...
مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
مستجدات العصر ومظاهر التكامل المعرفي في التعامل الفقهي
أ.د . عبد الله الزبير عبد الرحمن
المحرّم 1430هـ - يناير 2009م
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه ورقة أشارك بها في المؤتمر الثاني الذي ينظمه مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية : ( التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون ) وقد اخترت هذا الموضوع تحقيقاً للمحور الثاني للمؤتمر : [ التطور الإسلامي لمنهجية المعرفة]. وذلك لتأكيد أن شرعة الإسلام لا تنفر من أي علم كان ، بل تجعل العلوم كلها متعاضدة متكاملة، ولم يفرض علم من العلوم الشرعية علماً من العلوم الطبيعية أو التطبيقية أو الإنسانية أو الكونية، وإنما الحقيقة التلاقي والتصاحب والتوافق والتكامل، فلا تعارض بين الدين والعلم في الإسلام، ولا تنافي بين النقل والعقل، إن صحّا وسلما من الاحتمالات والاعتراضات. فإن عجز بعض أهلهما من التوفيق قدر غيرهم.
بل الحقيقة التي تغيب عن كثير من المتعاملين مع علوم الشريعة من داخلها أو من خارجها، أن أكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها، وأن أكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها، كما قرر ذلك الإمام الغزالي ~ (1) .
فأحببت أن أكتب في موضوع يظهر التكامل المعرفي مع علوم الشريعة، فكان هذا الموضوع: ( مستجدات العصر: ومظاهر التكامل المعرفي في التعامل الفقهي ). وقد جعلته في ثلاثة مباحث، لكل مبحث مطلبان:
__________
(1) نقله عنه د. صالح بن حميد في الجامع في فقه النوازل، ص 14، ولم أقف على نصّ الغزالي مع بحث وتفتيش.(1/1)
المبحث الأول: في تعريف المستجدات وحكم النظر فيها.
والمبحث الثاني: في مناهج وطرائق التعامل الفقهي مع المستجدات.
والمبحث الثالث: في مظاهر التكامل المعرفي في فقه المستجدات.
والله أسأله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث الأول
مستجدات العصر : تعر يف وحكم النظر فيها
المطلب الأول
تعريف المستجدات والنوازل
المستجدات تُطلق في لسان النخبة الفقهية في هذا العصر على النوازل التي وقعت للناس في حياتهم سواء أكانت في مسائل العبادات أم في مسائل العادات والمعاملات، وعُرفت بالنوازل الفقهية في المصطلح الشائع اليوم.
ولذلك فإننا حين نعرّف المستجدات نعرّف النوازل، إذ كلاهما لمدلول واحد ومراد متحد، وإن كانت المستجدات أخصّ شيئاً ما، لأنّها ألصق بالعصر والزمان الحاضر،ولذلك النازلة قد تكون مستجدة وقد تكون غير مستجدة، فإن نوازل كثيرة وقعت بالناس في أزمنة ماضية فكانت مستجدة حين نزلت بهم وصارت نوازل بعد زمان وسنين ولم تعد مستجدة بعدئذ.
وعلى هذا فيصحّ الاكتفاء في التعريف بالمستجدات عن النوازل، وليكن أمرنا كذلك.
المستجدات في اللغة:
المستجدات جمع مستجدّة من جدّ الشيء يجدّ بالكسر جِدّة فهو جديد خلاف القديم، وجدّد فلان الأمر وأجدّه واستجده: إذا أحدثه فتجدد هو أو صيّره جديداً، وجدّ النخل صرمه وقطعه، وجدّ في السير اجتهد فيه، والجديد مالا عهد لك به، ولذلك وصف الموت بالجديد، والجديدان: الليل والنهار، لأنهما يحدثان في كل يوم ليل وفي كل يوم نهار (1) .
فمادة جدّ وجدّد وضعت في اللغة للدلالة على معنى: الأمر الجديد، والمقطوع، وما لا عهد لنا به، والاجتهاد.
__________
(1) راجع: لسان العرب،لابن منظور ج3 ص 107-115، القاموس المحيط،للفيروزابادي ص 346-347، المصباح المنير للفيومي، ص 58 .(1/2)
والألصق بمرادنا في البحث المعنى الدال على الأمر الجديد والأمر المقطوع الذي لا عهد لنا به.
وبهذا فإنّ المستجدات أحد حالين: إمّا أن تكون الحادثة المتجددة في نفسها. وإمّا أن تكون حادثة جديدة وأمراً مقطوعاً عما سبق لا عهد لنا به من قبل، فتكون قد وقعت لأول مرة.
وهذان الحالان اعتُبِرا في المعنى الاصطلاحي للمستجدات.
المستجدات في الاصطلاح:
اهتمّ كثيرٌ من العلماء والباحثين المعاصرين بالمستجدات والنوازل، إلاّ أنهم في التعريف غالباً ما يكتفون بتعريف النوازل دون المستجدات.
وبما قرّرناه من أنّ المستجدات والنوازل يطلقان لمراد واحد ويعتبران مترادفين لدى أهل الاصطلاح؛ فإننا سنكتفي بتعريف المستجدات عن النوازل أو بتعريف النوازل عن المستجدات.
فإذا أرادوا بالنوازل: " الوقائع والحوادث التي تنزل الناس، أو الواقعة التي يبحث لها عن حكم شرعي.. أو الواقعة والحادثة الجديدة التي لم تُعرف في السابق بالشكل الذي حدثت فيه الآن" (1) .
فإنّ المستجدات يراد بها: (( النوازل والوقائع الحادثة في العصر الحاضر، الجديدة في وقوعها أو في صورتها وحالها، مما لم يعرف لها حكم فقهي سابق )).
وعلى هذا تكون النوازل المستجدة على نوعين:
النوع الأول:
النوازل التي استجدت في أصل الوقوع والحدوث، بحيث إنها لم تقع إلا في هذا العصر، وهي مقطوعة عن سابق ولم يعهد بها من قبل.
وهذا النوع هو أصل المستجدات والنوازل، وفي كل عصر من العصور تقع مجموعة من هذه النوازل وتستجد في حياة الناس فيبحث لها عن حكم شرعي بطريق من الطرق المسلوكة لدى الفقهاء.
__________
(1) راجع: منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر بن علي القحطاني، ص 88 مع هوامشها.(1/3)
ففي عصر الخلفاء الراشدين استجدت ولادة المرأة في ستة أشهر من زواجها، فاعتبره الخليفة الثالث ذو النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قرينة للزنا وبيّنة لارتكابها حدّاً من حدود الله فحكم عليها بحدّ الزنا، فأسرع إليه عليّ - رضي الله عنه - يبيّن له إمكان ذلك مستدلاً بكتاب الله تعالى في آيتين قد فتح الله عليه تدبرهما فجمع بينهما فدلّتا على أن الحمل يمكن أن يكون ستة أشهر.
فعن بَعْجَة بن عبد الله الجهني ~ قال: " تزوج رجل منّا امرأة من جُهَيْنة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان - رضي الله عنه - فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: "ما يبكيك؟! فو الله ما التبس بي أحدٌ من خلق الله غيره قط، فيقضي الله في ما شاء". فلما أتي بها عثمان - رضي الله عنه - أمر برجمها، فبلغ ذلك عليّاً - رضي الله عنه - فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماماً لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي - رضي الله عنه - : أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الأحقاف15] وقال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [ البقرة 233]. فلم نجده بقي إلا ستة أشهر. فقال عثمان - رضي الله عنه - : والله ما فطنت لهذا، عَلَيَّ بالمرأة! فوجدوها قد فُرِغَ منها. قال: فقال بَعْجَةُ: فو الله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه. فلما رآه أبوه قال: ابني إني والله لا أشك فيه " (1) .
وفي عصر التابعين استجدّ بهم من قضايا الحكم والسياسة الكثير مما لم يقع في عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، كمسألة ولاية العهد، وأخذ البيعة لها، والإكراه فيها وغير ذلك.
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره ، ج2 ص 504 .(1/4)
وفي عصر الأئمة ومن بعدهم استجدت بهم الكثير من المسائل، ولا تزال المسائل تستجد بالناس في كل عصر ومصر إلى يومنا هذا فكانت من كثرتها ما أوجبت إنشاء مؤسسات النظر والاجتهاد الجماعي.
فمن قضايانا المستجدة في مسائل الحكم والسياسة: الحزبية والتعددية السياسية، والانتخابات، وولاية المرأة، والتراتيب الإدارية للمؤسسات وغير ذلك.
وفي مسائل الأسرة والمجتمع: أنواع الزيجات الحديثة كزواج المسيار والمسفار والإيثار، والزواج العرفي، وغير ذلك.
وفي المسائل المالية: قضايا البنوك والمصارف و هي من كثرتها وتسارعها وتعقّدها أنشئت من أجل النظر فيها واستيعابها في أحكم الشرع وإسلامها الهيئات الشرعية عليا وفرعية.
النوع الثاني:
من المستجدات العصرية تلك التي استجدت ولكن بتجدّد لا بانقطاع عن سابق، فكونها من المستجدات باعتبارها قد استجدت في صورتها وحالها، وإن كان أصلها سابقاً، بمعنى أنها استجد وقوعها بغير الشكل أو الصورة أو الحالة التي حدثت به في السابق.
وهذا النوع أمثلته كثيرة وصوره متوافرة في سائر أبواب الفقه. ولا شك أنها تحتاج ما يحتاج إليه النوع الأول من البحث والنظر والاجتهاد في إلحاقها بأصلها في الحكم الشرعي.
