة/ 2899، والبيهقي/ 5193، وابن حزم في المحلى: 5/13.
(3) أخرجه مسلم/ 1339، وابن حبان/ 2728، وأبو داود/ 1724، والبيهقي/ 5194، وابن حزم في المحلى: 5/13.
(4) الطبراني في الكبير/ 12652.
(5) نيل الأوطار 3/219.
(6) المغني 2 / 48.(1/46)
وقال الشوكاني رحمه الله: أقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري، واحتج له باطلاق السفر في كتاب الله كقوله تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ) الآية، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلم يخص الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بأجمعهم سفراً من سفر، ثم احتج على ترك القصر فيما دون الميل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصر ولا أفطر ... وقد أخذ بظاهر حديث أنس المذكور الظاهرية كما قال النووي، فذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وقال في الفتح: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه.(1)
وقد حمله جملة من خالفه على أن المراد المسافة التي يبدأ منها القصر لا غاية السفر، ولا يخفى بعد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحي بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة –يعني من البصرة- فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع(2). فقال أنس: فذكر الحديث. قال فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدىء فيه.(3)
__________
(1) نيل الأوطار 3/219.
(2) سبق تخريجه.
(3) نيل الأوطار 3/218.(1/47)
قال ابن تيمية: وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمه ولا إجماعا باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروا إذا رأوا قولا في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم، ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك القصر فان تحديدها بثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخا لما كان قولا ضعيفا كان طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ترى قصر الصلاة فى السفر الذي هو دون ذلك كالسفر من مكة إلى عرفة فانه قد ثبت ان أهل مكة قصروا مع النبى صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفة، وكذلك طائفة من أصحاب مالك وأبى حنيفة وأحمد قالوا أن جمع الطلاق الثلاث محرم وبدعة لأن الكتاب والسنة عندهم انما يدلان على ذلك وخالفوا ائمتهم، وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة رأوا غسل الدهن النجس وهو خلاف قول الأئمة الاربعة، وطائفة من أصحاب أبى حنيفة رأوا تحليف الناس بالطلاق وهو خلاف الائمة الأربعة بل ذكر ابن عبدالبر ان الاجماع منعقد على خلافه وطائفة من أصحاب مالك وغيرهم قالوا من حلف بالطلاق فانه يكفر يمينه .(1)
مدة القصر
الثابت في السنة النبوية المطهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة في أسفاره أبداً، ولم يطلب من أحد ان يتم الصلاة بعد مدة معينة من سفره، فالسفر يبقى سفراً، والإقامة لا تخرج عن حكم السفر ما لم تكن الغاية من السفر الإستيطان والسكن، أو قرر المسافر السكن والإستيطان بعد سفره.
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/10 و 11.(1/48)
قال شيخ الإسلام: تقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً قل أو كثر ولا يتقدّر بتقدير مدة، وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب المغني فيه، سواء كان مباحاً أو محرماً، ونصره ابن عقيل في موضع، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي سواء نوى إقامة أربعة أيام أو لا وروي هذا عن جماعة من الصحابة.(1)
وقال رحمه الله: وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة ـ أيضًا ـ بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر . كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة .
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر . كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبًا من عشرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام ، وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورًا . والله أعلم . (2)
والذي إختاره ابن القيم رحمه الله أن الإقامة لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت ما لم يستوطن المكان الذي أقام فيه.
فقال ابن القيم رحمه الله: أنَّه صلى الله عليه وسلم أقام بتَبُوك عشرين يوماً يَقْصُر الصلاة، ولم يَقل للأُمَّة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثرَ من ذلك، ولكن اتفقت إقامتُه هذه المدة، وهذه الإقامة فى حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواءٌ طالت أو قصرت إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.(3)
__________
(1) الإختيارات الفقهية 51.
(2) مجموع الفتاوى 18/24.
(3) زاد المعاد 3/561 و 565.(1/49)
وهذا ما اختاره الشيخ أحمد شاكر في تعليقة على مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، كذلك الشيخ سيد سابق في فقه السنة.(1)
قال الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: ويقصر المسافر الصّلاة ما دام غائباً عن بلده الذي اتّخذه موطناً ، وفي نيته الرجوع إليه ، سواء أكان شاخصاً سائراً أم أقام في بلد آخر مدة معلومة لديه ، ما لم يتخذه موطناً ، أو لم يكن يعلم المدّة ، وفي نفسه يقول : اليوم أخرج ، غداً أخرج.(2)
قال الشيخ أبو محمد المدني: قصر الصلاة متعلق بالسفر فما دام الإنسان مسافراً فإنه يشرع له قصر الصلاة سواء كان سفره نادراً أم دائماً إذا كان له وطن يأوي إليه ويعرف أنه وطنه. وأن يقيم إقامة استيطان بحيث ينتقل عن بلده الأصلي انتقالاً كاملاً فحكم هذا حكم المستوطنين الأصليين في كل شيء لا يترخص رخص السفر في هذا البلد الذي انتقل إليه بل يترخص إذا سافر منه ولو إلى بلده الأصلي كما لو كان بلده الأصلي مكة فانتقل للسكنى في المدينة فإنه يعتبر في المدينة كأهلها الأصليين فلو سافر إلى مكة للعمرة أو الحج أو طلب العلم أو زيارة قريب أو تجارة أو غيرها فحكمه في مكة حكم المسافرين وإن كان قد تزوج فيها من قبل وتأهل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة في غزوة الفتح وحجة الوداع مع أنه قد تزوج في مكة وتأهل فيها من قبل.(3)
__________
(1) تعليق أحمد شاكر 263/7.
(2) رسالة القصر والجمع بين الصلاتين في السفر / 4.
(3) رسالة جمع وقصر الصلاة لأبي محمد المدني.(1/50)
فروي عن جابر رضي الله عنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة.(1)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول لأهل البلدة صلوا أربعاً فإنا سفر.(2)
وعن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه قال أرتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة قال بن عمر وكنا نصلى ركعتين.(3)
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق/ 4335، ومن طريقه أبو داود/ 1235، واحمد/ 1417 والبيهقي/ 5260، وابن حبان/ 2749، ، مسند عبد بن حميد/ 1319، وابن حزم في المحلى: 5/25، وإسناده صحيح. واورده الزيلعي في نصب الراية: 2/185 وقال: قال النووي: قال النووي في الخلاصة هو حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم .
(2) أخرجه أبو داود/ 140، وأحمد/ 1932. وفيه علي بن زيد متكلم فيه.
(3) رواه البيهقي/ 5266، وقال الحافظ في تلخيص الحبير: 2/47 رواه البيهقي بسند صحيح، وفي الدارية/ 129، قال النووي هذا سند على شرط الشيخين نقله الزيلعي في نصب الراية: 2/185 عنه وأقره على صحته وقال: قال النووي هذا سند على شطر الشيخين، واخرجه احمد من طريق آخر بإسناد حسن كما قال الشيخ الألباني رحمه الله في الإرواء: 3/28، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع: 2/185 ورجاله ثقات كما ذكرنا أعلاه، ونقله ابن تيمية عن الأثرم أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/288.(1/51)
ومن طريق آخر عن ثمامة بن شرحبيل قال : خرجت إلى ابن عمر رحمه الله فقلت : ما صلاة المسافر ؟ قال : ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً، قلت : أرأيت إن كنا بذي المجاز ؟ قال : وما ذو المجاز ؟ قلت : مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث فيه عشرين ليلة، أو خمس عشرة ليلة فقال : يا أيها الناس كنت بأذربيجان - لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين - فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصليها ركعتين بصر عيني ثم نزع بهذه الآية: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).
عن المسور ابن مخرمة قال: كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من الشام أربعين ليلة فكنا نصلي أربعاً وكان يصلي ركعتين.(1)
عن أنس رضي الله عنه أنه أقام بالشام مع عبد الملك شهرين يصلي ركعتين.(2)
وروي عن أنس-أيظا- رضي الله عنه أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة.(3)
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه عبد الرزاق/ 4354، والبيهقي في الكبرى/ 5266،والأثرم في سننه ص/ 136 ، وأورده ابن حجر في الدارية 1/212، وقال صحيح، والزيلعي في نصب الراية 2/185، أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/289.
(3) رواه ابن أبي شيبة/ 5100، ، وابن جرير في التهذيب/ 726، وفي رواية له عن الحسن أن أنس بن مالك ، كان بنيسابور على جبايتها ، فكان يصلي ركعتين ثم يسلم ، ثم يصلي ركعتين ، ولا يجمع ، وكان الحسن معه شتوتين، ورواه الطبراني في الكبير/ 682، قال الهيثمي رجاله ثقات، وأورده ابن حزم في المحلى: 3/217، وابن عبد البر في التمهيد: 11/183.(1/52)
وروي عن أنس -أيظا- رضي الله عنه قال: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا ببرامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.(1)
قال الحسن: أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع.(2)
عن أبي جمرة نصر بن عمران قال: قلت لإبن عباس إنا نطيل المقام بخرسان، فقال: صلي ركعتين وإن أقمت عشر سنين.(3)
عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين حتى انصرف.(4)
وفي رواية لإبن أبي شيبة قال: أبي وائل، عن مسروق قال: أقمت معه سنتين يصلي ركعتين بالسلسلة، قال: فقلت له: ما حملك على هذا يا أبا عائشة؟ فقال: إلتماس السنة.(5)
وروى إبن أبي شيبة عن الأعمش عن إبراهيم، قال: كنت مع علقمة بخوارزم سنتين يصلي ركعتين.(6)
__________
(1) رواه البيهقي بإسناد حسن/ 5267، وذكره ابن حجر في الدارية: 1/212، وأورده الزيلعي في نصب الراية: 2/185، وقال: قال النووي إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار واختلفوا في الاحتجاج به واحتج به مسلم في صحيحه انتهى. أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/289.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة/ 5099، والبيهقي في الكبرى/ 5265 بلفظ كان معه – يعني عبد الرحمن بن سمرة شتويتين لا نجمع ونقصر الصلاة، ذكره ابن حجر في الدارية 1/212، والزيلعي في نصب الراية: 2/185 ، وأورده ابن حزم في المحلى: 5/51
(3) رواه ابن أبي شيبة/ 8202، وابن حجر في الدارية: 1/212، وابن عبد البر في التمهد: 3/183، والزيلعي في نصب الراية: 2/185.
(4) وابن جرير في تهذيب الآثار/ 728وعبد الرزاق في مصنف/ 4356، وابن أبي شيبة/ 8206. ، وأورده ابن حزم في المحلى 3/215، والأثرم ص/ 136، أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/289.
