وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان وعبد الرزاق، وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بيِّن في القرآن لمن تأمله؛ فإن الله –سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وسمى الكافر ظالما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2.وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 3، وقال يونس -عليه السلام-: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} 5، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} 6، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} 7، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} 8، وسمى العاصي فاسقا في قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 9، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 10، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 44.
2 سورة البقرة آية : 229.
3 سورة الطلاق آية : 1.
4 سورة الأنبياء آية : 87.
5 سورة الأعراف آية : 23.
6 سورة القصص آية : 16.
7 سورة البقرة آية : 26.
8 سورة البقرة آية : 99.
9 سورة الحجرات آية : 6.
10 سورة النور آية : 4.(2/16)
فِي الْحَجِّ} 1، وليس الفسوق كالفسوق 2.وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء، وقال –تعالى- في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} 4 الآية. وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 5، وفي الحديث: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 6، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " 7.فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم –تعالى- به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان " 8، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 197.
2 كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله.
3 سورة المائدة آية : 72.
4 سورة الحج آية : 31.
5 سورة الكهف آية : 110.
6 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).
7 أحمد (4/403).
8 البخاري : الإيمان (34) , ومسلم : الإيمان (58) , والترمذي : الإيمان (2632) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5020) , وأبو داود : السنة (4688) , وأحمد (2/189 ,2/198).(2/17)
وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف " 1 2 . قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم 3؛ فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا.
[إتيان الإنسان شعبة من شعب الإيمان أو الكفر]
(الأصل الخامس) : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث: " ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " 4 5، وحديث " من حلف بغير الله فقد كفر " 6 7، ولكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسيا فليأتس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم، وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط. قال ابن القيم لما ذكر
ـــــــ
1 البخاري : الشهادات (2682) , ومسلم : الإيمان (59) , والترمذي : الإيمان (2631) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536).
2 الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير. والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
3 هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث.
4 مسلم : الإيمان (67) , والترمذي : الجنائز (1001) , وأحمد (2/291 ,2/377 ,2/414 ,2/431 ,2/441 ,2/455 ,2/496 ,2/526 ,2/531).
5 رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم "اثنتان في الناس" ولا نحفظه إلا هكذا.
6 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأحمد (2/34 ,2/125).
7 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر.(2/18)
شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وعد -رحمه الله- كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/19)
(يقول جامع الكتاب)
الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله ورحم أباه، وزينه بزينة خاصته وأوليائه، آمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والخط قد وصل، وقد سألت فيه عن خمس مسائل: (أولاها): قولك: إنه قد وقع من بعض الإخوان تكفير من أحب انتصار آل شامر على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أم لا؟ (الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء الوهابية عليهم) الجواب : إني لا أعلم مستندا لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة. وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال، والفرح بمثل هذه القضية قد يكون له أسباب متعددة لا سيما وقد كثر الهرج، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقل المتمسك بالكتاب والسنة، بل قل من يعرفهما،(2/20)
ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق ونحوهما. وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1 2.فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام، وتأول أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي كما في حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 3 4، وحديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 5 6، وحديث: " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " 7 8؛ فهذا ونحوه تأولوه على أنه كفر عملي ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله- وغيره من المحققين. هذا مع أنه باشره عمل، وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف فكيف بمجرد الفرح. وذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: أمِرُّوا هذه النصوص كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها. وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة، فكيف بمجرد الفرح، وقد قابل هذا الصنف من الإخوان قوم كفروا أهل العارض، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر قوله –تعالى-: { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}
ـــــــ
1 البخاري : الأدب (6104) , ومسلم : الإيمان (60) , والترمذي : الإيمان (2637) , وأحمد (2/112) , ومالك : الجامع (1844).
2 رواه الخطيب عن ابن عمر بلفظ :من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما، ورواه أحمد والبخاري عنه بلفظ: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، والثاني به عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن ابن عمر بلفظ: "أيما امرئ قال… إلخ، وأبو داود عنه بلفظ أيما مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر.
3 البخاري : الإيمان (48) , ومسلم : الإيمان (64) , والترمذي : البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي : تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه : المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460).
4 رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث ابن مسعود.
5 البخاري : العلم (121) , ومسلم : الإيمان (65) , والنسائي : تحريم الدم (4131) , وابن ماجه : الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي : المناسك (1921).
6 رواه الجماعة كلهم عن عدة من الصحابة مرفوعا.
7 البخاري : الحدود (6830) , وأحمد (1/47 ,1/55).
8 رواه الشيخان من حديث أبي هريرة بلفظ: لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر. ورويا معناه بألفاظ أخرى عن غيره.(2/21)
1.وعللوا بأشياء متعددة من فرح، ومكاتبة، وموالاة، وغير ذلك؛ والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيقع في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات. وأطال الكلام في الفرق بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم. وقرر مذهب علي بن أبي طالب في عدم تكفير الخوارج المقاتلين له المكفرين له ولعثمان، ولمن والاهما -رضي الله عنهما-، ونقل قول علي رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. وقوله: إن لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى تبدؤونا بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقا هو لكم في مال الله. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، مستحلون لدمه، فكيف بمجرد الفرح؟ وقد ذكر في الزواجر أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات ولم يقل: إنه كفر. ثم اعلم أن الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الطغاة، فتنة عمياء صماء، عم شرها، وطار شررها، ووصل لهيبها إلى العذارى في خدورهن، والعواتق وسط بيوتهن، ولم يتخلص منها إلا من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي والنور الأول يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعز من يعرف هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم ويرميهم بالعظائم؟وأكثر الناس كما وصفهم علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- فيما رواه كميل بن زياد: لم يستضيئوا بنور
ـــــــ
1 سورة محمد آية : 10.(2/22)
العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان والتزيي بزي أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي.
والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار
فصل في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر
(المسألة الثانية) : فيمن يجيء من الأحساء بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهل الأحساء ممن يقيم فيه للتكسب، أو للتجارة، ولا اتخذه وطنا، وإن بعضهم يكره هذه الطائفة، ويبغضها يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل به راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب) : أن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين؛ بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا؛ فإن الرضى بهذه الأصول قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة(2/23)
كل البراءة، والتباعد كل التباعد عمن تلك نحلته وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة لا يجامع هذه المنكرات كما علم من تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان. وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله أنه قال: " يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين " خرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام، وقد عرف من آية سورة براءة أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها وإظهار الطاعة والانقياد لأوامر من هذا دينه وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة والزيارة والهدايا، والتنوق في المآكل والمشارب؟ وإن زعم أن له غرضا من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتا، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية؛ وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية سورة النساء1.وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليه شيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأفاد وأوفى، ودعوى التقية لا تفيد مع القدرة على الهجرة؛ ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة. وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة
ـــــــ
1 يعني قوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ...إلخ (4: 96).(2/24)
والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب والمستوطن حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة مع التلبس بتلك الفضائح فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع وفرائض وراء ذلك كله. إذا تبين هذا فالأقسام مشتركون في التحريم متفاوتون في العقوبة قال –تعالى-: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال: إنه حصل بهم للناس راحة وعدم ظلم وتعد على الحضر، وهذا الصنف أضل القوم وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف الراحة كل الراحة والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له وجهاد أعدائه وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة يحصل به النعيم والفرح واللذة في الدور الثلاث، قال –تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2 الآية. ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه لكان له منه مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال –تعالى-: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3، وقال –تعالى-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4.فجعل الخسار كله بحذافيره في أهل هذه الخصال الثلاث كما يفيد الضمير المقحم
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 132.
2 سورة البقرة آية : 177.
3 سورة الأعراف آية : 56.
4 سورة البقرة آية : 26.(2/25)
بين المبتدأ والخبر وقال تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 1، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غول هذا الكلام أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس وعدم ظلم وتعد على الحضر، تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد. والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه، والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم؛ وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والله المستعان.
[ حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير مقيد بالمصلحة ]
(وأما المسألة الثالثة) : هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء ليس له النظر إلا فيما فيه مصلحة؟ (والجواب) : إن الواجب على كل من كانت له ولاية أن يتقي الله فيها، ويصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين، وفي الحديث: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " 2؛ بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه وإنفاقه في غير مصلحة، وهو من الإسراف إلا أن الوالد ليس كغيره في العزل ورفع اليد إذا ثبت رشده.
ـــــــ
1 سورة الأنفال آية : 73.
2 البخاري : النكاح (5200) , ومسلم : الإمارة (1829) , والترمذي : الجهاد (1705) , وأبو داود : الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121).(2/26)
(تملك الوالد مال ولده وشرطه)
(وأما المسألة الرابعة) : هل للوالد أن يتملك جميع مال ولده الصغير أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير يعتبر للتملك من مال الصغير ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرق بين الغني والفقير أم الحكم واحد؟ (فالجواب) : أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، صغيرا كان الولد أو كبيرا، غنيا كان الأب أو فقيرا، بشروط ستة مقررة في محلها: (منها): أن لا يضر بالولد ضررا يلحقه في الحاجات الضروريات كتملك سريته ونحو ذلك، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يعطيه ولدا آخر، وأن لا يكون عينا موجودة. وله الرجوع في الهبة إذا كانت عينا باقية في ملك الابن لم يتعلق بها حق أجنبي ولا رغبة كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء كما توهمه السائل بل ذاك من التصرفات في الهبة. وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف لابن لا يمنعه من التصرف في العين ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية لا يمنع الرجوع.
[المصالحة في الدَين]
وأما المسألة الخامسة : وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصقيب يكون له الدين الكثير، يصطلحان بينهما على أن الدين يكون نجوما إلى آخر ما ذكرت. (فالجواب) : إن هذا ليس يصلح، ولا يدخل في حد الصلح كما نص عليه الحجاوي وغيره، بل هو وعد يستحب الوفاء به على المشهور، وكونه فيه إرفاق فذلك لا يغير الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمى الصلح كما لا تدخله الهبة والعطية، والله أعلم.(2/27)
الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم إبراهيم بن عبد الملك -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين قد وصل إلينا، والذي كتبناه للإخوان به فيه كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين. نعم فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين، فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه: (منها): أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر غير حاصل كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم مع من يجالسهم ويقدم إليهم. وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم إلا بإظهار عظيم من الركون والموالاة والمداهنة، وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم(2/28)
يعرف حقيقتها، ولم يدر مراد الفقهاء منها، ترسا يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله والدار الآخرة يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستحبت مساكنة عباد الأوثان والأصنام. وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسار إليهم ربات الخدور والحجال، عملا بقول رؤوس الفتنة والضلال، ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخدانا يرجع إليهم في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل: يفسد الأديان نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات، فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب، وما أحسن ما قال في الكافية الشافية:
ولقد نجا أهل الحديث المحض ... أتباع الرسول وتابع القرآن
عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفان
وسواهمو في الجهل والدعوى مع ... الكبر العظيم وكثرة الهذيان(2/29)
مدوا يدا نحو العلى بتكلف ... وتخلف وتكبر وهوان
أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشى العلى من ذا الزبون الفاني
فقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله، وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء. فأين التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه؛ ولكن الشان كل الشان في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش إلا لما كافحهم بمسبة دينهم وتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم؟. وأي رجل تراه يعمل المطي جادا في السفر إليهم واللحاق بهم حصل منه، ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب، والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكلية، والإعراض عنه واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان.
[حكم قتال من هجم على بلاد المسلمين]
(الوجه الثاني) : إن قتال من هجم على بلاد المسلمين من أمثال هؤلاء فرض عين لا فرض كفاية كما هو مقرر مشهور، فلا يحل، ولا يسوغ والحالة هذه تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا عرف الفرق بين مسألتنا وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن قدر على إظهار دينه لو فرضناه حاصلا، فكيف والأمر كما قدمت؟
[من يرخص له السفر إلى بلاد الكفار وأصحاب البدع ]
(الوجه الثالث) : إن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح(2/30)
إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعرا:
فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة كالخوارج والمعتزلة والرافضة إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرف -أرشدك الله- أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقل من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله –تعالى- من موالاة أعدائه المشركين ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه. وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله –تعالى- ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته، وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب وحظ وافر من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه، وأعرض عن نصرته
وإن كان الحبيب المواتيا ... فالحكم لله العلي الكبير
وأين من يبادئهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه، فسل أهل الريب والشبهات هل يغتقر الجهل بذلك والإعراض عنه علما وعملا، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام عند قوم ينتسبون إليه أيضا، وهم من أشد خلق الله كفرا به وجحدا له؟(2/31)
وردا لأحكامه واستهزاء بحقائقه. فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه من دليلهم بالرد والهدم، ومن حقق النظر وعرف أحوال القوم وسيرهم، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم والميل مع شهواتهم، نسأل الله لنا ولهم العافية.
هواي مع الركب اليمانين مصعد ... يسير 1 وجثماني بمكة موثق
ومن هان عليه أمره –تعالى- فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هؤلاء آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته، وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه وطاعته جراءة على ربه وتوثبا على محض حق وامتهانا بأمره؟
خلافا لأصحاب الرسول وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل
[السفر إلى بلاد المشركين عند أمن الفتنة]
(الوجه الرابع) : أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة، فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه. وقد فر عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة من تعلم من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة على كثير ممن خالطهم وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك وأمرهم بمجانبة المشركين دينا يدينون به،
ـــــــ
1 الرواية المشهورة في كتب البيان: جنيت.(2/32)
ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 1، وبعض من رحل إليهم من جهتكم حمل رسائلهم ومكاتبتهم إلى أهل الإسلام يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملأ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية إلى ما هو أعظم من ذلك وأطمّ، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن لم يشاهد هذا منكم ولم يسمعه من قائله قد بلغه وتحققه؛ فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل من ينازع في تحريم السفر إليهم والحالة هذه ويرى حله وجوازه.
[ سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده]
(الوجه الخامس): أن سد الذرائع وقطع الوسائل من أكبر أصول الدين وقواعده، وقد رتب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينية تحليلا وتحريما ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى على أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية -قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد فقال: (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك)، وساق بعض هذه القاعدة. وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك، ولو أفتينا بتحريم السفر رعاية لهذا الأصل فقط وسدا لذرائعه المفضية لكنا قد أخذنا بأصل أصيل ومذهب جليل.
[السفر إلى بلاد المحاربين للإسلام]
(الوجه السادس): أنا لا نسلم دخول هذه البلدة التي الكلام بصددها في عبارات أهل العلم ورخصتهم لأن صورة الأمر وحقيقته سفر إلى
ـــــــ
1 سورة الفرقان آية : 31.(2/33)
معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل وإعزاز جيوشه وجموعه، فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، وهو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تبصر
وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد – الذي قال فيه قد جمعته للناس إماماً – من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينْزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين وفي رواية والمسلمين. فإذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وأولئك هم الشهداء " 1.والحديث – وإن كان في سنده سعيد بن جهمان، فقد وثقه أبو داود الذي ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد، فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد فقد كفر، ومن أعرض عن جهادهم وتباعد عنهم مقبلا على إصلاح دنياه وحرثه فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله، وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية المعرفة الطرفين
ـــــــ
1 سنن أبي داود : كتاب الملاحم (4306).(2/34)
ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر. والحصر وإن كان ادعائيا فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته، والحديث وإن كان تأوله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولا وبقية، ولا ريب أن الذي حصل هذا الزمان إن لم يكن منها فهو يشبه بها من كل وجه.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وقد قال شيخ الإسلام في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم ارتد، وحل ماله ودمه1. فتأمل هذا فإنه إن شاء الله يزيل عنك إشكالات كثيرة طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم. ثم اعلم أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة ببلد الشرك والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم، نصوص عامة مطلقة وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص، أو التقييد لها إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص. ومن قال بالرخصة لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم أن يقيس حكما على حكم، وفرعا على فرع، وقضية على قضية، والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق. وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني
ـــــــ
1 وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم وهو صريح قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).(2/35)
جزم فيما كتبه على المنتقى برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص فلا يسلم ولا يلتفت إليه، مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة موافق للمشهور عند المتأخرين لم نخرج عنه كما تقدم ذكره، والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي ومجال للنظر فإن بقي عليك فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد -قدس الله روحه- ما نصه:
شمر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا
وصل السؤال وكن هديت مباحثا ... فالعيب عندي أن تكون جهولا
(مسألة الكفار ما يستعينون به على المسلمين)
وأما مسألة المبايعة فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من يبيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال ونحوه والدواب والرواحل؛ حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع. وأكثر الناس يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي أغلظ كفرا، وأعظم جرما بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة والمؤانسة والإكرام ما هو(2/36)
أعظم مما مرت حكايته من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسؤول المرجو الإجابة أن ينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]
(قال جامع الرسائل) : وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له – أعني محمد بن علي – من جهة فتوى الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فيمن يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح فتوى والده، وكشف القناع عن محاسن معانيها وقطع – بالوجوه الساطعة أساريرها الراسخة مبانيها – ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه غبار كل مشكل، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسبق إليك خط مع البداة، أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ -قدس الله روحه ونور ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته، هذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب(2/37)
ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله. وهذه العبارة بحمد الله ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل لوجوه: (منها) : أن الذي وقع في هذه الأعصار – وكلامنا بصدده – أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة منها موالاة المشركين وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى المولاة يقع على شعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان، وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس أو للحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم والانحياز إلى ولايتهم. فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال من أجهل الناس بمدارك الشرع ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم وإبطال الشرع بالكلية بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة ولا صولة ولا دخل
ـــــــ
1 سورة الممتحنة آية : 1.(2/38)
في الرأي مع أنها من المسائل المردودة على قائلها كما بسط في غير موضع. وبالجملة فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة، وقول الشيخ قد عمت به البلوى يبين أن الجواب في الجاري في وقته مع ظهور الإسلام وغربته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض التعيين. وإذا هجم العدو وصار الجهاد فرض عين يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف هذا السفر؟ وأيضا فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات إلا بإذن. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس والضرب ونحو ذلك مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية لا سيما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، وأقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال ولسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلا في كلام الشيخ -رحمه الله-. وقوله: ينبغي هجره وكراهته بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم(2/39)
يستطع فباللسان، ومن لم يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي فلا يجوز العدول عنه وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصرّ المكابر لا ينتهي إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد -رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين مع عدم التمكن من إظهار الدين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته. وكذلك غيره من المحققين ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية تدخل فيها تلك القضية الجزئية. وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها ورضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث، بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث النبوي لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة؛ ومثل هذا الذي أظهر الفتوى يجعله بعض المنتسبين منفاخا ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله – تعالى-: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 1 الآية، وانظر ما ذكره المفسرون حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة وبري القلم في الركون. وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به على اختلاف رتبه،
ـــــــ
1 سورة الإسراء آية : 74.(2/40)
فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله والمؤمنون أنها الكفر والجهل والضلالة. ومن له أدنى أنفة وفي قلبه نصيب من الحياة يغار لله ورسله وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله، والمذاكرة به، وذم ما خالف والبراءة منه ومن أهله، وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع. وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم والله المستعان. وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان.(2/41)
الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وسبب ذلك أن حسن بن عبد الله آل الشيخ لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، ويبين له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين كتب إليه، واحتج بما ستقف عليه في ضمن جواب الشيخ -رحمه الله-. وهذا نص رسالة الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 1 ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر الشركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير. قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} 3 أي: لم كنتم ها هنا وتركتم الهجرة {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} 4 أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 97.
2 سورة النساء آية : 97.
3 سورة النساء آية : 97.
4 سورة النساء آية : 97.(2/42)
في الأرض {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1.وساق -رحمه الله- ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جامع مشرك2 وسكن معه فإنه مثله " . قلت: فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليق ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتال. فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله. وكذلك ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال: كان أناس من أهل مكة قد أسلموا أفمن مات منهم بها هلك؟ قال -تعالى-: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} 3 الآية. وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم: فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا، ويئسوا من كل خير، ثم نزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} 4. فكتبوا إليهم بذلك أن قد جعل الله مخرجا لكم، فخرجوا فأدركهم المشركون فقتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل. وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 97.
2 جامعه: خالطه وعاشره، فالمجامعة: المشاركة في الاجتماع من سكنى ومعاشرة، هذه حقيقته واستعماله في المخالطة الزوجية كناية.
3 سورة النساء آية : 97.
4 سورة النحل آية : 110.(2/43)
قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره. وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما من أهل مكة أسلموا فاستخفوا بإسلامهم، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم فنَزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 1 الآية، فهذا القول ونحوه مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، لا يدل على أن الآية خاصة بهم بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السلف: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم أن هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أن هذا النفاق والقتال مع المشركين هو الذي نيط به الحكم ورتب عليه الوعيد، فإنهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام، ومن لم يمارس العلوم ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه وعدم الاهتداء لتلك المسالك التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة، وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات فكيف بغيرها من حقائق العلم ودقائقه؟ وليتهم (أعني) هو وأمثاله اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره وسوى به سواه.
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 97.(2/44)
وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- على هذه الآية فإنه أفاد وأجاد: وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة واستدلالهم بهذه الآية على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟ وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهلية، ثم لما جاءت هذه الفتنة صار يتزين عند المسلمين بحمد الله على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة والتحف والهدايا والمجالسة والتردد شغفا بالجاه والرياسة ولو في زمرة من حاد الله ورسوله. (وأما) : ما نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبئات الصدور والضمائر، وروى السدي قال: "لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية : {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} ". فتأمل هذه القصة وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآيات الله فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون، وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ(2/45)
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1.كيف حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك، وأكد ذلك بأن المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه، والله –تعالى- أسأل أن يمن علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز، وقد كان كتب إليه (أعني) الشيخ حمد رسالة ذكر له فيها أن الغربة اشتدت، وأنه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير مع العسكر والزوار، فأجابه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وإن أتى الدهر بمر القضاء، والخط وصل -وصلك الله بحبله المنير، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين-، وقد عرفت أن الله –سبحانه- ليس كمثله شيء في أفعاله أو قضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة جهله وكثافة
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 121.(2/46)
طبعه كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيم عقل ولا فيم أطلق. وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام والدعوة إليه، ونصره ونشره وتعريفه وتقريره في كل مجلس ومجمع. فإن أكثر الناس قد ضل عنه ولا يدري حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته، وجاء بما يناقضه، ويقوي عضد المشركين، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله بعد ذهابه إليهم ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها. ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه ونسبه إلى موالاتهم، فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 1.وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذت في درب العقير مع العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلا عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده، وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام وقصدت عير قريش. وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية والصفات العلية، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنية، ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من
ـــــــ
1 سورة غافر آية : 5.(2/47)
خفافيش البصائر، فالمجادل فيه وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النّزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم في أي شيء وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 1. والذي أوصيك به الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة الذين يسعون في هدم أركان الإسلام ومحو أساسه، وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان والسلام.
الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من أهل الفرع: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبة من حاد الله ورسوله، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم، لأن اختيار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم ومحبة ظهورهم، والثناء عليهم وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام وإعانتهم على المسلمين، وجرهم على بلاد أهل الإسلام، ردة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله تعالى- الأسباب والوسائل المفضية إلى ذلك بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان عثمان بن مرشد ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -وصلكم الله ما يرضيه-، وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مرارا، أو قامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر
ـــــــ
1 سورة الفرقان آية : 31.(2/48)
للنصائح والمواعظ وقبولها ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة كدعاء الاستفتاح " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل " 1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله –تعالى-: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} 2. والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر لا سيما عند هذه الفتنة التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة: " قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في شر فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أي " 3 4.فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده؛ فتعين الاهتمام بالمخرج منها والنجاة فيها، لا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله ومعرفة ما أوجب وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن، فعن حذيفة: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني قلت:
ـــــــ
1 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي : الدعوات (3420) , والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود : الصلاة (767) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156).
2 سورة الأنفال آية : 23.
3 أحمد (5/391).
4 الحديث رواه البخاري مطولا وابن ماجه مختصرا والظاهر أن هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف وما بعده للإمام أحمد.(2/49)
يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه، ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء، قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلَّم كتاب الله واتبع ما فيه ثلاث مرار، قال: قلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم " . (قلت): فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، وأوصاه عند حدوث الفتن العظام التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفقهه ولا يفهمه إلا من تعلم كتاب الله ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نورا يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشك والريب والالتباس. وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء ومن ينتصب إلى العلم والطلب فكيف بغيرهم؟ شعر:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن والتفقه في معانيه، يعرف العبد إن عقل عن الله أن أوجب واجب فيه وأهمه وآكده وزبدته معرفة الله –تعالى- بما تعرّف به إلى عباده من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته، وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه(2/50)
وإسلام الوجه له وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات كالخشية والرجاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والتقوى، ويرضى به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا ونبيا، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر والمقصود الأعظم ويهتم به غاية الاهتمام، ويطلبه منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه من تعطيل، وكفر، وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها المُفْضِيَة إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.فمن عرف هذا الأصل الأصيل عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهد والهدم والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل ورفع أعلامه الكفرية، وأن مرتبتها من الكفر وفساد البلاد والعباد فوق ما يتوهمه المتوهمون، أو يظنه الظانون. وبه يعلم أن ما وقع من الوسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها والسكوت عن التغليظ فيها من أكبر أسباب وقوع الشرك ومحو أعلام التوحيد؛ والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم وتوقيره والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعي الإسلام ويبكيه {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2 وفي الحديث: "من وَقَّرَ صاحبَ بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " 3 فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟ فالله المستعان.
ـــــــ
1 سورة الفاتحة آية : 5.
2 سورة ق آية : 37.
3 رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بشر وسنده ضعيف ومعناه صحيح.(2/51)
وأعجب من هذا أن بعض مَنْ يتولى خدمة من حادَّ الله ورسوله، ويُحَسِّنُ أمرهم، ويُرَغِّبُ في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك؛ ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَضُ عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية 1 . وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم دليل على أن أصل الأصول لا استقامة ولا ثبات له إلا بمقاطعة أعداء الله وحربهم وجهادهم والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم. وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 2، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عُقَد التوحيد والإسلام، وقَطْعُ ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} 3 الآية. قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
ـــــــ
1 يعني أنهم يجهلون ما أزاله الإسلام من الشرك والكفر فلا يعرفون قيمة ما جاء فيه من الإصلاح وربما عادوا إلى ما كان عليه الجاهلية وهم لا يدرون.
2 سورة الأنفال آية : 73.
3 سورة المائدة آية : 51.(2/52)
الصَّلاةِ} 1 الآية. قلت: فليتأمل مَنْ نصح نفسه ما يجري من هؤلاء العسكر عند سماع الأذان من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبداله به عما اشتمل عليه الأذان من توحيد الله وتعظيمه وتكبير الملك القهار، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 2.وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، وقد جزم ابن جرير في تفسيره بكفر من فعل ذلك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} 4. فليتأمل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تفسيرها وتأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنه يتبين له -إن وُفِّقَ وَسُدِّدَ- أنها تتناول مَن ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم، أو أثنى عليهم، أو فَضَّلَهُمْ بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم، فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5.وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام؛ وما مَنَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا –رحمه الله- إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم؛
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 57.
2 سورة المائدة آية : 78.
3 سورة آل عمران آية : 28.
4 سورة المجادلة آية : 22.
5 سورة المائدة آية : 5.(2/53)
وببركة دعوته وبيانه حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة ورعايتها حق الرعاية والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله والانحياز إلى دولتهم والرضى بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} 1 الآية. فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوما ترجعون فيه لله، ودعوا اللجاج والمِرَاء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة رب السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم من الكفر والتعطيل والشرك والجدال والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن للمُشَاقَّة والتفرق والقدح في أهل الإسلام، فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه، وقد جاء في الحديث: " إن هذا الحي من مُضَر لا تدع في الأرض لله عبدا صالحا إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده فيذلها حتى لا تمنع ذَنَبَ تَلْعَة " 2.وبعض مَنْ يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنَى عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله ومراغمة لأعدائه فذاك ليس منه على شيء؛ بل ربما ثَبَّطَ عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالبا دينا وحسن خلق فلا يُتَابُ منه ولا يستغفر؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم فيكونون فتنة لغيرهم، ولهذا حَذَّرَ الشارع من فتنة مَنْ فسد من العلماء والعُبَّاد وخافه على أمته. فالمؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 28.
2 أحمد (5/390).(2/54)
على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل (شعر):
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل
وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفُرْقَة والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد؛ فاحرص على ذلك، واعتدَّ به مِنْ صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي –رضي الله عنه-: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1 2.والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها، وطلب كشفها، ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم فاذكروه لي، وإن جاءنا عنكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنُشهد الله على قبوله ممن كان. وبلِّغُوا سلامَنا إخوانَكم، والعيالُ والإخوان ينهون إليكم السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (3009) , ومسلم : فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود : العلم (3661) , وأحمد (5/333).
2 هو في صحيح البخاري.(2/55)
الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]
وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه، نصيحة لكافة المسلمين في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجماعة والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين في هدم قواعده وأصوله وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لنصر الإسلام والدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) فموجب هذا هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح مَنْ أراد الله هدايته، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وأهم ما يُبْدَأ به في التعليم هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام التي لا يحصل بدونها ولا يستقيم بناؤه إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلت عليه كلمة التوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علما وعملا؛ فإن هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهي الحكمة التي لأجلها خُلِقَتْ الخليقةُ، وَشُرِعَتْ الطريقةُ، وأُرْسِلَتْ لأجلها الرسل، وبها أُنْزِلَتْ الكتبُ، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور عليها وترجع إليها. وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال والإعراض عن حقائقه وواجباته حتى ظهر الشرك وظهرت وسائله وذرائعه ممن
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 55.(2/56)
ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب: منها الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورَضِيَهُ لعباده من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه، أو يضادُّ الكمال والتمام من موالاة أعداء الله على اختلاف شعبها ومراتبها. فمنها المكفرات والموبقات، ومنها ما هو دون ذلك. وأكبر ذنب وأضله وأعظمُه منافاةً لأصل الإسلام: نصرةُ أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم 1.ويلتحق بالقسم الأول: حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى والمعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة وأدنى غيرة لله وتعظيم له، يأنف ويشمئز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام. فليتق اللهَ عبدٌ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده قبل أن تَزِلَّ القدمُ، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم. ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العلية: جهاد أعداء الله ومن صَدَفَ عن دينه الذي ارتضاه، وقد أوجب الله سبحانه الجهاد في سبيله وأكده ورغَّب فيه، ووعد أهله بما أعد لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ـــــــ
1 أي مخالطتهم في الاجتماع والمعاشرة كما تقدم.(2/57)
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 إلى آخر السورة. فانظر إلى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى مناهج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل. فانظر كيف ختم السورة بأمر عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين؛ وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به. وتأمل كُفْر الطائفة المُعْرِضة عن طاعة رسله والجهاد في سبيله؛ وتأمل ما وعد به عباده من النصر والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 2 إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 4 الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " 5، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو، مات على شُعْبَة من النفاق " 6. فاغتنموا -رحمكم الله- حضور المشاهد التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومُرَاغَمَة أعدائه، فإن هذه المشاهد من الموجبات للرحمة والمغفرة والسعادة الأبدية، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربكم، وأطيعوا ذا أمركم، وأخلصوا النية، وأصلحوا الطوية؛
ـــــــ
1 سورة الصف آية : 10.
2 سورة التوبة آية : 111.
3 سورة التوبة آية : 111.
4 سورة التوبة آية : 123.
5 البخاري : التوحيد (7423) , وأحمد (2/335 ,2/339).
6 مسلم : الإمارة (1910) , والنسائي : الجهاد (3097) , وأبو داود : الجهاد (2502).(2/58)
فإنما لكل امرئ ما نوى. واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة مَنْ يعلم أنه يسمعه ويراه، فقد رأيتم ما بلغ من مكائد الشيطان وتفريق كلمة أهل الإيمان حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فِئَامٌ من المسلمين بأعداء الله والدين. نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]
وله أيضا، قدَّس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم يعظه فيها عن مجالسة مَنْ افْتُتِنَ بموالاة أعداء الله ورسوله من العساكر الهاجمة على بلاد المسلمين، والتحذير عن رسالة ابن عجلان، وقد سماها الشيخ -رحمه الله- حبالة الشيطان، وذكر أنها دِهْليز يُفْضِي إلى استباحة موالاة المشركين والاستنصار بهم. وكذلك ذكر فيها حكم المتغلب إذا كان مسلما، وأن ما وقع منه من الظلم والغَشَم وسفك الدماء ونهب الأموال، كل ذلك لا يُوجِب الخروج عليه، ولا نَزْعَ اليد عن طاعته، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسيرة، وما ذكرت من المحبة والمودة فما كان لله يبقى، وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه. والذي أوصيك به: تقوى الله -تعالى- والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء من المُهَاجَرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة نَأَيْتَ بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنتَ المِرَاء في الدين واللجاجة. صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في(2/59)
السوق وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبتَ عما هو الأَوْلى بالإصابة والأحْرَى، وأقبلت في تلك الأيام على الملأ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله وهدم دينه ومطردات أوليائه، والتَّنْوِيه بذكر أعداء الله ورسله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم، وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام. وأنت أيها الرجل ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بَحْث ومُحَاقَّة ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات، لكنك غَلَّبْتَ جانبَ الهوى وأكثرْتَ تلك الأيام من مجالسة مَنْ يضر ولا ينفع، ولا يَنِي عن إغوائه ولا ينزع، وقد جاء الأثر: إن مَنْ جَالَسَ صاحب بدعة نُزِعَتْ منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم. ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك من دعوى البراءة من الشرك وأهله على سبيل الإجمال لا التفصيل، وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمالُ. ولم تَزَلْ على ما وصفنا تطير مع مَن طار، وتُغِير علينا بالتخطئة والمِرَاء مع مَن أغار، ومثلك كان يُظَنُّ به الخير، ويأسى عليه الصاحب، وأنت -وإن لم تكن كل الفقيه والطالب- فقد حَنَّكَتْكَ التجاربُ، وَقَعَّدَتْكَ الحوادثُ والمذاهبُ، لولا ما عارَضَهَا من صحبة جلساء السوء الذين يدعونك إلى أهوائهم(2/60)
وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المَسُّ مَسُّ أرنب، والطبع طبع ثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحَكَم بيننا وبين مَن أعان على هدم الإسلام من صغير وكبير، مأمور وأمير. وأيضا فأهل الإحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه، بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم وقضاء حوائجهم، ولم يظهر لي منك قيام بحق الله عند هذه الدواهي العظام، التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني أحكي ما ظهر لي منك ذاك الوقت. وقد أظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان (رسالة ابن عجلان) فطرتَ بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها مع جماعة من العوام والصبيان؛ وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل مصر والشام بالشرك والمكفرات، وفيها: أن جَلْب عُبَّاد الأصنام إلى بلاد الإسلام والاستعانة بهم على مَن خرج عن الطاعة ليس بذنب، ولولا أن حجاب الجهل والهوى أكثف الحجب وأغلظها لتبين شناعةُ ما فيها للناظرين من أول وهلة وبمجرد الفطرة (شعر):
أكل امرئ تحسبن امرءا ... ونار توقد في الليل نارا(2/61)
ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دَهَى بها الشيطانُ كثيرا من الناس فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكوات، ويُشِبُّ نار الفتن والضلالات، فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة ونصب لها حُجَجًا ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين فيما أمر الله به ورسوله من واجبات الإيمان وفيما فيه دفعٌ عن الإسلام وحماية لحوزته لا تجب، والحالة هذه ولا تشرع، ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية –حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية – قد وقع منهم ما وقع من الجراءة والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم معروفة مشهورة، لا ينزعون يدا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين. وأضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغَشَم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة كسعيد بن جبير، وحاصر بن الزبير وقد عَاذَ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك(2/62)
الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام ويكمل به الإيمان، وكذلك من في زمنه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي وأشباههم ونُظَرَائِهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد. وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقا كثيرا وَجَمًّا غفيرا من بني أمية وأمرائهم ونُوَّابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان، حتى نُقِلَ أن السفاح قَتَلَ في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب، ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفى على مَن له أدنى مشاركة في العلم والاطلاع. والطبقة الثانية من أهل العلم: كأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نوح وإسحاق بن راهويه وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل كمحمد بن نصر، ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم. وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس الذين وصفنا حالهم فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صَفْحًا، وطويتَ على هجرها كَشْحًا، فإن تبينَ لك هذا، ومَنَّ الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا(2/63)
القديم العهد، والجُرْح جُبَار، ولا حَرَج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة، فإن حاك في صدرك شيء فأَكْثِرْ من التضرع إلى الله والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس – حديث الاستفتاح – وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- فقد بسط هذه المسألة في رسائله واستنباطه ورأيت له عبارة يَحْسُنُ ذكرُهَا قال -رحمه الله- لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان: "وبإجماع أهل العلم كلهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عَثَوْا في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي مَن أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفةُ عَلِيٍّ عَلَى الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم، لو امتنعوا أترى أن أحدا من الصحابة شك في كفر مَن التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ قال –رحمه الله-: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تُبْقِي شبهةً إلا على مَن أراد الله فتنته. انتهى كلامه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/64)
الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]
وله أيضا، رحمه الله وعفا عنه بِمَنِّهِ وكرمه، رسالة إلى الشيخ محمد بن عجلان -رحمه الله- وسبب ذلك: أن الشيخ محمد بن عجلان كتب رسالة أيام الفتنة التي وقعت بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود ذكر فيها: جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام، وهي التي سماها الشيخ عبد اللطيف: حبالة الشيطان، فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف جوابا قطع فيه كل ما يتعلق به كل مُبْطِل، وأزَال بالبراهين والدلائل كل مُشْكِل، وقرَّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة أو أثر فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تَضَمُّنِهِ أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المُعْتَقَد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة لكني إلى الآن لم أجدها، ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنته سورة العصر، فكتب إليه الشيخ رحمه الله هذه الرسالة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه، والخط وصل، وما ذكرت فيه من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة سورة العصر فقد سرني، وقد عرفت ما قاله الشافعي -رحمه الله- لو فكر الناس فيها لكفتهم. قلت : لأنها تتضمن الأصول الدينية والقواعد الإيمانية والشرائع الإسلامية والوصايا المَرْضِية، فتفكرْ فيها، واعلم أنك نبهتني على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان، وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن(2/65)
أكتب ونهيت عن إشاعتها خوفا منك وعليك، ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض ونسيان العلم وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة برد السنة والقرآن، ودفع الحجة والسلطان، وقررتُ فيها أن ما كتبته نقلته من آية أو سنة أو أثر فهو عليك لا لك لأنه يدل بوضعه أو تضمُّنِه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم والبراءة من كل مَن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك التي ذكرت دالة على ذلك كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 الآية قبلها والآية بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه. وقد بسطت القول في ذلك، وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة والأمر بلزوم الجماعة نص فيما قلنا عند مَن فقه عن الله ورسوله، وما ذكرت من استعانته بابن أريقط: فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " 2 وابن أريقط: أجيرٌ مستخدمٌ، لا مُعينٌ مكرم، وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام وهم حينئذ كفار: وَهْلَةٌ عظيمةٌ وزَلَّةٌ ذميمةٌ، كيف والإسلام، إذ ذاك، يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التَّتَر والنُّصَيْرِيَّة ونحوهم، كل هذا مستفيضٌ في كلامه وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال إذا صارت الغلبة لغيرهم لا يحكم به على البلاد وأهليها، وكذلك ما زعمته من أن أكابر العسكر أهل تعبد ونحو هذا
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 103.
2 مسلم : الجهاد والسير (1817) , والترمذي : السير (1558) , وأبو داود : الجهاد (2732) , وابن ماجه : الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي : السير (2496).(2/66)
فهذه دسيسةٌ شيطانيةٌ، وقاكَ الله شرَّهَا، وحماك حرَّها، لو سلم تسليما جَدَلِيًّا فابن عربي وابن سبعين وابن الفارض لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض أو من أكفر أهل الأرض، وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }1، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.وأما إِجَازَتُك الاستنصارَ بهم: فالنّزاع في غير هذه المسألة بل في توليتهم، وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها مُضادٌ ومخالفٌ للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة الاستنصار بهم فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون منعُ ذلك مطلقا وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتابا أو سنة. ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط أيضا أن لا يكون للمشركين صَوْلَة ودولة يُخْشَى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية، واشترط كذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا. كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعَّف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 88.
2 سورة الزمر آية : 65.(2/67)
للمشرك مع أهل الإسلام. أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي: فلم يقل بهذا إلا مَن شذَّ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومَن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه فقد تتبع الرُّخَص ونَبَذَ الأصلَ المقرَّرَ عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير، وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يُفِدْ نظرًا وحُسْن تَبَصُّر
وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائِمٌ، وشَنَأ شَانِئٌ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غيرَ الشأن {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1.وبَلِّغْ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 4.(2/68)
الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود]
وله أيضا -قدس الله روحه- ونوَّر ضريحه، رسالة إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -رحمهما الله تعالى- وهي آخر ما كتب -رحمه الله تعالى، وعفا عنه- ثم علم أن كل من دعا إلى الله وجاهد في الله ولله، فلا بد أن يُؤْذَى وَيُنَالَ منه؛ والعاقبة للمتقين، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -سلمهما الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتموه كان معلوما وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا، والمِرَاء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع ما ذُكِرَ تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انْتُهِكَتْ وَهُتِكَتْ في ذات الله، أعدُّها لديه -جل وعلا- ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه(2/69)
ما ورد من الآثار النبوية والآثار القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على مَن نَصَره، ولم تزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة، فَثَلَّ عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردًا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وَصَّيْتُهُ بالاعتصام بالله، وطلبِ النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة، ثم قدِم علينا سعود بمن معه من العجمان والدَّوَاسِر وأهل الفرع وأهل الحريق وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجتُ إليه وبذلتُ جهدي ودافعتُ عن المسلمين ما استطعت، خشيةَ استباحته البلدة، وممن معه من الأشرار وفُجَّار القُرَّاء مَن يحثه على ذلك ويتفوه بتكفير بعض رؤساء بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد. وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادُم الأعصار ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بارٌّ راشدٌ في ذلك. ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على مَن له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل: سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم. وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح وبعد(2/70)
مجيئه، لمَّا أخرجَ شيعة عبد الله سعود، وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة، والعجمان. وصار لعبد الله غلبةٌ ثبتت بها ولايته على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده ومر بالبلدة منهزما لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعَجَّلْتُ إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مُدَافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلد ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلد وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته. وأما بعد وفاة سعود فَقدم الغزاة، ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن مع غيبة عبد الله. وتعذرت مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم نَهْبًا وسَبْيًا للأعراب والفُجار، وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورا. ومن عرف قواعدَ الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع(2/71)
الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمَفَاتِي، والمتصدين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته وانعقدت؛ وصار من ينتظر غائبا لا يحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به. ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله؛ فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع إني قد أكثرتُ في ذلك حين ولايته. ولم أزل أكرر عليه في ذلك يوما فيوما حتى يسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه، ورأى الحق له وأنه أولى منه لكبر سنه وقدم إمامته. فلما نزل الإمام عبد الله بساحتنا اجتهدتُ إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس. ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا. ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا – وبئس مطية الرجل زعموا – وتحقق عندي دعواه التوبة، وأظهر لديَّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله. هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون(2/72)
بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا -رحمه الله- ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا ويخالفه، وصارت المذاكرة، لانكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة ممن كان عنده علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يَدِينُ الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه وعدم البحث واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه. وبالجملة فهذا الذي نعتقد ونَدِينُ الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمعتدي حسابنا وحسابه إلى الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مُخَبَّئَات الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور. وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل والجُرْح جُبَار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشر كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب. وتأمل قول الله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 30.(2/73)
الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط وصل بما تضمن من الوصية، وفقنا الله وإياك لقبول الوصايا الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبية، وأوصيك بما أوصيتني به وبلزوم الكتاب والسنة والرغبة فيهما، فإن أكثر الناس نَبذوهما ظِهْرِيًا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى، واذكر قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة لما سأله عن الفتن قال: " اقرأ كتاب الله واعمل بما فيه " 1 كررها ثلاثا. والحكمة -والله أعلم- شدة الحاجة وقت الفتن وخوف الفتنة والتغلب، وأكثر الناس من أهل نجد ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن مَن اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون. نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا تَدَّخِر المذاكرة فيما ابْتُلِيَ به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم؛ فإن هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان وهدم قواعده. ومن أفضل الأعمال القيام لله عند ذلك على بصيرة والدعوة إلى سبيله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــ
1 أحمد (5/406).(2/74)
الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى أهل عُنَيْزَة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تجري عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة مَعْذِرَةً إلى الله –تعالى- وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يَتَجَشَّمُ ما يأتي لأسباب لا تخفى. من ذلك: قصد المشاقة، والمعاندة بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين 1 والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده. ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيها من اتباع سَنَن من قبلها من أهل الكتاب وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَتْ قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَتْ أوثانا تُقْصَد من دون الله رب العالمين، عَظَّمَهَا قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نِحْلَتَهم، وحقيقة طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه، وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين
ـــــــ
1 هذه الإضافة للمفعول أي: إباحة أن يُدْعَى الصالحون فيما لا يطلب إلا من الله؛ لأنه وراء الأسباب وهو شرك.(2/75)
بأن دَسَّ عليهم تغييرَ الأسماء والحدود الشرعية والألفاظ اللغوية، فسمى الشركَ وعبادةَ الصالحين توسلا ونداء، وَحُسْنَ اعتقاد في الأولياء وتشفعا بهم، واستظهارا بأورادهم الشريفة. فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين ودعاء الأوثان والشياطين كما كانت قبل النبوة وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحَذْو القُذَّة بالقُذَّة، وهذا من أعلام النبوة كما ذكره غير واحد. ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عَمَّ ضررُهُ وبلغ شررُهُ الحاضرَ والباد، ففي كل إقليم وكل مدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام وَلائِجٌ يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يَرِدُ على خاطره ولا يلم بباله دعاء الله في شيء من ذلك؛ لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يَعِزُّ حصرُهُ واستقصاؤُهُ، ولو كان يخفى لَعَرَّجْنَا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهرُ من الشمس في نَحْرِ الظهيرة. إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده في آخر هذا الزمان على يد مَنْ أقامه الله في هذه البلاد النجدية داعيا إلى الله على بصيرة، مُذكرا به، آمِرًا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورَدِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته، واستدل على ذلك وقَرَّرَ وصَنَّفَ وحَرَّرَ ونَاظَرَ المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل(2/76)
دين. فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه. فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين، وآخرون قالوا: هو يُكَفِّرُ أهلَ الإسلام، وَصِنْفٌ نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تَرُوجُ على من عرف أصل الإسلام وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عَزُبَتْ عنهم الأصولُ والحقائقُ، ووقفوا مع الرسوم والعادات في تلك المناهج والطرائق:{قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 1؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لا يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها.
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السعد ما يغنيك عن دبران
وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واسْتَهْوَتْهُمْ الشياطينُ، حتى سَعَوْا في آيات الله مُعَاجِزِينَ، وقد بَدَّدَ الله شملهم فتمزقوا أيدي سَبَا، وذهبتْ أباطيلُهم وأراجيفهم حتى صارت هبا. نعم بقيت لتلك الشبهة بقية بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قَدَمٌ، ولا في الإيمان دراية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشُّبَه الشِّرْكِية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أُتِيحَ لهم هذا الرجل من أهل الفرق فألقيت إليه هذه الكتب فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيله، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 104.(2/77)
الله، وأجاز أن يَكِلَ اللهُ أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم. وهذا موجود عندنا بنص رسائله، وَشَبَّهَ على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يُسمى دعاء وإنما يُسمى نداء، وإن العبادات التي صُرفت لأهل القبور لا تسمى عبادة ولا شركا إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله. وقوله: من قال لا إله إلا الله واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عُبَّاد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم، وَيُلْحِد في آيات الله وأحاديث رسول الله ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعْرِفُ ذلك من كلامه مَن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يَرُوج باطلُه إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها. ومن شبهاته قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان، يريد -قاتله الله- تعطيلَ القرآن عن أن يَتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يُمَجُّ سماعه، ويستوحش منه عوامُّ المسلمين لمجرد الفطرة، فسبحان مَن أضلَّه وأعْمَاه {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2.
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 35.
2 سورة يونس آية : 33.(2/78)
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها مَن يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشُّبَه وأمثالها؛ ولذلك أسباب منها البغضاء ومتابعة الهوى وعدم قبول ما مَنَّ الله به من النور والهدى حيث عرف من جهة المُعَارِض، وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 1.وقد أجمع العلماء على أن نعمة الله المقصودة هنا هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق اللَّذَيْنِ أَصْلُهُمَا وأساسُهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وخلعُ ما سواه من الآلهة والأنداد. والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها واختيار دعاء الصالحين، والتعلقُ على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرأ تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه مُلاق ربه الذي عنده الجنة والنار. ثم فيما أجرى الله عليكم من العِبَر والعِظَات ما يُنَبِّه من كان له قلب أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 2 وجماعتكم أعيى المسلمين داؤهم، وعَزَّ عمّا هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3 وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 28.
2 سورة إبراهيم آية : 5.
3 سورة الأحزاب آية : 4.(2/79)
الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار جوابا لمسائل سأله عنها علي بن حمد بن سليمان لمَّا قدم إلى بلدة فارس، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن علي بن حمد بن سلمان، سلمه الله تعالى وزينه بزينة الإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما رغبتك عن البلد التي تظهر فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرفع فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنتَ فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين. وأما وصولك إلى بلدة فارس فالذين رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد -رحمه الله- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة والخوارج، ولا معرفة لهم بالعقائد والنِّحَل واختلاف الناس. والزمانُ زمانُ فَتْرَةٍ يُشبه زمنَ الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يُساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم رباني كما قيل:
والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني(2/80)
والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب، وقد صار منهم ما صار. وأسباب الجهل والهلاك قد تواترت جدا، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سنة، وإنما هو تقليد لمن يحسنون به الظن من غير فهم ولا بصيرة، قال الحسن البصري في أمثالهم من المعتزلة من العجم: إنَّ عُجْمَتَهُم قَصُرَتْ بهم عن إدراك المعالي الشرعية، والحقائق الإيمانية؛ وكذلك لما نَاظَرَ عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد من رؤوس المعتزلة وَجَدَهُ لا يُفرق بين الوعد والوعيد، فقال: من العُجْمَة أُتِيتَ. وأما عبد الرحمن البهمني فهو -على ما نقلت عنه- في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريق غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نِحْلَة الخوارج نصيبٌ. وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج مشهور. فأما جهم بن صفوان فطريقته في التعطيل، ونفي العلو، والاستواء، والكلام، وسائر الصفات قد أخذها عن الجعد بن درهم، والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يخفون مقالتهم ومن أظهر شيئا من ذلك قُتِلَ كما صنع خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالجعد بن درهم فإنه ضَحَّى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضَحُّوا -تقبل الله ضحاياكم- فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد(2/81)
علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه، والجهم قُتِلَ أيضا لَمَّا ظهرتْ مقالته.
[قول العلماء في الجهمية والرد عليهم]
ثم لما كان في زمن الخليفة المأمون العباسي ظهرتْ في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثُر الخوضُ فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية وبَدَّعُوهُمْ وفَسَّقُوهُمْ، وكَفَّرُوهم. قال ابن المبارك، الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: مَن لم يعرف أن الله فوق عرشه بائن من خلقه فهو كافر يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا مقابر أهل الذمة لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى. وقال الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت إليها هذه الأمةُ، يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صُنِّفَت التصانيفُ وجُمِعَتْ النصوصُ والآثارُ في الرد عليهم وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يُثْبِتُونَ رَبًا يُعْبَد، ولا إلها يُصلى له ويسجد، وإنما هو تعطيل محض، ولذلك كفروهم. قال ابن القيم في الكافية الشافية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
يعني أن خمسمائة عالم، أئمةٌ مشاهيرٌ جزموا بكفرهم ونصوا عليه، وحُجَجُهُم وشُبَهاتهم واهيةٌ داحضةٌ لا تروج على مَن شَمَّ رائحة الإسلام، قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يُدْلُون بها، قد اشتبه عليهم معناها ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب انتهى. والقرآن والسنة كلّها رَدَّ عليهم، قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش، وذكر ابن القيم طرفا صالحا في نونيته من ذلك، وأما نصوص السنة وكلام(2/82)
أهل العلم فلا يحصيها ويحيط به إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله يعلم ويتقن أنه هو العلي الأعلى الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا يشك في ذلك إلا مَن اجْتَالَتْهُ الشياطين عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والكلام يستدعى بسطا طويلا، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة، فإنهم سوَّدُوها بالشبهات والجهالات التي تَلَقُّوهَا عن أسلافهم وشِيَعِهِم. وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره: فإن أرادوا الحياة الدنيوية فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2. وقد قام أبو بكر في الناس يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 3 وأما إن أرادوا الحياة البرزخية كحياة الشهداء، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الحظ الوافر والنصيب الأكمل؛ ولكنها لا تنفي الموتَ، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد؛ وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى الذي خلقه وقدره. والواجب علينا: الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور أكمل مما قبلها وأتم للسعداء والأشقياء.
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 30.
2 سورة الأنبياء آية : 34.
3 سورة آل عمران آية : 144.(2/83)
[دعوى أن العبادة هي السجود فقط]
وأما دعواه أن العبادة هي السجود فقط: فهذا الجهل ليس بغريب من مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية قد فصَّلتْ أنواع العبادة تفصيلا، وقسمتها تقسيما ونوَّعَتها تنويعا، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 1 إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 وهل المهتدون والمفلحون إلا خَوَاص عباد الله؟ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3 إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 4 فخصهم بالصدق والتقوى وحصرها فيهم، لأن ما ذُكِرَ: رأسُ العبادة والإيمان مُتضمنٌ لما لم يُذْكَر، مستلزمٌ له، فلهذا حَسُنَ الحصرُ. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 5 إلى قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 6، فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيها على الاهتمام، وأنها من أصول الدين، ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوعٍ دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} 7، ومعلوم أن إقامة الصلاة داخلة فيما قبلها لأنها آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين. وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8، والاستعانة: عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها اهتماما بالوسيلة وتنبيها على التوكل؛ وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} 9 إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 10 والعدل: يدخل فيه الواجبات كلها. والإحسان تدخل فيه نوافلُ الطاعات. وإيتاء ذي القربى يدخل فيه حق الأرحام ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل فيه ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه،
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 2.
2 سورة البقرة آية : 5.
3 سورة البقرة آية : 177.
4 سورة البقرة آية : 177.
5 سورة البقرة آية : 83.
6 سورة البقرة آية : 83.
7 سورة الأعراف آية : 170.
8 سورة الفاتحة آية : 5.
9 سورة النحل آية : 90.
10 سورة النحل آية : 90.(2/84)
وتركه من أَجَلِّ العبادات. والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل في العبادة بالإجماع. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 1 إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2 فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له؛ وعطف بقية العبادة المذكورة اهتماما بها وتنويها بشأنها. ولا قائل: إن ما ذكر ليس بعبادة؛ بل أهل اللغة وأهل الشرع من المفسرين وغيرهم، مُجْمِعُون على أن ما أمر به في هذه الآيات من أفضل ما يتقرب به العبد من القُرَب والعبادات، وما علمتُ أحدا من أهل العلم واللغة ينازع في ذلك؛ ولكن القوم كما تقدم عجمٌ أو مُوَلَّدُونَ. قال تعالى: {مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهًا على ما تقدم من الاهتمام، والحض على ما ذكر في حديث جبريل المشهور في الكتب الستة وغيرها: " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " 4 فجعل هذا كله هو الدين. والدين بمعنى العبادة بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
ـــــــ
1 سورة الإسراء آية : 23.
2 سورة الإسراء آية : 39.
3 سورة البينة آية : 5.
4 البخاري : الإيمان (50) , ومسلم : الإيمان (9 ,10) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه : المقدمة (64) والفتن (4044) , وأحمد (2/426).(2/85)
وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة ِ} 1 فجعل عبادة الله هي دين القيمة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 2، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من أشر الدواب وأجهل الحيوان. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير أنه قال: " الدعاء هو العبادة " 3، وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 4 وكقوله: " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين " ، وكل ما ورد من فضائل الأعمال وأنواع الذكر داخلٌ في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني والنسائي في عمل اليوم والليلة من ذلك طَرَفًا يبين أن العبادة في أصل اللغة بمعنى الذل والخضوع كما قال بعضهم 5.
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
أي: طريق مُذَلَّل قد ذَلَّلَتْه الأقدام، مأخوذٌ من معنى الذل والخضوع يقال: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية. وكذلك عَرَّفَهَا الفقهاء بأنها: ما أُمِرَ به شرعًا من غير اطِّرَاد عُرْفي ولا اقتضاء عقلي. إذا عرف هذا، فالتقوى والعبادة والدين إذا أُفْرِدَتْ ولم تقترن بغيرها دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فُسِّرَ كل واحد بما يخصه، كالإيمان والعمل الصالح والإسلام والإيمان وصدق الحديث، وكالإيمان والصبر وكالعبادة والاستعانة، وكالتقوى وابتغاء الوسيلة،
ـــــــ
1 سورة البينة آية : 5.
2 مسلم : الإيمان (35) , والترمذي : الإيمان (2614) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود : السنة (4676) , وابن ماجه : المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/445).
3 الترمذي : تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه : الدعاء (3828).
4 الترمذي : الدعوات (3371).
5 هو طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة.(2/86)
فَيُفَسَّرُ كُلٌّ بما يناسبه ويخصه كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 1، ففسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران، وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 2 واسم الأبرار، واسم الإيمان، واسم الإسلام في مقام المدح والثناء، دخل فيه الدين كله. فمن عرف هذا تبين له اصطلاحُ القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله، والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة، والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة والتسليم عبادة.
[القول بأن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود]
وأما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود، فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فإن الحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } 3، ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلا عن أن يكون أفضل منه. والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، والركن الذي فيه الحجر الأسود أفضل من أركان البيت، والطواف من أفضل العبادات وأوجبها؛ والطواف بالقبور واستلامها والعُكُوف عندها من أوضاع المشركين والجاهلية؛ وفيه مُضَاهَاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 35.
2 سورة الفرقان آية : 61.
3 سورة آل عمران آية : 96.(2/87)
وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم ، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، ولا يشرع الدعاءعنده، فلا يُشَبَّهُ بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب. وبالجملة فهذا القول قول شنيع، لا مُسْتَنَدَ له، ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود، واستلمه بمحجن كان في يده.
[صفة العلو والرد على منكريها]
وأما قوله: إنكم تعتقدون العُلُوَّ، فنعم نعتقده ونُشْهِدُ اللهَ عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته يعتقد أنه هو العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، هذا نص القرآن وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1. وأول من أنكر العلو فرعون إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} 2 فيما جاء به من الله، أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده مستو على عرشه. وأما الآية الكريمة التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يَدْرِ المرادَ منها، وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 3 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض لأنه الإله المعبود كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 4، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 5. وَالحُلُولِيَّة من غلاة الجهمية يرون أنه حَالٌّ بذاته في كل مكان، لم ينَزِّهُوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 6 فهو حديث
ـــــــ
1 سورة هود آية : 17.
2 سورة غافر آية : 36.
3 سورة الزخرف آية : 84.
4 سورة الأنعام آية : 3.
5 سورة مريم آية : 93.
6 مسلم : الصلاة (482) , والنسائي : التطبيق (1137) , وأبو داود : الصلاة (875) , وأحمد (2/421).(2/88)
صحيح جليل مثل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد؛ والقلب إذا أناب إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان، فترتفع عنه حُجُب الشهوات والشبهات، ويَنْقَشِعُ عنه ليلُها وظلامُها، وهذا المعنى حق لا يشك فيه. ويضاف القرب إلى الله كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2، فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء، لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهميُّ من أن ذاته تحل في المخلوقات، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته، ينْزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو مستو على عرشه، عالٍ فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو عَشِيَة عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه، ولا يعلم قدر عظمته إلا هو جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه. وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه مَن هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، كما جرى لموسى وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث، وصرحت به النصوص، حجة على الجهمي المعطل للعلو القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قَصُرَتْ عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات غرقى، لا يعرفون ربا، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بَلَّغَ الرسولُ ما أنزل إليه من ربه قراءة على الناس، وأكثره في معرفة
ـــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة البقرة آية : 186.(2/89)
الرب وصفاته، وربوبيته وتوحيده، سَمِعَه منهم قَرَوِيُّهم وبَدَوِيُّهم، خاصهم وعامهم، عربهم وعجمهم، ولم يُشْكِلْ على أحد منهم ذاك ولا شك فيه، بل آمنوا به وعرفوا المراد منه، ومضت القرون الثلاثة على إثبات ذلك والإيمان به، وتلقي معناه عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. وإن جحد بعض المنافقين فهو مدحورٌ مقهورٌ حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث وما بعده.