+++
المطلب الثاني
حكم استيعاب المستجدات في أحكام الشرع
من ثوابتنا أنّ الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وأنّ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين وختام مسك المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنّ القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن للكتب الناسخ لأحكامها وشرائعها تقريراً أو تغييراً (1) .
__________
(1) نسخ التغيير بيّن، أما نسخ التقرير فيكون بنقل الحكم من تلك الكتب إليه، فيكون الحكم بالقرآن بحيث أصبح لا يجوز الحكم بالتوراة أو بالإنجيل بعد القرآن، فيقرّ وجود الحكم في شرع من قبلنا ولكن بطريق شرعنا لا شرع من قبلنا.(1/5)
ولذلك ما من شيء في هذه الحياة إلا ويجب على الأمّة أن يحكموا عليها بمقتضى الشرعة، وما من تصرّف أو سلوك أو تعامل أو غيره إلاّ وواجب المسلمين أن يعرفوا هل هو موافقٌ للشرع أو مخالف له؟ هل يصحّ أو لا ؟ هل يجوز أو لا ؟.
وهذا يعني أمرين مهمّين للغاية:
الأمر الأول:
أنه يجب أنْ نعتقد أنّ كل ما يقع من الحوادث والوقائع والمستجدات للناس لا بدّ أن يكون لها في شريعة الإسلام من حكم، فهي إما واجبة أو مندوبة أو محرّمة أو مكروهة أو مباحة أو صحيحة أو باطلة.
ولا يجوز أن يظنّ أحد أو يعتقد مسلمٌ أنّ ما يقع من المستجدات والحوادث الجديدة لا دخل للشريعة بها، أو لا يوجد في الشريعة حكمٌ لها، لأنّه اعتقاد يفسده عموم شريعة الإسلام للعالمين وصلاحها لهم في كل زمان ومكان. (1)
ولا يعني صلاح الشريعة لكل زمان ومكان سوى قدرتها على استيعاب سائر تصرفات الناس وتعاملاتهم في أحكامها.
__________
(1) حكي الإمام الجويني عن الإمام الباقلاني رحمه الله القول بخلو الواقعة عن حكم الله تعالى بحجة أن"مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع، والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد مالا يتناهى إلى ما يتناهى". وأخشى أن تكون هذه الحكاية مخرّجة من قوله هذا لا من صريح ما قال، ومقالته تلك ربما قصد بها أنّ الواقعة حين وقوعها لا يكون لها حكم، وربما قصد بها الاستدلال بالعقل وضرورة الحال إلى القياس والمعقول فوق المنقول من الكتاب والسنة والإجماع، وهي حجة كثير ممن استدل للحاجة إلى القياس من الأصوليين، ويمكن أن يراجع في هذا على سبيل المثال: الموافقات للشاطبي ج4ص345 وما بعدها، أعلام الموقعين لابن القيم ج4 ص 204 ، البحر المحيط للزركشي ج6 ص 196، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد، ج1 ص 11. وراجع ما نقله الجويني وما ردّ ره عليه في البرهان في أصول الفقه ، ج2 ص1348-1350، الفقرة 1527-1529.(1/6)
وقد اقتضت حكمة الله البالغة أن تكون شرائع الرسل السابقين لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - شرائع محدودة موقوتة، فهي لأقوام معيّنين في مرحلة زمنية خاصة، (1) وأن تكون شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة خالدة ما تعاقب الليل والنهار، وتجددت الأزمان والأعصار، وتغايرت البلدان والأمصار،وهذه من الحقائق المسلمة عندنا، وكما يقول العلامة القرضاوي حفظه الله تعالى: (( من الحقائق المسلمة أنّ الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدّد مشكلاته الزمنية. وأنها ـ بمصادرها ونصوصها وقواعدها ـ لم تقف يوماً من الأيام مكتوفة اليدين، أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة، منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - ، فمن بعدهم، وأنها ظلت القانون المقدّس المعمول به في بلاد الإسلام.. )) (2) .
الأمر الثاني:
أنّه يجب على علماء الأمّة أن يتعرّفوا على المستجدات والوقائع الجديدة وأن يحكموا عليها بالصحة أو البطلان، بالجواز أو المنع، بالحرمة أو الإيجاب، بالكراهة أو الندب. ولا يجوز لهم أن يتغافلوا عن ذلك، خاصة القادرين منهم على النظر والاجتهاد، فرداً كان ذلك القادر أو جماعة من الفقهاء والعلماء .
__________
(1) ينظر: شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي ، دار الصحوة للنشر، القاهرة الطبعة الثانية 1993م، ص 11 وما بعدها.
(2) عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ، د. يوسف القرضاوي ، ص 9 ، دار الصحوة للنشر، القاهرة الطبعة الأولى 1406هـ 1985م.(1/7)
وهذا الوجوب وجوبٌ كفائيٌّ (1) جماعيٌّ يُطالَبُ فيه سائر الأمّة بتحصيله، فإنْ تغافل العلماء وجب على عامة الأمة أو خواصها من عامة الدعاة أو المفكرين أو الساسة أو أمثالهم ممن يليه تأكد الوجوب في حقه بحسب قدرته وتقدّمه في الأمّة أن يحضّوا أهل العلم والفقه في استيعاب هذه الحوادث والمستجدات في أحكام الشرع، وإلا أثم الجميع إن تُركت هذه المستجدات بلا نظر وتحصيل لحكمها الشرعي.
وقد قرّر الإمام الزركشي ~ أنه لا بدّ من تعرف حكم الله في الواقعة، وأن ذلك يكون بطريق النظر، والتعرّف بالنظر غير واجب على التعيين، فلا بدّ أن يكون وجود المجتهد من فروض الكفايات (2) .
وقد جعلوا (( الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب: فرض عين، وفرض كفاية وندب:
فالأول: على حالين: (أحدهما): اجتهاده في حق نفسه عند نزول الحادثة و (الثاني) اجتهاده فيما تعين عليه الحكم فيه فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور وإلا على التراخي.
والثاني على حالين: (أحدهما): إذا نزلت بالمستفتي حادثة فاستفتى أحد العلماء توجه الفرض على جميعهم وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض وإلا أثموا جميعا لكن حكى أصحابنا وجهين فيما إذا كان هناك غير المفتي هل يأثم بالرد أصحهما لا. و(الثاني) إن تردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنهما.
والثالث على حالين: (أحدهما): فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل ليسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله. و(الثاني): أن يستفتيه قبل نزولها )) (3) .
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب للنووي، ج1ص49، فقه النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، ج1 ص
(2) البحر المحيط للزركشي ، ج6 ص 206.
(3) البحر المحيط للزركشي ج6 ص 207 ، إرشاد الفحول للشوكاني ، ص 422-423.(1/8)
وبهذا يتّضح حكم استيعاب الحوادث والمستجدات العصرية في الأحكام الشرعية، وأنه الواجب الذي يقع على عاتق علماء الأمّة مع سائر الأمّة، حتى لا ندع أمراً من الأمور أو شأناً من الشؤون أو تصرفاً أو معاملة أو سلوكاً يقع من مسلم أو غير مسلم في هذه البسيطة بلا حكم شرعي. وهذا مقتضى الشهادة التي جعلنا الله بها شهداء حتى على الأمم، فمقتضى الشهادة أن نشهد بأن الفعل المعين أو التصرف المعيّن أو الحادثة والواقعة المعينة في الزمن المعيّن و(3) أو محرّم أو مندوب أو مكروه أو مباح، وهو قوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة/143]. والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم على أفعالنا، وورثته من علماء الأمّة يحكمون على أفعال الناس من بعده بسنته ومنهاجه إلى أن نلقاه بجوار ربه الكريم بكرم المولى ومنّه تبارك وتعالى.
فكلُّ ما في الأرض من فِعالِ * لابدّ للتشريع من مقالِ
بالحظر ضمناً كان أو صراحهْ * إذا مُلي بالشرّ والقباحهْ
أو قيل لا يفعل للنزاههْ * إنْ قَلَّ سوءُه فهُوْ الكراههْ
أو قيل بالندب أو الإباحهْ * أو الوجوب إنْ رأى صلاحهْ
+ + +
المبحث الثاني
التعامل الفقهي مع المستجدات: مناهجه وطرائقه
التعامل الفقهي مع المستجدات يقوم على مناهج لاهل العلم والفقهاء في كل عصر يتعاملون بها مع مستجدات عصرهم نوازله. وللتعامل الفقهي طرق بها يتعرّفون على أحكام المستجدات وفقه النوازل. وبيان تلك المناهج والطرق سيكون بتوفيق الله تعالى من خلال مطلبين أولهما في المناهج والآخر في الطرائق.
المطلب الأول
مناهج التعامل الفقهي مع المستجدات(1/9)
تباينت مناهج أهل العلم في التعامل مع مستجدات النوازل، وإن توحّدت تلك المناهج غالباً من حيث هي في كل الأعصار المتعاقبة من تاريخ فقهنا الإسلامي الزاهر. وبالطبع فلا يمكن أن يتحد الناظرون في النازلات الجديدة على منهاج واحد، وذلك بحسب طبائع الناظرين، وميولهم الاجتماعي والسياسي، وتكوينهم الفقهي، ورتبهم في الفهم، وغير ذلك من الأسباب التي تفرض على مناهج النظر التباين والاختلاف.
ولعل المستجدات هي الأحرى بتوافر هذه الأسباب لتتباين مناهج النظر فيها، وذلك لأمر بسيط هو: أنها ـ أي المستجدات ـ مقطوعة عن أصل معهود أو دليل ظاهر أو بحوث مستفيضة من قبل، فكل من نظر فيها تدخلت الطبائع والقدرات في توجيهه.