(5) ورواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4357، والأثرم ص/ 136، أنظر مجموعة الرسائل والمسائل: 2/289.
(6) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8208، عبد الرزاق في مصنفه/ 4355.(1/53)
وروى إبن أبي شيبة عن زكريا بن عامر قال: أقام علقمة بمرو سنتين في الغزو يقصر الصلاة.(1)
وعن عيس بن أبي عزة قال: مكث عندنا عامر الشعبي بالنهرين أربعة أشهر يقصر لا يزيد على ركعتين.(2)
عن أبي المنهال العنزي قال: قلت لإبن عباس إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: صلي ركعتين.(3)
عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أقمت في بلد خمسة أشهر فأقصر الصلاة.(4)
عن زائدة ابن عمير قال قلت لابن عباس إني أخرج مسافرا فأقيم سنين مكعبا عدو ما فأقصر قال ليس بقصر ولكن تمام فصل ركعتين ركعتين.(5)
عن ابن اسحاق قال: سألت سلمة بن صهب ونحن بسجستان عن الصلاة، فقال: ركعتين ركعتين حتى ترجع إلى أهلك هكذا كان عبد الله بن مسعود يقول.(6)
عن محمد بن الحارث قال قدمنا المدينة فأرسلت إلى ابن المسيب أنا مقيمون أياما بالمدينة أفنقصر، قال: نعم.(7)
عن مالك قال: قلت لجابر بن زيد: أقيم بكسكر السنة والسنتين وأنا شبه الأهل، فقال: صلي ركعتين.(8)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8210، وابن سعد في الطبقات: 6/92.
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4362 وإسناده حسن.
(3) رواه ابن أبي شيبة/ 8201، وابن جرير/ 722، وذكره ابن حزم في المحلى 3/215.
(4) رواه ابن أبي شيبة/ 8199، وابن جرير في تهذيب الآثار/ 724.
(5) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4359.
(6) رواه ابن أبي شيبة/ 8163، وعبد الرزاق/ 4358 بلفظ: عن معمر عن أبي إسحاق قال أقمنا مع وال قال أحسبه بسجستان سنتين ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف ثم قال كذلك كان ابن مسعود يفعل، وأورده ابن عبد البر في التمهيد: 11/183.
(7) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4349.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة/ 8205 وإسناده صحيح.(1/54)
عن ابن سيرين قال كتب عبيد الله بن عمر إلى ابن عمر وهو بأرض فارس أنا مقيمون إلى الهلال فكتب أن أصلي ركعتين.(1)
عن هشام عن الحسن قال يصلي ركعتين وإن أقام سنة.(2)
عن أسماء بن عبيد قال سألت الشعبي زمان الحج قال قلت آتي إلى الكوفة وفيها جدتي وأهلي قال فقال أي الأمصار أفضل أو قال أعظم ثم أجابني فقال أليس المدينة فقلت بلى فقال سألت بن عمر عن ذلك فقال إني لآتي البيت الذي ولدت فيه يعني مكة فما أزيد على ركعتين قال الشعبي فكنت أقيم سنة أو سنتين أصلي ركعتين أو قال ما أزيد على ركعتين ركعتين.(3)
واخرج الربيع في مسنده عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال مضت السنة أن يقصر المسافرون في بلد أقاموا فيه وإن أقاموا عشر سنين مالم يتخذه موطنا.(4)
وقال ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر تسعة أقوال في المسألة: وفيها قول عاشر أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه أو ينزل وطنا له.(5)
فهذا هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصوابُ.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم، والثاني: مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري انه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوماً أتم، والثالث: مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على إقامة أكثر من أربعة أيام أتم.
الفريق الأول: احتجوا بمذهبهم بما روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثاً يقصر في عمرته.(6)وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4344، وإسناده صحيح.
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح/ 4360.
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح/ 4361.
(4) مسند الربيع/ 916.
(5) ابن عبد البر في التمهيد: 3/183.
(6) رواه أبو داود، والبيقي في الكبرى/ 5241، والشافعي في الأم: 1/186.(1/55)
الفريق الثاني: احتجوا لمذهبهم بما روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح مقصراً وذلك تسعة عشر يوماً(1)وبكل قال فريق.
والفريق الثالث: احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصراً أربعة أيام.أ هـ -انتهى كلام ابن رشد-.(2)
قال ابن حزم رحمه الله : وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أقام ينوي خروجاً غداً أو اليوم فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواماً. وقال مالك: يفطر ويقصر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر. وإن نوى أخرج اليوم أخرج غداً قصر ولو بقي كذلك أعواماً.(3)
قال الترمذي رحمه الله بعد أن ذكر الأقوال كلها: ثم أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون.(4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأيظاً فمن جعل للمقام حداً من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة، وإما عشر، وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر، فإنه لا دليل عليه من جهة الشرع وهي تقديرات متقابلة.(5)
إتمام المقيم خلف المسافر
أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا إئتمّ بالمسافر وسلّم الإمام من اثنتين عليه إتمام الصلاة. لذا إذا صلى المسافر بقوم مقيمين في صلاة رباعية فيخبرهم قبل الصلاة أنه يصلي صلاة المسافر قصراً، وإذا فرغ من الركعتين يسلم ويقول لهم بعد ذلك أتموا صلاتكم فإنا سفر.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1018، والترمذي/ 504، والنسائي في الصغرى/ 610 عن عكرمة عن ابن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين.
قال ابن عباس فنحن نصلي ركعتين تسعة عشر يوما فإن أقمنا أكثر من ذلك اتممنا . وقد ثبت عن جابر كما ذكرنا أعلاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقما في تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. وأقام الصحابة أكثر من ذلك بكثير يقصرون الصلاة.
(2) بداية المجتهد 1/239.
(3) المحلى 3/226.
(4) الجامع 2/436.
(5) مجموعة الرسائل والمسائل2/ 314.(1/56)
فعن عمر بن الخطاب رضوان ربي عليه أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر.(1)
أما حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين. ويقول: يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا سفر.(2)
وقال مالك في مسافر صلى بمسافرين فسبحوا به بعد ركعتين وقد قام يصلي فتمادى بهم وجهل، فقال: أرى أن يقعدوا، ولا يتبعوه. وقال ابن القاسم: يقعدون حتى يصلي ويتشهد ويسلم فيسلمون بسلامه ويعيد هو الصلاة ما دام في الوقت.(3)
صلاة المسافر خلف المقيم
__________
(1) رواه مالك في الموطأ/ 315، ومن طريقه رواه البيهقي/ 511، وابن جرير/ 718، وابن أبي شيبة من طريق نافع/ 3861، وعبد الرزاق/ 4370، وابن الجعد من طريق ابراهيم/ 311، قال الشوكاني أثر عمر إسناده أئمة ثقة.
(2) رواه أبو داود/ 1229، وابن خزيمة/ 1643، والبيهقي/ 510، وابن أبي شيبة/ 3860، والطحاوي/ 1/471، ضعفه الحافظ في الفتح: 2/563، وقال في التلخيص: 2/94 حسن هذا الحديث الترمذي لشواهده.
(3) المدونة 1/209.(1/57)
إذا إئتم مسافر بمقيم يتم المسافر مثل صلاة إمامه، سواء أدرك جميع الصلاة، أو ركعة، وهذا هو الصواب من قولي أهل العلم؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث موسى بن سلمة رحمه الله قال: كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم(1). وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين(2).
وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله أن في إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أنه يلزمه أن يصلي أربعًا(3). وقال: قال أكثرهم إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم، وعليه الإتمام(4).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند/ 1765، قال الألباني في إرواء الغليل: "قلت: وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح" والحديث أخرجه مسلم/ 1111 بلفظ: "كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام"؟ فقال: "ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، والنسائي/ 1426من طريق شعبة، والبيهقي في الكبرى/ 8272، والطبراني في الكبير من طريق أيوب/ 6334، والطيالسي/ 2742من طريق هشام.
(2) سبق تخريجه.
(3) التمهيد 16/311-312.
(4) التمهيد 16/315.(1/58)
ومما يدل على أن المسافر إذا صلى خلف المقيم يلزمه الإتمام عموم قوله صلى الله عليه وسلم: إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا..(1)"(2).
أما إذا أدرك التشهد الأخير فإنه يصلي ركعتين وهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم.
قال الحسن في مسافر أدرك ركعة من صلاة المقيمين في الظهر قال: يزيد إليها ثلاثا وإن أدركهم جلوسا صلى ركعتين.(3)
عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر أدركت ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر قال صل بصلاتهم.(4)
عن الزهري وقتادة في مسافر يدرك من صلاة المقيمين ركعة قالا: يصلي بصلاتهم فإن أدركهم جلوسا صلى ركعتين.(5)
قال مالك: من أدرك من صلاة المقيم التشهد أو السجود ولم يدرك الركعة وهو مسافر إنه يصلي ركعتين لأنه لم يدرك صلاة الإمام.(6)
قال في المنتقي في صلاة المسافر إذا كان إماما أو من وراء إمام وإنما يتم المسافر بإتمام إمامه إذا أدرك من صلاته ركعة فأكثر، وإن لم يدرك معه ركعة ودخل معه في الجلوس أو سجود من آخر ركعة لم يتم صلاته وكان عليه قصرها.
__________
(1) أخرجه البخاري / 689 ، ومسلم/ 417، وابن حبان/ 2107، وابن خزيمة/ 1075، والنسائي/ 993، وأبو داود/ 604، وابن ماجة/ 846، وأحمد/ 8141، والبيهقي/ 2110، والدارقطني/ 10، والدارمي/ 1311، والطحاوي في شرح المعاني: 1/217، وابن أبي شيبة/ 2596، وعبد الرزاق/ 4082، والطبراني في الأوسط/ 5971، وأبو يعلى/ 5909، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه ورووه هم وغيرهم عن أنس وعائشة وجابر وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين..
(2) انظر: المغني لابن قدامة 3/346، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز 12/159، 260، والشرح الممتع، لابن عثيمين 4/519.
(3) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4382، وإسناده صحيح.
(4) أخرجه عبد الرزاق/ 4381، وإسناده صحيح.
(5) رواه عبد الرزاق في مصنفه/ 4384. وروى عبد الرزاق/ 4387، مثل قولي الزهري وقتادة عن عكرمة رحمه الله.
