مشروعية صيام يوم عرفة والرّد على من أنكر ذلك
بقلم
خالد بن قاسم الردادي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1].
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله , وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -,وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة,وكل بدعة ضلالة ,وكل ضلالة في النار .
وبعد:
فقد اطّلعت على كتاب كتبه الأخ فوزي بن عبد الله البحريني وسمه بـ"جزء فيه تخريج حديث صوم يوم عرفة"! ذهب فيه إلى بطلان حديث فضل صوم يوم عرفة لمن لم يكن بعرفة والذي خرّجه الإمام مسلم في "صحيحه" وغيره ؛فهالني ما رأيت فيه من جرأة ومجازفة..مغلّفاً هذا كله بدعوى البحث العلمي والدراسة المنهجية!!!(1/1)
وكنت قبل مدة من الزمن قد كتبت ردّاً موجزاً فيما ادّعاه وزعمه من بطلان هذا الحديث، وذلك حينما قام بعض مريديه بنشر مجمل بحثه عن طريق الشبكة العنكبوتية (الأنترنت)، وبيّنت في ردي ذلك خطئه فيما جاء به بما ظننته كاف لمن رام قبول الحق ولزوم سبيله !
بيد أنني فوجئت وذهلت عندما قام الأخ -هداه الله- بإخراج هذا الكتاب حول تضعيف الحديث مصرّاً فيه على زعمه السابق ، بل وزاد في الباطل الذي جاء به أباطيل كثيرة من جناية وتعدي وتدليس وتلبيس وجرأة على أهل العلم .
وقد بلغني أنه ينشر هذا القول ويذيعه ،بل إنه ينكر هو وجماعة معه على من لا يوافقهم في هذا ؛ فضلاً عن رميه لمخالفيه وناصحيه بالحزبية وغير ذلك من الألفاظ الشنيعة والتُّهمِ الجُزَافُ!!
يصاحب هذا كله جهل الكاتب الفاضح بقواعد العربية مع بلادة في فهم أقوال الأئمة ومسلك خاسر يقوده الاستقلالية والاعتداد بالرأي ولو كان باطلاً فاسداً مع التعسف والتنكب عن مسالك أهل العلم المعتبرين!
وقد كنت أظن في الأخ خيراً وأحسبه من الحريصين على السنة ولزومها مع البعد عن تتبع الغرائب والشاذ من القول، فلما رأيت كتابه هذا تبين لي مبلغه من العلم ومدى جرأته ومستوى فهمه ومنطقه وطريقته في الاستدلال ..فإلى الله الشكوى!(1/2)
وقد أخبرني بعض أهل العلم أنه لما كان في البحرين سأله الكاتب عن حكم صوم يوم عرفة ،فأجابه الشيخ بأن هذا مشروع ويدل عليه حديث أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها-: (( أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ .فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ))(1)فدل هذا على أَنَّ صَوْم يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ مُعْتَادًا لَهُمْ(2).
فما كان جواب الأخ سوى أنه أبدى عن عدم علمه بهذا النص !!!
فما باله اليوم يصر على باطله بله ويخرج كتاباً فيه وهو لم يستوعب المسألة ولم يرجع لأهل العلم والدراية ليستضيء بفهمهم حتى يأمن الخطل والزلل!
وعل كل فالكاتب ليس من أهل التخصص في الحديث وفنونه ولكنه دخيل عليل، ومن تكلم في غير فنه جاء بالبواقع والبلايا!
ولا يأتيك القول الغريب إلا من الرجل الغريب!!
فعلى طالب العلم أن يحذر كل الحذر من مسلك الاستقلال وحب التفرّد والمخالفة والشذوذ ،وعدم احترام أئمة الإسلام وتوقيرهم ،فإنه مسلك وخيم ومزلق خطير!
قال ابن رجب-رحمه الله-:
"وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم-يعني الأئمة-فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة،وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم،وهو أشد مخالفة لها-يعني السنة-؛لشذوذه عن الأئمة،وانفراده عنهم:بفهم يفهمه أو بأخذِ مالم يأخذ به الأئمة من قبله "(3).
وقال ابن عساكر-رحمه الله-قولته الشهيرة عندما رأى بعضهم لا يحترم الأئمة-: ((إنما نحترمك ما احترمت الأئمة))(4).
__________
(1) يأتي تخريجه والكلام عليه.
(2) وانظر "فتح الباري"للحافظ ابن حجر(4/239).
(3) "فضل علم السلف"(ص13).
(4) "سير أعلام النبلاء"(19/581).(1/3)
وقال الذهبي-رحمه الله-في ترجمة ابن حزم الظاهري-رحمه الله-تعليقاً على قوله:(أنا أتبع الحق ،وأجتهد،ولا أتقيَّد بمذهب):
"قلت:نعم ،من بلغ رتبة الاجتهاد،وشهد له بذلك عِدّة من الأئمة:لم يسعْ له أن يُقلِّد،كما أنّ الفقيه المبتديء العاميّ،الذي يحفظ القرآن أو كثيراً منه:لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟ وكيف يطير ولمَّا يُريِّش؟
والقسم الثالث:الفقيه المُنتهي اليَقِظ الفَهِم المُحَدِّث،الذي قد حفظ مختصراً في الفروع،وكتاباً في قواعد الأصول،وقرأ النحو،وشارك في الفضائل،مع حفظه لكتاب الله وتشاغله بتفسيره وقوة مناظرته،فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المُقيَّد،وتأهل للنظر في دلائل الأئمة،فمتى وضَحَ له الحق في مسألة ،وثبت فيها النص،وعمل بها أحد الأئمة الأعلام؛كأبي حنيفة مثلاً،أو كمالك أو الأوزاعي أو الثوري،أو الشافعي وأبي عبيد وأحمد وإسحاق:فلْيَتَبِع فيها الحق،ولا يسلك الرُّخص،وليتورّع،ولا يسعه فيها -بعد قيام الحجة عليه-تقليد"(1).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-:
"فينبغي للمؤمن أن يجعل همّه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف،والعمل بذلك،ويحترم أهل العلم ويُوَقّرهم ولو أخطأوا،لكن لا يتخذهم أرباباً من دون الله،هذا طريق المنعم عليهم،أمّا اطِّراح كلامهم،وعدم توقيرهم:فهو طريق المغضوب عليهم "(2).
وحتى لا يغتر مغتر بكتابه المذكور وما أورد فيه من دعاوى ومجازفات رأيت أنّ الرَّد عليه مفصّلاً حتم لازم لينكشف-بعون الله وتوفيقه-بهرج ما جاء به وزيف دعاواه ونقض ما أسسه واعتلاه.
لقد بنى الأخ -هداه الله- دعواه ومجازفته على مايأتي:
1) أن إسناد الحديث مداره على :عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني عن أبي قَتَادَة به، و لا يصح له سماع من أبي قَتَادَة .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء"(18/191).
(2) "مجموعة الرسائل النجدية"(1/11-12).(1/4)
2)إيراد بعض أئمة الحديث عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني في كتب الضعفاء ،جعله يدعي أنهم حكموا بضعف الحديث وإعلاله من أجل هذا لِلَّهِ
3)أن الحديث ركيك الألفاظ ،مما يدل على ضعفه!
4)أن الحديث معلول باضطراب سنده ومتنه!
5) تضعيفه لشواهد الحديث رغم صحة بعضها.
6) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة.
7)أن الصحابة أجمعوا على عدم صيام يوم عرفة لِلَّهِ
8) أنّ يوم عرفة يوم أكل وشرب لأنه يعتبر عيداً للمسلمين ،فلا ينبغي للمسلم صومه!
9) شذوذ لفظة:((..يُكَفِّر السَّنَة الَّتِي قَبْلَهُ , وَالسَّنَة الَّتِي بَعْده ))!
هذه مجمل دعاوى الكاتب ،ولا ريب أنّ هذا الصنيع جرأة وتعدي من الكاتب - هداه الله - على مكانة الصحيح بدون حجة ولا برهان ، لم أر من سبقه لمثله!
وقبل مناقشة الأخ في شبهه التي شغب بها وزعم أنها حجج ، نذكر توطئة مهمة في بيان مكانة صحيح الإمام مسلم بن الحجاج ومنزلته ،ثم نخرّج الحديث ونبين طرقه،ثم نعود لمناقشته الكاتب فيما ادّعاه!
مكانة صحيح الإمام مسلم ومنزلته
لقد تجرّأ الكاتب -هداه الله- وجازف أيّما مجازفة في إقدامه على نقد حديث في "صحيح الإمام مسلم "لم يسبقه أحد من الحفاظ والأئمة الأعلام في نقده ،ولم يحفل الكاتب بمكانة الصحيح وهيبة الكلام في أسانيده ومتونه وإجماع الأمة على تلقي ما فيه بالقبول ،بل راح جاهداً يخلّط ويلبس ما شاء،فإلى الله الشكوى!!(1/5)
أو ما علم -هداه الله- أنه لم يقدم على نقد أحاديث الصحيحين أو أحدها سوى أئمة نقّاد حفاظ جبال في علم العلل وسبر الروايات والرواة،مع شهادة القاصي والداني لهم بالإمامة في هذا الشأن ،ومع براعتهم في النقد ودقتهم لم يتحصل لهم سوى أحاديث معللة يسيرة في الصحيحين ،ومع هذا لم يسلّم جماعة من أئمة هذا الشأن لهم ذلك وقالوا بأنّ أكثر الانتقادات فيها ماهو غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئاً في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها "الصحيحان" .
وأسوق هاهنا طرفاً من ثناء العلماء على "صحيح مسلم "وبيان مكانته وعظيم عناية الإمام مسلم به وصيانته له ،عسى أن يكون هذا رادعاً وزاجراً للكاتب ومن شاكله!
قال الإمام النووي -رحمه الله-:
((اتفق العلماء -رحمهم الله- على أنّ أصح الكتب بعد القرآن"الصحيحان"البخاري ومسلم،وتلقتهما الأمة بالقبول))(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:
((وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةُ : مِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ،فَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بَعْدَ الْقُرْآن..ِ))(2).
__________
(1) مقدمة"شرح مسلم"(1/14).
(2) "مجموع الفتاوى"(18/75).(1/6)
وقال أيضاً:((وَالْبُخَارِيُّ أَحْذَقُ وَأَخْبَرُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ مُسْلِمٍ ; وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَى حَدِيثٍ إلَّا يَكُونُ صَحِيحًا لَا رَيْبَ فِيهِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ ،ثُمَّ يَنْفَرِدُ مُسْلِمٌ فِيهِ بِأَلْفَاظِ يُعْرِضُ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ ،وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ :إنَّهَا ضَعِيفَةٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ ضَعَّفَهَا : كَمِثْلِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مُسْلِمٍ وَهَذَا أَكْثَرُ..))(1).
وقال الشيخ أحمد شاكر-رحمه الله-:
((الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين،وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمور:أن أحاديث"الصحيحين"صحيحة كلها،ليس في واحد منها مطعن أو ضعف . وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث ،على معنى أن ما نتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه .وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها,فلا يهولنك إرجاف المرجفين،وزعم الزاعمين أن في"الصحيحين"أحاديث غير صحيحة،وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها،وانتقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم،واحكم عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل))(2).
قال الإمام مسلم -رحمه الله- في مقدمة "صحيحه":
((
__________
(1) "مجموع الفتاوى"(18/20).
(2) "الباعث الحثيث"(ص37).(1/7)
وَاعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنْ الْمُتَّهَمِينَ ؛أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ))(1).
فهذه الحقيقة التي أثبتها الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" وأرشد إليها هي المنهج الذي سلكه في تأليف "صحيحه"، فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه،وإليك البيان:
قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلم بن الحجاج يقول:
((صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة))(2).
وقال ابن الشرقي سمعت مسلماً يقول:
((ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة ،وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة))(3).
وقد مكث في تأليف هذا الكتاب المبارك خمسة عشرة سنة قضاها في التحري والتثبت والعناية التامة بهذا المصدر الأساس لمعرفة الحديث الصحيح، جمعاً وترتيباً ،وساعده في كتابته بعض تلاميذه طوال هذه المدة.
قال أحمد بن سلمة -تلميذ الإمام مسلم-:
((كتبت مع مسلم -رحمه الله- في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث))(4).
ولم يكتف الإمام مسلم -رحمه الله- بما بذله من جهود عظيمة في تأليفه بل أخذ في عرضه على جهابذة المحدثين واستشارتهم فيه:
فعن مكي بن عبدان- أحد حفاظ نيسابور- قال:
__________
(1) "مقدمة مسلم"(1/8).