وعلى هذا: فإننا يمكن أن ننبّه إلى بعض تلك المناهج والتي تتنوّع باعتبارات مختلفة:
فمن المناهج ما ترتبط بالطبائع، ومنها ما تستند إلى التطلع للاستقلال في النظر، ومنها ما تعتمد الاستقراء والتتبع، ومنها ما تقوم على الاستيعاب والتصور، وغير ذلك.
وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: المنهج الطبعي:
والمنهج الطبعي هو ذلك الذي يرتبط بطبع الناظر في المستجدات وصفته، وأساليب هذا المنهج :
[1] المبادرة إلى النظر والحكم تعجّلاً:
فبعض من ينتسب إلى العلم وبعض طلابه يتسرّع في التعامل مع المستجدات العصرية ، فيبادر إلى النطق بالحكم، ويسرع في تكييف النازلة أو يحكم عليها جزافاً من غير تبصّر وتفكّر ، ومن غير تأمّل أو إفراغٍ لجهد يليق بنازلة لم يحكم عليها غيره من قبل أو لا يعرف حكماً لها سابقاً.(1/10)
وهذا بلا ريب مغامرة ومجاسرة لا تليق بأهل العلم وإن وقع فيها بعضهم. وهؤلاء من أولئك الذين قال الله فيهم وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل/116]. لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوه ولا نصب لهم دليلاً عليه،ولا بحثوا في المسألة ولا تأمّلوا بما فيه الكفاية، فوصفوها بحكم تسرّعاً وتعجّلاً من غير تدقيق ولا تحقيق، فشملهم التحذير ، وليس المراد بقوله تعالى لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أنهم قصدوا الافتراء على الله أو تعمّدوا الكذب عليه تبارك وتعالى، فليست اللام هنا لام علة وإنما هي لام العاقبة، والمقصود منها تنزيل الحاصل المحقّق حصولُه بعدَ الفعل منزلةَ الغرض المقصود من الفعل (1) .
وهؤلاء كان أمرهم كذلك.
[2] الإطلاق والتعميم:
وبعض الناظرين إلى المستجدات في تعاملهم معها لا قدرة لهم على التفصيل والتبيين، وإنما طريقتهم المثلى إطلاق الحكم وتعميمه دون مراعاة لفوارق المكلفين، أو أحوال المتنسكين، أو قيود التحريم ونفيه، وغاية أمرهم أن ينزّلوا عموم النصّ على عموم الناس، ومطلق الدلالة على مطلق النازلة.
غير أن الصحيح الذي يجب أن يتبعه هؤلاء، والصواب الذي يجب أن يتخذوه سبيلاً هو معرفة أن هناك ثمّة فرق بين الحكم ومحله، فالحكم أصله العموم بينما المحل أصله الخصوص، والتوفيق بين تحصيل الحكم وتنزيله هو الفقه الذي يُمدَح أهله وأصحابه ويرفع أقوامه ويُطلب أحواله، وبغير ذلك يقع التقصير أو القصور عن حكم المستجد والنازلة.
... فكم ممن يعمم حكم التحريم لكل تأمين، ولم يفرّق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني..
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ، تفسير الآية 116 من سورة النحل.(1/11)
... وكم ممن يطلق الحكم بتحريم كل زواج جديد ونكاح مستحدث، ولم يفرّق بين صحيحه وباطله، فقط بالنظر إلى كونه حديثاً جديداً لم يكن من قبل.
... وكم ممن يعمّم الإباحة والجواز على ممارسة الرياضة ومشاهدتها، ومنها ما يجوز ـ وهو الأصل ـ ومنها ما يكره وما يحرم .
... وكم ممن يطلق المنع على معاملات البنوك ، وقيد التحريم التعامل بالربا أو شبهة الربا. وغير ذلك من مستجدات العصر.
ثانياً: المنهج الميولي البيئي:
وأقصد بهذا النوع من المناهج المنهج الذي يكوّنه الميول في الناظر وتؤثّر فيه البيئة التي يعيش فيها وتربى على أوضاعها وأعرافها .
فهذا المنهج يقوم على مؤثرات خارجية تكاثرت عليه بالضغوط من أجل المعايشة واستجلاب الاستقرار النفسي معها؛ حتى كوّنت فيه الميول والذي بدوره كوّن فيه اعتقاد وجوب ولزوم الانتصار للبيئة أو الحزب أو الطائفة التي ينتمي إليها.
فيكون همّ الناظر في كل مستجدٍ أن ينتصر بحكمه لمذهبه أو لحزبه وجماعته أو لطائفته وطريقته أو لعاداته وأعرافه، ليطمئن هو أنّ حاله خير حال، وأن مذهب خير المذاهب وأن حزبه خير الأحزاب .
... فكم ممن يبرر مواقف ولاة أمره من مستجدات النوازل السياسية ؟
... وكم ممن يسعى لتأصيل سلوك جماعته في النوازل الدعوية؟
... وكم ممن يجهد نفسه لترجيح ما عليه طائفته العقدية أو حزبه السياسي؟
وهذا المنهج ليس عيباً بإطلاق إلا إذا تولّد التعصب واعتماد ضعيف النص ومرجوح الدلالة ومتروك القول ووهن التأويل.
أمّا إذا اعتمد على قواعد الاستنباط الصحيحة وطرق تخريج الحكم المقبولة ومسالك الترجيح؛ فلن يلام على ذلك بحال، إنْ تجرّد للدين وأخلص لربه وابتع سبيل المؤمنين.
ثالثاً: المنهج الاستقلالي:
والمنهج الاستقلالي هو ذلك المنهج الذي يتخذه بعض المشتغلين بالنظر في المستجدات ويسعون للحكم عليها وغالبهم من العاملين في الدعوة.(1/12)
فبعض هؤلاء يرى أن من كمال شخصيته الدعوية أو العلمية أن لا يتبع أحداً وأن لا يقلّد أحداً وأن لا يقول بقول أحدٍ، فيتجنب بقدر المستطاع أن يقول بقول أحد أو يحكم بما حكم به أحد مهما علا كعب ذلك الأحد في العلم وعرف بالتوفيق والسداد في الاجتهاد، ولو كان صحابياً أو تابعياً إمامًا أو إماماً من أئمة المذاهب الفقهية المتبوعين.
ولذلك يحرص أن يأتي بالجديد في حكم المسألة المستجدة، ولو انقطع رأيه عن دليل صريح أو دلالة قريبة أو ظاهرة؛ فيبحث عن حكم النازلة في القواعد العامة والمبادئ الكلية للشريعة وإنْ وُجد ما يعارضها من الأدلة الخاصة في المسألة حتى يخرج بحكم مستقل عن أقوال الآخرين ينسبه لنفسه.
وهذا بلا شك مرضٌ قاتل، يجب أن يسارع من تسلل إلى قلوبهم إلى التطبب والعلاج، وإلاّ فعاقبتهم شر عاقبة على أنفسهم وعلى الدعوة والدين.
فلا انتقاص منه ولا من علمه إن وافق غيره في حكم مسألة، وليس عيباً ولا عاراً عليه أن يرجّح قول فقيه أو رأي عالم ويأخذ به ويقول بقوله.
يدخل في هؤلاء أيضاً أولئك الذين يبحثون عن شواذ الأقوال ومتروكها يتبنونها في النوازل المستجدة في صورها وأحوالها، مخالفة للعلماء وإظهاراً للذوات بحثاً عن مجد غابر أو إحياءً لصيت قد هاجر، فتجده في معاملات البنوك والمصارف يأخذ بما شذّ من قول ابن عباس أنه لا ربا إلا في النسيئة، وفي القروض الربوية يقول بقول من شذّ من باحثي العصر وصححها. وفي إمامة المرأة للجمُعات والجماعات يأخذ بما شذّ من قول الطبري أنها تجوز، وفي الزيجات العصرية الباطلة يبيحها بتوسيع قول الإمامية في زواج المتعة، وغير ذلك (1) . وربما احتجّ بالخلاف، على أن مجرد وقوع الخلاف يبيح المسألة، ولا حجة للخلاف في نفسه ،بل ربما كان الخلاف مردوداً لا اعتبار له في الشرع وكما قيل:
__________
(1) وراحع: إرسال الشواظ على من تتبع الشواذ، صالح الشمراني، دار المنهاج الرياض، ص139 ومابعدها، ص 152 وما بعدها.(1/13)
وليس كلّ خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظّ من النظر
وكما قلت:
وكلْ خلافٍ جاء بالأهواءِ ... فسارعنْ وطأْهُ بالحذاءِ
وما ذُكر من ذاك المردود، (( ولو أن إنساناً أخذ بكل شواذ الأقوال وغرائبها؛ لربما خرج من الدين وهو لم يخرج بعد من أقوال العلماء )) (1) . وقد قال الإمام عبد الرحمن المهدي رحمه الله: (( لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشام من العلم.. لا يكون إماماً في الحديث من تتبع شواذ الحديث )) (2) . فليتق الله هؤلاء إن كانوا من المؤمنين.
رابعاً: المنهج السلوكي :
والمنهج السلوكي يتخذ ثلاثة مسالك مشهورة: (3)
المسلك الأول: مسلك التضييق والتشديد:
__________
(1) د. سلمان العودة ، ضوابط للدراسات الفقهية، ص 84 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ، ابن عبد البر ، ج2 ص 266 فقرة [1377، 1382].