(6) المدونة 1/209.(1/59)
وقال في رسم القبلة في أوائل سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة الأول: سمعت مالكا قال: لا ينبغي لقوم سفر أن يقدموا من يتم بهم الصلاة، ولكن فإن صلى بهم فصلاته جائزة لكن إن قدموه لسنة أو لفضله أو لأنه صاحب المنزل فيأتموا بصلاته صلاة المقيم. قال ابن رشد ومذهب مالك رحمه الله أصحابه الذي تأتي عليه مسائلهم ومسائله إن قصر الصلاة في السفر سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيره خطيئة ، فلذلك قال إنه لا ينبغي لهم أن يقدموا مقيماً يتم بهم الصلاة لأن فضيلة السنة في القصر أكثر من فضيلة الجماعة. أ هـ(1)
قال مالك في رجل نسي الظهر وهو مسافر فذكرها وهو مقيم قال: يصلي ركعتين، وإن ذكر صلاة الحضر في السفر يصلي أربعاً(2)وهو قول الثوري وغيره.
عن الحسن، أنه كان يقول في المسافر إذا نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر: صلى صلاة السّفر، وإذا نسي صلاة الحضر فذكرها في السّفر فليصل صلاة الحضر.(3)
قال ابن قدامة المقدسي: وإن نسيها في سفر وذكرها فيه أو ذكرها في سفر آخر قضاها مقصورة لأنها وجبت في السفر وفعلت فيه.(4)
__________
(1) مواهب الجليل 2/151.
(2) المدونة 1/206.
(3) رواه ابن أبي شيبة/ 447، وعبد الرزاق/ 4389، ورى مثله عبد الرزاق/ 4388، عن الثوري.
(4) المغني 3/142.(1/60)
وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة فله قصرها؛ لأنه سافر قبل خروج وقتها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها، وهذا قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وهو إحدى الروايتين في مذهب الحنابلة(1)والله أعلم(2).
قال سحنون: قلت لإبن القاسم: ولو صلى في سفره أربعاً أربعاً حتى رجع إلى بيته؟ قال: يعيد ما كان في وقته من الصلوات. قلت: لم وقد رجع إلى بيته وإنما يعيد أربعاً وقد
صلاها في بيته أربعاً قال: لا لأن تلك الصلاة لا تجزىء عنه إذا كان في الوقت لأنه يقدر على إصلاح تلك الصلاة قبل خروج الوقت.(3)
وروى عبد الرزاق رحمه الله عن الثوري في مسافر صلى هاتين فأحدث فقدم مسافرا فصلى بهم أربعا قال يعيدون.(4)
عن الثوري في مسافر أم قوما مقيمين فصلى بهم أربعا قال لايجزيهم يستقبلون وقد قصر هو صلاته.(5)
عن الثوري عن أشعث عن الحسن في مسافر يسهو فيصلي الظهر أربعا قال يسجد سجدتي السهو.(6)
جواز القصر للسجين
أورد الديلمي في مسند الفردوس عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: صلاة الأسير ركعتان حتى يفك أسره أو يموت.(7)
قال الإمام مالك: صلاة الأسير في دار الحرب أربعا إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين.(8)
__________
(1) المغني لابن قدامة 3/143، وانظر: الإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير 5/53، والرواية الثانية عند الحنابلة وهي الرواية الصحيحة من مذهبهم أنه يتمها. انظر: الإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير 5/53،والمغني لابن قدامة 3/143.
(2) واختار العلامة ابن عثيمين القصر فقال: "لو دخل وقت وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو السفر ثم دخل بلده فإنه يتم، اعتبارًا بحال فعل الصلاة" الشرح الممتع 4/523.
(3) المدونة الكبرى 1/208.
(4) أخرجه عبد الرزاق/ 4374.
(5) أخرجه عبد الرزاق/ 4375.
(6) أخرجه عبد الرزاق/ 4376.
(7) مسند الفردوس/ 3720.
(8) المدونة 1/209.(1/61)
وقال ابن حزم: ولو ان امرءاً خرج لا يريد سفراً فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث أميال أو سير به مأسوراً أو مكرهاً محمولاً مجبراً فإنه يقصر ويفطر.(1)
قال أصحاب الإمام أحمد من يقيم لحاجة يرجوا إنجازها أو جهاد، أو حبس سلطان أو عدو أو مرض قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة.(2)
أحكام صلاة الجمعة للمسافر
الظاهر من الآثار أن الجمعة لا تجب على المسافر وهو الأقرب إلى السنة.
قال الصنعاني رحمه الله: والمسافر: لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر، وأما النازل فتجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة، وإلى هذا ذهب جماعة من الآل(3)وغيرهم، وقيل لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيظاً وغيرهم، وهو الأقرب لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه ولذا لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافراً. وكذلك العيد تسقط صلاته عن المسافر، ولذا لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد في حجته تلك.(4)
قال الشوكاني: واختلف في المسافر هل تجب عليه الجمعة إذا كان نازلا أم لا؟ فقال الفقهاء وزيد بن علي والباقر والإمام يحي: أنها لا تجب عليه ولو كان نازلاً وقت إقامتها. واستدلوا بما تقدم في حديث جابر(5)من استثناء السفر.(6)
__________
(1) المحلى 3/227.
(2) الكافي في مسند الإمام أحمد 1/310.
(3) آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) سبل السلام3/198.
(5) حديث جابر الذي أخرجه الدارقطني والبيهقي بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا مسافراً أو عبداً أو مريظاً قال الشوكاني في اسناده ابن لهيعة ومعاذ الأنصاري وهما ضعيفان.
(6) نيل الأوطار 3/258.(1/62)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: ليس على المسافر جمعة.(1)
قال ابن وهب: أخبرني رجال من أهل العلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد وبن شهاب مثله. قال سحنون: وقال بن مسعود ليس على المسلمين جمعة في سفرهم ولا في يوم نفرهم من حديث وكيع.(2)
قال مالك في إمام الحاج إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة أو يوم النحر أو بعض أيام التشريق التي بعد يوم النحرإنه لا يجمع بالتثقيل لا يصلي الجمعة في شيء من تلك الأيام لأنه خلاف السنة ولأنه لا جمعة على مسافر.(3)
قال العيني: وقال ابن بطال وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على مسافر حكاه ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب وابن عمر وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وابن مسعود ونفر من أصحاب عبد الله ومكحول وعروة بن المغيرة وإبراهيم النخعي وعبد الملك بن مروان والشعب وعمر بن عبد العزيز.(4)
قال الألباني في منار السبيل: صلاة الجمعة لا تجب عن من يباح له القصر لأنه صلى الله عليه وسلم سافر هو وأصحابه في الحج وغيره فلم يصلي أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكبير.(5)
·خطأ : البعض يقيمون الجمعة بأنفسهم ويصلونها في مكان لا تقام فيه الجمعة وهم مسافرون نازلون كالحالة الثالثة فهؤلاء لا تصح صلاتهم ويجب عليهم أن يصلوا الصلاة مرة ثانية ظهراً لأنها فرضهم.
__________
(1) أخرجه البيهقي/ 5429 وفيه يحي بن سليمان التيمي وثقه الدراقطني وابن حبان ومسلمة بن قاسم وضعفه آخرون، وعبد الرزاق/ 5198 من طريق عبد الله بن عمر بن حفص ضعفه ابن حجر وقال الذهبي صويلح وقال ابن عدي لا بأس به، وأورده المتقي الهندي في كنزل العمال/ 20173.
(2) المدونة: 1/160.
(3) شرح الزرقاني/ 2/477.
(4) عمدة القاري: 6/204.
(5) منار السبيل/ 122.(1/63)
إذا صلى الجمعة وهو مسافر لا يجمع معها العصر ويصلي العصر إذا دخل وقتها لعدم الدليل ولأنها من الصلوات التي لا يجمع معها شيء. وإذا لم تجب عليه الجمعة ككونه سائراً أو سافر قبل دخول الوقت أو في مكان لا تقام فيه الجمعة فإنه يجوز له أن يصلي الظهر والعصر جمعاً.
التطوع في السفر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: السنة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر، والوتر؛ لحديث عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي، يا ابن أخي إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1).
__________
(1) أخرجه مسلم/ 1112، وابن خزيمة/ 1257، وأبو داود/ 1223، وابن ماجة/ 1071، والبيهقي/ 1295، وأبو عوانة: 2/336، وعبد الرزاق/ 4443، وأبو يعلى/ 5578، وعبد بن حميد/ 827، وأخرجه الترمذي/ 499 من وجه آخر بلفظ سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها فلو كنت مصليا قبلها أو بعدها لاتممت.(1/64)
أما سنة الفجر، والوتر فلم يتركها لا في الحضر ولا في السفر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في سنة الفجر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعهما أبدًا؛(1)ولحديث أبي قتادة رضي الله عنه في نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وفيه: ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة(2)فصنع كما كان يصنع كل يوم.(3)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الإقتصار على الفرض ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعما حضراً ولا سفراً. وقد سأل ابن عمر عن ذلك فقال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر، وقال الله عز وجل (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، ومراد التسبيح السنة الراتبة، وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجه، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر حيث توجهت يومىء إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته.(4)
وفي الصحيحن عن عامر بن ربيعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته(5)... فهذا قيام الليل.(6)
__________
(1) أخرجه البخاري / 1159، ومسلم / 724، وغيرهم.
(2) يعني الفجر
(3) أخرجه البخاري/ 7014، ومسلم/ 681، وغيرهم.
(4) أخرجه البخاري/ 955، ومسلم/ 700 وأخرج البخاري / 391 عن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة.
(5) أخرجه البخاري/ 1053، ومسلم/ 701، وغيرهم
(6) انتهى كلام ابن القيم زاد المعاد 1/181.(1/65)
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في السفر قبلها ولا بعد يريد قبل الفرائض ولا بعدها.(1)
عن بن عون عن مجاهد قال سألناه أكان بن عمر يتطوع في السفر فقال لا فقلت فركعتين قبل الفجر قال ما رأيته ترك تينك في سفر ولا حضر.(2)
عن قتادة وأيوب عن نافع أن بن عمر كان لا يتطوع في السفر في صلاة النهار.(3)
عن حفص بن عاصم قال: اشتكيت، فجاءني ابن عمر يعودني، فقلت يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك من السبحة في السفر ؟ فقال: لو كنت مسبحاً في السفر لأتممت الصلاة، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أره مسبحاً في السفر، وقال الله: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) وإن أعجز الناس من لم يأخذ برخص الله.(4)
هذا هديه صلى الله عليه وسلم في السنة الراتبة في السفر، أما من أراد يتطوع جاز ذلك، لما روي عن الحسن قال: كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وأنس وابن عباس وأبي ذر.
أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه.(5)
__________
(1) حديث صحيح أخرجه أحمد/ 4446، رواه ابن حبان/ 2753.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف/ 3827.
(3) أخرجه عبد الرزاق/ 4447.
(4) أخرجه مسلم /1113، ورواه البخاري/ 1050 في باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها من طريق ابن وهب عن عمر بن محمد به. وهو عند الشيخين من طريق عيسى بن حفص عن أبيه حفص به.
(5) رواه أبو داود/ 1036،قال ابن الملقن: رواه أبو داود بإسناد صحيح وصححه ابن الموطأ .(1/66)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان تعاهده صلى الله عليه وسلم ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ولم يكن يدعها هي والوتر سفرًا ولا حضرًا... ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما(1).
وأما التطوع المطلق فمشروع في الحضر والسفر مطلقًا، مثل: صلاة الضحى، والتهجد بالليل، وجميع النوافل المطلقة، والصلوات ذوات الأسباب: كسنة الوضوء، وسنة الطواف، وصلاة الكسوف، وتحية المسجد وغير ذلك(2).
قال الإمام النووي رحمه الله: وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر...(3).
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1/315.
(2) انظر: مجموع فتاوى ومقالات للإمام ابن باز 11/390-391.
(3) شرح النووي صحيح مسلم 5/205، وقال: "واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليله الأحاديث المطلقة في ندب الرواتب"، 5/205، وانظر: فتح الباري لابن حجر 2/577، وقال ابن قدامة: فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس، وروي عن الحسن، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر، وجماعة من التابعين كثير، وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين... ثم قال: وحديث الحسن عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرناه [مصنف ابن أبي شيبة فهذ1 يدل على أنه لا بأس بفعلها، وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها، فيجمع بين الأحاديث والله أعلم. المغني، 3/155-157.
قلت: والصواب ما قاله الشيخ ابن باز – رحمه الله -: أن المشروع ترك الرواتب في السفر، وهذا هو السنة أن يترك راتبة الظهر، والمغرب، والعشاء، ما عدا الوتر وسنة الفجر، فلا يتركهما؛ لحديث ابن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدع الرواتب في السفر، أما النوافل المطلقة فمشروعة في السفر والحضر، وهكذا ذوات الأسباب. انظر: فتاوى الإمام ابن باز 11/390-391.(1/67)
صلاة الخوف في السفر
قال ابن القيم رحمه الله: فكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أن أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر، وقد العدد وحده إذا كان سفره لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه، وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم وبه تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف.(1)
فقد روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان.(2)
وعن الحسن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم ثم تأخروا، وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان.(3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد فصف الناس خلفه صفين: صفاً خلفه وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء ألئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة.(4)
__________
(1) زاد المعاد 1/201.
(2) وأخرجه البخاري/ 3906، ومسلم/ 843، وغيرهم.
(3) رواه احمد/ 19593، والنسائي/ 692، وأبن حبان/ 2881، وابن خزيمة/ 1368، وإسناده حسن.
(4) رواه النسائي في الكبرى/ 515، والمجتبى/ 1533، وأحمد/ 2063، والحاكم/ 1247 وقال صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه، وابن حبان/ 2871، وابن خزيمة/ 1344، وابن أبي شيبة/ 8271، وعبد الرزاق/ 4251، والبيهقي/ 5844، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/309، قال الشوكاني حديث ابن عباس ساقه النسائي باسناد جيد.(1/68)
وعن ثعلبة بن زهدم رضي الله عنه قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.(1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.(2)
قال الصنعاني: وأخذ بهذا عطاء وطاوس والحسن وغيرهم فقالوا: يصلى في شدة الخوف ركعة يومىء إيماء، وكان إسحاق يقول: تجزئك عند المسايفة ركعة واحدة تومىء لها إيماء فإن لم تقدر فسجدة فإن لم فتكبيرة لأنها ذكر الله.(3)
وقد ذكر البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة.(4)
قال الشوكاني: وأحاديث الباب تدل على أن صفة صلاة الخوف الإقتصار على الركعة لكل طائفة، قال في الفتح: والإقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول به الثوري، واسحاق ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين.
وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت، وحذيفة ابن اليمان، وأبو عبيدة ابن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن حجر في التلخيص: نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: ما أعلم في هذا الباب حديثا إلا صحيحاً.(5)
نكتفي بهذا القدر لكثرة الأحاديث الواردة في الموضع فقد قال ابن حزم رحمه الله تعالى: صح منها أربعة عشر وجهاً.(6)
الجمع بين الصلاتين
__________
(1) رواه أبو داود/ 1246، والنسائي/ 1918، والحاكم/ 1245 وقال صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه، وابن حبان/ 1425، وابن خزيمة/ 1343، والبيهقي/ 5842، والبزار/ 2968، قال الحافظ في التلخيص: 4/9 ورجال اسناده رجال الصحيح.
(2) سبق تخريجه.
(3) شرح بلوغ المرام 3/213.
(4) أخرجه مالك/ 396، ومن طريقه البخاري/ 4171.
(5) تلخيص الحبير: 2/97.
(6) المحلى 5/33.(1/69)
الجمع بين الصلاتين تأخيراً أو تقديماً جائز وهو رخصة من رخص السفر في قول كثير من أهل العلم، ولا فرق بين كونه سائراً أو نازلاً، وتعريفه:
هو أن يجمع المصلي بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الظهر، بأن يصلي العصر مع الظهر قبل حلول وقت العصر. أو يجمع تأخيراً، بأن يؤخر الظهر حتى يخرج وقته ويصليه مع العصر في وقت العصر، ومثل الظهر والعصر المغرب والعشاء، فيجمع تقديماً وتأخيراً.(1)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأحاديث الجمع عن النبي صلى الله عليه وسلم مأثورة من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومعاذ، وأبي هريرة، وجابر ... وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كان يكون في وقت الثانية وفي وقت الأولى وجاء الجمع مطلقاً.(2)
وقال ابن تيمية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية : يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء ، وبين الظهر والعصر عند كثير من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار(3).
الجمع في السفر
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء.(4)
وروى مسلم عليه رحمة الله عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء.(5)
عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.(6)
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 138.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 2/260.
(3) مجموع الفتاوى ( 22 / 31 ) .
(4) أخرجه البخاري/ 1106، ومسلم/ 703، وغيرهم.
(5) أخرجه مسلم/ 327، وأحمد/ 5163، والترمذي/ 552 وقال حسن صحيح.
(6) أخرجه البخاري/ 1112، ومسلم/ 704، وغيرهم.(1/70)
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق.(1)
قال ابن حجر رحمه الله: وحديث أنس وهو مطلق. واستعمل المصنف الترجمة مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق لأن المقيّد فرد من أفراده، وكأنه رأى جواز الجمع بالسفر سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيره مجدّاً أم لا، وهذا مما وقع فيه الإختلاف بين أهل العلم، فقال بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد، وإسحاق، وأشهب. وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وتعقبه الخطابي وغيره بأن الجمع رخصة، فلو كان ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوئل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: "أراد أن لا يحرج أمته" أخرجه مسلم، وأيضاً فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين. أ هـ.(2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء.(3)
عن أبا الشعثاء جابرا قال سمعت بن عباس رضي الله عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه مسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وعجل العشاء وأخر المغرب قال وأنا أظنه.(4)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 704، والنسائي/ 615، وأبو داود/ 1234، والبيهقي/ 4310، وابن خزيمة/ 969.
(2) فتح الباري 2/738.
(3) أخرجه مسلم/ 1148، وأبو داود 1020، وابن ماجة/ 1060، وأحمد/ 20992، والدارمي/ 1476، والبيهقي/ 4338، والطبراني في الكبير/ 1250،.
(4) أخرجه البخاري/ 1120.(1/71)
وعند الإمام أحمد: وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر ، وفي المغرب مثل ذلك ؛ إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإذا ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخّر المغرب حتى ينزل للعِشاء ثم جمع بينهما .(1)
قال الترمذي : والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء . رواه قرّة بن خالد وسفيان الثوري ومالك وغير واحد عن أبي الزبير المكي ، وبهذا الحديث يقول الشافعي ، وأحمد وإسحاق يقولان : لا بأس أن يجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما(2).
وجاء الحديث عند الإمام مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه أخّر الصلاة في غزوة تبوك خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً.
قال الشافعي: قوله: "ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازلاً، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال: لا يجمع إلا من جدّ به السير، وهو قاطع للإلتباس.(3)
__________
(1) أخرجه احمد/ 242، وأبو داود/ 1220، والترمذي/ 553، والبيهقي/ 5309، والدارقطني: 1/392 قال ابن القيم في أعلام الموقعين وإسناده صحيح.
(2) جامع الترمذي : 2 / 440.
(3) نيل الأوطار3/227.(1/72)
وفي الصحيحين، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر)، قال فخرج بلال فنادى بالصلاة ثم دخل فأخرج فضلُ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع عليه الناس يأخذون منه، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها من أدم)، كأني أنظر إلى وبيص ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر والعصر ركعتين.(1)
حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أنّ الحجّاج بن يوسف عام نزل بابن الزّبير رضي الله عنهما، سأل عبدالله رضي الله عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السّنّة فهجّر بالصّلاة يوم عرفة، فقال عبدالله بن عمر: صدق، إنّهم كانوا يجمعون بين الظّهر والعصر في السّنّة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل تتّبعون في ذلك إلا سنّته؟.(2)
عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منًى حين صلّى الصّبح صبيحة يوم عرفة، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منْزل الإمام الّذي ينْزل به بعرفة، حتّى إذا كان عند صلاة الظّهر راح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهجّرًا، فجمع بين الظّهر والعصر، ثمّ خطب النّاس، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة.(3)
__________
(1) أخرجه البخاري/ 3373، ومسلم/ 777، وغيره.
(2) أخرجه البخاري/ 1579، والبيهقي/ 9239.