[الآيات في بطلان الشرك]
وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامةٌ كبرى ورِدَّةٌ صريحة، وتكذيبٌ لجميع الكتب السماوية، ورَدٌّ على كل رسول، ومخالفةٌ لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية؛ فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 3، وقال تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير لكان له شركة في الربوبية والإلهية، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} 5 الآية، فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السماوات والأرض، ولو قلَّ كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضا في القليل والكثير، ونفى أن يكون له ظهير وعون يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، والخلق بأسرهم فقراء إليه، ثم نفى الشفاعة إلا لمن أذن له.
ـــــــ
1 سورة النجم آية : 4.
2 سورة فاطر آية : 3.
3 سورة الأنعام آية : 102.
4 سورة الأعراف آية : 191.
5 سورة سبأ آية : 22.(2/90)
قال بعض السلف: هذه تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يُخْلَقُ له مُلْكٌ مَا خَلَقَهُ، ولو كان ثَمَّ خالق غير الله تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فعيسى دخل في عموم هذه الآيات، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل من النصارى، قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، فكان عيسى بكن كما كان آدم، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 6، فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده، فكفى بهذه النصوص ردًّا على من أشرك بالله وجعل معه خالقا آخر. وما احتج الملحد من قوله حاكيا عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 7، فيقال قراءة البصريين (ليهب لك) بالياء وهي تفسير للقراءة8، وعلى القراءة الأخرى نسبة الهبة إليه أنه بسبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل كما جزم به البيضاوي وغيره في هذه الآية، والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته، وربما نسب الفعل إليهم كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 9، وقال تعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} 10، وقال تعالى:
ـــــــ
1 سورة الأنبياء آية : 22.
2 سورة آل عمران آية : 6.
3 سورة البقرة آية : 21.
4 سورة آل عمران آية : 59.
5 سورة المائدة آية : 116.
6 سورة المائدة آية : 117.
7 سورة مريم آية : 19.
8 لعل أصله: لقراءة لأهب. أو للقراءة الأخرى.
9 سورة الزمر آية : 42.
10 سورة الأنفال آية : 50.(2/91)
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض الأرواح، ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 2. وأبلغ من هذا أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 3 لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار في غير آية من كتاب الله كقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 4، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 6 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 7، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد، وفي الحديث القدسي: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فلْيخلقوا ذرة، أو يخلقوا شعيرة " 8، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 9.وأكابر الخلق كالملائكة والأنبياء لم يَدَّعِ أحدٌ منهم أنه إله، وأنه يخلق كما قال في حق الملائكة :{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 10 وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11، فأخبر أن اتخاذهم
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 61.
2 سورة الزمر آية : 42.
3 سورة النازعات آية : 5.
4 سورة السجدة آية : 5.
5 سورة يونس آية : 3.
6 سورة يونس آية : 31.
7 سورة يونس آية : 31.
8 البخاري : التوحيد (7559) , ومسلم : اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/451 ,2/527).
9 سورة الحج آية : 73.
10 سورة الأنبياء آية : 26.
11 سورة آل عمران آية : 79.(2/92)
أربابا كفرٌ بعد الإسلام، وأيضا فآخر الآية وهو قوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} 1، وهو الذي قدره وقضاه. كل هذا يرد على المبطل، فَتَفَطَّنْ له هَدَاك الله، الأدلة على تَفَرُّدِهِ سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد والتدبير لا يحيط بها إلا هو سبحانه.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وأما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون، ولا يردون السلام، فهم بذلك مُخَالِفُونَ لأهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم. وإن كانوا يَرَوْنَ كُفْر من لا يوافقهم على أهوائهم، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم كلاب أهل النار. وصلى الله على سيد ولد آدم وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين، والحمد لله على التمام وحسن الختام.
ـــــــ
1 سورة مريم آية : 21.(2/93)
الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، زاده الله علما، ووهب لنا وله حُكْمًا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع ما اقتضى تأخير الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل. أما المسألة الأولى: عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1، وقول السائل: إن الرب -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء، وقد قال في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2.فالجواب -وبالله التوفيق- أن كلا من الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقهما يُصَدِّق بعضها بعضا، فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع يشفع بدون إذنه -تبارك وتعالى- وأن هذا لا يعلم الله وجوده لا في السماوات ولا في الأرض، بل مجرد زعم وافتراء، وما لا يعلم وجوده مستحيل الوجود، منفي غاية النفي. فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا بالشركاء والأنداد بقصد الشفاعة عند الله
ـــــــ
1 سورة يونس آية : 18.
2 سورة العنكبوت آية : 42.(2/94)
والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت ففيها إثبات علمه سبحانه- لكل مدعو ومعبود من أي شيء كان، ولا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة. ففي الأولى: نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال، والآية الثانية: فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه ودعوه مع الله من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير -رحمه الله- في الكلام على آية يونس: يقول -تعالى ذكره-: ويعبد هؤلاء المشركون -الذين وصفت صفتهم- الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونهم رجاء شفاعتهم عند الله، قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1 يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض ليشفع لكم فيها؟ وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون؛ وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. انتهى. وحاصله أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع، ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وَهْمٌ وخيالٌ باطلٌ لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير: يقول: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي
ـــــــ
1 سورة يونس آية : 18.(2/95)
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. انتهى. وقال أبو السعود الرومي2في قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 3 أعني: أتخبرونه بما لا وجود له أصلا؟ وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك: لعلمه علام الغيوب، وفيه تقريع لهم وتَهَكُّمٌ بهم، وبما يَدَّعُونَ من المُحَال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان. وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4: حال من العائذ المحذوف في "يعلم" مؤكِّدَة للنفي؛ لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة. انتهى. وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكلام على هذه الآية: هذا نفيٌ لما ادعاه المشركون من الشفعاء، لِنَفْيِ علم الرب - تعالى- بهم المستلزِم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا: قد علم الله وجود ذلك لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكَوَّنَهُ، ويعلم أن سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه، وصفاته، ومخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت، والتي دخلت في الوجود وبقيت، والتي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير مخلوق ولا مربوب، فالرب -تعالى- لا يعلم لأنه مستحيل في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا، ولو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل، وذاك من أعظم المحال، فكذلك
ـــــــ
1 سورة يونس آية : 18.
2 هو أبو السعود ابن العماد صاحب التفسير المشهور المطبوع في حواشي التفسير الكبير للرازي نسبه إلى الروم؛ لأنه كان شيخ الإسلام للدولة العثمانية، وكانت تسمى دولة الروم، ويلقب شيخ الإسلام فيها بمفتي الروم؛ لأن عاصمتها "القسطنطينية" وما يحيط بها من البلاد كانت بلاد الروم، وما اشتهرت باسم الدولة التركية والعثمانية إلا في القرن الماضي، والإفرنج هم الذين سموها "تركيا" ولكن أبا السعود هذا عربي الأصل، ونشأ في تلك البلاد.
3 سورة يونس آية : 18.
4 سورة يونس آية : 18.(2/96)
حُجَج الرب -تبارك وتعالى- على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا وازنت بينها ظهرتْ لك الفاصلةُ إن كنت بصيرا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 1 انتهى.
[تفسير وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء]
(وأما المسألة الثانية) عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} 2 الآية، فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي اتباعهم شركاء فجعلوا (ما) نافية و (شركاء) مفعول يتبع، أي: لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له. وأما ابن جرير فقرر أن (ما) في هذا المحل استفهامية لا نافية قال -رحمه الله-: ومعنى الكلام أيّ شيءٍ يَتَّبِعُ مَن يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا؟ والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض، :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 3 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 4 انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ظن طائفة أن (ما) هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن (ما) هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؟ ما يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. ف"شركاء": مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع، فالشركاء موصوفون في القرآن بأنهم يُدْعَوْنَ من دون الله، ولم يوصفوا بأنهم يُتَّبعون، فإنما الأئمة الذين كانوا يَدَّعُونَ هذه الآية، ولهذا قال بعدها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 5 ولو أراد
ـــــــ
1 سورة الإسراء آية : 72.
2 سورة يونس آية : 66.
3 سورة يونس آية : 66.
4 سورة الأنعام آية : 116.
5 سورة يونس آية : 66.(2/97)
أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا بشركاء؛ بل هو استفهام يبين أن المشركين الذين دَعَوْا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلا الظن، ما اتبعوا علما؛ فإن المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلا الظن، وهو الخَرْص والحزر وهو كذب وافتراء كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 1. [معنى أسألك بعقد العز من عرشك] (وأما المسألة الثالثة) عن قوله : أسألك بعقد العز من عرشك، وقول السائل ما معناه؟ فلا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المرفوعة، ولذلك اختلف الناس فيه: فكره أبو حنيفة رحمه الله- المسألة بعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي: محل العقد وزمانه، ك "مَذْهَب" يُطلق على محل الذهاب وزمانه. وربما أريد بها المفعول ك "مَرْكِب" بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقدا، والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله، وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتملٌ لمعاني متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى.
[معنى دعاء: إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني]
(وأما المسألة الرابعة) : عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ " فاعلم أن التَّجَهُّم: الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجَهْم: الغليظ المجتمِع، وجَهُمَ كَكَرُمَ جَهَامَة وجُهُومَة: استقبله بوجه كريه كَتَجَهُّمِهِ، والجَهْمَة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره، واجْتَهَمَ: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس ومن صفات الجهم...2.
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 10.
2 سقط هاهنا كلام نترك له بياضا ليضعه فيه من وجده، فإن ضاق عنه: وضع الباقي في الحاشية.(2/98)
[المراد بالنور في قوله صلى الله عليه و سلم: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات]
(وأما المسألة الخامسة) عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " 1 وقول السائل هل يفسر بهذا النور أو لا؟ فالجواب : أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم في نونيته، وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مَخْرَجَهُ من الطائف من الأول 2 بلا ريب فهو صفة ذات، وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنْفَس. وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السُّبُحَات المضافة إلى وجه الله -تعالى- فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف على ما يأتي تفسيره. وأما قوله: " حجابه النور" فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف تدل على أن الله احتجب بحُجُبٍ من النور مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من أوصاف الذات، والأصل في العطف أن يكون في المُغَايَرَة. وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه- سَمَّى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا، وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية، وقد فُسِّرَ بكونه منورَ السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور
ـــــــ
1 مسلم : الإيمان (179) , وابن ماجه : المقدمة (195) , وأحمد (4/400 ,4/405).
2 قوله: مَخْرَجَهُ من الطائف: ظرف متعلق بدعائه يقولون: فعل هذا مُنْصَرَفه من مكان كذا أو مخرجه من بلد كذا – والمعنى هنا دعاؤه "ص" وقت خرجه من الطائف.
3 سورة النور آية : 35.(2/99)
الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه- على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 1 إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن تُضِلَّنِي لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" فأخبرصلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله، كما أخبر -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه : " ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها: أنه هادي أهل السماوات والأرض. وأما من فسرها: بأنه مُنور السماوات والأرض، فلا تنافيَ بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: أن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " 2 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ " 3 قال شيخ الإسلام: معناه كان ثَمَّ نورٌ، أو حَالَ دون رؤيته نورٌ، وأَنَّى أراه؛ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: " رأيت نورا" ، وذكر الكلام في الرؤية ثم قال: 4 ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 69.
2 مسلم : الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405).
3 مسلم : الإيمان (178) , والترمذي : تفسير القرآن (3282) , وأحمد (5/157 ,5/170 ,5/175).
4 يعني ابن القيم.(2/100)
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " حجابه النور " 1 فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر " رأيت نورا " 2.وأما السبحات فهي نور الذات المقدسة العلية،وهي النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه -تعالى- احتجب بهذا النور المذكور،وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري -تعالىوتقدس-،وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: " رأيت نورا " 3 وقد احتجب -سبحانه وتعالى- بحجب عن خلقه من نور،ومن غيره كما ذكر في آثار مروية عن السلف جمع كثيرا منها السيوطي في كتاب الهيئة السنية، وإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم جازت الاستعاذة بها لأنهاوصف ذات. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم -رحمه الله- قول ابن الأثير: سبحات الله -جل جلاله- عظمته،وهي في الأصل جمع سبحة،وقيل: ضوء وجهه، وقيل سبحات وجهه محاسنه، وقيل: معناه تنْزيهه له أي سبحان وجهه، وقيل: إن سبحات الوجه كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها لأحرقت كل شيء أبصرت. (قلت): يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به،ولذلك قال: لو كشفها، قال: وأقرب من هذا أن المعنى لو انكشف من أنوار الله -تعالى- التي تحجب العباد شيء لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور كما خر موسى صعقا،وتقطع الجبل دكا لما تجلى الله -سبحانه وتعالى-، ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل قال: لله دون العرش سبعون حجابا
ـــــــ
1 مسلم : الإيمان (179) , وابن ماجه : المقدمة (195) , وأحمد (4/400 ,4/405).
2 مسلم : الإيمان (178).
3 مسلم : الإيمان (178).(2/101)
لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجهه. انتهى. ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى "حجابه النور – أو النار": إن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال1.
[معنى قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} ]
(وأما المسألة السادسة) عن قوله –تعالى- في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 2، وقول السائل: وهم لم يدخلوا فيها، فاعلم أن هذه المسألة شاعت، وذاعت، واشتهرت، وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم، ويقهرونهم، ويدعونهم إلى العود في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم
ـــــــ
1 قد أوجز -رحمه الله تعالى-،واختصر في هذه المسألة حتى فيما نقله عن المحقق ابن القيم،وقد حققنا مبحث النور،والحجب الإلهية في الكلام على رؤية الرب -تعالى- من تفسير آية الأعراف (7: 142) فقد بلغ الكلام في تفسيرها زهاء سبعين صفحة،ونقلنا في بحث النور،والحجب منها كلاما نفيسا لابن القيم من مدارج السالكين،ومن الوابل الصيب،ووضحناه بما يزيل إشكال من استشكله،ونبهنا في إيضاحه إلى الحاشية الوجيزة التي علقناها على عبارة الوابل الصيب من مجموعة الحديث النجدية، أردنا منها أن آخر ماوصل إليه علماء الكون في النور،والتكوين يؤيده،ويؤيده مذهب السلف،ويبطل قاعدة المتأولة الذي أولوا النور في الآيات،والأحاديث ثم قلت بعد هذا:وقد علمنا أن بعض الذين اطلعوا على هذه الحاشية في مجموعة الحديث لم يفهموها، فاضطربوا فيها،ولهم العذر فإنها على غرابة موضوعها مبهمة لم توضح المقام لأمثالهم كما كان يجب" اهـ فليراجع البحث كله في الجزء التاسع من تفسيرنا .
2 سورة الأعراف آية : 88.(2/102)
في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه. وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كانت الرسل قبل الرسالة، وأنهم كانوا أغفالا قبل النبوة، أي: لا علم لهم بما جاءهم من عند الله.قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم. وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج وابن الجوزي والثعلبي والبغوي، فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى لتصيرن، ولتدخلن، وجعلوه بمعنى الابتداء، لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان، وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إليّ لقد عادت لهن ذنوب
وكقوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه ... يحور رمادا بعد ما كان ساطعا
وقول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء.
وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأن قومهم كانوا في ملة الكفر، فغلب الجمع على الواحد؛ لكن تعقب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فقال:وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم 1 وأما جعلها بمعنى الابتداء، والصيرورة فالذي في الآيات الكريمة عود مقيد بالعود في ملتهم، فهو كقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " العائد في هبته كالعائد في
ـــــــ
1 المراد آية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ،ولم يتكرر فيها ذكر العود كآية الأعراف .(2/103)
قيئه " 1.وقوله: " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " 2 وقوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك؛ ولا يقال: إن العود في مثل هذا يكون عودا مبتدأ، وما ذكر من الشواهد فأفعال مطلقة ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه.قال: ولهذا يسمى المرتد عن الإسلام مرتدا، وإن كان...4.ولو على الإسلام، ولم يكن كافرا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم: إن شعيبا والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك، وأما العقل ففيه نزاع، والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك.وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: وقال كثير منهم، ومن أصحابنا، وأهل الحق: إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا، أو مصيبا للكبائر قبل بعثته، قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك على ما نبين القول فيه، ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال:
[بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة]
(فصل في بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة)
قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول،وظهور الأعلام عليه اقتضى ودل لا محالة على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله، وأنه مؤد عنه دون غيره لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة، فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنّزاهة والإقلاع عما كان
ـــــــ
1 البخاري : الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621) , ومسلم : الهبات (1622) , والترمذي : البيوع (1298) , والنسائي : الهبة (3693 ,3694 ,3695 ,3696 ,3697 ,3698 ,3699 ,3700 ,3701 ,3702 ,3703 ,3704 ,3705) والرقبى (3710) , وأبو داود : البيوع (3538) , وابن ماجه : الأحكام (2385) , وأحمد (1/217 ,1/237 ,1/250 ,1/280 ,1/289 ,1/291 ,1/327 ,1/339 ,1/342 ,1/345 ,1/349).
2 البخاري : الإيمان (21) , ومسلم : الإيمان (43) , والترمذي : الإيمان (2624) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه : الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/278 ,3/288).
3 سورة المجادلة آية : 8.
4 بياض في الأصل .(2/104)
عليه لا يمنع بعثته وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام. ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: إن الله –سبحانه وتعالى- إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2 وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه، واجتناب ما يعرفون قبحه، وقد قال -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً} 3. ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لا يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف؛ فإن هذا الثاني لا يذمونه، ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفردا عنه بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكر –سبحانه- في قصة شعيب، والأنبياء فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم، وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يزل معروفا بالصدق، والأمانة، ومكارم الأخلاق، ولم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يكن يذكر عن أحد
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 124.
2 سورة الحج آية : 75.
3 سورة الإسراء آية : 15.(2/105)
من المشركين عدَّ هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا هذا للرسل؛ لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي به إلينا، ولكنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} 1، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2. (قال): وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر. والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم لهذا فضلا عن أن تقر به، فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم، بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون. (قلت): وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة، ثم قال -تعالى-: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3، وقال -تعالى-: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 4، فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي، واستدل على هذا بآيات إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبيناصلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 5، وفي قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 6، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 7، وما تنازعوا في معنى آية الأعراف وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم، وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 10.
2 سورة إبراهيم آية : 11.
3 سورة غافر آية : 15.
4 سورة النحل آية : 2.
5 سورة يوسف آية : 3.
6 سورة الشورى آية : 52.
7 سورة الضحى آية : 7.(2/106)
الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام، وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر، وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة، وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان قال: فهذا من جنس الشرك لا يقال قط في شريعة بحلها كما كانوا يتزوجون المشركات أولا.(قال: والقول الثاني): إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم،وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم، وأما قبل محمد، فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 1 أنه أعانه، وأقامه على غير الطريق
ـــــــ
1 سورة الضحى آية : 7.(2/107)
التي كان عليها. هذا قول الحسن والضحاك، قال: والضلال يختلف فمنه القريب، ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز بين المهيع... 1. ضلال قريب لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة بل كان يرتاد، وينظر.
حفظ الرسول -عليه السلام- من مفاسد الجاهلية
(قال): والمنقول أنه -عليه السلام- كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهي خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه:" فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما أساف، والآخر نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: لا تمسحهما فإنهما رجس، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى انظر ما يقول، فمسستهما فقال: يا زيد ألم تنهه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح. والحديث معروف قد اختصره البيهقي، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة: والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله بالذي أكرمه. وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه و سلم: " لا تسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط " . وكأن الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية،ولم يكن يشهد مجامع لهوهم،وكان إذا هم بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا. وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزهه الله عن ذلك كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة: " فنودي: لا تكشف عورتك فألقى الحجر، ولبس ثوبه "
ـــــــ
1 بياض بالأصل .(2/108)
1 . وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله - عزوجل- قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة، ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره؛ فهذا كان عامتهم يعرفونه، ويقرون به فكيف لا يعرفه هو، ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة، وتغير العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، والله –سبحانه- إذا أهّل عبدا لأعلى المنازل والمراتب، رباه على قدر تلك المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبينا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم، والفواحش صغيرها وكبيرها، أن يكون كل نبي كذلك، ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا -صلى الله عليه وسلم-وفضائله لا تناقض من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم. وهذا أصل يجب اعتباره، وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله، والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قومه لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر. (قلت): وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل وعدم الاحتياج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها، وأن قصارى ما يقال
ـــــــ
1 أحمد (5/454).(2/109)
في مثل قوله لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 1، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 2، هو عدم العلم بما جاء من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية. وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال، وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة]
[والفرق بين صفات المعاني والمعنوية]
وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن عون نزيل عمان، وسبب ذلك أوراق ألقيت إلى حضرة الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-، وحاصلها التلبيس والتشويش على عوام المسلمين، فأجابه -رحمه الله تعالى- بما كشف عن قناع هذه الشبهة الباطلة، والتمويهات التي هي عن الصراط السوي مائلة، مع أن صاحبها من الجهلة الطغام، ومن جملة سائمة الأنعام، وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من : عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم : محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره، وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم أو نافق أو ارتد من أهل دهره، وعصره، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه، والخط وصل-وصلك الله إلى ما يرضيه-، ويسرنا سلامتكم، وعافيتكم، وما ذكرت صار معلوما. والواجب على المكلفين في كل
ـــــــ
1 سورة الضحى آية : 7.
2 سورة الشورى آية : 52.(2/110)
زمان ومكان الأخذ بما صح،وثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره. ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول. فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ. فإن كان المكلف أنزل قدرا وأقل علما وأنقص فهما من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه أو من قبلهم خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جدا. ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين ليلبس بها، ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين، وبالوقوف على أوراقهم يعرف المؤمن حقيقة حالهم بعد ضلالهم،وكثافة أفهامهم، وأنه ملبوس عليهم لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه فضلا عن أن يدينوا به، ويلتزموه، وأسئلتهم ما وقعت لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه والتحلي بالرسم والوهم، ومن السنن المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها. وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -قدس الله روحه- التشديد في هجرهم وإهمالهم وترك جدالهم واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم وذمهم وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة مثل كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة لأبي القاسم اللالكائي وأمثالهم،(2/111)
فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم، لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد،وانطمست أعلامه، قال في الكافية الشافية:
فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذرا عليك مصايد الشيطان
فشباكها,والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران
ألا رأيت الطير في شبك الردى ... يبكي له نوح على الأغصان
إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد بسؤال يدل على إفلاسه من العلم،ويشهد بجهالته وضلالته،وهو قوله: الرؤية ثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال والجمال والكمال؟ ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته وإلهيته وربوبيته من جلال وجمال وكمال،وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك والمجد والسلطان والعزة، والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك. والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى، فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد والعزة التي لا تضاهي ولا تماثل؛ فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال. وإنما يقال: تجلى بالجلال والمجد والعزة والسلطان إذا ظهرت آثار تلك الصفات، كما يقال: تجلى بالرحمة والكرم والعفو والإحسان إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم، ويستحيل أن يرى -تعالى- وقد تخلف عنه صفة جلال وجمال وكمال. ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الرؤية وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل؛ لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه. أما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني والمعنوية، فهذه الكلمة لو(2/112)
فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر،ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني، وما هو من الصفات المعنوية. وهذا التقسيم يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم، فلسنا منهم في شيء. والعلم آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة متبعة، وما سوى ذلك هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه؛ والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبادات المبتدعة.
[لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله]
ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة، أن الله -تعالى- لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب -تبارك وتعالى- به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم. والله أكبر وأجل وأعظم في صدور أوليائه وعباده المؤمنين من أن يتكلموا في صفاته بمجرد آرائهم واصطلاحاتهم وعبارات متكلمهم.وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطية أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته -تعالى- لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف أي المعاني الموصوفة فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات.
[الاعتبارات والوجود الأربع]
(وأما قوله): وأما الاعتبارات الأربع؛ فهذه كلمة ملحونة أعجمية،والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع، والحكم معروف في باب العدد 1، وأما معناها فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح
ـــــــ
1 يعني أنها جمع اعتبار،وهو مذكر فيؤنثوصفه .(2/113)
في السؤال، فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة من جهة لفظه وإفراده وجمعه وتصحيحه وكسره وضربه وطرحه، وتجري الاعتبارات الأربعة، فما فوق في أبوب الفقه من كتب الفروع من كتاب الطهارة إلى أبواب العتق والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها باختلاف عباراتها. وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب ودرجات يطلق عليها لفظ الاعتبارات. وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية.فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان والأذهان واللسان والبنان، وقد يراد بها غير ذلك من مراتب وجود العلم أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي. وكذلك الجهل له مراتب أربع، فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما إما في السمعيات أو العقليات؛ وكذلك الأخبار قطعية، وظنية.وبالجملة فالاعتبارات الأربعة والوجود ونحو ذلك تقع على كل ما تناله العبارة ويصدق عليه اللفظ في أي فن وأي حكم. فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود باعتبار صفاته –تعالى-، قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود يختلف باختلاف المقاصد والاصطلاح، وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة.
[الفرق بين الدليل والبرهان والعهد والميثاق]
وأما الفرق بين الدليل والبرهان، فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته،والبرهان ذكر الحجة بدليلها. وأما الفرق بين العهد، والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد.قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاًّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1، وقال -تعالى-: {لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} 2، وقال -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 83.
2 سورة المائدة آية : 12(2/114)
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 1.وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 2، وقال - تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} 3 إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} 4، وطالع عبارات المفسرين. وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها.إذ لا يعلمها إلا الله، قال -تعالى-: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} 5. وكل رسول يؤخذ عليه وعلى قومه العهد، فكيف يسئل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب.نعم ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء وعلى الأمم كبني إسرائيل وعلى بني آدم كافة كما في آية يس، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف محصور. (وأما قوله): وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية جاهلية، فالله عهد إليهم، ولم يعاهد هو، بل هم عاهدوه كما قال –تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} 6، ولم يقل عاهدهم الله أبدا فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو؛ فاعرف جهل السائل وعجمته. (وأما قوله): وكم من تعلقات للقدرة والإرادة والعلم والكلام؟ فاللفظ أعوج ملحون.لا تأتي "من" بعد كم الاستفهامية أبدا.والرجل غلبت عليه العجمة في الفهم والتعبير، فإن أريد بالتعلق كون الأشياء بالقدرة والإرادة والعلم والكلام، فأي فرد من أفراد الكائنات يخرج عن هذا ولا يتعلق به؟
[علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب]
(وأما قوله): وما علة نفي الحروف السبعة من فاتحة الكتاب؟ فهذا عدم لا نفي، والعدم لا يعلل، فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص مثلا، أو من بسم الله الرحمن الر حيم؟ لأن المعنى المراد
ـــــــ
1 سورة يس آية : 60.
2 سورة النحل آية : 91.
3 سورة آل عمران آية : 81.
4 سورة آل عمران آية : 81.
5 سورة النساء آية : 164.
6 سورة التوبة آية : 75.(2/115)
حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة؛ والعدم لا يعلل، وإن علل فعلة عدمية. والسائل رأى كلمات مسطورة، فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة، وإنما هي جهالات وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1.هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة.
الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن محمد الشثري -رحمه الله- جوابا على سؤاله عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا ؟ فأجابه –رحمه الله بما نصه- :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: صالح بن محمد الشثري -سدده الله فيما يعيد ويبدي-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل، وصلك الله إلى ما يرضيه، وتقبل دعواتك، وتجاوز عن سيئاتي وسيئاتك، وسرنا بالأخبار عن عافيتك، وسلامتك. ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات. وتسأل -رحمك الله- عن تفسير السبحات بالنور
ـــــــ
1 سورة النور آية : 39.(2/116)
هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات. وأما التأويل بالمعنى الأخص عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه لأنهم أولوا النور الذي هو اسمه وصفته بما يرجع إلى فعله وخلقه،وليس هذا منه. وقد فسرت السبحات بالعظم لأن أصل السبحة من التنْزيه والتقديس، وفسرت بضوء الوجه المقدس، وفسرت بمحاسنه لأن من رأى الشيء الحسن، والوجه الحسن سبح بارئه وخالقه. وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه. وقيل: سبحات وجهه في الحديث جملة معترضة، يريد قائل هذا إسناد الفعل إلى الوجه المنزه حكاه ابن الأثير،وقال: الأقرب أن المعنى لو انكشف من أنواره التي تحجب العباد شيء، لهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا،وتقطع الجبل -تجلى سبحانه وتعالى-، وهذا لا يبعد إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي1 لما. وصلى الله على محمد، وبلغ سلامنا الشيخ عبد الملك والأخ حمد وعيالكم، ولا تنسنا من صالح الدعاء في هذه الليالي المباركات، والعيال بخير، وينهون السلام.
ـــــــ
1 أي ما ظهر له في ذلك الوقت، أو بالنسبة إلى حال السائل .وقد سبق له بحث طويل في النور الإلهي والسبحات والحجب في الرسالة الخامسة عشرة في صفحة 99 .(2/117)
الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله]
وله -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة جوابا لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري.
(الأولى) فيمن آمن بلفظ الاستواء،ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء.
(الثانية) عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة.
(الثالثة) عن الفطرة عن صوم رمضان.
(الرابعة) عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن.
(الخامسة) عن الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته،ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.
(السادسة) البداءة بالسلام على الكافر.
فأجاب بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: محمد بن راشد الجابري -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والسؤالات وصلت:
(أما السؤال الأول) فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء، فهذا جهمي معطل ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وهذا القول هو المعروف عند السلف عن جهم وشيعة الجهمية، فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن كالاستواء وغيره من الصفات، وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد. وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان تلميذ الجعد(2/118)
بن درهم، وكان الجعد قد سكن حران، وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك؛ حتى إن خالد بن عبد الله القسري أمير واسط في خلافة بني أمية قتل الجعد،وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. ثم نزل فذبحه، وشكره على هذا الفعل وصوبه جميع أهل السنة. وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة والتكليم والاستواء ونحو ذلك من الصفات لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته. ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه. ولو عرفوا أن ما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات، لو عرفوا هذا لسلموا من التعطيل،وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال، وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم -كما قال بعض العلماء- لا يعبدون واحدا أحدا فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما. وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه جهم بن صفوان، ولذلك يسمى أهل هذا المذهب عن السلف وأئمة الأمة جهمية نسبة(2/119)
إلى جهم، ثم أعلن به، وأظهره بشر المريسي وأصحابه في أوائل المئة الثالثة؛ لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم، وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا، وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب. وجرى على إمام السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان، وأعظم بلية، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله حتى أجيبكم إليه، فيأبون، ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة العقلية الصريحة؛ وصنف في ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم. والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضُلّال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم. وقد جمع اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة"، ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل قدم به عبد الله بن معيذر عام اثنين وسبعين، وهووقف على طلبة العلم الشريف.
[بدعة الجهمية وفتنتهم لأهل السنة]
إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل عصر ومصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي جاء بها الكتاب والسنة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وماوصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم(2/120)
من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تشبيه، لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة؛ فإن الله -تعالى- أعظم وأجل وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته بمجرد عقولهم وآرائهم وخيالات أوهامهم، بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم، ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الاستواء وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم. وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وظنه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة، وسبب ذلك هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف. قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه، فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم أن يبحث عن مذهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمدصلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة. قال -تعالى-: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية : 2.
2 سورة الأنعام آية : 155.(2/121)
تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة.وإن كان نظر العبد وميله إلى كلام اليونان، وأهل المنطق والكلام،ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه. ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.
[كفر من جحد الاستواء وتأوله بما يخالف النصوص ]
وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به فهو أيضا كافر، وكفره أغلظ وأفحش مِنْ كفر مَنْ قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله. ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه و سلم، والجهمي يوافق على كفر هذا؛ ولا يشكل كفر هذا على من عرف شيئا من الإسلام قال -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1 أي بالقرآن. وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش، فقد قدمنا أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون، وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهيا.قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا يوصف الله -تعالى- إلا بماوصف به نفسه، ووصفه به رسوله، انتهى، وذلك لعلمهم بالله، وعظمته في صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم جلاله. ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلووالارتفاع والفوقية فهو قول باطل ضال قائله مخالف للكتاب والسنة،
ـــــــ
1 سورة هود آية : 17.(2/122)
ولإجماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله.وإن لم يرد هذا المعنى بل أثبت العلو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما.فهذا اللفظ 1 لا يجوز نفيه ولا إثباته، والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية وترك المتشابه. وأما من يقول: إذا قلتم: "إن الله على العرش استوى" فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟ فجوابه أن يقال: أما كيف كان، فقد أجاب عنها إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه. فأخبر –رحمه الله- أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات؛ وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته وعظم جلاله. وعقول العباد لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر. وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان، فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير. ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره، واصف؟
ـــــــ
1 يعني قوله: "استوى من غير مماسة للعرش" فإن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية،وإثباته باطل لفظاومعنى .
2 سورة طه آية : 5.(2/123)
لأنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد قال بعضهم: 2 مخاطبا للزمخشري منكرا عليه نفي الصفات شعرا:
قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر العقول فذا شرح يطول
أنت لا تفهم إياك,ولا ... من أنت ولا كيف الوصول
لاولا تدري خفايا ركبت ... فيك حارت في خباياها العقول
أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول
أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تجول
فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول 3
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النّزول
وبالجملة فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه، وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى،وهو يسمع إثبات الاستواء في سبعة مواضع من القرآن.
[إبطال ايرادات على الاستواء على العرش]
وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها مرفوعا من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: " يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 14.
2 المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله .
3 الرواية التي نحفظها: بها أنت جهول بدل: كذا فيها ضلول .(2/124)
عماء، ما فوقه هواء،وما تحته هواء" 1 انتهى الحديث. فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه، والعماء هو السحاب الكثيف.قال يزيد بن هارون إمام أهل اليمن من أكابر الطبقة الثالثة من طبقات التابعين، ومن سادتهم: معناه ليس معه شيء. وأما قول السائل:2 ...وفي زعم هذا القائل أنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش؛ فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب –تبارك و-تعالى- إلى شيء من خلقه؛ فإنه -سبحانه تعالى وتقدس- هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته. والمخلوقات بأسرها، العرش فما دونه، فقيرة محتاجة إليه -تعالى- في إيجادها وفي قيامها لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال - تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 3. والسماء اسم لما علا وارتفع، فهو اسم جنس يقع على العرش، قال - تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 4 الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} 5 الآية6، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة إلى بارئهم وفاطرهم. وقد قرر –سبحانه- كمال غناه، وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته في الرد على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم والشرك الوخيم، قال –تعالى-: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 7 الآية. وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات. ولا
ـــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه : المقدمة (182) , وأحمد (4/11 ,4/12).
2 لم يذكر مقول القول،والظاهر أنه سقط من الناسخ هنا "وفي أي مكان" فإنه تتمة الأسئلة،والجواب رد له .
3 سورة الروم آية : 25.
4 سورة الملك آية : 16.
5 سورة فاطر آية : 41.
6 أي اقرأ الآية في هذا،وهي {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}
7 سورة يونس آية : 68.(2/125)
يظن أحد يعرف ربه، أو شيئا من عظمته وغناه ومجده أنه محتاج إلى العرش وغيره، وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله بنظره في كلام الجهمية وأشباههم حتى اجتالته الشياطين؛ فلم يبق معه أثارة من علم ولا نصيب من فهم؛ بل استواؤه على العرش صفة كمال وعز وسلطان، وهو من معنى اسمه الظاهر، ومعناه الذي ليس فوقه شيء، والعلو علو الذات وعلو القهر وعلو السلطان، كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم قال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1. وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم؛ حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة إلى ما فهمه سلف الأمة مما ينزه الرب –تبارك وتعالى- عنه.
[رفع اليدين بالدعاء في الصلاة]
(وأما مسألة) رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من السنن المتعلقة بالصلاة كما يظنه بعض من لم يعرف السنة؛ فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة.
[الفطرة عن صوم رمضان]
وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي إلا صاع كامل من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وابن عمر وغيرهما، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب، وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد، أي
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 68.(2/126)
قوت كان كالذرة والأرز ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي البر (يجزي) عن صاع من غيره، وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأيا له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم.
[الابتداء بفاتحة الكتاب عند تلاوة القرآن]
وأما الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة (قل هو الله أحد) في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " سلوه لم فعل ذلك؟ فقال: إني أحبها لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه" ؛ فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا أو يشابهه فلا حرج عليه. وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه فهذا يعرف بالسنة،ويخبر بها أنها إنما ابتدئت بها القراءة في الصلاة لا في سائر أحوال التلاوة.
[مخالطة أهل الشرك والبدعة لدعوتهم للإسلام]
وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والاعتزال، ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك؛ فلا حرج عليه بل ربما تأكد واستحب. وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى(2/127)
حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في إحدى تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم ما رأوه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل؛ إنهم لو تركوا هذا لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم.
[مبادأة الكافر بالسلام]
وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة، وفوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد. والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية والآثار السلفية يعرف ذلك، ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 1، وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} 2. والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان. وقد مرصلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود،وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاه إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس
ـــــــ
1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة الحج آية : 78.(2/128)
لكنه يكون مباركا أينما كان، داعيا إلى الله مذكرا به هاديا إليه، كما قال عن المسيح -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي: داعيا إلى الله مذكرا به معلما بحقوقه. فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره وساعاته وخلطته ومجالسته، ونسأل الله العظيم لنا ولكم علما نافعا، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعا. أسأل الله العظيم أن يغفر زلتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه، وعفا عنه- رسالة إلى عبد الله بن معيذر، وكان قد بلغ الشيخ أنه يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة؛ وكان كتاب الإحياء مشتملا على ما يمج سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر منه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين. وبعد، فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق
ـــــــ
1 سورة مريم آية : 31.(2/129)
من ريح عاتية أو صيب، فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية،والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له، فكتبت إليه كتابا فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة، وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب المسمى بالإحياء؛ ليكون الطالب على بصيرة من أمره؛ ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول.
وصورة ما كتبت أولا:
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ: عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية،وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله -تعالى- وأوجب على عباده أن يتبعوا الرسول، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا(2/130)
الفلسفة لحاء الشريعة؛ حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها،.بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة،وهي عند ابن عقيل زندقة،وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية.وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين. وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج؛ فلم يحسن. وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة،ومشايخنا –تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن،وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك. وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي، وأنت قد خالفت، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم المنتسبين إلى السنة. ما أقبح(2/131)
الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، ويأمر بالإعراض عن هذا الشان، كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة. وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك، وحركك، فلسفة منتنة وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام –أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب من أيديكم، ويلزمكم بكتب السنة من الأمهات الست وغيرها،والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، انتهى.
[أقوال المنكرين على الغزالي]
ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد، فمن ذلك قول الذهبي في ترجمته للغزالي: وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر إلى أن قال: ثم حكي عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف بحيث يشغله عن كل شيء... إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف بأنه ما مارسه، ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور، والمسائل بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال، ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن(2/132)
العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل.قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه. حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقاياها فما استطاع، انتهى. ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالغرب،وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها فامتثل ذلك. انتهى. ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي المتهم بالتشيع في كتابه (رياض الأفهام) قال: ذكر أبو حامد في كتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" 1 أن عمر قال: بخٍ بخٍ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.قال أبو حامد:وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة وعقد البنود وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلافة {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 2. وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعم الإمامية. قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا؟ الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق (قلت): هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب. (قلت): ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض أن ما ينسب إلى هذا الرجل
ـــــــ
1 الترمذي : المناقب (3713) , وأحمد (1/118 ,4/368 ,4/370 ,4/372).
2 سورة آل عمران آية : 187.(2/133)
لا يغتر به، ويجب هجره وإطراحه؛ لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت،وكشف عوراتهم،ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق أو موافق للملة. ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب حرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف. فالحذر الحذر من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاةوالفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق.فبحسن قصد العلم يغفر له، وينجو إن شاء الله.
[ما أنكره أهل الأثر على الغزالي]
وقال أبو عمر بن الصلاح: (فصل) في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد، ففي تواليفه أشياء لم يرضها أهل مذهبه من الشذوذ (منها) قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود.إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. فأما (كتاب المضنون به على غير أهله)، فمعاذ الله أن يكون له.شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهر زوري أنه موضوع على الغزالي،وأنه مخترع من كتاب (مقاصد الفلاسفة)، وقد نقضه الرجل بكتاب التهافت. وقال أحمد بن صالح الجيلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب (الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء) للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله،(2/134)
وأباد الباطل وأزاله.ثم أورد المازري أشياء مما تنقده على أبي حامد يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيها أثر ما أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل 1 كقوله: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن2 وأن السموات على أصبع 3" وكقوله: " لأحرقت سبحات وجهه 4" وكقوله: " يضحك الله" ، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة ظاهرها مما أحاله العقل5 – إلى أن قال: فإذا كانت العصمة غير
ـــــــ
1 قوله: إلى طلب التأويل إلخ كلام باطل مستدرك مردود على قائله فالذي درج عليه السلف الصالح،وأهل التحقيق من أهل العلم أن هذه الأحاديث تجري على ظواهرها،ولا يتعرض لها بتأويل، فمن تأولها فقد سلك غير سبيل المؤمنين،ونحا طريقة المتكلمين المتكلفين الحيارى المفتونين، فعليك بما كان عليه السلف الصالحوالصدر الأول،والله أعلم .سليمان بن سحمان .انتهى من حاشية الأصل .
2 الترمذي : القدر (2140) , وابن ماجه : الدعاء (3834).
3 البخاري : تفسير القرآن (4811) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378).
4 مسلم : الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405).
5 وهذه الأحاديث وأشباهها لا تحيلها العقول السليمة، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته،ولا في أسمائه وصفاته،وهو على كل شيء قدير، بل نقطع على أنها حق على حقيقتها،ولا نتعرض لها بكيف ولا تأويل، بل نصف الله بماوصف به نفسه،ووصفه به رسوله،ولا نتجاوز القرآن والسنة،والله أعلم .سليمان بن سحمان .انتهى من حاشية الأصل .(2/135)
مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله فيتأول ... إلى أن قال: ألا ترى لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية مذهبه في قدم الصوت والحرف وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ إذا قرأ كتاب الله عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا، وقال بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية. وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمد القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشانيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشره أحكامها؟ قال أبو حامد: وأدنى1 من هذا العلم التصديق به،وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا.فأعرض من قوله على قوله: ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به، ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر. وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار،ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظا،
ـــــــ
1 بياض بالأصل .(2/136)
ونقل عن بعضهم قال: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام. قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام،وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن حمد: ثم قال الغزالي: القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. وقال الغزالي: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ماوردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقا، فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقا، ثم فسره الغزالي فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فيجلس فارغ القلب مجموع الهم، يقول: الله الله الله على الدوام فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم، ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: (يا أيها المزمل – يا أيها المدثر). قلت؛ إنما سمع شيطانا أو سمع شيئا لا حقيقة له من طيش دماغه، والتوقيف في الاعتصام بالكتاب والسنة والإجماع. قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه.شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق.(2/137)
أقوال العلماء في الغزالي
قال ابن عساكر: حج أبو حامد وأقام بالشام نحوا من عشرين سنة ونصف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين. وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسة ببغداد في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين سلطان مراكش فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، المنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء، انتهى. وقال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي سمعت عبد الله بن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية سنة خمسمائة كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابد ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام،وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد. قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، قال: وليس في قدرة الله -تعالى- أبدع من(2/138)
هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع وأحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال:والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: وهذه وهلة لا لعا بها ومنزلة لا تمسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد إلا بقوله. ومما أخذ عليه قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه، فأي سر للقدر؟ فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عني بإفشائه إن تعمق في القدر، وبحث فيه. قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم: أنبأنا أبو حسن السخاوي أنبأنا: خطاب بن قمرية الصوفي: أنبأنا سعد بن أحمد الإسفراييني بقراءتي: أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد، وفعل الطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه كأنه ينظر في كتب الغزالي؛ فإذا هي كلها تصاوير.(2/139)
وقال أبو الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد فقد رأيته، وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل، والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين. ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد أن يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات. قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول –صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا،ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: " من رغب عن سنتي فليس مني "1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى.
ملخص حال الغزالي
ولمحمد بن علي المازني الصقيلي كلام على الإحياء قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم
ـــــــ
1 البخاري : النكاح (5063) , ومسلم : النكاح (1401) , والنسائي : النكاح (3217) , وأحمد (3/241 ,3/259 ,3/285).(2/140)
أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبوني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا أن هذا رأيت تلامذته فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الإشارات والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف. (ثم قال): وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها؛ وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في علم الأصول فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا ينزعها شرع. وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة،وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره 1 ورأيت هذا آخر الموجود من الرسالة.
ـــــــ
1 هذا قول مقتضب محرف من كلام المازري، وقد استوفاه الأخ السبكي في طبقاته، ورد عليه وعلى الطرطوشي، فأما أبو حامد فقد رد على الفلاسفة ردا لم يسبقه مسلم إلى مثله . ورسائل إخوان الصفاء، ويعزوها شيخ الإسلام إلى الباطنية، وقد ألف أبو حامد عدة كتب في الرد عليهم لم يسبقه إلى مثله مسابق، ولم يلحقه لاحق، وليس كل ما في كل هذه الرسائل خطأ، ولا أبو حامد بالبليد الجاهل الذي يقلد صاحب كل كتاب يقرأه، ولماذا لم يذكر عكوفه بعد ذلك على البخاري ومسلم وموته على ذلك؟ فالحق في أبي حامد، والإحياء ما أبينه ملخصا: ==(2/141)
.......................................................................................................
ـــــــ
== الحق أن أبا حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- كان من نوابغ علماء الملة وأنصار الدين الداعين إليه والمدافعين عنه؛ ولذلك لقب بحجة الإسلام،وقيل هذا اللقب الخاص والعام إلا الخصوم الذين لم يسلم نابغ منهم. ولإخلاص أبي حامد لله -تعالى- في علمه، وعمله جعل خاتمته خيرا من بدايته، فقد كانت عنايته أولا بالفقه، وأصوله، ثم بالمعقولات، وهي علم الكلام، وما يتعلق به من المنطق والفلسفة، ثم بالتصوف علما وعملا ورياضة، وأما خاتمته فكانت بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على صحيحي البخاري ومسلم، والأخذ بمذهب السلف الصالح فيها. وأما كتابه الإحياء فقد ألفه في أثناء تصوفه، وكان يعتمد فيما ينقله فيه من الأحاديث، والآثار على كتب الحديث، وكتب التصوف من غير بحث في الروايات، وتمييز الصحيح وغير الصحيح منها، فوقع فيه كثير من الروايات الضعيفة والموضوعة، وكثير من نظريات الفلسفة التي رآها موافقة للدين، وما كل ما في الفلسفة –ولا سيما الأدبية منها – مخالف للدين، ولا أكثرها أيضا . فكان خصومه يشنعون عليه بهذا وذاك. فأما المحدثون فقد شنع عليه بعضهم بذكر ما لا يحتج به من الأحاديث والآثار، وأجيب عنه بأنه لم يكن منفردا بذلك، فأكثر المؤلفين في الفقه والتصوف والأدب والتاريخ قد وقعوا في مثل ذلك؛ لأنهم لم يكونوا من نقاد الحديث، ولا من حفاظه، بل وقع في بعض كتب المحدثين روايات واهية وموضوعة، لم ينبهوا عليها، بل منهم من صحح بعضها كالحاكم على جلالة قدره . ولم يشنع أحد من هؤلاء الخصوم على هؤلاء، ولا أولئك كما شنعوا عليه مع العلم بأنه هو لم يضع حديثا، ولم يدّع تصحيح ما لا يصح. وأما التشنيع عليه ببعض المسائل الكلامية والفلسفية والصوفية فالعبرة فيها بإقامة الدليل على بطلان كلامه فيها، وقد رأينا أن العلامة صاحب هذه الرسائل قد عني بنقل كل ما اطلع عليه من الطعن في الغزالي، ولم نر فيها إلا عبارات قليلة منكرة كمبالغته في مدح علم المنطق، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان . وقد ذكرها عنها بتعبير شنيع، لا أدري أقاله أم هو نقل لعبارته هذه بالمعنى، وقد أجاب عنها كثير من العلماء أجوبة تنطبق على قواعد الشرع، وردّها بعضهم بكل حال، وهؤلاء لم ينكروا على غيره من المخالفين لظواهر النصوص في التصوف بالشدة التي أنكروا بها على أبي حامد، بل أولوا لغيره ما لا يقبل التأويل، وما هو كفر صريح، بل نرى كل طائفة ترفق بمن كان منها فيما يخالف اعتقادها،وتتأول له كما فعل الحافظ الذهبي، والمحقق ابن القيم في الإنكار على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي المحدث السلفي الصوفي، فالأول تمنى لو لم يؤلف كتاب "منازل السائرين" في التصوف، والثاني تأول له بعض العبارات المخالفة لظواهر الكتاب والسنة وهدي السلف؛ حتى ما أنكره عليه شيخه شيخ الإسلام من أبياته الشهيرة في حقيقة ==(2/142)
.......................................................................................................
ـــــــ
== التوحيد عند الصوفية: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد وكلهم يلقبونه بشيخ الإسلام. وقد أنكر بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية النابغة الكبير بأشد مما انتقده خصوم أبي حامد عليه، وهو منهم، حتى إنهم كفروه، وما زال أخلافهم المقلدون يتحامون كتبه،ويحذرون المسلمين منها بأشد مما حذر العلامة الشيخ عبد اللطيف هنا من كتاب الإحياء. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتاز على أهل الحديث والأثر بالإطلاع الواسع على علوم الكلام والمنطق والفلسفة التي كان السلف والمقتدون بهم من الخلف يحذرون منها، ولكن لو لم يطلع عليها شيخ الإسلام إطلاعا واسعا لما استطاع أن ينصر السنة ومذهب السلف على كل ما خالفه منها، كما كان أقرانه في علم الحديث يعجزون عن ذلك، وفي مقدمتهم صديقه الحافظ الذهبي رحمهم الله -تعالى-. والقول الحق في كتاب الإحياء: أن أكثر ما فيه حق ونافع وقوي التأثير في تقوية الإيمان والترغيب في العبادة والتقوى والورع، وإنني ممن انتفع به كثيرا في بدايته، ولا أنكر أنني تضررت أيضا ببعض آرائه، وآراء أمثاله في الجبر، والغلو في الزهد، وأما الحديث، فإن الله -تعالى- ألهمني في أوائل طلب العلم الاشتغال به، فكان ذلك سببا لاقتنائي شرح الإحياء للزبيدي المشتمل على تخريج أحاديثه. وأقول: إن اشتغال أهل نجد بكتب السنة واعتمادهم في العقائد ورد الشبه في آداب الشرع والتصوف السني على كتب شيخي الإسلام يغنيهم عن كتاب الإحياء، وينبغي أن لا يطلع عليه منهم إلا العلماء، إن وجدوا مقتضيا، ولكنني أنصح بأن لا يطعنوا في أبي حامد، ولا يعدوه مضلا، فإننا إذا أردنا أن نعد كل من أخطأ من العلماء، وأمكن الاستدلال على خطئه ببعض النصوص الصحيحة، أو آثار السلف ضالا مضلا، ولم نميز بين المجتهد المتأول، والمعاند فإنه لا يكاد يسلم لنا من أعلام هذه الملة إلا النادر؛ فإنا نرى أئمة الفقهاء من المذاهب الأربعة قد خالفوا باجتهادهم بعض هذه النصوص . ونرى فروعا كثيرة في الحلال والحرام، قد قيلت بالرأي المخالف لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" فهل نقول في متبعي أئمتهم فيها: إنه ينطبق عليهم حديث عدي بن حاتم المرفوع في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأنهم كانوا يتبعونهم فيما يحلون لهم، ويحرمون عليهم؟ قال الإمام مالك –رحمه الله-: كل أحد يؤخذ من كلامه، ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر –، ويشير إلى قبره صلى الله عليه وسلم . وكتبه محمد رشيد رضا .(2/143)
الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان بن عقيل هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: صالح بن عثمان بن عقيل، سلمه الله تعالى وتولانا وإياه في الدنيا والآخرة. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرب إليه. والوصية الجامعة العظمى، وما وصى الله به –سبحانه- من التقوى وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له به اهتمام، وله إليه التفات. والأحاديث التي سألت عن معناها قد تكلم عليها بعض العلماء بما حاصله أن السمت والهدي في حالة الرجل في مذهبه وخلقه. وأصل السمت في اللغة الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في مذهبه وخلقه. والاقتصاد سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه. وأما التؤدة فهي التأني والتمهل وترك العجلة، وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور. وأما كون هذه الخصال جزءا من أربع وعشرين جزءا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء -عليهم السلام- ومن(2/144)
الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها. (قالوا): وليس معنى الحديث أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقد انقطعت النبوة بمحمد صلى الله عليه و سلم.
وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني أن هذه الخلال من أربعة وعشرين جزءا مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أمرنا باتباعهم في قوله -عزوجل-: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن من اجتمعت له هذه الخصال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله -تعالى- لباس التقوى الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة.قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث. وأما حديث الرؤيا : فقيل: معناه تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- دون غيرهم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، قال عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمير: رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وقرأ قوله –تعالى -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم(2/145)
وكانت مدة الوحي ثلاثا وعشرين سنة منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه،ونسبة ستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لأنها جزء من باقي النبوة. وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات (وهي) الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين. والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء؛ فلا محذور. ويمكن أن يقال: هذا فيما تقدم معه قوله: " الهدي الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 هذا حديث رواه الترمذي،والطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعا،ولكن بلفظ "أربعة،وعشرين جزءا"،ولكن ذكره الخطابي في الكلام على حديث الرؤيا بلفظ "خمسة،وعشرين" كما هنا،والقرطبي في شرح مسلم بلفظ "ستة،وعشرين" كما نبه عليه الحافظ في الفتح،ومن المؤسفات أن هذه الرسائل لم يذكر فيها نصوص الأسئلة التي أجيب فيها عنها .(2/146)
الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله ]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سؤال سأل عنه والده الشيخ الإمام المبجل، والفاضل النبيل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل الشيخ عبد اللطيف على الجواب ذيلا، وهذا نصهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فإني قد سألت والدي –قدس الله روحه، ونور ضريحه- عما يفعله بعض الأمراء بنجد من أخذ ابن العم بجريمة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي، أو لا مستند له؟ فأجاب -رحمه الله- بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال غيره بغير حق، هل له مسوغ في الشرع أو لا. فالجواب: اعلم -وفقك الله- أن أهل نجد كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم بأسوإ حال، أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام لا في العبادات، ولا في غيرها من الأحكام في الدماء، ولا في الأموال، ولا في النكاح والطلاق والمواريث، وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها،(2/147)
والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما مَنَّ الله بهذه الدعوة، وقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا، ويصلوا ويزكوا. وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم. والحالة هذه فلو تركوا رأسا، ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث " لا يجني جان إلا على نفسه " لضاعت حقوق الناس، ودماؤهم، وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل. ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله ساغ للأئمة ما ذكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام وبين هذا الجاني من أبناء عمهم لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا،وفي الحديث " لعن الله من آوى محدثا "، وفي الحقيقة هذا إحسان إلى(2/148)
القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه. وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم، وهذا الذي ذكرنا هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف" أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وأصحابه والتابعين. (قلت): فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا -رحمه الله- أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له، ولا جناية ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المنافع ودفع المفاسد، أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -قدس الله روحه، ونور ضريحه-، ثم ذيل على ذلك ذيلا فقال -رحمه الله-: ما قاله شيخنا ووالدنا -حفظه الله- في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وترك من يأويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه؛ فإن أخذ بجريرته،وأسر فيه؛ حصل له رد وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار.
[أخذ الحليف بجريرية حليفه]
قال الخطابي في شرح سنن أبي داود في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: " كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، قال: فأسر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: آخذك بجريرة(2/149)
حلفائك من ثقيف، وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم " -. (قال الشيخ): قوله: (آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف) اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: هذا يدل على أنه كان بنو عقيل عاهدوا أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذ بجريرتهم. وقال آخرون: هذا الرجل كافر، ولا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه، وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين اللذين أسرتهم ثقيف ألا تراه يقول: ففدي الرجل بعد بالرجلين. انتهى. فتأمل هذا؛ فإنه يدلك على صواب الحكم. والآية، وهي قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب، وهو أعلم بمواقع الخطاب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله -تعالى- وعفا عنهم بمنه، وكرمه آمين.(2/150)
الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]
وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى زيد بن محمد؛ وقد سأله عن حديث زينب –رضي الله عنها- وما وجه اختصاص النساء المهاجرات بدور المهاجرين؟ فأجابه -رحمه الله تعالى-:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ زيد بن محمد، زاده الله من العلم والإيمان، وألبسه من ملابس التقوى والإحسان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه- وسَرَّنَا ما ذكرته، والحمد لله على التيسير والتسديد، ومن جهة كتاب الطرق، فالوالد أعاره محمد بن فيصل قبل وصول خطك، وحين فراغه نبعث به إليك، إن شاء الله تعالى. وأما السؤال عن حديث زينب -رضي الله عنها- فاعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه على أن امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِيقَ المنازل وإخراجهن منها، فأمرصلى الله عليه وسلم أن تُوَرَّثَ دورُ المهاجرين النساءَ المهاجرات، وتورث بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء، معناه: أن تُجْعَل الدورُ لهن ميراثًا، فمات عبد الله بن مسعود فورثتْ امرأته داره في المدينة أخذًا بهذا الحديث. هذا معناه، والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك؛ فقال بعضهم: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما(2/151)
خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فحاز لهن الدور لما رأى من المصلحة؛ وهذا مُخْتَص بالمهاجرات لاختصاصهن بعلة الحكم على هذا الوجه. وقد أَلْغَزَ في ذلك بعض الأفاضل فقال:
سلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهم
قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تُقْسَم
وبقية المال الذي قد خَلَّفُوا ... يجري على أهل التوارث منهم
وقيل: هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور أزواجهن مدة حياتهن، على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحُجَره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث لقوله عليه السلام: " نحن لا نُورثُ ما تركناه صدقة ". لكن يُحْكَى عن سفيان بن عيينة أنه قال: نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن لا تملكها. ويشبه أن يكون أمره بذلك قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه. وأما استدلال أبي داود في باب إحياء الموات فتأوله على وجهين : (أحدهما) أنه إنما أقطعهم العَرْصَة؛ ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة، وهذا الذي يظهر من صنع أبي داود. (والوجه الثاني) أنهم إنما أُقْطِعُوا الدور عارية؛ ولهذا ذهب أبو إسحاق(2/152)
المرروزي؛ وَيُرَشِّحُ ذلك أن إقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار، وهي يُرْتَفَقُ بها ولا تُمْلَكُ. ومن هنا يحصل احتمالٌ رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة، وتقريره على هذا الوجه أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم أمْرُها إلى الإمام يُسْكِنُهَا مَن شاء بحسب المصلحة؛ فلذلك أمرصلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات بها دون سائر الورثة، وقول بعضهم: إن الميراث لا يجري إلا فيما كان المورث مالكا له، فيه نظر ظاهر، والله أعلم.
الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل]
وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الإمام فيصل -رحمه الله- نصحه فيها وذَكَّرَهُ نعمةَ الله على خلقه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين وَبَلَّغَ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة، حتى لم يبق لأحد على الله حجة. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما أيده الله به من الآيات والأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته، كابر من كابر، وعاند من عاند، حتى ظهر الإسلام ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلتْ كلمة الله وظهر دينه فيما هناك. ولم يزل ذلك في زيادة وظهور حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع في الحرمات، فَضَعُفَتْ القوة الإسلامية، وغلظت الحُجُب الشهوانية حتى ضعُفَ العلمُ بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وذكر له -رحمه الله- أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن مَن يجدد لها أمر دينها، ولكن لا بد له من معارض ومعاند. ثم ذكر -رحمه الله- ما مَنَّ الله به عليهم، واختصهم به من بين سائر الأمم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب، وما حصل بها من ظهور الإسلام وتبيين الدين والأحكام إلى أن حصل(2/153)
فيمن بعده من فتنة الشهوات والسلوك إلى مَفَاوِز المهالك نظير ما وقع بعد الصدر الأول من ذلك، ثم رد الله لهم الكَرَّة بعد تلك العساكر الطاغية وأشرار الحاضرة والبادية، فظهر الإسلام، وانتشر في البلاد، وسمعت أحكام الشريعة، وانتشرت في العباد. ولكن حصل في خلال ذلك مَنْ أظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل مَن كان للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد. وكتب -رحمه الله- له هذه النصيحة، وحذره من الوقوع في أسباب النقم والفضيحة، ولم أجد تصديرها باسمه، وإنما وجدت (كتب بعضهم إلى الإمام ما صورته) وهي بقلم كاتبه وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الإمام المكرم فيصل -وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[حالة العالم قبل البعثة المحمدية]
وبعد : فلا يخفى عليك أن الله –تعالى- ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض -عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم- جُهَّال ضُلال على غير هدى، ولا دين يُرْتَضَى، إلا من شاء الله من أهل الكتاب، فصدع بما أوحي إليه، وأمر بتبليغه، وبَلَّغَ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة والملل المتباينة المتنوعة. ودعاهم إلى صراط مستقيم ومنهج واضح كريم يصل بسالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر من كل خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة الدالة على صدقه وثبوت رسالته ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة. ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ورأوا أن الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النِّحَل والمِلَل يجر(2/154)
عليهم من مَسَبَّة آبائهم وتسفيه أحلامهم، ونقص رياستهم أو ذهاب مآكلهم ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم. فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة والتعصب على باطلهم والمثابرة، وأكثرهم يعلمون أنه مُحِقٌّ، وأنه جاءهم بالهدى، ودعا إليه لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخاة ورياسات لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها: إلا بمخالفته وترك الاستجابة له وموافقته. وهذا هو المانع في كل زمان ومكان من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خَصْمَان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك حتى أيد الله دينه ونصر رسوله بصفوة أهل الأرض، وخيرهم ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة مُعَاوَن ومُسَاعَد حتى مَنَّ الله على ذلك الحي من الأنصار بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة والأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة حصل بهم من العز والمَنَعَة ما هو عنوان التوفيق والإصابة. وصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون حتى إذا عز جانبهم وقويت شوكتهم أذن لهم في الجهاد بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ثم لما اشتد ساعدهم وكثر عددهم أنزلت آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك وجردوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ(2/155)
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه فَأَذَلَّ بهم أُنُوفًا شامخةً عاتيةً، ورد بهم إليه قلوبًا شاردةً لاهيةً، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومَحَوْا آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة. وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب، والعلوم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ. ولم يَزَلْ ذلك في زيادة وظهور، وَعَلَمُ الإسلام في كل جهة من الجهات مَرْفَوعٌ منصورٌ، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه؛ فضعفتْ القوى الإسلامية، وقويت الحجب الشهوانية حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات. وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم" ولكن لله في خلقه عناية وأسرار لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار.
[المجددون وعلامتهم التي يعرفون بها]
من ذلك: أن الله -تعالى- يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها؛ كي لا تبطل حجج الله وبيناته؛ ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته؛ فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك يدعو إلى تلك المناهج والمسالك. وليس من شرطه: أن يُقْبَل منه ويُسْتَجَاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول. ولهذا المُجَدِّد علامةٌ يعرفها المُتَوَسِّمُونَ، وينكرها المبطلون؛ أوضحها وأجلاها، وأصدقها، وأولاها: محبة الرعيل الأول من هذه(2/156)
الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة التي أصلها الأصيل، وَأُسُّهَا الأكبرُ الجليل: معرفة الله بصفات كماله ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، وَلُبُّ شعائرهم، وحقيقةُ مِلَّتِهِمْ. وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع. وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه. ومن طاف البلاد، وخَبرَ أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبُعْدَهُم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل. فكل بلد وكل قطر وكل جهة –فيما نعلم- فيها من الآلهة التي عُبِدَتْ مع الله بخالص العبادات وَقُصِدَتْ من دونه في الرغبات والرهبات ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خَارِجِيٌّ ينكر الكرامات، وكذلك هم في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم مُعَطِّلة. وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التنزيل والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وَسَبَرْتَهُمْ في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذَّب بأصل الرسالة، أو أعرض عنها ولم يرفع بذلك رأسا، فهؤلاء نوع آخر، وجنس ثان ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم(2/157)
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ} الآية. فمن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ قدرَ نعمة الله عليه، وما اختصه به إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن.
[الإمام محمد بن عبد الوهاب وبدء دعوته]
وقد اختصكم الله – تعالى- من نعمة الإيمان والتوحيد بِخَالِصَةٍ، ومنَّ عليكم بمِنَّةٍ عظيمة صالحة من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان؛ فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حَبْرًا جليلا وعَلَمًا نبيلا فقيها عارفًا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انْحَلَّ من عُرَى الإسلام وتحول. فتجرد إلى الدعوة إلى الله، وردِّ الناس إلى ما كان عليه سلفُهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمَغَار، وتجريد المتابعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الأقوال والأفعال. وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، فجادل في الله، وقَرَّرَ حُجَجَه وبيناته، وبذل نفسه لله، وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له. وصنَّفَ في الرد على مَن عاند أو جادل ومَاحَلَ، وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عدُّهُ. وكثير منكم يعرف بعضه ووازره -على ذلك- مَن سبقت له من الله سابقة السعادة. وأقبل على معرفة ما عنده من العلم، وأراده من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين -رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا- فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونِعَمٍ عديدة، يصنع لهم –تعالى- من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به مَنْ شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به(2/158)
على كافة العرب. فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح -رحمهما الله -، ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير، ما يعرفه الفَطِن الخبير، ثم أَدْرَكَكُمْ من رحمته تعالى وألطافه ما رَدَّ لكم به الكَرَّة، ونصركم –ببركته- المرة بعد المرة، ولله -تعالى- عليك خاصة نِعَمٌ لا يحصيها العَدُّ والإحصا، ولا يحيط بها إلا عالم السر والنجوى. فكم أنقذك من هول وشدة، وكم أظهرك على مَنْ ناوأك مع كثرة العدد منهم والعدة، ولم تزل نِعَمُهُ عليك تترى، وحوله وقوته يرفعك إلى ما ترى؛ حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة، وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم ممن قام بنصر الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في ترك الأخذ بأحكام المنهج المشروع حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل كَارِهٍ للحق معاندٍ، وصار أمر العلم والعقائد لَعِبًا لكل منافق وحاسد، وكتبتُ في الطعن على أهل هذه الملة الرسائلَ والأوراقَ. وتكلم في عيبهم وذمهم أهل البغي والشقاق، فصار أمر الدين والعلم مُمْتَهَنًا عند الأكثرين من العامة والمتقدمين، وإقبالهم إنما هو على نَيْلِ الخصوص الدنيوية والشهوات النفسانية، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينية والواجبات الإسلامية، وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب. والمؤمن: من يعلم أن لهذه الأمور غائلة، وعاقبة ذميمة وخيمة آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أمره وترك مناهيه وخوف زواجره، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.(2/159)
الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها]
وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، وسببها: التحذير عما انهمك الناس فيه وشاع عنهم من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب وَمَيْل الأكثرين إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهور الكفرة الطغام والانحياز إلى حماهم، وتفضيل مَن يتولاهم أيضا، والانتصار للشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- لما اعترض عليه من اعترض فيما كتبه إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة فصرح المعترض بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد. فبين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام ابن عتيق من بعض الخطأ في التعبير، وأن ذلك من الغيرة لله والنكير، فلا ينبغي معارضة مَن انتصر لله ولكتابه وذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، ولا يلتفت إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ علية محبوبةٌ لله مَرْضِيَّةٌ يُغْتَفَرُ فيها العظيم من الذنوب. وقد أَبْلَجَ الشيخ في هذه الرسالة الحق وأوضحه، وأثلج به الصدور، فانكشف عنها الغطاء، فما أنصحه، واستبان الصوابُ لذوي الألباب، فما أصرحه. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد آل سليمان -حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سَوَابِغ نعمائه، ولطفه عند قدره وقضائه، والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه، ووفقك لجهاد من يناويه ويعاديه- وما ذكرتَ من حال الأخ صالح فهو عند الإمام(2/160)
مَكِينٌ يحسن الدخول في الأمر والخروج. وما ذكرت من جهة ما يلقى إليك من الخطوط، فلا بأس بإرسالها إليَّ، وأما ما كتبت في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة وداهية عمياء ذميمة لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل وقُبِضَ فيه العلم، وتوافرتْ أسباب الفتن وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، وابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وعند ذلك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقد شاع ما الناس فيه من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ومال الأكثرون إلى موالاة عُبَّاد الأصنام، والفرح بظهورهم والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم، "وحُبُّك الشيءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان رسالة، ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلا عن ذي الفقه والعلم، وقد نبَّهت على ما فيها من الخطأ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا حذرًا من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء. ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتُتِنَ بها مَن غلب عليه الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وأخبرت من يجالسني أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها ولم يُعْطِ القوسَ باريها. وبلغني عن الشيخ حمد أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خَطّا أرسله إلى بعض الإخوان بأن ما كتبه ابن عجلان(2/161)
ردة صريحة. وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعُبَّاد الهوى. والرجل، وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وَذَبَّ عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين على من تَهَاون أو رَخَّصَ وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكَّس أعلامه ومحا آثاره، وقلع أصوله وفروعه، ومَسَبَّة من جاء به؛ لِقَوْلَةٍ رآها، وعبارة نقلها وما دراها، من إباحة الاستعانة بالمشركين مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة؛ وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار، بل هو تَوْلِيَة وتَخْلِيَة بينهم وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله وسفك دماء أهله واستباحة حرماتهم وأموالهم.
[وصف الأحوال الحاصلة بنجد]
هذا حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح والكفر البواح ما لا يُبْقِي من الإسلام رَسْمًا يُرْجَعُ إليه، وَيُعَوَّلُ في النجاة عليه، كيف وقد هُدِمَتْ قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصُرِّحَ بِمَسَبَّةِ السابقين الأولين من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهرا في تلك الأماكن والبلدان. ومن قَصُرَ الواقع على الاستعانة بهم فما فَهِمَ القضية، وما عرف المصيبة والرزية، فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته؛ فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبةٌ عَلِيَّةٌ محبوبةٌ لله مرضيةٌ يُغْتَفَر فيها العظيمُ من الذنوب، ولا يُنْظَرُ معها إلى تلك الاعتراضات الواهية،(2/162)
والمناقشات التي تَفُتُّ في عَضُدِ الداعي إلى الله. والملتمس لرضاه، وَهَبْهُ كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "1 شعر:
فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد -رحمه الله- : أرجو أن الله يغفر له نظرا إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره أن هناك مانعا. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين، ثم إن القول قد يكون ردة وكفرا، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثَمَّ مانعٌ من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان، ومن المعلوم أن من تصور هذا الواقع، ورضي به وصوب فاعله، وذب عنه، وقال بحله فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما مَنْ أخطأ في عدم الفرق، ولم يَدْرِ الحقيقةَ، واعتزَّ بمسألةٍ خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يُغَلِّبْ جانبَ الهوى. والمقصود أن الاعتراض والمِرَاء من الأسباب في مَنْع الحق والهُدَى، ومَن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية والوسائل الكُفْرِية، عرف
ـــــــ
1 يمثل المصنف -رحمه الله- بهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في زلة حاطب بن أبي بلتعة البدري؛ إذ أراد إخبار مشركي مكة بالزحف عليها؛ للتشابه بين المسألتين في أن الحسنات يذهبن السيئات.(2/163)
ما قلناه.
[الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ]
والمعترضون على الشيخ ليسوا هم في الحقيقة أهلا لإقامة الحجج الشرعية والبراهين الْمَرْضِيَّة على ما يَدَّعُونَ من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة وما أحسن ما قيل:
أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدا
وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة التي اغترَّ بها الجاهلون، وضَلَّ بها الأكثرون، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استخفه هذا الصنف من السكوت والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية وسيرة مَرْضِيَّة في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة العساكر، والنصح لله، ولكتابه، ولدينه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وهذا لا يحصل مع السكوت وتسليك الحال على أيِّ حال فاغتنم الفرصة، وأَكْثِرْ من القول في ذلك، واغْتَنِمْ أيام حياتك، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان.
[الاستعانة بالمشرك عند الضرورة]
والشبهة التي تمسك بها مَن قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة، وهو قول ضعيفٌ مردودٌ مبنيٌّ على آثار مرسلة تَرُدُّهَا النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها -على ضعفه- مشروط بشروط نَبَّهَ عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طَرَفًا في شرح المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضا ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك، وأما الانتصار بالمشرك على(2/164)
الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس؛ وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم، شعر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه من دينه وهداه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (حاشية لجامع الرسالة) غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى مَنْ يعين عليه؛ وتصلح به مصلحته؛ كما صرح به من قال بالجواز؛ وقد تقدم ما فيه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/165)
الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]
وله أيضا رسالة إلى علي بن محمد وابنه محمد آل موسى وقد ذكرا له في أمر هذه الفتن والحوادث، وما حصل في ضمنها من عظيم الكوارث، فبين لهما -رحمه الله- مبدأ هذه الفتنة والحكم في أهلها وجندها، لأنه قد خفي على بعض المنتسبين إلى العلم والدين حقيقة الحكم الشرعي. والقول الصواب المرضي، وهو أن مَنْ استولى على المسلمين بالغلبة والسيف، فالبيعة ثابتة له، تنفذ أحكامه؛ وتصح إمامته باتفاق أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، لا يختلف في ذلك منهم اثنان، وأنهم يرون المنع من الخروج عليه بالسيف وتفريق الأمة، وإن كانت الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا. وقد جرى في تلك الفتنة من الخوض والمراء والجدل والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ما عَمَّ ضررُهُ، وطار في الأقطار شررُهُ، وصار سببا وسلما لولاية المشركين، إلخ ما ذكره، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين علي بن محمد وابنه محمد بن علي -سلمهما الله تعالى من الأسوا، وحماهما من طوارق المحن والبلوى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير، والخط وصل -وصلكما الله بما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه- وما ذكرتما صار معلوما. وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم. كيف لا وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سُلَّمًا لولاية المشركين، وسببًا لارتداد المرتدين، وموجبًا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده(2/166)
المؤمنين، فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن1، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان؛ يعرف ذلك مَنْ منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وصار على نصيب من مراقبة عالم السر والسرائر. وقد عرفتم مبنى هذه الفتنة وأولها والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه، ومن هذا الطريق كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة. وأول ذلك ولاية آل مروان لم تصدر لا عن بيعة، ولا رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة، حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية ومخرجها من خراسان وزعيمها رجل فارسي مُدَّعِي؛ أيامهم صَالَ على مَن يَلِيهِ ودعا إلى الدولة العباسية وشَهَرَ السيف، وقتل مَن امتنع عن ذلك وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله؛ وظهرت الرايات السود العباسية وجاسوا خلال الديار قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول. وشاهد ذلك أهل القرن الثاني والثالث من أهل العلم والدين وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس. وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون
ـــــــ
1 أي لا يصل إلى بيان المخرج منها حديث نبوي ولا قرآن إلهي بنص صريح لا يحتمل التأويل . فكل فريق يتأول نصوصها بما يجعله المحق وخصمه المبطل، حتى إن أحد أنصار الحق قد طعن في دينه من يظاهرهم على خصمهم، وهو صاحب الرسالة التي يدافع الشيخ عنها.(2/167)
المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفرا بواحا، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم.
[ما اتفق عليه أهل الحل والعقد في حكومة نجد من تقرير إمامة سعود]
إذا عرفت هذا، فالحاصل في هذا العصر بين أهل نَجْد له حُكْم أمثاله من الحوادث السابقة في زمن أكابر الأئمة الأربعة وغيرهم، كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق ممن ينتسب إلى العلم لديكم على هذا كالشيخ إبراهيم الشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق، وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته، ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه. كل هذا موجود بخطوطهم، فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق، ثم توفى الله سعودا، واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات مِن بَادٍ وحَاضِرٍ، وتوقعنا حصولَ ذلك وانسلاخ أمر المسلمين. فاستصحبنا ما ذكر وبَنَيْنَا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود، ومن عندهم ومن يليهم نصب (عبد الرحمن بن فيصل) وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة. وذكَّرْناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات. فترك بعضُ مَن لديكم هذا المنهج وسلكوا طريقا وَعِرَة تُفْضِي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك، واستحسنه من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 103.(2/168)
ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وارتضوه. وكان الواجب على من عنده علم أن ينصح الأمة وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل ويرشد الجاهل ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال؛ لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المُحَاقَّة والله هو ولي الهداية، الحافظُ الواقي من موجبات الجهل والغواية. وقد أوجب الله البيانَ وتركَ الكتمان، وأخذ الميثاق على ذلك على من عنده علم وبرهان؛ هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المُكَاتَبَات الوَارِدَة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 1.
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل
وأما الصلح بين المسلمين فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا تألو جهدا -إن شاء الله- فيما يكف الفتن، ويصلح به بين المسلمين، وأسأل الله أن يمن بذلك، ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 39.(2/169)
الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]
وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى الإخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم وإخوانهم، مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة؛ وعَرَّفَهُمْ في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما مَنَّ الله به عليه من المذاكرة والمناصحات، بلزوم بيعة الإمام عبد الله، والتصريح بأن راية أخيه سعود راية جاهلية عمية. ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم والأحساء والقطيف والخط، تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره عليه شِفَاهًا ومراسلة، كما مر ذلك فيما سبق من الرسائل، وثبت لأخيه سعود البيعة والغلبة والقهر. ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الأحساء، وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور وسموه باسم الإمامة، وقد علمت أن الحكم يدور مع علته يثبت بثباتها وينتفي بانتفائها، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من سُبُل الخزي والندامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة،(2/170)
ولا جماعة إلا بإمامة، وقد حصل من التفرق والاختلاف والخوض في الأهواء المُضِلَّة ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين1 أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات، والقول على الله بلا علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم وشاع بينكم ما يعز حصرُهُ واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فَحَسْبُهُ السكوتُ، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر لديكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شِفَاهًا ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله تُرْسًا تُدْفَع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم والبراءة منهم وتحريم موادتهم وموآخاتهم من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول بأنهم جاؤوا لنصرة إمام أو دين قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته، وضعف عقله وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نَكَبَ عن طريق الحق والصواب.
ـــــــ
1 لعل الأصل الإسلام.(2/171)
وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث " إنا لا نستعين بمشرك " 1، هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى. وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة كما يعرفه مَنْ له أدنى ذوق وتهمة في العلم. لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد : {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.
[تغلب سعود على نجد ومبايعة الجمهور له]
والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط. ومن عرف القواعد الشرعية عرف ضرورة الناس وحاجتهم في دينهم ودنياهم إلى الجماعة والإمامة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوا كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة. وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الجماعة والإمامة، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يَأْتَمِرُونَ بما أَمَرُوا به من المعروف، وينتهون عما نُهُوا
ـــــــ
1 مسلم : الجهاد والسير (1817) , والترمذي : السير (1558) , وأبو داود : الجهاد (2732) , وابن ماجه : الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي : السير (2496).
2 سورة يوسف آية : 21.(2/172)
عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة. ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مُصَاب في عقله، مَوْتُورٌ في دينه وفهمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركُهُ مفسدةٌ محضةٌ، ومخالفةٌ صريحةٌ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2.وفي الحديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " 3، لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واسْتَخَفَّ الشيطانُ أكثرَ الناس، وزَيَّنَ لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر يَعْرِفُونَ ويُوَلُّونَ، ويَنْصُرُونَ وَيُنَصِّبُونَ، وأنهم جاؤوا لنصرة فلان كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد التَّرَسُّمِ بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها من دين الله ورسوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل المُشْعِرَةِ بجواز الاستنصار بهم وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلةٌ لا يرقى سليمها، وورطةٌ قد هلك وضلَّ زعيمُها، وما أحسن قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 5 فاقبلوا وامتثلوا
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 103.
2 سورة المائدة آية : 2.
3 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم : الحج (1337) , والترمذي : العلم (2679) , والنسائي : مناسك الحج (2619) , وابن ماجه : المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/508).
4 سورة الأعراف آية : 187.
5 سورة سبأ آية : 46.(2/173)
موعظة ربكم وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود -وفقه الله-، وقد قرر أهل السنة في عقائدهم أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام لا يبطله جَوْرُ جَائِرٍ. قال بعض السلف لَمَّا لامَهُ بعضُ الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إنْ دَعَوْنَا إلى الله أجبنا، وإن دَعَوْنَا إلى الشيطان أَبَيْنَا، وفي الحديث: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " 1.وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقِيلِهِ، واحذروا المِرَاء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
ـــــــ
1 النسائي : الجهاد (3096) , وأبو داود : الجهاد (2504) , وأحمد (3/124 ,3/153 ,3/251) , والدارمي : الجهاد (2431).(2/174)
الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]
وله أيضا -رحمه الله تعالى، وصَبَّ عليه من شآبيب بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد وإبراهيم مرشد، وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مُدَاهَنَة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين. وقد تقدم نظيرُ هذه الرسالة في المعنى، ولكن لِمَسِيسِ الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضَّح وكشف قناع الإشكال، وما أبقى لِمُشْتَبِهٍ من حجة ولا مقال، وذلك بسبب ما حدث من تسهيل أمر السفر إلى بلاد المشركين، وإن غاية ما يفعل مع المسافر الهجرُ، وتركُ السلام من غير تعنيف ولا تخشين. والمُشْتَبِهُ يزعم أن الشيخ عبد الرحمن أفتى بذلك -إن صح الخبر- فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد ممن هجر، أو بما ستقف عليه من المحامل التي لا يعرفها كل مشتبه جاهل. والوجوه التي ذكرها الشيخ إذا تأملتها -أيها المنصف- وتعقلتها بشراشر قلبك لعلك عن الشبهات أن تعزف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي آل موسى وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد -سلمهم الله تعالى وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصلكم الله بما يرضيه- وسرنا سلامة مَن نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم، وقد سبق لكم مني جواب. وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل، وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك ونسيان التوحيد، وإنَّ(2/175)
من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر مِن بعض مَن يظنه العامةُ مِن أهل العلم وحَمَلة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندُها ولم يُعصم قائلُها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق، وفي حديث ثوبان: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وهو يتناول مَن له إمامة ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء. وأبيات عبد الله بن المبارك معلومةٌ لديكم في هذين الصنفين أعني قوله:
وهل أفسد الدين إلا ... الملوك إلى آخره
وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على مَن أهلكوا، وكما نقلتم عن بعضهم زعم أن الشيخ الوالد -قدس الله روحه، ونور ضريحه- أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين بأن غاية ما يفعل معه هو الهجر، وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب، وهذه غلطة من ناقلها لم يفهم مراد الشيخ -إن صح نقله- ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولا، فإن ثبت بنقل عدل ضابط فيحمل على قضية خاصة يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا -إن صحت-، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر المُتَوَعَّدُ صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال وعلى إظهاره، فإنه مُستثنًى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حَدٌّ يُرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير بالقتل كما في حديث
ـــــــ
1 الترمذي : الفتن (2229) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي : المقدمة (209).(2/176)
شارب الخمر: " فإن شربها في الرابعة فاقتلوه " 1. وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بِحِلِّ دمِ مَن جَمَزَ إلى معسكر التتار وَكَثَّرَ سوادهم، وأَخْذِ ماله، وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة وحصول المصلحة، وأفتى بالتعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة. وقد عرفتم أن من أكبر المصالح مَنْعُ هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حالٌ وإسلامٌ لمَن ينتسب إلى الإسلام مع المخالطة والمُقَارَفَة الشِّرْكِيَّة لوجوه: (منها) : عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها) : العجز عن إظهاره لو عرفوه. (ومنها): أن العدو مُحارب قد سار إلى بلاد المسلمين واستولى على بعضها؛ فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. (ومنها): أن تلك البلاد مُلِئَتْ بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويُسَمُّونَ أهلَ التوحيدِ: الغلاةَ كما سماهم إخوانهم: خوارجَ. والهجرة لها مقصودان: الفرارُ من الفتنة، وخوفُ المفسدة الشركية. والثاني: مجاهدة أعداء الله والتَّحَيُّزُ إلى أهل الإسلام. وقد كانت شرطا في أول الإسلام مع ضعف المسلمين وخوف المشركين وشدة بَأْسِهِم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يُهْدَر ولا يُطْرَح في كل مقام، لا سيما والمُقَارِف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثيرٌ جدا، فالنجا النجا، والوحا الوحا قبل أن يَعَضَّ الظالمُ على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا. ولعل الله أن يَمُنَّ بخطٍ مبسوطٍ يأتيكم بعد هذا، فيه التعريجُ على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كَذِب هذا المُفْتَرِي على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكمُ الإقامة، يُمْنَع منه مَن عَجَزَ عن
ـــــــ
1 الترمذي : الحدود (1444) , وأبو داود : الحدود (4482) , وابن ماجه : الحدود (2573) , وأحمد (4/93 ,4/95 ,4/96 ,4/97 ,4/100).(2/177)
إظهار دينه، وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ومُنِعُوا العملَ" 1وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يُؤْثَر عن السلف أن علامة أهل البدع الوقوعُ في أهل الأثر، وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حقِّقُوا، واكتبوا لنا ما تَنْقِمُونَ، وقَرِّرُوا الحجةَ بما تَدَّعُونَ، أحجموا عن ذلك وعجزوا عن مقاومة الخصوم، ومتى يُدرك الظَّالِعُ شَأْوَ الضليع (شعر):
أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
وحسابنا وحسابهم على الله الذي تنكشفُ عنده السرائرُ، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، جعلنا الله وإياكم من الذين جردوا متابعة الرسول {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} 2، ولم ينتسبوا إلى قَيْسٍ وَيَمَنٍ، كما قد وقع عندكم فيمن فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيَعًا، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3253) , وابن ماجه : المقدمة (48).
2 سورة التوبة آية : 16.(2/178)
الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان من بني تميم، يُعَزِّيهم في الشيخ عبد الملك -رحمه الله تعالى- ويخبرهم بالصلح الذي وقع بينه وبين سعود بن فيصل، لَمَّا خرج من الأحساء يريد نجدا، بعد وقعة جوده، ورجوع عبد الله إلى الرياض، وليس معه إذ ذاك إلا نَزْرٌ قليلٌ من البادية والحاضرة؛ ومع سعود خلقٌ كثيرٌ وجمٌّ غفيرٌ، فلما رأى -رحمه الله- كثرةَ تلك البوادي، وشدة الحَنَق والغيظ من أولئك الأعادي، وخشي على البلد من الدمار وخراب الدين والدنيا وهتك الأستار، سعى في الصلح، ودافع عن الإسلام والمسلمين، وبذل الجهد وأخذ العهد على ضعفة المسلمين عن أولئك المعتدين، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من بني تميم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ : نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحِكَمِهِ، ونسأل الله أن يحسن عزاءنا وعزاءكم في الشيخ عبد الملك بن حسين- غفر الله ذنبه، ورحمه ورفع في المقربين درجته- وما ذكرتم من جهة حالكم مع عبد الله وصدقكم معه صار معلوما- نسأل الله لنا ولكم التوفيق-. وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد من السبي وهتك الأستار وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح بإذن من عبد الله في الصلح وَأَلْجَأَتْنَا إليه الضرورةُ ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قِبَلَ لهم به، فإن يكُ صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان.(2/179)
وفي السِّيَر ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انْتَحَلْنَاهُ؛ وقد صالح أهل الدِّرْعِيَّة وآل الشيخ وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية لما خيف السبي والاستئصال، وعبد الله ظهر بمرحلة البلد ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع،: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. ثم بلغنا أن الدولة ومَنْ والاهم مِن النصارى وأشباههم نزلوا على القطيف يزعمون نصرة عبد الله وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودَ على جهادهم، وَرَغَّبْنَاهُ في قتالهم، وكتبنا لبلاد المسلمين بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2، والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك3 والإفرنج وسائر الكفار من أعظم الذخائر المنجية من النار. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل والسلام. وصلى الله على محمد وصحبه وسلم
ـــــــ
1 سورة يوسف آية : 21.
2 سورة الأنفال آية : 72.
3 قد يظن بعض من يطلع على هذا مِن غير أهل نجد أنه من عدوانهم على الترك بغير حق. ولكن الواقع أن الترك كانوا هم المعتدين بِسَوْقِ عسكرهم إلى نجد وقتال أهلها وتكفيرهم وبماذا كَفَّرُوهم؟ ولماذا قاتلوهم؟ . كفروهم بما أحيوه في بلادهم من دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص وإقامة أركان الإسلام كلها وإزالة البدع والخرافات، وإزالة الشرك وجميع المنكرات، وإنما قاتلوهم: لئلا يجددوا استقلال العرب، ولكن جعلوه باسم الدين، مع أنهم لم يقاتلوا أحدا من قبل لأجل إقامة الإسلام، ولم يمنعوا من بلادهم شيئا من الشرك والبدع. وكان النَّجْدِيُّونَ يرون قوادهم يشربون الخمور ويستبيحون الفواحش ويحكمون بغير ما أنزل الله، وقد فُتِنَ بهم بعضُ أهل البلاد. فهل من المعقول أن يقول لهم علماؤهم: إنهم صادقون في تكفيرنا، ومُحِقُّونَ في قتالنا، وهم يعتقدون أنه لو لم يقم من الأدلة على كفرهم وقتالهم: إلا تكفيرهم لهم وقتالهم إياهم بهذه الحجة لكفى.(2/180)
الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة ]
وله أيضا رسالة إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإخوانهم، يحرِّضُهم فيها ويُذَكِّرهم ما سبق من المُكَاتَبات في شأن هذه الحوادث العُمْيِ العظائم التي قَلَعَتْ أصولَ الدين، والْتَبَسَ الأمرُ بسببها على مَن ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم. واتَّبعهم في ذلك جمهورُ أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا إلى مَن منهجه الإهلاك والإغواء، وتركوا طريقة مَن يدعوهم إلى الحق والهدى، ويُبَصِّرُهم -بنور الله- أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث فما ارْعَوَى إلى الحق أكثرُهم وما استرشد، ولم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد. وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويُعَلِّلُ بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثون عن سره إلى غير ذلك من تعاليلُ الجاهلين، فأجاب بما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أقوم نهج وطريق، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد -سلَّمَهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف، والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية -جعلنا الله وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح- وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العُمْيِ. ولم يبلغني ما يسرني عنكم من القبول، والقيام لله، والحق على طالب العلم والمنتسب إلى الدين والفهم أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد، والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبالُ الراسياتُ،(2/181)
وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات، فما مضت فتنة إلا إلى ما هو من أكبر الشرك والكُفْرِيَّات. ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرجُ والحكمُ، وكثر الخوضُ والاعتراضُ من بعض مَن ينتسب إلى القراءة ويَدَّعِي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يَهْوَاه من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المُحَاقَّة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام. وما أحسن ما قال سهل بن حنيف فيما رواه البخاري قال: حدثنا الحسن بن إسحاق ثنا محمد بن سابق ثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال ابن وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين نَسْتَخْبِره فقال: اتهموا الرأي فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نَسُدُّ منها خصمًا إلا انفجرَ خصمٌ ما ندري كيف نأتي له. وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يُسَلِّمُ عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين. فاعلم أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأئمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على مَن يقدر على إظهار دينه أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أُنِيطَ بالمُجَامعة والمُسَاكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " 1.فانظر ما علق به الحكم من
ـــــــ
1 أبو داود : الجهاد (2787).(2/182)
المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء، وهذه محرمات مستقلة يضاعف بها الإثم والعذاب. وكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتفٍ مع هذه التعاليل. ومن مقاصد الهجرة الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان في غير موضع من كتاب الله. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به، والغالب كذب هذا الجنس، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى مُنْحَدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النُّفْرَة فرحل إليهم مَن رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم وجالسهم وراسلهم بعضُ من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مُضَلات الفتن. وحماية جَنَاب التوحيد وسدُّ الذرائع الشركية، من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا في كتاب التوحيد لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام، ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/183)
الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن]
وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى من تقدم ذكرهم من إخوان وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن مرشد وإبراهيم بن راشد وعثمان بن مرشد -سلمهم الله تعالى، وعافاهم، وأصلح بالهم، وتولاهم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، والخط وصل -وصلكم الله إلى ما يرضيه- وما ذكرتم صار معلوما، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به تقوى الله ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد أن الله يحب البصر الناقد عند ورود الفتن والشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات. وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره عند ذكر الفتن والملاحم، وذكر ابن رجب في رسالته "كشف الكربة في فضل الغربة" ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم -رحمه الله- في المَدَارج جملة صالحة، وفي الأثر: " العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ " 1، وفي حديث الغرباء: " للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب
ـــــــ
1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2948) , والترمذي : الفتن (2201) , وابن ماجه : الفتن (3985) , وأحمد (5/25 ,5/27).(2/184)
رسول الله صلى الله عليه وسلم" 1 . والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم، وهذا -مع القدرة وأمن الفتنة-، أفضل من العزلة. والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم، وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكنني ابتليت بالناس وحِيلَ بيني وبين ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]
وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى مَن تقدم ذكرُهم إلا محمد بن علي، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين إبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد سلمهم الله تعالى، وتولاهم في الدنيا والآخرة . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ : فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه ومزيد إحسانه وإكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف قدر نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلكم الله بالرضى- والعذر مقبول. نسأل الله لنا ولكم العفو والقبول، ونوصيكم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمُذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمن قُبِضَ فيه العلم، وفَشَا الجهل، وعُدِمَتْ الحقائقُ الدينية، وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثرُ الخلق.
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3058) , وأبو داود : الملاحم (4341) , وابن ماجه : الفتن (4014).(2/185)
الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونَوَّرَ ضريحه، وتجاوز عن ذنوبه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- وقد راسله أعني: الشيخ حمد برسالة كأنه أساء فيها الأدب، ولم يراع فيها حق مَن يتزاحم العلماء عنده بالركب. بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يُمْعِن النظرَ فيما أوعز به من المخاطب، وكأنه في رسالته يحرض على التغليظ في الدعوة إلى الله من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. فَبَيَّنَ له الشيخ -رحمه الله- الخلق العظيم والرأي الرشيد الحليم الذي كان لسيد المرسلين وإمام المتقين، أنه يبدأ أولا بالتلطف واللين، ثم آخرا بالغلظة؛ وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله. ويا لله كم في هذه الرسالة من الأصول الأصلية والمباحث الجليلة التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها، وأن له في الميراث النبوي الحظَّ الوافرَ، وأن ينابيع علومه تتفجر من ذلك البحر الزاخر، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى نهج وطريق، ومنحنا بِمَنِّهِ حُسْنَ الدعوة إليه بالتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله –سبحانه- على نعمه، والخط وصل -وصلك الله بما يقربك إليه- وما أشرت إليه صار معلوما، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية، التي منها تشبيه أخيك بالطير المُبَرْقَع، وإيراد المواعظ وأنت بمكان علو أرفع، وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع، فمن قائل عند سماعه: هذا الرجل طبعه الغلظة والجمود، وآخر(2/186)
يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود. فقلت: كلا إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أن يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرف بالزلال. فاعلم -هُدِيتَ الطريق، وفزتَ بحظ من النظر والتحقيق- أن الله لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي ولم يكن أحد من أهل الأرض -عربيهم وعجميهم قرويهم وبدويهم- يعرف الحق ويعمل به إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر مَن أسلم سبب وقاية، وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويُذَكِّر، ويعظ ويُنْذِر، مع غاية اللطف واللين. فتارة يُكَنِّي المخاطبين، وطورًا يأتي نادي المتقدمين أو المترئسين، وحينا يقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " 1، ونَاهِيك بخُلُق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان. ولا يرد على المعنى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 2 الآية، كما ظنه بعض المتطوعة دَيْدَنًا لرسول الله رضي الله عنه ، فإن هذا يُصَار إليه إذا تعينتْ الغلظةُ ولم يُجْدِ اللينُ، كما هو ظاهرٌ مستبينٌ، كما قيل: آخر الطب الكيُّ، وهو أيضا مع القدرة. ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْر ِ} 3. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن دَرْء المفاسد يُقَدَّم على جلب المصالح، كما هو مُقَرَّر في علم الأصول. ثم إن الآيةَ: آيةَ الغلظة مدنيةٌ بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد
ـــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم : الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه : الفتن (4025) , وأحمد (1/380 ,1/427 ,1/432 ,1/441 ,1/456).
2 سورة التوبة آية : 73.
3 سورة الأنعام آية : 108.(2/187)
باليد وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم، فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين. وأسعد الناس بوراثة الرسول في دعوة الخلق أكملهم في متابعته له في هذا، وكان الصِّدِّيق أكمل الناس؛ ولذلك أسلم على يده وانتفع به أممٌ كثيرةٌ بخلاف غيره فقد قيل لبعضهم: إن منكم منفرين. والقصد من التشريع والأوامر: تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال: أصل كبير فمَنْ أهمله وضَيَّعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية. وقد قرَّر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصَّلُوا الآدابَ الشرعية، فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولا؛ وليزاحم رُكَب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصبابة لا يعرفها إلا مَن يعانيها، والعلوم لا يدريها إلا مَن أخذها عن أهلها وصحب راويها:
ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا
وهذا، وقد كنت أظن أنكم تحبون مَن هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، ومكان العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه غير معتبر لدى الجمهور، قبل قصدهم المناصب والظهور، قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ، ونبأنا،ن هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليك وعلى من حضر من المسلمين لديك، وما بسطت لك الكلام، إلا محبة وإعلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/188)
الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]
وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عيسى بن إبراهيم جوابًا لأربع مسائل: (الأولى): عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 1 الآية؟ (والثانية): عن الفرق بين المرفوع والمُسْنَد والمتصل وأيها أصح؟ (الثالثة): عن قول شارح الزاد غير تراب ونحوه؟ (الرابعة): عن قول شارح الزاد أيضا نقلا عن النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته، ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم نهج وسبيل، بأوضح عبارة وأبين دليل. فرحمه الله من إمام للسنة ما أعلمه، وبعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم -سلك الله بي وبه صراطه المستقيم-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل؛ فسرني نبأه عن سلامة تلك الأحوال والذوات، لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم. وجواب مسألتك ها هو ذا قد رسم –نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإثابة- فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 2 الآية. فالذي يظهر أن هذا إخبارٌ من الله –جل ذكره- لعباده المؤمنين بأنه لم يَنْهَهُمْ عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من
ـــــــ
1 سورة الممتحنة آية : 8.
2 سورة الممتحنة آية : 8.(2/189)
ديارهم؛ إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوبٌ محبوبٌ شرعا ولذا علل هذا الحكم بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1 . وأما قوله {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} 2 فقد قال بعض المُعْرِبِينَ: إنه بدل من الموصول بدل اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه: في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بِرِّ مَن لم يقاتل في الدين، ولو قال هذا البعض: إنه بدل3 بُدَاءً: لكان أظهر؛ إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه هنا؛ والأظهر عندي أنْ لا بدلَ مطلقا؛ وأن الموصول معمولٌ للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه؛ فالموصول إذًا في محل نصب بالمصدر المسبوك؛ وتَأَخُّرُ العاملِ لا يضر، وأما على البدلية فهو في محل جر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 4، أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر؛ ولتوهم خلاف المراد فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة؛ كما يعلم من فن المعاني؛ وقوله: {فِي الدِّينِ}الفاء سببية كما في قوله: "دخلت النار امرأة في هرة" 5 الحديث. وسبب النّزول ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: " إن أمي قدمتْ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك" 6، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب وأقط وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكنٌ غيرُ متعذرٍ، ودعوى النسخ يصار إليها
ـــــــ
1 سورة الممتحنة آية : 8.
2 سورة الممتحنة آية : 8.
3 كذا في الأصل.
4 سورة الممتحنة آية : 8.
5 البخاري : بدء الخلق (3318) , ومسلم : السلام (2243) والبر والصلة والآداب (2619) , وابن ماجه : الزهد (4256) , وأحمد (2/507).
6 البخاري : الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) , ومسلم : الزكاة (1003) , وأبو داود : الزكاة (1668) , وأحمد (6/347).(2/190)
عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. (ومنها): أن السُّنَّة متظاهرةٌ بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلامهما بمعنى التخصيص؛ وهو مُتَّجِهٌ على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي: أنه لما ذكر –تعالى- نهيه عبادَه المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله، ومن آمن معه في قولهم، وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا. وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة خيف أن يتولاهم، ويظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به أن يدفع هذا 1 بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ} 2 الآية.
[اصطلاحات حديثية]
الحديث المرفوع والمسند والمتصل
وأما المسألة الثانية في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل: فاعلم أن المرفوع : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا، أو فعلا، أو حكما. واشترط الخطيب البغدادي كون المضيف صحابيا، والجمهورُ على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادفٌ له، وقد يكون متصلا كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون منقطعا كمالك
ـــــــ
1 قد أوجز الشيخ –رحمه الله- فجاء كلامه غيرُ كافٍ في بيان المراد، فأجاز البر والعدل لمن نهى الله عن ولايتهم في الآية، وهم المحاربون للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم. والمُتَبَادَرُ من الاستئناف البياني في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ} إلى آخره الذي هو استدراك على النهي عن الموالاة والمودة للكفار المعادين المحاربين في الدين هو أن من ليس كذلك من الكفار لا يدخلون في عموم النهي الأول من كل وجه بل يجوز برهم والعدل إليهم؛ ولذلك أكد الآية الأولى بالثانية وهي: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلخ.
2 سورة الممتحنة آية : 8.(2/191)
عن الزهري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو بسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر –رحمه الله- بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعا وقيل: إن المسند ما وصل إسناده (إلى الصحابي) ولو موقوفا عليه؛ فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه وبين المرفوع على هذا القول عمومٌ وخصوصٌ وجهي يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف والأكثر على التعريف الأول، والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المرفوع والمتصل كما يعلم مما تقدم. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم أن الصحة غير راجحة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحُسن والضعف أوصاف تدخل على كل مِنَ المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وُجِدَتْ حُكِمَ بمُقتضاها لموصوفها. لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع؛ ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله وسلم وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته؛ والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جَمْعٌ.
[مصطلحات فقهية]
اصطلاحات فقهية :
وأما الجواب عن قول شارح الزاد: "غير تراب ونحوه": فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه فإنه لو أضيف(2/192)
أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه؛ لكون المضاف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين. وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد؛ وفي باب إزالة النجاسة هو كل جامد مُنَقٍّ كالأشنان والصابون والسدر، فيفسر النحو في كُلٍّ بما يناسبه.
[القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته]
وأما المسألة الرابعة في قول شارح الزاد نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته". فاعلم أن قوله: "وهو متوجه" من كلام صاحب الفروع، ومعناه أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا لا يليق باختصار هذه الأسطار.
[نصيحة عامة للمسلمين ]
(نصيحة في إيثار الآخرة والعلم والعمل):
ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة، وقد وقع نظري عند إملائي هذا على عبارة ابن الجوزي في "السر المصون" ونصها: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء، انْتَهَبَ الزمانَ ولم يُضَيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حَصَّلَهَا. مَنْ وُفِّقَ لهذا، فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كلَّ محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد؛ وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له، فإما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدر لا في القمطر، ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصرف نفسه عن(2/193)
المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة؛ وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس، ومن علم أنه مَاٌّر إلى الله اعز وجل وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر، صبر على تفث السفر ووسخه، إن الراحة لا تُنَال بالراحة 1؛ فمن زرع حصد، ومن جدَّ وجد.
خاضوا من أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون
أحسن الله لي ولك العواقب، ووفقنا لنيل أرفع الدرجات والمراتب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ومَن لدينا الوالد -حفظه الله- 2.
الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]
وله أيضا، تغمده الله بإحسانه، وصب عليه من شآبيب بره وامتنانه، ونفعنا بعلومه الداعية إلى الرشاد، ورسائله المرشدة إلى هدي خير العباد، ونصائحه المؤذنة بحسن الدعوة إلى الله، ورد العباد إلى عبادة من لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، رسالة إلى من وصلت إليه من المسلمين يحرِّضهم فيها على الجهاد في سبيل الله والتزام أصول الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. ويذَكِّرهم نعمة الله التي امتنَّ بها عليهم على يد شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ إذ كانوا قبله على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء وبدعة صماء، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، لا شعور لهم بدين الله الذي بعث به رسوله، ولا يعرفون منه على التحقيق لا فروعه ولا أصوله، فأنقذهم الله بدعوته من الغواية، وسلك بهم طريق أهل السعادة والهداية، وكثَّرَهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة. وصاروا بهذا الدين للعباد قادة، وانتهت إليهم به الرياسة والسيادة، ثم سار أبناؤه بعده على منهاج الدعوة إلى الله، والحضّ على الجهاد في سبيل الله، ورد العباد إلى ما يحبه الله ويرضاه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وبَوَّأَهُمْ بفضله ورحمته الدرجات العلى، وهذا نص الرسالة:
ـــــــ
1 الراحة الأولى ضد التعب، والثانية راحة اليد. يعني أن الراحة ليست شيئا قريب المنال كالشيء الذي يتناول باليد من غير سعي ولا تعب. وفي معناه قول بعضهم: لا تنال الراحة إلا بالتعب.
2 كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه: يسلم عليكم.(2/194)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من وصل إليه من المسلمين -وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبيل الرشد والهدى-. سلام عيكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فقد سبق إليكم من النصائح والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين ما فيه كفاية وهداية لمن أحيا الله قلبه وأراد هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " 1 . فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه وقواعده المهمة، فيدخل الإيمان بالله ومحبته وخشيته، والخضوع له وتعظيم أمره ونهيه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته من تعطيل وإلحاد وشرك وتكذيب؛ لأن النصيحة لله: خلوص الباطن والسر من الغش والريب والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه. وكذلك النصيحة لكتابه تتضمن العمل بِمُحْكَمِهِ، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه. والنصح لرسوله يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته وتوقيره، وتعزيره ومتابعته، والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه من هوى أو بدعة أو قول، والنصح لأئمة المسلمين أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مُشَاقَّتهم ومنازعتهم. والنصح لعامة المسلمين هو: تعليمهم وإرشادهم لما فيه
ـــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(2/195)
صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفُّهُم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم وذهاب دينهم ودنياهم من معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره، ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه من التفرق والاختلاف وترك الحقوق الإسلامية. وفي الحديث: " ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "، فأفاد أن هذه الثلاث لا يدعها المسلم إلا لِغِلٍّ في قلبه، بل المسلم الصادق في إسلامه لا يكون إلا: مُخْلِصًا دينَه لله، مُنَاصِحًا لإمامه، مُلازِمًا لجماعة المسلمين. وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1 . فابتدأ الآية بالأمر بأن يُتَّقَى حَقَّ التُّقَاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، لأن قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 تحضيضٌ وحَثُّ على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء مات عليه 3
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 102-103.
2 سورة آل عمران آية : 102.
3 هذا هو الغالب في البشر بحسب سنة الله –تعالى- : من أن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه كما ورد. أما الثاني ففي صحيح مسلم، وأما الأول فلا أذكر مُخَرِّجَه الآن، وتدل عليه ظواهر آيات وأحاديث كثيرة منها: حديث علي المرفوع في الصحيحين "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو الجنة" فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال "لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى) الآية أي وما بعدها، وهذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة. وقد يعارضه عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما "فوالله إن أحدكم – أو الرجل – ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" إلخ . وأجاب عنه الجمهور: بأن هذا بيان للنادر وحديث علي وما في معناه هو الأكثر، وهذا الذي اعتمده شراح الصحيحين على أن بعض المحدثين قالوا: إن عبارة "فوالله إن أحدكم ليعمل" إلخ مُدْرَجَة في الحديث من كلام ابن مسعود، لا مرفوعة كما رواه بعضهم صريحا، بلفظ "فوالذي نفس عبد الله بيده" إلخ. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره، وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة لا يدخل الجنة؟ وفيه إشكال آخر، وهو: أنه ينافي ما صح من سبق رحمة الله لغضبه. والتحقيق -عندي- أن المراد بمن يعمل عمل أهل الجنة وهو من أهل النار: أنه لا بد أن يكون مع عمله منطويا على شيء من عقائد الشرك؛ كما كان يقول الأستاذ العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي –رحمه الله تعالى-. وأكتفي بهذه الحاشية الموجزة لتصحيح رأي من أنكر عبارة الشيخ عبد اللطيف من قليلي الاطلاع على كتب السنة.(2/196)
وقد أمر بالاعتصام بحبله وهو دينه وكتابه أمرًا عامًّا لجميع المكلفين وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام يتوقف على ذلك؛ ولا يحصل المقصود منه إلا بالاعتصام بحبل الله وترك التفرق والاختلاف؛ لما فيهما من فساد الدين وهدم أصوله وقواعده. ثم ذَكَّرَهم بنعمته عليهم بتأليف قلوبهم واجتماعها بعد العداوة والبغضاء، فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك وشقوة في العاجل والآجل، والجماعة والائتلاف رحمة وسعادة ونعيم في العاجل والآجل. وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتَنَّ عليهم وأنقذهم واجتباهم وهداهم، وجمع قلوبهم وشملهم بعد الفرقة والشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم ما أجلّها! ومواهب ما أعظمها وأبرها، لمن عقلها وشكرها! ولذلك ختم الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1: فيه بيان الحكمة المقتضية لبيان الآيات والتذكير بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك أسباب الشقاء والردى.
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 103.(2/197)
[تذكير أهل نجد بمشابهة حالهم لحال الأنصار رضي الله عنهم ]
وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية التي امتُنَّ بها على يد شيخنا -رحمه الله- : كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله وجلال قُدْسِه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه. كنتم على غاية من التفرق والاختلاف، فَبَصَّرَكم الله بهذه الدعوة المباركة من العَمَى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعَلَّمَكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به واختاركم على مَن ضَلَّ وغوى، وجمعكم بعد الفُرْقَة، وألف بين قلوبكم بعد العداوة والمُشَاقَّة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة، فاشكروه على هذه النعم العظيمة بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته ومغفرته، ولا تكونوا كالذين: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ِ} 1، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى. وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله وابتلاكم بأعداء دينه، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} 2، وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع والمحن من أكبر أسبابه. وأعظم موجباته: مخالفة الأمر الشرعي وترك طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ ولهذا يسلط العدو، وتنزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بسوط الذلة والمهانة كما جاءت به الآثار، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ َغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 28.
2 سورة محمد آية : 4.(2/198)
الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 1 إلى قوله: {ظَاهِرِينَ} .
وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو: مات على شعبة من النفاق" 2، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة: أعلاها للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" 3. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 4. جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير، وقد ذكر الشيخ عبد الله في رسالة كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5 . فأجاب -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى المَهْيَع والطريق، وبَيَّنَ له -رحمه الله- غلطَ أبي بكر بن العربي فيما زعمه وقرره، من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره. بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية هو: كلام القدرية المجبرة، فإما أن يكون جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره، ويأخذ به، وهذا نص الرسالة:
ـــــــ
1 سورة الصف آية : 10.
2 مسلم : الإمارة (1910) , والنسائي : الجهاد (3097) , وأبو داود : الجهاد (2502).
3 البخاري : الجهاد والسير (2790) , وأحمد (2/335 ,2/339).
4 سورة البقرة آية : 281.
5 سورة الذاريات آية : 56.(2/199)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط الذي ذكرت فيه كلام أبي بكر بن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 . قد وصل وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة، وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر، وليس هذا خاصا به. بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى السنة، فإن قوله في تفسير قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده.انتهى. وهذا الكلام بعينه هو: كلام القدرية المجبرة، فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه، وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جَارٍ بذلك كله، والقدرية المجبرة دعاهم
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 56.
2 سورة الذاريات آية : 56.(2/200)
لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وحاصل قولهم: إنكار القدر وأن الأمر أُنُف1، فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه -تعالى- خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته. كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2،: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3،: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 4،: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 5، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان، وبإنكاره ضلت القدرية النفاة وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية، التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلّت عليها النصوص النبوية.
[تفسير العبادة لغة وشرعا]
وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما، وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة، والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 6،: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 7،: {لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 8 . والثانية في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 9،: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 10،: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 11 على أحد القولين. فمن نفى الإرادة
ـــــــ
1 أُنُف بضم الهمزة والنون: أي كل شيء يخلقه الله فهو مستأنف جديد لم يكن مقدرا ولا مكتوبا.
2 سورة القمر آية : 49.
3 سورة الأنعام آية : 111.
4 سورة الأنعام آية : 112.
5 سورة الإنسان آية : 30.
6 سورة الذاريات آية : 56.
7 سورة النساء آية : 64.
8 سورة البقرة آية : 185.
9 سورة القصص آية : 8.
10 سورة الأعراف آية : 179.
11 سورة يونس آية : 119.(2/201)
الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع. ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم في هذه العبادة، وجعل عابد الأصنام والشيطان، والأوثان عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص، وطائفة الاتحاد الكفار. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا عن غيرهم، والعبادة وإن كانت لغة أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله:
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} 2 بتوحيده وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة، والحق ما قاله ابن عباس خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {لا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3، وتعليلهم ما قالوه، بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله -تعالى- هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه لأن الله -تعالى- لا يعصى عنوة، بل علمه
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 56.
2 سورة البقرة آية : 21.
3 سورة الكافرون آية : 3.(2/202)
وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة أحمد وغيره. وأما من قال بإثبات القدر، خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة من لزوم خروج العبد عن فعل المولى. وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية، وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية. فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها. أما الثاني فيقع من الأكثر: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 1، ولله –سبحانه وتعالى- في خروج الأكثر عن أمره حكمة، يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته وعدله وربوبيته، يستحق أن يُحمد عليها.
[الأقوال في قوله عز وجل {إلا ليعبدون} ]
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلاما حسنا في معنى قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2، ذكر فيه ستة أقوال: (أحدها): قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي، وهو قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من المجبرة، قائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة
ـــــــ
1 سورة يوسف آية : 103.
2 سورة الذاريات آية : 56.(2/203)
وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. (الثاني) قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أنه -تعالى- يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر، ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية، ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته حقت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر. (الثالث): قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه. فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له. وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد؛ ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لأجل نفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم، وهذا اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، قالوا: فقوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة، هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين. وهذا اختيار أبي بكر بن
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 56.(2/204)
الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: لا يفعل لعلة، قالوا: واللفظ لأبي يعلى هذا بمعنى الخصوص، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة. (قلت): قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث، ثم قال شيخ الإسلام: قلت: قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف، مخالف لقول الجمهور. (والقول الرابع): إنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهرهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة، وفسروا العبادة بالتعبيد القدري، وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين : أنا كافر برب يعصى. فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعا
وأما هؤلاء فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة. وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة. وقال وهب: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية. وقد روي أيضا عن طائفة نحوه، وهؤلاء، وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية فهم -أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية : 179.
2 سورة الذاريات آية : 56.(2/205)
تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد، وأما من قبلهم فهم إباحية يسقطون الأمر والنهي. (والقول الخامس): قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني -كما سيأتي- وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 3 الآية هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. وهذا المعنى صحيح؛ ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال -تعالى-: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4 . هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة لقمان آية : 25.
2 سورة الذاريات آية : 56.
3 سورة لقمان آية : 25.
4 سورة يوسف آية : 106.(2/206)
الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه]
وله أيضا جواب مسائل سُئل عنها، وهذا نصها: (المسألة الأولى): رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة يسلمها في الثمرة، فأسلمها في طعام إلى الحصاد. وبعد ذلك احتاج صاحب الدراهم، وقال لصاحبه: رد علي الدراهم، ويصير لك الطعام المؤجل. (الجواب): الحمد لله، إن هذا بيع لدَيْن السَّلَم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1 .
[الجنب إذا أصابه المطر]
(المسألة الثانية): في الجنب إذا أصابه المطر حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرفع حدثه؟ (الجواب): الحمد لله، نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" 2.
[ما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا]
(المسألة الثالثة): فيما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا. (فالجواب): إن استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط، ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه.
[اختلاج الأعضاء]
(المسألة الرابعة): فيمن يقول إذا أكلته يده، أو شهق: إنه يأكل كذا وكذا، وإذا أكله عقب قدمه قال: إنه يحكي فيه أهل هذا شرك أو لا؟ (فالجواب): إن الاستدلال بأكل اليد والشهيق، وأكلة العقب على ما ذكر جهل وضلال، من أوضاع الجهلة الضالين، وبعض الرافضة يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على الحوادث، وينسبونه إلى جعفر الباقر؛ وقد ذكر أهل العلم: أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة المشركين
ـــــــ
1 البخاري : البيوع (2126) , ومسلم : البيوع (1526) , والنسائي : البيوع (4595 ,4596 ,4604) , وأبو داود : البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه : التجارات (2226) , ومالك : البيوع (1335 ,1336) , والدارمي : البيوع (2559).
2 البخاري : بدء الوحي (1) , ومسلم : الإمارة (1907) , والترمذي : فضائل الجهاد (1647) , والنسائي : الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود : الطلاق (2201) , وابن ماجه : الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43).(2/207)
الغالين في أهل البيت، سلام الله على أهل بيت رسوله.
[أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة ]
(المسألة الخامسة): رجل أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، فباعها بزيادة على العشرة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة. (فالجواب): لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، ولا يستحق شيئا من الزيادة.
[التقويم بسعر الوقت]
(المسألة السادسة): رجل له مائة صاع دين سلم، وارتهن نخلا وأرضا، وغير ذلك، فلما مضى أكثر الأجل اتفق الطالب والمطلوب على تقويم ذلك الرهن بثمن حاضر، وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته بدراهم على صاحب الرهن. (الجواب): هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا، وليس له إلا ما أسلم فيه، ورأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح، والتقويم بسعر الوقت فهذا لا يصح.
[قول: يا سيد، ومولاي]
(المسألة السابعة): قول: يا سيد، ومولاي. (فالجواب): هذه الألفاظ تستعملها العرب على معان، كسادة الرياسة والشرف، والمولى يطلق على السيد والحليف والمعتق والموالي بالنصرة، والمحبة والعشق، وأطلق على الزوج، كما قال -تعالى-: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 1، فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر، وفي السنة من ذلك كثير. وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة، كمن يدعي أن السيد هو الذي يدعى ويعظم، والولي هو الذي يبغى منه النصر والشفاعة، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة، فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك.
[ قول: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام]
(المسألة الثامنة): قول الرجل لولده أو غيره: طعامك أو شرابك أو مالك علي حرام.
ـــــــ
1 سورة يوسف آية : 25.(2/208)
(فالجواب): إن تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن كما في سورة التحريم. واختلفوا هل عليه كفارة يمين أو لا؟ وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين.
[تقبيل اليد والرِّجل]
(المسألة التاسعة): قُبلة اليد والرِّجل هل هي جائزة أو لا؟ (فالجواب): إن بعض أهل العلم منعها، وشدد فيها، وبعضهم أجازها لمثل الوالد، وإمام العدل على سبيل التكرمة، ولا يتخذ ذلك ديدنا دائما1 بل في بعض الأحوال على ما ورد.
[الرقية بالقرآن إذا كان الراقي يبصق بريقه]
(المسألة العاشرة): في الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه. (الجواب): هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به، بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا، والحاج أفضل منه. ولا يعرف أن أحدا من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما الوارد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا" 2 فهذه الرقية من المسلم الموحد، على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث.
[حملت وصار الحمل سقطا يرتفع وينْزل]
(وأما مسألة) المرأة التي حملت، وصار الحمل سقطا، يرتفع وينزل، وأخذ ثلاثة عشر سنة، إلى آخر السؤال.
ـــــــ
1 الأظهر أن يكون الأصل: ولا دائما، فإن جعله دينا ممنوع، وإن لم يكن دائما، إذ ليس لأحد أن يشرع في الدين عبادة دائمة، ولا موقوتة، وكذلك الدوام ممنوع، ولو لم يجعل دينا يتعبد به بدليل قوله: بل في بعض الأحوال.
2 البخاري : الطب (5745) , ومسلم : السلام (2194) , وأبو داود : الطب (3895) , وابن ماجه : الطب (3521) , وأحمد (6/93).(2/209)
(فاعلم) أنه لا حمل بعد أربع سنين على المشهور عند العلماء، وهذه الحركة عرضت بعد الموت، وإذا مات الحمل في بطنها لم يثبت لها أحكام الحمل، فتعتد عدة المتوفى عنها، ولا تلتفت لهذا الحمل، فإنه لا حكم له.
[خبر الكاهن ]
(وأما مسألة): الكاهن إذا سأله عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان. (فالجواب): إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد،، وإن كان من جهة الطب، ومعرفة منافع الأدوية فلا يدخل في مسألة الكاهن. وأما من قال لصاحب السلعة: إن خليت عني من قيمة ما يشتري به رفاقتي، أو حصل منك ثمن قهوة، جبرتهم على الشراء منك، فهذا لا يحل، وجبرهم لا يجوز، ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة، فيستحق به العادة للدلال.
[إضافة أشياء إلى النجوم]
وأما مسألة من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا، هذه هبوب التويبع، هذه هبوب الجوزاء، فهذا لا يجوز، شدد في المنع منه مالك وغيره؛ ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم. قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
[صلى وعلى رأسه عمامة حرير]
وأما من صلى وعلى رأسه عمامة حرير، فالمشهور من مذهب الحنابلة صحة الصلاة، بخلاف ستر العورة بحرير، فإنها لا تصح، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة.