(2) "تاريخ بغداد"(13/101)، "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/194).
(3) "صيانة صحيح مسلم"لابن الصلاح(ص98)،"تذكرة الحفاظ"(2/590)،"سير أعلام النبلاء"(12/580).
(4) "طبقات علماء الحديث"(2/288)،"تذكرة الحفاظ"(2/589)،"سير أعلام النبلاء"(12/566).(1/8)
سمعت مسلما يقول: ((عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ،فكل ما أشار أن له علّة تركته ،وكل ما قال إنه صحيح وليس له علّة خرجته))(1).
وهذا منه -رحمه الله- غاية في الاحتياط والتثبت من جهة،وفي التواضع وقصد الصواب من جهة أخرى، ونتيجة لهذه العناية التامة التي تجلَّت في تلك الأدلة انشرح صدر الإمام مسلم لهذا النتاج القيم وارتاحت نفسه لذلك فأخذ يرغب الناس فيه ويؤكد أنّ كتابه عمدة يعوَّل عليه في معرفة الصحيح :
فعن مكي بن عبدان قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول:
((لو أنّ أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند" - يعني صحيحه-))(2).
ثناء العلماء على الرواة المخرَّج لهم في "صحيح مسلم" ،وأجابتهم عن انتقاد بعض الحفاظ بعض الرواة في الصحيح:
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:
((ورواتُهما -يعني الصحيحين- قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ ، فهم مُقَدَّمونَ على غيرِهم في رِواياتِهم ، وهذا أَصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ))(3).
وقال الإمام ابن دقيق العيد-رحمه الله-في مبحث (معرفة الثقات من الرواة):
((ولمعرفة كون الراوي ثقةً ، طرُقٌ ))وذكر من بينها ما نَصُّه:
((تخريج الشيخين أو أحدهما في "الصحيح" للراوي محتجّين به ،وهذه درجة عالية ، لما فيها من الزيادة على الأول ، وهو إطباق جمهور الأُمَّةُ أو كلهم على تسمية الكتابين بالصحيحين ، والرجوع إلى حكم الشيخين بالصحة .
__________
(1) "تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم"للحاكم(281)،"صيانة صحيح مسلم"(ص68،98)،"شرح النووي على صحيح مسلم"(1/15،26)،"سير أعلام النبلاء"(12/568).
(2) "صيانة صحيح مسلم"(ص68)،"شرح النووي على صحيح مسلم"(1/15)،"سير أعلام النبلاء"(12/568،579).
(3) " نزهة النظر شرح نخبة الفكر"(ص61).(1/9)
وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في "الصحيح" فهو بمثابة إطباق الأمة أو أكثرهم على تعديل من ذكر فيهما وقد وجد فيها هؤلاء الرجال المخرج عنهم في الصحيح من تكلَّم فيه بعضهم .
وكان شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن المَقْدِسي يقول في الرجل الذي يُخَرَّج عنه في الصحيح : هذا جَاز القَنْطَرَةَ . يعني بذلك أنه لا يُلتفتُ إلى ما قيل فيه ، وهكذا نعتقد ، وبه نقول ، ولا نخرج عنه إلاَّ ببيان شافٍ وحجَّة ظاهرة))(1).
وقد تكلم في بعض الرواة الذين خرّج لهم مسلم وعدتهم مائة وستون رجلاً وذلك الكلام لا يقدح في "صحيحه" ولا يحط من شأنه لأنه:
أولاـ قد يكون القدح غير مؤثر.
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- وغيره:
((ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة عُلِمَ الطعن فيهم من غيرهم ،محمولٌ على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسَّر السبب))(2).
وقال الإمام الذهبي -رحمه الله-:
((وقد كتبت في مُصَنَفِي "الميزان" عدداً كثيراً من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دُوِّنَ اسمه في مصنفات الجرح، وما أوردتهم لضعفٍ فيهم عندي بل ليعرف ذلك،وما زال يمرُّ بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به ...))(3).
ثانياـ وإن كان القدح مؤثرا حمل الإخراج عنه في الصحيح على:
1- أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول.
قال الإمام ابن الصلاح-رحمه الله-:
((وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسنادٍ نظيفٍ رجاله ثقات ويجعله أصلاً ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه))(4).
__________
(1) "الاقتراح في بيان الاصطلاح"(ص326-327).
(2) " شرح النووي على صحيح مسلم"(1/25).
(3) "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم"(ص23).
(4) "صيانة صحيح مسلم"(ص95)،" شرح النووي على صحيح مسلم"(1/25).(1/10)
2- أن يكون ضعف الرجل المحتج به في الصحيح طارئا عليه بعد أن أخذ صاحب الصحيح عنه كالاختلاط فروايته عنه زمن استقامته لا يؤثر فيها ما طرأ عليه من الاختلاط.
3- أن يكون صاحب الصحيح تجنب ما أنكر على الرجل المتكلم فيه.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
((وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه))(1).
ولا ريب أنّ مسلماً مثله في ذلك .
وقال النووي -رحمه الله-:
((واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى،وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا))(2).
انتقاد بعض الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح مسلم والجواب عن ذلك:
انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ على"الصحيحين" مائتين وعشرة أحاديث، اشتركا في اثنين وثلاثين حديثاً ،وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا، وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث.
وقد قام الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" بالإجابة عن الانتقاد الموجه إلى الأحاديث التي اشتركا فيها ،والأحاديث التي انفرد بها البخاري عن مسلم وعدتها مائة وعشرة أحاديث.
أما الأحاديث التي انفرد بها مسلم فقد أجاب عنها النووي في "شرحه لصحيح مسلم" في مواضعها وأكثرها الانتقاد فيه غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئا في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها صحيحه(3).
__________
(1) "فتح الباري"(1/189).
(2) " شرح النووي على صحيح مسلم"(1/33).
(3) انظر:"مقدمة فتح الباري"(ص346)، " شرح النووي على صحيح مسلم"(1/24).(1/11)
وهذه الانتقادات اليسيرة التي توصل إليها جهابذة النّقاد مع أنّ أكثرها غير وارد إن دلت على شيء فإنما تدل على عظم شأن هذا الكتاب المبارك وأنه في أعلى درجات الصحيح، وتدل على جلالة قدر جامعه وشدة احتياطه وتحريه وأنه وفق فيما قصد إليه من جمع لصحيح نقياً خالصاً، فإن تصدى الإمام الدارقطني وغيره من النقاد وتتبعهم الصحيح حديثاً حديثاً وهم من هم في دقة الإدراك وسعة الاطلاع ثم تكون نهاية المطاف ونتيجة التمحيص والتنقيب على هذا الوصف.
فلا ريب أنّ ذلك يدلل على عظم قدره وعلو منزلة "الجامع الصحيح"، وتلك شهادة من فرسان وجبال هذا الميدان على أنه بالمكان الأعلى والوصف الأسمى، وذلك يوضِّح لنا أيضا السرَّ في إقبال العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول.
عناية العلماء بصحيح مسلم:
وكما اعتنى علماء الأمة الإسلامية بصحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله - عزّ وجلّ-،فقد كانت عنايتهم عظيمة بصحيح مسلم الذي هو أصح كتاب يليه.
فقد شرحه شارحون ،واختصره مختصرون،وألف في رجاله مؤلفون،واستخرج عليه مستخرجون، وعنايتهم بهذين الكتابين جاءت على قدر منزلة كل منهما، فهي بالنسبة لصحيح البخاري بالدرجة الأولى،وبالنسبة لصحيح مسلم بالدرجة الثانية، فالكتب التي ألفت في "صحيح مسلم" كثيرة ، وأشهر شروحه وأكثرها رواجاً في هذا العصر شرح الإمام النووي -رحمه الله-وهو شرح يغلب عليه الاختصار، وأكثر عنايته فيه في ضبط الألفاظ والتنبيه على لطائف الإسناد مع الإشارة إلى بيان فقه الحديث أحياناً(1).
__________
(1) انظر:"كشف الظنون"(1/555)،"فهرست ابن خير"(98)،"مفتاح السعادة"(2/124)،"تاريخ الثراث العربي"(1/353)،"الرسالة المستطرفة"(9)،"تاريخ الأدب العربي"(3/179)،"شروط الأئمة الخمسة"(67)،"الحطة في ذكر الصحاح الستة"(ص351)،"الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه"للطوالبة(ص145)،" الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيج"لمشهور سلمان(2/593).(1/12)
تخريج حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-
قال الإمام مسلم -رحمه الله -في "صحيحه"(1162):
(( و حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ ،وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا ،عَنْ حَمَّادٍ قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ،عَنْ غَيْلَانَ ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ ،عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ ؟فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،َ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ،نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ .فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ. فَقَالَ عُمَرُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟قَالَ:" لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ" أَوْ قَالَ:" لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ "قَالَ :كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا ؟قَالَ:" وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟" قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَال:"َ ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام" قَالَ :كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْن؟ِ قَالَ :"وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِك"َ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّه،ِ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ،وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ".
ثم قال:(1/13)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ،وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا :حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ،حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ،عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ ،سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ؟ قَالَ :فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَة.ً قَالَ :فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْر؟ِ فَقَالَ:" لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ" أَوْ :"مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ"، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ :وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ"، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ :"لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ "قَالَ :وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ ؟قَالَ :"ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام "،قَال:َ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ؟قَالَ :"ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ "قَالَ: فَقَال:"َ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ"، قَال:َ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ:" يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ"، قَالَ :وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟فَقَال:َ "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ" .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ لَمَّا نُرَاهُ وَهْمًا .(1/14)
و حَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ،حَدَّثَنَا أَبِي ح و حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ،حَدَّثَنَا شَبَابَةُ ح و حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ،أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ كُلُّهُمْ ،عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ .
و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ ،حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ ،حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَمِيسَ.
والحديث أخرجه أيضاً:
عبد الرزاق (7826)و(7831)و(7865)،وابن أبي شيبة (3/78)،وأحمد(303،5/ 297،308،310-311)،وأبوداد(2425)و(2426)،والترمذي(749)،النسائي في "الكبرى"(2318)،وابن ماجه(1730)و(1738)،وابن خزيمة(2087)و(1713)و(1730)و(1738)،وابن حبان(3631)و(3632)،وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2226)،والطحاوي في"شرح معاني الآثار"(2/77)،وفي"مشكل الآثار"((2967)و(2968)،وأبوعوانة(2545)،والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/286و300)،وفي "شعب الإيمان"(3761)،وفي"فضائل الأوقات"(184)،وابن عبد البر في "التمهيد"(21/162)،والبغوي(1789)و(1790)،والقاضي أبويعلى في"طبقات الحنابلة"(1/326)،وابن حزم في "المحلى"(7/17) من طرق عن غيلان بن جرير ،عن عبد الله بن معبد به.
وأخرجه عبد بن حميد (194-منتخبه)،والحميدي (429)،وأحمد(5/296و304و307)،والنسائي في "الكبرى"(2/10،151)،والبيهقي(4/283)،وفي"الشعب"(3762)و(3781)،وابن عبد البر في "التمهيد"(21/162)من طرق عن إياس بن حرملة ،عن أبي قتادة-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
((صوم عاشوراء يكفر السنة الماضية، وصوم عرفة يكفر السنتين الماضية والمستقبلة)).
قال البخاري في"التاريخ الكبير"(3/67):
((..ولم يصح إسناده)).
وفي" العلل" للدارقطني (6/148-152):
(((1/15)
وسئل عن حديث حرملة بن إياس الشيباني ،عن أبي قتادة ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم عاشوراء ويوم عرفة ؟
فقال: يرويه عطاء بن أبي رباح ومجاهد ومنصور بن المعتمر .
واختلف عنهم :
فأما عطاء :فرواه عنه همام بن يحيى واختلف عنه أيضا :
فقال أبو الوليد وعبد الله بن رجاء ومسلم بن إبراهيم :عن همام سمعت عطاء يحدث عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة .
وقال يزيد بن هارون :عن همام فيه عن إياس بن حرملة قبله عن أبي قتادة. ورواه بن جريح عن عطاء عن أبي الخليل عن أبي قتادة ولم يذكر بينهما حرملة ،وكذلك قال بن أبي ليلى عن عطاء .
ورواه عبد الله بن مسلم بن هرمز عن عطاء ومجاهد عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة ولم يذكر أبا الخليل ولا حرملة ،وعبد الله بن مسلم ليس بالقوي.