(3) يراجع: الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، د. القرضاوي ، ص 88 وما بعدها، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ، د. مسفر القحطاني، ص 283 ـ 305.(1/14)
فأصحاب هذا المنهج يجنحون دائماً إلى التحريم والحظر والمنع ونفي الجواز والإباحة، حملاً لأنفسهم وللناس على التعسير في الدين، مع أن الدين يسرٌ والحرج عن ديننا مرفوعٌ، وشريعتنا هي الشريعة السمحة السهلة، رحمة كلها، ويسرٌ كلها، وسماحة كلها، ولذلك سميت بالحنيفية، بل التيسير هو المقصد العام للأحكام الشرعية، أراده الله ولم يرد ضدّه من التعسير والتضييق على العباد، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة/185]. وقال - سبحانه وتعالى - : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة/6]. وقال - عز وجل - : هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج/78]. وقال صاحب الشريعة السمحة - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّ هذا الدين يسرٌ ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه ) (1) .
وعلى هذا ربَّى أصحابه - رضي الله عنهم - ، وعلى هذا تربوا، فعن عمر بن إسحاق ~ قال: (( لَمَن أدركتُ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم )) (2) .
وقال عبادة بن نسي الكندي ~ : (( أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم)) (3) . رضوان الله تعالى عليهم.
ولهذا! فليس للمتشددة مكان بين الفقهاء في الحقيقة، وإنْ هم في الواقع؛ فإنما اعتزاءً والتحاقاً بهم، لا انتساباً برحم الفقه.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الدين يسر ، برقم 39 ج1 ص 23 ، وابن حبان برقم 351 ج2 ص 63، والبيهقي في السنن الكبرى برقم 4518 ج3 ص 18.
(2) سنن الدارمي ، ج1 ص 55 باب كراهية الفتيا برقم 126.
(3) سنن الدارمي نفسه برقم 127.(1/15)
ومن أظهر شواهد وعلامات منهج التضييق والتشديد: حمل الناس على قوله ومذهبه، مع أنّ أئمة الفقه المهديين باتفاق الأمة والمتبوعون في مذاهبهم لم يكونوا يلزمون أحداً بأقوالهم، أو يحملونهم على مذاهبهم وآرائهم..
فهذا الإمام مالك ~ لما استشاره الرشيد أن يحمل الناس على موطئه ، منعه من ذلك، وقال: (( إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرّقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم )) (1) .
وورد عنه أنه قال: (( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه )) (2) .
وذكر بعض المالكية أنه: (( إذا ظهر للإنسان خلاف ما يظهر لغيره فيمتنع في ذاته ولا يحمل الناس على مذهبه فيدخل عليهم شغبا في أنفسهم وحيرة في دينهم )) (3)
واشتهر عن الشافعي ~ في هذا المعنى قوله : (( قولي صواب يحتمل الخطأ وقولي غيري خطأ يحتمل الصواب )) .
ونصّ الإمام أحمد ~ في ذلك فقال : (( من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدّد عليهم )) (4) .. وعنه أنه قال : (( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه)) (5) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ، ج30 ص 79.
(2) شرح الزركشي ، لشمس الدين أبي عبد الله الزركشي ، ج2 ص 404.
(3) التاج والإكليل ، ج1 ص 405.
(4) الآداب الشرعية، لابن مفلح ، ج2 ص 62، مؤسسة الرسالة ط2 1417هـ .
(5) شرح العمدة ، ج4 ص 567.(1/16)
هذا ولو كان المفتي قاضياً أو حاكماً قد ولي أمر المسلمين، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوِّز (شركة الأبدان) فهل يجوز له منع الناس ؟ فأجاب: (( ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره، مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار. هذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل )) (1) .
ولعل هؤلاء إنما حملهم على التضييق والتشديد أحد أمور:
ـ فبعضهم يجنح للتضييق والتشديد أخذاً بالاحتياط، لأنه لا علم له بالراجح او الحق والصواب في النازلة؛ فيحتاط لنفسه ويرجو أن يحتاط للناس فيحملهم على الاحتياط.
ـ وبعضهم يخشى التساهل في الدين من الناس فيسدّ الذرائع بالتحريم والحظر عليهم، ولو كانت الذريعة ضعيفة أو قليلة نادرة .
ـ وبعضهم يجعل ذلك من باب الورع في الفتيا، ويظنّ أن من الورع التحريم على الناس، وما درى أن تحريم ما أحله الله ليس من الورع في شيئ بل هو من باب الكذب على الله والافتراء عليه، وأن من حرّم ما أحل الله كمن أحلّ ما حرم الله سواء، وهو داخل فيمن نعى عليهم رب العزة تبارك وتعالى في قوله : وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل/116].
وهذا المسلك يدخل في الدين من المفاسد غير قليل، ومن ذلك:
1ـ يؤدي إلى النفور عن قبول الشرع وأحكامه، والإصرار على الاستمرار على ما كان عليه، وهذا من الفتنة العظمى في الدين.
__________
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج30ص 79.(1/17)
2ـ يدخل الحرج على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، لأنها تضيّق عليهم فلا يجدون سبيلاً لرخصة أو تيسير، والحرج مرفوع في الدين منفي عنه في عبادة أو عادة.
3ـ يكون في اتباعه تضييع الكثير من المصالح الشرعية المعتبرة التي أُلغي اعتبارها وحُكم بخلاف رعايتها عملاً بالأحوط أو سداً للذريعة وغير ذلك .
4ـ ينتهي بهم إلى الغلو في الدين والتنطع فيه، وهو أشدّ البلايا على المسلمين أفراداً وجماعات.
المسلك الثاني: مسلك التساهل والتسييب:
وغالب هؤلاء من أولئك الذين أقيمت أصولهم الفكرية والعقدية على غير الأصول الشرعية وعلى غير الطريقة الإسلامية القائمة على تقديس النصّ وتقديمه على ما سواه. وكثير منهم تأسس على مناهج الغرب الشركي أو الشرق الإلحادي ، فيبادر إلى النظر في المستجدات وهو مساق إلى التوافق مع ما تأسس عليه، أو الدفاع عن الإسلام بإيجاد ما يحسّن صورته لدى الغرب وغير ذلك من المنطلقات والأغراض، إذا سلم من التأثيرات الحزبية والطائفية، أو الأطماع الدنيوية الشخصية.
فهذا يسارع إلى القول بالجواز أو يدعمه، كالمتساهلين من الاقتصاديين والسياسيين وغيرهم.
ù فبعضهم لا يزال أسير الفكرة الربوية ولا يقدر على التحرر من لزوم الفائدة في المعاملات المالية..
ù وبعضهم لا يزال مبهوراً بحضارة غيرنا فيحرص على اللحاق بهم بإباحة ما ليس بمباح ظناً منه أن التحريم تشدد في الدين وتزمّت في التدين، وأن الإباحة بإطلاق مسايرة للحضارات التي تقدمت فبهرته.
ù وبعضهم يجهد نفسه فيهرَع إلى هوى حاكم أو سلطان يبرر له مواقفه وقراراته بالتسهيل عليه وعدم التضييق..(1/18)
غير أن أهل الحقّ من العلماء الربانيين يقفون لهذه الأغراض وأصحابها، فإنّ الإمام يحيى بن يحيى الليثي ~ لمّا واقع الأمير عبد الرحمن الداخل جاريته في نهار رمضان، وأراد بعض الفقهاء في الأندلس التوسيع له بتخييره في الكفارة بادر قائلاً: (( ليس لك إلا أن تصوم شهرين متتابعين )) فلما خرجوا قالوا ليحيى: مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود )) (1) .
وقد راعى مقاصد التشريع في الكفارات، مع أنه كان شديداً في الالتزام بمذهب مالك وكان يأمر الولاة والقضاة بالتزام المذهب على أشدّ ما يكون، مما يدلّ على استقامة أمره مع الشرع حيث منطوقه أو روحه.
وفي المقابل نجد من يفرّق بين قريب وغريب، وبين صديق وبعيد في الفتيا والحكم على أفعاله.
وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي ~ عن بعض أهل زمانه ممن نَصَبَ نفسه للفتوى أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وقال: وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضرّه، وأنه كان غائباً، فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه. قال الباجي ~: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد بهم في الاجماع أنه لا يجوز، ولا يسوغ ولا يحلّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه )) (2) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، ج10 ص 521 .
(2) انظر: الموافقات للشاطبي ن ج4 ص 101، أعلام الموقعين لابن القيم ج4 ص 211.(1/19)
قال ابن القيم ~: (( وبالجملة فلا يجوز العمل والافتاء في دين الله بالتشهى والتخير وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتى به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان)) (1) .
ومن أكثر ما يعتمده ويستند إليه أهل التساهل والتسييب: الحيل والمخارج .. تتبع رخص المذاهب.. التلفيق المحرّم بين المذاهب.. تقديم المصلحة بإطلاق ولو على النصّ الخاص الصريح.. الاحتجاج بالخلاف.. اعتماد الشواذ من الأقوال.. اللجوء أحياناً إلى التشكيك في حجية بعض المصادر الأصلية حتى بلغ ببعضهم ذلك إلى ردّ الاحتجاج بالسنة المطهّرة.
المسلك الثالث: مسلك التوسّط والاعتدال:
وهذا هو المسلك الثالث الذي يقوم عليه المنهج السلوكي للنظر في المستجدات والنوازل، وهو خير المسالك وأعدلها، وأوسطها وأضبطها.
وضابط التوسط والاعتدال: التيسير المحكم بالأصول والقواعد المعتبرة غير الخارج عن الدليل.