[ أهل البدع]
وأما أهل البدع: فمنهم الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلوه واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم متأولين في ذلك، وأشهر أقوالهم تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب،(2/210)
فهم يكفرون أهل الكبائر، والمذنبين من هذه الأمة. وقد قاتلهم علي بن أبي طالب، ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحت فيهم الأحاديث. روى مسلم منها عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان. وفي الأحاديث: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله" 1 . ومن أهل البدع: الرافضة الذين يتبرؤون من أبي بكر وعمر، ويدعون موالاة أهل البيت؛ وهم أكذب الخلق وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين. وزادوا في رفضهم حتى سبوا أم المؤمنين -رضي الله عنها وأكرمها-، واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلمإلا نفرا يسيرا. وأضافوا إلى هذا المذهب الغالية الذين عبدوا المشايخ والأئمة وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه –سبحانه- من التأله والتعظيم، والإنابة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات. وغلاتهم يرون أن عليًّا ينزل في آخر الزمان. ومنهم من يقول غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي. وهم جهمية في باب صفات الله، زنادقة منافقون في باب أمره وشرعه. ومن أهل البدع: القدرية الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم، ومنهم القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له ولا اختيار. ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن
ـــــــ
1 مسلم : الزكاة (1066) , وأحمد (1/91).(2/211)
الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد يتفاضل1.ومن أهل البدع وأكفرهم: الجهمية الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها الكتاب والسنة، ويؤولون ذلك، كالاستواء والكلام والمجيء والنّزول والغضب والرضى، والحب والكراهة، وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية. ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية والقادرية والبيومية، وأمثالهم كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة.
[فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال]
ومن فاتته الجمعة وقد صلاها الإمام قبل الزوال فيصليها ظهرا بعد الزوال.
[صلاة الفذ ركعة خلف الصف]
وأما صلاة الفذ ركعة خلف الصف فمقتضى كلام الفقهاء أنه يستأنف الصلاة، ولا يبني، ويدخل في ذلك تكبيرة الإحرام، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
ـــــــ
1 كذا في النسخة التي بأيدينا، ولا بد أن يكون الأصل يقولون: إن الإيمان هو التصديق وحده –أي لا يدخل فيه العمل– وإنه شيء واحد لا يتفاضل. فهم كذلك، ولا يكفي هذا في تعريفهم، بل لا بد من بيان أنهم يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب إلخ.(2/212)
الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- في مسألة الرهن ما نصه:
(حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده ولزومه وعدمه)
اتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البياعات إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ وعنده يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا في الكتابة. واشترط الشافعية في الرهن ثلاثة شروط: (أحدها): أن لا يكون دينا ؛ فإن الدين لا يرهن بعين. (الثاني): أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك. (الثالث): أن لا يكون لزومه متوقعا. وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع ضربان: شروط الصحة، وشروط الفساد. فأما شروط الصحة فشرطان: (أحدهما): متفق عليه في الجملة. (والثاني) مختلف في اشتراطه، أما القبض فاتفقوا في الجملة على أنه شرط في الرهن، لقول الله: {فَرِهَانٌ(2/213)
مَقْبُوضَةٌ} 1، واختلفوا: هل هو شرط للتمام أو شرط للصحة؟ وفائدة الفرق أن من قال: هو شرط للصحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن. وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 2.وعند مالك أن من شرط صحة الرهن: استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة، أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم. وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عمم الشرط على ظاهر ما لزم من قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 3، وشرط وجوب القبض: استدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف؛ وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو: أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغلق الرهن" 4 . ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، هل يدخل في الرهن أو لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني: الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي. وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وأما مالك ففرق فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن، كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمرة النخل، أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام. انتهى ما لخصته. فتبين من هذا أن ما اعتمده القاضي حسين لنفسه من دعواه أنه أحق
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 283.
2 سورة البقرة آية : 283.
3 سورة البقرة آية : 283.
4 ابن ماجه : الأحكام (2441) , ومالك : الأقضية (1437).(2/214)
بالثمرة من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء، فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم. وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذاهب أحمد. ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق، إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة. وعلى كل حال، فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو يكون فاسدا؛ وعلى كلا الحالين فلا يختص بشيء من ثمرة المدين، أعاذه الله من التدحمل والتدعثر، آخرها والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/215)
الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول]
وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى إبراهيم بن عبد الله بن عمار جوابا لسبع مسائل: (الأولى): رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول. (الثانية): عن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظره غيم أو قتر. (الثالثة): عن الرهن، هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحته أو لا؟ (الرابعة): عن الحكم في قطع يد السارق. (الخامسة): عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه. (السادسة): عن الوقف على الضعيف. (السابعة): عن عاق والديه، هل عليه حد مقدر؟ فأجاب -رحمه الله- عن مسائله بأصح عبارة، وأوجزها، وقرر في مسألة صيام يوم الشك ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وإن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر به الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس، فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه. ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فياليت شعري، أين وجدوا ذلك؟ وأي الكتب اعتمده أولئك؟ نعم، قد وجد في بعض الروايات الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟ وإذا قيل لأحدكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم. فيا ليت شعري كيف ساغ لهم تقليده في هذه، وغيرها من المسائل، ولم يسغ لهم تقليده -رحمه الله- في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض شيء من قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله لى الله عليه وسلم ال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 2 . والمقصود من هذا الكلام: إيقاع بعضهم بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات، وهذا نص الرسالة:
ـــــــ
1 سورة النور آية : 63.
2 البخاري : الصوم (1909) , ومسلم : الصيام (1081) , والترمذي : الصوم (684) , والنسائي : الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه : الصيام (1655) , وأحمد (2/259 ,2/263 ,2/281 ,2/287 ,2/415 ,2/422 ,2/430 ,2/438 ,2/454 ,2/456 ,2/469 ,2/497) , والدارمي : الصوم (1685).(2/216)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: إبراهيم بن عبد الله بن عمار -سلمه الله، وصرف عنا وعنه عذاب النار-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. فوصل خط السائل، والجواب عن مسألة رفع اليدين إذا قام في التشهد الأول، فهو في هذا الموضع ثابت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، وثابت أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد.
[صيام يوم الثلاثين من شعبان]
وأما مسألة: السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال -ليلة الثلاثين- دون الهلال غم أو قتر. فالقائلون بصومه -وجوبا أو استحبابا- يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان، والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه، ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه. والحُجَّة لمن منع صومه –مطلقا- ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 1 انتهى، وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس، كائنا من كان. أقول: وله في هذه المسألة كلام مبسوط، رد على عثمان بن منصور، أوضح فيه كلام الأئمة، وجلى غياهب الشُّبه فيه عن الأمة، فأبصروا بنور الله حقائق التحقيق ومدارك الأحكام، وانجلى عن بصائرهم ذلك القتر
ـــــــ
1 البخاري : الصوم (1909) , ومسلم : الصيام (1081) , والترمذي : الصوم (684) , والنسائي : الصيام (2117 ,2118 ,2119 ,2123) , وابن ماجه : الصيام (1655) , وأحمد (2/259 ,2/263 ,2/281 ,2/287 ,2/415 ,2/422 ,2/430 ,2/438 ,2/454 ,2/456 ,2/469 ,2/497) , والدارمي : الصوم (1685).(2/217)
والقتام، وذكر فيه عن الإمام أحمد سبع روايات أوردها بعض الأصحاب والصحيح منها: الاستحباب من غير شك ولا ارتياب. فراجعه إن كنت مشتاقا إلى ذلك التحقيق، واسمُ بهمتك إلى معالم ذلك المهيع والطريق.
[هل القبض والاستدامة شرط للزوم صحة الرهن ؟]
ثم قال -رحمه الله-: وأما مسألة الرهن، فاعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته؛ فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه.
[قطع يد السارق]
وأما السارق فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم.
[الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه]
وأما مسألة الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها، ويرون أنه طلاق بدعة محرم، فاعله مستهزئ بآيات الله.
[الوقف على الضعيف]
وأما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب، والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلا بحسبه.
[عاق والديه هل عليه حد مقدر ؟ ]
وأما عاق والديه فليس عليه حد مقدر، لكن يعزر بقدر ما يردعه، ويردع أمثاله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.(2/218)
الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه –سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الطعن على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بأنه قبل جوائز ابن بنيان، وأنه بنى بيته من أموال محرمة. وحاشا لله، فقد برأ الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين، فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا نميز لديه بما اغتصبه أولئك، والمسؤول عن التخليط أولو الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، دع من قصد ذلك وأَمَّهُ، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى: عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا(2/219)
علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها1 . ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت، وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام،
ـــــــ
1 قد فتن جماهير الأشاعرة في القرون الوسطى بنظريات المعتزلة والفلاسفة، فتأولوا صفات الله -تعالى- بما يخالف هدي السلف، مع أن الأشعري نفسه رجع إلى مذهب السلف، في آخر أمره، كما فصله في كتابه "الإنابة"، فالظاهر من قول الشيخ: "طريقة من ينتسب إلى الأشعري" أنه يبرّئ الأشعري من هذا التأويلات، وإنما يلصقها بالذين كانوا دائما يطعنون بالحنابلة وأهل الحديث، وينبزونهم بالألقاب.(2/220)
ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة.
[تكفير من أجاز دعاء غير الله والتوكل عليه]
وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به ويُرجَع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام، ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطاغوت، وبعبادة سواه -تعالى- وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل الحسين وعلي والعباس وعبد القادر، وغيرهم ممن يدعى مع الله هو الشرك الأكبر، البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عباداتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان(2/221)
والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل أنكم كفّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون، وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفّرهم فقد كفّر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين. وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو النصوص، والفطرة والعقل والنظر، ولا يبعد أنه تلقاه من مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك. وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس إلا على هذا، وجنسه من الشبهات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1.
[إطلاق لفظ الأمة والخطاب المخصوص في قوله: " كنتم خير أمة" ]
وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم -وإن قلّت- فإن لفظ الأمة -مفردا ومضافا- يقع على المستجيب المهتدي، ويقع –أيضا- على المكذب المعاند، فالأول كقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقوله: {أُمَّةً وَسَطاً} 3، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 4، وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله" 5، وفيه: " إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون" 6.فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ ويتناول المكذبين والضالين، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 7، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 67.
2 سورة آل عمران آية : 110.
3 سورة البقرة آية : 143.
4 سورة الأعراف آية : 181.
5 الترمذي : تفسير القرآن (3001) , وابن ماجه : الزهد (4287 ,4288) , والدارمي : الرقاق (2760).
6 أحمد (1/453).
7 سورة النحل آية : 36.(2/222)
الحزبين. وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 1، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه، وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 2.فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى الرسول، وكذلك قوله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 3، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} 4، وقوله -تعالى-: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} 5 الآيتين، فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" 6، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" 7، وفيه: "القدرية مجوس هذه الأمة" 8 . وخرّج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية " 9 . إذا عرفت هذا فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل وهي قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 10 فيها الدليل الكافي والبرهان الشافي على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس
ـــــــ
1 سورة فاطر آية : 24.
2 سورة النساء آية : 41.
3 سورة النحل آية : 84.
4 سورة النحل آية : 89.
5 سورة الجاثية آية : 28.
6 الترمذي : الإيمان (2640) , وأبو داود : السنة (4596) , وأحمد (2/332).
7 مسلم : الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350).
8 أبو داود : السنة (4691) , وأحمد (2/86).
9 الترمذي : القدر (2149) , وابن ماجه : المقدمة (62).
10 سورة آل عمران آية : 110.(2/223)
بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. (الثاني): أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه، من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوّى برب العالمين سواه، بل قد وصلوا في عبادتهم للمشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره. فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة مسلم وعيشه إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك واحتسابه لديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2.فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به، فالمرء مع من أحب ونصر ووالى شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء؟ وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 110.
2 سورة الشعراء آية : 88.(2/224)
جند محضرون للقباب وعابديها. وقد عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بالشهادتين، واستقبلوا القبلة لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، والتأثير من دون الله رب العالمين. فهل ترى، يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقه وعقيدته؟ وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدودا من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة. وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقرأه، وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 1 الآية. بل قد ذكروا أنه من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث البنت والجد أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله! (الثالث): قوله –تعالى-: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وأصل الإيمان بالله: هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك في حديث
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 41.(2/225)
وفد عبد القيس. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد. وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده، ومبانيه العظام، من ذلك أنك تبعث مشايخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين. وأكثرهم يقرر أن معناها إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله، والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وبعضهم قرر أن معناها أنه -تعالى- هو الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن "السنوسي" صاحب الكبرى في العقائد المبتدعة1.
[كلمة التوحيد وما تدل عليه من المعاني]
وهذه المعاني ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر؛ وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه. وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له -تعالى- على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول
ـــــــ
1 معنى كون عقائد "السنوسي" الكبرى مبتدعة: أنها مبنية على اصطلاحات علوم المنطق والكلام والفلسفة، لا على منهج القرآن والسنة، وآثار سلف الأمة الصالح، وقد عد أئمة السلف الكلام من البدع، وحكى بعض نصوصهم "الغزالي" في الإحياء، واعتذر عنها بأن الكلام ليس من علوم الدين، ولكن عرضت له الضرورة، فهو كحرس الحاج الذي يحميهم من قطاع الطريق. ولكن الحق أن سلوك منهج النصوص أقوى في حماية الدين.(2/226)
لازم للمعنى المراد، لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأنْ يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقيرا محتاجا، لا قدرة له. فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف لاتَّضَح الحكم لديك، ولم يخفَ أمره عليك. ومنها أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السويّة، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة، وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم1 وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة، وغيرهم. وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات ورياضات، مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال الله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3 . ومن المعروف عن أهل العلم والتجربة أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد4؛ ومن طلب التنزل الرحماني الرباني الإلهي
ـــــــ
1 يعني الشيخ بهذا ما يسمونه الرابطة، وهي أن يتخيل مريد الذكر شيخه، أو بعض شيوخ الطريقة الموتى، فيمثله أمامه، وقلبه متصلا بقلبه يمده – فعد هذا من العبادة شرك صريح، ويقل فهم من لا يقصد به العبادة، ويعده عادة مفيدة في السلوك، لا قربة شرعية.
2 سورة الشورى آية : 21.
3 سورة الأعراف آية : 3.
4 قال بهذا بعض الأجلاء، وما أظنه يثبت.(2/227)
من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله"، وذكر الخاصة "الله الله"، وذكر خاصة الخاصة "هو هو". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 1 2.والاسم المفرد -مظهرا أو مضمرا- ليس بذكر، ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته، وعمدتهم في ذلك طلب تفريغ الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها، وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
[ذكر الله حصن حصين من الشيطان]
وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك قال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآية، وفي حديث يحيى بن زكريا: " وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه فأوى إلى حصن حصين " .
[القول بأن النبوة مكتسبة]
وبعضهم آل القول به إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء. وأعظم هذه الكفريات سببها الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه، ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام، ثم ابتليت بسميّه، مع ما هو فيه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية
ـــــــ
1 مسلم : الآداب (2137) , وأحمد (5/10 ,5/11 ,5/21).
2 ذكره في الجامع الصغير، بعلامة الإمام أحمد عن رجل، وعلّم عليه بالصحة. ولكن ليس فيه ذكر القرآن، فلعلها رواية أخرى.
3 سورة الزخرف آية : 36.(2/228)
التي مَنَّ الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي أو رافضي، أو من عباد القبور، وغرك ما يعِده ويُمَنِّيه من نيل رتبة القضاء، "ودون عليان القتادة والخرط". المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه، يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون. واعلم أن إمامنا -وفقه الله تعالى- على طريقة أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين. وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما مَنَّ الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام "سعود" من بأسه ما خمدت به نار الفتنة والجحود.
كأني بكم والليت آخر قولكم ... ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني
[أموال السلطان وجوائز الأمراء]
(فصل) وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة من الطعن في العقيدة، وأنهم كفّروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون. هذه عقيدتكم وطريقتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية، وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 1. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من
ـــــــ
1 سورة محمد آية : 30.(2/229)
ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد .
فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة ... فبح لان 1 منها بالذي أنت بائح
ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره. إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم، بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك:
قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء
أنت من جهلك عندي ... بمحل السفهاء
فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان، وأمثالهم فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم ...إلى أن قال : وقد قال عثمان رضي الله عنه: جوائز السلطان لحم ظبي ذكيّ، وقد قال ابن مسعود لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه، قال: لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما.
ـــــــ
1 "لان" مخففة من الآن لضرورة الوزن. ولو قال الشاعر: "بح" بغير فاء، لزالت هذه الضرورة.(2/230)
وحكي عن أحمد -رحمه الله-: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير مختار. حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة- عند الكلام على حديث: "إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، أو سقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه" 1 والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خيثم: ما كان من معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان، ونيل السلطان. وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه، لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا أبتِ؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟ وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه، وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت -في السلف الصالح- سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته، والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهوصلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا. وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس، وإنما تباح، وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين. وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجاراة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة لا عن ورع فيكم، ولا تحر للصواب،
ـــــــ
1 أحمد (2/399).(2/231)
وطلب للفقه لديكم، بل أنتم كما قال -تعالى- في أهل الكتاب: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1 .
[شرط حل الأكل من الأوقاف]
وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة أحمق من نعجة على حوض، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف، والريع والمآكل إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء قبل المسلمين من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟ وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرّف الله به إلى عباده من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر، ليس إلا. وأما التَّزَيِّي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخَلاق بالخسيس الفاني،
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 62.(2/232)
وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما. فلا يباح، والحالة هذه لمن كان هكذا أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة. وفي الحديث: "إن هذا المال حلوة خَضِرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار" 1، والأوقاف من مال الله. ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية عن المساجد والقضاء وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد -رحمه الله-. فإنه -رحمه الله- توجه إليه الفتح بن خاقان -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يُعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعُزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بارّ راشد، متبع لأمر الله ورسوله.
[ما جاء في رؤيا الطفيل]
(فصل) ما جاء في رؤيا الطفيل: "أنه مر على نفر من اليهود فقال لهم: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: والله والكعبة"2. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا. والغرض منها هنا ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي، فما زعمتموه عيبا مع العمى، والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة قال حسان:
ـــــــ
1 البخاري : فرض الخمس (3118) , والترمذي : الزهد (2374) , وأحمد (6/377).
2 أحمد (5/72).(2/233)
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد
صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد
[كثرة المخالطة لها تأثير ظاهر في الأخلاق والطباع ]
(تنبيه) طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بيّن في الأخلاق والطباع والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " الغلظة في الفدّادين أهل الوبر والشعر، والسكينه في أهل الغنم ". ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة، ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل. شعر :
لما رأت أختها بالأمس قد خرب ... كان الخراب لها أعدى من الجرب
[ما قام به والد الشيخ من الإصلاح الديني]
وأما عمى بصائركم عمّا منّ الله به على هذا الشيخ، من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصّب نفسه بحمد الله ومنّته لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه، فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم، وذب عنهم وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله. وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية والأشاعرة والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به، وصاروا في بلدتكم يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم، وقد من عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به بعدما كاد يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل من أهل هذه البلاد النجدية إنما تخرّج(2/234)
عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه، ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا، وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لإعلاء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه. فهو قد نصح ولاة الأمر منهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاة تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر.
(شعر):
وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا
وقد عرف من كان له فضل وعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم مما يدل على فضله وجلالته وهيبته وفطانته، وأن ذلك مما يزيده الله به -إن شاء- رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب -إن شاء الله- حسن العاقبة، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال -تعالى- {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2. ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه، ونور ضريحه- قوله:
و لم تكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء فيَّ وتقدح
كالليث لما هيب خط له الزبى ... وعوت لهيبته الكلاب النبح
ـــــــ
1 سورة النور آية : 11.
2 سورة آل عمران آية : 186.(2/235)
يرمونني شزر العيون لأنني ... غلست في طلب العلا وتصبحوا
وقال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم. اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون، والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به رفعة وشرفا.
كم كان في نكث أسباب العهود بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب
وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
[فضيلة الاشتغال بالحرث والزرع وذم الأكل بالدين]
عجيبة عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث، ولما فتحوا خيبر اقتسموها وعاملوا عليها أهلها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم، ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله آلة تكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف. وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلت المناقب مثالب،(2/236)
ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا أو يوجبه، لم يحل بينكم وبين مأكلكم ولا رياستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين، ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين.
(شعر):
أصبحت بين معاشر هجروا الهدى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول رشدهم وكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم
[الإنكار على الإمام بناء المسجد الجامع]
(فصل) بلغنا عن خدنك، ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل له: إنه قد بناه سعود -رحمه الله- أولا. فقالوا: هذا من باب قوله -تعالى-: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت، وهذا يدل على ما قلناه: إن اعتقادكم في الإمام مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد والأحساء، وإنكاره مكابرة، ورد للواضحات. وقد علم أن الاقتداء بأهل الدين في البر والخير، والعمل الصالح كبناء المساجد، ورفع شأنها من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه وصنع، والاستدلال عليه بقوله -تعالى-: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2 أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــ
1 سورة الزخرف آية : 23.
2 سورة الأنعام آية : 90.(2/237)
الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون، رجل من أهل عمان، قد ألقيت إليه شبهات وضلالات، من أضاليل الجهمية النفاة، فبعث بها إلى الشيخ الإمام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن. فأجاب عليها بأدل دليل وأوضح برهان. وقد سأل هذا الجهمي عن هذه الأسئلة، فمنها قوله: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟. ومنها قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه -تعالى- ما نفى استواءه من غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحروف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. ومنها قوله: وإذا أقررت بأن لله مكانا معينا، فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} 4، وقال صلى الله عليه وسلم" حيث ما كنتم فإنه معكم ". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث. أما الآيات الأخيرة، فقد قيل في الآية الأولى: إنها ليست من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش، هذا كلامه بحروفه، نقله الشيخ على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. وقد أجاب عليها -رحمه الله- إفادة لمحمد بن عون إذ كان من أهل التوحيد والإثبات، وممن جاهد الجهمية في تلك الجهات، وإلا فليس هذا الجهمي الكافر كفؤا للجواب لأنه من العجم الطغام، بل هو أضل من سائمة الأنعام، إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، يتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيى بزي أهل الذكاء والفهم، وليس له في ذلك ملكة
ـــــــ
1 سورة طه آية : 5.
2 سورة البقرة آية : 115.
3 سورة ق آية : 16.
4 سورة سبأ آية : 50.(2/238)
ولا روية، ولا معرفة له بالعلوم ولا درية، لا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا، بل هو ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد موّه هذا الجهمي الكافر بهذه السفسطة والجعجعة،، وهرقع بهذه المخرقة والقعقعة، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم. كلا والله، إن الليث مفترش على براثنه، لحماية حمى التوحيد وقاطنه، فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي، ويهدم منه الرعان الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة. فرحمه الله من إمام جِهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها، وأوقد منها للورى نبراسها، وسقى عللا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها، وأينعت -بحمد الله- ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد.
إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها
فبلّوا الصدي من صفوها وتضلعوا ... وضعضع من تيارهن مهينها
كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها
فضعضعها بالرد والهد جِهبذ ... وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها
وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى منونها
فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها
وجلّى ظلام الجهل بالعلم مدحضا ... ضلالات كفر غثها وسمينها
وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمري للبرية دينها
وقد سمعت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها
وردّ على من ردّ سنة أحمد ... ورام سفاها بالهوى أن يشينها
ومن ندّ من أتباع جهم ونحوهم ... وقد رام جهلا أن يهد مكينها
بنفي استواء الرب جل جلاله ... على عرشه إذ رام أن يستهينها
وقد أوضحت بل صرحت بعلوه ... وقرر أعلام الهدى مستبينها
وفي سبع آيات ثبوت استوائه ... على العرش فاقرأ يا مهين رصينها(2/239)
وهذا جواب إحدى الورقتين التي أرسلها محمد بن عون، وقد تقدم جواب الورقة الثانية فيما سبق، ولم أجدها تامة، لكن لمسيس الحاجة إليها أثبتناها.
[إنكار الجهمية لصفات الله وعلوه وزعمهم أنه في كل مكان]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى وأعانه، وبالعلم كمله وزانه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وسبق إليكم مكاتبات قبل هذا، وقد بلغني ما منَّ الله به عليك من جهادك أهل البدع والإغلاظ، في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم، وهذا من أجلّ النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية. فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان، فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال -تعالى-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 1.هذا وقد ألقي إلي ورقة، جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، كما هو رأي جهم وأشياعه، محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم
ـــــــ
1 سورة غافر آية : 51.(2/240)
العلم والإيمان والحقيقة، وأنه أضل ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد أبداه قائله ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوءته، وأبدى خزيه، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه.
[شروط وأركان وآداب كلمة الإخلاص]
فأول ما رسم في هذه الورقة -المشار إليها- قوله -وفقك الله لأقوم طريق-: هل لكلمة التوحيد -وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه، وقد عرفت أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك، والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية حقيقة تعطيل الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف، والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك؛ فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة غير موصوفة بصفة ثبوتية، ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام. هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين الذين ينكرون العلو والاستواء، ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان، فما نزّهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل!. ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه، وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية والكمال المطلق؟! فما للجهمية وهذا؟ وهم إنما يعبدون عدما؟ وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدا فردا صمدا. وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين(2/241)
أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط: وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته. وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم، والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم، هذه شروط الصحة. وأما شروط القبول: فالالتزام والإيثار والرضى. وإذا اجتمعت هذه الشروط حصل القول المنجي، والشهادة النافعة، ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله، وهناك يصدر التلفظ بها عن يقين وصدق. والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط، وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن. قال أبو الطيب:
فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
ولها أيضا شروط منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله، ونعوت جلاله، التي علوه وارتفاعه واستواؤه على عرشه من أظهرها وأوجبها، وكذلك معرفة أمره ونهيه ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله وحدوده، ومنها كون الطبيعة لينة منقادة سلسلة قابلة. وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها، معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها قواطع عقلية، ومقدمات يقينية، ونصوص الكتاب والسنة عندهم ظواهر لفظية، وأدلة ظنية. وأما طبائعهم فأقسى الخلق وأعتاهم وأعظمهم ردا على الرسل، واعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم، الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا فضلا عن معرفته(2/242)
وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟ وأما الأركان، فركناها: النفي والإثبات ؛ نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده على وجه الكمال. وأما الآداب: فالدين كله يدخل في مدلولها وآدابها، وأرفع مراتب الآداب وأعلاها مرتبة: الإحسان وهي أعلى مقامات الدين، وبسطها يعلم من معرفة شُعَب الإيمان وواجباته ومستحباته، وعندهم أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر. هذا رأي الجهمية الجبرية، فالأعمال ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه، وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه ولا من علمه؟ وفي المثل: "ليس هذا عشك فادرجى". والمقصود إفادة مثلك، وأما السائل فليس كفوا للرشاد للهدى.
[اختصاص الاستواء بالعرش]
ثم قال الجهمي في ورقته: قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه؟ استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره؟ لأنه -تعالى- ما نفى استواءه عن غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى -سبحانه- بحرف الحصر، وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص، وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت -مثلا-: زيد استوى على الدار. فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. اه. وجوابه أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس –رحمه الله- وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة –أم المؤمنين رضي الله عنها- أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وفي
ـــــــ
1 سورة طه آية : 5.(2/243)
بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة. وزاد مالك فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء. وأمر به فأُخرج. وعلى هذا درج أهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية وأشياخهم من غلاة الاتحادية والحلولية، وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية والهيبة والإجلال والتعظيم من الخوض والمراء والجدال، والكلام الذي لم يؤثر ولم ينقل. وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة، فثبت عنهم تفسيره بالعلو والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد، ولكنهم أحجموا عن مجادلة السفهاء –الجهمية- تعظيما لله، وتنزيها لرب البرية، وإذا أخبر -جل ذكره- أنه استوى على العرش وعلا وارتفع، وكل المخلوقات وسائر الكائنات تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك، وفي الحديث: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء" 1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة مختصة بالعرش، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك، قال: "الله أكبر، الله أكبر! إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ الله على عرشه –وأشار بيده كالقبة– وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه؟" 2.وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة، الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله، وقدسه من سائر مخلوقاته.
[وصف الله بما وصف به نفسه]
ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه –سبحانه- لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش؛ وكذلك رسله وأنبياؤه وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به
ـــــــ
1 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي : الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود : الأدب (5051) , وابن ماجه : الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536).
2 أبو داود : السنة (4726).(2/244)
نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو، وطلب معبودهم وإلههم فوق سائر الكائنات.: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وتخصيص العرش بالاستواء نص لا2 لم يستو على غيره. والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام ودلالاته. قال الحسن في مثل هؤلاء: دهمتهم العجمة. ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص والإجماع والفطرة، كذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي والأعلى والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ العلو والارتفاع والصعود يشعر بذلك، ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق والفوقية المطلقة. (وأما قوله): وهل أتى –سبحانه- بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر والاختصاص تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف قال –تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 5 وكقوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 6 وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 7،: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 41.
2 والظاهر أن الأصل: في أنه إلخ.
3 سورة الفاتحة آية : 5.
4 أي من تقديم المفعول وهو "إياك" وتأخير عامله وهو "نعبد" و"نستعين".
5 البخاري : بدء الوحي (1) , ومسلم : الإمارة (1907) , والترمذي : فضائل الجهاد (1647) , والنسائي : الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود : الطلاق (2201) , وابن ماجه : الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43).
6 سورة الكهف آية : 110.
7 سورة الأنبياء آية : 107.(2/245)
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1،ونحو ذلك. والسائل حصرها يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد وحصر القلب؟ والحصر الادعائي ومقابله، ويسأل هل دلالة الحصر نصية أو ظاهرية؟ وهل هي لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر -تعالى- أنه استوى على العرش فلا يقال: يجوز أنه استوى على غيره، لوجوه منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم2؛ وأكذب الخلق من كذب على الله. قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4. (الوجه الثاني) : أن الله –سبحانه- يستحق من الصفات أعلاها وأجلها وأشرفها، والعرش أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله -تعالى- بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 5، وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 6، ووصفه بالسعة فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 7. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته. (الوجه الثالث) : أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم؛ والكلام يختلف
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 144.
2 يعني أن هذا النوع من الكفر أعظم إثما من كفر الشرك، واستشهد عليه بالآية التي ذكرت أصول المحرمات بطريقة الترقي من الأدنى إلى ما فوقه تحريما وكفرا، وعال المحقق ابن القيم ذلك بأن الشرك كفر قاصر إثمه على صاحبه. والقول على الله بغير علم كفر متعد يضل به خلق كثير.
3 سورة الأعراف آية : 33.
4 سورة الأعراف آية : 33.
5 سورة التوبة آية : 129.
6 سورة البروج آية : 15.
7 سورة البقرة آية : 255.(2/246)
باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات، وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد والتعطيل، شبهوا أولا وعطلوا ثانيا.
(الوجه الرابع:) أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل قد نص القرآن على إبطاله، قال -تعالى-: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1؛ وأصل الشرك: تشبيه المخلوق بالخالق.
[السؤال عن مكان الله تعالى]
(فصل) : قال الجهمي في ورقته: وإذا قررت لله مكانا معينا فما معنى قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3، وقال: {قَرِيبٍ} إنه وقال صلى الله عليه وسلم: " حيثما كنتم فإنه معكم ". فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث، أما الآيات الأخيرة فقد قيل في الأولى: إنها من المتشابهات لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفي الاستواء عن غير العرش. هذا كلامه بحروفه نقلناه على ما فيه من التحريف واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. أما قوله: "فإذا قررت لله مكانا معينا". فاعلم أن أهل السنة والجماعة ورثة الرسل، وأعلام الهدى لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم تعظيما للموصوف، وخشية وهيبة وإجلالا.
[مذهب أهل البدع في صفات الله تعالى]
وأما أهل البدع فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتحاشون من
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 74.
2 سورة البقرة آية : 115.
3 سورة ق آية : 16.(2/247)
الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف. وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه، ولا عن رسله. وذكر الله عن أهل النار أنهم قالوا لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 1، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 2، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 3، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 4، وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل. إذا عرفت ذلك، فلفظ المكان لم يرد نفيا ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيح كالعلو والاستواء، والظهور قد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة. فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة. فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية، ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلفة.
[تفسير قوله تعالى: {فثم وجه الله} ]
وأما قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلّوا وتحرّوا القبلة، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته. وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو العالية: عيرت اليهود المؤمنين لما
ـــــــ
1 سورة المدثر آية : 42.
2 سورة المدثر آية : 43.
3 سورة المدثر آية : 44.
4 سورة المدثر آية : 45.
5 سورة البقرة آية : 115.(2/248)
صرفت القبلة، فنزلت هذه الآية وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1: أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2: فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاََّ وَجْهَهُ} 3 أي: إلا هو. وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة: القبلة، وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4، ختم هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين يشعر بما قاله الكلبي من أنه يعلم ويرى. ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها في جنب ما له -تعالى- من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته، عظمت أن يحاط بشيء منها.
[معنى قرب الله تعالى من خلقه]
وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" 6. ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل، وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين. ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن. وكذلك قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 7 وقد حرّف السائل هذه الآية وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص يدعيه، وفي الحديث: " أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد" 8، حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: "إنه بذاته في كل مكان". ولو كان الأمر كما قال الضال لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد
ـــــــ
1 سورة غافر آية : 60.
2 سورة البقرة آية : 115.
3 سورة القصص آية : 88.
4 سورة البقرة آية : 115.
5 سورة ق آية : 16.
6 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي : الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود : الأدب (5051) , وابن ماجه : الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536).
7 سورة البقرة آية : 186.
8 مسلم : الصلاة (482) , والنسائي : التطبيق (1137) , وأبو داود : الصلاة (875) , وأحمد (2/421).(2/249)
الصنم سواء في القرب إليه -تعالى- الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[معية الله لعباده وقربه منهم]
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- تعالى-: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم والإحاطة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2، وخاصة وهي معية القرب،كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 4، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5. فهذه معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ. وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة. فمع في لغة العرب للصحبة اللائقة لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا فمن سوء فهمه أُتِيَ. وأما القرب: فلم يقع في القرآن إلا خاصا، وهو نوعان: قربه من داعِيهِ بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة، فالأول كقوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 6، ولهذا نزلت جوابا للصحابة -رضي الله عنهم- وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربُّنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية، والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل" 7: فهذا قربه من أهل طاعته. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" 8 فهذا خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد.
ـــــــ
1 سورة الحديد آية : 4.
2 سورة المجادلة آية : 7.
3 سورة النحل آية : 128.
4 سورة البقرة آية : 153.
5 سورة العنكبوت آية : 69.
6 سورة البقرة آية : 186.
7 مسلم : الصلاة (482) , والنسائي : التطبيق (1137) , وأبو داود : الصلاة (875) , وأحمد (2/421).
8 البخاري : الجهاد والسير (2992) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) , والترمذي : الدعوات (3461) , وأبو داود : الصلاة (1526) , وأحمد (4/394 ,4/402 ,4/403 ,4/417).(2/250)
وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستوائه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه؛ فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر. والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل:
ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب
وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحب إليهم منها،يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها. فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة مبطل بعيد من الله خلي من محبته ومعرفته. والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا؛ فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها.
[مسألة الاشتقاق]
وأما مسألة الاشتقاق فينبغي أن يسأل هذا أولا ما معنى الاشتقاق، وما يراد به عند المحققين؟ وأنه زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا لا يرتضى عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو هل مشتق من السمو أو من(2/251)
السمة؟ ذهب البصريون إلى الأول، والكوفيون إلى الثاني. وأصله عند البصريين سمو على وزن فعل فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفا، ثم أتي بهمزة الوصل توصلا بالنطق بالساكن فصار "اسم"؛ وعليه فوزنه افع، ففيه إعلالات ثلاثة وهي: الحذف، ثم الإسكان، والإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين فأصله وسم على وزن فعل حذفت فاء الكلمة، وهي الواو اعتباطا، ثم عوض عنها همزة الوصل، وعلى هذا فوزنه اعل. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير، وعن معنى الاشتقاق في الأكبر مع المباينة في أكثر الحروف ما معناه، فإذا أجابك عن هذا فأجبه عن سؤاله، وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل؟
[الفرق بين القدر والقضاء]
وأما سؤاله عن الفرق بين القدر والقضاء، فإن القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين، واستعمل أيضا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها. وأما القضاء فقد استعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار وما كتب في الكتب الأولى. وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتمييز، ويطلق القدر أيضا على القضاء الذي هو الحكم الكوني بوقوع المقدرات، ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} 1. ويطلق القضاء على الفراغ والتمام {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 2. ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3. ويطلق على الإعلام والتقدم بالخبر قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيل َ} 4. ويطلق على الموت ومنه قوله: قضى فلان أي مات، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 65.
2 سورة الجمعة آية : 10.
3 سورة طه آية : 72.
4 سورة الإسراء آية : 4.(2/252)
رَبُّكَ} 1. ويطلق على وجود العذاب قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 2. ويطلق على الفصل والحكم كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} 3. ويطلق على الخلق كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 4. ويطلق على الحتم كقوله: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} 5. ويطلق على الأمر الديني كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 6. ويطلق على بلوغ الحاجة،ومنه: قضيت وطري، ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم. ويطلق بمعنى الأداء كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 7. والقضاء في الكل مصدر، واقتضى الأمر الوجوب دل عليه، والاقتضاء هو العلم بكيفية نظم الصيغة، وقولهم: لا أقضي منه العجب. قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي. وقال السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 8، وأي شيء حقيقة البدعة، وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة ولبس المحارم وغيرها بدعة لا تثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعتبر بهم. فجوابه أن يقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية وباللسان العربي، فكلام هذا الضرب من الناس يكفي من هداه الله، وفي هذا بيان جهلهم وضلالهم، أما جهله بالدراية فمن وجوه: أحدها: قوله: هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول ونصوص القرآن فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح
ـــــــ
1 سورة الزخرف آية : 77.
2 سورة طه آية : 114.
3 سورة الزمر آية : 69.
4 سورة فصلت آية : 12.
5 سورة مريم آية : 21.
6 سورة الإسراء آية : 23.
7 سورة البقرة آية : 200.
8 مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , والدارمي : المقدمة (206).(2/253)
غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله. وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة ولبس المحارم بدعة،وهذا من أدلة جهله وعدم معرفته للأحكام الشرعية والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات، والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر، فما اقتضته العادة من أكل وشرب ولبس ومركب ونحو ذلك ليس الكلام فيه، والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه –صلى الله عليه وسلم- وهدي أصحابه. وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في حد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك، فهذا -وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم- فقد دل عليه الدليل الشرعي، وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام. وأما ما فيه من جهة اللسان العربي، فإن هل لا تقابل بأم، لأن ما يقابل بأم همزة الاستفهام كما يعلم من محله، ومنها قوله: لا تثبت من الرسول،فإن الإثبات يتعدى بعن لا بمن، وكذلك قوله: ولا ممن يعتبر بهم، فإن الاعتبار نوع والاعتداد نوع آخر فيعتد بالصالحين، وأهل العلم، والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر تعالى فعل بني النضير بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1. وذكر السائل سؤالا عن الترشيح والإطلاق أيهما أبلغ؟ وكذلك الإطلاق والتجريد، فينبغي أن يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد ما يراد بهن عند أهل الفن؟ فإن عبارته تفيد عدم معرفته، إذ لا مقابلة بين الترشيح والإطلاق والتجريد في الأبلغية،فسؤاله نص ظاهر في جهله، فإن الترشيح يراد به تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به بأن يذكر
ـــــــ
1 سورة الحشر آية : 2.(2/254)
ما هو من خواص المشبه به كقوله: أنشبت المنية أظفارها،فإن هذا من ذكر التقوية بما هو من خواص المشبه به وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة فيقابله التقييد، والتجريد معناه أن يجرد المتكلم من نفسه مخاطبا كقول الشاعر:
[اختلاف البلاغة باختلاف الأحوال]
وأيضا فالبلاغة تختلف باختلاف الأحوال فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم،وحقيقتها مطابقة الكلام مقتضى الحال، فإن كان الحال يقتضي الترشيح فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بالذي فهو كثير في القرآن وغيره قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 1 فأخبر بالذي عن اسمه الشريف الذي هو أعرف المعارف، و (الذي) اسم أيضا بخلاف ما يفيده السؤال. وأما الإخبار عن اسم بأل فكقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
وكذا كل فعل مضارع دخلت عليه أل. وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بالذين فكقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. وأما الإخبار بالذين فكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 3. وقال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 4 . وأما الكل والكلي،فالكل يراد به الجميع كقوله: كل المؤمنين يدخلون الجنة،والكلي ما يقع على الأكثر والغالب كقولك: كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة. يقول جامع الرسائل:هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 1.
2 سورة آل عمران آية : 172.
3 سورة فصلت آية : 29.
4 سورة النساء آية : 16.(2/255)
الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي، وما حصل قبل ذلك من ظهور الإسلام وسوابغ الأيادي، بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب- فانتشرت بدعوته الملة الإسلامية، والطريقة المحمدية، واستقام الإسلام وانتشرت أعلام الجهاد، وانمحت آثار الضلالة والفساد. ولما كانت هذه المنظومة من جملة الرسائل والأجوبة على المسائل، وكانت من غرر القصائد، وبدائع الفوائد، وأشد ما يكون على الأعداء وثباتها، تعين بل وجب إثباتها. وقد أنشأها -رحمه الله- وهو إذ ذاك في شدة مقاساة أهوال تلك الفتن، ومعاناة أثقال تلك الحوادث والمحن، وقلة من المساعد، وكثرة من المعاند والمكايد، تغدو عليه الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق إذ ذاك وتلوح، وثم من يقود المشركين، ويؤزهم على عباد الله الموحدين. وقد ابتلي الناس مع ذلك بجور الأئمة والولاة، واستباح الأموال والدماء طغاة الحضر والبوادي العتاة، وأصبح أهل الحق ما بين معاقب مكبل في الحديد، وما بين شريد في القبائل طريد. فاشتد البلاء وأعضل البأس، وكثر الجهل وعظم الالتباس، وقلت الديانة في كثير من الناس، وساروا إلى البلاد التي هجمت عليها العساكر، وظهرت بها أنواع الفسوق والمناكر. وصار لأهل الرفض والشرك بها الصولة، وكان لهم في تلك الجهات الغلبة والدولة، وضيعت بها أحكام الشريعة المطهرة، وظهرت بها أحكام الكفرة الفجرة، فبذل الجد والاجتهاد بإرسال الرسائل والنصائح، وحذرهم أسباب الندم والفضائح، كما قد مر عليك، ويأتي -إن شاء الله- من الرسائل في التغليظ في السفر والركون إليهم بأوضح البراهين والدلائل. والمنظومة جواب أبيات وردت عليه نحوا من عشرين بيتا فقال -رحمه الله وعفا عنه-: ورد من بعض الأدباء ما صورته:
رسائل شوق دائم متواتره ... إلى فرع شمس الدين بدر المنابر
سلالة مجد من كرام عشائره ... يعيد بديعا من كنوز المحابر(2/256)
ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عما لبصائر
سقيا لعهدكمو1عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائر
مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر
فيا راكبا بلغ سلامي وتحفة ... تعزيه فيما قد مضى في العشائر
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامر
ويبدو بها التعطيل والكفر والزنى ... ويعلو من التأذين صوت المزامر
فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامر
أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر
وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على أمة التوحيد أخب ث سائر
يقولون: لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائر
فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول ونشوة ساكر
مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكر
ويرمون أهل الحق بالزيغ ويْحهم ... أما رهبوا سيفا لسطوة قاهر
وأما رباع العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكر
مصاب يكاد المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر؟
فجد لي برد منك تبرد لوعتي ... ويحدى به في كل ركب وسامر
وتنصر خلا في هواك مباعدا ... لم تبعث به أم عامر
فأكثر أو أقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمنى والبشائر
فأجاب -رحمه الله- بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويحدى به في كل ركب وناد. وهذا نصه:
رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالمنى والبشائر
تذكرنا أيام وصل تقدمت ... وعهدا مضى للطيبين الأطاهر
ليالي كانت للسعود مطالعا ... وطائرها في الدهر أيمن طائر
ـــــــ
1 كذا وهو مختل الوزن، ولعل أصله: سقى عهدكم إلخ.(2/257)
وكان بها ربع المسرة آهلا ... تمتع في روض من العلم زاهر
وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيهم من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل: من للمشكلات البوادر
وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجر
وهندية قد أحسن القين صقلها ... مجربة يوم الوغى والتشاجر
ورومية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائر
وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامر
غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائر
وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسر
وبدل منهم أوجها لا تسرني ... قبائل يام أو شعوب الدواسر
يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابر
وأرملة تبكي بشجو حنينها ... لها رنة بين الربى والمحاجر
وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادر؟
(فصل) فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي:
ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البغي من كل غادر
وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر
وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرث السباع الضوامر
وهتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضر
وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده ...
لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر(2/258)
وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يبكين أزواجا وخير العشائر
وجاءت غواش يشهد النص أنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادر
وجر زعيم القوم للترك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابر
ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكر
وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافر
وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكر
ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامر
وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبني رفيع المفاخر
وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعر
ويخبرهم أن اللامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر
فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنْز اللهى والذخائر
سعوا جهدهم في هدم ماقد بنى لهم ... مشايخهم واستنصحوا كل داغر
وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاؤوا بهم مع كل إفك وساحر
ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامر
وباؤوا من الخسران بالصفة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر
وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر
وعاد لديهم للواط وللخنى ... معاهد يغدو نحوها كل فاجر
وشُتت شمل الدين وانبت حبله ... وصار مضاعا بين شر العساكر
وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر
وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل طائر
فقل للغوي المستجير بظلمهم ...
ستحشر يوم الدين بين الأصاغر(2/259)
ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع وهل ينجو مجير أم عامر؟
ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكر
فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائر
يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمر
وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكر
هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكر
سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون إن لاقى مزير المقابر
يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم الزواهر
سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكر
وواليتمو أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافر
نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابر
فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوي صحيح الدفاتر؟
وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائر؟
وقال الشقي المفتري: كنت كارها ... ضعيفا مضاعا بين تلك العساكر
أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
تعود سرابا بعدما كان لامعا ... لكل جهول في المهامه حائر
فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهر
وتدنو من الجبار -جل جلاله- ... إلى غاية فوق العلى والمظاهر
فهاجر إلى رب البرية طالبا ... رضاه وراغم بالهدى كل جائر(2/260)
وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل من كل غادر
وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا ... إلى كاشف البلوى عليم السرائر
وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفع من ثوب من العفو ساتر
ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... مجيب وإن الله أقرب ناصر
ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسرا لصابر؟
وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي هام وماطر
فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخر
الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن محمد بن عتيق، وقد سأله عن نهائب الأعراب، فأجابه -رحمه الله- بما ستقف عليه، وذكر -رحمه الله- أن من التزم الأحكام في التحليل والتحريم، وتحاشى من الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، أنه لا يعجبه أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. فإذا عدمت هذه الأمور في بادية من البوادي قحطان أو غيرهم أو وجدت، فالحكم بحاله في جواز شرائه أو عدمه على الاستحباب، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن محمد بن عتيق -سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فأحمد إليك الله على نعمه. والخط وصل وما ذكرت من السؤال، فالذي جاءكم مع الخشل هو مما نهبوا من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا(2/261)
من قحطان يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم ويتحاشى من الاعتداء عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. وأما نهائب الأعراب التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك، فهو طريقة جمهور أهل العلم، وصلى الله على محمد.
الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]
وله أيضا -رحمه الله- منظومة أنشأها لما اشتدت الكربة، واستحكمت الغربة، وقل المعاون والمساعد، وكثر المخالف والمعاند، ودهمت فوادح معضلات الحوادث، وهجمت بكلاكلها الخطوب الأثائث، التي تشيب من أهوالها النواصي، وتعجز عن حمل أعبائها الجبال الرواسي. فأول ذلك الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وانثل بها عرش الملة والدين، وانهدم بها سور الإسلام، وصار الأمر بأيدي البوادي الطغام، فانفجرت ذات البين، وانكشفت العورة لأهل الكفر والمين، فعند ذلك فدحت المعضلات العظام، وانهدمت أصول الدين والإسلام، وانطمست المعالم والأحكام، فقدمت العساكر إلى البلاد الإسلامية، فانكسفت شمس الرسالة المحمدية، وافتتن كثير من جهلة الناس، بفتوى من ينتسب إلى العلم من أهل الجهل والإفلاس، بأن تلك العساكر التي هجمت على بلاد أهل الإسلام، إنما جاؤوا لنصرة ذلك الإمام، فأنشأ هذه المنظومة من حرارة الجوى، وخوفا على الناس من سلوك مفاوز التوى، وأساء على من هلك بشبه المشبهين، وتمويهات الأئمة المضلين، ويذكر مآثر أهل الإسلام، الذين استجابوا لله ورسوله بدعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا عليه من المعتقد وحسن السيرة، وخلوص الطوية والسريرة، ويحذر من طريقة أقوام إنما نشؤوا في ظل عافية الإسلام، ولم يعرفوا ما عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، والذرائع المفضية إلى الدخول في ولاية من حادّ الله ورسوله وموالاتهم، والرضى بأحكامهم وقوانينهم،وقد(2/262)
حملت إليهم الأثقال، ورحلت الرواحل، واستفاء بظلهم من آثر العاجل وغمض الطرف عن الآجل، فكم هلك بسببهم من هلك، وانتظم في سلكهم من شك في دينه وارتبك، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وإذا أردت ترى مصارع من توى ... ممن تربص وارتضى بهوان 1
وتروم مصداق الذي قد قاله ... شيخ الوجود العالم الرباني
فاستقرئ الأخبار ممن جاءهم ... ماذا رأوا من أمة الكفران
نبذوا الكتاب وراءهم واستبدلوا ... عن ذاك بالقانون ذي الطغيان 2
وعن الأذان استبدلوا من زيغهم ... بالبوق تشريعا من الشيطان 3
وكذا مسبة ربنا سبحانه ... والجعل للأنداد للرحمان
وكذاك شرب المسكرات مع الزنى ... وكذا اللواط وسائر النكران
وكذلك الأرفاض قام شعارهم ... بل أظهروا كفرانهم بأمان
هل يرتضي بالمكث بين ظهورهم ... عبد يشم روائح الإيمان؟
والله ما يرضى بهذا مؤمن ... أنى يكون وليس في الإمكان
حاش الذي ما اسطاع يوما هجرة ... أو مظهر للدين ذا تبيان
لكنما المقصود من لم يرفعوا ... رأسا بما قد جاء في القرآن
أو صح في الأخبار عن خير الورى ... والصحب والأتباع بالإحسان
ورضوا ولاية دولة قد عارضت ... أحكامه بزبالة الأذهان
وضعوا قوانينا تخالف وحيه ... واستبدلوا الإيمان بالكفران 4
ـــــــ
1 هذا الشعر لجامع الرسائل.
2 .يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه، ونصب البدل كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
3 يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه، ونصب البدل كقوله تعالى: : {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
4 يظهر أنه ضمن استبدل معنى استعاض؛ إذ لا يصح أن تكون بمعناها الأصلي المقتضي لدخول الباء على المبدل منه ونصب البدل كقوله تعالى: : }{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}(2/263)
فسل المقيم بظلهم وحماهمو ... هل أنكروا ما فيه من طغيان ؟
أو زايلوا أصحابه أو قاطعوا ... أخدانهم من كل ذي خسران
لكنهم قد آثروا الدنيا على الأ ... خرى فياسحقا لذي العصيان
بل ليتهم كفوا عن استجلابهم ... من غاب من صحب ومن إخوان
بل صح عن بعض الملا تسفيههم ... أحلام أهل الحق والإيمان
تبا لهاتيك العقول وما رأت ... واستحسنت من طاعة الشيطان
وقد قال الشيخ -رحمه الله- فيما تقدم من الرسائل: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، يظهر الرفض ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، ويرفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التكبير والتسبيح والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم -والحالة هذه- لا تصدر عن قلب باشرته حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يحب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. ثم إنه رحمه الله بذل الوسع بكتب الرسائل والنصائح، والتحذير عن أسباب الندم والفضائح، والمنظومة المشار إليها من كلامه -رحمه الله تعالى- مسودة ولم أجدها تامة، وهذا نص الموجود منها. قال -رحمه الله وعفا عنه-
دع عنك ذكر منازل ومغان ... بدور أنس قد بدت وغوان
وجؤزرا في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتان
لا تصغ للعشاق سمعك إنما ... منادمهم بين البرية عان
والعشق داء قاتل ودواؤه ...
في السنة المثلى عن الأعيان(2/264)
قطع الوسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطان
واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى ... أو رمت ترقى ذروة الإحسان
واعكف بقلبك في آرائك روضة ... مملوءة بالعلم والإيمان
وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشان
هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمن
فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطان
وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عند ازدحام عساكر الشيطان
أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركتني متواصل الأحزان
من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني
لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطير جناني
واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا 1 ... يوما لنصر الدين بالإحسان
من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذا الأركان
قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمان
وغدا الزمان بذكرهم متبسما ... يبدي سنا للطالب الولهان
سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يغشي سناها عابد الأوثان
قد جددوا للدين أوضح منهج ... يبدي ضيا للسالك الحيران
حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديان
أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمان
إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثان
حقا على عرش السماء قد استوى ... ويرى ويسمع فوق ست ثمان
ـــــــ
1 هذا الشطر من بحر البسيط والقصيدة من بحر الكامل، فهو إما سهو من الناظم، وإما تحريف من الناسخ.(2/265)
يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شان
خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوان
بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرش للثرى التحتاني
فاحذر توالي في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطان
واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا 1 ... في حب أدنى أو خسيس فان
واقطع علائق حبها وطِلابها ... إذ قطعوا فيها عرى الإيمان
لهفي عليهم لهفة من واله ... متوجعا من قلة الأعوان
قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمن
واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عموا عن واضح البرهان
واقطع علائق حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطان
واهجر مجالس غيهم إذ قطعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمان
لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطان
لما بدا جيش الضلالة هادما ... ربع الهدى وشرائع الإحسان
قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان يعود بالخسران
قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دان
بل فيه قانون النصارى حاكما ... من دون نص جاء في القرآن
بل كل أحكام له قد عطلت ... حتى النِّدا بين الورى بأذان
ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعه من جملة الهذيان
ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربان
والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلهو به الأشياخ كالشبان
ـــــــ
1 يقال في هذا ما قيل في سابقه.(2/266)
المنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان
فانظر إلى أنهار كفر فجرت ... قد صادمت لشريعة الرحمن
بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوان
والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصمت فينا عرى الإيمان
فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقران
والله يعطي من يشاء بفضلة ... فوق الجنان عطية الرضوان
وكذا يجازي من سعي في رفعها ... ماقد أعد لصاحب الكفران
يارب وأحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم الى الشيطان
سلوا سيوف البغى من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوان
وأستبدلوا بعد الراسة والهدى ... بالقدح في صحب وفي اخوان
صرفوا نصوص الوحي عن أوضعها ... وسعوا بها في زمرة العميان
فتحوا الذرايع والوسائل للتي ... يهوى هواها عابدوالصلبان
وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشرك او أقلف نصراني
وقضوا بأن السير نحو يارهم ... في كل وقت جائز بأمان
لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفان
ماوافق الحكم المحل ولا هو است ... وفى الشروط فصار رذا بطلان
فادرأ بها في نحرهم تلقي الهدى ... وارجمهموا بثواقب الشهبان
وأقعد لهم في كل مقعد فرصة ... وأكشف نوابغ جهلهم بيان
حتى يعود الحق أبلج واضحاًَ ... يبدو سنا للسالك الحيران
وقضوا بأن العهد باق للذي ... ولى الولاية شيعة الشيطان
تبالهم من معشر قد اشربوا ...
حب الخلاف ورشوة السلطان(2/267)
وقضوا له بالجزم أن متابه ... قدهد ما اعلى من البنيان
وطلابة للامر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفران
هذا آخر ما وجد منها، فرحمه الله وعفا عنه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن بن عدوان -رحمه الله-، وقد سأله عن قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء الله. فأجابه -رحمه الله- بما عليه أهل التحقيق في هذه المسألة، وبين له أن الواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر، ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن عدوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد): فاعلم أن قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا، ظهار لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكره من الاستثناء بغير خلاف. وقول بعضهم إنما فيه كفارة كاليمين بالله والظهار لا يحنث إن استثنى فيه، وقال: إن شاء الله، محله إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك لا على نفس اليمين. قال ابن مفلح -رحمه الله- في هذا المبحث: وكلامهم يقتضي أن رده – أي الاستثناء – إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها ولتبين مشيئة الله، وبه احتج الموقع في: أنت طالق إن شاء الله.(2/268)
وقال أبو يعلى الصغير في اليمين بالله ومشيئة الله: وتحقيق مذهبنا أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه وإلا فلا، وفي الطلاق المشيئة انطبقت على اللفظ بحكمه الموضوع، وهو الوقوع. انتهى. وقال شيخ الإسلام: الاستثناء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك لا يتعين فعله لتعليقه لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه. وقال –رحمه الله-: الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها، فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاء الله تعالى، وإنما يعلق على المشيئة الحوادث قد يشاؤها الله، وقد لا يشاؤها، وقال في هذا المبحث أيضا: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله. فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد إني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا، كان معنى هذا معنى الاستثناء في الاستثناءات كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه، وأيضا، فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله فوقع ما علق عليه، ومن فقه هذا عرف معنى كلام الفقهاء. وأما المراد بالاستثناء المانع من الحث والواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها وما أحسن ما قيل:
ما لم يفد نظرا وحسن تبصر ... والعلم ليس بنافع أربابه(2/269)
وأيضا، فإن الظاهر في مثل هذه الصورة لا يقبل منه دعوى الاستثناء لو كان راجعا إلى الفعل إلا ببينة عادلة، لأن الظهار ثبت بشهادة الغير فلا بد من شاهد على الاستثناء. ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضا لأنها له وإقراره بالظهار عليه. وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 الحديث، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع. (قال جامع الكتاب:) هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة]
وله أيضا -قدس الله روحه وعفا عنه- رسالة إلى سالم بن سلطان أمير الشارقة من ساحل عمان يحرضه على لزوم الجماعة، والانحياز إلى المسلمين، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، وذلك بعدما حصل الخلل في المسلمين بسبب الفتنة التي بين آل سعود ومقتل تركي بن أحمد السدير أمير آل سعود في عمان، فخرج عزان الإباضي فاستولى على ممالك المسلمين التي بتلك الجهات إلا ما كان من سالم بن سلطان؛ فإنه لم ينزع يدا من طاعة، ولم يفارق الجماعة، فكتب له الشيخ يحضه على الثبات والانحياز إلى المسلمين، وعدم الدخول تحت طاعة عزان الإباضي ومن ساعده من الجهمية والمشركين، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف إلى الأمير المكرم سالم بن سلطان -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وبلغنا خبر
ـــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4552) , ومسلم : الأقضية (1711) , والنسائي : آداب القضاة (5425) , وابن ماجه : الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363).(2/270)
الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن اتبعه ممن استزلهم الشيطان، وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد ولم تحضر ما جرى في ذلك العهد، وسرنا هذا لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة، ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} 1، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 الآية، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ }4، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5 فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 6، فإن هذا الحرف وهو "إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها، ومعناه أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله ولزوم طاعته والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا
ـــــــ
1 سورة هود آية : 113.
2 سورة المجادلة آية : 22.
3 سورة المائدة آية : 78.
4 سورة الممتحنة آية : 1.
5 سورة المائدة آية : 57.
6 سورة المائدة آية : 57.(2/271)
السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر والاستقامة على الرشد وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينْزع عنا ما من به علينا من الإيمان والتوحيد بعدما تفضل علينا وأعطانا، وقد وعد الله عباده المؤمنين وحزبه المفلحين بالنصر والظفر وحسن العاقبة قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 4. وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة عزان ما يوجب اتهامك، ولكن أحببنا الموعظة، والتذكرة والواصل إليك ولدنا علي بن سليم بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه، واختار القدوم عليكم لأنكم أخص، والله الموفق الهادي وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 94.
2 سورة الصافات آية : 173.
3 سورة النحل آية : 128.