ورواه الثوري عن ليث واختلف عنه :
فقال الأشجعي عن الثوري عن ليث عن عطاء عن أبي الخليل عن أبي قتادة. وخالفه علي بن الجعد عن الثوري فقال عن ليث عن مجاهد عن الخليل عن أبي قتادة ،وكذلك قال يزيد بن إبراهيم التستري وأبو بكر بن عياش عن ليث عن مجاهد .
ورواه الحسن بن مسلم بن يناق عن مجاهد عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة .
ورواه منصور بن المعتمر واختلف عنه :
فقال يحيى بن سعيد القطان وعبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة .
وقال يحيى بن آدم عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة.
وقال بن المبارك عن الثوري عن منصور حدثني أبو الخليل عن حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة أو مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة ،وكذلك قال الفريابي عن الثوري ولم يذكر الشك .
وقال علي بن الجعد عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن أبي قتادة .
ورواه زائدة عن منصور عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة أو عن أبي قتادة .
وتابعه فضيل بن عياض وأبو حفص الأبار وأبو عوانة وعبيدة بن حميد.(1/16)
ورواه جرير عن منصور عن أبي الخليل أو عن مجاهد عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة أو عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة والشك فيه من جرير .
وقال ورقاء عن منصور عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة .
وقال الجراح بن مليح عن منصور عن أبي الخليل عن إياس بن حرملة أو حرملة بن إياس عن أبي قتادة .
قال الشيخ :هو مضطرب لا أحكم فيه بشيء .
وروى هذا الحديث سفيان بن عيينة عن دود بن شابور عن أبي قزعة عن أبي الخليل عن أبي حرملة عن أبي قتادة وهو المحفوظ عن بن عيينة قال ذلك عنه الحميدي وسعيد بن منصور ونصر بن علي وأبو الأحوص وعبد الله بن أيوب المخزمي وغيرهم من أصحاب بن عيينة الحفاظ عنه .
ورواه إبراهيم بن بشار عن أبي عيينة فخلّط فيه وقدم وأخر وأظن الوهم فيه من إبراهيم أو ممن رواه عنه .
وأحسنها إسنادا قول من قال عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة.
وروته مسلم بن مسلم العجلي عن مجاهد عن أبي حرملة عن أبي قتادة .
وروى عن زيد مجاهد عن قتادة مرسلا .
وقيل :عن حماد بن زيدعن سليمان التيمي عن عطاء عن أبي الخليل عن أبي قتادة ،ولا يثبت هذا .
وقيل عن قيس بن الربيع عن بن أبي ليلى عن عطاء عن أبي الطفيل عن أبي قتادة ،وهذا وهم ممن رواه عن قيس بن الربيع ،وانما هو عن أبي الخليل. ورواه أبان بن أبي عياش عن أبي الخليل عن إياس بن حرملة عن أبي قتادة ،وانما هو حرملة بن إياس .
وروى عن بن لهيعة عن أبي الزبير عن أبي قتادة مرسلا .
وقال حماد بن شعيب عن أبي الزبير عن أبي الخليل عن حرملة عن أبي قتادة، وهو أصح من قول بن لهيعة :
حدثنا أبو القاسم البغوي قال ثنا علي بن الجعد أنبأنا سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
"صوم يوم عرفة كفارة ستين سنة بعدها وسنة قبلها ".(1/17)
وحدثنا أبو القاسم البغوي قال ثنا علي بن الجعد أنبا سفيان عن ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله)).
وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(21/162):
((وهذا الحديث اختلف في إسناده اختلافاً يطول ذكره، وأبو الخليل وأبو حرملة لا يحتج بهما وطائفة تقول :أبو حرملة؛ وطائفة تقول : حرملة بن إياس الشيباني، ولكنه صحيح عن أبي قتادة من وجوه .. )) .
وقال الألباني في "الإرواء"(4/109):
((وإسناده جيد في المتابعات ،وفي تسمية راويه عن أبي قتادة اختلاف ذكره الحافظ في ترجمة حرملة هذا من "التهذيب"،والصواب كما قال أبو بكر بن زياد النيسابوري أنه حرملة المذكور،ورواه ابن أبي شيبة (2/165/2)فأسقطه من الإسناد،أو هكذا وقعت الرواية له)).
أقوال العلماء في الحكم على الحديث
والحديث كما تقدم خرّجه الإمام مسلم في "صحيحه" وحسبك به.
وقال الترمذي -رحمه الله-:
((حديثُ أبي قَتَادَةَ حديثٌ حسنٌ ،وقد اسْتَحَبَّ أهلُ العلمِ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلاَّ بِعَرَفَة))(1) .
وقال النسائي-رحمه الله- :
((هذا أجود حديث في هذا الباب عندي))(2).
وقال ابن جرير-رحمه الله-:
((وهذا خبر عندنا صحيح سنده، لا علّة فيه تُوهِنه ولا سبب يُضعِفُه...))(3).
وقال ابن عبد البر-رحمه الله- :
((...
__________
(1) "جامع الترمذي"(2/116).
(2) "السنن الكبرى"(2/153).
(3) "تهذيب الآثار"(القسم الأول من مسند عمر:ص163).(1/18)
ولكنه صحيح عن أبي قتادة من وجوه روى شعبة عن غيلان بن جرير المعولي عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة فقال :يكفر السنة الماضية والباقية .ذكره أبو بكر بن أبي شيبة،عن شبابة عن شعبة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن غيلان بن جرير، سمع عبد الله بن معبد الزماني ،عن أبي قتادة الأنصاري :أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: يكفر السنة الماضية والباقية ،وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟فقال: يكفر السنة الماضية .وهذا إسناد حسن صحيح))(1).
وقال البغوي -رحمه الله- :
((..هذا حديث صحيح أخرجه مسلم..))(2).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
((وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صيامه -يعني يوم عرفة- يكفر سنتين))(3).
وقال ابن حجر-رحمه الله-:
((..وله باب صوم يوم عرفة أي ما حكمه وكأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه وأصحها حديث أبي قتادة أنه يكفر سنة آتية وسنة ماضية أخرجه مسلم وغيره))(4).
وصحح الحديث ابن خزيمة ،وابن حبان ،وابن ناصر الدمشقي(5)،وابن القيم(6).
والحديث أورده أهل العلم في كتب الأحكام والفضائل مقرين بصحته ،ولم يتعرض له أحد منهم بالإعلال خاصة الذين تعقبوا الشيخين أو أحدهما كالدارقطني وابن عمار وابن العطار .
وقد ذكر جماعة من أهل العلم الإجماع على تلقي أحاديث الصحيحين بالقبول ما لم يكن منتقداً عليهما أو على أحدهما ،وحديثنا هذا من الأحاديث التي لم ينتقدها ويعلّها أحد منهم كما تقدم .
مناقشة دعاوى الكاتب
__________
(1) "التمهيد"(21/162).
(2) "شرح السنة"(6/243).
(3) "المغني"(3/58).
(4) "فتح الباري"(4/237).
(5) في "مجلس في فضل يوم عرفة"(ص41).
(6) في "حاشية سنن أبي داود"(7/76).(1/19)
أولاـ دعواه عدم سماع عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني من أبي قَتَادَة،فالإسناد منقطع!
قال الكاتب(ص18)بعد تخريجه لحديث أبي قتادة: ((وإسناد الحديث رجاله ثقات إلاّ أنّ عبد الله بن معبد الزِّمَاني لم يصح له سماع من أبي قتادة،فهو إسناد منقطع ضعيف))!!
وحجته في هذا قول الإمام البخاري-رحمه الله -:
(( لا نعرف سماعه - يعني عبد الله بن مَعْبَد - من أبي قَتَادَة ))(1).
وكلام الإمام البخاري -رحمه الله - يجاب عنه بما يأتي:
أـ قوله:( لا نعرف سماعه من أبي قتادة) يعني به :
أنه لم يقف على التصريح بالسماع لا أنه حكم على عدم السماع ، وإلاّ لقال: (لم يسمع منه)،أوقال:( مرسل )كما هي عادته-رحمه الله-.
وما أكثر قوله في "التاريخ" : ( فلان لا أعرف له سماعاً من فلان )، فتأمل هذه العبارة ، وكونه لم يقل : ( لم يسمع ) ، ثم تأمل فائدة هذه العبارة وتكرار البخاري لها ، فإنه ولا شك يرتب عليها حكماً ، وهو التوقف في مثل هذا الخبر المعنعن ،وليست هذه العبارة منه إخباراً محضاً .
ب ـ أن جماعة من الأئمة أثبتوا سماعه ولم يروا قول البخاري شيئاً، كما دل عليه صنيع من صحح حديثه: مسلم والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن جري الطبري وابن عبد البر وغيرهم ،والمثبت مقدم على النافي كما يعلم،ولأنّ الإمام البخاري لا يكتفي بالمعاصرة ، بل لا بد عنده من ثبوت السماع ، وربما أخرج الحديث في "صحيحه" لبيان السماع ويكون الحديث لا تعلق له بالباب أصلاً كما هو معلوم من شرطه!
ج- إمكان اللقاء بين عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني وأبي قتادة فقد عاصره،فأبو قتادة-رضي الله عنه- توفي سنة 54هـ على الصحيح:
__________
(1) "التاريخ الكبير"(3/67و5/198 )،و"التاريخ الصغير"( 1/266).(1/20)
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: ((و حكى خليفة أن ذلك ( أي وفاته ) كان سنة ثمان و ثلاثين ، و هو شاذ ، و الأكثر على أنه مات سنة أربع و خمسين ،و مما يؤيد ذلك أن البخارى ذكره فى " الأوسط " فى فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال : كان واليا على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبى قتادة ليريه مواقف النبى صلى الله عليه و آله وسلم و أصحابه،و قال ابن عبد البر : روى من وجوه عن موسى بن عبد الله و الشعبى أنهما قالا : صلى على على أبى قتادة ، و كبر عليه سبعاً .قال الشعبى : و كان بدرياً .و رجح هذا ابن القطان ، و لكن قال البيهقى : رواية موسى و الشعبى غلط لإجماع ، أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقى إلى بعد الخمسين .
قلت : و لأن أحداً لم يوافق الشعبى على أنه شهد بدراً ، و الظاهر أن الغلط فيه ممن دون الشعبى ، و الله تعالى أعلم . ))(1).
وأمّا عبد الله بن معبد،فكانت وفاته كما قال الذهبي قبل المائة(2)
__________
(1) "تهذيب التهذيب"( 12 / 205)،وقد دلّس الكاتب بل كذب كذباً مفضوحاً حينما قال(ص18):(( وأبو قتادة اختلف في وفاته فقيل سنة 28هـ وهذا هو الراجح))!!
ودلل على هذا بإحالته إلى"التهذيب"لابن حجر!!
وفي كلامه هذا مايلي:
أ-لا أدري من أين جاء بسنة(28)،ومن أي مصدرأخذها ؟!!!
ب-مافي "تهذيب التهذيب" لابن حجر تقدم نقله وأنّ الحافظ يرجح وفاته سنة54هـ،فأين دليل مارجحت؟ أم هو التدليس!!!
(2) "سير أعلام النبلاء"(4/207)،ومن جرأة هذا المتعالم على أهل العلم واتهامه لهم ما ذكره في كتابه (ص19)عقب ايراده لكلام الحافظ الذهبي،حينماقال: (( ولم يبين حجته في هذا،وأطنه قال ذلك تخميناً وتقريباً لأني لم أجد أحداً من العلماء ذكر لعبد الله بن معبد الزماني تاريخ وفاته))!!
أو ماعلمت أيها المتعالم أن الإمام الذهبي-رحمه الله-من أهل الاستقراء التَّام في نقد الرجال، وليس التخمين الذي لايحسنه إلا ّ أمثالك!!(1/21)
وعلى هذا فإمكان اللقاء بينهما غير مستبعد،وهو ما اشترطه مسلم في"صحيحه"ونصره في "مقدمته"،وخاصة أنّه لا يُعرف عن الزِّماني تدليس ،وعليه فالإسناد متصل!
د- أن ابن أبي حاتم(1)والدارقطني ذكروا هذا الحديث في "العلل" مرجحين بين أوجه الاختلاف في أسانيده على غيلان بن جرير ولم يعلّوه بالانقطاع وعدم سماع عبد الله بن مَعْبَد من أبي قَتَادَة مطلقاً ،ولوكانت هذه علّة لديهم لصاحوا بها.