ويجب التفريق بجلاء بين التيسير وبين التساهل، فإن التيسير هو مقصد الأحكام الشرعية فهو محمدة لسالكه بإحسان وقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ( يسروا ولا تعسّروا ) (2) وقال - عليه السلام - : ( إن دين الله يسر ) (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إنما بعثت بالحنيفية السمحة ) (4) .
أمّا التساهل؛ فهو مذمّة في الدين محظور في الشرع مذموم سالكه.
__________
(1) أعلام الموقعين ، لابن القيم ، ج4 ص 211.
(2) أخرجه البخاري برقم 69 ج1 ص 38 ، ومسلم برقم 1734 ج3 ص 1359.
(3) عزاه الحافظ في الفتح إلى الإمام أحمد وحسن إسناده ، فتح الباري ج1 ص 94 .
(4) الطبراني في المعجم الكبير برقم7715ج8 ص170،وأحمدبرقم 22345، ج5 ص 266. واللفظ للطبراني.(1/20)
وليس المراد بالتيسير حمل الناس على الأيسر في كل الأحوال، أو الإفتاء لكل مستفتٍ بما يروق له أو يسهّل عليه ولو لم يحتمل الشرع أو النص أو الدليل. وإنما شرطه وضابطه : موافقة الشرع في الدليل والدلالة بما يحقق مقصود الشارع في تشريع الأحكام ومقصوده في التكليف بالأحكام وفي المكلفين.
ولا يكون ذلك إلا بالمليء بفقه الشريعة، المتجرد لله في علمه وعمله، العدل في نفسه، الثقة عند الأخيار والصالحين من علماء الأمّة. وكما قال الإمام سفيان الثوري ~: (( إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأمّا التشديد فيحسنه كل أحد)) (1) .
وسبيل هذا المسلك أمورٌ:
1ـ اعتبار طبيعة الأحكام بين الثبات والتغيّر.
2ـ عدم الغفلة عن مقاصد التشريع.
3ـ الاحتياط عن الوقوع في البدع.
4ـ التحوط عن إيقاع الناس في التساهل.
+ + +
المطلب الثاني
طرائق التعامل الفقهي مع المستجدات
طرق التعامل مع المستجدات والنوازل تتجّه في الجملة إلى جهتين: الأولى: جهة الدليل القاضي بحكم النازلة المستجدة، والثانية: جهة العالم الباحث عن حكم النازلة المستجدة.
أولاً: طرق معرفة أحكام المستجدات والنوازل:
__________
(1) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ، ص 112، جامع بيان العلم وفضله ، لابن عبد البر ، ج2 ص 252 برقم 1317 ، ورواه سفيان بن عيينة عن معمر انظر رقم 1318.(1/21)
إنّ معرفة أحكام المستجدات والنوازل من أعسر الأمور على أهل العلم والفقهاء، لأنها طريق محفوف بالمشاق والصعاب، إذ يبحث الناظر عن حقيقة النازلة المستجدة وصدق وقوعها، ثم يبحث في نظائرها وأشباهها، وهل سبق لأمثالها حكم أو لا؟، ثم يبحث في القواعد الفقهية والكلية والمبادئ الشرعية، ثم ينظر في الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحو ذلك، ثم ينظر في محل الحكم وهل يصدق الحكم في المحل، إلى غير ذلك من التباحث، وكل بحث في هذه المراحل يحتاج إلى تردد وتأمل وتعمّق في النظر واستشراف وتوقّع وتصوّر وغير ذلك مما يبذله الناظر الفقيه من الجهد والوسع لتحصيل الحكم الشرعي المناسب للنازلة المستجدة.
ولهذا لابدّ من رسم خارطة طريق للباحث في المستجدات ينتقل عبرها في خطة محكمة يتوصّل بها إلى مرحلة النطق بالحكم. خاصة لو علمان أنّ أحكما المستجدات تحتاج إلى نوعي الاجتهاد في استيعابها ضمن أحكم الشريعة الخمسة: الاجتهاد الاستنباطي التأويلي القائم على معرفة الحكم الشرعي للنازلة المستجدة بدليل الحكم، والاجتهاد التطبيقي التنزيلي بالتحقق من مناسبة ذلك الحكم المستنبط للواقع والمحل.
وعلى هذا: فالطرق التي يَتَحصَّل بها الناظرُ أحكام المستجدات، تتلخص في الآتي:(1/22)
1ـ طريق النصّ الشرعي: من الكتاب أو السنة أو المنقول وهو الإجماع، فيبذل الناظر جهده ووسعه لتحصيل حكم النازلة من النصّ الخاص الذي يستوعب المستجد، ولو من مثال فهو تحصيل حكم العمليات الفدائية الاستشهادية من قوله تعالى وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة/120]. فإنّ المستشهد قد وطئ موطئاً يغيظ الكفار، ونال منهم نيلاً عظيماً ونكّل بهم، فهذا من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى، وقد كتب له ما فعله عملاً صالحاً، فكيف يذهب بعض أهل العلم إلى تحريم العمل الاستشهادي والله تعالى يصفه عملاً صالحاً؟ فهل يكون المحرّم عملاً صالحاً؟ .
2ـ طريق القواعد الأصولية: وهي تلك القواعد التي يستخدمها الأصوليون في استيعاب المستجدات. فقد يكون طريق الناظر فيها الاستحسان، فيترك حكم نظائرها ويحكم عليها بخلاف حكم نظائرها لوجه شرعي خاص، إمّا نظراً لحالها أو لمآلها، أو لأحوال المكلفين في اعتبارها وغير ذلك.
وربما استصلح الناظر فطلب المصلحة الشرعية وراعاها في النازلة المستجدة ما لم يكن فيها ابتداع أو مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها وقد سلمت من مخالفة النصّ الصريح وسلم الناظر من تحكيم أهوائه، ما دامت موافقة لمقصود الشارع.
وربما اعتبر الناظر الذرائع فسدّ ما يؤدي منها إلى المحظور، أو يوقع المفسدة، وفتح ما يؤدي منها إلى المباح أو المندوب أو الواجب، أو يحقق مصلحة شرعية.
وربما وافق بحكمه الأعراف السائدة والعادات القائمة المطردة، والعادات محكّمة ما لم تقضِ العادة أو العرف على الثابت من الدين وتخالف الصريح أو الواضح من النصّ.
والعرف في الشرع له اعتبار ... لذا عليه الحكم قد يُدار(1/23)
3ـ طريق القواعد المقاصدية: واعتماد القواعد المقاصدية من أهم الطرق التي يجب أن يسلكها طالب حكم المستجدات والناظر فيها، ومن غفل عن مقصود الشارع في الحكم الشرعي غفل في الحقيقة عن الحكم الشرعي، والحكم الذي توصّل إليه ليس شرعياً، إلا اتفاقاً ومصادفة، ولا يمكن أن نبني فقهنا على المصادفات بلا إحكام وضبط. ومن المعلوم عند السادة الفقهاء أنّ: كل حكم خرج عن مقصود الشارع فهو باطل.
ولذلك فالنظر المقاصدي في النوازل يضبط الحكم ويُحكمه.
وطريق النظر المقاصدي يجعل الناظر في المستجدات يلتزم بعض القواعد التي تصوّب حكمها إلى موافقة الشرع ومطابقته، ومن تلك القواعد: (1)
1ــ الانتباه للمآلات والتوقعات ..
2ـ تحقيق الأقرب إلى المقصود وإنْ كان على خلاف الظاهر..
3ـ العدول إلى ما هو أصلح ولو كان جزئياً..
4ـ اعتبار نظير المقصود مقصوداً..
5ـ إدارة الحكم مع علته المقصودة وجوداً وعدماً..
6ـ المعاملة بنقيض القصد..
7ـ تقديم الأنفع والأصلح على النافع الصالح..
8 ـ رعاية المقاصد بجلب المصالح ودرء المفاسد..
4ـ طريق القواعد الفقهية: وهو الطريق التي يحتاج إليه الناظر لتنزيل الحكم في المحل، لأنّ القواعد الفقهية حجيتها تقريرية وليست مصدرية، بمعنى أن الحكم لا يستنبط منها باستقلال، وإنما يُحتاج إليها في تنزيل ذلك الحكم على محله، وبمعنى آخر: القواعد الفقهية قواعد للإفتاء أكثر من أن تكون قواعد للاستنباط. فيرى الناظر في النازلة المستجدة فيبحث أيّ القواعد ألصق بها وأليق بحكمها؟ هل هو من باب الأمور بمقاصدها، أم من باب الضرر الذي يجب أن يزال، أم من باب المشقات فيجلب لها التيسير، أم من باب العادات فيحكم بوفقها، وهكذا..
__________
(1) راجع: فقه المقاصد، للباحث، ص 269 وما بعدها ، وص 384 وما بعدها.(1/24)
5ـ طريق التخريج الفقهي: ويكون بنقل الحكم وإلحاقه بشبيهه والقياس على المنصوص من أقوال الأئمة وأصول مذاهبهم، أو القول بلازم المذهب، سواءٌ أكان تخريجاً مقيداً بأصول مذهب معيّن أو إمام معيّن. أو تخريجاً مطلقاً عن المذاهب والأئمة.
ثانياً: طرق البحث عن أحكام المستجدات:
والمراد بطرق البحث، هل الناظر في مستجدات العصر متاحٌ له أن ينظر بمفرده، وهو ما يُعرف بالاجتهاد الفردي ؟ أم لا بدّ أن يشترك في البحث عن حكم النازلة المستجدة مجموعة من أهل الفقه والنظر والاجتهاد؟ وهو ما يعرف بالاجتهاد الجماعي.