4 سورة التوبة آية : 123.(2/272)
الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبداللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة الواقعة بين آل سعود، وكيف كان أول هذه الفتنة وآخرها، وقد تقدم نظيرها إلى أهل الحوطة، ولكن هذه أبسط. فصّل الشيخ رحمه الله فيها ما عنده وشرحه كأن الشيخ حمد قد كتب إليه بما عنده في ذلك وأوضحه، وقد حثه فيها –رحمه الله- على بذل الجد والاجتهاد في تحريض الناس على جهاد أعداء الله ورسوله الذين قلعوا أصول الدين والإسلام، وهدموا قواعده العظام، وطمسوا منه المنار والأعلام، وعطلوا الأحكام الشرعية وأظهروا القوانين الإفرنجية. وهذه وظيفة العلماء قديما وحديثا يتواصون بالنصح لعباد الله وردهم إليه تحضيضا وحثا، وليس من شأنهم السكوت، وتمشية الحال على أي حال كما هي حال من لا غيرة له على دين الله من أئمة الجهل والضلال، الذين يرون أن الكف لهم أسلم وأن هذا الرأي أحكم، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على حلو نعمه، ومر بلوائه وبديع حكمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا على نشر النصائح، وكتب الرسائل لأني استعظمت ما فعل سعود من خروجه على الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها إلا من أطاعه وانتظم في سلكه، و(عبد الله) له بيعة وله ولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي(2/273)
منه أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها واستجلبها على ديار المسلمين فصار كما قيل:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول أن هذا هو هدم لأصول الإسلام، وهدم لقواعده، وفيه، وفيه، وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن؛ فأظهر التوبة والندم وأكثر الاستغفار، وكتبت على لسانه لوالي بغداد أن الله قد أغنى ويسر وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي ما يحصل به المقصود -إن شاء الله-، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، وكلام من هذا الجنس. وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى، فاشتبه علي أمره وتعارضا عندي موجب إمامته ومبيح خلعه، حتى نزل سعود بمن معه من أشرار نجد وفجارها ومنافقيها، فعثا في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى. هذا وأخوه منحصر في شعب الحائر، وقد ظهر عجزه واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف ومحبة المسارعة إليه ما قد عرف. فرأيت من المتعين على مثلي الأخذ على يد أهل البلاد، والنّزول إلى هذا الرجل والتوثق منه ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين، وصيانة لعوراتهم ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم. وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك كان الرأي فيه أصوبه وأكمله وأعمه نفعا. فلما واجهت سعودا وخاطبته فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه اشترط شروطا ثقالا على أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث ويستدرك البقية، وخشيت من عنوة على البلدة يبقى عارها، بعد سفك دمائهم ونهب أموالها، والسفاح(2/274)
بنسائها لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة، وخرج عرفاؤه والمعروفون من رجالها فبايعوا سعودا بعدما أعطاهم على دمائهم وأموالهم محسنهم ومسيئهم عهد الله وأمانه عهدا مغلظا؛ فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف ولزوم الجماعة. وبعد ذلك أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام، ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك واستيلائهم على الحسا والقطيف يقدمهم طاغيتهم داود بن جرجيس، داعيا إلى الشرك بالله وعبادة إبليس؛ فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزال، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، وشاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر والخبث المبين، ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم أنصار لعبد الله بن فيصل. فقبل هذه الحيلة من آثر الحياة الدنيا وزينتها، على الإيمان بالله ورسله وكف النفس عن هلاكها وشقاوتها. وبعضهم يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. بل بلغني أن بعض من يدعي طلب العلم يحتج بقول شاذ مطرح، وهو أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين ولا سلطان، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ(2/275)
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1. فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك. إذا عرفت هذا عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية. وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله وأعداء رسله قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 2، إلى أمثال ذلك في القرآن يعرفها الخبير بهذا الشأن. هذا ما عندي في هذه الحادثة قد شرحته وبسطته كما ذكرت لي ما عندك. وأسأل الله أن يهديني وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يمُنّ علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين، وركن إليهم أو سافر إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، لأن بعضا ممن ينتسب إلى العلم والدين ما كبر همه بهذه القضية، ولا عرف المصيبة والرزية، وبعضا أنكر وتبرأ لكن مع الهُوَينا ولين الجانب، وهذا لا يستقيم معه إسلام بل هو للهدي النبوي مجانب، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق -سلمه الله تعالى وفرج له من كل هم وضيق.
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 141.
2 سورة آل عمران آية : 187.
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 141.
2 سورة آل عمران آية : 187.(2/276)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أوصيك بتقوى الله، والصدق في معاملته، ونصر دينه والتوكل عليه في ذلك، وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى عساكر المشركين وركن إليهم وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم ومبارزتهم لرب العالمين، بالقبائح والكفريات المتعددة. هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل ومسارعتهم إليه ومحبتهم له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1، ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهرا، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره ولا ظهر منه غضب لله ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام وهدم قواعده. وإن أنكر بعضهم وذم ذلك، وتبرأ منه لكنه مع الهُوَينا في ذلك ولين الجانب ومحبته للأغراض وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 2 أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 3 شعرا:
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تُدْم ناقتهم بسيف قدار
فعليك بالجد والحذر من خدع الشيطان. جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن. ثم قال -رحمه الله تعالى-: ولا تدخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان وبلغ مبلغا عظيما
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 71.
2 سورة الفرقان آية : 52.
3 سورة القلم آية : 9.(2/277)
وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، فأضلهم عن سواء السبيل الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنكليز، المعطلة لنفس وجود الباري القائلين بالطبائع والعلل وقدم العالم وأبديته، وبلغنا أنهم كتبوا خطوط الجهات بنجد مضمونها: إنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله ونحو هذا الكلام، وبسطوا القول في أمر الدولة والترهيب منهم والترغيب فيهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض بعد ذلك القرن الصالح لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهنا في دينه، أو مقصرا في جهاد أعدائه، وفي النصح له ولكتابه ولرسوله، واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم، والقلوبُ أوعية يعطى كل وعاء بحسبه. (يقول جامع الرسائل:) وقد اختصر هذه الرسالة من نقلها لنا، فقال: هذا منقول، وما بعده من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله وعفا عنه-. ثم قال الناقل: قال -رحمه الله-: وأما مسألة دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع فهذا مما لا يقبل قوله فيه، بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل فيه مسائل مخصوصة بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله. وقد أشار بعضهم إلى ذلك في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة وغيرها من مسائل هذا الباب، وعموم قولهم في باب الدعاوي والبينات داخل فيه ما لم ينص على استثنائه. وإن وقفت على كلام(2/278)
خاص في هذه المسألة رفعته إليك إن شاء الله، وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 شيئا من تعريف المدعي، فراجعه إن شئت. وأما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والفلاسفة المشائين فذكر شارح رسالة ابن زيدون أن المشائين أفلاطون ومن اتبعه؛ وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم فيها وأمر بالرياضة والمشي لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي والرياضة عند المذاكرة في مسائل الطبيعة فسموا مشائين لهذا. وأما الإلهيون فهم قدماؤهم من أهل النظر والكلام في الأفلاك العلوية وحركاتها، وما يزعمونه وينتحلونه من إفاضتها وتأثيرها، وفي اللغة إطلاق الإله على المدبر والمؤثر كما يطلق على المعبود، وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4552) , ومسلم : الأقضية (1711) , والنسائي : آداب القضاة (5425) , وابن ماجه : الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363).
2 إن شارح قصيدة ابن زيدون أديب قليل البضاعة في الفلسفة فهو لم يبين حقيقة هؤلاء الفلاسفة المعروفة في كتب الفلسفة وتاريخ الفلاسفة، ومن هؤلاء الفلاسفة الذين ذكرهم من يؤمنون بالبرهان العقلي بأن للعالم ربا عليما حكيما قديرا متصفا بالكمال منزها عن النقص، ويدعون إلى الفضائل، وينفرون من الرذائل بحسب ما وصل إليه علمهم واجتهادهم، ولكن توحيدهم وعلمهم بالإلهيات والآداب لا يتفق مع كل ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأنّى لهم ذلك، وهو يتوقف على الوحي ولا يستقل به العقل. وهم على مذاهب أكفرها وأبطلها وأضلها مذهب الماديين الذين ينكرون كل ما وراء المادة التي تعرف بالحواس وقواها.(2/279)
الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]
وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا يحضه على الدعوة إلى الله، وبث العلم ونشره في الناس خصوصا التحذير عن موالاة أعداء الله ورسله، والحث على جهادهم واستنقاذ بلاد المسلمين من أيديهم، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره والإمامة في الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه الذي رغِب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم وسلامتكم والحمد لله على ذلك. وما ذكرته صار معلوما، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين، وليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 1. والواجب على من يرزقه الله علما وحكمة أن يبثه في الناس، وينشره لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة وسبقت له الحسنى. واعلم أن الإمام سعودا قد عزم على الغزو والجهاد كتبت لك خطا فيه الإلزام بوصول الوادي وحث من فيه من المسلمين
ـــــــ
1 سورة البينة آية : 4.(2/280)
على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره. كذلك حال البوادي والأعراب استخفهم الشيطان، فأطاعوه وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام. فتوكل على الله واحتسب خطواتك وكلماتك وحركاتك وسكناتك، وشمِّر عن ساعد جدك واجتهادك، فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب والله المستعان. وقد عرفت القراء في زمانك وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام والتوحيد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1.
يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا
وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينصر من بالخير والانا
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة العنكبوت آية : 69.(2/281)
الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار]
وله أيضا رحمه الله- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق أيضا، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل مع الغزو، وما ذكرت صار معلوما، وأرجو أن الله يسدد أمر ولي المسلمين، ويمُنّ عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما منّ الله به من الهدى الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا ولا رفعوا به رأسا، ونشكو إلى الله ما نحن فيه من غربة الدين وقلة الأنصار وما ذكرت من جهة... 1 وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم أن الحق في ذلك لله، والواجب على المسلم تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه؛ وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله إنما هو في الآي المكية، وقد صرح القرآن بنسخه وجاءت السنة ببيان ذلك، ولم يرد في الآيات المدنية الأمر بالصفح عن المشركين وأعداء الدين، بل جاء الأمر بجهادهم والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهر من الفساق ولو كان مسلما، ومن جاهر بالمعاصي ونصرة
ـــــــ
1 بياض بالأصل.(2/282)
أولياء المشركين فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار، وفي قصة حاطب ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقد قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1. وقد ذكر ابن القيم طرَفا من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه؛ وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده سلوكه مع الناس وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق ونصرة الباطل يرى الكف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم. هذا حال فقهاء زمانك فقُل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه وكشف الشبه عنه ونصرته إذا رأيت السكوت والصفح كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات لئلا يتوجه الإيراد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة النور آية : 2.(2/283)
الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبدالله والدين الذي كان عليه لليهودي]
وله أيضا -رحمه الله وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن بن يحيى قاضي المحمل، وقد سأله عن حديث جابر بن عبد الله لما توفي أبوه، وعليه ثلاثون وسقا لرجل من اليهود، وفي الحديث: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى" 1. قال السائل: وظاهر هذا إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس، وهذا ممنوع شرعا فأجابه -رحمه الله-، وذكر تراجم الأئمة، وتعددها بحسب ما تضمن من الفقه، وأن قول السائل: وهو ممنوع شرعا عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهي خطأ منه في التعبير وغفلة، وقد بين الشيخ فسادها في نفسها، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى وهداه- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصل الله حبلك وأعلا مجدك- وما ذكرته قد علم، وحديث جابر حديث صحيح مشهور خرجه الجماعة، وترجم له تراجم متعددة بحسب ما تضمن من الفقه. قال البخاري: باب إذا قاصه وجازفه في الدَّين تمرا بتمر وغيره، وذكره وقال: باب: إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب. وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة: قال وهب بن كيسان: إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وَسْقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن يُنظِره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه
ـــــــ
1 البخاري : في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , والنسائي : الوصايا (3639 ,3640) , وأبو داود : الوصايا (2884) , وابن ماجه : الأحكام (2434) , وأحمد (3/373).(2/284)
وسلم وكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: "جُذَّ له فأوف له الذي له" 1، فجذه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وَسْقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان فوجده يصلي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: " أخبر بذلك ابن الخطاب" 2 . فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- َليبارَكنّ فيها، وقبل هذا قال -رحمه الله-: باب: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي. إذا عُرِف هذا بطل قول السائل: وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه لأن الحديث صريح في أن ثمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بُورِك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول السائل: وهو ممنوع شرعا، عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله ؟ وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير رِبا الفضل إذا حصل التراضي، لأن للمدِين أن يزيد، و "خيركم أحسنكم قضاء" ولرب الدَّين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب: "ضع الشطر" 3 وأن تمنع هذه المسألة لما فيه ضرر وغرر من المبايعات والمعاملات. هذا ما ظهر لي، وهو المعروف من القواعد الشرعية فانتبه -لازالت قريحتك وقّادة زكية- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 البخاري : في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وأبو داود : الوصايا (2884) , وابن ماجه : الأحكام (2434).
2 البخاري : في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه : الأحكام (2434).
3 البخاري : الصلاة (471) , ومسلم : المساقاة (1558) , والنسائي : آداب القضاة (5408) , وأبو داود : الأقضية (3595) , وابن ماجه : الأحكام (2429) , وأحمد (3/454 ,3/460 ,6/386) , والدارمي : البيوع (2587).(2/285)
الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع]
وله أيضا -رحمه الله- رسالة أيضا إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن بن يحيى -سلمه الله تعالى ورزقه الفقه في الدين-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، والخط وصل يوم ركوبنا، ولا كتبت جوابه إلا بعد تثويرتنا، وأما الأول فلم ألتفت إلى جوابه لما كنت بصدده من الاشتغال بالحج. إذا عرفت هذا، فاعلم أن المسألة الأولى التي هي استعمال الماضي موضع المضارع لهم وجهان: أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية تنبيها، وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال كتحقيق مضي الماضي من الأفعال والأحوال وذلك باستعارة ما وضع للماضي لما قصد به الحال والاستقبال تقوية وتأكيدا لمضمون الجملة المنفية، وذلك شائع في لسانهم، وفي التنْزيل :{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1،: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ } والمعنى يأتي ويقول، ومنه استعمال المضارع بدل الماضي إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئا فشيئا فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 2،: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} 3،: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} 4، والمعنى: قد علمنا، ومنه قول الأعشى:
وأرى من عصاك أصبح محرو ... با وكعب الذي يطيعك عال
وقد أسبي الفتاة فتعصي ... كل واشٍ يريد جزم حبال
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 1.
2 سورة الأنعام آية : 33.
3 سورة الحجر آية : 97.
4 سورة الأحزاب آية : 18.(2/286)
يريد رأيت وأسبيت (والوجه الثاني): أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمان ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضيا، فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال، فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلا فقط، فالفعل أمر كما هو مقرر في موضعه فلو عبر بالمضارع، وقال: لا ألبس ممتثلا لاحتمل أنه قصد النفي في الحال فقط أو فيما يستقبل فقط، لأن ذلك جرى في لسانهم ومنه: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 1، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} 2 واحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي (زال) الاحتمال وانقطع التوقع. وقصد المعنى الأصلي وهو النفي في الماضي لا يتوهم، لأن النفي في الحال والاستقبال تقول: لا لبست، لا ضربت، لا ظلمت قاصدا الحال والاستقبال بخلاف، ما ضربت، ما لبست، فإنها للنفي في الماضي.
[معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت]
وأما المسألة الثانية وهي قولك: ما معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق وتعلقه بالمستحيل: لأقتلن، بلام التوكيد الموطئة للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة ولا نفي فيها، فتنبه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 92.
2 سورة الأنبياء آية : 47.(2/287)
الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن، وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدي وما يكون سببا لتحصيله؟ فأجابه –رحمه الله- على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال؛ إذ التفصيل يستدعي طولا؛ فبين له -رحمه الله- الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد، التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمّله وأراده، وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت عليها السوافي فانمحت آثارها، وهجم ليل الأهواء بكلاكله لما أفَلت أقمارها، فيا له من جواب ما أجزله على إيجازه واختصاره! وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره! وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، سلمه الله تعالى، وسلك به السبيل المشروع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فالخط وصل وصلك الله ما يرضيه، وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه، وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدي، وما يكون سببا لتحصيله؛ فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة وأن(2/288)
تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 بالتوحيد في العبادة لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس. إذا عرفت هذا عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل به، وتضمن مسبة لله، فإن الشرك الأكبر يتضمنها، ولهذا ينزه الرب تعالى ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه كقوله سبحانه: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2،: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، ومحَل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها. فالأول العقائد وهي: التوحيد العلمي، وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما الثاني وهو علم أعمال القلوب وسيرها المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في شرح المنازل، وفي سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة فالمصنفات فيها أكثر من أن تُحصر، وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر؛ إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله.
[الموالاة والمعاداة]
وأما الموالاة والمعاداة فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث:
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 21.
2 سورة القصص آية : 68.
3 سورة الصافات آية : 180.
4 سورة يوسف آية : 108.(2/289)
"أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبُغض في الله" 1. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُّصرة والأُنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو.
[كيفية طلب العلم]
وأما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب" 2 الحديثَ، فيه بيان كيفيته والبُداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: مَن ضيّع الأصول، حُرم الوصول. ومن ترك الدليل، ضل السبيل. وأما السبب في تحصيله فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 3 وفي الأثر (من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم) قال الشافعي -رحمه الله-:
شكوت إلى وكيع سُوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يُؤْتاه عاصي
ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} 4 ومنها: إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة، فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركته إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أُخَر تُذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم ليس هذا محل بسطها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 أبو داود : السنة (4599) , وأحمد (5/146).
2 البخاري : المغازي (4347) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).
3 سورة النساء آية : 66.
4 سورة الأنفال آية : 23.(2/290)
الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى علماء الحرمين الشريفين زادهما الله تشريفا وتعظيما إلى يوم الدين. وسبب ذلك أنه لما ورد أمر السلطان بأن يعطل الأذان في الحرمين الشريفين، وأن يكشف النساء عن وجوههن للفَجرة والفاسقين، حملته الحمية الإسلامية، والغَيرة الحنيفية والأنَفة العربية، إلى مكاتبتهم في شأن هذا الفادح العظيم، والحدثان الفظيع الذميم، ودفع مفاسد ما أراده أعداء الملة والدين، وتغيير شعائر الإسلام، وهدم معالمه العظام. واعلم أن الشيخ -رحمه الله- من أعظم الناس في الغلظة في شأن الشرك والمشركين، ومجاهدة من والاهم وركن إليهم ممن ينتسب إلى الإسلام والمسلمين، لكنه تلطف في هذه الرسالة، لعل الله أن يبطل ما قصدوه من الضلالة، وأن يمحو بذلك ما رامه أهل الغواية والجهالة. وانظر إلى ما أعطاه الله تعالى من حسن التخلص برسم التحية، لمن نكب عن الطريقة المرضية، حيث قال: بعد إهداء التحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، ولم يعين إنسانا بعينه من العلماء المترئسين، والمتصدرين للتدريس في حرم الرسول والبلد الأمين، وبهذا يندفع توهم إرادة السهولة واللين، أو أن هذه مخالفة لما تقدم من الرسائل من الغلظة والتخشين، فرحمه الله من إمام ما أعظم غيرته لله، وما أحرصه على إعلاء كلمة الله، ولزوم كتابه وسنة رسوله! وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يجددون ما اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله(2/291)
أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه وسلم تسليما كثيرا. إلى جناب المفضل، والشيخ المبجل، شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول، ومن لديه من العلماء الأفاضل الفحول، بعد إهداء السلام والتحية لأنصار الملة الحنيفية وحماة الشريعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة، لما شاع في البلاد العربية، اليمانية منها والعراقية والتهامية والنجدية ما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم والكفر الواضح المستبين، والأمر بهدم أظهر شعائر الملة والدين، وأن لا ينادَى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين، والأمر بهتك ستر حرم المسلمين، وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا ً} 1، وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاما لشناعته وكفره وردّا؛ كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع رايتها بين الأنام، بالحرم والبلدة الحرام؟!: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2 أمَا في الزوايا خبايا؟! أمَا للعلم والرجال بقايا؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما وفد عليه بعد أن فر إلى الشام هاربا: "ما يُفرّك؟! أتفر من أن يقال الله أكبر؟! فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟" 3 فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان والأركان الإسلامية، وقلع القواعد النبوية.
يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
وقد بلغنا عنكم ما تسر به نفوس المسلمين، من رد ذلك الإفك المبين.
ـــــــ
1 سورة مريم آية : 90.
2 سورة هود آية : 116.
3 الترمذي : تفسير القرآن (2954) , وأحمد (4/378).(2/292)
والواجب علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أعلام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا بحمد الله الأخبار، عن كافة العرب من جميع الأقطار بإنكار ذلك وردّه، والحكم بأنه من أظهر شعائر الكفار، ومن فعله وجب معالجته بالحرب والدمار، والكل منهم يعاهد على أنه السابق في تلك الحلبة والمضمار. فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام. فإياكم إياكم والمداهنة والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها، أو تهوي إلى الدرك الأسفل من النار.
كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 1، فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط من نفي الإيمان عمن ترك التقوى، ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه، من موالاة أهل الكفر والردى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند أهل العلم والهدى. ونحن نعلم أن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وأنه لا يصلح عمل المفسدين؛ ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله والدخول في جملة أنصاره: {مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 2. والمعهود عن الدولة العثمانية من عهد السلطان سليم بن السلطان با يزيد، من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا وأوائل عصرنا، هو المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين،
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 57.
2 سورة الأنفال آية : 10.(2/293)
زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما؛ فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والتقى، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين، آمين.
الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]
وله أيضا -رحمه الله- رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا المعروفين ببلد الأحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة التأويل والتعطيل الكلامية، وكانوا في حال ظهور هذا الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ رسالة إلى بعض إخوانه يحضه، وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، فكتب عليها الشيخ المبجل، والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل، فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الأحساء وكان معطلا متأولا. فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه؛ لأن من اعتنى، واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقر ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات على ما يليق بعظمة الله وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناهج أهل الحق والهدى، فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده ومقاله، فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية، تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخِذلان ومخالفة السنة والقرآن. وهذا نص الرسالة:(2/294)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه. من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة وجنبنا سبل الفتنة والشناعة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إليّ رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين، وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا؛ إذ بذكرك معتقدك وتقريره والتبري من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرّامية والماتُريدية، يحصل لنا نحن، وإياك اتفاق الكلمة وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك. لكنك أسأت بذكر أمور يحصل منها نفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني، من ذلك أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء وأنه كان أشعري الاعتقاد اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من(2/295)
التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك، ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، ومما نمق من غلطاته ووهلاته،وأنت مع ذلك لم تتحاشَ من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته -مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين، وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومن من أساء به الظن.
[الاحتجاج بالخط على كاتبه]
ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غَرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك. وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك، وعلى تسليمه كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه؟! ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن: عرضت نفسك للبلا فاستهدف
ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا أن يكون من باب الفراسة والحكم بالقرائن القوية، ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط
ـــــــ
1 سورة الفرقان آية : 72.(2/296)
كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها. هذا لو سلمنا هذه الدعوى وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها، وأدهى من هذا وأمر وأوضح منه من نظر في خطك واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل ما فهمه شيخنا الوالد -حفظه الله-، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجه ولا فوقه، وإن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه، فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام؟! أين المناضلون عن ملة الإسلام؟! ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل، وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقّة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
وقولك: إن المفاهيم تتفق وتختلف جوابه: أن الاتفاق والاختلاف إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والأفهام السليمة في غير صرائح العبارات(2/297)
ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية، ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه.
[قبول كتاب الفقه الأكبر عند النجديين]
ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد لكن يعكر عليك ويناقضه قولك بعد: "لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء ينافي بعض ما فيها فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة"، وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها متأسيا بما في الفقه الأكبر. ثم يا هذا: قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد بخلاف من رجع من ذنب يأثم به ولا يؤجر عليه بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه بل من حيث الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء؟ عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق ولا مستكبر ولا مستحقر. وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع وينسخ جهارا، ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟ وقد أعرضنا عن غير ذلك
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 53.(2/298)
من علامات بطر الحق، وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب، ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه أو يحط من رتبة ما يحدّث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم، وقد قال عمر رضي الله عنه من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار انتهى. والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية كما تقتضي حصر الخشية في العلماء، وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل طاعة لهم وتكريما. وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية لأن الجاهل لا يحسن السير، ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أُحدثت بعد خير القرون في العقائد والعبادة بما لم يشرع
ـــــــ
1 سورة فاطر آية : 28.(2/299)
كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله -سبحانه وتعالى-، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف؛ فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول ما لم ترد به هذه الشريعة. وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد فليسوا من أهل العلم بالإجماع كما حكاه الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-.
[حقيقة العلم]
وبالجملة، فلو عرفت حقيقة العلم لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة من الأدلة العقلية والموازين الكلامية، وأخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، زاعما بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية،والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله أربابا، فأحبهم كحب الله وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجا(2/300)
أن يكون الند له شفيعا وعونا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل:
نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منْزل
والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر، والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط؟ نعوذ بالله من الخذلان. هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد والمشاحنة، وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسمية من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك مَن الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر، ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل:
أو آخر خيرا منه عندي المحارب ... فلست أرى إلا عدوا محاربا
وكان قصدي منك -أيها الشيخ- أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق،: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 4.(2/301)
الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة، وهذا صورة ما وجدته مرسوما، ووضع ما ألفيته مرقوما: كتب شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن -أدام الله إفادته- إلى بعض الولاة؛ بسبب أنه توسم فيه محبة الخير، وقبوله للنصيحة ما صورته -حفظه الله- من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على ما أسبغ من جزيل نعمائه، واعلم أنه إنما حملني على مكاتبتك، وابتدائك بالخطاب ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة ومحبة أهله ونصرتهم؛ وهذا من أجل النعم، وأفضل العطايا الإلهية والمنح الربانية. وأنت في مكان وزمان قلّ خيره، وكثر شره، وقبض فيه العلم وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء، وتطاول أهل البدع والأهواء، فإنْ منّ الله عليك بقبول الإسلام والسنة ونصرتهما، ومحبة أهلهما، والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات، رجوت لك الظهور والنصر والإقبال في الدنيا والآخرة. وربما كثر لديك محب الدين والقائم به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين. ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة، وأين تقع النوافل؟ ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة مع القدرة على ذلك؟ وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة ولا أنفة من ترك دين الله، ومن معصيته، وهجر ما جاء به رسوله من توحيد(2/302)
الله -تعالى- والإيمان به؟ هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا، وليكن منك على بال قول الشاعر:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله يسأله عن صلاة التراويح في السفر جماعة، وعن اتفاق الغزو على الصوم فيه، فأجابه -رحمه الله تعالى- فقال: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم عبد الله بن علي بن جريس -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، وسرّنا ما ذكرت من الأخبار عنكم، وعن الإمام، وعن عمان، فالحمد لله على سوابغ الفضل والإحسان، وأوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده والتماس مرضاته، والحذر من الاغترار بهذه الحياة الدنيا؛ فإن الله حذر عن الاغترار بها في مواضع من كتابه، واذكر قول العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
وإن تك قد عاقتك سُعدى فقلبك ال ... مُعنّى رهين في يديها مسلّم
والبيتين بعده، واعرف المراد بسعدى.
[صلاة النافلة في السفر]
وتسأل في خطك عن صلاة التراويح(2/303)
في السفر جماعة؛ فاعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل، وقد سافر هوصلى الله عليه وسلم وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه فيما بلغنا فعلها جماعة، وهذا دليل كاف سالم من المعارض.
(والثاني): أن المشروع في السفر قصر الرباعية، وترك النوافل الرواتب، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدان وهما فرضان، وهذا بيّن -بحمد الله-. وأيضا فقول شيخ الإسلام ومن وافقه: تفعل النوافل المطلقة في السفر لا المقيدة، يدخل هذه القضية، ويستفيدها طالب العلم منه. وقولك في الورقة: "وهو مما تسن له الجماعة" عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تبعا لا استقلالا كما هو مقرر في محله.
[اتفاق الغزو على الصوم]
وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله. هذا، واعلم أن هذا هو الموجب لترك فعلها جماعة، وأما النهي عن ذلك فلم أنْهَ عنه أحدا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/304)
الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى جماعة أهل الزلفى هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله آل راشد، والإخوان عبد المحسن السلمان، وأحمد آل عبيد، وجار الله آل حمد، ورشيد آل علي، وموسى الشايع، وحمود آل عبد الله آل جار الله سلمهم الله -تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم، وجعلوا لهم جمعة في المحلة الأولة، وأنهم قبل ذلك كانوا مجتمعين مع جماعتهم، يصلون جمعة واحدة، وأن بعض من ينتسب إلى العلم أفتاهم بانفرادهم، وصلاتهم جمعة ثانية في البلد لغير حاجة تدعو إلى ذلك، فاعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة كضيق المسجد، وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا، وقواعد الشرع تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة(2/305)
والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة -أيضا- على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله؛ فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله برفق: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم ]
وله -أيضا- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله عبد الله يسأله عما أورده بعض الملحدين: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- ذكر أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان يصلي خلف الجهمية، فأجابه -رحمه الله- بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم، وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم فلا، لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وسرّنا عافيتكم، وحال أهل عمان ما تخفاكم: قل العلم وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة، والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 103.
2 سورة الأحزاب آية : 4.(2/306)
حسب الطاقة، لا سيما بالحجة والبيان، وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات، وأفضل الطاعات، ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية. وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر مَن صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي -رحمه الله تعالى- منهم عددا يقعد من ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم. والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس؛ وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد؛ كيف لا، وقولهم يقتضي تعطيل الذات(2/307)
والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم، ورسالتك وصلت، وسرنا حسن جوابكم، وما فيها من النقول عن أهل العلم. ونرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (يقول محمد رشيد رضا) : فرق فقهاء الحنابلة في الصلاة خلف المبتدعة بين من يعلن بدعته ويدعو إليها فلا يصلي خلفه، وإذا صلى لعذر أعاد. قال الخرقي في منّته: "ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر، أعاد". وفرقوا بين الجمعة والعيدين وغيرهما. قال ابن قدامة في شرح عبارة الخرقي: فأما الجمعة والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره. وذكر الإمام أحمد روايتين في إعادتها. (يراجع التفصيل في صفحة 26 من الجزء الثاني من المغني المطبوع بمطبعة المنار).(2/308)
الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط؛ وقد اشتكى إليه منيف غربة الإسلام، وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله ومكابدة أعداء الله، فأجابه الشيخ -رحمه الله تعالى- يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف والعادات هو الحق فمن اعتقد هذا فهو كافر. وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام،: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط -سلمه الله، وشد حبله (بالعروة) الوثقى وناط، ومن عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كلِ شيْء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير، وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 132.(2/309)
إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى، ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه وإعلامه عن صحتكم، وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه -سبحانه- وما يجب له على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبدل الدين وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله. وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلته، ورضاه وغضبه، ومجيئه ونزوله؛ فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضعها، وصرفوها عن دلالتها. وكذلك الحال في عبادته وحده وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة ومحض حق رب العالمين، كالحب والدعاء والاستغاثة، والتوكل والإجلال والتعظيم والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية، وهذا أمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفخرون به، ويدعون أنهم من أهل الإسلام،: {لا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن ويدعون أنهم من
ـــــــ
1 سورة المجادلة آية : 18.(2/310)
أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. كذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع إلى أقوال من يعتقدونه من المنتسبين والمدعين، ولو تكلم أحد بإنكار ذلك لعد عندهم من البله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا غاية في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان وقبوله، وإيثاره والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق جيلا بعد جيل. وما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما نزل الله، ومن لم يستحل، فهو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاها إذا وصلت إلينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/311)
الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم]
وله أيضا -قدس الله روحه-، رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول مَن يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1 وعمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجابه -رحمه الله تعالى- "وصب عليه من شآبيب بره" ووالى، وبين له في وجوب المسألة الثانية الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنه لا بد منها. فإن من لم توجد العداوة من قلبه لم يعاد المشركين، بخلاف الأول فإنها موجودة في قلبه، لكن عجز عن إظهارها، فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن لم يهاجر فهو عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين. وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصول الدين، وصار لأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين، فبين له في الجواب أن الناس يتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات. فتدبر كلامه -رحمه الله- فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده ولا معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين، وخلع ربقة الإسلام عن عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه- تذكر حديث أبي سعيد، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 118.(2/312)
محمول، وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا الخروج والتعلم عن ابن عتيق، وهذا -إن شاء الله- به كفاية. فأما مسألة الذبائح، ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى- : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1، فهو من أجهل الناس بكتاب الله وسنه نبيه وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله -تعالى- : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 2 والجهل بالتأويل، وأسباب التنْزيل ضرره وصل كبائر العمائم، فكيف الحال بالحفاة والعوام. واعلم أن قوله -تعالى- : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 فسر بحل الذبائح وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية: تحريم ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين؛ واحتج بهذا أهل العلم، ومفاهيم كلام الله، وكلام رسوله حجج شرعية، وفسر المراد من قوله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 4 بأن المراد به ذبيحة المسلم والكتابي إذا ذكر اسم الله عليه أخذ من مفهوم آية المائدة، وهذا هو المشهور المقرر. وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم، وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي؛ لأنه لا يأتي بالتسمية ويستحل الميتة، وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنة كما علق الحدث بوجود النوم لأنه مظنة. فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين، وقول السائل: هل التسمية كلا إله إلا الله؟ فليست مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 118.
2 سورة الأعراف آية : 32.
3 سورة المائدة آية : 5.
4 سورة الأنعام آية : 118.(2/313)
[ عداوة المشركين وإظهارها]
(وأما المسألة الثانية) وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به. ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم؟ (الجواب): أن هذا السؤال صدر عن عدم تعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أن يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ (فالأول) يعذر به مع الخوف، والعجز لقوله -تعالى- : {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1 (والثاني) لا بد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عن المؤمن. فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 الآية لكنه لا يكفر لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. (وأما الثاني) الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال -تعالى- : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 3.
[الجهل بقواعد الإسلام وتوقير أعدائه]
(وأما المسألة الثالثة) وهي: من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصول الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين.
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية : 28.
2 سورة النساء آية : 97.
3 سورة العنكبوت آية : 56.(2/314)
(فالجواب): أن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهو كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 الآية. ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور، وتعزيرهم وتوقيرهم، كذلك تحته أنواع أيضا؛ أعظمها رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية كلياقة الدواة ونحوها. وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل ذكروا وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومِن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية، قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك، و "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية : 179.
2 سورة طه آية : 124.(2/315)
الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]
وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى محمد بن علي فيما جرى من الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود، وسارع أكثر الناس إليها، واستشرف لها. وكان من جملة من سارع إلى سعود بعد قتله المسلمين علي بن محمد، فصار ابنه يعتذر عنه، ويطلب من الشيخ أن يكتب له كتابا، ولكن علم الشيخ -رحمه الله- أن أباه قد تلبس بالفتنة، وأنه لا ينجع فيه شيء، وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمه، وسلك بنا وبه سبل سلف الأمة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله -تعالى- على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه، والخط وصل، وما ذكرته صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله -سبحانه- فيها حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن. ونذكر أن أباك يوم يركب ما ظن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة. والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى -بحمد الله- بين يدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟! ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يُسأل(2/316)
عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته. ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان؟ ينبغي أن يتنزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم، وإنما خاطبتك بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، وبعض من ينتسب إلى الدين قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله. وأما يمينك على أنك تحققت من أبيك أنه لا ينكث عهده، ولو يقال لك: الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل لنكث العهد حقيقة تباين ما وقع؟ "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وقولك: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 1 حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما الخط مني له فخطي إليك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام، وذروة سنامه كما هو مقرر في محله، والآيات القرآنية لا يتسع هذا الموضع لسياقها. بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب علم، بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام يعرف هذه المسألة، ولا تلتبس عليه.
ـــــــ
1 سورة يوسف آية : 21.(2/317)
ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر؛ وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة المسلمين على يد شيخهم وإمامهم في الدين، والدنا -قدس الله روحه-، فأي شيء نسخ هذا؟ أنت وأبوك تعرفون حال عبد الله منا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه، ولا يتشفى بما يفسد دينه. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن. وذكر أباك حديث ابن عباس في استفتاحه صلى الله عليه وسلم في صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه، والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله يمنُّ بذلك، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/318)
الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- كلام في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة، أبلغ فيه غاية البلاغة، وأفصح في ترصينه وترصيعه بأوضح عبارة. فحقيق لمن نصح نفسه، ولها عنده قدر وأحب سعادتها، وسعى في نجاتها وتخليصها، وأراد إفادتها أن يتحقق بما اشتمل عليه من الحقائق والمعارف، ويسيم ثاقب فكره في مروج معانيه، وما احتوى عليه من العلوم النافعة واللطائف، لأن ما اشتمل عليه هو أهم الأشياء وأجل العلوم، وعليه المدار، وعنه السؤال يوم القيامة. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، وقبض فيه على الجمر، فتدبره تجده قد أودعه من الكنوز ما لم تجده في المطولات، بأتم عبارة وأوضح بيان لأهل العقول المستنيرات، وأجلى عن محاسن معانيها غياهب الشكوك والضلالات، وأوهام أرباب الشبه والجهالات، فصار قرة عيون الموحدين، وقذى في عيون المشركين.
فيا حي يا قيوم يا من له الثنا ... ويا من على العرش استوى فهو بائن
أنله الرضى والعفو فضلا ورحمة ... فإن (الفتى) يجزى بما هو دائن
وقد بذل المجهود في نصرة الهدى ... وإعلائه حتى علا لا يداهن
وأبدى كنوزا في العبادة للورى ... لكي يستبين الرشد من هو مائن
أماط القذى عنها وصفى معينها ... لواردها الصادي وما هو شائن
فرد منهلا عذبا زلالا فإنه ... يزيل الصدى والحق كالشمس بائن
وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم -أرشدك الله- أن الله -تعالى- خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له، وهذا هو الإيمان المطلق المأمور به في جميع الكتب السماوية وسائر الرسالات النبوية. ويدخل في باب معرفة الله توحيد الأسماء والصفات،(2/319)
فيوصف -سبحانه- بما وصف به نفسه من الصفات، ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة. وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله -تعالى-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1 فأسماؤه كلها حسنى لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله، ولا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر. وقد قال مالك بن أنس -رحمه الله- لما سأله رجل فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى2} فاشتد ذلك على مالك حتى علته الرحضاء إجلالا منه، وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال -رحمه الله-: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يريد -رحمه الله- السؤال عن الكيفية، وهذا الحق يقال في جميع الصفات؛ لأنه يجمع الإثبات والتنْزيه.
[الإيمان بتوحيد الربوبية]
ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان بربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين، فالمخلوقات بأسرها مفتقرة إليه في خلقها وإنشائها وإبداعها، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 3.
[الإيمان بتوحيد الألوهية]
ويدخل في الإيمان إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تتضمنه شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله، فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة
ـــــــ
1 سورة طه آية : 8.
2 سورة طه آية : 5.
3 سورة فاطر آية : 15.(2/320)
بجميع أنواعها عما سواه -تبارك وتعالى- من كل مخلوق ومربوب، وأثبتت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله -تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة؛ إذ هو الإله الحق المستحق المستقل بالربوبية والملك والعز والغنى والبقاء، وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فعبادة سواه أظلم الظلم، وأسفه السفه. والقرآن كله رد على من أشرك بالله في هذا التوحيد، مبطل لمذاهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر مرغب في إسلام الوجه لله والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته، والعبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر:
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة وكمال الذل والخضوع، وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 1. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك أفسدها وأبطلها، ولا تسمى عبادة إلا مع التوحيد. انتهى.
[العبادة الشرعية ]
ويدخل في العبادة الشرعية كل ما شرعه الله ورضيه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كمحبة الله وتعظيمه وإجلاله وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته -تعالى-، وحلق
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 2.(2/321)
الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات والمستحبات. فحق الله على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا؛ والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال -تعالى-، لما ذكر خواص أوليائه ومقربي رسله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع كما في حديث ابن مسعود أنه قال: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" 2 والند المثل والشبيه.
[الإخلاص شرط قبول العبادة]
فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شبه المخلوق بالخالق وجعله في مرتبته؛ ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به -تعالى-، كما قال الخليل -عليه السلام-: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، قال العلامة ابن القيم: أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه: {كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، و: {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، ولا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم -وحده- لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه.
[الله غني عن عباده]
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 88.
2 البخاري : الأدب (6001) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
3 سورة الصافات آية : 86.
4 سورة البقرة آية : 29.
5 سورة البقرة آية : 20.(2/322)
وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقيص لحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح. انتهى.
[حقيقة الإخلاص كمال المحبة]
إذا عرفت هذا فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها، وأصلها كمال المحبة وكمال الذل والخضوع كما تقدم. هذا سر العبادات وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه -سبحانه- بذكر أوصافه العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينتقص هذه المحبة والخضوع والإنابة والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به، والله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 لأنه يتضمن التسوية بينه -تعالى- وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة. قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً} 2: أخبر -سبحانه- أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله، فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوداتهم: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير آلهة الحق فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سورة الشعراء آية : 97.(2/323)
[أقسام المحبة]
والمحبة ثلاثة أنواع: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم. (والنوع الثاني): محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها؛ وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم. (والنوع الثالث) : محبة أنس وألفة؛ وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر بعضهم لبعض، وكمحبة الأخوة بعضهم بعضا، فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم لبعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله -سبحانه-، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق. وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير لله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها، فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل؛ فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت(2/324)
الجنة والنار؛ فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها؛ فالقيام بها واجب علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتفطن لهذه المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله؛ فإن الشأن كله فيها والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال -تعالى-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، قال غير واحد من السلف عن قول لا إله إلا الله: وهذا حق؛ فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عما كانوا يعبدون سؤال عنها نفسها، والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الطريق والوسيلة المؤدية هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب فضلة، بل يجعل هو الطلب الأعظم، وما سواه إنما يطلب فضلة. والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك علما وعملا وحالا، ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته، وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــ
1 سورة الحجر آية : 92.(2/325)
الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين]
وله أيضا -قدس الله روحه، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة يذكر ما منَّ الله به عليهم من دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته وعبادته، والقيام بأركان الإسلام وأصول الإيمان، فقال -رحمه الله-:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اعلموا أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفي أحدهما عن الآخر في النجاة والسلامة من الوعيد الدنيوي والأخروي. وقد منَّ الله -تعالى- عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله وخشيته، وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية والأصول الإيمانية. فأعز الله بذلك من قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب باديتهم وحاضرتهم. ولم يزالوا كذلك قاهرين حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض والقسوة، والتمادي على معاصي الله؛ فسلط عليهم العدو، وافترقت الكلمة وانخرم النظام، وعثا الفجرة اللئام في دماء أهل الإسلام وأموالهم، وكثر الخوض، ونسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق.(2/326)
وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، وليلها يحلولك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم يحاولون إطفاء نور الله.. فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} 1. فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينزل من بأسه ما لا تردون: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعينهم بحسب طاقته بيده أو بلسانه، وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم من عبادة الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام. وكثير من الناس يحصل منهم أسباب ووسائل وذرائع إلى زوال النعم، وحلول السخط والنقم، منها التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب والعداوة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام، والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا ونسيان الآخرة، والاستخفاف بالأركان الإسلامية كإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لأولي الأمر من الأمراء والعلماء؛ فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 3. ودائرتكم ليست على الحال الأولى في مبدأ الإسلام وبعده، والعاقل يعرف ذلك في نفسه وأهل بلده، وقد ذم الله -تعالى- من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه، قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية : 170.
2 سورة آل عمران آية : 104.
3 سورة الإسراء آية : 16.(2/327)
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وذم الله تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على يد السفهاء فقال -تعالى -:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2، يخبر -تعالى- أنهم اتبعوا الشبهات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين، وقال -تعالى -:{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 3. فدلت هذه الآية على أن الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمتع به المؤمن حينا من الدهر. وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام والسمع والطاعة، فاحذروا الرجوع على أعقابكم وتبديل النعمة، قال -تعالى-: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُور َ} 5 إلى قوله -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 6.فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر وما اقتضوه من العقوبة والعذاب؛ وفقنا الله وإياكم لتدبر القول وحسن العمل والختام، وصلى الله على رسوله ونبيه محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 43.
2 سورة هود آية : 116.
3 سورة يونس آية : 98.
4 سورة البقرة آية : 211.
5 سورة سبأ آية : 15.
6 سورة سبأ آية : 19.(2/328)
الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى : {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ] "
وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق لما سأله عن كلام الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله على قوله -تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1، فقال -رحمه الله تعالى-:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وخطك الشريف وصل -وصلك الله لما يرضيه- وما ذكرته صار معلوما؛ والله أسأل أن يصلح السريرة والعلانية، ويصلح ما بيننا وبين خلقه، وما توفيقنا إلا بالله. وما ذكرت من جهة كلام الشارح على آية الأنعام، وأن قوله-تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 نصب على الحال، فهذا عليه غير واحد من المفسرين: قال الجلال: وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف. وقال البيضاوي: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 في موضع الحال من (يحشروا)؛ فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. وقد سبقهم إلى هذا الزجاج، وابن كثير حلّ المعنى ولم يتعرض لإعرابه، ويظهر مراده من تقريره كلامه، قال: وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 4 الآية، أي: أنذر بهذا القرآن يا محمد: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 5
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 51.
2 سورة الأنعام آية : 51.
3 سورة الأنعام آية : 51.
4 سورة الأنعام آية : 51.
5 سورة المؤمنون آية : 57.(2/329)
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُم وَيَخَافُونَ سُوء الْحِسَابِ} 1: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 2؛أي: يوم القيامة: {لَيْسَ لَهُمْ} أي: يومئذ: {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 أي: في التقريب له: {وَلا شَفِيعٌ} 4 فيهم من عذابه إن أرادهم به: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5 يعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم الجزاء من ثوابه. انتهى. وهو يشير إلى جواز جعله صفة لمحذوف دل عليه السياق، والعائد في الجملة الوصفية يكفي تقديره، كقوله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 6 والبغوي لم يتعرض لتقدير شيء. وبهذا يظهر الجواب عن قولك: ما يقال في تقريره؟ فإن الله أمر رسوله أن ينذر بالقرآن عباده المؤمنين الذين يؤمنون بلقائه، ويخافون فيه سوء الحساب، في يوم لا ولي لهم فيه ولا شفيع من دونه": {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ذلك بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه؛ وعلى الأول يخافون الحشر وسوء الحساب، في حال تخليهم وانفرادهم عن الأولياء والشفعاء، وخصوا بذلك لأنهم هم المتقون بالإنذار، المتقون عذاب ذلك اليوم وعقابه، بخلاف من تعلق بالأولياء والشفعاء، واعتمد عليهم في نجاته، فإنه غير خائف، ولا متق لسكون جأشه، واطمئنان قلبه بوليه وشفيعه. والله الهادي الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة الرعد آية : 21.
2 سورة الأنعام آية : 51.
3 سورة الأنعام آية : 51.
4 سورة الأنعام آية : 51.
5 سورة الأنعام آية : 51.
6 سورة البقرة آية : 48.(2/330)
الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف صاحب الفرعة من بلد الوشم، لما سأله عن بعض ما يذكر الناس من إنكاره، وما نسب لعثمان بن منصور من عداوة الدين، وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين، فكشف له عن حاله، بما ستقف عليه مما ظهر واشتهر من حاله ومقاله، وما صرح به في مصنفاته من مسبة أهل الإسلام، ونسبتهم إلى مذهب الخوارج المارقين، ونسبة الشيخ إلى أنه أجهل من أبي جهل، وأنه ضال مضل. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل، وسرّنا سلامتك وعافيتك، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. وتذكر أن بعض الناس عندكم ينكر ما نسب إلى ابن منصور من عداوة الدين وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين؛ وهذا أظهر شيء وأبينه، عند من عرف حال هذا الرجل وجالسه، ونظر في كلامه، فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكر في رسائله ومصنفاته، وهوامشه التي يعلقها. والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى في كتابه الذي زعم أنه شُرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله، من ذلك قوله في الكلام على قوله -تعالى(2/331)
-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 أن ابن العربي المالكي قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر، وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح، وهذا رأيته بخط ابن نصر الله من أهل دائرته في كلامه على كتاب التوحيد؛ ولهذه نظائر وأخوات لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم، ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب، وإنما يظن هذا بنا حزب الشيطان وجنده من الجاهلين الذين لم يستضيئوا بنور العلم، وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا من أهل سدير عبد العزيز بن عبيان وغيره وعلي بن عيسى من أهل الوشم. وكثير من طلبة العلم والعامة شهدوا بأن هذا خطه بيده، ومسبته فيه للتوحيد ومن جاء به حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكية أهل الأمصار ممن عبَدَ القباب والصالحين، وجعلهم: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، والشيخ وأتباعه على إفراد الله بالعبادة عنده خوارج من أهل النهروان. ويصرح بأن الشيخ ضال مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في تخطئة صاحب البردة، وأن دعاء رسول الله وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل، بل ابتلى به جزيرة العرب، وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنارات، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق وهو تكفيرها، ولم يأتها من الباب الواسع. ورد مسائل في كشف الشبه ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة، وأتى بجهالات وضلالات، ووقاحة ومسبة لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ومن كذب بهذا النقل فهو مكابر معاند،
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية : 56.
2 سورة آل عمران آية : 110.(2/332)
جاحد للحسيات والمتواترات، والغالب أن هذه المكابرة لا تقع من محب لما جاء به الشيخ من توحيد الله ودينه، وإنما يذهب إليها من في قلبه مرض يتوصل بهذه المكابرة والمباهتة إلى رد التوحيد، وبغضه وبغض أهله؛ وأكثر هذا الصنف ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل، والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك والإعراض عنه.
وقد قال -تعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 1 واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره، وماحل وجادل في دين الله : {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ثم قال -رحمه الله-:
[مسألة في الخلع]
وأما المسألة التي سألت عنها في الخلع، فجوابها: أن الخلع يقع بائنا، لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها كما نص عليه أهل العلم، والله أعلم.
ـــــــ
1 سورة النجم آية : 29.
2 سورة الأحزاب آية : 4.(2/333)
الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور]
وله -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عثمان بن منصور قبل أن يتبين من أمره ما تبين، وقبل أن يتضح أمره وتظهر مصنفاته ورسائله، لكنه قد يظهر من حاله، وبعض مقاله، ويلوح من صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يغمص به، وتنسب إليه هفوات، وشيء من الكوارث القوادح والمعضلات، وكان مع ذلك يظهر الموافقة، وهو يبطن -والعياذ بالله- المخالفة والمشاقة، حتى وضح أمره واشتهر، فلم يخف ذلك على من له بصر، وله معرفة ونظر، والله أعلم بما آل إليه أمره، وختم له به، ونعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ عثمان بن منصور، أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع نعته عن سفاسف الأمور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما ألبسنا من ملابس فضله، التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من خزائن بره، التي ليس لها انقضاء ولا نفاد. أما بعد: فقد وصل إلينا منك خطابان: (فأولهما) صادف حين الاشتغال بلقاء الأحبة والآل، (وأما الثاني) فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال، فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا النسج على منوالك، أو نقتصر على موجب: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} 1 إذ ليس وراءها مزية
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 86.(2/334)
دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي. فأخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل، أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم، المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات، إن صحت فهي من عظائم المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم تلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج بهذه الدعوة لهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المؤاخاة في الله والمؤازرة، بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابد الرحمن، ويأنس لمنقلب على عقبه، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد، وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد.
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... عذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآونه ... شعب الغوير وطورا قصر تيماء
فهو إن انتسب إلى الحق، فقد والى من خرج عنه وعق. فقلت: إيهٍ له من رجل لو استقام، وصارم لولا ما عراه من الانتلام، لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته،: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1 والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن، كما رواه المحدثون من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم، ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد -أعز الله قدره، ورفع بوراثة النبيين مجده وفخره، بأن يرد لك الجواب، ويعلمك بالخطب أتى من أي باب، طمعا لك في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبيل الهداية
ـــــــ
1 سورة الحديد آية : 17.(2/335)
والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب، التي تنقل عنك من الاستطالة في الأعراض والاغتياب، إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها إلا غرّ مُماحل، وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل بما زوره وافتراه، ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، ويقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود، فإني أتأسف على تنكب أمثالك،: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]
وله أيضا -رحمه الله، وعفا عنه- رسالة إلى أهل الحوطة، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة -سلمهم الله تعالى وهداهم-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلا إلى الله، فمن ذلك الفتنة الكبرى، والعيبة العظمى، الفتنة بعساكر الشرك، أعداء الملة والدين. وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله وتجرد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله؛ عباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله وعدل به غيره، ولم ينزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 4.(2/336)
وأفضل القرب إلى الله مقت أعدائه المشركين، وبغضهم، وعداوتهم، وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك. فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام، ويقلع أساسه! قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين توجب من الاختلاف والتفرق، والبغضاء، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله، وذلك مما لا يستقيم معه إسلام ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه. وهذه الحالة وتلك الطريقة بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد المسلمين وهدم مبانيه والإعلام، فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟ فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 2 فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 57.
2 سورة الزمر آية : 15.(2/337)
وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان؛ فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، لا يضل متبعه ولا يطفأ نوره، فما هذه المشاقة؟ وما هذا الاختلاف والتفرق، وقد جاءتكم النصائح، وتكررت إليكم المواعظ؟ قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. وقد خرج الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وآمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم، قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم"3. فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله به عز وجل المسلمين، المؤمنين، عباد الله؛ وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناء ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره، واتقاء غضبه وسخطه، فاحذروا الاختلاف: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4،: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5،: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 6. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي العربي الهاشمي وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 115.
2 سورة النساء آية : 59.
3 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/202).
4 سورة الأنفال آية : 1.
5 سورة النور آية : 31.
6 سورة النحل آية : 91.(2/338)
الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين]
وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى كافة المسلمين وخاصتهم من العلماء والأمراء ينصحهم فيها، ويحضهم على القيام بما أمر الله به من لزوم الجماعة والسمع والطاعة، ويذكرهم ما منّ الله عليهم به من الاجتماع على هذا الدين بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، بعد أن كانوا قبل دعوته على غاية من الجهالة والضلالة، فجمعهم الله به على هذا الدين. ثم لما خرج من خلع البيعة، وفارق الجماعة، وشق العصا كتب لهم هذه الرسالة يحذرهم عما وقعوا فيه من الفتنة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، ولكن قد سبق القضاء بما هو كائن: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 1. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من علماء المسلمين وأمرائهم وعامتهم، جعلنا الله وإياهم ممن عرف النعمة وشكرها، في طاعة من أنعم بها ويسرها. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب: ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام الذي عرفكم به، وهداكم، وتسمون به، فلا يعني باسم المسلمين إلا أنتم، وما أعطاكم الله في هذا الدين من النعم أكثر من أن يحصر، لكن منها نعم، كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة، لأن المعارض لها قوي جدا، أولها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل، فلما
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 38.(2/339)
شرح الله صدره، واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، وتدبر الآيات، وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة فسافر إلى البصرة، ثم إلى الأحساء والحرمين، لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام. فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد العبادة، أو أنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك أو استحبابه. وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور، والجن، والأشجار والأحجار، في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم. فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر، فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وكان قد عزم، وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة، وأقام بها. ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره، وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملا فناداهم بالدعوة إلى التوحيد، ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبيّن لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف -رحمهم الله-. فقبل منهم من قبل، وهم الأقلون، وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العينية وأظهر الدعوة بها، وقبل منه كثير منهم حتى رئيسهم عثمان بن أحمد بن معمر. ثم إن أهل الأحساء، وهم خاصة العلماء أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تنبئ عن جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد؛ فكتب لابن معمر أن يقتل هذا الشيخ أو يطرده فما تحمل مخالفته، فنفاه من بلده إلى الدرعية. فتلقاه محمد بن سعود -رحمه الله- بالقبول، وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده(2/340)
وهذه أيضا نعمة عظيمة، وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود، وأكثر لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عدوه الأدنى والأقصى أهل نجد، والملوك من كل جهة. وبادأهم دهام بن دواس؛ فهجم إلى الدرعية على غرة من أهلها، وقتل أولاد محمد فيصلا وسعودا؛ فما زاد محمد إلا قوة وصلابة في دينه -رحمه الله- على ضعف منه، وقلة في العدد والعدد وكثرة من عدوهم، وذلك من نعمة الله وآياته علينا وعليكم. فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره، فلله الحمد على ذلك. وفيما جرى من ابن سعود شبه لما جرى من الأنصار في بيعة العقبة. ثم إن أهل نجد وبني خالد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ، ومن آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بحدهم وحديدهم، وكثرة جنودهم، وكيدهم؛ فأبطل الله كيد كل من عاداهم، وكل من رام من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفئ هذا النور، أطفأ الله ناره، وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة. ثم إن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها -سبحانه- لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يغيرها بقوته وقدرته. فاشكروا ربكم الذي حفظ عليكم دينكم، ورد لكم الكرة على من خرج عنه؛ وذلك بالإقبال على التوحيد تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه الله من طاعته، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي. وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال أكثر هذه الأمة قبل هذه الدعوة من الشرك العظيم؛ فمن ذلك قول عالم صنعاء الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- عن شيخ(2/341)
الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... (مشاهد) ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا به معنى سواع ومثل ... يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله ظهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهم باليد
[وجوب التواصي بحفظ نعم الله]
ثم إن الله -تعالى- لما جمعكم على إمام ترضونه، وقد حصل لكم من الأمن والراحة والعافية وكف أيدي الظلمة عنكم ما لا يخفى، ثم لما تبين من خلع الطاعة، وفارق الجماعة، وسعى في الخروج إلى ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الفتنة في الدين، وشق عصا المسلمين، أوقع الله بهم، وبمن جمع بأسه، وقتل أشرار من معه، وأظهر الله جماعة المسلمين وإمامهم على كل من أفسد ممن قتل في هذه الفتن ونهب، وصاروا أذلة، وحفظ الله عليكم الجماعة. فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعم العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي منَّ الله به عليكم؛ وهو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ} 1، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2.واحذروا نسيان ربكم بالإعراض
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 3.
2 سورة الحشر آية : 18.(2/342)
عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار، والحق على العلماء والأمراء أعظم لأن العامة يتبعونهم، ويتقربون إليهم بما يحبون، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره. فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ وقد بين الله معناها في آيات كثيرة من كتابه، فإنها دالة على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وذلك في آي كثيرة؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، فقوله: {أَقِمْ وَجْهَكَ} فيه الإخلاص، و: {حَنِيفاً} فيه ترك الشرك، وقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 فيه البراءة منهم ومن دينهم، قال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3.والآيات في معنى لا إله إلا الله أكثر من أن تحصر كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 4. والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة، وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم بالإعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمى البصيرة في الدنيا والآخرة، ولا باقي معكم إلا دينكم لمن منّ الله عليه بحفظه، والإقبال عليه، والعمل به، ولتفهموا أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة، والعلماء والأمراء خاصة، فيجب عليهم أن يكونوا صدرا في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب، وأن يكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأن يتفقدوا أهل بلدهم في صلاتهم وتعليم دينهم، وكفهم عن السفاهة، وما يحرم عليهم، لأن الله سائلهم عنهم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــ
1 سورة يونس آية : 105.
2 سورة يونس آية : 105.
3 سورة الزمر آية : 2.
4 سورة يوسف آية : 40.(2/343)
الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن مانع، وقد سأله عبد الرحمن بن مانع عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها من غير اعتقاد حقائقها ويتستر بالتفويض، فأجابه بما كان عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وأنه لا بد من اعتقاد المعاني على حقائقها. وبيّن له أن معنى التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية؛ لأنها دلت عليها النصوص من إثبات صفات الكمال. وكذا أجابه عن سؤاله فيما أشكل من أمر الصخرة التي كان الأنبياء يستقبلونها ببيت المقدس. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن مانع -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه-، وسرّنا ما ذكرت من العافية، والحمد لله على ذلك. وتسأل -أرشدك الله- عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، وشك في معناها من غير اعتقاد حقيقته، ويتستر بالتفويض، فهل نكفره بدعواه، أو حتى يختبر؟ فاعلم -أرشدك الله- أنه لا بد من الإيمان بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذا الكتب السماوية والنصوص النبوية والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله، وبربوبيته(2/344)
العامة، ولكن لما خاض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله، وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع، ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله، التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله؛ وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته؛ حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم والإيمان والإجلال. واختلف هذا القسم اختلافا كثيرا في أصول المقالات وفروعها: فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات. ومنهم من أثبت بعضا زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عاداها من الصفات كما هو المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي، ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد، والحقيقة المقصودة، بل يصرحون برد ذلك ونفيه. ومقصود السلف بقولهم: أمِرُّوها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم عن مالك والليث وسفيان الثوري، والأوزاعي أنهم قالوا: أمرُّوها كما جاءت بلا كيف،(2/345)
فقولهم: أمرُّوها كما جاءت رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد للممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} 1. ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته وكبريائه ومجده، ومن قال: تجرى على ظاهرها وأنكر المعنى المراد كمن يقول في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 أنه بمعنى استولى، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 أنه بمعنى القدرة، مع ذلك يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها، ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد. ولا ينبغي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة. والسلف، وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى؛ بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش العلو والارتفاع. وحديث الجارية نص في أن اعتقاد العلو والفوقية لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 4، :{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5،: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6،: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى.قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 8.