فقد سُئِل الدارقطني -رحمه الله-:
(( عن حديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة :أن رسول الله سئل عن رجل صام الدهر ؟فقال: لا صام ولا أفطر، وسئل عمن يصوم يومين ويفطر يوما ؟قال: وأيّكم يطيق ذلك الحديث بطوله .
فقال: يرويه غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني .
واختلف عنه فرواه واختلف عنه فقال سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة .
وقيل :عن شعبة عن قتادة عن غيلان عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة، ورواه منصور بن زاذان والحكم بن هشام عن قتادة عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة ،لم يذكر بينهما غيلان، وقيل: عن الحكم عن أيوب عن عبد الله بن معبد ولا يصح ذكر أيوب فيه .
ورواه شعبة بن الحجاج ومهدي بن ميمون وأبان العطار وأبو هلال الراسبي وحماد بن زيد :عن غيلان عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة .
إلا أن أبا هلال من بينهم جعله عن أبي قتادة عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -،والصحيح عن أبي قتادة أنه سمع رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كيف من يصوم الدهر؟
ورواه حجاج بن الحجاج عن غيلان .
واختلف عنه فرواه إبراهيم بن طهمان عن حجاج عن غيلان عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة.
وخالفه هارون بن مسلم العجلي وكان ضعيفا رواه عن حجاج عن غيلان عن عبد الله بن معبد عن عبد الله بن أبي قتادة ،ووهم في ذكر عبد الله بن أبي قتادة .
__________
(1) في "العلل "(1/260).(1/22)
والصواب قول قتادة وشعبة ومن وافقهما ))(1).
هـ ـ قال ابن حزم -رحمه الله- :
((وقد تكلم في سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة))(2).
ثم أجاب عن هذا فقال -رحمه الله- :
((وأما سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة ؛فعبد الله ثقة والثقات مقبولون لا يحل رد رواياتهم بالظنون ))(3).
و ـ الذي اعتمده ورجحه المزي(4)،والذهبي وابن حجر صحة سماعه من أبي قتادة .
قال الذهبي(5) -رحمه الله-:
((قال البخاري:لا يعرف له سماع من أبي قتادة،قلت - الذهبي -:لا يضره ذلك ))(6).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
((عبد الله بن معبد الزماني البصري روى عن أبي قتادة وأبي هريرة وعبد الله بن عتبة بن مسعود وأرسل عن عمر وعنه قتادة وغيلان بن جرير وثابت البناني والحجاج بن عتاب العبدي .
قال النسائي: ثقة ،وقال أبو زرعة: لم يدرك عمر ،قلت: وقال البخاري: لا يعرف سماعه من أبي قتادة ..))(7).
ثانياً ـ دعواه أن بعض أئمة الحديث ذكروا عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني في كتب الضعفاء لعدم سماعه من أبي قَتَادَة.
والجواب عن هذا نقول: من المعلوم أن أئمة الجرح والتعديل يذكرون ويوردون في مصنفاتهم في "الضعفاء" كل من تكلم فيه سواء كان الكلام قادحاً في عدالته أو غير قادح ،والشواهد على هذا كثيرة ،فهاهو العقيلي يذكر الإمام الكبير علي بن المديني في كتابه في الضعفاء (8) ، فتعقبه الذهبي مستنكراً عليه هذا الصنيع قائلاً:
((
__________
(1) "العلل"(6/152).
(2) "المحلى"(7/18).
(3) "المحلى"(7/19).
(4) في "تهذيب الكمال"(16/168).
(5) قال ابن حجر في"شرح النخبة"(ص 85)في الحافظ الذهبي: ((وهُو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ)).
(6) "ديوان الضعفاء"(ص229).
(7) "تهذيب التهذيب"(6/36).
(8) "الضعفاء"(3/235).(1/23)
ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع ...، أفما لك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلم ،وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيف ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك ،فهذا مما لا يرتاب فيه محدث ،وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له وأكمل لرتبته وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه، لأشياء ما عرفوها اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك))(1).
وقال الذهبي -رحمه الله-:
((وقد كتبت في مُصَنَفِي "الميزان" عدداً كثيراً من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم ،لكون الرجل منهم قد دُوِّنَ اسمه في مصنفات الجرح ،وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك ،وما زال يمرُّ بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به ...))(2).
وبالجملة فالأمر كما قال ابن حجر-رحمه الله- :
((وذكره ابن عدي من أجل قول البخاري ))(3)!
وقد تقدم مناقشة كلام الإمام البخاري قريباً .
ثالثاً ـ دعواه أنّ الحديث ركيك الألفاظ ،مما يدل على ضعفه!
قال الكاتب (ص32):(( وفي هذا الحديث أيضاً من الألفاظ الركيكة والمضطربة التي يجُزم بأنها ليست من ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ...)).
ودلل على هذا بتعجبه من السؤالات الواردة في الحديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - !!
والجواب عن هذه الدعوى من وجهين:
الوجه الأول:لم أكن أظن أن تبلغ الجرأة بالأخ-هداه الله-إلى أن يتفوه بمثل هذا !!
__________
(1) "ميزان الإعتدال"(5/168-69).
(2) "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم"(ص23).
(3) "تهذيب التهذيب"(6/36).(1/24)
إن الجرأة في ردّ الأحاديث الصحاح من جهة المعنى واللفظ أمر في غاية الخطورة والمجازفة،فالرسوخ في معرفة علل المتون لا يتأتى إلاّ للراسخين في معرفة مقاصد وأسرار الشريعة وقواعدها الكلية مع السبر والاستقراء!
فكم من آية وحديث ظنّ متوهِّمٌ معارضتها لآية أو حديث آخر ،فتعجّل وبادر في الرّد ،أو شكك في النص وحاول جاهداً إبطاله زاعماً أنّ الدين لا يناقض بعضه بعضاً،وخفي على هذا الرّاد المسكين ،أنّ الخلل والتناقض في علقه وفهمه لا في حقيقة الأمر ،كما قال القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
فما أن يأتيه عدول الأمة الذين ينفون عن الدين تحريف الغالين،وانتحال المبطلين،وتأويل الجاهلين،ويبينون وجه التوافق إلاّ وينتفي ما ورد عليه من ظنِّ التناقض والإبطال !
ثم هل أنت أهل لِتُقدِمَ على مثل هذه المجازفة ؟!
فمما هو معلوم وذائع عنك عُجْمَتُكَ و جهلك المركب بقواعد العربية ولحنك الفاحش فيها خطاباً ونثراً!!
وإليك أيها المتعالم بعض الأمثلة من كتابك هذا فقط -فضلاً عن غيره من مصنفاتك الركيكة-تدلل على مبلغك من هذا الشأن:
1-(ص12)حاشية(1)قلت:"وهؤلاء المقلدة المتعصبة أكثرهم مقلدون لا يعرفون من الحديث..."!!فما رأيك بهذا التركيب !!
2-(ص15)سطر (6)قلت:"ولم يتحرى .."!!
والصواب:"لم يتحر، بحذف حرف العلة!!
3-(ص69)سطر(1)و(7)نقلاً ،قلت:"..إن لم يكن عالم.."!!
والصواب:إن لم يكن عالماً.
4-(ص69)سطر(3)قلت:"ومتى قدم على ذلك.."!
والصواب:..أقدم..
5-(ص78)سطر(1)قلت:"فهذه مكحول الدمشقي.."!!
والصواب:فهذا...
6-(ص82)سطر(7)نقلاً:"..من اشتراط .."!
والصواب:..اشترط..
7-(ص93)سطر(11)قلت:"ويؤيد على عدم مشروعية صوم يوم عرفة،بأن يوم عرفة.."!!
إقحامك لحرف الجر(على)أفسد عبارتك !!
8-(ص126)الحاشية(2)قلت:"وهذا القول ليس بصحيح لأن ثبت عن يعض الصحابة رضي الله عنها اجتهادات.."!!فيالها من عجمة!(1/25)
9-(ص139)سطر(3)قلت:"وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لم يصوم.."!
والصواب:..لم يصم..بحذف حرف العلة!
10-(ص139) السطر الأخير قلت:"..ولم يصومه ابن مسعود.."!!
والصواب:..لم يصمه..بحذف حرف العلة!!
11-كرر ما سبق (ص139)الحاشية(1)فقال:"بل ولم يصومه النبي - صلى الله عليه وسلم - .." !!!!
فهل مثل من لا يحسن مبادئ العربية يتكلم في الركاكة،ويعلل الأحاديث الصحاح بها؟!!
فضلاً عن هجومك السافر على كتاب الإمام مسلم والذي أطبق الناس على عظم مكانته ومنزلته وعظيم صيانته له .
فما أعظم هذه الجرأة السافرة !!
هلا درست مبادئ العربية لتفقه نفسك وتعرفها قدرها ،بدل هذا التصدر والتزبب قبل التحصرم!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:
((فإن نفس اللغة العربية من الدين ،ومعرفتها فرض واجب ،فإن فهم الكتاب والسنة فرض ،ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب))(1).
الوجه الثاني:دلل هذا المتعالم على ركاكة ألفاظ الحديث أن الأسئلة الواردة فيه غريبة في طريقتها وسياقها،وهذا يؤكد ماتقدم من بلادة الكاتب وعجمته ، أبمثل هذا تعلّ الأحاديث الصحاح ؟!!
فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم-يسئلون النبي - صلى الله عليه وسلم - رغبة في التعلم والتفقه وطلباً للأجر، بل كانوا يكثرون من السؤال:
فعن أبي موسى -رضي الله عنه-قال:
(( سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس :سلوني عما شئتم .قال رجل :من أبي ؟قال :أبوك حذافة ،فقام آخر فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال :أبوك سالم مولى شيبة ،فلما رأى عمر ما في وجهه قال :يا رسول الله إنا نتوب إلى الله -عزّ وجلّ_))(2).
__________
(1) "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/470-471).
(2) أخرجه البخاري(92)،ومسلم(2360).(1/26)
فالأسئلة الواردة في حديث أبي قتادة-رضي الله عنه- لا وجه للاستغراب منها ،فنظائر هذا في دواوين السنة كثيرة غفيرة ،وانظر إن شئت فتاوى النبي -صلى الله عليه وسلم-في خاتمة كتاب "اعلام الموقعين"لابن القيم (6/209-601)ففيها ما يكفي ويشفي.
رابعاً-دعواه أنّ شواهد الحديث ضعيفة واهية لا تصلح لتقويته !
ولا ريب أنّ هذا تعسّف وقلّة دراية من الكاتب -هداه الله- في الحكم على جميع شواهد الحديث بالضعف وعدم القبول ،وإليك البيان :
فقد جاء فضل صيام يوم عرفة من حديث جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-وهم:
سهل بن سعد،وأبو سعيد الخدري، وقتادة بن النعمان ،وعبد الله بن عمر،وزيد بن أرقم،وعبد الله بن عباس،وعائشة وإليك تخريج رواياتهم:
1) أما حديث سهل بن سعد:
فأخرجه عبد بن حميد(464-منتخبه)،وابن أبي شيبة(3/97)،وأبويعلى في"مسنده"(7510)،والطبراني في"الكبير"(6/220)،وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2327)عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( من صام يوم عرفة غفر له سنتين متتابعين )).
قال المنذري في"الترغيب"(2/68)،والهيثمي في"مجمع الزوائد"(3/189):
(( ورجال أبي يعلى رجال الصحيح)).
2) وأما حديث أبي سعيد الخدري عن قتادة بن النعمان:
فأخرجه ابن ماجه(1731)،وعبد بن حميد(967-منتخبه)،والطبراني في"الكبير"(19/4،5)من طريق إسحاق بن عبد الله ،عن عياض بن عبد الله ،عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-،عن قتادة بن النعمان -رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(( من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة بعده )).
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/75):
(((1/27)
هذا إسناد ضعيف لضعف إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ،لكن لم ينفرد به إسحاق بن عبد الله عن عياض بن عبد الله فقد تابعه على ذلك زيد بن أسلم كما رواه البزار في "مسنده" (1053-كشف الأستار)عن محمد بن عمر بن هياج عن عبيد الله بن موسى عن عمر بن صهبان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بلفظ :"من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة خلفه "الحديث ،إلا أنه لم يذكر قتادة، وكذلك رواه الطبراني في "الأوسط"(1574-مجمع البحرين) عن أحمد بن زاهر عن يوسف بن موسى القطان عن سلمة بن الفضل عن حجاج بن أرطأة عن عطية عن أبي سعيد به .
وله شاهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة )).