(3) أخرجه أحمد/ 6130، ومن طريقه أبو داود/ 1913، هذا حديث حسن لتصريح ابن إسحاق بالتحديث .(1/73)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله. وذكر الحديث وفيه صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه: حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطْن الوادي فخطب النّاس -وذكر الخطبة، وبعدها:- فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئًا. وذكر الحديث.(1)
عن جابر بن زيد أن ابن عباس كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول: هي السنة.(2)
عن أبي عثمان قال: خرجنا مع سعد بن مالك معدّين للحج، فكان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء حتى قدمنا مكة.(3)
عن أبي عثمان قال: سافرت مع سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأسامة بن زيد بن حارثة فكانا يجمعان بين الأولى والعصر، والمغرب والعشاء الآخرة.(4)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 1218، وأحمد/ 14558، وابن حبان/ 1457، وابن خزيمة/ 2687، والنسائي في الكبرى/ 1575، وأبو داود/ 1905، وابن ماجة/ 3074، والبيهقي/ 3096، والدارمي/ 1850، والشافعي/ 1028، وفي الأم: 1/74، وابن حزم في المحلى: 2/66، والطحاوي في شرح معاني: 1/379، وابن أبي شيبة/ 6063، وعبد بن حميد/ 1135.
(2) أخرجه البيهقي/ 5328، والنسائي في الكبرى/ 382، والمتقي الهندي في كنز العمال/ 22775، وإسناده محتمل للتحسين ، رجاله كلهم صدوقون غير أن سعيد بن أبي عروبة مع انه ثقة حافظ إلا انه كثير التدليس واختلط كما ذكره الذهبي في سيرأعلام النبلاء وغيره..
(3) أخرجه ابن أبي شيبة/8243، ابن المنذر في الأوسط/ 1153، والمتقي العندي في كنز العمال/ 22788.
(4) أخرجه البيهقي/ 3/165، وعبد الرزاق/ 4407/ وابن أبي شيبة/ 8236، ورجاله ثقات.(1/74)
والمنقول عن سالم بن عبد الله جواز الجمع بعذر السفر بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما. نقله عنه البغوي في شرح السنة، وقال رحمه الله: إختلف أهل العلم في الجمع في السفر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، فذهب كثير من أهل العلم إلى جوازه وهو قول .... وذكر سالم بن عبد الله.(1)
والمشهور عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جواز الجمع حتى في المطر، وذكر الخطابي في معالم السنن: أن عمر بن عبد العزيز أجاز للممطور في الطين وفي حالة الظلمة.(2)
وأخرج البخاري وغيره عن سالم، عن أبيه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.(3)
وأخرجه البخاري أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ: رأيت رسول الله إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء، ثلاثتهم عن الزهري، عن سالم.(4)
وأخرجه النسائي من طريق كثير بن قاووند، عن سالم، عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إذا حضر أحدكم الأمر الّذي يخاف فوته، فليصلّ هذه الصّلاة.(5)
وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عجل به السّير جمع بين المغرب والعشاء.(6)
وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يحيى القطان، والترمذي من طريق عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيدالله عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشّفق. ويقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء. لفظ مسلم.
__________
(1) شرح السنة للبغوي 4/195،ومعالم السنن 1/263.
(2) معالم السنن 1/265. ومجموع فتاوى ابن تيمية 24/82.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.
(6) سبق تخريجه.(1/75)
ولفظ الترمذي: إنّه استغيث على بعض أهله فجدّ به السّير، وأخّر المغرب حتّى غاب الشّفق، ثمّ نزل فجمع بينهما، ثمّ أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعل ذلك إذا جدّ به السّير. وقال: حسن صحيح.(1)
ورواه أبوداود من طريق أيوب، عن نافع: أنّ ابن عمر استصرخ على صفيّة وهو بمكّة، فسار حتّى غربت الشّمس وبدت النّجوم، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصّلاتين فسار حتّى غاب الشّفق، فنزل فجمع بينهما.
ورواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير، أو حزبه أمر، جمع بين المغرب والعشاء.
ومن طريق ابن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد، وفيه: حتّى إذا كان في آخر الشّفق نزل فصلّى المغرب، ثمّ أقام العشاء وقد توارى الشّفق فصلّى بنا، ثمّ أقبل علينا فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به السّير صنع هكذا.(2)
ومن طريق إسماعيل بن عبدالرحمن شيخ من قريش، عن ابن عمر في جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.(3)
وأخرجه البخاري في (الحج والجهاد) في "صحيحه"، من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بطريق مكّة، فبلغه عن صفيّة بنت أبي عبيد شدّة وجع، فأسرع السّير، حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلّى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثمّ قال: إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير أخّر المغرب وجمع بينهما.(4)
قوله: (جدّ به السّير)، أي: اشتدّ به السير. قال في "المحكم": جدّ به الأمر، أي: اشتد.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.(1/76)
قال ابن عبدالبر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من "الموطأ" وغيره: في هذا أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير. وهو قاطع للإلتباس، قال: وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلاً غير سائر، فالذي يجد به السير أحرى بذلك، وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير. وفي الآخر: أنه جمع نازلاً غير سائر، فإما أن يجمع وقد جدّ به السير، ويجمع وهو نازل لم يجد به السير. فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم.
قال: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه. وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبدالله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة.(1)فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده، ولم تمل به العصبية إلى المعاندة. انتهى.(2)
وحكى أبوالعباس القرطبي عدم اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف، وعلماء الحجاز، وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر.
وقال القاضي عياض في "المشارق": جدّ به السّير، أي أسرع وعجل في الأمر الذى يريده. انتهى.
الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر
__________
(1) أخرجه مالك/ 330، ومن طريقه عبد الرزاق/ 4414، والبيهقي: 3/165، وإسناده صحيح.
(2) قاله ابن عبد البر في التمهيد: 12/196.(1/77)
أخرج الإمام مالك عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر. قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.(1)
خرج الشيخ الألباني عليه رحمة الله خبر ابن عباس وجمع طرقه ورواياته في إرواء الغليل انقلها جميعاً بعون الله تعالى.
قال أبو الزبير: سألت سعيداً: لم فعل ذلك فقال: سألت ابن عباس كما سألتني! فقال: أراد أن لا يحرج أمته.(2)
وقد تابعه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير به إلا أنه قال : " مطر " بدل " سفر ".(3)
وتابعه عمرو بن هرم عن سعيد بلفظ : " أن ابن عباس جمع بين الظهر والعصر من شغل وزعم ابن عباس أنه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعا.(4)
__________
(1) أخرجه مالك/ 330 ، ومسلم/ 1151، وأبو عوانة: 2/353، والنسائي في الكبرى/ 1573، وأبو داود/ 1210، وابن حبان/1593، وابن خزيمة/ 972، والشافعي: 1/214، والبيهقي في السنن/ 5332، والبغوي في شرح السنة: 4/197، والطحاوي في شرح المعاني: 1/160، وابن حزم في المحلى: 3/173.
(2) أخرجه مسلم/ 705، والبيهقي/ 5336، والبغوي في شرح السنة: 4/198، وأبو عوانة، والطيالسي/ 2629، والحميدي/ 471، وعبد الرزاق/ 4435، وابن خزيمة/ 971، وأحمد/ 3265، وأبو يعلى/ 2401، والطبراني/ 12571، والطحاوي: 1/160، وابن حزم في المحلى: 3/172. مسلم/ 1151، والنسائي/ 598،أحمد/ 3323، وأبو داود/ 1211، والترمذي/ 172، وابن المنذر في الأوسط/ 1158.
(3) أخرجه مسلم/ 1151، والنسائي/ 598،أحمد/ 3323، وأبو داود/ 1211، والترمذي/ 172، وابن المنذر في الأوسط/ 1158.
(4) أخرجه الطيالسي/ 2614.(1/78)
ورواه النسائي من طريق حبان بن هلال وهو ثقة حجة حدثنا حبيب به بلفظ : أن ابن عباس جمع بين الظهر والعصر من شغل ، وزعم ابن عباس أنه صلى مع رسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة الأولى العصر ثمان سجدات ليس بينهما شئ " . وهذا إسناد جيد ، وهو على شرط مسلم .(1)
وللحديث طرق أخرى عن ابن عباس : فقال الإمام أحمد: ثنا يحيى عن شعبة ثنا قتادة قال : سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال : " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة ، في غير خوف ولا مطر ، قيل لابن عباس وما أراد لغير ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته .(2)قلت : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء .
وقد رواه عنه عمرو بن دينار مختصرا بلفظ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا ، الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.(3)
وزاد هو ومسلم وغيرهما : قلت : يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر ، وأخر المغرب وعجل العشاء ، قال : وأنا أظن ذلك " . ووهم بعض رواة النسائي فأدرجه في الحديث ! قلت : ورواية قتادة عن أبي الشعثاء ترجح رواية حبيب بن أبي ثابت بلفظ ( مطر ) بدل " سفر " ، ولم تقع هذه الرواية للبيهقي فرجح رواية أبي الزبير المخالفة لها بلفظ " سفر " برواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء هذه التي ليس فيها لفظ من اللفظين ! ويرجحه أيضا الطريق الآتية :
__________
(1) أخرجه النسائي/ 586.
(2) أخرجه أحمد/ 1852.
(3) أخرجه البخاري/ 518، ومسلم/ 705، وأبو عوانة: 2/354، والنسائي/ 383، وأبو داود/ 1214، والبيهقي/ 5340. وقلت ورواه أيظا ابن حبان/ 1597، والطبراني في الكبير/ 12808، وابن الجعد/ 1628.(1/79)
قال ابن أبي شيبة: وكيع قال نا داود بن قيس الفراء عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس قال : " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر ، قال : فقيل لابن عباس : لم فعل ذلك ؟ قال : أراد التوسعة على أمته.(1)
وهذا سند حسن في المتابعات والشواهد رجاله ثقات رجال مسلم غير صالح هذا ففيه ضعف.
ورواه الطحاوي(2)من طريق أخرى عن للفراء ، وقال : " في غير سفر ولا مطر " ، ولعل الصواب الرواية الأولى ، فإن لفظ " المدينة " معناه في " غير سفر " ، فذكر هذه العبارة مرة أخرى لا فائدة منها بل هو تحصيل حاصل ، بخلاف قوله " في غير خوف " ففيه تنبيه إلى معنى لا يستفاد إلا به فتأمل .
قال عبد الله بن شقيق قال: وخطبنا ابن عباس بالبصرة يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أتعلمني بالسنة لا أمّ لك؟ ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته.(3)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف/ 8230، أحمد: 1/346، والطبراني/1083. قلت والحديث أيظا موجود في مصنف عبد الرزاق/ 4434، في مسند أبي يعلى برقم:/ 2678، ومسند عبد بن حميد/ 709، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان: 2/196.
(2) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 1/95.