ـــــــ
1 سورة الإسراء آية : 43.
2 سورة طه آية : 5.
3 سورة ص آية : 75.
4 سورة الأنعام آية : 18.
5 سورة فاطر آية : 10.
6 سورة المعارج آية : 4.
7 سورة غافر آية : 2.
8 سورة طه آية : 5.(2/346)
[حكم تعطيل الصفات]
وعرشه فوق سماواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، فهو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده، وغيره من الأئمة لا يخالفه، وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه بكل مكان. وقد بسط اللالكائي -رحمه الله- أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي -قاضي الري- رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: اشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب. وذكر الحكم بإسناد صحيح عن محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- أنه قال: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم يلقى في مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة وأهل الذمة. وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف إنما هو في العلم بالكيفية لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال كالعلو والارتفاع والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده والإيمان به. وقال ابن أبي زيد القيرواني في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أي بذاته، وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف والأئمة المقلدين -رضي الله عنهم أجمعين- وخبط في هذا المقام بما لا طائل تحته من فضول الكلام الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام، فنعوذ بالله من معرة الجهل والأوهام، ونستجير به من مزلة الأقدام.
ـــــــ
1 سورة طه آية : 5.(2/347)
قبة الصخرة
(وأما المسألة الثانية): فيما أشكل من أمر الصخرة، فما ذكر الشيخ لا إشكال فيه، ولا يدل أنها على الأرض ولا بعضها كما توهمه صاحب الهامش لأن ارتفاع الصخرة زمن سليمان -عليه السلام- اثنا عشر ذراعا بذراع الإنسان، ذراع وشبر وقبضة، لكن دفنها بختنصر فإنه أمَرَ عسكره أن يملا كل إنسان منهم ترسه ترابا ويقذفه ببيت المقدس، وبعده الروم استولوا على بيت المقدس، وطرحوا الزبل والتراب الكثير على الصخرة مغايظة لبني إسرائيل. فلما فتحها عمررضي الله عنه سنة 16 بسط رضي الله عنه رداءه، وجعل يكنس التراب والزبل فيه، فأخذ المسلون يكنسون معه ويفعلون ما فعل. فإن قصد صاحب الهامش أنها كانت على الأرض قبل أن تكشف فصحيح، وإلا فوهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى سهل بن عبد الله التويجري، ومحمد آل عثمان يحضهما على الدعوة إلى الله، وقد سألاه عن هذا الحديث: "ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم" 1 الحديث، فأفاد وأجاد، وبلغ من الإفادة غاية المراد، فتأمله، فإنه مفيد جدا، والله المستعان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين سهل بن عبد الله ومحمد بن عثمان، حفظهما الله من طوائف الشيطان، وزينهما بزينة العلم والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، والخط وصل -وصلكم الله إلى مرضاته- وسرّني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله
ـــــــ
1 الترمذي : العلم (2658).(2/348)
وما حصل بكما من الانتفاع، فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلّغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم.
[الحث على تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس]
وفي الحديث المبلغين 1 عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يعطون نضرة في وجوههم يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 2 3. وتعليمه يتناول تعليم معانيه، وما دل عليه من الأصول الإيمانية والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا" 4. والأحاديث في المعنى كثيرة.
وللحديث الأول بقية قد سألني سهل عنها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" 5 ذكر العلامة ابن القيم وغيره: أن المعنى لا يحمل الغل ويبقى فيه مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل.
[إخلاص العمل لله]
وقد أشار -تعالى- إلى هذا المعنى بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 6، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 7. فالإخلاص
ـــــــ
1 كذا ولا بد أن يكون قد سقط هنا كلمة مضافة إلى المبلغين فلعل الأصل: وفي الحديث: فضل المبلغين عن الله إلخ.
2 البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907 ,2908) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57 ,1/58 ,1/69) , والدارمي : فضائل القرآن (3338).
3 هو حديث مرفوع رواه أحمد، وأكثر أصحاب السنن أيضا.
4 مسلم : العلم (2674) , والترمذي : العلم (2674) , وأبو داود : السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي : المقدمة (513).
5 الترمذي : العلم (2658).
6 سورة يوسف آية : 24.
7 سورة الحجر آية : 40.(2/349)
[لزوم جماعة المسلمين]
هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان. ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا؛ فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده. وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم كما يفعله الجهال والضلال مع شيخ الإسلام وأتباعه على توحيد الله ودينه. وكما فعله إخوانهم الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون -قط- إلا أعوانا على أهل الإسلام مع أي عدوّ نأواهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان ويشجي القلوب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحيط مِنْ ورائهم" 1 هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم؛ فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا لمن لزمها تحيط بتلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. هذا وما ذكرتما من الأخبار صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله -تعالى-، وبلغوا سلامنا محمدا، ومحمدا، وإخوانكم من الطلبة، ومن لدينا الشيخ الوالد المكرم وأولاده وأولادنا بخير وينهون السلام وحال التاريخ، وفي عزمنا الركوب غزاة مع الإمام -أيدنا الله وإياه بالنصر للدين-، والسلام.
ـــــــ
1 ابن ماجه : المناسك (3056) , وأحمد (4/80 ,4/82) , والدارمي : المقدمة (227).(2/350)
الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
وله قدس الله روحه، ونور ضريحه رسالة إلى الشيخ محمد بن سليمان البغدادي يبين له فيها ما عليه أهل هذه الأزمان من عبادة غير الله، وإشراكهم بالله، وصرف عبادتهم للأولياء والصالحين، ويذكره نعمة الله عليه بمعرفة هذا الدين، ومعرفة ما عليه أهل هذه الأزمان من هذا الشرك العظيم، الذي قد عم وطم، ولم ينج منه إلا الأفراد؛ فتأملها فإنها مفيدة، وهذا نصها.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الأخ المكرم الشيخ محمد بن سليمان آل عبد الكريم البغدادي وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. والكتاب الكريم وصل إلينا وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته وأوليائه، وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه المرة بعد المرة. وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب: معرفة دين الإسلام والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون من الشرك الصراح، والكفر البواح، من دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في كشف شدائد المكروبين، ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، وعدلا(2/351)
منهم بالله رب العالمين، وصرف خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد والشركاء، والوسائل والشفعاء. بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم، ولم ينج من شرك هذا الشرك إلا الخواص والأفراد والغرباء في سائر البلاد؛ وذلك مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق بقوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 1. قال بعض الأفاضل من أزمان متطاولة: الإسلام في وقتنا أشد غربة منه في أول ظهوره، قلت: وذلك أنه في أول وقت ظهوره يعرفه الكافرون والمنكرون والمنكر له كما قال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. وأكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان يعتقدون أنه هو الاعتقاد في الصالحين ودعوتهم والاستغاثة بهم والتقرب إليهم بأنواع العبادات كالذبح والنذر والحلف وغير ذلك من أنواع الطاعات، وذلك لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم. فتراهم عند تجريد التوحيد يقولون: هذا مذهب خامس، لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه واعتادوه لا سيما إذا ساعد العادة والاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين، وهو عند الله معدود في زمرة الجاهلية والمشركين. فهذا وأمثاله هم الحجاب الأكبر بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب والسنة، وما فيهما من الدين والهدي، ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الإلهية؛ فادعى أن للأولياء والصالحين شركة في التدبير والتأثير، وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير. وأوحى إليهم إبليس اللعين، أن هذا من أحسن الاعتقاد في
ـــــــ
1 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
2 سورة ص آية : 5.(2/352)
الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين؛ تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وحيث منَّ الله عليك بمعرفة الهدى ودين الحق وظهر لك ما هم عليه من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى وقم بشكرها، وأكثر من حمد ربك والثناء عليه، واحرص أن تكون إماما في الدعوة إليه تعالى وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا أرفع منازل أولياء الله وخواصه من خلقه. فاغتنم -يا أخي- مدة حياتك لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنات علية. وتأمل ما عند إخوانك من الطلبة في القصيم من رسائل مشايخ الإسلام الداعين إلى الله على بصيرة. والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون في هذا الزمان، وفقهم الله وكتب في قلوبهم الإيمان. وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء والاجتماع بنا فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوي ما بيننا من البعد والفراق. وبلغ سلامنا من لديك من الإخوان المحبين وأنت في أمان الله وحفظه وحسن رعايته والسلام.(2/353)
الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]
وله أيضا رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان -رحمه الله تعالى- يعاتبه فيها على ترك المساعدة وعدم المعاضدة، على إظهار دين الله والمجاهدة، بعد مراسلات بذلك عديدة، ومذاكرة ومناصحات مفيدة، وتحريض وتغليظ في سد وسائل الشرك وذرائعه، والمساعدة على قطع أسبابه وتوابعه. وكأنه -رحمه الله- وجد منه عند تلك الحوادث والكوارث فتورا، ورأى منه في حق من تجانف أو تساهل في ذلك تقصيرا أو قصورا، وقد وضح له في ذلك الحق واستبان، وكان من ذوي المعرفة والإتقان، وخاصة خلاصة الإخوان. فعاتبه بهذه المعاتبة الرصينة المباني، وأفصح له بهذه الرسالة البليغة المعاني، التي يحار في يهماء مطاوح معانيها البليغ المصقع، ويتلكأ عن درك غويص عويصها اللوذعي البلتع، فلله دره من إمام فاضل فصيح، ومجاهد جاهد محب نصيح. فلقد أبلغ في هذه الرسالة من الإيجاز وعدم الإطالة، وقد جاهد لله وفي الله حق جهاده، وما رده وصده عن النصح لعباده قلة المعاون والمساعد، ولا كثرة المكايد والمعاند؛ فتدبر -رحمك الله- ما تضمنته هذه الرسالة من الرصانة، لتعرف قدر منشئها من العلم ومكانه:
معاني مبانيها الطوامح في العلا ... لآلئ أصداف البحور الزواخر
ويحتار في يهما مطاوح ما انطوت ... عليه من الترصين قس المحاضر
وأبدى بديعا من غويص عويصه ... تشام المعاني المحكمات لسابر
لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر
وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر
وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وقمع لمن ناواه من كل غادر
وإبعاد أعداء الهوى وجهادهم ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر
وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... تؤول إلى رفض الهدى من مقامر
قفا إثر آباء كرام أئمة ... أولي العلم والحلم الهداة الأكابر
ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ...
إلى الله من قد ند من كل نافر(2/354)
همو أظهروا الإسلام من بعد ما عفا ... من الأرض فاستعلى به كل ناصر
فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى ... قلوبا لعمري مقفلات البصائر
وكم شيدوا ركنا من الدين قد وهى ... وأقوى ففازوا بالهنا والبشائر
وكم هدموا بنيان شرك قد اعتلى ... وشادوا من الإسلام كل الشعائر
وكم كشفوا من شبهة وتصدروا ... لحل عويص المشكلات البوادر
وكم سنن أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم أرشدوا نحو الهدى كل حائر
لقد أطدوا الإسلام بالعلم والهدى ... وبالسمر والبيض المواضي البواتر
تغمدهم رب العباد بفضله ... ورحمته والله أقدر قادر
وهذا نص الموجود منها ولم أجدها تامة وكأنها مسودة وقد ضاع أولها.
[تضمين الشيخ للكلام المنسوب إلى أبي بكر الصديق]
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ زيد بن محمد وبعد: فقد بلغني عنك من نوادر الكواثروكوارث الحوادث 1 . لم أجد إلا تلكؤ وشماس، وتهمهم ونفاس 2 إذ لا فكرة ثاقبة، ولا
ـــــــ
1 هاهنا بياض في الأصل. وأقول أنا محمد رشيد رضا المشرف على تصحيح هذه الرسائل: إن الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله وتولانا وإياه بلطفه- قد أكثر الأخذ والتضمين في هذه الرسالة من رسالة أبي بكر الصديق وعمر إلى علي -رضي الله عنهم- في شأن المبايعة وهي من أبلغ الكلام على صناعة متقنة فيها، والمحدثون يقولون: إنها موضوعة وضعها أبو حيان التوحيدي كما في الميزان ولسان الميزان. وفيما وجده جامع الرسائل منها تحريف كثير ولعل سبب أخذ الشيخ عبد اللطيف ما أخذ منها أنه كان مطابقا لحالهم مع المرسلة إليه ونحن نرجع كل شيء إلى أصله مع تفسير بعض غريبه.
2 أصله أن أبا عبيدة قال: بلغ أبا بكر -رضي الله عنه- عن علي –رضي الله عنه- تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس، والتلكؤ التأخير والشماس النفار، والتهمهم الهمهمة وهو الكلام غير البين، والنفاس المنافسة، ولا يصح أن يكون أول الجملة هنا "لم أجد" لأنه يقتضي نصب المستثنى بأن يقول: إلا تلكؤا وشماسا إلخ.(2/355)
روية كاسبة، ولا طريقة صائبة، وكرهت أن يتمادى بك الأمر 1 وتبدو العورة فتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة لجاهل مغرور، أو عاقل ذى دهاء وفجور، أو صاحب سلامة ضعيف العنان، خوار الجنان، وكنت فيما مضى ظهيرا لي على دفع ركضة الشيطان، وتفنيد رسالة ابن عجلان، وكنت أتيامن ناصيتك، وأستبين الخير بين عارضيك 2. وقد كنت من العلوم والمذاكرة بالمكان المحوط، والمحل المغبوط، ولم تزل بحمد الله للمؤمنين أخا ولإخوانك ردءا. وهذا الحدثان العظيم ما بعده من خطر مخوف، أو صلاح معروف، ولا أظن جرحه يندمل بمسبرك، ولا إخال حيته تموت برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج إلى النظر فيما يصلح نفسك وخاصتك، وتفوز منه بإرشاد جنانك، والأخذ بناصيتك، والله أسأل تمام ذلك لي ولك، وتطلبه على يدي ويديك، والله كالئ وناصر وهاد ومبصر لكل من لاذ بجنابه، ووقف سائلا ببابه، وبه الحول والتوفيق.
ـــــــ
1 الأصل من كلام أبي عبيدة متصلا بما قبله، وأصله: وكره أن يتمادى الحال وتبدو العدا–أو العورة– وما بعده سواء إلى قوله: خوار الجنانوالسجعتان بعده للشيخ عبد اللطيف.
2 قوله: وكنت أتيامن ناصيتك إلخ أصله من كلام أبي بكر لأبي عبيدة: ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عارضيك، ولقد كنت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمكان المحوط، والمحل المغبوط… إلى أن قال له: قد أردتك لأمر ما بعده خطرولا خوف وصلاحه معروف، فإن لم يندمل جرحه بمسبرك، ولم تستجب حيته لرقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرُّ وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك اهـ وقد تصرف الشيخ في هذا التضمين بما يناسب الحال وزاد عليه قوله: والله كالئ وناصر إلخ.(2/356)
واعلم أن البحر مغرقة، والبر مفرقة 1، والجو أكلف والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رؤوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والعجب قادحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والفرقة تعرف العداوة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحبل بيمينه فاتح حضنيه لأهله، ينتظر بهم الشتات والفرقة. ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا 2 يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سابق الأزمان، لا ينجو منه إلا من آثر الآجل، وغض الطرف عن العاجل، ووطئ هامة عدو الله وعدو الدين بالأشد فالأشد، والأجد بالأجد، وقد أرشدك والله من آوى ضالتك، وصافاك من أحيا مودتك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك، وينبو به قلبك، 3 ويلتوي عليه رأيك
ـــــــ
1 البحر مغرقة، إلخ. هذا أول بلاغ أبي بكر الذي عهد إلى أبي عبيدة بحمله إلى علي -رضي الله عنهم- ومعناه أن البحر موضع الغرق، والبر موضع الفرق بالتحريك وهو الخوف. وكان اللفظان مصحفين في الرسالة، وسقط منها لفظ رءوف في وصف الحق، وفيها زيادة: والعجب قادحة الشر، فهل هي رواية أم زادها الشيخ لمناسبة المقام؟ وفيها: والفرقة تعرف العداوة، وهي محرفة أصلها "والقعة ثقوب العداوة".
2 قوله: تأليبا وتأنيبا، معناه ظاهر ولكن الرواية "ناكبا" أي: منحرفا مائلا عن الحق إلى الباطل من قوله تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} وهنالك اختلاف بألفاظ أخرى صححنا منها ما هو ظاهر التحريف وأبقينا ما صح معناه.
3 في الرواية: "ويدوي به قلبك" وهو إما من الدوي، وهو الصوت المخصوص، وإما من الدوى كالهوى وهو المرض.(2/357)
ويتخاوص له1 طرفك، ويتردد معه نفسك، ويكثر عنده حلك وترحالك، ويتلون به رأيك وحقالك؟ ولم تبح به لإخوانك ونصحائك، وخاصتك وأعوانك، ولم تنبذ إليهم على سوى، ولم تملك ما تجده من الغيظ والجوى، أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق الله؟ أهدي غير هدي محمد؟ أمثلك يمشي لإخوته الضراء، وتدب إليهم منه الحمراء؟ أمثلك يضيق به الفضاء، وتنكسف في عينيه القمراء؟ ما هذا القعقعة بالشنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟
[وصف حال آل الشيخ في زمن الفتنة]
أما أنك عارف2 بأن الرأي الذي امتطينا صهوته، وركبنا غاربه، هو الرأي الأسد، والمنهج الأسعد، بكل دليل ورد، ممن لا يحيط به الحزر والعدد، مع أننا في زمن ووقت أنت منه في كن العافية وظلها غافلا عما نحن فيه لا تدري 3 ما يراد بنا ويشاد، ولا تحصل على علم ما يساق منا ويقاد، نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع من صلبها، ونكرع في عبابها، ونحكم مراسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدج إلينا بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ
ـــــــ
1 في الرواية: ويتخاوص دونه، ومعنى تخاوص: غض من بصره، وحدق نظره إلى الشيء كمن يقوّم سهما أو ينظر إلى الشمس. وفي الرواية هنا : ويسري فيه ظعنك ، ويتردد معه نفسك، وتكثر معه صعداؤك. وليس فيها: ويكثر معه حلك، وترحالك، فهذا وما بعده إلى قوله: الغيظ والجوى من كلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله تعالى-.
2 قوله: أما أنك عارف –الرواية جد عارف- وما بعده إلى قوله: غافلا عما نحن فيه. أخذه الشيخ من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- بالمعنى دون اللفظ، فهو هنالك في الإيمان والهجرة.
3 قوله: لا تدري إلخ. أصله: لا تعي. وما بعده أخذ بلفظه مع حذف بعض الجمل وتقديم بعضها وتأخير بعض.(2/358)
بالمكر، والأرض تميد بالخوف، فلا ننتظر عند الصباح مساء، ولا عند المساء صباحا. وأنت لا تدري سوى ما أنت عليه من غايتك التي إليها غدي بك، وعندها حط رحلك، بل ونحن في كل يوم وكل ساعة 1 تغدو علينا الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق فيما بيننا وتلوح، وعندنا من يقود المشركين، ويأزهم أزا إلى عباد الله الموحدين، من لا تدري خبره، ولم تعرف نبأه، وسوء طويته بالإسلام وأهله، ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال، والنشب والسبد واللبد 2، بطيب نفس، وقرة عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وطلاقة أوجه، وذلاقة لسان، هذا إلى خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، أنت عنها غافل، وعن الخوض في غمارها والدفع في صدرها معرض متجاهل. والآن قد بلغ فيك الأمر 3، ونهض لك الخبر، وجعل مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، عن علم أقول ما تسمع، فاستقبل زمانك، وقلص أردانك، ودع التحبس والتعبس مع من لا يهرع لك إذا خطا،
ـــــــ
1 قوله: بل نحن في كل يوموكل ساعة –إلى قوله: بالإسلام وأهله– من كلام الشيخوهو في رصانة الأصل ومتانته، وأسلوبه وصناعته.
2 قوله: ونحن ندافعهم عن الإسلام بالمال والآل، والعم والخال أصله: "فادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم، والخال والعم، والنشب والسبد واللبد، زاد بعده: "والهلة والبلة" وما بعده سواء.
3 قوله: والآن قد بلغ فيك الأمر ... إلى قوله: إذا أعطى... فيه شيء من التحريفأو التصرف في الأصل. فالرواية : والآن قد بلغ الله بك، وأرض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك ، وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلص إليه أردانك ، ودع التجسس والتعسس، لمن لا يظلع إليك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا اهـ. وتأريض الخير له تهيئته والتأريض أيضا الإصلاح والتشذيب. وقوله: يظلع معناه يمشي وهو يغمز برجله والظلع دون العرج، وقوله: "عطا" لعل صوابها أعطى، وهما ضدان فعطا بمعنى أخذ وتناول، وأعطى بمعنى ناول غيره وحباه.(2/359)
ولا يتزحزح عنك إذا أعطى. وأنت ولله الحمد 1 من مفاتي هذه الأمة في عصرك، يشار إليك ويقتدى بك بين أهل دهرك، وقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا الأمر: 2 هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي، ومن رغب عنه لا لمن تجاحش عليه، والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه مضبوطة مسطورة، محررة في دواوين الإسلام مشهورة، فهلم فالحكم مرضي والحق مطاع:
فيا سادتنا هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتمو ... على ملة نقضي بها ثم نعدل
أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المرفل
أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر سدى بددا 3 مباهل غباهل طلاحي، مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق، لا رائد ولا قائد، ولا ضابط ولا حافظ، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي، كلا والله ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سأل ربه المصير إليه إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد توفي رسول صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر للأمة منه علما. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــ
1 قوله: وأنت ولله الحمد إلخ. هو من كلام الشيخ لمخاطبهوهو في موضع قول الصدِّيق لعلي -رضي الله عنه-: وأنك أديم هذه الأمة فلا تحكم لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا.
2 قوله: وقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إلخ. أصله من الكلام المعزو إلى الصدِّيق -رضي الله عنه- ولقد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الأمر فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن تضاءل له لا لمن تنفج إليه، ولمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لي. والمراد بالأمر الخلافة، وما بعد هذا إلى آخر الأبيات مما أورده الشيخ ليس فيه من الرواية شيء.
3 قوله: أتظن أن رسول الله.. إلى قوله: ولا حادي.. من الأصل المنسوب إلى الصدِّيق بلفظه، وما بعده للشيخ لفظا لا معنى وأسلوبا. وجملة القول أنه -رحمه الله- أتقن الأخذ والتضمين، ولكن مثله في كثرته يعاب إذا لم يصرح آخذه بأنه قد أخذ وضمن، ولعل الشيخ فعل هذا أو أشار إليه فيما فقد من الرسالة.(2/360)
الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة]
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه جواب سؤال ورد عليه من عبد العزيز بن حسن بن مزروع، وذلك في شأن القهوة، طلب فيه من الشيخ الجواب عما أورده من السؤال، ومقصوده أن يوافقه على الحكم والجزم بالتحريم وعدم الإحلال، لما أورده بزعمه في سؤاله من استيفاء التعليل والاستدلال. وكان الأليق بالسائل طلب بيان ما هو الأرجح في شأنها من الأقوال، إذ كان للعلماء فيها كلام ومحل للنظر ومجال، لكنه في سؤاله أصل وفصل، واستدل وعلل، وانتضى لتحريمها صارما عضبا، وارتقى لذلك من الشريعة مرتقى صعبا؛ فلأجل ذلك عدل الشيخ عن ذكر أقوال العلماء هنالك، وعما هو الأعدل والأرجح في ذلك، وأخذ في إبطال ما علله، وهدم ما قعده وأصله. ثم بعد ذلك أرشده إلى ما هو اللائق بصرف الهمة إليه، من الحض على دفع ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة وقبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم وهذا نص السؤال. قال السائل: تفهم أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، ومنها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه ويشهد له. وبنو آدم لهم مألوفات إذا درجوا إليها أحبوها وألفوها ولو فيها ضرر، ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، وفي الماضي ما يستعملها إلا القليل، للبلد مجمع وبعض القرى ما يعرفها. واليوم هذا الذي ترون الغني والفقير والمرأة والصغير، ولا يحصى ما يصرف فيها من المال، ولو كان ما فيها إلا ضرر مفرد، كيف وأول مضارها في الأبدان! وإذا كان الخمر يزيل العقل شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، كذلك إضاعة المال، وفي مجالسها القيل والقال، وتحول الفقراء إلى السؤال، وتلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، هذا ولا تروي ولا تغني من جوع، ومزرعها ومخرجها من بلد كفار. وأما من ضررها على أهل الجهات فظاهر(2/361)
معلوم إذا لاقوا العدو ومرارا تكون على شرابها، ويصرف فيها من بيت المال ما لو يصرف في آلة الجهاد والفقراء والمساكين كان هو الواجب. وتفهم أن عند خروجها حصل من أهل العلم فيها خوض ومقتها بعض، وحرمها بعض، وهي ما بلغت هذا المبلغ ومصرف أهل نجد فيها اليوم وما يتعلق به ألوف لو يضعها عليهم واضع ما حملتها عقولهم، فالمطلوب تجيبون عن هذا وتوضحون ما يجب فيها من حكم، ولا هو أول محظور منعوا منه أهل نجد وامتنعوا، وهم ولله الحمد لهم قابلية، وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها، وبعضهم يقول: نصرف فيها أكثر مما نصرف في الزاد. والإمام أطال الله بقاءه، ووفقه لما يرضاه قد حصل عنده فيها مجال ويود سببا يرفعها به عن رعيته، هذا وإذا وزنتها العقول السليمة لا شك أنها لهو ولعب. وفقك الله للصواب. انتهى. فأجابه رحمه الله عن سؤاله فقال :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد العزيز بن حسن، سلك الله به أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل والسؤال عن القهوة وصل مع اشتماله على الجزم بالحكم، واستيفاء الدليل بالتعليل والتدليل، هذا غاية ما يطلب من الجواب. ومن كان له ملكة وعنده معرفة توجب الجزم بالحكم باليقين، والاستدلال على الأحكام والدين، فليست به حاجة إلى سؤال المستضعفين والقاصرين، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والعصمة من القول عليه بلا علم. والكلام على القهوة قد سبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم كل منهم أبدى ما عنده وما لديه،(2/362)
وحسبنا السير على منهاجهم واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعة طرفا من ذلك والمجموع عند ابن مانع. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع من الأمر والنهي بالفعل أو بالوسيلة، وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب دفع المفاسد لا رفع المفاسد. وقولك : منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1 ولم يخرج فرد من ذلك : ولو قلت فقد صرح بذلك الكتاب والسنة أو تضمناه، لصح التعبير. وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم القهوة مع ضعف معايشهم، فلا أدري ما يراد بالبلوى هنا؟ أهي الابتلاء في الدين أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى، وإن كان الثاني، فالناس درجات وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة، وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه لا تختص بالقهوة أيضا، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات. وأما التعليل بأن فيها مضارا للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي يمكنه التعديل بالتمر الذي هو غالب غذاء أهل نجد، وقال داود في "تذكرته": يعد لها كل حلو.
ـــــــ
1 سورة هود آية : 118.(2/363)
وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال؛ لأن الخمر تزيل العقل بمخامرته أي: تغطيته وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن حاد الإدراك جيد الحافظة، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة وإنما كسل وفتور لها لا بها1 . فافهم -أيها الأخ- وأعط القوس باريها.
[تفنيد الأدلة بتحريم القهوة]
وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فعقولهم لا تصلح أن تكون ميزانا أو أن تستقل بحكم. وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة. وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، فلا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب ما لا يعود بمنفعة أصلا ويعود بمضرة رجحت على مصلحته، وإدخال القهوة في هذا التعريف يحتاج إلى أصول ومقدمات "لو يعطى الناس بدعواهم" 2 الحديث. وما ذكرت من التعليل قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال
ـــــــ
1 التحقيق الذي يثبته الطب أن شرب القهوة والشاي والدخان يحدث تنبيها في العصب، وهو المراد بما أشار إليه الشيخ منه حدة الذهن، ثم يحدث عقب ذلك التنبيه فتور بمقتضى ما يسمى سنة "رد الفعل". وهو معنى قول علمائنا: ما جاوز حده رجع إلى ضده، فالفتور الذي ذكره الشيخ هو ضد ذلك التنبيه، وهو من تأثير المادة السامة التي توجد في كل من القهوة والشاي والدخان، وهو يزول بشربها لما فيه من التنبيه. ومثل هذا يوجد في الخمر، وهو المراد بقول الشاعر الفاسق:.................. وداوني بالتي كانت هي الداء وقوله: وكأس شربت على لذة /7 /7 وأخرى تداويت منها بها /7 /6 ولكن ما تحدثه الخمر من تنبه العصب ومن الفتور الذي يعقبه ليس هو العلة في تحريمها بل علته ذهاب العقل والنشوة التي هي مثار العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
2 البخاري : تفسير القرآن (4552) , ومسلم : الأقضية (1711) , والنسائي : آداب القضاة (5425) , وابن ماجه : الأحكام (2321) , وأحمد (1/342 ,1/351 ,1/363).(2/364)
والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازما للقهوة، وكذلك كونها تلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات والمبايعات والمزاورات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 1 الآية. وأما كونها لا تغني من جوع ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما يتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع ولا يروي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} 2. وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار ونسجه الكفار وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم ومآكلكم من هذا الضرب؟ "ثكلتك أمك يا معاذ" 3 و "ويح عمار" 4 قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من بلاد الكفار أنواع المآكل والأدهان والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار. وأما ما زعمت من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم وتخفيف المواد المكسلة الردية. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى كان النظر -أصلحك الله- منصرفا إلى توفير هذه الجهة ووضعها في مواضعها الشرعية؟ والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها –ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية–فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل:
ـــــــ
1 سورة المنافقون آية : 9.
2 سورة مريم آية : 64.
3 الترمذي : الإيمان (2616) , وابن ماجه : الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237).
4 البخاري : الصلاة (447) , ومسلم : الفتن وأشراط الساعة (2915) , وأحمد (3/5 ,3/90).(2/365)
إلا على شجب والخلف في الشجب ... تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخلة في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية. ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه والسؤال عنه. وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنه من سلف من أهل العلم والدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/366)
الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس]ا
في بيان ما دعا إليه الشيخ محمد عبد الوهاب وكونه حقيقة الإسلام، وتضليل من زعم أنه مذهب خامس، وهو جواب لسؤال ورد على الشيخ من عمان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين: أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة التي صدرت من جهة الساحل الشرقي على يد الأخ سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد الضال المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيا أو مبتدعا؟ فالجواب: وبالله التوفيق إنما تدل مقالته هذه على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام وأبينهم ضلالة. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا يشركوا به شيئا، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. وقوله: مذهب خامس يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له: دين وملة، فإن التوحيد هو دين الله وملة خليله إبراهيم ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا؛ ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا(2/367)
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2،فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا ولم يسمه مذهبا.
[معنى المذهب وسبب المذاهب وأئمتها]
وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم: مذهب فلان أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة -رحمهم الله- بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة فقد جرى الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم-، وللصدِّيق رضي الله عنه مذهب تفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس وغيرهم من الصحابة، وكذا الفقهاء السبعة من التابعين خالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك، وبعدهم أئمة الأمصار كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة (سفيان) والثوري إمام أهل العراق. فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة، وجاء بعدهم أئمة مجتهدون خالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف إذا عنى الأربعة قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا يقول: أجمعوا. وذكر المذاهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام يذكرونه عند أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود أن قول هذا الجاهل مذهب خامس، قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 2.
2 سورة البينة آية : 5.(2/368)
أهل الجدل والزيغ في زماننا. (شعر):
يقولون أقوالا ولا يعرفونها ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
(وأما قوله:) وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به ودعا إليه وعمل به؛ ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسَّن الشرك والبدع ودعا إليها، وجادل بالباطل وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم الغاش لعباد الله؛ لأنه يدعوهم إلى ضلالة. نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
[التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فإنه نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى. وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم ما قاله المرسلون لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، وما نشؤوا عليه من الشرك والبدع؛ فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا -رحمه الله-. ومن استجاب له، وقبل دعوته وأصغى
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية : 59.(2/369)
إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 2. وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ -رحمه الله- من التوحيد في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3: فيها نوعا التوحيد: توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وفي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 4 النوعان، وقصر العبادة والاستعانة على الله عز جل أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك 5.أول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6 إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 7. فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح -سبحانه- كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 8.: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 9 - إلى قوله: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 10 أي: المألوه
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 112.
2 سورة الفرقان آية : 31.
3 سورة الفاتحة آية : 2.
4 سورة الفاتحة آية : 5.
5 هذا التفسير للقصر المذكور، ومعنى الآية في جملتها نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعينك ولا نستعين سواك، فهي جامعة بين إثبات العبادة والاستعانة لله، ونفيهما عن سواه.
6 سورة البقرة آية : 21.
7 سورة البقرة آية : 22.
8 سورة آل عمران آية : 1-2.
9 سورة الأنعام آية : 1.
10 سورة الأنعام آية : 3.(2/370)
المعبود في السماوات والأرض، وفي هذه السورة 1 من أدلة التوحيد ما لا يكاد أن يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2، فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها ببيان توحيده والنهي عن الإشراك به، وفي أول سورة طه قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وافتتح سور الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقٌِ}4 . وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 5. وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 نفى الشرك في العبادة إلى آخره. وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 7 توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن. وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} 8 بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم 9 بمشيئته وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا
1 يعني سورة الأنعام، وهي أجمع سور القرآن لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث،
ورد شبهات المشركين.
ـــــــ
2 سورة هود آية : 1.
3 سورة طه آية : 8.
4 سورة الصافات آية : 1.
5 سورة الزمر آية : 1.
6 سورة الكافرون آية : 1.
7 سورة الإخلاص آية : 1.
8 سورة الناس آية : 1.
9 لعل أصله هو المتصرف فيهم، فيكون خبر أن ربهم وإلا فأين الخبر.(2/371)
ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء،: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق لأن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن.
[دعوة الشيخ إلى أركان الإسلام وشعب الإيمان]
وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 2، وفي حديث ابن مسعود الصحيح: "من لقي الله لا يشرك به شيئا، دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به، دخل النار" 3، والحديث الذي في معجم الطبراني: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " ، ولما قال له رجل : "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 4 وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره. وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد، وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا.
[عداوة أكثر الناس لإصلاح الرسل وورثتهم]
ثم إن شيخنا -رحمه الله- كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها؛ وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين كما دل على ذلك الكتاب والسنة. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته -رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول
ـــــــ
1 سورة الرعد آية : 41.
2 البخاري : الجهاد والسير (2856) , ومسلم : الإيمان (30) , والترمذي : الإيمان (2643) , وابن ماجه : الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242).
3 مسلم : الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391).
4 أحمد (1/214).(2/372)
مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل: أن هذا المعترض المجادل مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا؛ فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس وكل صنف له أتباع. (الصنف الأول): من عرف الحق، فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1 ،: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. (الصنف الثاني): الرؤساء أهل الأموال الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه، وألفوه من شهوات الغنى، فلم يعبؤوا بداعي الحق ولم يقبلوا منه. (الصنف الثالث): الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة.
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 90.
2 سورة البقرة آية : 146.(2/373)
(فأما الصنف الأول): فقد عرفت ما قال الله فيهم. (وأما الصنف الثاني): فقد قال فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال عن الصنف الثالث: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2،: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 4. وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 5، وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 6، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 7، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} 8، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 9. فيا من نصح نفسه، تدبر ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} 10 الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 11. والآيات في هذا المعنى كثيرة، تبين أن أهل الحق أتباع الرسل
ـــــــ
1 سورة القصص آية : 50.
2 سورة الشعراء آية : 74.
3 سورة الزخرف آية : 22.
4 سورة الصافات آية : 69.
5 سورة الصافات آية : 71.
6 سورة الشعراء آية : 8.
7 سورة يوسف آية : 103.
8 سورة هود آية : 40.
9 سورة الأنعام آية : 116.
10 سورة غافر آية : 4.
11 سورة غافر آية : 83.(2/374)
هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان. وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك كما في الصحيح: أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي" 1. فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات ممن هم مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2 . فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: (منها) أنهم: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3 فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره و "الدعاء مخ العبادة" 4 (الثاني): كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا غير أحياء والميت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله، فتدبرها.
ـــــــ
1 البخاري : بدء الوحي (4) , ومسلم : الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232).
2 سورة النحل آية : 20.
3 سورة النحل آية : 20.
4 الترمذي : الدعوات (3371).
5 سورة فاطر آية : 13.(2/375)
(والأمر الثالث) في هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون َ} 1، ومن لا يدري متى يبعث لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة. ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. وهذا هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال: { فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4، فذكر سببين حائلين بينهم، وبين قبول الحق الذي دعوا إليه: (فالأول): عدم الإيمان باليوم الآخر. (والثاني): التكبر، وهو حال الأكثرين كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث إليهم رسله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم، وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد، فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو بن عبسة أنه "قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد" 5، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" 6، وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 21.
2 سورة البقرة آية : 163.
3 سورة الأنبياء آية : 25.
4 سورة النحل آية : 22.
5 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112).
6 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).(2/376)
بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 1. فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا ً} 2. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـــــــ
1 سورة غافر آية : 35.
2 سورة الكهف آية : 17.(2/377)
الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا. أما بعد: فقد سألت - أرشدك الله - أن أرسل إليك نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العلم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، والقائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآل وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب. وذكرت - أرشدك الله - أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق على تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل. وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق(2/378)
جاحدا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلف فيه ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع.
[ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
فصل:
[نسبه]
فأما نسب هذا الشيخ، فهو الإمام العلم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف.
[مولده]
ولد -رحمه الله- سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه.
[طلبه للعلم]
وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم. وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس؛ قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذاك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة(2/379)
الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-.
ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأحبار، وأتى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد.
[شيوخه]
وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء" 1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2 ، وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد -رحمه الله-. وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقاف.
[دعوته]
وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارات
ـــــــ
1 الترمذي : البر والصلة (1924) , وأبو داود : الأدب (4941).
2 الترمذي : القدر (2142) , وأحمد (3/106 ,3/120).(2/380)
الطواغيت أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويلجؤون إليهم في الملمات والمهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين؛ وأما دعوى المحبة والمودة، مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى باطلة مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك -رحمه الله-. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلده حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد؛ وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد. وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق.
[حال بلاد نجد وغيرها عند ظهور الشيخ]
فصل: كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب(2/381)
على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن. وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد. وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة، غير مردودة ولا مدفوعة. قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين؛ وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون. قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2،: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر
ـــــــ
1 سورة الحشر آية : 19.
2 سورة الأنعام آية : 1.
3 سورة الأعراف آية : 33.(2/382)
زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج. وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذاك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال، ينتابه النساء والرجال يفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر الزواج عنها ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطريقة أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق الغار ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى: تاج يتبركون به ويرجون به ويرجون منه العون والإفراج. وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطوائف الخاسرة، قد فشت وظهرت وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين: فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة(2/383)
عند نزول المصائب وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم.
[الفتنة بالقبور ومفاسدها]
فلو دخل سارق أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في سرف. وكذلك عند قبر خديجة -رضي الله عنها- يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه من مسلم يرجو الله واليوم الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنيئة الفاجرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الأديان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه ، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين: منها وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمن تحت تلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والباس. وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي -رحمه الله- أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله، فانظر إلى هذا الشرك الوخيم! والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم! ووازن بينه(2/384)
وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 الآية، وقوله -جل ذكره-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.
[البدع الوثنية والشرك في الأمصار والأقطار]
كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هم من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- من النهي عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه، وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين؛ فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 186.
2 سورة الجن آية : 18.(2/385)
وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل عن أحد مثله بعد الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن: ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران، من تلاعب الشياطين، وخلع ربقة الإيمان ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من تعظيمه وطاعته وتقديسه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان
ـــــــ
1 سورة الكهف آية : 5.(2/386)
والأصنام،: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من النصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف والأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، وقد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا، وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد، وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور؛ ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولد، يرفع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية.:
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 31.(2/387)
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره؛ واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير.
[غلبة الجهال والمبتدعة على أهل العلم والدين]
فصل:
وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام. وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال من الحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم
ـــــــ
1 سورة الصافات آية : 180.(2/388)
عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم والإعراض عن النظر في آيات الله، والفهم لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر -سبحانه وتعالى- التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} 2 الآية، قد قرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار بأهله، وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله- :
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
[حديث ذات أنواط والبدع التي يعدها الجهال عبادات]
إذا عرفت هذا، فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العين وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المشهور الذي سماه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" : روى البخاري 3 عن أبي واقد الليثي قال:
ـــــــ
1 سورة لقمان آية : 21.
2 سورة سبأ آية : 44.
3 أخطأ الطرطوشي رحمه الله في عزو هذا الحديث إلى البخاري، وإنما نعرفه من تخريج أحمد والترمذي والنسائي وكبار رواة التفسير المأثور وغيرهم، وهو صحيح على كل حال كما قال الترمذي ولفظه "سبحان الله! هذا كما قال موسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم.(2/389)
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديث و عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم " . فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة، فقصدها الناس يعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخرق والمسامير، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. انتهى كلامه -رحمه الله-. فانظر -رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: " الله أكبر! هذا كقول بني إسرائيل: {اجعل لنا إلها} "1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله. فإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟ الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه كما بلغ البلاغ المبين، عرفنا بالله وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله واليوم الآخر أن لا يغتر بما عليه أهل
ـــــــ
1 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).(2/390)
الشرك من عبادة القبور من هذه الأمة. ومن ذلك ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بأبي شامة- من فقهاء الشافعية وقدمائهم في كتابه الذي سماه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: البدع المستقبحة تنقسم على قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم – إلا من عصمه الله – عبادات وقربات وطاعات وسننا، فأما القسم الأول فلا نطول بذكره، إذ كفانا مؤنة الكلام منه اعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن تبين من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين الاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1 ؛ ولهذه الآية وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها.
[الافتتان ببعض الأماكن والاعتقاد في بعض الأشياء]
ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم
ـــــــ
1 سورة الشورى آية : 21.(2/391)
بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق -صانها الله- من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج بلد توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق -سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها-. فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة عن الزهري 1 عن سنان بن أبي سفيان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها، وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فتنادينا من جانبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم " أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المتقدم ذكره: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها أو ينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها. 2
ـــــــ
1 بياض في الأصل وبعده سنان بن أبي سفيان، وهو من تحريف النساخ والصواب ما صححناه به كما في جامع الترمذي.
2 كان بقرب بلدنا زيتونة يسمونها: "زيتونة الولية" يعتقد الجمهور بركتها، فلما قرأت لأهل البلد عقيدة التوحيد في أيام طلبي للعلم أغريتهم بقلعها، فقلعوها ليلا، وكان هنالك عليقة منسوبة لولي ينوطون بها الخرق، فما زلت بهم حتى منعتهم من ذلك.(2/392)
(قلت:) ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق الحسائي -رحمه الله تعالى- أحد الصالحين ببلاد أفريقية حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا. قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود -عليه السلام- ومن بناء ذي القرنين، وقيل فيها: غير ذلك مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" -حرسها الله- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور سنة 636 أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت. وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال الله لنبيه :{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1. نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.(2/393)
رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه. وهذا الشيخ أبو شامة من كبار أئمة الشافعيين في أوائل القرن السابع. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها، لما نهى عنه الشارع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها 1 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع التي فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ2... تبركا بها. وأما إفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفار، ولم يتمسح بآجر المدينة يوم الأربعاء، ولم يقبل الجملون على جنازة الصدِّيق أبي بكر وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا (؟) بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى. فتأمل -رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة يشهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموَّه به المتعصبون والملحدون.
[سؤال الميت والغائب قضاء الحاجات والاستسقاء بالصالحين ]
قال الشيخ تقي الدين: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره،
ـــــــ
1 أي: تضميخها بالخلوق، وهو نوع من الطيب، والمراد هنا جنس الطيب.
2 بياض الأصل.(2/394)
فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة- لميت: يا سيدي يا فلان، أنا في حسبك أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري. وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل.
[السنة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم]
وكره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، أما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة(2/395)
الصلاة إلى القبر. فإذا كان قد ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلى إليه. قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا -والله أعلم- حرفت الحجرة، وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على القبلة، ولا جعل سطحا. وذكر الإمام وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر. وقد ذكر مالك -رحمه الله- وغيره من أهل المدينة: كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء؛ فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، وأيضا، فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه؛ 1 ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد حدثني أبي عن ابن
ـــــــ
1 كذا وفي العبارة قلق واضطراب.(2/396)
عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر لم يكن يفعل ذلك دائما ولا غالبا. وما أحسن ما قال مالك -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقصوا إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره، ولهذا كرهت الأمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها.
[الاستغاثة بالنبي والافتتان بالصالحين ]
وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والذل وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها: "مناسك حج المشاهد" كما(2/397)
صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب: "بالمفيد" أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكا وحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحبا؛ فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إن حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس -ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة- على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند؛ وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم(2/398)
القيامة لا أبيع بحجة، فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ 1 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عُمَّار مساجد الله التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} 2، وعُمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، فإذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج.
وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 .
[الافتتان بأصحاب القبور]
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت طلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه؛ وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث
ـــــــ
1 بياض بالأصل لعل مكانه كلمة: فنهاه.
2 سورة التوبة آية : 18.
3 سورة الأنعام آية : 80.
4 سورة الأنعام آية : 82.(2/399)
العهد بالإسلام والتابع لهم المحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما يستجيزه كل مشرك أو نصراني ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور والمنذور ما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1، يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم؛ إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه؛ فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 5، ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت النيران والأصنام والمشاهد ؛ لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب. فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات، فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا ً} 6، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 34.
2 سورة الأعراف آية : 29.
3 سورة التوبة آية : 18.
4 سورة النور آية : 36.
5 سورة الحج آية : 40.
6 سورة الكهف آية : 21.(2/400)
الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، وفي رواية (وصالحيهم)، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور؟" فقلت: هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" 2 3.
[عزو بعض الدجل والحيل عند القبور وغيرها إلى الشياطين]
وهؤلاء الغلاة المشركون إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر أو منافق فيذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال لهم: إنها تقبل النذور؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين من جنس واحد يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل
ـــــــ
1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي : الصلاة (1403).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
3 رواية الشيخين في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه" ولفظ مسلم "لاتبعتموهم "، وفي رواية البخاري "لو سلكوا حجر ضب .. إلخ قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى ؟ قال: "فمن؟" .(2/401)
لبنان الذي يقال: إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنهما كذب. ومنهم من قال: إنهما قبرا نصرانيين، وكثير من المشاهد تنازع (الناس) فيها، وعندها شياطين تضل بسبها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا متصورا بصورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين. وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراري بديار مصر بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك، فيطمع فيها، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البوشت، وهو المخنث عندهم إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا إليه بعض من ينكحه ونصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهوى. ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب وكذلك الطعام، وقد نقل إلى بيت البوشت وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار فيقضي بعض حوائجهم. ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس(2/402)
ما يجري عند الأصنام.
[صور من الشرك ]
وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله من صنم وقبر وغير ذلك تكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وإن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان، وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية، وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة. وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله-صلى الله عليه وسلم - طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة حتى قضى ذلك المطلوب. وإنما (هي) شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والجاهل للجاهل، والفاجر للفاجر، وأما أهل العلم والإيمان فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس يتبعونه فيما أمر الله به رسوله. وكان رجل يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن. ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع. وكان شيخ آخر معظم(2/403)
عند أتباعه يدعي هذه المنزلة، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر. وقد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة؛ فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله -سبحانه وبحمده-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 1 إلى قوله: {كْرَةً وَأَصِيلاً} أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} "2 وقال: بأنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله. ومنهم من قال: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، ومنهم من يأتي قبر الميت فيقول: اغفر لي، وارحمني، ولا توقفني على زلة إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها. أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة، والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة وبين في ذلك قصده:
ـــــــ
1 سورة الفتح آية : 8.
2 البخاري : تفسير القرآن (4627) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/85 ,2/122).(2/404)
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ولو نطيل بذكر هذه الأخبار لحررنا منها أسفارا، فلنكف عن قلم اليراع في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بلى أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، نجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر. وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقول : {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 1 ، فاستهزؤا بالرسول لما نهاهم عن الشرك. وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَوَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3.
تفضيل المشركين لمعبوداتهم على خالقهم
وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4.فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد؛ وهكذا تجد من فيه شبه من
ـــــــ
1 سورة الأنبياء آية : 36.
2 سورة الصافات آية : 35.
3 سورة ص آية : 4.
4 سورة الأعراف آية : 70.(2/405)
هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد؛ فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه المستور، وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به في البيت الذي بني لله –عز وجل-؛ ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بنى لدعاء الخالق. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} 1 الآية: كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا نضب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما يبذل للمساجد ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده وخضع، ويدعو، ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية : 136.(2/406)
المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا إذا سمع الأبيات يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين. بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤوا بها، فيجعل له أعظم نصيب من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1 ؛وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية كأنهم صم عمي؛ وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكتت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت: كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلال فيها من حضور الشيطان ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواع متعددة: منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فأخرجه إلى بلاد الإسلام2 . وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.
2 هذا السطر غير مفهوم إذ ليس قبله اسم يظهر أنه فاعل لقوله فيه فلم يخرجه وقوله فأخرجه. فالظاهر أنه سقط من الكلام قبله شيء. وهذه الرسالة كثيرة الغلط.(2/407)
المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعس أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله تعالى للمؤمنين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 1. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده وفي صدره أعظم.
القبوريون ليس لهم حجة على دعواهم
فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟. وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به، ولتميز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2 . وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولة عمن لا يحتج بقوله، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 200.
2 سورة الأعراف آية : 3.(2/408)
وتركوا محكمه، كما فعل النصارى. هذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحي الصرصري ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان وكتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام. وليس لهم (دليل) شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث شيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم صلاح وعلم وزهد إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به1 . وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه له من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور؛ وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير
ـــــــ
1 قد ذكروا في بعض الكتب وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين ثم ليتوجه إلى الشرق- أي إلى بغداد – وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به: أيدركنى ضيم وأنت ذخيرتي وأظلم في الدنيا وأنت مجيري وعار على راعي الحمى وهو في الحمى إذا ضاع في الهيجا عقال بعير ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي ويذكرها. قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مجرب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه.(2/409)
من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه. ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال: هذا أصل الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينه لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين، وكان هذا أو أمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم.
دعاء أصحاب القبور والصالحين
وربما كان الذي يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم للذي دعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكمو من الضرر
فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله.فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا إياه، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة(2/410)
أصلا لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله بما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1 كما قال -تعالى- في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في كل يوم: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" 3 ،وفي لفظ "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 4 .وهؤلاء يدعون الميت والغائب فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي، وارحمني، وتب على، ونحو ذلك. ومن لم يقل من عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان وغير ذلك، فيشكون إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده في الشكوى أن يشكيه5 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول مع ذلك للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالماً بذنوب العباد ومجرياتهم التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت6. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم فإنه يسأل الله لهم7 ، فإنه يسأل ويشفع كما كان يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد
ـــــــ
1 سورة غافر آية : 51.
2 سورة الأنفال آية : 9.
3 الترمذي : الدعوات (3524).
4 أبو داود : الأدب (5090) , وأحمد (5/42).
5 يشكيه بضم الياء من الإشكاء وهو إزالة ما يشكو منه من ضر.
6 ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين -رضي اله عنه-: ياسيدي العارف لا يعرف إلخ.
7 قد سقط من هنا كلام فيه ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-.(2/411)
من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله، وطلبوا الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصاً.
أنواع عبادة القبور ومخالفة النصوص فيها
فانظر -رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر الذي قد وقع في زمانه ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ -رحمه الله- على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق؛ وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام. وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 1 الحديث، أو قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 2 وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك والبدع والحدثان، قلا تغتر بما هم عليه، وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله عنهم ذلك في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسي وأخيه هارون الكريمين: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3، فأجابه -عليه السلام- بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4 . فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء،
ـــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
2 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
3 سورة طه آية : 51.
4 سورة طه آية : 52.(2/412)
وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول، قال ابن القيم -رحمه الله- في الإغاثة: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" 1، وقال: "للهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، ولكن
ما لجرح بميت إيلام
منها الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد؛ وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل بل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن
ـــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
2 مالك : النداء للصلاة (416).(2/413)
جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد.
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن رسول الله فيها لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام أحمد:1 -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
الدعاء للميت لا الاستشفاع به
وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له، وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان
ـــــــ
1 هذه الكلمة مأثورة عن الإمام مالك فالظاهر أن الناسخ كتب "الإمام أحمد" سهوا منه. ويحتمل أنها مروية عن الإمامين -رحمهما الله تعالى-.(2/414)
إليه وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء عنده والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟!
[التخلص مما يؤدي بالناس إلى الشرك]
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر رضي الله عنه ، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تحتها، أرسل إليها وقطعها. قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فماذا حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هدم مسجد الضرار، ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاعله؛ والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله –سبحانه- كسرها(2/415)
على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين. وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور، ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى. قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه فما زالت هذه تمسحه حتى اخلولق (؟).
[الفتنة بالقبور أصل عبادة الأصنام]
وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما ذكر الله في سورة نوح فى قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 1 الآية، ذكر السلف في تفسيرها أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم2، وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه؛ كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته والتوكل عليه أغناه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة
ـــــــ
1 سورة نوح آية : 23.
2 رواه البخارى عن ابن عباس –رضي الله عنه- بابسط من هذا.(2/416)
الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. (النوع الثاني): أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. (النوع الثالث): أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضاً من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وكفى في معرفتهم أنهم أكفر أهل الأرض بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} 2، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، ولو لم تكن الفتنة بعبادتهم الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- ملخصاً.
[من طرق تحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه]
وقال الشيخ تقي الدين في (الرسالة السنية) لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتلهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، ففي هذه الأزمان قد مرق أيضاً
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 35.
2 سورة الإسراء آية : 89.
3 سورة الأنعام آية : 116.(2/417)
من الإسلام1 . وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2 الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدَّت عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس -رضى عنه- مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو آجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه وحده لا يجعلون معه إلهاً آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً ... إلى أن قال:
ـــــــ
1 كذا في الأصل والكلام كما ترى قد سقط منه شيء والمراد منه مفهوم بالقرينة وهو أن المروق من الإسلام غير مستغرب في هذا الزمان بعد أن علم مروق أناس منه في خير القرون.
2 سورة النساء آية : 171.
3 سورة يونس آية : 18.
4 سورة الإسراء آية : 56.(2/418)
وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 3، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 4 وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 5، يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 6. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم- عند قبره فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق7، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 8. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 9. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة" 10، ولا إله إلا الله الذي تأله القلوب عبادة واستعانة ورجاء وخشية وإجلالا. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا، أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 36.
2 سورة الأنبياء آية : 25.
3 ابن ماجه : الكفارات (2117) , وأحمد (1/214).
4 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).
5 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي : الصلاة (1403).
6 مالك : النداء للصلاة (416).
7 في العبارة سقط وتحريف فليتأمل.
8 سورة النساء آية : 48.
9 سورة البقرة آية : 255.
10 أبو داود : الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247).(2/419)
الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الآلهية فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب أي: يقصده بالعبادة والدعوة والخشية والإجلال والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات. والله أعلم.
الإهلال لغير الله
وقال -رحمه الله- في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1: ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع، الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.
ـــــــ
1 سورة المائدة آية : 3.
2 سورة الأنعام آية : 145.(2/420)
[من صور الشرك الأكبر]
فصل
قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة: وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق، ولا ترزق، ولا تحيي، ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون
ـــــــ
1 سورة الشعراء آية : 97.(2/421)
بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله3، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه المراتب- الأربع نفياً مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.
ـــــــ
1 سورة الزمر آية : 3.
2 سورة الزمر آية : 3.
3 قد سقط من هذا المحل مقدار ثلاث صفحات أو أكثر لم نثبتها كما أثبتنا كثيرا من الكلم والجمل التي سقطت من هذا النقل عن مدارج السالكين وأصلحنا كثيرا من التحريف.
4 سورة سبأ آية : 22.(2/422)
والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين المرء وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويبدع تجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان 1. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده.
فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، فهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها. وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 هذا آخر فصل من فصول مدارج السالكين ومما بعده من أثناء فصل آخر.(2/423)
إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس هذا المشركون وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوهم به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه؛ وهؤلاء أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-. فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمداًصلى الله عليه وسلم بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته؛ وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل أيضاً قوله: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله. ولكن تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين... إلى آخره،
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 35.(2/424)
يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله. والله أعلم.
[لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على هدمها]
وقال -رحمه الله- في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) في الكلام على غزوة أهل الطائف، وما فيها من الفقه قال: ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحداً؛ فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد لأجل التعظيم وللتبرك والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا بها وعندها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس،: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 1؛ ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ـــــــ
1 سورة الروم آية : 41.(2/425)
[لا تكون العصمة إلا مع التزام شرائع الإسلام]
وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من مقاتلي هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنه ، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة؛ وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله: "تحقرون صلاتكم من صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1. فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه العظام ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت عن الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أمرت، على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟
ـــــــ
1 البخاري : فضائل القرآن (5058) , ومسلم : الزكاة (1064) , وأحمد (3/33 ,3/56 ,3/60).(2/426)
فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام والخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه -رحمه الله-. فتأمل -رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، وشرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه(2/427)
ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي يعتمد عليها عندهم في الفتوى: وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله فقد كفر بعد إسلامه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته كفر لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى... إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضاً لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2.
[أنواع المكفرات]
فصل
وأما كلام الحنفية فقال في كتاب تبين المحارم المذكورة في القرآن: باب الكفر: وهو 3 وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 4 الآية؛ وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر ... إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: فنوع يتعلق بالله –سبحانه-، ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبيناصلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به –سبحانه- إذا وصف الله –سبحانه- بما لا يليق به، بأن شبه الله –سبحانه- بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة الزمر آية : 3.
3 بياض بالأصل.
4 سورة البقرة آية : 6.(2/428)
الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه –سبحانه- جسم أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده ووعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله تعالى، أو سب الله –سبحانه-، أو ادعى أن له ولداً أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئاً من خلقه، أو افترى على الله -سبحانه وتعالى- الكذب بادعائه الإلهية والرسالة... إلى أن قال: وما أشبه ذلك مما لا يليق به -سبحانه وتعالى- عما يقول الظالمون علواً كبيراً، يكفر بهذه الوجوه لأجل سوء فعله، عمداً، أو هزلا، ويقتل إن أصر على ذلك، فإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. وقال الشيخ قاسم في شرح الدر: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع كذا، باطل إجماعا لوجوه: منها أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها أن ذلك كفر ... إلى أن قال: قد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد أحمد البدوي. انتهى. فصرح بأن هذا النذر كفر يكفر به المسلم. انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قد كتب هاهنا في الأصل المخطوط الذي جاءنا من نجد ما نصه: قد وقع تحرير مجموع هذه الرسائل العظيمة المفيدة في يوم الأربعاء ثاني محرم سنة ألف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين بقلم مالكها الفقير إلى الله -عز شأنه- عبد العزيز بن صالح بن مرشد، غفر الله له ولوالديه ولأرحامه ولمشايخه وللمسلمين، آمين. ورحم الله عبدا قال آمين.(2/429)
الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبداللطيف الصحاف1]
للشيخ الإمام، والحبر الهمام، قدوة الأنام، الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في الرد على عبد اللطيف الصحاف نزيل البحرين، أملاه وهو في غزوة مسيمير قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. أما بعد: فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أَنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيها تعرّض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، وقدح لبعض شيوخه المارقين، وإنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين،وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين. وقد طلب مني من ناولنيها أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل. فأسال الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك. فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره، من ذلك أنه يصف بالعلم من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم
ـــــــ
1 جاءتنا هذه الرسالة منفردة فألحقناها بالمجموع وجعلناها خاتمة له.(2/430)
في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع، ليست له ملكة في نقد الثابت من المصنوع، يتأول كل حاذق فقيه، عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم، ورياسة الغمر. وكلامه من أظهر الأدلة على ما قلناه، عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله؛ فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة. فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ". وقوله: نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها في سبيل الله. وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة، كذلك قوله: إن العالم، أو المتعلم إذا مر على قرية فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا، وقوله: إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل. فهذه الآثار ونحوها ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز وممارسة، وإنما يلتفت إليها ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة من القصاصين والكذابين. وأما أهل العلم والدين فبمجرد النظر إليها والوقوف عليها يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام. وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما ينيف على مائة وخمسين دليلا كما قرره صاحب مفتاح دار السعادة، وقد مرصلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات(2/431)
العلماء والمتعلمين، على قبرين يعذبان فشق جريدة ووضعها عليهما وقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" 1، ولم يقل: لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما كما زعمه هذا الجاهل. وكأي من قرية عذبت وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إِذ لم يؤمنوا بآيات الله وأصابهم من العذاب ما أصابهم، وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه. (شعر):
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
[أقوال الحفاظ في حديث أصحابي كالنجوم]
وأما قوله: إن في الحديث: "أصحابي كالنجوم 2 بأيهم اقتديتم اهتديتم" ، فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب المصموت قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم " ، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن قيم الجوزية بعد أن ذكر طرق هذا الحديث: لا يثبت شيء منه، ثم قال ما معناه: إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخير في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها بين الاعتداد بالوضع
ـــــــ
1 البخاري : الوضوء (216) , ومسلم : الطهارة (292) , والنسائي : الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود : الطهارة (20) , وأحمد (1/225) , والدارمي : الطهارة (739).