وانظر:"مجمع الزوائد"(3/189)،و"إرواء الغليل"(4/109-110).
3)وأما حديث عبد الله بن عمر:
فأخرجه الطبراني في"الأوسط"(1573- مجمع البحرين)،عن سعيد بن جبير -رحمه الله- قال سأل رجل عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- عن صوم يوم عرفة؟ فقال:
(( كنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدله بصوم سنتين))
قال الطبراني:له عند النسائي (2828-الكبرى): ((نعدله بصوم سنة)) .
قلت: وأخرجه ابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2326)،والطحاوي في"شرح معاني الآثار"(2/72)،وابن عبد البر في"التمهيد"(21/163)بهذا اللفظ.
قال المنذري في"الترغيب"(2/43):
(( رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن )).
وقال الهيثمي في"المجمع"(3/190):
((وهو حديث حسن)).
وقال ابن حجر في"الأمالي المطلقة"(ص141):(( أخرجه الطبراني بإسناد جيد)).
وأخرجه ابن حجر في"الأمالي المطلقة"(ص141)من طريق هارون بن صالح قال :حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((من صام يوم عرفة غفر له ما تقدم من ذنبه سنة وما تأخر سنة ))
قال ابن حجر:(( هذا حديث حسن ،رجاله موثقون إلا عبد الرحمن فكان من علماء أهل المدينة لكنه ضعيف في الحديث.(1/28)
وقد وجدت للحديث عن ابن عمر أصلاً:أخرجه الطبراني بإسناد جيد من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر بلفظ :صوم يوم عرفة كفارة سنتين.
وهي متابعة ناقصة ولذا حسنته)).
وأخرجه تمام الرازي في"فوائده"(1584)من طريق إبراهيم بن سليمان النهمي الكوفي،عن قطبة بن العلاء الغنوي،عن عمر بن ذر،عن مجاهد،عن عبد الله بن عمر قال: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صوم يوم عرفة يعدل سنتين؛سنة متقبّلة،وسنة متأخرة)).
وإسناده واه،إبراهيم بن سليمان:متروك كما في "سؤالات الحاكم للدارقطني"(ص99)،وقطبة بن العلاء :ضعيف كما في "الميزان"(3/390).
4) وأما حديث زيد بن أرقم:
فأخرجه الطبراني في"الكبير"(،5/202ح:5089) عن زيد بن أرقم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :أنه سئل عن صيام عرفة ؟قال :
((يكفر السنة التي أنت فيها ،والسنة التي بعدها)).
قال الهيثمي في"المجمع"(3/190):
((وفيه رشيدين بن سعد وفيه كلام وقد وثق)).
قلت: بل هو ضعيف الحديث،قال الذهبي في"الميزان"(2/49):
(( قال أحمد :لا يبالي عمن روى وليس به بأس في الرقاق ،وقال :أرجو أنه صالح الحديث ، وقال ابن معين: ليس بشيء ،وقال أبو زرعة: ضعيف ، وقال الجوزجاني :عنده مناكير كثيرة .
قلت - الذهبي -:كان صالحاً عابداً سيء الحفظ غير معتمد، وقال أبو يوسف الرقي: إذا سمعت بقية يقول: حدثنا أبو الحجاج المهري ،فاعلم أنه رشدين بن سعد،وعن قتيبة قال :ما وضع في يد رشدين شيء إلا وقرأه ،وقال النسائي :متروك)).
5) وأما حديث عبد الله بن عباس:
فأخرجه الطبراني في"الأوسط"(1576- مجمع البحرين)،وفي"الصغير"(964)من طريق الهيثم بن حبيب ،عن سلام الطويل ،عن حمزة الزيات ،عن ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد،عن ابن عباس قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((من صام يوم عرفة كان له كفارة سنتين ،ومن صام يوما من المحرم فله بكل يوم ثلاثون يوم)).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/190):
(((1/29)
وفيه الهيثم بن حبيب عن سلام ،وسلام ضعيف ،وأما الهيثم بن حبيب فلم أر من تكلم فيه غير الذهبي إتهمه بخبر رواه ،وقد وثقه ابن حبان)).
وقال الألباني في "الضعيفة"(1/411ح:412):
((وهذا ذهول عجيب،وإلا فكيف يسلم من البأس إذا كان فيه ذاك المتهم:الطويل! قال فيه ابن خراش:كذاب.وقال ابن حبان:يروي عن الثقات الموضوعات،كأنه كان المعتمد لها.وقال الحاكم:روى أحاديث موضوعة.
والحديث رواه الطبراني أيضاً في"الكبير"(1/109)من هذا الوجه بالشطر الأول فقط.وهذا القدر منه صحيح لأن له شواهد كثيرة منها حديث أبي قتادة مرفوعا...أخرجه مسلم وغيره..)).
6) وأما حديث أم المؤمنين عائشة:
فأخرجه أحمد(41/438،ح:24970)،وابن حزم في"المحلى"(7/19)من طريق عطاء الخرساني،أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر دخل على عائشة يوم عرفة،وهي صائمة،والماء يُرَشُّ عليها،فقال لها عبد الرحمن:أفطري،فقالت:أفطر،وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((إن صوم يوم عرفة يُكفِّرُ العامَ الذي قبله)).
وإسناده منقطع ،قال المنذري في"الترغيب"(2/68):
"رواه أحمد ورواته ثقات محتج بهم في الصحيح إلا أنّ عطاء الخراساني لم يسمع من عبد الرحمن بن أبي بكر".
وأخرجه السهمي في"تاريخ جرجان"(ص142)من طريق يحى بن سعيد،عن القاسم بن محمد،قال:دخل عبد الرحمن بن أبي بكر يوم عرفة على عائشة وهي تصب الماء..فذكر الحديث.
وفي إسناده من لا يُعرف.
وأخرج الطبراني في"الأوسط"(6802)،والبيهقي في"شعب الإيمان"(3764)و(3765)،وفي"فضائل الأوقات"(185)من طريق دلهم بن صالح ،عن أبي إسحاق، عن مسروق :أنه دخل على عائشة يوم عرفة فقال: اسقوني ،فقالت عائشة :يا غلام اسقه عسلا ،ثم قالت :وما أنت يا مسروق بصائم !قال: لا إني أتخوف أن يكون يوم الأضحى، فقالت عائشة :ليس ذلك أنما يوم عرفة يوم يعرف الإمام ويوم النحر يوم ينحر الإمام، أو ما سمعت يا مسروق:
(((1/30)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدله بصيام ألف يوم )).
قال المنذري في"الترغيب"(2/68):" رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن والبيهقي".
وقال الهيثمي في"المجمع"(3/190):" رواه الطبراني في الأوسط وفي إسناده دلهم بن صالح ضعفه ابن معين وابن حبان".
فهذه شواهد الحديث وفيها ما يدل على صحة ثبوته .
ومما يدل -أيضاً- على أن صيام يوم عرفة كان معروفاً مألوفاً لدى الصحابة -رضي الله عنهم -:
ما أخرجه البخاري (1852) ومسلم(1894) من طرق عن عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ ،عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِث-رضي الله عنها-:"ِ أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ .فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ"
قال ابن حجر-رحمه الله-:
((قَوْله : ( فِي صَوْم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ صَوْم يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ مُعْتَادًا لَهُمْ فِي الْحَضَر , وَكَأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ صَائِم اِسْتَنَدَ إِلَى مَا أَلِفَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ , وَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ قَامَتْ عِنْدَهُ قَرِينَةُ كَوْنِهِ مُسَافِرًا , وَقَدْ عُرِفَ نَهْيُهُ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ فِي السَّفَر فَضْلًا عَنْ النَّفْل ))(1).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
((..
__________
(1) "فتح الباري"(4/239).(1/31)
أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة , وابن الزبير , يصومانه . وقال قتادة : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء . وقال عطاء : أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف . لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء , فإذا قوي عليه , أو كان في الشتاء , لم يضعف , فتزول الكراهة . ولنا ما روي عن أم الفضل بنت الحارث :" أن ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : صائم . وقال بعضهم : ليس بصائم . فأرسلت إليه بقدح من لبن , وهو واقف على بعيره بعرفات , فشربه النبي - صلى الله عليه وسلم - " ...ولأن الصوم يضعفه , ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم , الذي يستجاب فيه الدعاء , في ذلك الموقف الشريف , الذي يقصد من كل فج عميق , رجاء فضل الله فيه , وإجابة دعائه به , فكان تركه أفضل ))(1)
رابعاً ـ دعواه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة،ولذا لا يشرع صيامه!
قال الكاتب(ص117): ((ويؤيد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة)).
وقال (ص126): ((وهذا يشعر بأن صوم يوم عرفة لم يكن معروفاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يؤكد بأن الحديث الوارد في الترغيب في صومه غير ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - )).
وقال(ص167): ((الوجه الخامس:بأنه-يعني الحديث-معلول بالضعف لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة..)).
وهذا من عجائب الكاتب -هداه الله-وغرائبه ،فلو أخذنا نعلل الأحاديث الصحاح بمثل هذا لأبطلنا عدداً ليس باليسير منها ،ونجيب عن هذا من وجوه:
الأول : يحتمل أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل - صلى الله عليه وسلم - وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته (2)،أو لعلة أخرى قد لا تظهر لنا،وأمثلة ذلك كثيرة.
__________
(1) "المغني"(3/58).
(2) انظر "فتح الباري"(2/534).(1/32)
الوجه الثاني : أن العمل يكفي لثبوت مشروعيته ثبوت النص،ولا يلزم منه أن يعمله هو - صلى الله عليه وسلم - .
فهاهم الناس يصومون ستاً من شوال اعتماداً على حديث أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري -رضي الله عنه-.عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدهر))(1)،مع أنه ـ حسب علمي ـ لم يثبت حديث واحد يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صامه ،فهل يمكن لأحد أن يقول :إنه لا يشرع صوم الست لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه صومها ؟!
لا أعلم أحداً يقول بهذا بناء على هذا المأخذ الأصولي ،وأما خلاف الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذا فلأنه لم يكن يرى مشروعية صيامها ،ليس بناء على هذا المأخذ ،وإنما لأسباب أخرى معلومة عند أهل العلم ،وليس هذا المقام مناسبا لذكرها (2).
وقل مثل هذا في سنن كثيرة العمدة فيها على عموميات قولية ،لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها بنفسه ،كصيام يوم وإفطار يوم ، وغيرها من الأعمال الصالحة .
__________
(1) أخرجه مسلم(رقم:1164)،وأبوداود(رقم:2433)،والترمذي(رقم:759)،والنسائي في "السنن الكبرى"(رقم:2863)،وابن ماجه (رقم:1716)،وأحمد في "المسند"(5/417)،والطيالسي (رقم:694)،وعبد الرزاق في "مصنفه"(رقم:7918و7919و7921)،الحميدي(رقم:381)،وابن أبي شيبة (3/97)،وعبد بن حميد(رقم:228/المنتخب)والدارمي(رقم:1703)،وابن خزيمة(رقم:2114)،والطحاوي في"مشكل الآثار"(3/118)،والطبراني في"الكبير"(4/135-136)،وفي"الأوسط"(رقم:4637)،وفي"الصغير"(رقم:664)،وابن حبان(رقم:3634)،والبيهقي في"السنن الكبرى"(4/292)،و"معرفة النن والآثار"(6/292)،وفي"فضائل الأوقات"(رقم:160)،وابن عبد البر في"الاستذكار"(3/379)،والبغوي في"شرح السنة"(رقم:1780).
(2) وقدبينت هذا مفصّلاً -ولله الحمد-في رسالتي"دفع التعسف والإشكال عن صيام الست من شوال"يسر الله نشرها.(1/33)
فهل يُعلّ ويُبطل الحديث بمثل هذا؟!
وهكذا فأنت ترى عظم فساد هذا المسلك وخطورته !!
الوجه الثالث :قال ابن حزم -رحمه الله -:
((أَمَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَصُمْهُ فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عليه السلام قَدْ حَضَّ عَلَى صِيَامِهِ أَعْظَمَ حَضٍّ , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ , وَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَظِرَ بَعْدَ هَذَا أَيَصُومُهُ عليه السلام أَمْ لَا ؟..))(1).
الوجه الرابع: هذا لو سلمنا جدلاً بصحة دعواه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة ،كيف وقد ورد أنه كان يصوم يوم عرفة اليوم التاسع من ذي الحجة:
فعن هنيدة بن خالد ،عن امرأته ،عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت:
((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء ،وثلاثة أيام من كل شهر ؛أول اثنين من الشهر والخميس ))(2).