(3) أخرجه مسلم/ 705، وأبو عوانة: 2/354، والطيالسي/ 2720.(1/80)
وفي رواية عنه قال : " قال رجل لابن عباس : الصلاة ، فسكت ، ثم قال : الصلاة فسكت ، ثم قال : الصلاة ، فسكت ، ثم قال : لا أم لك تعلمنا بالصلاة ؟ ! وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم وابن أس شيبة وزاد في آخره : " يعني السفر ، . قلت : والظاهر أن هذه الزيادة من ابن أبي شيبة نفسه على سبيل التفسير وما أظنها صوابا ، فإن الظاهر من السياق أن الجمع المرفوع إلى الني صلى الله عليه وسلم كان في الحظر ، وإلا لم يصح احتجاج ابن عباس به على الرجل كما هو ظاهر ، ويؤيده رواية " بالمدينة " فإنها صريحة في ذلك كما تقدم.(1)
وللحديث شاهد من حديث جابر يرويه الربيع بن يحيى الأشناني قال ثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عنه قال : " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة للرخص من غير خوف ولا علة ".(2)... انتهى
نكتفي بهذا القدر من إراواء الغليل للشيخ الأباني رحمه الله تعالى.
أخرج الطبراني عن عبد الله قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بين الأولى والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له صنعته لئلا تكون في أمتي حرج.(3)
__________
(1) أخرجه اب أبي شيبة/ 8231، ومسلم/ 705، وأخرجه أيظا الإمام احمد/ 3293، البيهقي/ 5343.
(2) أخرجه الطحاوي : 1 / 96 ، وابن أبي حاتم في العلل : 1 / 116 ، وتمام في الفوائد: 4 / 78 وخلف بن محمد الواسطي في " السادس من الأفراد والغرائب: 254 - 255 من طرق عنه.
(3) رواه الطبراني في الكبير/ 10525، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 2/161، عبد الله بن عبد القدوس ضعفه ابن معين والنسائي ووقه ابن حبان وقال البخاري: إلا أنه يروي عن قوم ضعفاء. قلت: أي الهيثمي، وقد روى هذا عن الأعمش وهو ثقة.(1/81)
عن ابن قنبر قال: سألنا سالم بن عبد الله عن صلاة أبيه في السفر؟ فأخبر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حضر أحدكم المر يخشى فوته فليصل هذه الصلاة – يعني الجمع بين الصلاتين-.(1)
وروى الإمام أحمد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر والحضر.(2)
قال أحمد شاكر: إسناده جيد.
لذا ذهب جماعة من الفقهاء أن العذر المبيح للجمع لا يحصر في السفر ولا مطر، ولا وحل ولا مرض بل يعمها وسائر الأعذار. واستدلوا بحديث ابن عباس المتقدم وغيره.
وقد حكاه عدد كبير من العلماء والفقهاء كما سيأتي، وننوه أنهم رحمهم الله اشترطوا جميعاً وجود مبرر وحاجة للجمع.
فحكى ابن سرين انه كان لا يرى بأساً ان يجمع بين صلاتين إذا كانت الحاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة.(3)
قال النووي: وذهب جماعة من الإئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سرين، وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال، والشاشي الكبيرمن أصحاب الشافعي عن أبي اسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر.(4)
وهذا رأي الإمام أحمد رحمه الله تعالى، قال ابن تيمية: وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نصّ على أنه يجوز للحرج والشغل ... ثم قال رحمه الله: قال القاضي أبو يعلى رحمه وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح لترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع.(5)
__________
(1) رواه النسائي/ 597، والطبراني/ 13233، والألباني في السلسلة الصحيحة: 3/358.
(2) أخرجه أحمد/ 3223.
(3) معالم السنن 1/365، وابن المنذر في الأوسط: 2/434.
(4) شرح مسلم 5/319.
(5) مجموع الفتاوي 24/28.(1/82)
واختار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هذا الرأي ودافعا عنه دفاعاً قوياً مدعماً بالأحاديث النبوية الصحيحة ناظرين من جمعه صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ولمقاصد الشريعة في التخفيف ورفع الحرج إذا اقتضت الحاجة إليها.(1)
وهذا رأي سعيد ابن المسيب، ويستفاد ذلك من مصنف ابن أبي شيبة، ففيه بسنده أن رجلاً جاء إلى سعيد ابن المسيب فقال: إني راعي إبل أحلبها حتى إذا أمسيت صليت المغرب ثم طرحت فرقدت عن العتمة؟ فقال : لاتنم حتى تصليها، فإن خفت أن ترقد فاجمع بينهما.(2)
قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه وتحقيقه لسنن الترمذي بعد ذكره أسماء القائلين بجواز الجمع للعذر والحاجة ما نصه: وهذا هو الصحيح الذي يأخذ من الحديث –حديث ابن عباس- ، وأما التأول بالمرض أو العذر أو غيره فإن تكلف لا دليل عليه وفي الأخذ بهذا –جواز الجمع للحاجة- رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم، أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين، ويتأثمون من ذلك ويتحرجون، ففي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتخذه عادة كما قال ابن سرين.(3)
ويؤيده فعل ابن عباس رضي الله عنهما حين خطب المسلمين بالبصرة يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أتعلمني بالسنة لا أمّ لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته.(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/76 و زاد المعاد 1/133.
(2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف/ 8257.
(3) سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر 1/358.
(4) سبق تخريجه.(1/83)
ويوضح ابن تيمية وجهة نظر ابن عباس فيقول: فهذا ابن عباس لم يكن في خوف ولا سفر ولا في مطر، ولكن ابن عباس كان في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فعن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر بل للحاجة تعرض له كما قال: أراد أن لا يحرج أمته.(1)
قال ابن سيد الناس رحمه الله: ومعناه إنما فعل تلك لئلا يشق عليهم ويثقل ، فقصد إلى التخفيف عنهم(2).
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل ...(3)
ويقول ابن تيمية رحمه الله: يجوز الجمع للوحل الشديد، والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في بيتهم بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة، إذ السنة ان تصلي الصلوات الخمس في المساجد في جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين.(4)
الجمع في المطر
وأخرج مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم.(5)
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/77.
(2) تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/492 ، 493 .
(3) أخرجه النسائي/ 586، وأورده ابن حجر في الفتح: 2/24، ولم يعلق عليه، وفي عمدة القاري: 5/32.
(4) مجموع الفتاوى 24/29.
(5) ورواه مالك/ 301،ومن طريقه النسائي في الصغرى/ 619، والبيهقي/ 5345، وعبد الرزاق/ 4438 وأخرجه ابن أبي شيبة/ 6266، وابن المنذر في الأوسط/ 1157، من طريق عبيد الله وهو حديث صحيح كما في إرواء الغليل: 3/71.(1/84)
عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن أهل المدينة كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة فيصلي معهم بن عمر لا يعيب ذلك عليهم.(1)
قال هشام بن عروة: رأيت أبان بن عثمان يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة المغرب والعشاء فيصليها معه عروة بن الزبير وأبو سلمة عبد الرحمن وأبو بكر ابن عبد الرحمن لا ينكرونه ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعاً.(2)
وعن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر ، وأن سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك.(3)
قال ابن تيمية بعد أن ذكر كثير من الأدلة السابقة الذكر وغيرها: فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه ـ أيضاً ـ للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر، وجمع في المدينة، كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر،فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفيا منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً .
ولو لم ينقل أنه جمع بها، فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر،وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق/ 4441 بإسناد صحيح.
(2) أخرجه البيهقي/ 5346 من طريق أبو الشيخ، وابن أبي شيبة/ 6269، وصححه الألباني في الإرواء: 3/40.
(3) أخرجه البيهقي/ 4347 وصححه الألباني في الإرواء: 3/40،(1/85)
فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه اللّه عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحري، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة، وأمثال ذلك من الصور . (1)
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وذلك يدل على أن الجمع للمطر كان معهودا لديهم ، ه حديث ابن عباس المتقدم قبل حديث : " من غير خوف ولا مطر " فإنه يشعر أن الجمع للمطر كان معروفا في عده صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو لم يكن كذلك لما كان ثمة فائدة من نفي المطر كسبب مبرر للجمع ، فتأمل.(2)
وروى الأثرم في سننه عن أبو سلمة عبد الرحمن انه قال: من السنة إذا كان يوم المطير يجمع بين المغرب والعشاء.(3)
وذكر ابن القيم في مسائل أحمد بن خالد البراثي: أن دليل الجمع للمطير ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان أهل المدينة إذا جمعوا بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة صلى معهم ابن عمر وروى عن ابن الوبير مثله.(4)
والمطر والبرد الشديد والريح الشديدة والوَحَل كلها أعذار مُبيحة للجمع .
ويجوز الجمع في الثلج والبرد والوحل والريح الشديد البارد وهو قول عمر بن عبد العزيز.(5)
قال القاضى أبو يعلى : كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة يبيح الجمع ، ولهذا يجمع للمطر والوحل وللريح الشديدة الباردة في ظاهر مذهب الإمام أحمد ، ويجمع المريض والمستحاضة والمرضع.(6)
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/82-83.
(2) إرواء الغليل: 3/40.
(3) سنن الأثرم صفحة 137، قال الألباني في الإرواء: 3/40 لم أقف على سنده لأنظر فيه ، ولا على من تكلم عليه ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن تابعي ، وقول التابعي : من السنة كذا ، في حكم الموقوف لا المرفوع.
(4) بدائع الفوائد4/90، سبق تخريج الحديث.
(5) المغني: 3/134.
(6) مسند أبو يعلى: 24/14.(1/86)
فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين ، هل يجوز من البرد الشديد ؟ أو الريح الشديدة ؟ أم لا يجوز إلا من المطر خاصة ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . يجوز الجمع بين العشائين للمطر والريح الشديدة الباردة والوحل الشديد ، وهذا أصح قولي العلماء ، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما ، والله أعلم .(1)
وقد ذهب الإمام مالك والحنابلة على جواز الجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم.
بيدا أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع من غير خوف ولا مطر الظهر والعصر والمغرب والعشاء فكان الجمع بين الظهر والعصر في المطر أولى. والله تعالى أعلم.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للمطور في الحضر فأجازه جماعة من السلف روي ذلك عن ابن عمر وفعله عروة وابن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة وعامة فقهاء المدينة وهو قول مالك والشافعي وأحمد.(2)
__________
(1) مجموع الفتاوى: 24/29.
(2) معالم السنن 1/264.(1/87)
وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد اللّه بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر، قال البيهقي : ورواه العمري، عن نافع فقال : قبل الشفق، وروى الشافعي في القديم : أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد، عن معاذ بن عبد اللّه بن حبيب أن ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق، وذكر ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكر ذلك . وبإسناده عن موسي بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد ابن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان، كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك . (1)
والجمع بين الصلاتين في المطر والبرد والثلج والعواصف الشديدة معلق بأدائها في المسجد أو في جماعة دونه.