1ـ النظر الفردي في التعامل الفقهي مع المستجدات:
لا مانع في أن ينفرد أحد العلماء من أهل الفقه بالنظر في النازلة المستجدة، ويسعى لتحصيل الحكم الشرعي فيها، ولكن لا بدّ أن ينضبط بأمور، منها:
1ـ أن يكون من أهل النظر، وهو العالم المستقيم على دينه القادر على الاجتهاد الملمّ بأدوات النظر والاستنباط، وإلا كان ما أفسد أكثر مما أصلح، وما أخطأ أكثر مما أصاب، وربما لعب به الشيطان فاتبع خطاه فضلَّ وأضلّ، وقد نبّه إلى ذلك القرآن في قوله تعالى وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء/83] .(1/25)
2ـ أن يتحرى في النازلة المستجدة هل لها حكم سابق أو لها قول فقيه من قبل؟ فيبحث عن أقوال العلماء السابقين والمعاصرين، وألاّ يكتفي بنظره دون معرفة ما قيل لها أو في نظائرها وأشباهها، وإلاّ كان بحثه ناقصاً، واجتهاده ضعيفاً، ومن كان عليماً بمواضع الاختلاف واقفاً على أقاويل العلماء في المسألة التي ينظر فيها بلغ مبلغاً عظيماً في النظر والاجتهاد. وقد أشار الإمام الشاطبي ~ إلى ذلك حين ذكر: "أن من صار بصيراً بمواضع الاختلاف ترشح أن يبلغ درجة الاجتهاد وأصبح جديراً بأن يتبيّن له الحق في كل نازلة تعرض له " (1) .
بل اشترط الأئمة والفقهاء معرفة أقاويل الفقهاء ومن مضى من العلماء في الفتيا والاجتهاد.
ـ قال الإمام مالك ~ : "لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه" (2) .
ـ وقال الإمام الشافعي ~ :" لا يجوز ـ للقاضي والمفتي ـ أن يقضي ويفتي حتى يكون عالماً بالكتاب، وما قال أهل التأويل في تأويله، وعالماً بالسنن والآثار، وعالماً باختلاف العلماء، حسن النظر، ورعاً مشاوراً فيما اشتبه عليه" (3) .
ـ وقال الإمام أحمد ~ : "لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء، ويعرف مذاهبهم، وينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا بقول من تقدم وإلا فلا يفتي" (4) . وقال في رواية حنبل: "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلا فلا يفتي" (5) .
__________
(1) انظر : الموافقات ، ج4 ص 160 .
(2) الموافقات ، ج4 ص 161، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ، ج6 ص 316.
(3) نقله ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ج2 ص83 عن الإمام الشافعي في كتاب أدب القضاة.
(4) حجة الله البالغة للدهلوي ، ج1 ص 332 ، والإنصاف له ، ص 105 .
(5) أعلام الموقعين ، ج1 ص 45 .(1/26)
قال ابن عبد البر ~ : " وهذا كله مذهب مالك وسائر فقهاء المسلمين في كل مصر يشترطون أن القاضي والمفتي لا يجوز أن يكون إلا في هذه الصفات " (1) .
ـ وقال يحي بن سلام ~ : "لا ينبغي لمن لا يعلم الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعرف الأقاويل أن يقول هذا أحب إليّ" (2) .
ـ وقال أبو يوسف ~ :" لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل العلماء والمتشابه و وجوه الأحكام " (3) .
ـ وقال الفقيه أبو الليث الحنفي ~ :" لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء ويعلم من أين قالوا" (4) .
وإلاّ كان كما يقول عطاء ~ : " لا ينبغي لأحد أن يفتي حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإن لم يكن كذلك ؛ ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه" (5) .
وانتفت عنه أهلية النظر والفقه .
ـ كما قال سعيد بن أبي عروبة ~: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالمًا".
ـ وقال هشام بن عبيد الله الرازي ~: ".. من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه".
ـ وقال قتادة ~: "من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه" (6) .
ولخص ابن الماجشون ~ هذا الشرط قائلاً: (( كانوا يقولون: لا يكون فقيهاً في الحادث من لم يكن عالماً بالماضي )) (7) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله الموضع السابق.
(2) الإحكام لابن حزم ، ج6 ص 316 ، الموافقات ج4 ص 161 .
(3) قواعد الفقه، لمحمد عميم الإحسان البركتي ص 565، دار الصدف ببلشرز كراتشي، الطبعة الأولى 1407هـ 1986م.
(4) المرجع السابق نفسه .
(5) الموافقات، ج4 ص 161، والإحكام لابن حزم، ج6 ص 316، .جامع بيان العلم، ج2 ص264-265.
(6) انظر الأقوال الثلاثة في: المصادر السابقة : الموافقات ج4 ص 161، والإحكام ج6 ص 316، جامع بيان العلم 265
(7) جامع بيان العلم ج2 ص 265 رقم 1374.(1/27)
3ـ أن يكون قادراً على تحقيق المناط، وهو تحقيق العلّة المتفق عليها في المسألة المستجدة، ويراد به ههنا : (( أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله )) (1) . فمَحال الأحكام تحتاج إلى تحديد دقيق حتى تنزّل عليها تلك الأحكام الشرعية فتصادف محلها ومكانها، وبذلك يسلم الاجتهاد عن انفصام الحكم ومحله.
4ـ أن يستعين في تصوّره للنازلة المستجدة وتكييفها شرعياً بأهل الخبرة والاختصاص الفني. وهنا يتضح الحاجة إلى التكامل المعرفي بجلاء، وهو ما سنوضّحه في المبحث القادم بإذن الله تعالى .
2ـ النظر الجماعي في التعامل الفقهي مع المستجدات:
والطريق الثاني المتعلق بالبحث عن حكم المستجدات هو النظر الجماعي بطريق الاجتهاد الجماعي الذي تتعاضد الآراء وتتباحث وتلتقي الأفكار وتتعد الأنظار للوصول إلى حكم النازلة المستجدة، خاصة في النوازل الكبرى.
وكانت هذه هي طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، ولعلهم عملوا بنصيحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين سأله: يا رسول الله! أرأيت إن عرض لنا أمر لم ينزل فيه قرآن ولم يخصص فيه سنة منك؟ قال: ( تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين ولا تقضونه برأي خاصة ) (2) ، فكانوا رضوان الله عليهم إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا فالحق فيما رأوا" (3) .
ولهذا لما اجترأ الفساق على الخمر في عهد عمر رضي الله عنه جمع لذلك فقهاء الصحابة حتى توصلوا إلى جعل الحدّ ثمانين جلدة زجراً وردعاً لهم (4) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي ، ج4 ص 65 .
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم12042 ج11ص371.
(3) سنن الدارمي ج1 ص 52 رقم 115.
(4) انظر: أعلام الموقعين ، ج1 ص 211.(1/28)
ولما فتحوا العراق ونزلت بهم مسألة أرض السواد استشار عمر رض المهاجرين والأنصار حتى توصّل إلى إبقاء أرض السواد وعدم تقسيمها (1) .
ولما قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قتلة أبيه ( جُفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ثأراً لأبيه جمع عثمان رض رؤوس المهاجرين والأنصار يطلب الرأي والمشورة حتى توصّلوا إلى تحمّل عثمان رض ديتهم (2) .
وفي عصر التابعين كان فقهاء المدينة السبعة إذا جاءتهم المسألة النازلة دخلوا فيها جميعاً فنظروا فيها، بل كان القاضي لا يقضي حتى يرفع إليهم فينظرون فيها فيصدرون (3) .
وفي إمارة المسلمين بالأندلس أنشأ الإمام يحيى بن يحيى الليثي قاضي قضاتها مجلساً فقهياً من ستة عشر فقيهاً للنظر في النوازل والمستجدات المشكلة مما تعرض لهم (4) .
وهكذا استمر الحال في تقدير الحاجة إلى الاجتهاد والنظر الجماعي حتى كُوِّنت مؤسسات الاجتهاد الجماعي الرسمية كمجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وأنشأت كثير من الدول مؤسسات الاجتهاد الجماعي كمجمع الفقه الإسلامي في السودان، وفي الهند، وفي ماليزيا، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصر، وغيرها.
+++
المبحث الثالث
مظاهر التكامل في المستجدات والنوازل
__________
(1) راجع: الفكر السامي، للحجوي، ج2 ص 293-294.
(2) راجع: تاريخ الطبري ، ج4 ص 239 ، الاجتهاد والمنطق الفقهي، د. مهدي فضل الله، ص 60.
(3) راجع: تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، ترجمة سالم بن عبد الله ، ج3 ص 378.
(4) انظر: الاجتهاد في الإسلام ، د. نادية العمري ، ص267.(1/29)
شريعة الإسلام شريعة تعتمد العلم في الامتثال والاعتقاد، وتعتمد العلم في الدعوة والإقناع، وتعتمد العلم في التشريع والتكليف،ولذلك تقبل العلم من أيّ جهة، وتأخذ العلم من كل إناء، والحكمة ضالة المسلمين يقبلونها من أيّ إناء خرجت، بقطع النظر عمن يكون، ولو كان حامل الحكمة أفسق الفاسقين أو أضل العالمين بل ولو كان عدو الله إبليس (1) .
ولذلك يستحيل أن يتعارض منقول ومعقول، إن صحّ المنقول وصرح، وصحّ المعقول وسلم من الشك والاحتمال، فلا تعارض بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة، ولا تنافي بين علوم الكون وعلوم الوحي، بل إنها جميعاً في الحقيقة الشرعية والواقع العلمي للمسلمين متوافقة متعاضدة متكاملة.