وعن أم المؤمنين عن حفصة -رضي الله عنها- قالت:
(( أربع لم يكن يدعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام عاشوراء،والعشر ،وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة))(3).
__________
(1) "المحلى"(4/439).
(2) أخرجه أبوداود(2437)،والنسائي في"الكبرى"(2/135)،وأحمد(5/271)و(6/288و423)،والبيهقي في"السنن الكبرى"(4/284)،وفي"شعب الإيمان"(7/340-341)،وفي"فضائل الأوقات"(ص346-347).
وقد اختلف فيه على هنيدة بن خالد :فرواه عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وروى عنه عن حفصة ، وروى عنه عن أم سلمة.
وانظر:"نصب الراية"(2/103)،و"لطائف المعارف"(ص461)،"فتح الباري"(2/543)،و"إرواء الغليل"(4/111).
ومع هذا فقد صححه الألباني في"صحيح أبي داود"(2/462).
(2)أخرجه أحمد(6/287)، والنسائي في"الكبرى"(2/135)،وابن حبان(14/332)،وأبويعلى في"مسنده"(12/469)،والطبراني في"الكبير"(23/205و216)،وفي سنده الاختلاف السابق.(1/34)
فليت شعري من أين جاء الكاتب -هداه الله- بهذا الجزم بعدم صومه - صلى الله عليه وسلم - ليوم عرفة؟!
فلا ريب أنّ هذا الصنيع من الكاتب-هداه الله- هو نهي عن تطبيق السنة والعمل بها،ودعوة لعدم الأخذ بها ،وهذا: ضلال وانحراف خطير!
فالتمسك بالسنة ولزومها أمان من الضلال ونجاة،بينما الكاتب-هداه الله- يدعو لهجر السنة وتعطيلها بمثل هذه الغرائب والأوابد!
ولو عقل هذا لما تفوه به ولما خطته أنامله!
خامساً- دعواه أنّ الصحابة أجمعوا على عدم صيام يوم عرفة،وأنّه لم يثبت عنهم صيامه،ولذا لا يشرع صيامه!
قال الكاتب(ص157)الحاشية(1):((وأما الصحابة رضي الله عنهم فأجمعوا على عدم مشروعية صوم يوم عرفة..))!!!
ولاريب أنّ هذا غير صحيح ،والكاتب -هداه الله- يناقض نفسه بنفسه ،فقد نقل(ص107)عن أم المؤمنين عائشة،وعبد الله بن الزبير ،وعثمان بن أبي العاص صيامهم له،فما باله يدعي الإجماع!!
ولا أدري من أين جاء بهذا الإجماع الكاذب ومن سبقه لمثل هذا!!
وكيف يدعي الإجماع وقد ثبت عن جماعة منهم صيام يوم عرفة ؟!
وإليك ذكر من قال باستحباب صوم يوم عرفة من الصحابة-رضي الله عنهم-:
1- وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: ((مَا مِنْ السَّنَةِ يَوْمٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَصُومَهُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ))(1).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف"(3/96)،وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2370)و(2371)،وعلي بن الجعد في"مسنده"(527)،والبيهقي في"شعب الإيمان"(3/357)،وفي"فضائل الأوقات"(187)،والفاكهي في"أخبار مكة"(5/29)،وابن عساكر في"فضل يوم عرفة"(ص165) من طريق أبي قيس عبدالرحمن بن ثروان ،عن هزيل بن شرحبيل،عن مسروق به.
وإسناده صحيح ،وقد أعلّ الكاتب-هداه الله- الأثر لأنه من رواية أبي قيس عبدالرحمن بن ثروان ،وقال عنه(ص138):"وهذا إسناد لين،فيه عبد الرحمن بن ثروان الأودي وهو لين الحديث ويخالف في أحاديث فلا يحتج به إذا تفرّد،انظر"تهذيب الكمال للمزي17/20"!!
وهذا من تدليس الكاتب-هداه الله- فلا أدري من أين جاء بهذا ؟ فمن رجع إلى "تهذيب الكمال"يجد ماينقض كلامه وهو مايلي:
((قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه : يخالف فى أحاديثه .و قال إسحاق بن منصور ، و عباس الدورى ، عن يحيى بن معين : ثقة .زاد عباس : يقدم على عاصم .
و قال أحمد بن عبد الله العجلى : ثقة ، ثبت .و قال أبو حاتم : ليس بقوى ، هو قليل الحديث ، و ليس بحافظ ، قيل له : كيف حديثه ؟ فقال : صالح هو ، لين الحديث .و قال النسائى : ليس به بأس .و ذكره ابن حبان فى كتاب الثقات )).
وزاد ابن حجر في ترجمته له في"التهذيب"(6/153):
(( قال الحاكم ، عن الدارقطنى : ثقة .و قال أحمد فى روايته عنه : ليس به بأس .و نقل ابن خلفون عن ابن نمير توثيقه .و قال عبد الله بن أحمد : سألت أبى عنه ، فقال : هو كذا و كذا ، و حرك يده )).
فهل مثل هذا يقال فيه:"لين الحديث"!!! وليت الكاتب اكتفى بماقاله فيه ابن حجر في "التقريب":"صدوق ربما خالف"،أو بما قاله الذهبي في"الكاشف- وهو الصواب-":"ثقة"،بدل هذ1الكلام الذي لا خطام له ولا زمام!(1/35)
2- وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-((كَانَتْ تَصُومُ عَرَفَة))(1)َ) .
3- وعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: (( أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ)) قَالَ الْقَاسِمُ :وَلَقَدْ رَأَيْتُهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ ثُمَّ تَقِفُ حَتَّى يَبْيَضَّ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ(2).
4- وَعَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ قَالَ:((مَا شَهِدَ أَبي عَرَفَةَ قَطُّ إلاّ وهُوَ صَائِمٌ ))(3).
5- وَعَنْ جَعْفَرَ بنِ مُحَمَّد، عَنْ أَبِيهِ :أَنَّ رَجُلاً أَتَى حَسَناً وحُسَيْناً يَومَ عَرَفَةَ، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا صَاِئماً ،والآخَر مُفْطِراً ،قَالَ: لَقَدْ جِئْتُ أَسْأَلَكُمَا عَنْ أَمْرٍ اخْتَلَفْتُمَا فِيهِ؟ فَقَالَا: "مَا اخْتَلفْنَا ،مَنْ صَامَ فَحَسَنٌ ،وَمَنْ لمَ ْيَصُمْ فَلَا بَأْسَ"(4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف"(3/96)،وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2377)بإسناد حسن.
(2) أخرجه مالك في"الموطأ"(737)، وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2376)،والفاكهي في"أخبار مكة"(5/28)،والبيهقي في"معرفة السنن والآثار"(3/428)،وابن حزم في"المحلى"(7/19)من طريق يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍبه.وإسناده صحيح.
(3) أخرجه ابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2374)بإسناد صحيح.
(4) أخرجه عبد الرزاق في"المصنف"(7830)بإسناد صحيح.(1/36)
6- وعَنْ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ الْحَسَنِ أَنَّ صِيَامَ عَرَفَةَ يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَة،ٍ فَقَالَ الْحَسَنُ: ((مَا أَعْلَمُ لِيَوْمٍ فَضْلًا عَلَى يَوْمٍ ،وَلَا لِلَيْلَةٍ عَلَى لَيْلَةٍ إلَّا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ،وَلَقَدْ رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَرُشُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ إدَاوَةٍ مَعَهُ يَتَبَرَّدُ بِهِ)) . "(1).
7- وعن عبد الله بن شريك،قال:((رأيت ابن عمر عشية عرفة صائماً ،فأفطر قبل أن يفيض الناس))(2).
8- وعن الحُرّ بن الصَّيَاح،قال:((جاورت مع ابن عمر فرأيته يصوم العشر))(3).
9- وعن ابن أبي نجيح،عن أبيه : قال :سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة؟ فقال:((حججتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه ،ومع أبي بكر فلم يصمه ،ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه ،وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه))(4)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة(3/97)، وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2372)و(2373)،والفاكهي في"أخبار مكة"(5/28)،وابن عبد البر في"التمهيد"(21/158)بإسناد صحيح.
(2) أخرجه علي بن الجعد في"مسنده"(2314):أنا شريك،عن عبد الله بن شريك به.
وإسناده لا بأس به،وشريك بن عبدالله النخعي: صدوق يخطىء كثيراً ، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة كما في"التقريب"،وعبد الله بن شريك: وثقه عدّة ، و ليّنه النسائى،كما في "الكاشف"للذهبي.
(3) أخرجه علي بن الجعد في"مسنده"(2338) :أنا شريك،عن الحُرّ به.
وإسناده حسن.
(4) أخرجه الترمذي(751)،والنسائي في"الكبرى"(2826)،وأحمد(2/47)،والبغوي في"شرح السنة"(6/346) من طريق سفيان بن عيينة و إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبي نجيح عن أبيه به.
وأخرجه أحمد(2/50)،وابن أبي شيبة(3/195)،والدارمي في"مسنده"(2/23)،وابن حبان(3604) ،وابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2350)،والبغوي في"شرح السنة"(6/346)من طريق إسماعيل بن علية ،عن عبد الله بن أبي نجيح ،عن أبيه به.
وأخرجه أبو يعلى في"مسنده"(5595)،و ابن عبد البر في"التمهيد"(21/159)،وفي"الاستذكار"(4/234)من طريق سفيان بن عيينة ،عن ابن أبي نجيح ،عن أبيه به.
وأخرجه ابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2350) من طريق إبراهيم بن طهمان،عن ابن أبي نجيح ،عن أبيه به.
وأخرجه النسائي في"الكبرى"(2827)،وأحمد(2/73)،وعبد الرزاق في"مصنفه"(7829)،والحميدي في"مسنده"(681)،و ابن جرير الطبري في"تهذيب الآثار"(2349)و(2351)،والطحاوي في"شرح معاني الآثار"(2/72)،والخطيب البغدادي في"تاريخ بغداد"(13/209) من طرق عن أبي نجيح عن أبيه عن رجل أن رجلا سأل بن عمر عن صيام يوم عرفة..فذكره.
قال الترمذي ،وتبعه البغوي:"هذا حديث حسن..".،وصححه ابن حبان،والألباني في"صحيح الترمذي"(3/124).
واختلاف طرقه لايعد قادحاً فيه كما فهمه الكاتب وحاول جاهداً في هذا ،بل إن هذه الطرق يتبين من خلالها أمثلها ،فإن المنقول عن ابن عمر -رضي الله عنهما- على ثلاثة أحوال:
1-النهي عن صيام يوم عرفة.
2-التوقف،وعدم النهي عن صيامه،كما هاهنا.
3-صيام يوم عرفة ،ويبدو أنه كان ينهى عن صيامه قبل بلوغه الفضل فيه فلمّا بلغه أجازه،والله أعلم.
قال ابن عبد البر في"التمهيد"(21/160)بعد إيراده خبر ابن عمر:" وهذا يبين أن ذلك في أيام الحج ،وأنه لا يصح النهي عن صوم يوم عرفة إلا بعرفة في أيام الحج..".(1/37)
10- وعَنْ إبْرَاهِيمَ النخعي قَالَ :((كَانُوا -يعني الصحابة-لَا يَرَوْنَ بِصَوْمِ
عَرَفَةَ بَأْسًا إلَّا أَنْ يَتَخَوَّفُوا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الذَّبْحِ ))(1).
ففي هذه الآثار الثابتة عن جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم-أبلغ ردّ على دعوى الكاتب-هداه الله-.
قال ابن جرير الطبري-رحمه الله-:
((وبعد:فإنّ كراهة الصوم ذلك اليوم لمن صامه غير مجمع عليه،بل ذلك مختلف فيه،وقد اختار صومه على إفطاره جماعة من الصحابة والتابعين،حتى لقد صامه جماعة منهم بعرفة..))(2).
سادساً-دعواه أنّ يوم عرفة يوم أكل وشرب لأنه يعتبر عيداً للمسلمين ،وعليه فلا ينبغي صيامه لِلَّهِ
قال الكاتب(ص93): ((ويؤيد على(هكذا) عدم مشروعية صوم يوم عرفة،بأن يوم عرفة يوم أكل وشرب لأنه يعتبر عيداً للمسلمين فلا يصومه المسلم))!!