قال قيلوبي من الشافعية: ليس المسجد قيداً والمراد محل الجماعة.(2)
قال ابن حجر الهيثمي: والأظهر تخصيص الرخصة في المصلى جماعة بمسجد أو بغيره.(3)
واستدل ابن القيم رحمه الله تعالى على وجوب الجماعة بأن الجمع بين الصلاتين شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة مع أن إحدى الصلاتين وقعت خارج الوقت، والوقت واجب، فلو لم تكن الجماعة واجبة لما ترك لها الوقت الواجب.(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/82-83.
(2) حاشية قيلوبي 1/368.
(3) تحفة المحتاج 2/403.
(4) بدائع الفوائد 3/159و161.(1/88)
سئل الإمام مالك عن القوم يكون بعضهم قريب المنزل من المسجد إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته وإذا خرج من المسجد دخل إلى منزله مثل ذلك يدخل منزله مكانه ومنهم بعيد المنزل من المسجد أترى أن يجمعواالصلاتين كلهم في المطر؟ فقال: ما رأيت الناس إذا جمعوا إلا القريب والبعيد فهم سواء يجمعون. قيل ماذا؟ فقال إذا جمعوا جمع القريب منهم والبعيد.(1)
أما جار المسجد إذا صلى في بيته منفرداً لا يجوز له الجمع ولا يجوز للرجل أن يجمع في أهل بيته.
ومنع المالكية والشافعية ووجه من الحنابلة وإختاره ابن عقيل وصححه الجمع بين الصلاتين في المطر للمنفرد حتى في المسجد ولم يرخصوا لجار المسجد أن يجمع بين الصلاتين تبعاً لأهل المسجد وهو في بيته بل إما أن يذهب للمسجد فيجمع معهم أو يصلي كل صلاة بوقتها.(2)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: ويجمع من قليل المطر وكثيره ولا يجمع إلا من خرج من بيته إلى المسجد، ولا يجمع أحد في بيته لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المسجد والمصلي في بيته مخالف المصلي في المسجد. ا هـ.(3)
فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان : أحدهما يبيح الجمع . قال الآمدي : وهو أصح ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ؛ لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة(4)
قال أيوب السختياني عليه رحمة الله: -ليلة مطيرة- فالمراد من هذا ان يكون الوقت وقت مطر لا أن يكون المطر نازلاً عند الإحرام بالصلاة ولإن سبب الجمع هو العذر المبيح لجمع الصلاة إذا وجد جاز الجمع مطلقاً كالسفر، فكذلك المطر إذا وجد جاز الجمع مطلقاً سواء أكان فيه مشقة أم لا وسواء أكان في المسجد أم في غيره.(5)
__________
(1) البيان والتحليل 1/403.
(2) مواهب الجليل 2/158، فتح العزيز 4/479، شرح المحلى 1/368، والمغني 2/276.
(3) الأم 1/95.
(4) المغني 3 / 134 .
(5) أحكام الصلاة للمحدث علي راغي 91.(1/89)
ويجوز الجمع لمن أتى المسجد وكان الإمام الراتب قد انتهى من الجمع فيجوز الجمع مع جماعة أخرى قد تأخرت عن الإلتحاق في الجماعة مع الإمام الرتب، وقد كرهه بعض الأئمة.(1)
قال الزيلعي رحمه الله: أحاديث إقامة الجماعة مرتين في المساجد منعها مالك وأجازها الباقون والحجة عليه ما أخرجه الترمذي في كتابه عن سليمان الأسود عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يصلي وحده فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه انتهى،(2)قال الترمذي حديث حسن ، ورواه أبو داود واللفظ المذكور له ولفظ الترمذي قال جاء رجل وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يتجر على هذا فقام رجل فصلى معه انتهى(3)، وفي رواية البيهقي أن الذي قام فصلى معه أبو بكر رضي الله عنه والله أعلم حديث آخر أخرجه الدارقطني في سننه عن محمد بن الحسن الأسدي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتجر على هذا فيصلي معه انتهى وسنده جيد.(4)
ومن المجزين أيظا ابن حزم في المحلى، قال: كان محمد بن يبقى بن زرب القاضي إذا دخل مسجدا قد جمع فيه إمامه الراتب وهو لم يكن صلى تلك الصلاة بعد، جمع بمن معه في ناحية المسجد.(5)
__________
(1) أنظر القائلين بالكراهة في الأم 1/180، وبذل المجهود 4/177.
(2) أخرجه أبو داود/ 574، والنسائي/ 584، وأحمد/ 1132، والحاكم في المستدرك/ 758، وابن حبان/ 2397، والبيهقي/ 3465، والدارمي/ 1368، والطبراني في الأوسط/ 2174، والصغير/ 606، والهيثمي في مجمع الزوائد: 2/45 رواه أحمد وروى أبو داود والترمذي بعضه ورجاله رجال الصحيح، والألباني في الجامع الصغير/2652 وقال: صحيح.
(3) أخرجه الترمذي/ 204، وابن خزيمة/ 1632، وابن أبي شيبة/ 7097، ومن طريقه ابن حزم: 4/238.
(4) نصب الراية للزيلعي 2/57.
(5) المحلى: 4/237.(1/90)
وذكر ابن حزم عن سفيان الثوري عن عبد الله بن يزيد أمني إبراهيم في مسجد قد صلى فيه فأقامني عن يمينه بغير أذان ولا إقامة.
وذكر ابن حزم أيظاً عن معمر صحبت أيوب السختياني من مكة إل البصرة فأتينا مسجد أهل ماء قد صلى فيه فأذن أيوب وأقام ثم تقدم فصلى بنا
وعنده عن حماد بن سلمة عن عثمان البتي قال دخلت مع الحسن البصري وثابت البناني مسجدا قد صلى فيه أهله فأذن ثابت وأقام وتقدم الحسن فصلى بنا فقلت يا أبا سعيد أما يكره هذا قال وما بأسه .(1)
ومن السنة أن يقول المؤذن في الليلة الباردة: " ألا صلوا في الرحال"، والدليل عليه: عن نافع أن ابن عمر نادى بالصلاة في ليلة ذات ريح وبرد في أخر أذانه: ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في الرحال، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح في السفر يقول: ألا صلوا في الرحال.(2)وفي رواية لمسلم: أو ذات مطر في سفر. وقال البخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة في سفر. وفي رواية لهما: إن أذان ابن عمر كان بضجنان.(3)
ولهما أن ابن عباس رضي الله عنها قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهدا أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حي على الصلاة، قل صلوا في بيوتكم. فكأن الناس استنكروا ذلك. فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذلك من هو خير مني. وفي رواية لهما أنه كان يوم جمعة. وفيه: فعله من هو خير مني.(4)
__________
(1) المحلى 4/238. كذلك أنظر أيظا في كتاب إقامة الحجة للكنوي 31.
(2) رواه البخاري/ 606، ومسلم/ 697، وغيرهم.
(3) ضجنان هي جبيل في السعودية حالياً.
(4) أخرجه البخاري/ 591، ومسلم/ 699 وغيرهم.(1/91)
أما أمره صلى الله عليه وسلم للمؤذن أن يقول: ألا صلوا في الرحال. ليس هو أمر عزيمة حتى لا يشرع لهم الخروج إلى الجماعة. إنما هو راجع إلى مشيئتهم، فمن شاء صلى في بيته ومن شاء خرج إلى الجماعة، بدليل ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمُطر، فقال ليصل من شاء منكم في رحله. فوكل ذلك إلى مشيئته.
وهذا النداء: ألا صلوا في رحالكم لا يمنع الجمع إذا يتعذر اجتماعهم تلك الليلة في المسجد الجامع، ويحتمل أن يكون بصلاة الجمع في غير المسجد الجامع.
جواز الجمع للمريض
ويجوز الجمع للمريض تقديماً وتأخيراً وذلك لأن المشقة أشد من المطر، قاله كثير من أهل العلم منهم الإمام أحمد والخطابي رحمهم الله.
فقد روى أهل بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة بالجمع في حديث حمنة بنت جحش وغيرها. والإستحاضة نوع من المرض ...(1/92)
وفيه: عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش قالت كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله إني استحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها قد منعتني الصيام والصلاة قال أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا فقال النبي صلى الله عليه وسلم سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين وتصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين وكذلك فافعلي وصومي إن قويت على ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعجب الأمرين إلي.(1)
وأخرجه النسائي بإسناد صحيح عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها أنه عرق عاند فأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا واحدا.(2)
__________
(1) أخرجه الترمذي 128 بطوله وقال حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه النسائي/ 213، وأحمد/ 25430 ، وأبو داود/ 294، والدارمي/ 770 والبيهقي/ 1542، وابن راهويه/ 964، والطيالسي/ 1419، وإسناده صحيح.(1/93)
وأخرج الدارمي بإسناد صحيح عن عطاء قال كان بن عباس يقول في المستحاضة تغتسل غسلا واحدا للظهر والعصر وغسلا للمغرب والعشاء وكان يقول تؤخر الظهر وتعجل العصر وتؤخر المغرب وتعجل العشاء.(1)
وروى أبو داود بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس قالت قلت يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله هذا من الشيطان لتجلس في مركن فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا وتغتسل للفجر غسلا واحدا وتتوضأ فيما بين ذلك.(2)
وقال أبو داود رحمه الله: ورواه مجاهد عن بن عباس لما اشتد عليها الغسل أمرها أن تجمع بين الصلاتين، وقال أبو داود ورواه إبراهيم عن بن عباس وهو قول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد.(3)
قال الترمذي رحمه الله: وقال أحمد وإسحاق في المستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة هو أحوط لها وإن توضأت لكل صلاة أجزأها وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد أجزأها.(4)
وقياساً على الإستحاضة أجاز الحنابلة الجمع للمرضع لمشقة كثرة النجاسة، وللعاجز عن الطهارة لكل صلاة كمن به سلس البول أو شغل يبيح ترك الجمعة والجماعة.(5)
__________
(1) أخرجه الدارمي/ 804، وابن أبي شيبة/ 1355، وعبد الرزاق/ 1711، وأخرجه الدارمي كذلك/ 903، من طريق مجاهد، والطحاوي في شرح المعاني: 1/101، وأخرجه ابن الجعد/ 115 من طريق النخعي، كذلك انظر المحلى: 2/214.