وعلى هذا فالتكامل المعرفي أكثر ما يتحقق وأوضح ما يصدق وأجلّ ما يظهر في النظر الشرعي الإسلامي لسائر القضايا البشرية التي يقول المسلمون فيها بحكم، سواء أكانت من القضايا الإنسانية أم الطبيعية أم الفقهية.
أمّا في المستجدات النازلة على المسلمين في العصر الذي يتلبّسهم؛ فإن التكامل المعرفي هو سرّ التوفيق إلى الحكم الشرعي، وروح البحث فيه ومتن السير إليه، بل النظر في المستجدات والنوازل لا يكتمل بإغفاله أو إهماله، لأنّ انتهاجه ضرورة من ضرورات الاجتهاد المعاصر والتعامل الفقهي مع المستجدات.
وسأشير بإذن الله تعالى إلى بعض ما يجعل التكامل المعرفي في التعامل الفقهي مع المستجدات ضرورة ، ثم إلى بعض مظاهر هذا التكامل في الحكم على المستجدات. وذلك في مطلبين :
المطلب الأول: في الضرورة إلى التكامل المعرفي في فقه المستجدات.
والمطلب الثاني: في نماذج للتكامل المعرفي في التعامل الفقهي المعاصر.
المطلب الأول
الحاجة إلى التكامل المعرفي في فقه المستجدات
__________
(1) وقصة سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان في زكاة الفطر شهيرة رويت في الصحاح والسنن.(1/30)
يغيب عن كثير من المشتغلين بالفقه والطالبين لعلمه الحاجة الشديدة إلى العلوم الطبيعية والإنسانية والكونية إجمالاً أو تفصيلاً، ظناً منهم أن النصّ يحمل كل معطيات الحكم الشرعي، فيمكن الاكتفاء بعلوم الشريعة المؤهِّلة للنظر في النصّ لاسيما علوم اللغة ومباحث الأصول.
وهذا التبرير لإغفال الحاجة إلى العلوم الأخرى قد يكون صحيحاً جزئياً، بمعنى: أنّ الحاجة إلى العلوم الأخرى قليلة ضئيلة في بعض الأحكام الشرعية ن وهي تلك الأحكام المتعلقة بالعبادات المحضة بل مقاصد تلك العبادات في الغالب، أما غيرها من مجالات التعبّد والامتثال، كمسائل المعاملات، ومسائل العلاقات الإنسانية، وقضايا السياسة والحكم، وما يتعلق بالحقوق والواجبات لأفراد الناس وجماعاتهم وطوائفهم المختلفة؛ فإنّ الحاجة لتلك العلوم ماسّة.
ومن هنا يظهر جلياً حاجة النظر الشرعي والاجتهاد الفقهي إلى التكامل المعرفي . خاصّة في المستجدات والنوازل.
وما يجعل الحاجة ظاهرة في التعامل الفقهي مع المستجدات أمور:
1ـ طبيعة الأحكام الشرعية في الثبات والتغيّر:
فإنّ الأحكام الشرعية على نوعين: نوعٌ ثابت لا يتغيّر مهما كان من أمر فيكون الحكم ثابتاً لا يعتريه تغيير.
أما النوع الثاني منها، فهي الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والبيئات.
وهذا يعني: أنّ بعض الأسباب قد لا تتاح للفقيه الناظر في النازلة المستجدة، وبالتالي يكون في حاجة إلى عالمٍ بتلك الأسباب أو بسبب منها
فليس مجرد تغيّر الزمان سبباً لتغيّر الحكم، وإنما السبب المؤدّي للتغيير هو: المصلحة أو الحال أو العرف أو نحو ذلك مما جعل بقاء الحكم على ما كان لا يحقق مقصود الشارع في المكلفين. وهذا يستوجب معرفة المتغيّر في الزمان الداعي لتغيّر الحكم بسببه، فقد يكون الفقيه بنفسه عالماً بذلك، وقد يكون في حاجة للاستعانة بمن هو عالم بذلك لتحقيق المعرفة بالسبب. وهكذا..
2ـ عموم البلوى:(1/31)
ويقصد به ما لا يقدر الناس عن الغناء عنه لضرورته والحاجة إليه، وما يمس غالبهم مما يعسر الاحتراز عنه. فهو على نوعين (1) ،لأنّه يكون إمّا لعسر الاحتراز منه لشيوع الوقوع والتلبّس، أو لعسر الاستغناء عنه، لارتباط مصالح ضرورية به، فلا بدّ من فعله، ومثاله الحاضر: إعادة التأمين في الشركات العالمية، فلا بدّ من وقوع الشركات الإسلامية للتأمين وإعادة التأمين في الربا والفائدة. ومثل ضرورية هذا التأمين في تلك الشركات لا يقدّرها إلا أهل الاختصاص، أو يكون الفقيه ملماً بتفاصيل ذلك فيقدر على التقدير، فيكون جامعاً بين علم الشريعة وغيره، فتكاملت المعرفة عنده، أو احتاج لغيره فتكاملت المعرفة عنده بغيره.
3ـ وجوب البيان في وقت الحاجة:
فقاعدة الأصوليين أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، مما يعني أن الفقيه يجب عليه أن يبيّن للناس في قوت الحاجة إلى بيان الحكم، وأنه لا يجوز له التأخير بالبيان حتى تنتهي الحاجة، حتى لا يقع الحرج للناس في دينهم، وهذا يستلزم أن يكون الفقيه عالماً بكل ما يتعلق بالمسألة من أحوال وصفات وما يترتب عليه في حالة المنع أو السماح ونحو ذلك، وهذا لا يتاح لكل فقيه ، فيحتاج إلى ذوي الخبرة والتخصّص والعلم فيما وقع من نازلة مستجدة، حتى يتمكّن من تصوّر المسألة تصوراً جامعاً يمكّنه من إلحاقها بما يناسبها من أحكام الشرع .
4ـ التكامل بين الحكم والمحل:
__________
(1) راجع: الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد، ص 26 -27.(1/32)
وقد نبّهنا إلى ذلك من قبل، فلا يكفي العالم أو الفقيه أو الباحث عن حكم النوازل المستجدة، فلابد للحكم أن يكون موافقاً لدليله مناسباً لمحلّه. أما موافقة الحكم لدليله فيمكن للقادر على الاجتهاد من أهل الفقه، وأما مناسبة الحكم لمحله، فليس كل فقيه شرعي بقادر على تحصيل ذلك الحكم إلا بعلم زائد يتعرّف به على حال المكلف وظرفه وعُرفه وسائر ما يحيط به . ولذلك ربما يكون في حاجة إلى من يعرّفه بذلك كله، من عالم اجتماعي أو ممارس للسياسة، أو قانوني متمرّس، أو اقتصادي خبير، وغيرهم.
5ـ تعقّد المستجدات العصرية:
فإنّ الحياة المعاصرة تعقدت مشكلاتها وتشعبت قضاياها وتداخلت صورها وأحوالها ومآلاتها، مما استدعى تقديم الحلول الفقهية المناسبة لها، ويقتضي ذلك النظر الجماعي فيها، بتعاون أهل الشريعة وعلماء الطبيعة، وعلماء الفقه مع الخبراء من أهل الاختصاص في الشؤون المدنية والإنسانية المختلفة (1) .
6ـ القلّة في أهلية الاجتهاد:
فإن أهل الاجتهاد في القرون الخيّرة والعصور النيّرة للفقه الإسلامي كان الواحد منهم أمّة، يجتمع فيه أكثر من علم وأكثر من تخصّص، يكون فقيهاً طبيباً فلكياً صيدلياً عارفاً بمجتمعه، واقفاً على أحوال عصره، فيمثّل بمفرده مؤسسة علمية للاجتهاد، وأما في هذا العصر فقد ضعف الأمر بأهل الفقه فقلّت أهلية الاجتهاد، ناهيك عن الإلمام بقضايا العصر والمعرفة بالواقع. فصارت الحاجة إلى التكامل المعرفي ضرورية (2) .
هذه الحاجات وغيرها تجعل التكامل المعرفي في التعامل الفقهي مع المستجدات والنوازل ضرورة اجتهادية يوجب تحقيقه واعتباره في سائر العمليات الاجتهادية الفقهية معها.
+ + +
المطلب الثاني
مظاهر التكامل المعرفي في المستجدات
__________
(1) راجع: الاجتهاد الجماعي أسسه وضوابطه،د. عبد الله الزبير،ص 22-23.
(2) راجع: المرجع السابق نفسه.(1/33)
وفي هذا المطلب نشير إلى بعض مظاهر التكامل المعرفي في التعامل الفقهي مع بعض المسائل المستجدة، للتأكيد على الحاجة التي قدّرها أهل العلم الشرعي في هذا العصر، وما أدّى هذا التكامل المعرفي من نتائج طيبة وآثار حميدة في تصويب الاجتهاد وتقليل الزلل في الحكم على الأشياء والأحياء. وذلك بذكر بعض المسائل التي ظهر فيها التكامل المعرفي بوضوح، والغرض هو التدليل عليه لا الاستقصاء والحصر.
وأرى أن يكون عرض مظاهر التكامل من خلال المراحل الثلاث لتحصيل الحكم الشرعي.
فإنّ الفقيه يحتاج إلى ثلاثة أمور للوصول إلى الحكم الشرعي، هي: التصور، معرفة إمكان الحصول والوقوع، ما يترتب على الحكم من آثار ومآلات.