وقد بنى هذا على حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي ،عن أبيه ،عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه-قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ - صلى الله عليه وسلم - :(( يَوْمُ عَرَفَة،َ وَيَوْمُ النَّحْرِ ،وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ ،وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))(3).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف"(3/97)بإسناد صحيح.وقوله يوم الذبح:يعني يوم النحر.
(2) "تهذيب الآثار"(القسم الأول من مسند عمر: ص203).
(3) أخرجه أبوداود(2419)،والترمذي(773)،والنسائي في"المجتبى"(3004)،وفي"الكبرى"(2/155)و(2/420)،وأحمد(4/152)وغيرهم من طرق عن موسى بن عقبة عن أبيه به.
وانظر:"إرواء الغليل"(4/130).
قال الترمذي:" وحديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح ،والعمل على هذا عند أهل العلم يكرهون الصيام أيام التشريق ،إلا أن قوما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم رخصوا للمتمتع إذا لم يجد هدياً ولم يصم في العشر - أن يصوم أيام التشريق، وبه يقول مالك بن أنس و الشافعي و أحمد و إسحق".(1/38)
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بما يأتي:
فمن العلماء من أعلّ الحديث بهذا اللفظ ،قال ابن عبد البر-رحمه الله-:
((هذا حديث انفرد به موسى بن علي عن أبيه، وما انفرد به فليس بالقوي، وذِكْرُ يومِ عرفة في هذا الحديث غير محفوظ ،وإنما المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه :"يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب"..))(1).
ومنهم من صحح الحديث وأجاب عنه بما يأتي:
قال ابن جرير الطبري- رحمه الله-:
(( فأمّا الخبر الذي روي عن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنّ صوم يوم عرفة كفارة سنتين،فإنه معني به صومه في غير عرفة،وكذلك كلما روي في ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنّه مراد به صومه بغير عرفة،وليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - :"يوم عرفة ،ويوم النحر ،وأيام التشريق ،عيدنا أهل الإسلام،أيام أكل وشرب"دلالة على نهيه عن صوم شيء من ذلك،وإن كان صوم يوم النحر غير جائز عندنا لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صومه نصاً،ولإجماع الأمة نقلاً عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجوز صومه.
وإنما قلتا لا دلالة في ذلك من قوله على نهيه عليه السلام عن صوم شيء من ذلك لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطلاقه لأمته صوم يوم الجمعة إذا صاموا يوماً قبله أو يوماً بعده وهو لهم عيد،فلم يحرم صومه عليهم من أجل أنّه عيد لهم؛بل وعدهم من الله على صومه على ما أطلقه لهم الجزيل من الثواب ،فكذلك يوم عرفة لا يمنع كونه عيداً من أن يصومه بغير عرفة من أراد صومه،بل له على ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم.
__________
(1) "التمهيد"(21/163).(1/39)
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :"هن أيام أكل وشرب،إنما عُني به أنهن أيام أكل وشرب لمن أراد ذلك،فأما من لم يرد الأكل والشرب فيهن فغير حرج بترك الأكل والشرب فيهن إذا لم يكن تركه على وجه صوم الأيام التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهن ..))(1).
وقال أيضاً:
((أما الخبر المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يوم من أيام عيدنا،فقد بينا معناه،وأن كونه من أيام العيد غير مانع صائمه صومه للعلة التي وصفنا قبلُ،وأما كراهة من كره صومه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين في غير عرفة ولغير الحاج فإن كراهته ذلك له لما تقدم بياننا من إيثارهم الأفضل من نفل الأعمال على ماهو دونه، ولعل من كره ذلك منهم إنما كرهه إذ كان الصوم يُضْعِف المجتهد عن الاجتهاد في الدعاء، فآثر الفطر ليتقوى به على الدعاء ..
وبعد:فإنّ كراهة الصوم ذلك اليوم لمن صامه غير مجمع عليه،بل ذلك مختلف فيه،وقد اختار صومه على إفطاره جماعة من الصحابة والتابعين،حتى لقد صامه جماعة منهم بعرفة ،ففي ذلك الدليل الواضح على صحة قولنا من إفطار من أفطر منهم ،وكراهة من كره صومه منهم؛إنما كان إيثاراً منه غيره من نفل الأعمال عليه،وإبقاءً منه على نفسه ليتقوى بالإفطار على الدعاء والاجتهاد في العبادة))(2).
وقال الطحاوي-رحمه الله-:
((
__________
(1) "تهذيب الآثار"(القسم الأول من مسند عمر:ص195-196).
(2) "تهذيب الآثار"(القسم الأول من مسند عمر: ص203).(1/40)
فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (يعني حديث عقبة)إدْخَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ فِي أَيَّامِ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِعْلَامُهُ إيَّاهُمْ أَنَّهُ يَوْمُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ كَمَا أَعْلَمَهُمْ فِي بَقِيَّتِهَا أَنَّهَا أَيَّامُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ . فَتَأَمَّلْنَا ذَلِكَ فَوَجَدْنَا سَائِرَ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى يَوْمِ عَرَفَةَ مَخْصُوصَةً بِمَعْنًى يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِهِ فِيهَا مِنْ صَلَاةٍ , وَمِنْ نَحْرٍ , وَمِنْ تَكْبِيرٍ يَعْقُبُ الصَّلَوَاتِ الْفَرَائِضَ اللَّاتِي يُصَلِّي فِيهَا فَكَانَتْ بِذَلِكَ أَعْيَادًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهَا لِذَلِكَ .(1/41)
وَوَجَدْنَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِيهِ أَيْضًا سَبَبُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لِلْحَجِّ , وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ سِوَى عَرَفَةَ وَكَانَ مَا خُصَّتْ بِهِ الْأَيَّامُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ سِوَاهُ يَسْتَوِي حُكْمُهَا فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا فَعَقَلْنَا بِذَلِكَ أَنَّهَا أَعْيَادٌ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا فَلَمْ يَصْلُحْ صَوْمُهَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا , وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ عِيدًا فِي مَوْضِعٍ خَاصٍّ دُونَمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَلَمْ يَصْلُحْ صَوْمُهُ هُنَالِكَ , وَصَلُحَ صَوْمُهُ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَشَدَّ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَصْدِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ إلَى عَرَفَةَ . كَمَا حَدَّثَنَا بَكَّارَ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ : ثنا أَبُو دَاوُد وَكَمَا قَدْ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد ،وَمُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الْمَكِّيُّ قَالاَ : ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا : ثنا حَوْشَبُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ مَهْدِيٍّ الْهَجَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثَنَا :أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ " .(1/42)
فَكَانَ هَذَا شَادّاً لِمَا ذَكَرْنَا , وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ لَيْسَ بَعِيدٍ فِيمَا سِوَى عَرَفَةَ كَانَ صَوْمُهُ فِيمَا سِوَى عَرَفَةَ مُطْلَقًا ،وَكَانَ مَنْ صَامَهُ فِيمَا سِوَى عَرَفَةَ مِمَّنْ قَدْ دَخَلَ فِيمَنْ وَعَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالثَّوَابِ عَلَى صَوْمِهِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ...))(1)
وقال الشوكاني-رحمه الله- :
((اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ مُطْلَقًا ،وَظَاهِرُ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ أَيْضًا أَنَّهُ يُكْرَهُ صَوْمُهُ مُطْلَقًا لِجَعْلِهِ قَرِيبًا فِي الذِّكْرِ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا عِيدٌ وَأَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ . وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ بِعَرَفَاتٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ , مَكْرُوهٌ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَاتٍ حَاجًّا . وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُؤَدِّيًا إلَى ضَعْفٍ عَنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ هُنَالِكَ وَالْقِيَامِ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ , وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ , وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ..))(2).
والكاتب ـ هداه الله ـ لا يفرِّق بين جواز صيام يوم عرفة لمن لم يكن بعرفة ،وبين عدم جواز صيامه لمن كان بعرفة ،بل يرى المنع من صيامه مطلقاً!!
سابعاً-دعواه شذوذ لفظة:((..يُكَفِّر السَّنَة الَّتِي قَبْلَهُ , وَالسَّنَة الَّتِي بَعْده ))
__________
(1) "مشكل الآثار"(4/411-412).
(2) "نيل الأوطار"(4/284-285).(1/43)
من طوام الكاتب وبلاياه أنّه حاول إعلال متن الحديث بما ليس بعلّة!
فقال(ص163): ((وذُكِر في حديث الباب زيادة شاذة ،وهي صيام يوم عرفة يُكفِّر ذنوب سنتين،سنة ماضية ،وسنة آتية..))!!!
فأسألك :هل سبقك أحد بمثل هذه العلة التي جئت بها؟ أم انه التعالم والجرأة والمجازفة ،فإلى الله الشكوى!!
وهلاّ رجعت إلى أقوال العلماء حتى يندفع عنك هذا الإشكال(1)
َوهذا شرح ودفع ماحاول التشغيب به:
فقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ ) أَيْ أَرْجُو مِنْهُ .
قَالَ الطِّيبِيُّ : كَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ أَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ أَحْتَسِبُ وَعَدَّاهُ بِعَلَى الَّذِي لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ مُبَالَغَةً لِحُصُولِ الثَّوَابِ .
( أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ): قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالُوا الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ الصَّغَائِرُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصَّغَائِرُ يُرْجَى تَخْفِيفُ الْكَبَائِرِ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتْ الدَّرَجَاتُ .
وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ : الْمُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ :وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ ،أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ ذَنْبٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؟
قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْ يَحْفَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الذُّنُوبِ فِيهَا .
__________
(1) والبلية أنه رجع إلى كتبهم ونقل منها ولم يستفد من كلامهم سوى ماتوهمه تأيّداً لرأيه-كعادته- لِلَّهِ(1/44)
وَقِيلَ :أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الرَّحْمَةِ الثَّوَابَ قَدْرًا يَكُونُ كَكَفَّارَةِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالسِّتَّةِ الْقَابِلَةِ إِذَا جَاءَتْ وَاتَّفَقَتْ لَهُ ذُنُوبٌ (1).
قال العيني-رحمه الله-:((فإن قلتَ :تكفير الذنوب الماضية بالحسنات وبالتوبة وبتجاوز الله تعالى، فكيف يعقل تكفير الذنب قبل وقوعه ؟
قلتُ: المراد عدم المؤاخذة به إذا وقع ،ومنه ما ورد في مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر..))(2).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
((وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ تَكْفِيرُهُ السَّنَةَ الْآتِيَةَ ; لِأَنَّ التَّكْفِيرَ : التَّغْطِيَةُ , وَلَا تَكُونُ إلَّا لِشَيْءٍ قَدْ وَقَعَ ،وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ يُكَفِّرُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ , أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْطُفُ بِهِ فَلَا يَأْتِي بِذَنْبٍ فِيهَا بِسَبَبِ صِيَامِهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ،وَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بِالصَّغَائِرِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَغَائِرَ كُفِّرَ مِنْ الْكَبَائِرِ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَبَائِرَ كَانَ زِيَادَةً فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ..))(3).
وقال ابن حجر-رحمه الله-:
((فإنه-يعني حديث أبي قتادة-وإن كان مُقَيَّداً بِسَنَةٍ لكنه دال على وجود التكفير قبل وقوع الذنب..))(4).
وقال أيضاً:((وإذا عُلِمَ أنّ الله مالك كلّ شيء ،له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى،لم يمتنع أن يعطى من شاء ما شاء!
__________
(1) "تحفة الأحوذي"(3/377).
(2) "عمدة القاري"(6/176).
(3) "نيل الأوطار"(4/283).
(4) "معرفة الخصال المكفرة للذنوب"(ص31).(1/45)
وقد ثبت أنّ ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد يقع العمل في بعض ليالي السنة من بعض الناس أكثر مما يعمل فيها، ومع ذلك فالعمل فيها أفضل من غيرها بثلاثين ضعف { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد:21]))(1).
وقال العز بن عبد السلام-رحمه الله-:
(( فإن قيل : قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على الفعل الخطير , كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور , ورتب مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة , ورتب غفران الذنوب على قيام ليلة القدر , كما رتبه على قيام جميع رمضان .