(2) سنن أبو داود/ 296، والبيهقي/ 1547، والدارقطني/ 53،
(3) سنن أبو داود: 1/97.
(4) سنن الترمذي 1/220.
(5) منار السبيل 122.(1/94)
قال سحنون: وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير سفر ولا خوف، وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما في سفر، وسعد بن مالك، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد، فالمريض أولى بالجمع لشدة ذلك لشدة عليه، ولخفته على المسافر وإنما الجمع رخصة لتعب السفر، ومؤنته إذا جد به السير، فالمريض أتعب من المسافر وأشد مؤنة لشدة الوضوء عليه في البرد، ولما يخاف عليه منه ولما يصيبه من بطن منخرق، أو علة يشتد عليه التحرك والتحويل، ولقلة من يكون له عوناً على ذلك فهو أولى بالرخصة وهي أشبه منها بالمسافر.(1)
والعمل على هذا عند أهل العلم أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض وبه يقول أحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم يجمع بين الصلاتين في المطر وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين.(2)
قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في جمع المريض بين الصلاتين الحضر والسفر فأباحت طائفة للمريض أن يجمع بين الصلاتين وممن رخص في ذلك عطاء بن أبي رباح.
وقال مالك في المريض إذا كان أرفق به أن يجمع بين الظهر والعصر في وسط وقت الظهر إلا أن يخاف أن يغلب على عقله فيجمع قبل ذلك بعد الزوال ويجمع بين المغرب والعشاء عند غيبوبة الشفق إلا أن يخاف أن يغلب على عقله فيجمع قبل ذلك وإنما ذلك لصاحب البطن وما أشبهه من المرضى أو صاحب العلة الشديدة يكون هذا أرفق به.(3)
__________
(1) المدونة 1/204.
(2) سنن الترمذي: 1/357.
(3) الأوسط: 2/434.(1/95)
وقال السيوطي: وقد اختار ما اختاره من جواز الجمع بعذر المرض جماعة من المتأخرين منهم، السبكي، والأسنوي، والبلقيني، وهو اختياري. واستدل على جوازه بقوله تعالى: ( وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ ).(1)
وجرى على هذا ابن المقرى، قال في المهمات: وقد ظفرت بنقله عن الشافعي. وتابعه عليه الخطيب الشربيني فقال: وهذا هو اللائق بمحاسن الشريعة، وقد قال تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).(2)
وقال الليث : يجمع المريض والمبطون ، وقال أبو حنيفة : يجمع المريض بين الصلاتين كجمع المسافر ، وقال أحمد وإسحاق : يجمع المريض بين الصلاتين(3).
قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : المريض يجمع بين الصلاتين ؟ فقال : إني لأرجو له ذلك إذا ضعف ، وكان لا يقدر إلا على ذلك . وكذلك يجوز الجمع للمستحاضة ولمن به سلس البول ومن في معناهما(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته ، فيُباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة ، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى ، ويجمع من لا يُمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بِحَرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور(5).
الجمع بأذان واحد وإقامتين
__________
(1) النساء: 102
(2) سورة الحج 78.
(3) الاستذكار 6 / 37 .
(4) المغني ، 3 / 136 ، والمرجع السابق.
(5) مجموع الفتاوى: 24 / 84 .(1/96)
روى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما ثم اضطجع حتى طلع الفجر.(1)
قال الشوكاني:وقد ذهب إلى المرشروع أذان واحد وإقامة لكل صلاة: الشافعي في القديم وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون وقوّاه الطحاوي وإليه ذهب الهادوية، وقد استدلوا بالحديث أعلاه.(2)
جمع العصر مع الجمعة
قال النووي رحمه الله: يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر للمطر فإذا قدم العصر فلا بد من وجود المطر في الأحوال الثلاثة، قال صاحب البيان، ولا يشترط وجوده (المطر) في الخطبتين، وقال: وإن أراد تأخير الجمعة إلى وقت العصر جاز فيخطب في وقت العصر ويصلي. أ هـ.(3)
صلاة الرواتب في حال الجمع
قال النووي رحمه الله: والصواب الذي قال المحققون: أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي الظهر ثم يصلي العصر ثم يصلي سنة الظهر التي بعدها ثم سنة العصر.(4)
هذا إذا كان يصلي سنة العصر. حيث كره بعض العلماء صلاة السنة بعد صلاة العصر، وقد استدلوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا صلاة بعد صلاتين: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس.(5)
أما إذا جمع بين المغرب والعشاء فقد قال النووي رحمه الله: وفي جمع العشاء والمغرب يصلي الفرضتين ثم سنة المغرب ثم سنة العشاء.(6)
__________
(1) أخرجه مسلم/ 2317، وأبو داود/ 1905، وابن ماجة/ 3047، والبيهقي/ 8609، والمنتقى لإبن الجارود/ 466، وابن حبان/ 3944، وابن حبان/ 2853، والطاحوي في شرح المعاني/ 3/214، وابن أبي شيبة / 14050، ومن طريقه عبد بن حميد/ 1135،
(2) نيل الأوطار 3/232.
(3) روضة الطالبين 1/400.
(4) روضة الطالبين 1/402.
(5) أخرجه البخاري/ 1139، وأحمد/ 11501، وعبد بن حميد/ 965 كلهم عن أبي سعيد الخدري ري الله عنه.
(6) روضة الطالبين1/402.(1/97)
أما الوتر يصليها بعد الفراغ من سنة العشاء ولا يشترط دخول وقتها وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور أهل العلم.(1)لأن الظاهر أن الوتر تابع لفريضة العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر.(2)
ويستحب تخفيف القراءة في صلاة السفر لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بالصحابة في سفر فقرأ بالتين والزيتون.(3)وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤون في السفر بالسور القصار.(4)
الجمع بعرفة ومزدلفة
أجمع العلماء على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء ليلة النحر بمزدلفة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وحكى الإجماع غير واحد من العلماء مثل: ابن المنذر، وابن قدامة، والنووي، وابن رشد، وابن حزم، والبهوتي، والبغوي، والقرطبي، والسرخسي، وابن جزي، وابن عبد البر، وابن تيمية، وغيرهم كثير جداً.(5)
__________
(1) نفسه.
(2) رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، وإبن ماجة، والحاكم وغيرهم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه ابن أبي شيبة/3684.
(5) الإجماع لإبن المنذر 38، بداية المجتهد 1/123، وشرح السنة، 7/155، وغيرهم.(1/98)
فعن جابر رضي الله عنه قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا.(1)
قال ابن تيمية: ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة لأنه جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما مما صلاّه بالمسلمين بمنى أو مكة، وهو من المنقول نقلاً متواتراً.(2)
الصلاة في الطائرة أو السفينة
تجوز الصلاة في الطائرة ولا يسقط القيام واستقبال القبلة في الفريضة لأنه يمكن ذلك فإن لم يستطع القيام جاز له أن يصلي جالساً .
الصلاة في الطائرة
الفرائض، ولها حالات متعددة:
الأولى : إن استطاع أن يصليها قبل الركوب أو بعد النزول في وقتها صلى سواء جمع تقديم أو تأخير .
الثانية : إذا ركب الطائرة قبل دخول الوقت وغلب على ظنه أن الطائرة لا تهبط إلا بعد خروج وقت الأولى ، فينوي جمع التأخير إن كانت تجمع كالظهر مع العصر والمغرب مع العشاء .
__________
(1) رواه مسلم/ 1218، والنسائي/ 4066،أبو داود/ 1905، والدارمي/ 1850، وابن أبي حاتم/ 18622، وابن الجارود/ 467، وابن حبان/ 3944 وغيرهم كثير.من حديث جابر رضي الله عنه الطويل.
(2) الفتاوى 22/85.(1/99)
الثالثة : إذا ركب الطائرة قبل دخول الوقت وغلب على ظنه خروج وقت الصلاتين المجموعتين أو صلاة لا تجمع مع أخرى كالفجر فيجب عليه أن يؤدي الصلاة في مصلى الطائرة إن وُجِدَ مستقبلاً القبلة إن استطاع وإن لم يستطع صلى في الممرات وإن لم يستطع صلى قائماً ويومئ بالركوع والسجود وهو جالس على كرسيه ولا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها .
الرابعة : إذا كان في الطائرة مصلى ويمكن أن يصلي مستقبل القبلة قائماً وراكعاً ساجداً صلى فيه ولو كان ذلك مع سعة الوقت.
النوافل: يصليها الراكب على أي حال قائماً أو قاعداً يوميء بالركوع والسجود على أي جهة ولا يشترط إستقبال القبلة لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته(1). فهذا قيام الليل، وفي رواية: يصلي على راحلته حيث توجهت. وفي رواية يومىء برأسه ولم يكن يصنعه في المكتوبة. وفي رواية: يوتر عليها.
الصلاة في السفينة:
الأولى أن تصلى قياماً لأن الواجب على من يصلي في السفينة القيام إلا في حالات الموج الشديد وعدم استقرار السفينة حيث يتعذر على المرء القيام فيصلي قاعداً وكذلك في حال الغرق.
قال البخاري رحمه الله: "باب الصلاة على الحصير وصلى جابر وأبو سعيد في السفينة قائما وقال الحسن قائما ما لم تشق على أصحابك تدور معها وإلا فقاعدا".(2)
عن يونس، أن ابن سيرين قال: خرجت مع أنس إلى بني سيرين في سفينة عظيمة، قال: فأمّنا فصلى بنا جلوساً ركعتين ثم صلى بنا ركعتين أخراوين.(3)
عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: يصلى في السفينة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً واسجد على قرار منها.(4)
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) صحيح البخاري: 1/149.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة:/ 6561 وإسناده صحيح.
(4) رواه ابن أبي شيبة/ 6567، وإسناده صحيح.(1/100)
عن الحسن، وابن سيرين قالا: يصلون فيها قياماً جماعةً، ويدورون مع القبلة حيث دارت.(1)
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال تصلي في السفينة قائما فإن لم تستطع فقاعدا تتبع القبلة حيث ما مالت.(2)
وأخيرا أسأل الله عو وجل أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم، ليس لأحد فيه قيد ذرة، وما كان في هذا البحث من حق وصواب فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي والشيطان والله ورسوله من براء.
تم بعون الله تعالى في 18 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم سنة 1424 .
وآخر دعونا ان الحمد لله رب العالمين
تأليف
أبو محمد البقاعي الشامي
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة/ 6577 صحيح لغيره.
(2) رواه عبد الرزاق/ 4552، وابن أبي شيبة/ 6575، وإسناده صحيح.(1/101)