فيحسن أن نعرض للمظاهر من خلال هذه الأمور الثلاثة أو المراحل الثلاث لبيان الحاجة إلى التكامل المعرفي في فقه المستجدات.
أولاً: التكامل المعرفي في تصوّر المستجدات:
لا يصحّ إفتاء ولا حكم من غير تصوّر لحقيقة النازلة المستجدة، وإلا لحكم على شيء آخر، وقضى في مسألة أخرى غير التي يريد الحكم عليها، وهذا بالطبع خطأ فادح وجهل بوضع الشريعة.
ولذلك، أول ما يجب على الفقيه الناظر في المسألة المستجدة أن يفعله: تصوّر حقيقتها تصوّراً كاملاً شاملاً لا يدع جانباً من جوانبها مما يؤثّر على صدق الحكم عليها.
والفقهاء في هذا العصر لجأوا إلى أهل التخصص من خبراء المجال الذي وقعت فيه النازلة ليصوّروا لهم تلك المستجدات ويعرّفوهم بحقائقها. ومن ذلك على سبيل المثال:
[1] التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب:(1/34)
عرضت هذه النازلة المستجدة في هذا العصر على مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة 10-16ربيع الآخر 1406هـ 28/12/1985م، وقد قدّم مجموعة من الأطباء الاختصاصيين والخبراء في المجال الطبي بحوثاً حولها. ولم يصل المجمع في هذه الدورة إلى التصور المطلوب ، فأُرجئ اتخاذ قرار حوله وقد عللوا الإرجاء في قرارهم رقم 5 (5/2) بالآتي: (( وبعد أن تبيّن له ـ أي مجلس المجمع ـ أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبياً وفقهياً، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصوّر من جميع جوانبه قرر ما يلي: أولاً: تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع ... )) (1) .
وفي دورة مؤتمره الثالث بعَمَّان وقف المجمع على حقيقة التلقيح الصناعي وصوره وطرقه وتمكّن من تصوره من كل جوانبه فأصدر القرار الفقهي المتعلق به، ونصوا على تحريم خمس طرق من سبع للتلقيح الصناعي لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.. وعدّدوا هذه الطرق الخمس (2) .
وممن استعان بهم المجمع من الخبراء الدكتور محمد علي البار مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك فهد للبحوث الطبية ، وعضو الكليات الملكية للأطباء بالمملكة المتحدة، وغيرهم.
[2] استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء:
__________
(1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ، ص 15.
(2) قرار المجمع رقم 16(4/3). قرارات المجمع ص 34.(1/35)
وقد استفاد مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة 14-20/3/1990م من الأبحاث المقدمة للندوة الفقهية الطبية السادسة في الكويت 23-26/10/1990م بالتعاون بين المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ومن البحوث التي قدّمها بعض الأطباء من خبراء المجمع منهم د. مأمون الحاج علي إبراهيم رئيس قسم أمراض النساء والولادة بمستشفى الولادة بالكويت ، ود. محمد علي البار ، ود. عبد الله حسين باسلامة رئيس المجلس العربي لاختصاص أمراض النساء والولادة ورئيس قسم أمراض النساء بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
فتوصلوا إلى أنه : لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط" (1) .
وكل ذلك للتوصّل إلى التصوّر الشامل لكل جوانبه.
[3] بطاقات الائتمان:
وقد استعان كثير من الباحثين الفقهاء في تصوّر البطاقات الائتمانية بأصحاب الخبرة والتخصص من الاقتصاديين.
فنرى مثلاً شيخنا الفقيه العلاّمة الصديق الضرير حفظه الله تعالى يستعين بالاقتصاديين في تعريف بطاقات الائتمان. (2)
ونرى الدكتور عبد الوهاب يفعل كذلك (3) كما كان الشأن للدكتور بكر أبوزيد (4) .
ثانياً: التكامل المعرفي في إمكان الوقوع وتحققه:
وهذا جانب آخر يحتاج فيه الفقيه الناظر إلى المستجدات بحثاً عن أحكامها، فلا بدّ للنازلة أن تكون واقعة، ولا بد من معرفة إمكان تحصيل ما يريد تحصيله المكلّف في الواقعة المبحوثة.
ومن ذلك على سبيل المثال:
[1] إثبات الأهلة بالحساب الفلكي:
__________
(1) راجع القرار بفقراته في قرارات مجمع الفقه الإسلامي القرار رقم 56(7/6) ، ص 119-120.
(2) يراجع بحث الشيخ الصديق في مجلة مجمع الفقه الإسلامي السودان.
(3) يراجع كتاب الدكتور، البطاقات البنكية اٌراضية والسحب المباشر من الرصيد.
(4) راجع كتابه: بطاقات الائتمان حقيقتها البنكية التجارية وأحكامها الشرعية.(1/36)
وقد استعانت المجامع الفقهية بعلماء الفلك في قدرة الحساب الفلكي على تحديد إمكان الرؤية من عدمها، وبنوا على ذلك الفتاوى الشرعية التي صدرت عنهم.
ومن ذلك:
1ـ قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي الذي جمع بين الاعتماد على الرؤية البصرية والاستعانة بالحساب الفلكي ، فكان قراره رقم 18(6/3) ما يلي:
أولاً: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها، ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
ثانياً: يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. (1) .
2ـ قرار مجمع الفقه الإسلامي بالسودان وقد عقد حلقة للنقاش حول ذلك بدعوة من دائرة العلوم الطبيعية والتطبيقية بالمجمع ولجنة علوم الفضاء والفلك التابعة لمعهد السودان للعلوم الطبيعية، وقد ذهب المجمع إلى الجمع بين الحساب الفلكي والرؤية البصرية، مع تقديم الحساب الفلكي إن قال بعدم الإمكان، فقرروا ما يلي:
1ـ بما أن المطلوب شرعاً هو إثبات بداية الشهر ونهايته فقد أقرّ المجمع أن الأخذ بالحساب الفلكي ضروري لتقدير إمكان الرؤية أو عدمها.
2ـ مع أن الأخذ بالحساب الفلكي ضروري إلا انه لا يغني عن تحري الرؤية سواء أكان ذلك بالعين المجرد أم كان من خلال آلة بصرية مساعدة للنظر.
3ـ في حالة عدم إمكان الرؤية وفق الحساب الفلكي فلا يدعى المسلمون لتحريها.. (2)
[2] زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي:
فقد استفسر أعضاء مجمع الفقه الإسلامي عن إمكان حياة من تؤخذ منه هذه الخلايا وإمكان أخذها والطرق التي يتم الأخذ بها فتوصّلوا إلى القرار بأنه:
(( ا- إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعاً.
__________
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي ، ص 37 .
(2) راجع قرار المجمع السوداني في مجلة المجمع العدد الأول ص 309-311.(1/37)
2- إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي )). (1)
وقد نصوا في قرارهم على اعتمادهم على قول الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة.
ثالثاً: التكامل المعرفي في المآلات والآثار:
وتقدير الآثار التي قد تترتب على الحكم الشرعي للنازلة المعينة مهم للغاية للفقيه حتى يُحكم الفتيا أو الحكم الشرعي الذي يناسبها.
وقد يستعين الفقهاء بالخبراء من أصحاب العلوم غير الشرعية لتقدير الآثار والمآلات، ومن ذلك على سبيل المثال:
[1] مشاركة المسلمين في انتاخابات غير المسلمين في الغرب:
وقد ناقش هذا الموضوع المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة، وقد استعانوا بالخبراء من أهل الاختصاص في شؤون المجتمعات الغربية، وكذلك بقيادات الجاليات الإسلامية في دول المهجر، بحثاً عن آثار المشاركة ومآلاتها، ونتائج عدم المشاركة من المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك ، حتى انتهى إلى القرار بجواز المشاركة، حيث قرروا ما يلي:
1. مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
__________
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي ص 115-116 قرار رقم54(5/6).(1/38)
2. يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها لغلبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وفق الضوابط الآتية:
أولاً: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم .
ثانياً: أن يغلب على ظن المشاركين من المسلمين أن مشاركتهم تفضي إلى آثار إيجابية، تعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دفة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ثالثاً: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه. (1) .
[2] التسويق الشبكي والهرمي:
وقد استعان أهل الفقه عندنا في الهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية، ومجمع الفقه الإسلامي باهل الاختصاص من خبراء الاقتصاد والمال في معرفة ما يترتب على هذه التعاملات القائمة على التسويق الشبكي والتسويق الهرمي، وقد وجدوا لها آثاراً مدمّرة للاقتصاد الوطني، أقلها: تصدير ملايين الجنيهات والدولارات إلى مقرّ رئاسات تلك الشركات، وتقوية الكساد الإنتاجي وتعطيل طاقات الشباب في التخصصات المختلفة، وتكريس البطالة ، وإضعاف الاستثمار الحقيقي.
فقرروا منع وحظر هذه التعاملات، خاصة التسويق الشبكي، فحظر التعامل مع شركة بزناس، وأوقفت شهادات سوبريما ( البنتاجونو )، وقيّد التعامل مع شركة كويست نت في حدود ضيقة ، وهكذا.
__________
(1) القرار الخامس للدورة 19 بتاريخ 22-27 شوال 1428هـ(1/39)
فهذه بعض النماذج لمظاهر التكامل المعرفي ، تؤكّد ضرورته في التعامل الفقهي مع مستجدات العصر .
والله تعالى وليّ التوفيق .
اللهم اجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وإمامنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وجعلنا منهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- - -(1/40)