__________
(1) "معرفة الخصال المكفرة للذنوب"(ص33-34).(1/46)
فالجواب: أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها في الأجور ; فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع الدرجات وتكفير السيئات , ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات التساوي في رفع الدرجات , وكلامنا في جملة ما يترتب على الفعل من جلب المصالح ودرء المفاسد , وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال ، فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب المصالح ودرء المفاسد , فيكون القليل منه أفضل من الكثير من غيره , والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره , ولا يكون الثواب على قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة , بل ثوابه على قدر خطره في نفسه , كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات المرضية ،فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان ،بدليل أن التوحيد خفيف على الجنان واللسان ،وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن , والتفوه به أفضل كل كلام , بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب الديان , وقد صرّح عليه السلام بأنه أفضل الأعمال , لما "قيل له: أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله " , وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه , وكذلك معرفة التوحيد أفضل المعارف , واعتقاده أفضل الاعتقادات , مع سهولة ذلك وخفته مع تحققه..))(1).
وقال البلقيني -رحمه الله-:
(( الناس أقسام :منهم من لا صغائر له ولا كبائر، فصوم عرفة له رفع درجات ،ومن له صغائر فقط بلا إصرار ،فهو مكفر له باجتناب الكبائر ،ومن له صغائر مع الإصرار فهي التي تكفر بالعمل الصالح كصلاة وصوم ،ومن له كبائر وصغائر فالمكفر له بالعمل الصالح الصغائر فقط ،ومن له كبائر فقط يكفر عنه بقدر ما كان يكفر من الصغائر))(2).
خاتمة في سياق أقوال العلماء في مشروعية صيام يوم عرفة
واستحبابه لمن لم يكن بعرفة
1- قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ-رحمه الله-:
((
__________
(1) "قواعد الأحكام"(1/34-36).
(2) "فيض القدير"(6/162).(1/47)
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ :حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ شابور وَغَيْرُهُ ،عَنْ أُمِّ قَزْعَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ ،عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ ،عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ وَالسَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً " .
قَالَ :فَأُحِبُّ صَوْمَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ حَاجًّا فَأُحِبُّ لَهُ تَرْكَ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ حَاجٌّ مُضَحٍّ مُسَافِرٌ وَلِتَرْكِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَوْمَهُ فِي الْحَجِّ وَلِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ , وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمُ عَرَفَةَ ))(1).
2- وقال الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله-:
((يستحب صيام عرفة هاهنا ،وأمّا بعرفة؛فلا ،يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفطر)).
وقال أيضاً:((لا يصام يوم عرفة بعرفة،وعرفة صيامها كفارة سنتين؛سنة ماضية،وسنة مستقبلة))(2).
3- وقال الإمام الترمذي-رحمه الله-:
((وقد اسْتَحَبَّ أهلُ العلمِ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلاَّ بِعَرَفَةَ))(3).
7-وقال الإمام ابن عبد البر-رحمه الله-:
((وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هدياً، وأنه جائز صيامه بغير مكة ،ومن كره صومه بعرفة فإنما كرهه من أجل الضعف عن الدعاء والعمل في ذلك الموقف والنصب لله فيه،..))(4).
8-وقال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-:
((
__________
(1) "الأم"(8/156).
(2) ذكره ابن تيمية من رواية حنبل وعبدالله عنه في"شرح العمدة"(2/562-كتاب الصيام).
(3) "جامع الترمذي"(2/116).
(4) "التمهيد"(21/164).(1/48)
أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة ،وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه، وقال قتادة : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال عطاء :أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة ))(1).
9-وقال الإمام النووي -رحمه الله-:
((ويستحب لغير الحاج[صوم] يوم عرفة لما روى أبوقتادة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : :"صوم يوم عاشوراء كفارة سنة ، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة" .
ولا يستحب ذلك للحاج لما روت أم الفضل بنت الحارث:" أن ناساً اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم :هو صائم ، وقال بعضهم :ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب منه" ، ولأن الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه ، والصوم يضعفه فكان الإفطار أفضل ))(2).
10-وقال الحافظ المنذري -رحمه الله-:
((اختلفوا في صوم يوم عرفة بعرفة ،فقال ابن عمر: لم يصمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وأنا لا أصومه ،وكان مالك والثوري يختاران الفطر ،وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة، وروي ذلك عن عثمان بن أبي العاصي ،وكان إسحاق يميل إلى الصوم، وكان عطاء يقول :أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف ،وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ،وقال الشافعي: يستحب صوم يوم عرفة لغير الحاج فأما الحاج فأحب إلي أن يفطر لتقويته على الدعاء ، وقال أحمد بن حنبل :إن قدر على أن يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى القوة))(3).
11-وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
((..
__________
(1) "المغني"(3/58).
(2) "المجموع شرح المهذب"(6/401).
(3) "الترغيب والترهيب"(2/69).(1/49)
فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أفطر بعرفة وصح عنه أن صيامه يكفر سنتين، فالصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه ولأهل عرفة فطره لاختياره - صلى الله عليه وسلم - ذلك لنفسه وعمل خلفائه بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل دعاء العبد ،وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة فلا يستحب لهم صيامه ..))(1)
12-وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-:
((و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق .
و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم ، كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :"يوم عرفة و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب " خرجه أهل السنن و صححه الترمذي.
و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة و الناس ينظرون إليه . و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة ، و روي عن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه )).
وقال أيضاً:
((فمن طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها :
صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده "...))(2).
13-وجاء في"فتح الباري"للحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
((باب صوم يوم عرفة
__________
(1) "حاشية سنن أبي داود"(7/76).
(2) "لطائف المعارف"(ص485-486).(1/50)
*حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن مالك قال : حدثني سالم قال : حدثني عمير مولى أم الفضل أن أم الفضل حدثته. ح . وحدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عمبر مولى عبد الله بن العباس عن أم الفضل بنت الحارث:
أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في بوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم . فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه .
*حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب -أو قرىء عليه - قال : أخبرني عمرو عن بكير عن كريب عن ميمونة رضي الله عنها :
أن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف ، فشرب منه والناس ينظرون .
قوله: (باب صوم يوم عرفة) أي ما حكمه ؟ وكأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه وأصحها حديث أبي قتادة انه يكفر سنة آتية وسنة ماضية أخرجه مسلم وغيره ، والجمع بينه وبين حديثي الباب أن يحمل على غير الحاج أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك ....
واستدل بهذين الحديثين على استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة، وفيه نظر لأن فعله المجرد لا يدل على نفي الاستحباب إذ قد يترك الشيء المستحب لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ ، نعم روى أبو داود و النسائي وصححه ابن خزيمة و الحاكم(1/51)
من طريق عكرمة أن أبا هريرة حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة وأخذ بظاهره بعض السلف فجاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : يجب فطر يوم عرفة للحاج ، وعن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة : أنهم كانوا يصومونه ، وكان ذلك يعجب الحم ت ويحكيه عن عثمان ، وعن قتادة مذهب آخر قال : لا باس به إذا لم يضعف عن الدعاء ، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم ، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية ، وقال الجمهور : يستحب فطره ، حتى قال عطاء من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم ، وقال الطبري إنما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيل إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم ، ويبعده سياق أول الحديث ، وقيل إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه ، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام ...))(1).
14-وقال العلامة الشوكاني -رحمه الله- عند شرحه لحديث أبي قتادة:
((
__________
(1) "فتح الباري"(4/237).(1/52)
وَالْحَدِيثُ(يعني حديث أبي قتادة)يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ , وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي مَعْنَاهُ الَّتِي قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا , وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَالْعِتْرَةُ , وَكَانَ ذَلِكَ يُعْجِبُ الْحَسَنَ وَيَحْكِيهِ عَنْ عُثْمَانَ . قَالَ قَتَادَةُ : إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذْ لَمْ يَضْعُفْ عَنْ الدُّعَاءِ , وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ , وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيِّ وَالْمُتَوَلِّي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ,..))(1).
15-وجاء في"الموسوعة الفقهية الكويتية":
((
__________
(1) "نيل الأوطار"(4/284).(1/53)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ - وَهُوَ : الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ : سَنَةً مَاضِيَةً , وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً , رَوَى أَبُو قَتَادَةَ - رضي الله تعالى عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :" صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ , أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ , وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ " . قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ : وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ : "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَر مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ". وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ , وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا , وَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ لَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَخِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ -رضي الله عنهما-:" أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ -وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ , فَشَرِبَ "،وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- : "أَنَّهُ حَجَّ مَعَ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَبِي بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرَ , ثُمَّ عُثْمَانَ , فَلَمْ يَصُمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ " , لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ , فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَل , وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ وَزُوَّارُهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : وَيُسَنُّ فِطْرُهُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُطْلَقًا , وَقَالُوا : يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِلْ عَرَفَةَ إلَّا لَيْلًا ; لِفَقْدِ الْعِلَّةِ .(1/54)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ - أَيْضًا - إذَا لَمْ يُضْعِفْهُ عَنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَلَا يُخِلُّ بِالدَّعَوَاتِ , فَلَوْ أَضْعَفَهُ كُرِهَ لَهُ الصَّوْمُ ))(1).
وأقوالهم في هذا كثيرة ولعلّ فيما سقنا كفاية وغنية ،والكاتب -هداه الله- كعادته لم يحتف ولم يحفل بأقوال هؤلاء الأئمة ؛ولهذا شغّب وجازف وجاء بالغرائب والعجائب،فإلى الله الشكوى!
وحاصل القول:
إن حديث أبي قتادة -رضي الله عنه - ثابت لا علّة فيه،وهو يدل على فضل صوم يوم عرفة وجزيل ثوابه عند الله تعالى حيث إن صيامه يكفر ذنوب سنتين .
وأنه يستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار ، أما الحاج فلا يسن له صيامه ، بل يفطر تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعلى المسلم المقيم أن يحرص على صيام هذا اليوم العظيم اغتناماً للأجر ، وإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة فإنه يصام ، وأما ما ورد من النهي عن إفراد يوم الجمعة في الصوم فإنما هو لذات يوم الجمعة ، وأما يوم عرفة فإنما يُصام لهذا المعنى وافق جمعةً أو غيرها ، فدل على أن الجمعة غير مقصودة .
والذنوب التي تكفَّر بصيام يوم عرفة هي الصغائر ، وأما الكبائر كالزنا وأكل الربا والسحر وغير ذلك ، فلا تكفرها الأعمال الصالحة بل لا بد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد ، وهذا قول الجمهور .
وعلى المسلم أن يحرص على الدعاء اغتناماً لفضله ورجاءً للإجابة ، فإنّ دعاء الصائم مستجاب ، وإذا دعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة وما أحرى القبول لِلَّهِ .
وختاماً:
فقد تبيّن مما تقدم -ولله الحمد- بطلان ما ادّعاه الكاتب -هداه الله- وحاول التشغيب به ،ولعلَّ فيما ذكر كفاية وغنية لمن رام الحق والسداد، والله الموفق والمعين،وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وكتب /
راجي رحمة ربه العلي
خالد بن قاسم الردادي
أبو ياسر
المدينة النبوية
23/4/1426هـ
الفهرس
__________
(1) "الموسوعة الفقهية الكويتية"(28/90-91).(1/55)
المقدمة ...................................................................3
مكانة صحيح الإمام مسلم ومنزلته...........................................5
ثناء العلماء على الرواة المخرَّج لهم في "صحيح مسلم" ........................9
انتقاد بعض الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح مسلم والجواب عن ذلك ......12
عناية العلماء بصحيح مسلم .............................................. 13
تخريج حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-................................... 15
أقوال العلماء في الحكم على الحديث .................................... 21
مناقشة دعاوى الكاتب ونقضها ........................................ 24
دعواه عدم سماع عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّاني من أبي قَتَادَة ......................24
كذب مفضوح للكاتب في ترجيحه لسنة وفاة أبي قتادة ..................... 25
دعواه أن بعض أئمة الحديث ذكروا عبد الله بن مَعْبَد في كتب الضعفاء ..... 29
دعواه أنّ الحديث ركيك الألفاظ ........................................ 31
دعواه أنّ شواهد الحديث ضعيفة واهية .................................... 35
دعواه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة ...................................... 42
دعواه إجماع الصحابة على عدم صيام يوم عرفة .............................45
دعواه أنّ يوم عرفة يوم أكل وشرب لأنه يعتبر عيداً للمسلمين .............. 50
دعواه شذوذ لفظة:((..يُكَفِّر السَّنَة الَّتِي قَبْلَهُ , وَالسَّنَة الَّتِي بَعْده )) ...........55
خاتمة في سياق أقوال العلماء في مشروعية صيام يوم عرفة ....................59
الخاتمة .................................................................. 66(1/56)