2 وذكر بلفظ " أهل بيتي كالنجوم" …إلخوهو من نسخة نبيط الكذاب".(2/432)
وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه كعلي، ومن يقول بمنعه كعمر، ومن وافقه. وبالجملة فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النّزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالاقتداء بأحد من الخلق كائنا من كان، وأما مع عدم النص المخالف، فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2.
[فتنة المبتدعة بمشايخهم وعلمائهم]
وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم، فيقال له: هذه الدعوى وهذا الثناء هو بحسب ما عندك وما ظهر لك. ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة الذين يكفرون أهل لا إله إلا الله، ويجعل عباد الأولياء والصالحين الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين هم أهل (لا إله إلا الله)، كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعر:
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل ... ما أنت بالحكم الترضى حكومته
وشهادة من لا يعرف العلم، أو النحو، أو الهندسة، أو الطب مثلا لشخص بأنه عالم، أو نحوي، أو مهندس، أو طبيب شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل:
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 59.
2 سورة الأنعام آية : 90.(2/433)
لا يعرف الفضل إلا ذووه، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان. وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم ما يقتضي -إن صح- أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين. ويقال أيضاً: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه: فادعتها الجهمية والقدرية والخوارج والمعتزلة والروافض والنصيرية ونحوهم من كل مبتدع ضال؛ فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها في شيء. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1، فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وهذه الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفى ببعض ذلك بل لا بد من العلم والعمل والشهادة. وأما الإحسان فهو أن تعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وهذا هو حقيقة شهادة أن محمداً رسول الله، فإنها تقتضي، وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، وهذا هو حقيقة اتباع الرسول والشهادة له بالرسالة والدين، كل يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفاراً.
[أنواع التكفير للمسلمين وحكم كل منها]
والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالتهِ، يلزم المفتي، ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول، لأن الحكم يختلف باختلاف الحال، وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول مسلما كان أو كافراً، سنيا كان
ـــــــ
1 سورة البقرة آية : 111.(2/434)
أو بدعيا، لأن الكافر لا يرى الحكم والإسلام إذ هي أحكام شرعية لا يقول بها إلا أهل الشريعة، وأما المسلم فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه، وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم. وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة، فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة، والمجيب عليه أن يستفصل لأن ترك الاستفصال فيه إيهام، ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع، بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع فيقال حينئذ: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فإن عمر رضي الله عنه وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1. ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2، وقد ثبت أن الرب -تبارك وتعالى- قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: قد فعلت. وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفراً بواحا كالشرك بالله وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله.
ـــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (3007) , ومسلم : فضائل الصحابة (2494) , والترمذي : تفسير القرآن (3305) , وأبو داود : الجهاد (2650) , وأحمد (1/79 ,1/105 ,1/131).
2 سورة البقرة آية : 286.(2/435)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1، فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم الدين يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام، وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب. وهذا بين بحمد الله. وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة من أعداء الله ورسوله أهل الإشراك به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأمولهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} 2. فمن كفر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال، أو التعذيب فهو من شر أصناف الكفار، ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار. وفي الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 3. وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة
ـــــــ
1 سورة النحل آية : 36.
2 سورة البروج آية : 10.
3 البخاري : الأدب (6104) , ومسلم : الإيمان (60) , والترمذي : الإيمان (2637) , وأحمد (2/112) , ومالك : الجامع (1844).(2/436)
أو هوى أو لمخالفة في المذهب كما يقع لكثير من الجهال، فهذا من الخطأ البين. والتجاسر على التكفير أو التفسيق والتضليل لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان، والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس لا تقتضي كفراً ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. والواجب على كل أحد أن يتقي الله ما استطاع. وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم لا يجب1 على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب بل غايته أن يسوغ عند الحاجة. وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة؛ ولا يحل لأحد أن يكفر أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب. وبقي قسم خامس وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب كالسرقة والزنى وشرب الخمر، وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلال مبتدعة قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه أنهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم". وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله ولم
ـــــــ
1 قوله: لا يجب – يعني اتباعه والأخذ به – ولعله قد سقط من الناسخ أحد اللفظين أو ما هو بمعناهما. وقوله خفيت عليه إلخيعني العلوم والمفهوم التي ظهرت لغيره وهذه المسألة من حقائق العلم وكذا ما بعدها من حكم التقليد فينبغي أن تحفظ ولا تنسى.(2/437)
يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما، ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان، بل هو كاذب في شهادته كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو عبادة الله وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته، ولم يعبده فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله؛ ومن عبده، وعبد معه غيره فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
[التكفير اجتهادا وتأولا والتكفير تقليدا وعصبية]
وأما قول السائل في سؤاله: ويعتقد أن أهل (القسم) كلهم كفار معطلون كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر، وإذا لقيه أحد من المسلمين، وسلم عليه قال: عليكم... إلى آخر ما قال. فاعلم أن أهل (القسم) يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين، وفيما تقدم من التفصيل كفاية. فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة، والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان، وزعم أن من كفرهم يكفر، ولا يصلى خلفه؛ وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره؛ وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفته والعمل به، ومن كفر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة، وأحقهم بالإمامة لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.
ـــــــ
1 سورة المنافقون آية : 1.(2/438)
وأما من كفر من ليس من أهل الكفر لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث. وأما من يكفر لهوى، أو عصبية، أو لمخالفة في المذهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه كما يصلى خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم، وترضى عنهم كابن كمال وعبد الله البصري وحسين الدوسري وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة أكلة الحرام الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد.
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن
وأن همهم في جمع الدرهم والدينار، يعملون في تحصليها أنواع الحيل بالليل والنهار، فهذا الكلام مجرد دعوى ومسبة ينزه العاقل نفسه عن مثلها، ويكفي في ردها منعها وتكذيبها. ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها، ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان، الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز. وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده من أضل الناس وأجهلهم، تجعلون عبادة غير الله(2/439)
ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والذبح والنذر (له)، والحب مع الله 1، توسلا بالصالحين وتشفعا بهم.
وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا -رحمه الله تعالى-، وعندهم أن الإنسان لا يكفر، ولا يكون مشركا إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله، ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك ولا يشاركه فيه، وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 2، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
ـــــــ
1 يعني والحب الذي هو من جنس حب الله، والمؤمن لا يحب مع الله أحداً من جنس حبه أي التعظيم المبني على اعتقاد السلطان الغيبي، وهو المذكور في قوله تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ، ومعلوم أن الحب أنواع كحب الوالدين والأولاد والأقربين والأزواج والمعلمين والعلماء العاملين وأمراء العدل والصالحين والشجعان والمحسنين والحسان الوجوه. وكل نوع منها يخالف الآخر وأما حب الله تعالى فهو جنس آخر أعلى من جميع هذه الأنواع لأن مناطه منتهى الكمال المطلق والإحسان الأكمل، والعبودية الخالصة المبنية على الإيمان بالسلطان الغيبي الذي سخر الأسباب، وقيد تصرف خلقه بها. وهو الصمد الذي يقصد ويلجأ ويتوجه إليه وحده فيما يعجز عنه عباده المقيدون بالأسباب. فمن توجه إلى غيره في ذلك، ولجأ إليه، أو استغاثه، واستعانه، أو توكل عليه، أو جعل له تأثيراً معه، أو عنده في قضاء حاجاته من هذا الجنس، فقد عبده. ومن أحب غيره لرجائه فيه أو خوفه منه فيما وراء الأسباب العامة فقد اتخذه نداً وشريكاً له وكان حبه له من جنس حبه، وهو شرك لا يتفق مع دين الإسلام، وإن سماه أصحابه توسلا وتشفعا وأنكروا تسميته شركا.
2 سورة يونس آية : 31.(2/440)
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ومثل هذا كثير في القرآن يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير. وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 4، فأبيتم علينا هذا كله، وقلتم: هذا دين الوهابية ونعم هو ديننا بحمد الله. ورضي الله عن الشافعي إذ يقول.
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
[ذكر الله وكيفيته والابتداع فيه]
فصل
قال الصحاف: وإنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار، كما يفعله سائر أهل الأمصار، أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا. فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحداً من المسلمين -بحمد الله تعالى- ينكره أو ينفّر عنه، وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل. وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5.
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 84.
2 سورة يونس آية : 18.
3 سورة الزمر آية : 3.
4 سورة الأحقاف آية : 28.
5 سورة النحل آية : 105.(2/441)
نعم، قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم بين يدي المنشد يميلون ويرقصون، وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر أو المضمر ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق؛ فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو دين مبتدع غير مرضي، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. وفي الحديث: "أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 3. وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة، وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه، وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا في إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه. وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول-صلى الله عليه وسلم- بعد الأذان كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا منهم والنهي عنه، وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول-صلى الله عليه وسلم- سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها، لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار على المنائر بعد الأذان مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس، وسبب
ـــــــ
1 سورة الشورى آية : 21.
2 سورة الجاثية آية : 18.
3 مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/310 ,3/319 ,3/371) , والدارمي : المقدمة (206).(2/442)
إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر على ما ذكره بعض المؤرخين. وقد أنكره بعض الأئمة وقالوا: هو بدعة لم يفعله-صلى الله عليه وسلم- مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة؛ وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن الابتداع. قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم. أو كما قال وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له. وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا ولا الأمر به، بل فيها ما يدل على منعه؛ وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله. قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر، وصح به الأثر، وليس مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه. وإنما يعيب على من منع البدع واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 1. ثم إن هذا المفتري الصحاف أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 2 وقد قيل في المثل: وقال العلي أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة وأنا معك.
[الخلاف في الهبة والعقد على اليتيمة]
وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام ما يدل على قصوره وعجزه وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسي في مسألة الهبة واختلافهما في لزومها، ومسألة العقد على
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 3.
2 سورة الشعراء آية : 227.(2/443)
اليتيمة فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كلمة تقول دعني. وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق، والناس مختلفون في الهبة ولزومها هل هو بالعقد فقط أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما. واختلف الناس أيضا هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا. واختلف القائلون باشتراط القبض هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟ وأدلة هذه الأقوال ومآخذها والرد على المخالف مبسوط في المطولات ولا غرض لنا في ذكره، وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة مع قصوره عن معرفتها، ومعرفة أدلتها والتزامه التقليد.. حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم؟ وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد، ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد وحكاية فروع المذهب، بل لا بد من الدليل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح. ومن كلام شيخ الإسلام: من ترك الدليل، ضل السبيل.
[عدم جواز التقليد في الأحكام إلا بدليل]
وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية كالشيخ خليل وعبد الباقي وابن عرفة وأمثالهم، وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم أو لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم، فكيف والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله أو كلام رسوله أو إجماع الأمة؟ فما للمقلد والحكم(2/444)
بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور 1. وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته. فهذا الكلام لا يصدر من عاقل يعرف ما خرج من بين شفتيه نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي، وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون، وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله، بما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين، كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب. وأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية، وقد سئل علي رضي الله عنه فقيل له أكفارٌ هم؟ فقال من الكفر فروا. وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك وقال: والله لن يغفر الله لفلان فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، أني قد غفرت له".
[الكفر المنافي لكلمة التوحيد]
وأما قوله: ومن تسمى بالإسلام، وأحب محمداً سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله) وسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم حيث استباحوا دماء المسلمين ... إلى آخر رسالته .
ـــــــ
1 فيه تضمين "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" متفق عليه.(2/445)
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة ودعاهم مع الله لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين، لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما لا تضره، ولا توجب عنده كفره؛ فمن كفره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة (لا إله إلا الله)؛ وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا. انتهى1. ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة لا يجدي شيئا، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار. نعم، إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها فهو ممن يكف عنه بمجرد القول ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزام ما دلت عليه من الإيمان بالله وتوحيده والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له؛ ونصوص
ـــــــ
1 تنبيه: أن شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية كان أكبر وأعلم دعاة التوحيد والإصلاح الديني في القرون الوسطى بعد فشو الجهل وانتشار الشرك في العبادة، وهو قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق، ولكن المقلدين انتقدوا عليه بعض المسائل والاختيارات ولكن لم ينتقد عليه أحد ما كتبه في هذه المسألة ولم ينازعه أحد في أنها إجماعية. وكان أعظم المجددين لدعوة التوحيد الخالص عقب موته تلميذه المحقق ابن القيم، وقد شرح ذلك في عدة من مصنفاته ولم ينتقد عليه أحد. ثم جاء الشيخ محمد عبد الوهاب المجدد في القرن الثاني عشر فاقتفى أثر الشيخين ولم يخرج عما قرراه في كتبهما في هذا الركن الأعظم للإسلام، وتلاه في ذلك أولاده وأحفاده ومن اهتدى بدعوته من علماء نجد. وإنما أنكر هذا الصحاف وغيره عليهم لأن غربة الإسلام والجهل به قد وصلا إلى أسفل الدركات، ولم يكونا كذلك في عهد الشيخين وما بعد عدة قرون. وكتبه محمد رشيد رضا.(2/446)
الكتاب والسنة وإجماع الأمة يدل على هذا. فمن تسمى بالإسلام حقيقة وأحب محمداً واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوَّى بالله غيره ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة؛ ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام ولا يعرف حقيقته، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد والظاهر الأول.
[كلمة التوحيد وحدها لا تعصم المسلم]
وقد ابتلي بهذه الشبهة وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1، فكفّره بدعاء غيره تعالى، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 3 فالتكفير بدعاء غير الله هو نص كتاب الله. وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار" 4، وفي الحديث أيضا أن رسول-صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم، إلا بحقها" 5، وفي رواية "إلا بحق الإسلام" 6 وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله، وحده والكفر بما يعبد من دونه؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. فمن قالها وعبد غير الله أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه شاهد عليها بالكفر والإشراك. وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه بابا مستقلا في حكم
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 117.
2 سورة يونس آية : 106.
3 سورة الرعد آية : 14.
4 البخاري : تفسير القرآن (4497) , ومسلم : الإيمان (92) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/443 ,1/462 ,1/464).
5 الترمذي : تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394).
6 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).(2/447)
المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله. وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، فكفرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم: لا إله إلا الله2 . وكذلك إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله. وقد كفر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذكرت عنهم في احتمال مسيلمة، ولم يلتفت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنه قد وجد ما ينافيها ويناقضها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} 3. وبالجملة فالذي يقوم بحرمة لا إله إلا الله هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علما وعملا كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه ومن تبعهم بإحسان كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره وتولى المشركين وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم، فهو الذي أسقط حرمة لا إله إلا الله ولم يعظمها ولا قام بحقها. ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها.
[الشيخ يلتزم في التكفير الدليل والإجماع]
وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه (حسين الدوسري)، فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره ليس بحمد الله تعالى من أوصاف أهل التوحيد،
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.
2 أي ولا الصلاة والجهاد مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-.
3 سورة النور آية : 40.(2/448)
ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد، والذي أنكر الطاعة، وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق الشبهة وأهل الإضاعة، هو من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستعانة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، والتعبد بغير الذي شرعه الله، على لسان عبده الذي اصطفاه من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا في الكتاب، وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب. وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء، أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السماوات، أما رجفوا أهل الحرم، أما تجاسروا على حجرة من صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم. فالجواب عن هذا أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 الآية، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 2 الآية، وبقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 3. فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 4. والشيخ رحمه الله لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأجمعت الأمة على كفره، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل
ـــــــ
1 سورة التوبة آية : 71.
2 سورة الحشر آية : 10.
3 سورة يونس آية : 62.
4 سورة النور آية : 16.(2/449)
من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، لرب العالمين. وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين، فالشيخ وغيره من جميع المسلمين، يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه، ولكن هذا الجاهل يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع وتسمى بالعلم وانتسب إليه يصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد-صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق. ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء. قال الشافعي -رحمه الله-: ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم. وما أحسن ما قيل شعراً
قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا
عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر
وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال وسفك الدماء وسبي الذرية وقالوا: إنما يفعل هذا الملوك المسلطون، وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية.
[رد شبهة الإرجاف في الحرم]
وأما قوله: أما رجفوا أهل الحرم؟ فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو هدم القباب التي أسست على
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 51.(2/450)
معصية الله ورسوله وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك وسائر المسكرات، وألزموا الناس المحافظة على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزموهم بتعلم أصول الدين، والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه، وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك وبدعوه وفسقوه، فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو! وما أحسن ما قيل:
وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا إن يتكلم بعلم وعدل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1 الآية. وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى.
[الوهابيون والمال الذي أخذوه من الحجرة النبوية]
وأما التجاسر على حجرة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو رحمه الله لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم، لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى إبقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة
ـــــــ
1 سورة النساء آية : 135.(2/451)
وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين وذوي الحاجة منهم كالذي بأيدي الملوك والسلاطين؛ فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها. وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟ وتعظيم الرسول وتوقيره إنما هو في اتباع أمره، والتزام دينه وهديه، فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم. يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر. وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه، فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه، بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا: {سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم.
ـــــــ
1 سورة النور آية : 39.(2/452)
أملاه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقع الفراغ من نسخه منها نهار الثلاثاء من ربيع الآخر وذلك في سنة 1338 بقلم الفقير إلى الله عز شأنه صالح بن سليمان بن سحمان، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. آمين.
[ذيل لهذه المجموعة في فتويين للشيخ رحمه الله تعالى وجدتا في أثنائها]
[سؤال عن بيع عقار1 الميت لوفاء دينه]
قال السائل بعد رسوم الخطاب والسلام المشروع: ما قولكم في بيع عقار الميت لوفاء دينه إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة تأثير في البيع وتركه؟ وهل يجوز للحاكم منع الغرماء عن استيفاء الدين حتى تزول المسغبة وتعود الرغبة أم لا؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة. أجاب رحمه الله فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته: بيع العقار إذا خيف عليه التلف خير وأولى من تلفه، والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه. وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كساداً ينقصه عن مقاربة ثمن المثل ويضر بالمالك فلا يباع حتى تعود الرغبة، وعلى القول به محله إذا أمن التلف ولم يرج زوال الرغبة مع حياة المدين، وأما مع موته فلا حق للورثة إلا فيما أبقته الديون والوصايا، وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين والحالة هذه. والله أعلم. قاله كاتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/453)
[سؤال عن تركة ميت قسم ماله2 بين أولاده وأوصى لصغارهم]
سئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن قسمة الوالد ماله بين ورثته قبل موته، هل هي قسمة شرعية أو لا؟ وكذلك ما أوصى به لأولاده الصغار القاصرين على سبيل التعديل بينهم وبين الراشدين، قال السائل:
بسم الله الرحمن الرحيم
ماقول علماء الإسلام، أدام الله نفعهم للأنام، في رجل مات وقبل موته حرر له وصية وعين له وصياً على ما خلف وعلى القاصرين من أولاده، وأوصى أن الذي يخص القاصرين من أولاده يبقى بيد فلان – رجل معين – على نظر الوصي. وسلم قبل مماته بعضاً من (أريل) بيد هذا الرجل المعين المذكور أعلاه. هذا والوكيل الذي هو الوصي ليس بحاضر، فلما حضر أخذ في جمع المال وقبض ما هنا لك من المال، ودفع بيد الرجل المذكور أعلاه شطراً من المقبوض، وكتب الوصي عليه ورقة قبض ما استلما من يده بنظره. وبعد ذلك اختلف الحال ووقع على الوصي جبر من الحاكم وأخذ المال من يده ومن عند غيره، ولم يبق من المال، يعني من بعد المدفوع لذلك الرجل المذكور أعلاه، إلا شيء يسير لم يعلمه الحاكم. والمال الذي بيد الإنسان المعين حيث إنه بعيد عنه لم يتمكن من أخذ المال منه لكونه بعيداً عنه، وليس من أهل حكومته. ثم بعد مضي بضع من السنين مات الحاكم المجبر، ورجع الوصي على وكالته الأصلية، ومراد الوصي الآن يعمل العمل الذي تخلص به ذمته ولم يكن على أحد من الورثة حيف ولا ضرر، ويخرج الثلث الموصى به فهل يجمع ما تحصل من المال الموروث قليلا كان أو كثيراً ويضيفه إلى المال الغائب عند الرجل المذكور أعلاه، وتقع المقاسمة حينئذ على الوجه(2/454)
المشروع من إخراج الثلث وما بعده على جملة الورثة المكلف منهم والقاصر، قسمة مبتدأة كأن الميت مات الآن، بناء على أن التركة ما قسمت أبدا، ولأن الجبر الصادر من الحاكم قبل القسم؟ أو أن التالف من نصيب الراشدين والثلث؟ وإن كان عليهم ضرر ظاهر وحيف في القسمة، والسالم هناك من نصيب القاصرين كما أراد الوصي أو لا ظانا سلامة ماله كله، وأنه لا يقع حيف ولا جور، فهل له إفراز سهم القاصرين خاصة في حياته قبل مماته، ويعتبر ذلك بحيث لا مشاركة للورثة لهم وإن تلف المال قبل المقاسمة كما وقع أو لا؟ فأي الوجهين الموافق للحق ليعمل به الوصي وتبرأ ذمته؟ أفتونا مأجورين فإن الحاجة داعية إليه، والوصي متحير، وكل ذي حق من الورثة يطالب بحقه، لازلتم أهلا لكل فضيلة. فأجاب رحمه الله بما نصه: الحمد لله وحده. قسمة الوالد قبل موته ماله بين ورثته قسمة غير لازمة لوقوعها قبل انتقال المال واستحقاقهم له إرثاً، وقسمة الولي الشرعي وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده قسمة شرعية تثبت بالإفراز والتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص لمستحقه من القسمة الصادرة من الولي وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي قبل قسمته بين الثلث والكبار الراشدين، والحيف والإضرار يعتبر حال القسمة ويرجع إلى العدل والتسوية. وأما بالنظر للتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه. أملاه الفقير إلى رحمة ربه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. (تمت المجموعة مع ذيلها ولله الحمد)(2/455)
النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر
...
النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين
من فتاوى "العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية" الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى
إطلاق الكفر بدعاء غير الله
بسم الله الرحمن الر حيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه ما كان منتصف جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف وصلت إلينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها.
منها زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه:
"الوجه الأول" عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه.
"الثاني" أنه إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر،ثم أولوه بالأصغر، وإما نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر.
"الثالث" أنه قد ورد في الحديث -أي حديث الضرير- قوله: "يا محمد إني أتوجه بك"2 الخ، وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني: "فمن انفلتت عليه دابته قال: يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله.
"الجواب" وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد. اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان:
"أحدهما" سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو ينصره أو يعينه بما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه
ـــــــ
1 سورة الفاتحة آية:2: 4 .
2 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385" , وأحمد "4/138".(3/592)
الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1 وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2 وكما ورد في الصحيحين: أن الناس يوم القيامة يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي سنن أبي داود "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"فأقره علىقوله: نستشفع بك على الله، وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
"النوع الثاني" سؤال الميت والغائب وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام.
فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزل به شدة أو عرضت له حاجة يقول: يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي، وأنا في حسبك، وأنا مستشفع بك إلى ربي. كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا أبعدوا عنهم، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين.
فإن المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا: إن آلهتهم شاركت الله تعالى في خلق العالم، أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل
ـــــــ
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الأنفال آية: 72.(3/593)
كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَِ} 2 إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4.
قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة.
تعريف العبادة والدعاء
والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلب من غيره أو استعانه فيه فقد عبده به، والدعاء من أفضل العبادة وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5.
وفي الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" 6 وللترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ : " { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } إلى آخر الآية"7 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله: "الدعاء هو العبادة" 8 أي أعظمها فهو كقوله : "الحج عرفة " 9 أي: ركنه الأعظم .
ومعنى قوله: "الدعاء مخ العبادة" 10 أي: خالصها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه. وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص. انتهى.
والدعاء في القرآن يتناول معنيين "أحدهما" دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 11.
"الثاني" دعاء المسألة، وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسرقوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
ـــــــ
1 سورة لقمان آية: 25.
2 سورة المؤمنون آية: 84 ، 85 .
3 سورة المؤمنون آية: 89.
4 سورة يوسف آية: 106.
5 سورة غافر آية: 60.
6 الترمذي: الدعوات "3371".
7 الترمذي: تفسير القرآن "2969 ,3247" والدعوات "3372" , وأبو داود: الصلاة "1479" , وابن ماجه: الدعاء "3828" , وأحمد "4/267 ,4/271 ,4/276".
8 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828".
9 الترمذي: الحج "889" , والنسائي: مناسك الحج "3044" , وأبو داود: المناسك "1949" , وابن ماجه: المناسك "3015" , وأحمد "4/309 ,4/335" , والدارمي: المناسك "1887".
10 الترمذي: الدعوات "3371".
11 سورة غافر آية: 60.(3/594)
لَكُمْ} 1
بالوجهين:
"أحدهما" ما هو معلوم من الدعاء وغيره، وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه، فيكون معنى قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}2 أثبكم كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 أي: يثيبهم على أحد التفسيرين.
"الثاني" ما هو خاص: معناه سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" 4 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، فعطف السؤال على الدعاء والاستغفار، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني هو الإخلاص لوجهين:
"أحدهما" ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} " 5 فاستدلاله صلى الله عليه وسلم بالآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الرب -سبحانه وتعالى- عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، فيفيد قصور نقله على الله، فلا يجعل لغيره؛ لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} 6.
وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" 7 وله عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 8 وله أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".
فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات.
"الوجه الثاني" أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9 والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول، وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه،
ـــــــ
1 سورة غافر آية: 60.
2 سورة غافر آية: 60.
3 سورة الشورى آية: 26.
4 البخاري: التوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/487 ,2/504" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1479".
5 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828".
6 سورة النساء آية: 32.
7 الترمذي: الدعوات "3571".
8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827".
9 سورة البقرة آية: 186.(3/595)
وكل عابد سائل، وكل سائل فهو عابد لله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} 1 ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع.
دعاء العبادة ودعاء المسألة
فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرف شيء منهما إلى غيره؛ فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة، أو تفريج كربة، بل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك؛ فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي –صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يكونوا يقولون: إنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها،بلكانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها، يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تعالى تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3.
فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات لله، والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم - عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
ـــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 90.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة يونس آية: 18.
4 سورة مريم آية: 48 ، 49 .(3/596)
كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1.
فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة سيكفر بها المعبود يوم القيامة. كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 2.
الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات
وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5.
فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين في تلك الحال، لا يستغيثون بغيره فيها، فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم. ولهذا قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}6 أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 8.
فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصونه له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين.
شرك المشركين كان في الدعاء والذبح
ومن تأمل الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 سورة الأحقاف آية: 5 ، 6 .
2 سورة مريم آية:81 ، 82 .
3 سورة لقمان آية: 32.
4 سورة يونس آية: 22.
5 سورة العنكبوت آية: 65.
6 سورة الإسراء آية: 67.
7 سورة غافر آية: 14.
8 سورة غافر آية: 65.(3/597)
إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فإن جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم، وما الذي يريدون وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟.
فإن قال: شركهم عبادة غير الله. قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن؛ لأن الله عزوجل ذ أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده.
فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا؛ لأن الله أخبر أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.
وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3 أي: لا يدفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال.ثم قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 4.
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، وهذا هو الإغاثة.
والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال عند الله والطلب منه فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6.
ـــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الإسراء آية: 56.
4 سورة الإسراء آية: 57.
5 سورة سبأ آية: 23.
6 سورة البقرة آية: 255.(3/598)
هذا فهو كافر مشرك.
إطلاق الكفر بدعاء غير الله
إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل: "إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه". كلام باطل، بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها. قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } 2 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله؛ فقد جعله ندا لله، وصار من الخالدين في النار.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "4.
وفي الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" 5 والند المثل، قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6 وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 ومعلوم أنهم ما يساوونهم به في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يساوونهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8 وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ
ـــــــ
1 سورة الأنعام آية: 1.
2 سورة البقرة آية: 165.
3 سورة البقرة آية: 167.
4 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464".
5 البخاري: الأدب "6001" , ومسلم: الإيمان "86" , والترمذي: تفسير القرآن "3182 ,3183" , والنسائي: تحريم الدم "4013 ,4014 ,4015" , وأبو داود: الطلاق "2310" , وأحمد "1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464".
6 سورة البقرة آية: 22.
7 سورة الشعراء آية: 97 ، 98 .
8 سورة الزمر آية: 8.(3/599)
رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1.
فصرح بكفره وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }2 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3 فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 4 وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 6. فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله، فأخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل.
ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة.
ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 7 كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 8 وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 9.
والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يشرك به أحد من خلقه، وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأنه لا يشرك به أحد سواه كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} الطَّاغُوتَ}10 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 11 وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك فقد حبط عمله وصار من
ـــــــ
1 سورة المؤمنون آية: 117.
2 سورة آل عمران آية: 79.
3 سورة آل عمران آية: 80.
4 سورة النساء آية: 48.
5 سورة المائدة آية: 72.
6 سورة فاطر آية: 13 ، 14 .
7 سورة فاطر آية: 14.
8 سورة مريم آية: 82.
9 سورة الأحقاف آية: 6.
10 سورة النحل آية: 36.
11 سورة الأنبياء آية: 25.(3/600)
الخالدين في النار، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1 فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أَخْبِرْنَا عن هذا الشرك الذي عظَّمَه الله، وأخبر أنه لا يغفره، أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟
بيان القرآن للشرك واستحالة تركه بغير بيان
ومعلوم أن الله سبحانه- أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عُصِيَ الله به سبحانه-؟.
فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه } 2 { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3 ويقال أيضا: قد أمرنا الله بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4 وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 5.
فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا أو ملكا،أوعبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟. فلا بد أن يقر بذلك، إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 6 وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم. فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي، أوملك، أوعبد أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان مشركا في هذه العبادة.
دعاء الموتى
ومعلوم أن الله سبحانه- ذكر في كتابه من النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت
ـــــــ
1 سورة التوبة آية: 17.
2 سورة الأعراف آية: 186.
3 سورة النور آية: 40.
4 سورة غافر آية: 60.
5 سورة الأعراف آية: 55.
6 سورة الكوثر آية: 2.(3/601)
نصوص القرآن في النهي عن ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله، فإذا كان من سجد لقبر نبي أو ملك أو عبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح القُرْبَان لم يشك أحد في كفره؛ لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح وبين الدعاء، إذ الكل عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغيره شرك أكبر؟ والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟.
ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها، ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه، والتحذير من فعله، والوعيد عليه، ولا يشتبه هذا إلا على مَن لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفَّرَهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحَلَّ دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم حتى لا تكون فتنة؛ أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1.
فمن أصغى إلى كتاب الله عَلِمَ علمًا ضروريا أن دعاء الموتى من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين، فكيف يَسُوغُ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم - أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله.
فإن الأدلة القرآنية، والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2.
وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع: لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها
ـــــــ
1 سورة الأنفال آية: 39.
2 سورة الأعراف آية: 186.(3/602)
العلماء من عمومات النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله: فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره. وكذلك لو سجد لغير الله، فإذا قيل: هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله كما دل على ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2 فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغيره.
فيبقى أن يقال: فأين الدليل المُصَرِّح بأن هذا كفرٌ بعينه؟ ولازمُ هذه المجادلة الإنكارُ على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر، والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله.
نصوص الفقهاء في شرك من يدعو غير الله بالإجماع
وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كَفَرَ إجماعا؛ لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به، وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه.
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 4 ومن أنكر هذه الوسائط، فهو كافر بإجماع أهل الملل،
ـــــــ
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 سورة الأنعام آية: 162 ، 163 .
3 سورة الزمر آية: 3.
4 سورة الحج آية: 75.(3/603)
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع، ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المَضَارّ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها.
قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 5 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُور} 6.
قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه.وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7 فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب، وتفريج الكُرُبَات وسد الفَاقَات فهو: كافر بإجماع المسلمين.
وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
ـــــــ
1 سورة السجدة آية: 4.
2 سورة الأنعام آية: 51.
3 سورة الأنعام آية: 70.
4 سورة سبأ آية: 22 ، 23 .
5 سورة الإسراء آية: 56.
6 سورة الإسراء آية: 57.
7 سورة آل عمران آية: 80.(3/604)
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1
إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 الآية، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4 الآية، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5.وقال تعالي {إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (1)
اتخاذ الوسائط في عبادة الله
فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله -تعالى- إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الخالق، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط: أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مُشَبِّهُون، شبَّهُوا الخالقَ بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عُبَّاد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى- وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى- على النصارى حيث قال : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} 6 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} 7 أي فليستجيبوا إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي: أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 8.
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم موادَّ الإشراك به حيث لا يخاف
ـــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 26: 28 .
2 سورة الأنبياء آية: 26.
3 سورة النساء آية: 172.
4 سورة النجم آية 26
5 سورة البقرة آية 255.
6 سورة التوبة آية: 31.
7 سورة البقرة آية: 186.
8 سورة الشرح آية: 7 ، 8 .(3/605)
أحدٌ غيرَ الله ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 1 {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 3 وقال: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4 فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فللَّه وحده.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5 فبيَّن أن الإتيان لله والرسول؛ وأما التحسب فهو لله وحده كما قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ} 6 ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى: {زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 7.
تحقيق النبي لمعنى التوحيد وبيان كلمته وحسم الشركة
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا: "لا إله إلا الله" فإن الإله هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد" 8 وقال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 9.
وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 10 وقال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 11 وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 12 وقال -في مرضه الذي مات فيه-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "13 يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ ابن تيمية في مسألة الوسائط.
وقال -رحمه الله في موضع آخر-: والله سبحانه- لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق
ـــــــ
1 سورة المائدة آية: 44.
2 سورة آل عمران آية: 175.
3 سورة التوبة آية: 18.
4 سورة النور آية: 52.
5 سورة التوبة آية: 59.
6 سورة التوبة آية: 59.
7 سورة آل عمران آية: 173.
8 ابن ماجه: الكفارات "2118" , وأحمد "5/72" , والدارمي: الاستئذان "2699".
9 أحمد "1/283".
10 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/293 ,1/303 ,1/307".
11 البخاري: أحاديث الأنبياء "3445" , وأحمد "1/23 ,1/24".
12 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".
13 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274" , والدارمي: الصلاة "1403".(3/606)
وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع، والله -تعالى- يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } 2 وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3.
أقسام الناس في الشفاعة
فبيَّن سبحانه- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر؛ ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:
فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند ملوك خواصّهم؛ لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم؛ لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله: مشركون كفار؛ لأن الله -تعالى- لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه: إجابة دعاء الشافعين؛ ولهذا قال:. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4 وقال: {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 5.
وقال عن صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 6.
وأما الخوارج والمعتزلة 7 فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضُلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون.
{القسم الثالث} أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها: هي التي جاءت بها الأحاديث.
وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه
ـــــــ
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة النجم آية: 26.
3 سورة آل عمران آية: 80.
4 سورة السجدة آية: 4.
5 سورة الزمر آية: 43 ، 44 .
6 سورة يس آية: 23.
7 هؤلاء هم القسم الثاني في الشفاعة.(3/607)
المشركون والنصارى ومن ضَاهَاهُم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل: أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواصّ الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إِدْلالٌ يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله تعالى- قد نَزَّهُ نفسه عن ذلك.انتهى.
كلام ابن القيم في الشرك الأصغر والأكبر
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: . { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده.
ويغضبون إذا انتقص أحدٌ معبودَهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ ربَّ العالمين. وإذا انتقص حرمة من حُرُمَات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتُهكت حُرُمَات الله: لم يغضبوا لها، بل إذا قام المُنْتَهِكُ لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تُنْكِر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا.
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواء.
ـــــــ
1 سورة الشعراء آية: 97 ، 98 .(3/608)
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2.
فهذا حال من اتخذ دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز مَن يُخْلُصُ مِن هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي من أنكره، والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء- ثم ساق كلاما طويلا، وقرره أحسن تقرير.
فتأمل كلامه -رحمه الله- وهذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي مَن أنكره، ففي هذا شاهدٌ لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا" 3 وقوله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 4 قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" خَرَّجَاه في الصحيحين.
كلام ابن تيمية في الشرك
وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية في الرسالة السنية، لما تكلم على الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام مَن قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا،
ـــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 مسلم: الإيمان "145" , وابن ماجه: الفتن "3986" , وأحمد "2/389".
4 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456" , ومسلم: العلم "2669" , وأحمد "3/84 ,3/89 ,3/94".(3/609)
وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلالة يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون معه آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح والعزير والصالحين أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة.انتهى.
كلام ابن عقيل في الشرك
وقال أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله-: لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السُّرُج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها بأمور: أن افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفر ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحَمَّالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد، وعليّ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يُرِقْ ماء الورد على القبر.ا ه كلامه.
فتأمل رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون ومَوَّهَ به المتعصبون والملحدون.(3/610)
دعاء غير الله شرك لا كالحلف والطيرة
وأما قوله الثاني: {إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك، وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر. وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة، وهي من الأصغر".
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأيّ مشابهة بين من وَحَّدَ الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كُرُبَاته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله، ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد، وكشف الشدائد، فإن هذا صَرَفَ مُخَّ العبادة -الذي هو لبها وخالصها- لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلّ العبادات وأفضل القُرُبَات التي أمر الله به في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير: " أن الدعاء هو العبادة" 1 وفي حديث أنس: "إن الدعاء مخ العبادة" 2 وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يحب المُلِحِّين فيه"وأن "من لم يسأل الله يغضب عليه" 3 وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل" 4 وفيه أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 5 وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس شيء على الله أكرم من الدعاء" 6.
وأما الحلف فلم يأمرنا الله به بل أمرنا بحفظه فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 7 قيل: المعنى لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة.
وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع
ـــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن "2969" , وابن ماجه: الدعاء "3828".
2 الترمذي: الدعوات "3371".
3 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827".
4 الترمذي: الدعوات "3571".
5 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827".
6 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829".
7سورة المائدة آية: 89 .(3/611)
من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا.
الدعاء يتضمن الرغبة والرهبة والتوكل على المدعو
وأما الدعاء: فهو مشروع محبوب لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له، وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو كالحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه له-، وفي العبادة التي أمر الله بها.
وأيضا فإن الداعي راغبٌ راهبٌ، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده، وكَشْفَ شدائده من غير الله فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.
فمن استغاث بغير الله فهو راغب إليه في حصول مطلوبه رَاجٍ له، متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء، وخوفا وتوكلا؛ ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته وكشف كرباته: قد رد على الله كلامه، وَكَذَّبَ بآياته، فإن الله عز وجل- أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم أن الميت يشفع له، وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، وهذا زعم أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون، فكذب على الله وكذَّب بآياته.
فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي أَوَّلُوهُ أن يكون شركا أصغر يُعَاقَب عليه، كما يعاقب الزاني وقاتل النفس وآكل الربا؛ لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس؟ فأما إن فعله مستحلا أو لكون
ـــــــ
1 سورة الشرح آية: 8.
2 سورة البقرة آية: 40.
3 سورة المائدة آية: 23.(3/612)
المخلوق في قلبه أعظم من الخالق كان ذلك كفرا.
قول ابن القيم في الشرك الأصغر
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتَّصَنُّع للخلق، والحلف بغير الله، ونحو: ما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.انتهى.
ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله تعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الإشراك، فكان أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1 فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان، وكبرَ الله وعظمَه بالتوحيد، فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة فهاجروا وأُخْرِجُوا من ديارهم، وأُوذُوا في الله، وتَمَيَّزَ الكافر من المسلم، ومات من المسلمين مَن استوجب الجنة، ومات مِن الكفار مَن استحق النار، وهذا النهي كله قبل الحلف بغير الله.
فالاستغاثة بأهل القبور واستنجادهم واستنصارهم لم يبح في شرائع الرسل كلهم، بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له.
وأما الحلف فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم يُنْهَوْا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباءكم" 2 وقال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 3.
ومن لا يميز الفرق بين دعاء الميت والحلف به: لا يعرف الشرك الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ويقاتل أهله، وأيّ جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالبٌ سائلٌ، والحالفُ لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قولٌ باللسان؛ فيقال له: والأذكار والدعوات،
ـــــــ
1 سورة المدثر آية: 1: 5 .
2 البخاري: الأدب "6108" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1533 ,1534" , والنسائي: الأيمان والنذور "3766 ,3767 ,3768" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وابن ماجه: الكفارات "2094" , وأحمد "2/7 ,2/8 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/69 ,2/76 ,2/86 ,2/98 ,2/142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341".
3 البخاري: الشهادات "2679" , ومسلم: الأيمان "1646" , والترمذي: النذور والأيمان "1534" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" , وأحمد "2/7 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/142" , ومالك: النذور والأيمان "1037" , والدارمي: النذور والأيمان "2341".(3/613)
وقول الزور، وقذف المحصنات؛ كل ذلك قولٌ باللسان، ولو قال أحدٌ: إنها ألفاظٌ متقاربةٌ لَعُدَّ من المجانين، وإن أراد هذا القائل اتحادَهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانُهُ، وأيّ مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه يدعوه ويرجوه ويستنصر به، ويستغيث به، وبين مَن لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته، فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده، بخلاف الحالف، بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق لصار شركا أكبر كما تقدم.
حديث ذات الأنواط
ومما يبين أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا نهاهم عن الحلف بغير الله وحلف بعض الصحابة -حديثو العهد- فقال في حلفه: واللات. قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله"1 ؛ ولما قال له بعض الصحابة حديثو العهد بالكفر-: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} لتركبن سنن من كان قبلكم" 2.
فانظر كيف نهى الحالف وأرشده إلى الكفارة بأن يقول: لا إله إلا الله من غير التغليظ الشديد. والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طِلبتهم كطِلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات… كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 سواء بسواء، فهما متفقان معنًى، وإن اختلف اللفظ.
وهذا مما يُبَيِّنُ لك شيئا من معنى لا إله إلا الله، فإذا كان اتخاذ الشجرة للعُكُوف حولها، وتعليق الأسلحة بها للتبرك اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد؟ وأخذ تربته تبركا؟ وإسراج القبر وتخليقه؟ وأيّ نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟.
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله- أينما وجدتم سِدرة
ـــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن "4860" والأدب "6107" والاستئذان "6301" والأيمان والنذور "6650" , ومسلم: الأيمان "1647" , والترمذي: النذور والأيمان "1545" , والنسائي: الأيمان والنذور "3775" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3247" , وابن ماجه: الكفارات "2096" , وأحمد "2/309".
2 الترمذي: الفتن "2180" , وأحمد "5/218".
3 سورة الأعراف آية: 138.(3/614)
أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البِرّ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق فهي ذات أنواط فاقطعوها.انتهى.
الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة والحلف بهم
ومما يبيِّنُ الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم: أن العلماء قسموا الشرك إلى: أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم -فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات- هو عين شرك المشركين الذين كفَّرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركًا أصغر، فيذكرون الأول في باب حكم المرتد. وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى :.{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 ويفسرون هذا الشرك بما ذكرنا.
ويذكرون الثاني في كتاب الأيْمَان، فيفرقون بين هذا وهذا، ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة قال: إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم: شرك أصغر، ولا قال: إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرَّرُوا الشركَ وحَسَّنُوهُ للناس نَظْمًا وَنَثْرًا، وصار لهم نصيب من قوله عزوجل {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2.
شرك الطيرة وكونه من خرافات الجاهلية
وأما قوله: "وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطِّيَرَة: فهو باطل أيضا يظهر بطلانُهُ مما تقدم".
فيقال: وأين الجامع بين شرك مَن جعل بينه وبين الله واسطة: يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين مَن عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل حاجاته كلها به، وكشف كرباته، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه، ولكن وقع في قلبه شيء من الطِّيَرَة.
فالأول هو: دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل من نوح إلى يومنا هذا.
وأما الطِّيَرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود:
ـــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة النساء آية: 50.(3/615)
"والطيرة شرك وما منا إلا.... ولكن الله يُذْهِبه بالتوكل" 1 رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخرَه من قول ابن مسعود. وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة، فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه".
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أرجعته الطِّيَرَة عن حاجته: فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" 2.
وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طيرة، والطيرة على من تَطَيَّرَ".
ومعنى هذا أن مَن تَطَيَّرَ تطيُّرًا مَنْهِيًّا عنه بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى يمنعه عما يريد من حاجته: فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أُمِرَ به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟.
فإن أراد السائل أن المُتَطَيِّرَ إذا زَجَرَ الطير أو تَطَيَّرَ بما يراه من علم النجوم وغيره، أو بما يسمعه من الكلام يعتقد أن ذلك من علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، أو أن الأفلاك تُدَبِّر أمرَ الخلائق؛ فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عُبَّاد الكواكب.
فصل في الدعاء والنداء لغير الله
دعاء الميت والغائب لم ينقل عن صحابي ولا تابعي
وأما قول القائل: {الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله يا محمد، وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله".
ـــــــ
1 الترمذي: السير "1614" , وأبو داود: الطب "3910" , وابن ماجه: الطب "3538" , وأحمد "1/389 ,1/438 ,1/440 2 أحمد "2/220"(3/616)
فنقول -وبالله التوفيق-: اعلم أن الله -سبحانه وتعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فحَمَى حِمَى التوحيد، وسَدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، حتى إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا. قل: ما شاء الله وحده"1 فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟.
بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب: لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ولا قال أحدٌ: إن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ولو كان هذا جائزا أو مشروعا: لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عددٌ كثيرٌ، وهم مُتَوَافِرُون، فما منهم مَن استغاث عند قبر صحابي ولا دعاه، ولا استغاث به ولا استنصر به.
ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ بل على نقل ما هو دونه؛ وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم، والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خَفِيَ علمًا وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا.
وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل إما أن يكون الصحابة الذين رَوَوْهُمَا وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهليْن بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما علما، وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما مُحَالٌ، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه والأمر به؟.
ـــــــ
1 أحمد "1/283".(3/617)
ومعلوم أنه قد عرضتْ لهم شدائدُ واضطراراتٌ وفتنٌ وقحطٌ وسنونٌ مجدباتٌ، أفلا جاءوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم - شاكين وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين.
والمضطرب يَتَشَبَّثُ بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا؛ لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا: لفعلوه؛ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، فمن كان عنده في هذا أثرٌ أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه.
نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخُلُوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرُونَ، بكثير من المُخْتَلَقَات، والحكايات المكذوبات، حتى لقد صُنِّفَ في ذلك عدّة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التَّمْوِيهَات والحكايات المخترعات، والأحاديث المكذوبات. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه.
وفيها حكايات لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضُرٌّ، فأتى صاحب ذلك القبر: فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مُضَادٌّ لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حَمَى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل بقوله في حديث الأعمى: "يا محمد" على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب. وكذلك قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك.(3/618)
وأيضا هذا من أعظم المُحَال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحيَ المُنَزَّل عليه، يصدقه ولا يكذبه فإنهما عن مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.
ونحن نجيب عن هذين الحديثين -بعون الله وتأييده- من وجوه فنقول:
الرد على من استدل بحديث يا عباد الله احبسوا في دعاء غير الله
{حديث يا عباد الله احبسوا. وحديث توسل الأعمى"
{والرد على من استدل بهما على جواز دعاء غير الله تعالى"
من بضعة وجو ه 2
"الوجه الأول": أن القرآن فيه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 3 فَيُرَدُّ المتشابهُ إلى المُحْكَم، ولا يُضْرَبُ كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة فيها محكم، وفيها متشابه، فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا ويوافق القرآن ولا يناقضه، وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري.
ومن المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 5 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات.
فمن أعرض عن هذا كله وَتَعَامَى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله: "إذا انفلتَتْ دابة أحدكم فليناد: يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه: "يا محمد" وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله
ـــــــ
1 سورة النجم آية: 3 ، 4 .
2 هذا العنوان ليس من الأصل، وإنما وضع للتنبيه وتوجيه النظر إلى موضوع المسألة.
3 سورة آل عمران آية: 7.
4 سورة الجن آية: 18.
5 سورة الرعد آية: 14.
6 سورة يونس آية: 106.(3/619)
في حال غَيْبَته لم يكن هذا إلا من زَيْغٍ في قلبه قد تناوله كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" 2.
"الوجه الثاني" : أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه، وجَرَّدَ التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله، وقال -فيما ثبت عنه- في صحيح البخاري: "من مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار" 3 وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 4 فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه بالتوحيد والتحذير من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما حَذَّرَهُم عنه؟!.
فمن زعم أن قوله: " يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى هذا فقد حَادَّ الله ورسوله؛ حيث زعم أن الرسول أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه.
"الوجه الثالث": أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فهل يظن من في قلبه رائحة إيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرَّمه الله ورسوله؟ بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم - أمر أمته به كان كافرا.
وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر.
ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين: فهو بين أمرين لا محيد
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 البخاري: تفسير القرآن "4547" , ومسلم: العلم "2665" , والترمذي: تفسير القرآن "2993 ,2994" , وأبو داود: السنة "4598" , وابن ماجه: المقدمة "47" , وأحمد "6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256" , والدارمي: المقدمة "145".
3 البخاري: تفسير القرآن "4497" , وأحمد "1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464".
4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" , وأحمد "1/293 ,1/303 ,1/307".
5 سورة آل عمران آية: 79.
6 سورة آل عمران آية: 80.(3/620)
له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحبٌ أو جائزٌ، ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب.
وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شركٌ أصغر لا أكبر، ومن قال ذلك: فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه.
ثم يقال لهذا المستدل بقوله: "فليناد يا عباد الله احبسوا" أَخْبِرْنَا عن هذا الأمر؟ هل هو للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة، وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟.
"الوجه الرابع": أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم - فإن من رواته معروف بن حسان، وهو منكر الحديث قاله ابن عدي.
"الوجه الخامس": أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر، ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته، وعجز عنها فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين من صالحي الجن أو من الملائكة أو ممن لا يعلم من جنده سواه: {مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عبادا قد وكلهم بهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: حبسوا عليه دابته.
فإن هؤلاء عباد الله أحياء، وقد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟ بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إ} 3 وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى
ـــــــ
1 سورة المدثر آية: 31.
2 سورة القصص آية: 15.
3 سورة الأنفال آية: 72.(3/621)
حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه وسلم - بل هذا من جنس استغاثته بِرُفْقَتِهِ من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى أحد رُفْقَتَه يا فلان: رُدَّ الدابة لم يكن في هذا بأس.
فهذا الذي ورد في الحديث: من جنس هذا، بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فأين هذا من استغاثة العبادة بأن ينادي ميتا أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا.
"الوجه السادس": أن الله -تعالى- قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 1 فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل أن يخترع فيه ما ليس منه. ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر به، فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى مَن لم يُؤْمَر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص.
الاستدلال بحديث الأعمى في دعاء غير الله
وأما حديث الأعمى، فالجواب عليه من وجوه:
{الوجه الأول" أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع: لا يُعْمَل به، فإنهم قالوا: إن حَدَّ الحديث الصحيح: إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب؛ لمخالفته قواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه بحمد الله- يوافق ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سنبينه إن شاء الله- وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟.
{الوجه الثاني" أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: أعني:"يا محمد" ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا نبي الله قد أُصِبْتُ في بصري فادعُ الله لي. فقال له النبي
ـــــــ
1 سورة المائدة آية: 3.(3/622)
-صلى الله عليه وسلم -: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبي محمد، نبي الرحمة إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شَفِّع نبيي فيَّ " ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره وقال له: " إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل"انتهى.
فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة فيه للمبطل؛ لأن غايته أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم -، وساقه الترمذي رحمه الله- بسياق قريب من هذا. فقال: حدثنا محمد بن غيلان ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال "إن شئت دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك" قال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخَطمي.انتهى.
هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى: "إني توجهت به إلى ربي" وليست هذه اللفظة في الحديث في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد، التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون.
"الوجه الثالث" أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضي الله عنهم -، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دلالة.
فيبقى أن يقال ما معناه؟ فنقول:
ذكر العلماء في معناه قولين: "أحدهما" أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم - فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما سؤال الله بِجَاهِهِ، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم - قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم -: فجائز إن صح الحديث فيه- يعني حديث الأعمى.
ـــــــ
1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".(3/623)
التوسل بالنبي وما ورد فيه
قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب ببصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى الحديث قولان:
"أحدهما" أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر لما استسقى بالعباس فذكر أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم - في الاستسقا، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته وفي مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم - كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى: "اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم - شفع له فسأل الله أن يُشَفِّعَهُ فيه.
"والثاني" أن التوسل به يكون في حياته وبعد وفاته. انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-. فتبين بهذا أن معنى التوسل إلى الله هو بدعائه وشفاعته في حضوره أو التوسل بذاته، بأن يسأل الله بجاهه.
والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد: إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالبٌ منه سائل له، والمتوسل به لا يُدْعَى، ولا يُسْأَلُ ولا يُطْلَبُ منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يُفَرِّقُ بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسئول والمسئول به.
ـــــــ
1 الترمذي: الدعوات "3578" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".(3/624)
فالحديث على هذا المعنى -الذي ذهب إليه ابن عبد السلام- لا حُجَّة فيه لمن جَوَّزَ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين اللذين ذكرناهما.
"أحدهما" ما ذهب إليه ابن عبد السلام :"والثاني" ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر –رضي الله عنه- استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا إذا جدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فَيُسْقَوْنَ"1.
فبيَّن عمر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون، وتوسلهم به: هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس: "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نَحْوًا من دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم أغثنا" 2 الحديث بطوله، ففي هذا أنه قال: "ادع الله أن يغيثنا". فلما كثر الغيث قال: "ادع الله أن يمسكها عنا".
فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه- لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم - ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: "اللهم إنا نتشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله" فرفع يديه ودعا ودعوا فَسُقُوا.
وقال أبو العباس ابن تيمية -في رده على ابن البكري لما تكلم على حديث
ـــــــ
1 البخاري: الجمعة "1010".
2 البخاري: الجمعة "1014" , ومسلم: صلاة الاستسقاء "897" , والنسائي: الاستسقاء "1518".(3/625)
الأعمى- قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء.
وقوله: "أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته لي، ولهذا قال في تمام الحديث: "اللهم فشفعه فيَّ" فالذي في الحديث مُتَّفَقٌ على جوازه، وليس هو مما نحن فيه.انتهى.
وقال -رحمه الله- في موضع آخر: لفظ التوجه والتوسل يُرَادُ به: أن يتوجه بهم ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة –رضي الله عنهم-، كقول عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"1 فهذا إخبار من عمر عما كانوا يفعلونه. وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد.
ومن هذا الباب ما في البخاري عن عمر -رضياللهعنه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش الميزاب:
وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغَمَام بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل
دعاء النبي للأعمى الذي توسل به
ومن هذا الباب: حديث الأعمى، فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو هذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد -نبي الرحمة-، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فشفعه فيَّ" فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طلبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه فدعا الله له.
وكذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له. فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله وأن
ـــــــ
1 البخاري: الجمعة "1010".(3/626)
يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء؛ حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، وَدَعَوْا هم اللهَ تعالى- أيضا.
وقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي": خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه أو يخاطبه، وهذا كثير.
فهذا كله يبين أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم: هو التوسل والتوجه بدعائه وبدعاء العباس ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه. انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية.
وفيما ذكرنا كفاية لمن نَوَّرَ الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تَزِدْه كثرةُ النُّقُول إلا حيرة وضلالا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
فصل في التوسل المشروع هو التقرب إلى الله بالعمل والدعاء
وأما قول القائل: وأما التوسل فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وورد: "اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي" ولا أدري من خَرَّجَهُ.
فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النبي، أو في غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة المقابلة لما يقولون، المُخَصِّصَة لما يفهمون؟ وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسُقُوا، وطفق الناس يتمسحون به، ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله.
فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله، وقولهم: فطفق إلى آخره. لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها؟. وقد رأيت لبعض المحققين أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول جائز، والثاني شرك. وفي عدة الحصن الحصين
ـــــــ
1 سورة النور آية: 40.(3/627)
للجَزَرِيّ:والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله.
{فالجواب" أن يقال: العبادات بناؤها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة، كالأدعية الواردة في السنة كقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم" 1 وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" 2 وقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقتك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3.
وكما حكى الله سبحانه- عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم فقال حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 4 الآية. وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له.
فهذا كله مما لا نزاع فيه، بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } 5.
التوسل بذوات الصالحين غير مشروع
وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة -رضي الله عنهم- هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسل ومحبتهم وطاعتهم ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته
ـــــــ
1 النسائي: السهو "1300" , وأبو داود: الصلاة "1495".
2 الترمذي: الدعوات "3475" , وابن ماجه: الدعاء "3857".
3 أحمد "1/452".
4 سورة آل عمران آية: 193.
5 سورة المائدة آية: 35.(3/628)
في حياته، وبدعاء العباس ويزيد.
وأما التوسل بالذات بعد الممات: فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف؛ بل المنقول عنهم يناقض ذلك؛ وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1 وقال تعالى: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2.
ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر العلماء على النهي عنه، ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم النفع عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمرٌ يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل.
وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته: فلا يكون وسيلة؛ فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مر من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته، واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين.
فالتوسل إلى الله بذات خلقه: بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان.
سؤال الله بأحد خلقه وظن استجابة الدعاء عند قبره
قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "إغاثة اللهفان في مكايد الشيطان": وهذه
ـــــــ
1 سورة النساء آية: 59.
2 سورة الشورى آية: 10.(3/629)
الأمور المبتدعة عند المقبور أنواع : أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به.
"النوع الثاني": أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا.
"النوع الثالث": أن يظن الدعاء عنده مستجابا، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكر إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله.
وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحُنَفَاء أتباع ملة إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهي كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المُصَنَّفَة في عبادتها قد طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاأَصْنَامَ َبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1.
وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن بَعْث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" 2 وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4.
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة: لما أقدم عُبَّادُها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها. انتهى كلامه -رحمه الله-.
والمقصود أنه حكى الإجماع على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر: بدعة إجماعا.
سؤال الله بخلقه أو بحق أحد
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الرد على ابن البكري: "وما زلتُ أبحث وأكشف ما أمكنني عن كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جَوَّزَ أحدٌ
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية: 35 ، 36 .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3348" , ومسلم: الإيمان "222" , وأحمد "3/32".
3 سورة الإسراء آية: 89.
4 سورة الأنعام آية: 116.(3/630)
منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفتُ على فُتْيَا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فَجَوَّزَ التوسل به -إن صح الحديث في ذلك"-.
وذكر القُدُورِيُّ في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به.انتهى كلامه.
وذكر ابن القيم -رحمه الله- عن أبي الحسن القدوري نحو ذلك؛ فقال رحمه الله- قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمَعَاقِد العِزّ من عرشك، أو يقول: بحق خلقك.
والجوازُ قولُ أبي يوسف- قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال القدوري: المسألة لا تجوز؛ لأنه لا حق لمخلوق على الخالق: فلا تجوز يعني وفاقا.
وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك وأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.انتهى.
وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به فيه إجمالٌ واشتراكٌ، غلط بسببه مَن لم يَفْهَم مقصود الصحابة، فإنه يُرَاد به التسبب به؛ لكونه داعيا وشافعا مثلا؛ أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب إنما هو بمحبة السائل واتباعه له، وأما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويُرَاد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا هو الذي كرهوه، ونهوا عنه.
وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يُراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يُراد به الإقسام، ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما؛ فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: لِيَدْعُ كل رجل منكم بأفضل(3/631)
عمله؛ فدعوا الله بصالح أعمالهم؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله؛ ويتوجه به إليه ويسأل به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.
ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فَرَّجْتَ عني، فَفَرَّجَ عنه. وكذلك المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك.
وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} 1 الآيات. من سؤال الله، والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا
وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يُجِيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم. فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به.
ولو قُدِّرَ أنه قَسَم لكان قَسَمًا بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" 2.
والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومُعَافَاتِه من عقوبته، مع أنه لا يُسْتَعَاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل المخلوق، ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، و "من حلف بغير الله فقد أشرك" 3 ومع هذا: فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية: 193.
2 مسلم: الصلاة "486" , والترمذي: الدعوات "3493" , والنسائي: التطبيق "1100 ,1130" والاستعاذة "5534" , وأبو داود: الصلاة "879" , وابن ماجه: الدعاء "3841" , وأحمد "6/58" , ومالك: النداء للصلاة "497".
3 الترمذي: النذور والأيمان "1535" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" , وأحمد "2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125".(3/632)
الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله.
وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تسألون به والأرحام" فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان به قرابته؛ فسؤال السائل بالرحم لغيره: يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، وتوسل بما هو يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم.
ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يُعْطِينِيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه، أو كما قال بعض الناس ظن، فإن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، ومن باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك، وليس كذلك بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه، بعد أن يولي" 1.
ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان عليّ إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. انتهى ملخصا.
بطلان ما روي من توسل آدم بالنبي
وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في مستدركه، وصححه: "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعَّفَه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا. فقال من حَدَّثَك؟ فذكر إسنادا له منعطفا. فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه
ـــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب "2552" , والترمذي: البر والصلة "1903" , وأبو داود: الأدب "5143" , وأحمد "2/88 ,2/91 ,2/97 ,2/111".(3/633)
عن نوح عليه السلام-.
وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفا جدا، وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم: وأبو نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا الحديث الذي استدل به: تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع.
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- في رده على ابن البكري: وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم وإدريس ونوح وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها. فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان:
"أحدهما": أنه ليس بحجة.
"الثاني": أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم .
الخلاف في شرع من قبلنا وعدم الاحتجاج بالإسرائيليات
فأما الاعتماد على أخبار أهل الكتاب، أو نقل مَن نقل عنهم: فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين؛ لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"1 .
وهذه القصص التي فيها ذِكْر توسل الأنبياء بذاته: ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تُذْكَرُ مُرْسَلَة كما تُذْكَرُ الإسرائيلياتُ التي تُرْوَى عَمَّن لا يُعْرَفُ. وقد بُسِطَ الكلام في غير هذا الموضع عما نُقِلَ في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبَيَّنَا بطلانَ جميعه.
ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب: لم يجز أن يحتج به؛ لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية
ـــــــ
1 أبو داود: العلم "3644" , وأحمد "4/136".(3/634)
ما عنده: أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنه بينه وبين الأنبياء زمن طويل، والمُرْسَل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يُعْرَف علمُه وصدقُه: لا يُقْبَل باتفاق المسلمين.
ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند علمائنا مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يُرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا.
وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب أسألك بحق آبائي عليك: إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا داود وأيّ حق لآبائك علي؟".
فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم يكن حجة: لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات انتهى كلامه. وبيَّن رحمه الله- أنه لا يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له.
ا لاستدلال بحديث الأعمى على التوسل بالذات
وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد؛ وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كله مشروع بلا ريب.
وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن أكثر العلماء نَهَوْا عن ذلك، وجعلوه من البدعة المكروهة المُحْدَثَة، وبعضهم رَخَّصَ في ذلك، وهو قول ضعيف مردود، والعز بن عبد السلام أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم -.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى،(3/635)
لأنه فهم من الحديث أن الأعمى توسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم - وأما الجمهور فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم - كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم، 1.
وشيخنا -رحمه الله- نقل كلام العز بن عبد السلام؛ ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم - بدعة مكروهة وأما التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم - فأجازه بعض العلماء كالعز بن عبد السلام.
والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك؛ بل اختياره رحمه الله- هو ما ذهب إليه الجمهور أن ذلك بدعة مُحْدَثَة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون؛ فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما قدمناه.
وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء، فقد تقدم بيانه بما فيه كفاية.
وبيان أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة؛ لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات.
وأما قولهم في حديث العباس: "فطفق الناس يتمسحون به". فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.
ـــــــ
1 جملة القول في حديث الأعمى أن له وجها موافقا للعقائد والقواعد، وهو طلب الدعاء والتشفع به، فيؤخذ به، ووجها مخالفا لها فلا يجوز الأخذ به لشذوذه مع مخالفته؛ فإنه لم يرد شيء في معناه عن أحد من الصحابة، ورواية الشاذ كهذا لا يُحْتَجُّ بها مطلقا، فكيف إذا كانت في مسألة تعبدية تمس العقيدة- فهذه لا تثبت إلا بنص قَطْعِي الرواية والدلالة معا.(3/636)
فصل بلوغ الدعوة وفهمها الذي تقوم به الحجة
وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله فالجاهل معذور؛ لأنه لم يُدْرِك الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمُهُ حكمُ المسلمين في الدنيا والآخرة؛ لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره.
"فالجواب" أن يقال: إن الله تعالى- أرسل الرسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1 فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله -تعالى-: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3.
وقد أجمع العلماء على أن مَن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين أن الله سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب لِيُعْبَدَ وحده ولا يُشْرَكُ معه غيرُهُ، فلا يُدْعَى إلا هو ولا يُذْبَحُ إلا له، ولا يُنْذَرُ إلا له، ولا يُتَوَكَّلُ إلا عليه، ولا يُخَافُ خوفَ السر إلا منه، والقرآن مملوءٌ من هذا.
قال الله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 الآية، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 6 وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 7 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8 وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 9 وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 10 وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } 11 وقال: {لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 12.
والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة، والله سبحانه- لا يُعَذِّبُ خلقَه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا يقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 13 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 14.
ـــــــ
1 سورة النساء آية: 165.
2 سورة الأنعام آية: 19.
3 سورة الإسراء آية: 15.
4 سورة الجن آية: 18.
5 سورة الرعد آية: 14.
6 سورة يونس آية: 106.
7 سورة الكوثر آية: 2.
8 سورة المائدة آية: 23.
9 سورة هود آية: 123.
10 سورة البقرة آية: 40.
11 سورة آل عمران آية: 175.
12 سورة التوبة آية: 18.
13 سورة القصص آية: 47.
14 سورة طه آية: 134.(3/637)
فكل من بلغه القرآن: فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار -التي هي أصل دين الإسلام- قد بَيَّنَهَا الله في كتابه، ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فَهْمًا جَلِيًّا كما يفهمها مَن هداه الله، ووفَّقه وانقاد لأمره، 1.
فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أَكِنَّة أن يفهموا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2 وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 3 وقال تعالى: {نَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 5 والآيات في هذا المعني كثيرة.
يخبر سبحانه- أنهم لم يفهموا القرآن، ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بجعل
ـــــــ
1 هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعضُ علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن، وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا. وهذا لا يُعْقَلُ ولا يَتفق مع قوله تعالى :{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الآية. الذي بنى عليه المحققون قولهم: إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة. وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ، هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل، كما يفقهها من اهتدى بها. ففهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي، كما يدل عليه استعمال القرآن، وحديث "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" متفق عليه، وفي رواية حسنة زيادة "ويلهمه رشده". والمشركون الذين شبههم الله بالصم البكم المختوم على قلوبهم، والمطبوع عليها، والمجعول عليها الأكنة: كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة وقد أنزلت بأفصح أساليبها؛ ولكنهم لم يهتدوا بها لثلاثة أسباب: "أحدها" العناد من الرؤساء. "ثانيها" التقليد من الدهماء. "ثالثها" الشبهات على الأصول الثلاثة، كزعمهم أن دعاء غير الله لا يضر إذا كان بقصد التقريب إليه تعالى والشفاعة عنده. وأن الرسول بشر مثلهم؛ فلا يعقل أن يكون رسولا من الله، وأنه تعالى لو أراد أن يبعث رسولا؛ لبعث ملكا، أو لأيَّدَهُ بملك يكون معه نذيراً. وأن البعث لا يُعْقَلُ.
2 سورة الأنعام آية: 25.
3 سورة فصلت آية: 44.
4 سورة الأعراف آية: 30.
5 سورة الكهف آية: 103.(3/638)
الأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم 1 فلم يعذرهم مع هذا كله، بل حكم بكفرهم، وأمر بقتالهم فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحكم بكفرهم.
فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوعٌ، وفهمها نوعٌ آخر 2.
وقد سئل شيخنا -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة فأجاب السائل بقوله: هذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي وضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 3.
وقيام الحجة وبلوغها نوعٌ وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها 4.
وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله -صلى الله عليه وسلم ، في الخوارج-: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس فإن الذي أخرجهم من الدين هو: التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها 5.
ـــــــ
1 هذه التمثيلات بيان بليغ لاستحواذ الكفر عليهم، وعدم رجوعهم عنه، وهو سبب العقاب لا عينه.
2 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهُدَى لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم.
3 سورة الفرقان آية: 44.
4 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهدى، لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم.
5 مسألة الخوارج ليست في أصول الدين الاعتقادية؛ بل هي في مسائل عملية، وقد اختلف السلف في عذرهم بالاجتهاد فيها وعدمه، والإمام علي وأصحابه لم يكفروهم، بل قاتلوهم بخروجهم عليهم، وعن أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية يُرجِّحَان عدمَ التكفير.(3/639)
وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه الإلهية، وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم، وهم أيضا يظنون أنهم على حق.
وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم؛ لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. اه كلامه –رحمه الله-.
التفصيل فيمن يحكم بكفره ومن لا يحكم بكفره
إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهرُ حالهم الشركُ بالله لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، فإن انقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنَّب ما نهاه عنه: فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان، وفي كل مكان.
وأما من كانت حالُه حالَ أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله به رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم؛ لجهله بل من كان ظاهر عمله: الشرك بالله، فظاهره الكفر فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، وَنَكِلُ حالَه إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تُخْفِي الصدور، ولا نقول: فلان مات كافرا؛ لأنا نفرق بين المُعَيَّن وغيره، فلا نحكم على مُعَيَّن بكفر؛ لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل ذلك إلى الله، ولا نَسُبُّ الأموات؛ بل نقول: أَفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا.
وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله ولا نشرك به، ونقاتل من نَكَلَ عن ذلك بعد ما ندعوه إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصَرَّ وعَانَدَ كَفَّرْنَاه وقاتلناه.
فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المُعَيَّن وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نَخُصُّ معيّنًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشارب الخمر، فنلعن مَن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/640)
جملة، ولا نخص شخصا بلعنة.
يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلا قد شرب الخمر، قال رجل -من القوم-: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤْتَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله "1.
فصل في إقرار العلماء لبدع القبور والموالد
وأما قوله: {ومنها أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذا الأمر، وَفُعِلَتْ بحضرتهم ولم ينكروا. من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر".
"فالجواب" من وجوه:
"الوجه الأول" أن يقال: قد افترض الله على العلماء طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}4 وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5 وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6.
فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم، أو جائز؟ وجب رد ما وقع فيه النزاع والاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دُعِيَ إلى ذلك أن يقول: سَمْعًا وطاعة، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 7.
فنحن نحاكم مَن نازَعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.
ـــــــ
1 البخاري: الحدود "6780".
2 سورة النساء آية: 80.
3 سورة آل عمران آية: 31.
4 سورة النور آية: 54.
5 سورة الحشر آية: 7.
6 سورة النساء آية: 59.
7 سورة النور آية: 51.(3/641)
الأحاديث في تسوية القبور وحظر البناء وإيقاد السرج عليها
فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر، وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها القناديل الفضة، وبيض النعام، وكساها كما يُكْسَى بيت الله الحرام-: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحثَّ عليه، أم نَهَى عنه، وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع.
فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 .
وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فَتُوُفِّيَ صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فَسُوِّيَ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وفي صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه" 2.
وروى أبو داود في سننه والترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها" 3 قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 4 رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يُبْنَى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه، وأما غيره فَيُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، كما قال الإمام مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -".
ـــــــ
1 مسلم: الجنائز "969" , والترمذي: الجنائز "1049" , وأبو داود: الجنائز "3218" , وأحمد "1/89 ,1/96 ,1/111 ,1/128 ,1/145".
2 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2027 ,2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399".
3 مسلم: الجنائز "970" , والترمذي: الجنائز "1052" , والنسائي: الجنائز "2028 ,2029" , وأبو داود: الجنائز "3225" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ,1563" , وأحمد "3/295 ,3/332 ,3/339".
4 الترمذي: الصلاة "320" , والنسائي: الجنائز "2043" , وأبو داود: الجنائز "3236" , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1575" , وأحمد "1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337".(3/642)
وقال الإمام أحمد: "لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فَخُذْهُ، ثم التابعين بعدُ: فالرجل فيهم مُخَيَّر"وقال أيضا: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا".
لا يحل لمسلم ترك حديث الرسول لقول أحد
والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تعظيم القبور وعقد القباب عليها بالجص والآجر وإسراجها، ولعن من أسرجها ثم يقول: فُعِلَتْ هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟.
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فإذا كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة بقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلتان، وقد روى البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال" 2.
ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد. وقال عمر بن الخطاب –رضى الله عنه-: "يُفْسِد الزمانَ ثلاثةٌ: أئمة مُضلون، وجدال منافق بالقرآن- والقرآن حق- وزلة العالم"3.
فإذا صح، وثبت أن العالم يَزِلُّ ويُخْطِئُ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقولٍ لا يعرف وجهه، فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟
ـــــــ
1 سورة النور آية: 63.
2 الدارمي: المقدمة "649".
3 الدارمي: المقدمة "649".(3/643)
إيثار أخذ العلم عن السلف وعلماء القرون الثلاثة
"الوجه الثاني" أن يقال: إذا لم تقنع نفسك، ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة وأطوع لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم - فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه أصحابه –رضي الله عنهم- فهم أعلم الناس بِسُنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان.
وفي حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"2 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "من كان منكم مُسْتَنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أَبَرُّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم".
وقال حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق مَن قبلكم، فوالله لقد سُبِقْتُمْ سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا: لقد ضللتم ضلالا بعيدا"3.
فإذا احتج أحدٌ علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة والتابعون الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف الذين يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نُقِلَ عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور أو أسرجوها، أو خلقوها، أو كسوها الحرير، أم هذا مما حدث بعدهم من المُحْدَثات التي هي بدع وضلالات؟.
ـــــــ
1 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95".
2 أحمد "5/357".
3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7282".(3/644)
ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين ماتوا في حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته مالا يُحْصَى، هل بنوا على قبورهم وعظَّموها، ودَعَوْا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، ويسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنَّى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين
العثور على جسد دانيال وكتابه في تستر
وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال: لما فتحنا تَسْتُر 1 وجد في بيت مال الهرمز أن سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية.
فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن. قال خالد: فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وساوينا القبور كلها مع الأرض لِنُعَمِّيهِ عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فَيُمْطَرُونَ. فقلت: مَن كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبرة؛ لئلا يَفْتَتِنَ به الناس، ولم يذروه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظَّموه وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنًا يُعْبَد، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا مَن لا يُدَانِي هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن للصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها
ـــــــ
1 بلد بالعراق العجمي.(3/645)
فضيلة مخصوصة ليست في المساجد.
ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما وَلَمَا أَخْفَوْهُ خشية الفتنة به، بل لدَعَوْا عنده، وبيَّنُوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أو صرفوا لغير الله أجلَّ العبادات.
وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "لن يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين، تَعَوَّضُوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ومن له خبرةٌ بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يُفْعَل بها، وبما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم وَازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له ما بينها من التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كمل قيل:
سَارَتْ مُشَرِّقَة وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بين مُشَرِّق ومُغَرِّب
أقوال فقهاء المذاهب في منكرات القبور
"الوجه الثالث" أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفُعِلَتْ بحضرتهم فلم ينكروا من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور.
فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مُصَرِّحَة بما ذَكَرْنَا، ونحن نَسُوقُ عباراتهم بألفاظها.
فأما كلام الحنابلة فقال في "الإقناع": ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه؛ سواء لاصق البناء الأرض أو لا، ولو في ملكه، من قبة أو غيرها؛ للنهي عن ذلك. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان: ويجب هدمُ القباب التي على القبور؛ لأنها أُسِّسَتْ على معصية الرسول.انتهى.
وهو في المسألة أشد تحريما، قال الشيخ: هو غاصب. وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تُهْدَم(3/646)
وهو الصواب. انتهى كلامه في "الإقناع". هذا والذي ذكره: ذكره غيرُ واحدٍ من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم.
وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي -رحمه الله- في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف-: ويكره تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه. ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره النهيُ عن الكتابة، وعبارة الحلوانية: ممنوعٌ منهما. وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يُبْنَى عليها قِبَابٌ، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو فنهاه فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وسلموا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" 1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين.
وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2.
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني-وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي –صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود
ـــــــ
1 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".
2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".(3/647)
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما، وقد احتج به مَن أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مُسْنَدًا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مُسْنَدًا؟.
نهي النبي عن اتخاذ القبور مساجد وقبره عيدا
ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نَهَى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قَرَنَ ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا" 1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور.
وهذا ضد ما عليه المشركون، ثم إنه عَقَّبَ النهي عن اتخاذها عيدا بقوله: " وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2 يشير بذلك إلى أن ما يَنَالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعْدكم، فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا.
وقد حَرَّفَ هذه الأحاديث بعض مَن أخذ شَبَهًا من النصارى بالشرك، وشَبَهًا من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول، بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت، وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبٌ للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون.
ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهلُ إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيِّرَتْ أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يَذُبُّونَ عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو
ـــــــ
1 البخاري: الصلاة "432" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "777" , والترمذي: الصلاة "451" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1598" , وأبو داود: الصلاة "1448" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1377" , وأحمد "2/6 ,2/16 ,2/122".
2 أبو داود: المناسك "2042" , وأحمد "2/367".(3/648)
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم يَنْهَ عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعْبَد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول، وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: "ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا"وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؟ ".
وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف. وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين –رضي الله عنه- نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره –صلى الله عليه وسلم - بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال.
وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يُرِدْ المسجدَ، ورأى أن ذلك مِن اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل البيت، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نَسَبِيّ وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا له أضبط.
والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يُقْصَد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام مَحَا ذلك كله.(3/649)
فصل في مفاسد اتخاذ القبور أعيادا
واعلم أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة، التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل مَن في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، فمن ذلك الصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها وسؤالهم الرزق والنصر والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكُرُبَات وإغاثة اللهفات.
وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم، وهذا هو عين الشرك الأكبر الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار- عياذا بالله من ذلك.
وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح؛ لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم في كتابه حيث قال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1.
قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم -الذين يقتدون بهم-: لو صوَّرْنَاهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقَوْنَ المطر فعبدوهم.
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 2 وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى
ـــــــ
1 سورة نوح آية: 23.
2 البخاري: الصلاة "434" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "528" , والنسائي: المساجد "704" , وأحمد "6/51".(3/650)
ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ الَلاتَ وَالْعُزَّى} 1 قال: "كان يَلُتُّ السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره".
وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس:" كان يَلُتُّ السويق للحاج".
فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كان سبب تعظيم قبورهم، اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها.
أصل الشرك عبادة الصالحين بتعظيم قبورهم
قال أبو العباس ابن تيمية -قدَّس الله روحه-: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المسجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بغير الرجل الذي يُعْتَقَدُ صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشونها، ويعبدونها بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة، قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبرُّكا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
فمن أعظم المحدثات، وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق 2 من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم
ـــــــ
1 سورة النجم آية: 19.
2 أي: وهو يعالج سكرات الموت.(3/651)
منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا" 1 متفق عليه وقولها: "خشي" هو بضم الخاء المعجمة تعليلا لمنع إبراز قبره.
نهي النبي عن الجلوس والصلاة على القبور
وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة، فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" 2 وفي هذا إبطال قول مَنْ زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون، ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، وهذا باطل قطعا.
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك، فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيان لحمى التوحيد، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر،
ـــــــ
1 البخاري: الصلاة "436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531" , والنسائي: المساجد "703" , وأحمد "1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274" , والدارمي: الصلاة "1403".
2 مسلم: الجنائز "972" , والترمذي: الجنائز "1050" , والنسائي: القبلة "760" , وأبو داود: الجنائز "3229" , وأحمد "4/135".(3/652)
مناقضا له، فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تُتَّخَذَ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب والآجر والأحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك.
فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل بناء المساجد عليها ودعائها، وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزَّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك وعظَّموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1.
فصل في إتيان القبور في يوم معلوم
وأما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يُؤْتَى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر" فنقول:
أما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم" فقد قدَّمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد
ـــــــ
1 سورة التوبة آية: 32 ، 33 .(3/653)
ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام" 1 رواه أبو داود وغيره.
وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلا قال: "يا رسول الله: إني نذرت أن أنحر إبلا بِبُوَانَةَ 2. فقال: أَبِها وثن من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم. قال: لا. قال: فأوف بنذرك"وكقوله: "لا تجعلوا قبري عيدا" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومِنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا.
فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، سواء ذلك في البلد أو خارجا عنه.
وأما قوله: {يُؤْتَى إليه من النواحي" فنقول: وهذا –أيضا- بدعة مذمومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان.
زيارة القبور الشرعية والبدعية
وبيان ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية، فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء:
{أحدها": تذكير الآخرة والاتعاظ والاعتبار.
{والثاني": الإحسان إلى الميت في أن لا يطول عهده به؛ فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة سُرَّ الميت بذلك، كما يسرُّ الحي من يزوره ويهدي له؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولا يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم.
"الثالث": إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور.
ـــــــ
1 الترمذي: الصوم "773" , والنسائي: مناسك الحج "3004" , وأبو داود: الصوم "2419" , وأحمد "4/152" , والدارمي: الصوم "1764".
2 هضبة من وراء ينبع.(3/654)
وأما الزيارة البدعية الشركية فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، والدعاء به، أو طلب الحوائج منه، أو الاستغاثة به، ونحو ذلك من البدع التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان -كما تقدم بيانه مبسوطا-.
ثم اعلم أن الزيارة الشرعية هي التي لا تُشَدُّ لها الرحال، فإن كانت تشد رحال فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1 وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به.
زيارة مسجد قباء لأهل المدينة
فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة حتى نص بعض العلماء على أن لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تُسْتَحَبُّ زيارته لمن كان بالمدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح: "مَنْ تَطَهَّرَ في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة" 2 قالوا: ولأن السفر لزيارة الأنبياء، وقبور الصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا ولا مستحبا.
فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، وهذا قول أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة.
وذهب طائفة من متأخري أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي، وأجابوا عن حديث: "لا تشد الرحال" 3 بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة، وردَّ عليهم الجمهور من وجهين:
ـــــــ
1 البخاري: الجمعة "1189 ,1197" والحج "1864" والصوم "1996" , ومسلم: الحج "827" , والترمذي: الصلاة "326" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/78".
2 النسائي: المساجد "699" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1412" , وأحمد "3/487".
3 البخاري: الجمعة "1189" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" , وأحمد "3/45".(3/655)
"أحدهما": أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده بأنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة فهذا جائز.
{الوجه الثاني": أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا يروي أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ذلك شيئا، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد -وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة- عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يقيمه عليها إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يُسَلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام" 1 وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.
وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا دخل المسجد قال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف".
واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهم: "يستقبل قبره، ويسلم عليه"، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: "يستقبل القبلة، ويسلم عليه"، هكذا في كتب أصحابه.
وقال مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي".
ـــــــ
1 أبو داود: المناسك "2041" , وأحمد "2/527".(3/656)
ومَنْ رخَّص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد أن يدعو استقبل القبلة إما مستدبرا القبر، وإما منحرفا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر.
وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس منهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر، أعني: قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فإذا كان هذا حالهم وفعلهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟!
حدوث المشاهد للقبور بعد عصر السلف
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف.
وصار يوجد في كلام بعض الناس فلان تُرْجَى الإجابة عند قبره، وفلان يُدْعَى عند قبره، وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة ومقلدا؛ فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال: هذه زلة عالم، فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة؛ لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف، وكلاهما مُفَرِّطٌ فيما أمره به ربه.
قال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه " يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وزلة العالم"، وقال معاذ: "احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال:(3/657)
"اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا".
واعلم -رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين.
قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -". وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".
وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق".
ويكفي اللبيب في هذا ما قصَّه الله –سبحانه- في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: "أن ناسا من الصحابة في غزوة حنين أتوا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعلقون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر، إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } لتركبن سنن من كان قبلكم".
فإذا كان هذا قد خفي عليهم مع وضوحه وبيانه، وقبلهم قوم موسى مع
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 138.(3/658)
صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على علماء زمانهم 1 وخفي عليهم هذا، وقالوا: يا موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2 فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري، فيفيد الحرص، وبذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصلح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله.
وإذا اشتبه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 3.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــ
1 إن الاعتبار في محله، وإن كان بنو إسرائيل قالوا هذا عقب خروجهم من مصر، وقبل نزول التوراة، وكانت الوثنية المصرية غالبة عليهم، ولكنهم علموا أن موسى -عليه السلام- دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده، وشاهدوا الآيات الدالة على صدقه، وكأنهم ظنوا أن الإله الذي يجعله لهم لا ينافي عبادته وحده كما يظن القبوريون من المسلمين اليوم بجهلهم، وقد قال لهم موسى: "إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون"، ولم يمنعهم هذا العلم من عبادة العجل بعد ذلك.
2 سورة الأعراف آية: 138.
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "770" , والترمذي: الدعوات "3420" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1625" , وأبو داود: الصلاة "767" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1357" , وأحمد "6/156".(3/659)
...
رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي
بسم الله الرحمن الر حيم
من حمد بن ناصر إلى الأخ المكرم محمد بن عبد الوهاب بن صالح قاضي بلد الرياض في آخر وقت الدرعية.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
وصل خطك -وصلك الله إلى رضوانه-، وتسأل عن معنى بيت الجعبري حيث قال:
وبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
فاعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا، فإن استووا
فيما ذكرنا اشتركوا في المال، وفيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضا.
والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة عند من يقول: إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة ثم الولاء، ثم بيت المال.
إذا فهمت ذلك فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بَعُدَ على من كانت جهته مؤخرة، فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب فهو مقدم على ابن العم، وهذا معنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "فبالجهة التقديم" فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم كالابن يُقَدَّمُ على ابن الابن.
وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ للأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع؛ لأن الأول أقرب، ومعنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-: "ثم بقربه" إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثَّلته لك، فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى -وهو الذي يدلي بقرابتين- فهو المقدم على المدلي بقرابة واحدة.(3/660)
مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم، وهذا هو يعني: أن ذا القرابتين يُقَدَّمُ على ذي القرابة الواحدة إذا استويا في الجهة والدرجة.
طريقة قسمة المواريث
وحاصل الأمر: أن الابن يُقَدَّمُ على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقا، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم للأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق؛ لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم للأب؛ لأنه أقوى.
وأما قولك: ما معنى التماثل والتناسب، فاعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرءوس والرءوس، فإنه لا يخلو من أربع أحوال:
إما أن تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، ومعنى المماثلة هنا: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة، وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذا المماثلة، وحكمه كما قال الناظم:
فخذ من المماثلين واحداً
فإذا وجدت رؤساء متماثلة في العدد، فخذ رءوس أحدهما واكتفِ به، فإن لم تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي المداخلة، ومعناها أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناهُ من غير زيادة ولا نقصان، وذلك كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم:
............. ... وخذ من المناسبين الزائد
يعني: العدد الأكبر خذه واكتفِ به عن الأصغر، فإن لم تجد بينهما مماثلة(3/661)
ولا مناسبة فانظر هل تجد بينهما موافقة؟ وهي أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة، وحكم هذا النوع هو ما قال الناظم:
واضرب جميع الوفق في الموافق
فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقا بالإنصاف، فخذ نصف أحدهما، واضربه في كامل الآخر، فتبلغ اثني عشر، وهكذا تفعل في الباقي تأخذ الوفق، فتضربه في كامل الآخر، فإن لم يكن مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم.
وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن
وذلك كثلاثة وخمسة وخمسة وتسعة. انتهى. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت.
رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به
بسم الله الرحمن الر حيم
من حسن بن حسين إلى الأخ سعد العجيري.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه-، وما سألت عنه من: هل الجدد ملحقة بالنقدين أو بالعروض ؟ فنقول:
اعلم أن المختار المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض كالفلوس، فتكون عرضا من سائر العروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا، وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططا، إذ كيف يلحق ما ليس نقدا بالنقود؟!.
وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها فضة خالصا، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد باطل، ولو فهم هذا القائل اختيار الشيخ في مسألة مد عجوة لم يكثر فيها نجوه، والسلام، والخط على عجلة.(3/662)
رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات لبعض علماء نجد
...
رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات
لبعض علماء نجد الأعلام
معنى قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان لعبادته، وشرفه بخطابه ورسالته، وأمره ونهاه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه وقدره عليه؛ ليكون مصيره ومنتهاه إليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
"أما بعد":
فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1 أي: إن الله –سبحانه- غني كريم عزيز حكيم، فهو محسن إلى عبده مع غنائه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا، فهو –سبحانه- لم يخلق خلقه ليستكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه، بل ما خلقهم "إلا ليعبدوه" حق عبادته.
وأما العباد فإنهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته وانتفاعه به عاجلا أو آجلا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه، فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء معاوضا بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى غيره، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة، فهو –أيضا- محسن إلى نفسه بذلك كما قال –تعالى-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} 2 وقال –تعالى-: {مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 3 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه عزوجل "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن
ـــــــ
1 سورة الذاريات آية: 56 ، 58 .
2 سورة الإسراء آية: 7.
3 سورة البقرة آية: 272.(3/664)
إلا نفسه" 1 وقال –تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} 2 أي: لعبا وباطلا لا لحكمة، وهو منصوب على الحال، أي: عابثين، وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خُلِقَت البهائم لا لثواب ولا عقاب، وهو مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 3 وإنما خلقتم للعبادة، وإقامة أوامر الله –تعالى- واجتناب نواهيه و" حسبتم: {أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 4 في الآخرة لنجازيكم بما عملتم، ولولا ذلك اليوم لما تميَّز المطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، ويكون هذا الخلق عبثا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأول ما يقرع سمعك في المصحف من الأمر -بعد ما بيَّن الله مراتب الخلق بين مؤمن وكافر ومنافق-: {ا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5 وقال –تعالى-: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 6 أمر –تعالى- بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه بآلائه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه في عبادته لا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا. ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم" 7.
الاخلاص والاتباع شرطا العبادة
وللعبادة شرطان:
"أحدهما": الإخلاص في العمل لقوله –تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 8 أي: الملة المستقيمة، والشريعة المتبعة، وإنما أضاف الدين للقيمة، وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنَّث القيمة ردا إلى الملة، وقيل: القيمة جمع القيم.
واحتجَّ بهذه الآية من قال: الإيمان عبارة عن القول والاعتقاد، والعمل هو الدين؛ لأنه –تعالى- ذكر في هذه الآية مجموع هذه الثلاثة قال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 9 أي: وذلك المذكور دين القيمة؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان
ـــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب "2577".
2 سورة المؤمنون آية: 115.
3 سورة القيامة آية: 36.
4 سورة المؤمنون آية: 115.
5 سورة البقرة آية: 21 ، 22 .
6 سورة النساء آية: 36.
7 البخاري: التوحيد "7373" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242".
8 سورة البينة آية: 5.
9 سورة البينة آية: 5.(3/665)
لقوله –تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} 1 والإسلام هو الإيمان من وجهين.
"الأول": أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله لقوله –تعالى-: {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2 ولكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فلا شك أنه عين الإسلام كما هو ظاهر.
"والوجه الثاني": قوله –تعالى-: {أَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3.
وقال بعضهم: الإشارة في ذلك راجعة إلى الإخلاص من قوله –تعالى-: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وأما مجموع ما تقدم فهو الدين الكامل أي: المستقل بنفسه.
"والشرط الثاني": متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، كما قال –تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}5 وقال –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6.
أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم
قال الأخفش في قوله: "عن أمره" صلة، والمعنى يخالفون أمره صلى الله عليه وسلم وقال غيره: عن أصلية، والمعنى يعرضون عن أمره، ويميلون عن سنته، وقال –تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7.
وكان سبب نزول قوله –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} 8 الآية، أنه كان صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ في الخطبة بالمنافقين ويعيبهم، فإذا سمع المنافقون ذلك خرجوا ولم يصلوا.
"والثانية": نزلت في أموال الفيء والغنيمة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو عام في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من قول وعمل، كما هو جارٍ في جميع الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، فكيف وقد أوجب الله طاعته بقوله –تعالى-: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 9 ؟ قال ابن عباس وجابر: "هم الفقهاء والعلماء الذين يُعَلِّمُون الناس معالم دينهم على شريعته ومنهاجه"، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد مستدلين على ذلك بقوله: {وَلَوْ
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية: 19.
2 سورة آل عمران آية: 85.
3 سورة الذاريات آية: 35 ، 36 .
4 سورة الأعراف آية: 29.
5 سورة آل عمران آية: 31.
6 سورة النور آية: 63.
7 سورة الحشر آية: 7.
8 سورة النور آية: 63.
9 سورة النساء آية: 59.(3/666)
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} 1.
وقال أبو هريرة: "هم الأمراء والولاة الذين يُعَلِّمُون ويحكمون بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" 2.
وعن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 3.
وقال عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، وأن نقوم –أو نقول- بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"4.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة" 5.
وعن أبي أمامة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أَمْرِكُمْ تدخلوا جنة ربكم" 6.
فطاعة هؤلاء من طاعته صلى الله عليه وسلم الواجبة على كل مكلف، وقال –تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }7 أي: إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته، وبعد وفاته إلى سنته.
وجوب رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله
وقال مجاهد -وغير واحد من السلف-: هذا أمر من الله عزوجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله
ـــــــ
1 سورة النساء آية: 83.
2 البخاري: الأحكام "7137" , ومسلم: الإمارة "1835" , والنسائي: البيعة "4193" والاستعاذة "5510" , وابن ماجه: المقدمة "3" والجهاد "2859" , وأحمد "2/244 ,2/252 ,2/270 ,2/313 ,2/342 ,2/386 ,2/467 ,2/471 ,2/511".
3 البخاري: الأحكام "7144" , ومسلم: الإمارة "1839" , والترمذي: الجهاد "1707" , وأبو داود: الجهاد "2626" , وابن ماجه: الجهاد "2864" , وأحمد "2/17 ,2/142".
4 البخاري: الأحكام "7199" , ومسلم: الحدود "1709" , والنسائي: البيعة "4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154" , وابن ماجه: الجهاد "2866" , وأحمد "3/441 ,5/318 ,5/319 ,5/325" , ومالك: الجهاد "977".
5 البخاري: الأذان "693" , وابن ماجه: الجهاد "2860" , وأحمد "3/114 ,3/171".
6 الترمذي: الجمعة "616" , وأحمد "5/251 ,5/262".
7 سورة النساء آية: 59.(3/667)
وسنة رسوله، كما قال –تعالى-: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1 فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله فهو الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 2 ؛ ولهذا قال –تعالى-: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدلَّ على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة، ولم يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر.
فالرد إلى الكتاب والسنة واجب لصريح الأمر، وتعليق الإيمان عليه وجودا وعدما؛ لأن الوعيد عائد إلى قوله: " فردوه" والشرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين، أي: فردوه إلى الله وهو المتقدم عند غيرهم، كما جاء الوعيد في قوله: {لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 4 فالوعيد عائد إلى التحكيم، و"لا" أصلية، والمعنى: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف بعد ذلك، فعلى هذا يكون الوقف على "لا" تاما، وقيل: إن "لا" مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في :{لئلا يعلم} 5.
وقد جاء في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الأسود قال: "اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فقال: نعم. فانطلقا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك. فقال: أكذلك؟ فقال: نعم. فقال عمر: مكانك حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر، فقتله وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله: قتل عمر والله صاحبي، ولو ما أني أعجزته لقتلني. فقال رسول الله: كنت
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 10.
2 سورة يونس آية: 32.
3 سورة النساء آية: 59.
4 سورة النساء آية: 65.
5 سورة الحديد آية: 29.(3/668)
ما أظن أن يتجرَّأ عمر على قتل مؤمن"فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية.
فهدر دم ذلك الرجل، وبريء عمر منه، فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وهو أقرب للمقام من السبب الآتي ذكره، وبه قال مجاهد وعطاء والشعبي وغيرهم من علماء السلف.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في أنصاري مجهول، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة الأنصاري البدري 2 حين اختصم مع الزبير عند رسول الله في سقيا ماء، فحكم صلى الله عليه وسلم للزبير فقال حاطب: ابن عمتك، فتلوَّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وعلى هذا تكون الآية مستأنفة حينئذ "الراج مسايل الماء" 3 {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} 4 قال مجاهد: شكا، وقال غيره: ضيقا {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 5 أي: انقادوا لأمرك.
ـــــــ
1 سورة النساء آية: 65.
2 ليس في البدريين من الأنصار رجل اسمه حاطب بن أبي بلتعة، وإنما فيهم حاطب بن عمرو، كذا في هامش الأصل. ولكن لهذا القيل أصلا أخرجه ابن أبي حاتم من مراسيل سعيد بن المسيب -وهي أقوى المراسيل-، قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، وأخذ بهذه الرواية الثعلبي وعنه الواحدي وغيرهما، وَعُدَّ بيانا لرواية البخاري عن عروة عن عبد الله بن الزبير أنه حدَّثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي –صلى الله عليه وسلم- في شراج الجرة التي يسقون بها النخل إلخ، ولما كان حاطب هذا مهاجريا أنصاريا قال بعض العلماء في توجيه الجمع بين الروايتين: إنه كان حليفا للأنصار، وقد سمَّى هذا الأنصاري بعض الرواة بأسماء أخرى، منها قول الواحدي: إنه ثعلبة بن حاطب، وقال بعضهم: إنه كان من المنافقين، والصواب الاكتفاء باتهامه كما فعل البخاري.
3 صواب هذه الكلمة الشراج ككتاب، وهو مفرد جمعه شراج وشروج كبحار وبحور، وهي مسائل الماء التي اختصم فيها الزبير مع الأنصاري، ولم تذكر هنا، ولعلها سقطت من قلم النساخ.
4 سورة النساء آية: 65.
5 سورة النساء آية: 65.(3/669)
معنى كلمة التوحيد " لا إله إلا الله "
وقال صلى الله عليه وسلم "وكل ما ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 2 وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 3 أي: صاحبها فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .
ومعنى لا إله إلا الله: توحيده في عبادته مع التبرئ من كل معبود سواه، كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم -عليه السلام- بقوله –تعالى-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4 وهذا هو الذي تضمَّنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد معناها، والعمل به لا بمجرد قولها باللسان.
ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يُعْبَد من دونه، والبراءة منه كما حكى الله عن إبراهيم -عليه السلام -: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 5 وقال صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله" 6 رواه مسلم فحينئذ من لا يكفر بكل معبود سوى الله لا يحرم دمه وماله، ولا يكون مسلما بمجرد التلفظ بلا إله إلا الله إلا إذا أضاف إليها الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بمعرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا كونه لا يدعو إلا الله، ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يكن مسلما بذلك فلا يحرم ماله ودمه، فهذا أصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه، وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه، ويعمل به.
"فإن قيل": قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال: لا إله إلا الله؟
"فالجواب": أنه لا شك أن من قال: لا إله إلا الله من الكفار حُقِنَ دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛ ولذا أنزل الله في قصته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 7 الآية، فإن تبيَّن التزامه لمعناها، وهو إفراد الإلهية والعبودية لله –تعالى- كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبيَّن خلافه لم يُحْقَنْ
ـــــــ
1 البخاري: الصلح "2697" , ومسلم: الأقضية "1718" , وأبو داود: السنة "4606" , وابن ماجه: المقدمة "14" , وأحمد "6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270".
2 المعروف من رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة وغيرهما: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
3 أبو داود: السنة "4607" , والدارمي: المقدمة "95".
4 سورة الزخرف آية: 26 ، 27 .
5 سورة الزخرف آية: 26 ، 27 .
6 مسلم: الإيمان "23" , وأحمد "3/472".
7 سورة النساء آية: 94.(3/670)
بمجرد التلفظ ماله ودمه، وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكفُّ عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك.
وقوع الشرك في توحيد الألوهية دون الربوبية
واعلم أن التوحيد قسمان:
القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرُّون به كما أخبر الله عنهم في غير موضع من كتابه.
والقسم الثاني: توحيد العبادة، ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، ولفظ شريك يشعر بالإقرار بالله –تعالى-.
فالرسل -عليهم السلام- بُعِثُوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين لله عند قولهم في خطاب المشركين: {أفِي اللَّهِ شَكٌّ} 1 {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 ولنهيهم عن شرك العبادة، وكذلك قال –تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 3 أي: قائلين لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 4 وحده {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5 وهو كل ما يعبد من دون الله، فأفاد بقوله –تعالى-: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} 6 أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل، وتبعث إلا بطلب توحيد العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السماوات والأرض، فإنهم مقرون بذلك؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير نحو: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}7 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 8 {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 9 {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 10 {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 11 {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} 12 استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقرون.
وبهذا يُعْرَف أن المشركين لم يتخذوا الأوثان والأصنام، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله –تعالى- في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم أولياء يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله –تعالى- في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله –تعالى: {قُلْ
ـــــــ
1 سورة إبراهيم آية: 10.
2 سورة فاطر آية: 3.
3 سورة النحل آية: 36.
4 سورة النحل آية: 36.
5 سورة النحل آية: 36.
6 سورة النحل آية: 36.
7 سورة فاطر آية: 3.
8 سورة النحل آية: 17.
9 سورة إبراهيم آية: 10.
10 سورة الأنعام آية: 14.
11 سورة لقمان آية: 11.
12 سورة فاطر آية: 40.(3/671)
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فجعل -سبحانه وتعالى- اتخاذهم للشفعاء شركا ونزَّه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لم يأذن الله لهم في الشفاعة، ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟
فصل في أنواع العبادة الأربعة و دعوة الرسل كلهم إلى جعلها كلها لله وحده
والعبادة أنواع: اعتقادية –وهي أساسها-: وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق إلا هو، وغير ذلك مما يجب له من لوازم الإلهية.
ومنها لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فَمَنْ اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يُحْقَنْ دمه ولا ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به، ولم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد حُقِنَ ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية: كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.
ومالية: كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله –تعالى- به.
وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها.
وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله –تعالى- بعث الأنبياء -عليهم السلام- من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرُّون بذلك كما ذكرناه، ولم يعبدوا الأصنام بالخضوع لهم، والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقرِّبهم إلى الله، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} 2.
ـــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الفاتحة آية: 5.(3/672)
ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذ معناها: نخصُّك بالعبادة ونفردك بها وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}1 و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} 2 لما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا إلا الله، ولا تتقوا غيره -كما في الكشاف-.
فإفراد الله –تعالى- بتوحيد العبادة لا يكون إلا بأن يتم جميعها كلها له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستغاثة والاستعانة بالله وحده، واللجأ إلى الله، والنذر له، والنحر له، وجميع أنواع العبادة، ومن يفعل شيئا من ذلك لمخلوق من حي أو ميت أو جماد فقد أشرك في العبادة، وصار من يفعل له هذه الأمور إلها لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا، وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق، وإن أقرَّ بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك، وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، فإن الله –تعالى- أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به عبد عَبَدَ معه غيره، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 3.
وقد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر، وأنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به إلى الرب –تعالى-، إلا ما ورد في حديث فيه مقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك- فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده ؛ لقوله –تعالى-: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 4.
ـــــــ
1 سورة العنكبوت آية: 56.
2 سورة البقرة آية: 41.
3 مسلم: الزهد والرقائق "2985" , وابن ماجه: الزهد "4202" , وأحمد "2/301 ,2/435".
4 سورة الكهف آية: 110.(3/673)
وعن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" 1 2.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 3 إلى قوله: {َأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4.
وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا" 5 أخرجاه في الصحيحين.
فصل في الشرك الأكبر بدعاء غير الله عز وجل
الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة
ومما تساهل فيه الناس من أنواع العبادة دعاء المسألة الذي أخبر الله به -سبحانه وتعالى- عن موسى وهارون بقوله –تعالى-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 6 قال العلي العظيم: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} 7 أي: ما سألتماه {فَاسْتَقِيمَا} 8 على دعوة الله إلى أن يأتيهم العذاب.
وأخبر -سبحانه وتعالى- عن زكريا -عليه السلام- بقوله: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} 9 أي: دعا {رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}10 أي: دعا الله سرا في
ـــــــ
1 الترمذي: الدعوات "3540".
2 رواه الترمذي وحسنه، والحاكم: وقال صحيح الإسناد.
3 سورة الأنعام آية: 151.
4 سورة الأنعام آية: 153.
5 البخاري: الجهاد والسير "2856" , ومسلم: الإيمان "30" , والترمذي: الإيمان "2643" , وابن ماجه: الزهد "4296" , وأحمد "3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242".
6 سورة يونس آية: 88.
7 سورة يونس آية: 89.
8 سورة يونس آية: 89.
9 سورة مريم آية: 2.
10 سورة مريم آية: 3.(3/674)
قومه {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 1 وأخبر -سبحانه وتعالى- عن أيوب -عليه السلام- بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} 2 أي: دعاه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} 3 وقال –تعالى-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4.
قال الجمهور: هو أمر بالدعاء الذي هو أخص من العبادة لقوله –تعالى-: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5 وقيل: إنه أمر بالعبادة التي هي أعم من الدعاء لقوله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 6 فأجيب عن ذلك بأن الدعاء اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فما يتركه إلا مستكبر عن إظهار العبودية، ولمَّا عبَّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة.
وعن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} 7 أي: صاغرين أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ لم يسأل الله يغضب عليه" 8 أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" 9 أخرجه الترمذي.
استجابة الدعاء الذي كملت شروطه
فإذا استكملت شروط الدعاء حصلت الإجابة قطعا للوعد الحق؛ ولما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يدعو الله إلا استجاب له، إما أن يعجله له في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول: وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ولم يستجب لي" وقال –تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 10.
قال ابن عباس: قال يهود المدينة، يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام، وغلظ
ـــــــ
1 سورة مريم آية: 4.
2 سورة الأنبياء آية: 83.
3 سورة الأنبياء آية: 83: 85 .
4 سورة غافر آية: 60.
5 سورة غافر آية: 60.
6 سورة غافر آية: 60.
7 الترمذي: تفسير القرآن "3247" , وابن ماجه: الدعاء "3828".
8 الترمذي: الدعوات "3373" , وابن ماجه: الدعاء "3827".
9 الترمذي: الدعوات "3370" , وابن ماجه: الدعاء "3829".
10 سورة البقرة آية: 186.(3/675)
كل سماء خمسمائة عام؟ فنزلت هذه الآية 1 وقيل: سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية بقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} 2 أي: بالعلم لا يخفى عليه شيء.
وقال –تعالى-: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 3 أي: المكروب من مرض وبلاء ونازلة من نوازل الدهر، فإذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله –تعالى-؛ فيجيب دعوته؛ فيكشف ما به من مرض وكرب وبلاء؛ لأنه لا يقدر على تغيير الحال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة، ومن ضيق إلى سعة، إلا القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب { مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } 4 تدعونه في جلب النفع وكشف الضر {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 5 أي: تتعظون.
وقال صاحب الكشاف: "الاضطرار الحال المحوجة إلى الالتجاء، اضطره إلى كذا، والفاعل والمفعول مضطر 6 وهو من أصابه مرض أو فقر أو نازل نزل به أحوجه إلى التضرع إلى الله"، وقال السيد: "الذي لا حول له ولا قوة"، والخلاف لفظي.
الآيات في إبطال الشرك بدعاء غير الله
وقال –تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 7 أي: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم فإنهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 8 من خير وشر { هُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 9 أي: لا شريك ولا معين {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 10 تكذيبا لهم حيث قالوا :{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا} 11.
وقال –تعالى-: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 12 القشرة الرفيعة التي على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا} 13 على سبيل الفرض والتقدير؛ لأن لو حرف امتناع {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 14 أي: ما أجابوكم فيما
ـــــــ
1 هذا الحديث لا يصح بل هو من الإسرائيليات.
2 سورة البقرة آية: 186.
3 سورة النمل آية: 62.
4 سورة النمل آية: 62.
5 سورة النمل آية: 62.
6 يعني: أن لفظ اسم الفاعل والمفعول واحد لا يظهر الفرق بينهما في النطق لسبب الإدغام.
7 سورة سبأ آية: 22.
8 سورة سبأ آية: 22.
9 سورة سبأ آية: 22.
10 سورة سبأ آية: 23.
11 سورة يونس آية: 18.
12 سورة فاطر آية: 13.
13 سورة فاطر آية: 14.
14 سورة فاطر آية: 14.(3/676)
سألتموهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 أي: يتبرءون منكم، ومن دعائكم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2.
وقال –تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 3 وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم، فقال الله عزوجل {قُلِ}4 للمشركين {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} 5 أي: الجوع والقحط {وَلا تَحْوِيلاً} 6 إلى غيركم.
والمقصود من الآية حيث قالوا: ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله، فنحن نعبد هؤلاء المقربين إلى الله، وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة، واشتغلوا بعبادته، فاحتجَّ على بطلان قولهم بهذه الآية، ثم قال –تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} 7 يعني: الذين يدعوهم المشركون {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 8 أي: القربة والدرجة العليا، قال ابن عباس: "هم عيسى وأمه والعزير والملائكة". وقال ابن مسعود: "نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك، فتمسكوا بعبادتهم، فغيَّرهم الله من حال إلى حال، وأنزل هذه الآية". وقوله –تعالى-: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 9 معناه: أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بالعمل الصالح، وعليه الأكثرون {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} 10 أي: جنته {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِ} 11 ناره كغيرهم، فإذا كان الملائكة والمسيح والعزير لا يقدرون على كشف الضر وجلب النفع فكيف بغيرهم؟!.
وقال –تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ} 12 إن عبدته بشيء من أنواع العبادة {وَلا يَضُرُّكَ}13 إن تركت عبادته {فَإِنْ فَعَلْتَ} 14 ما نهيتك عنه، فعبدت غيري، أو طلبت النفع، وكشف الضر من غيري {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 15 فهذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ من دون الله شيئا ألبتة، فعلى
ـــــــ
1 سورة فاطر آية: 14.
2 سورة فاطر آية: 14.
3 سورة الإسراء آية: 56.
4 سورة الإسراء آية: 56.
5 سورة الإسراء آية: 56.
6 سورة الإسراء آية: 56.
7 سورة الإسراء آية: 57.
8 سورة الإسراء آية: 57.
9 سورة الإسراء آية: 57.
10 سورة الإسراء آية: 57.
11 سورة الإسراء آية: 57.
12 سورة يونس آية: 106.
13 سورة يونس آية: 106.
14 سورة يونس آية: 106.
15 سورة يونس آية: 106.(3/677)
هذا المعنى المراد: ولا تدع من دون الله أيها الإنسان ما لا ينفعك ولا يضرك.
إبطال ما تعلق به المشركون في اتخاذهم آلهة من دون الله
وقال –تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} 1 يعني: الأصنام لا تجيب دعاء عابديها فيما يسألونها {لَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2 أي: لا تجيبهم {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 3 أي: لا يسمعون ولا يفهمون {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4 أي: جاحدين، وكل مَنْ دعا من دون الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك ؛ لأن الدعاء اعتراف بالعبودية، فبدعائه له صيَّره إلها.
وقال –تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 يعني: دعوة الصدق، وقال علي: "دعوة الحق: التوحيد". وقال ابن عباس: "دعوة الحق: شهادة أن لا إله إلا الله". والخلاف بينهما لفظي، وقال صاحب الكشاف: دعوة الحق فيها وجهان:
"أحدها": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل عن الباطل، والمعنى أن الله يدعى؛ فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله.
"والوجه الثاني": أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة الحق الذي يسمع ويجيب، وعن الحسن أنه الحق، وكل دعاء إليه دعوة الحق.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} 6 أي: يدعونهم من دون الله {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} 7 أي: لا يجيبونهم فيما يسألونه منهم من نفع ودفع ضر إذا دعوهم {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 8 يعني: أن استجابتهم لهم كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جمادا لا يحس دعاءهم، ولا يستطيع إجابتهم، وقيل: شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيده ليشرب به، فبسطهما ناشرا أصابعه، لا يكون منه في يده شيء، كذلك الذي يدعو الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا بيده منها شيء، وقال مجاهد: "كالعطشان الذي يرى الماء بعينه من بعيد، وهو يشير بكفيه إلى الماء، ويدعوه بلسانه، فلا يأتيه أبدا". وقال عطاء: "كالعطشان الجالس على شفير البئر، وهو يمد يده إلى الماء فلا هو يبلغ
ـــــــ
1 سورة الأحقاف آية: 5.
2 سورة الأحقاف آية: 5.
3 سورة الأحقاف آية: 5.
4 سورة الأحقاف آية: 6.
5 سورة الرعد آية: 14.
6 سورة الرعد آية: 14.
7 سورة الرعد آية: 14.
8 سورة الرعد آية: 14.(3/678)
الماء، ولا الماء يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء، ودعاؤه له، كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم". وقال ابن عباس: "كالعطشان إذا بسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه إلى الماء" {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 1 أي: كل مدعو سواه يضل عمن دعاه إذا احتاج إليه، وقال ابن عباس: "إن أصواتهم محجوبة عن الله –تعالى-، وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو -سبحانه وتعالى-".
وقال –تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 2 أي: ملك لله أمثالكم، لا يملكون لأنفسهم شيئا، فالذي لا يملك لنفسه شيئا من نفع كيف يتصور في حقه النفع لغيره؟! {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 في دعواكم، وقال –تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم} 4 يعني: قل يا محمد لهؤلاء الذين تركوا عبادة الله وحده، وعبدوا معه غيره من الأصنام، أخبروني، تقول: أرأيتك، يعني: أخبرني بحالك، وأصله: أرأيتم، والكاف للتأكيد {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ}5 قبل الموت، مثل ما نزل بالأمم الماضية من الغرق والخسف والصواعق، ونحو ذلك من العذاب {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} 6 أي: القيامة {َغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} 7 في كشف العذاب عنكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 8 في دعواكم.
ومعنى الآية: أن الكفار إذا نزل بهم بلاء وشدة رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء، وتركوا الأصنام، فقيل لهم: أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء، ولا تعبدونه وتطيعونه في اليسر والرخاء، {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 9 من الضر الذي من أجله دعوتموه، وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة، وإن كانت جميع الأمور بمشيئته -سبحانه وتعالى- {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 10 أي: تتركون دعاء الأصنام التي تدعونها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، وقيل: المعنى تركتم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها، وهذا قول الحسن، فقد نفى الله عما سواه ما يتعلق به المشركون من دعاء غيره من أن يكون له شرك في مثقال ذرة من نفع أو ضر،
ـــــــ
1 سورة الرعد آية: 14.
2 سورة الأعراف آية: 194.
3 سورة الأعراف آية: 194.
4 سورة الأنعام آية: 40.
5 سورة الأنعام آية: 40.
6 سورة الأنعام آية: 40.
7 سورة الأنعام آية: 40.
8 سورة الأنعام آية: 40.
9 سورة الأنعام آية: 41.
10 سورة الأنعام آية: 41.(3/679)
كما قال لنبيه وخليله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1 وقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مظعون: "ما يدري ما يفعل به" 3 وفي رواية "ما يفعل بي، وأنا رسول الله" 4.
وفي الصحيح عن أنس قال: "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت عليه { ليس لك من الأمر شيء} 5 وفيه عن ابن عمر: "أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم - يقول –إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر-: اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فأنزل الله عليه { ليس لك من الأمر شيء} 6 و "لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم { وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد إلى الصفا فقال: يا معشر قريش –أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، ويا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي" 7 فإذا كان سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، لا يملك لنفسه ولا لأقاربه نفعا ولا ضرا، فكيف بغيره ممن لا يعلم حاله مع ربه، ولا مصيره إلى نعيم أو جحيم؟!
فإن كان قيل فيمن عبد الملائكة وعيسى وأمه، والله يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 8.
قال ابن القيم: "في هذه الآية دليل على جواز الخطاب العام وإرادة الخاص من غير بيان تفصيلي ولا إجمالي، فإن لفظة "ما" عام يشمل المعبودين سوى الله، ولم يرد العموم مع تأخير بيان المخصص، فإنه لمَّا نزلت هذه الآية قال ابن الزِّبَعْرَى: والله لألزمن محمدا بهذه الآية، فحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد عُبدت الملائكة وعُبد عيسى، فيجب أن يكون هؤلاء حصب جهنم، وهو خلاف دينك يا محمد،
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 188.
2 سورة الأحقاف آية: 9.
3 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/436".
4 البخاري: الجنائز "1243" , وأحمد "6/436".
5 مسلم: الجهاد والسير "1791" , والترمذي: تفسير القرآن "3002" , وابن ماجه: الفتن "4027" , وأحمد "3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206".
6 البخاري: المغازي "4070" , والنسائي: التطبيق "1078" , وأحمد "2/93 ,2/147".
7 البخاري: الوصايا "2753" , ومسلم: الإيمان "206" , والنسائي: الوصايا "3646 ,3647" , والدارمي: الرقاق "2732".
8 سورة الأنبياء آية: 98.(3/680)
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فنزل بعد حين: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 1 فقد أطلق العام مع إرادة الخاص، وبين بعد حين".
واعترض على هذا الدليل بأنا لا نسلم احتياج الآية إلى البيان، وإنما تحتاج إليه لو دخلت الملائكة وعيسى في عموم الآية، وهو ممنوع؛ لأن "ما" لغير من يعقل، فلا تتناول الملائكة ولا عيسى؛ ولهذا نقل في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، أما علمت أن "ما" لما لا يعقل، و "من" لمن يعقل 2 وإنما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 3 زيادة بيان لجهل المعترض لا بيانا للآية السابقة.
وإن سلم أن كلمة "ما" تشملهم فلا تحتاج الآية إلى البيان أيضا؛ لأن العقل يحكم بخروجهم عن الآية؛ لأن تعذيب الملائكة وعيسى –بذنب الغير، وهو عبادة الناس إياهم – غير جائز عقلا، وإنما يجوز تعذيبهم لو كانوا راضين بذلك، وهو مستحيل في حقهم.
فصل في توحيد الأسماء والصفات والمذهب الصحيح في ذلك
الإيمان بأسماء الله وصفاته
فإذا عرفت ما تقرر من توحيد العبادة فاعلم بأن إيماننا بما ثبت في نعوته -تعالى- كإيماننا بذاته المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، ونميِّز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقول -كما قال السلف الصالح-: آمنا بالله على مراد الله، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 فالاستواء معلوم من الكتاب العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5.
وكل ما وصف الله به نفسه وجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بذاته، والكيف
ـــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 101.
2 هذا ليس عليه طلاوة كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
3 سورة الأنبياء آية: 101.
4 سورة الشورى آية: 11.
5 سورة فصلت آية: 42.(3/681)
مجهول فيهما لاستحالة تصوره؛ لقوله –تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 ومن ليس له مثل لا يمكن التصور في ذاته وصفاته لا شرعا ولا عقلا.
ومَن أوَّلَ فقد تصور المستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- من المشابهة للحوادث، فما وسعهم مما تصوروه من التشبيه الواقع في أذهانهم إلا الفرار منه إلى التعطيل.
فأوَّلوا اليدين بالقدرة، وقد أثبت الله لنفسه يدا وقدرة، وأوَّلوا الاستواء بالاستيلاء المفيد للتجدد والحدوث في الملك، وهو مستحيل في حقه -سبحانه وتعالى- وعطَّلوا صفتين من صفاته، وقد قال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 3 وقال -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 وقال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 5 إلى غير ذلك من آيات الاستواء.
وقال –تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 6 وقال –تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 7.
وقال –تعالى-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 8 وقال –تعالى-: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} 9 وقال –تعالى-: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 10 وقال –تعالى-: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 11 وقال –تعالى- في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 12 وقال –تعالى -: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} 13.
وقال –تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 14 وقال –تعالى-: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 15 "في" بمعنى "على" كقوله -تعالى-: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 16 وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 17 أي: على
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الأعراف آية: 54.
3 سورة هود آية: 7.
4 سورة طه آية: 5.
5 سورة الفرقان آية: 59.
6 سورة فصلت آية: 11.
7 سورة البقرة آية: 29.
8 سورة السجدة آية: 5.
9 سورة فاطر آية: 10.
10 سورة آل عمران آية: 55.
11 سورة النساء آية 157 158
12 سورة النحل آية: 50.
13 سورة المعارج آية: 3.
14 سورة غافر آية: 36.
15 سورة الملك آية: 16.
16 سورة التوبة آية: 2.
17 سورة طه آية: 71.(3/682)
الأرض، وعلى جذوع النخل، وكذلك في السماء، أي: على العرش فوق السماء إلى غير ذلك من نصوص القرآن العظيم جلَّ منزِّله، وتعالى قائله.
الأحاديث المصرِّحة بعلو الله
وأما السنة: فمن الأحاديث الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم فأسفت، فصككتها، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: ادعها. فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء قال: مَنْ أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعتقها فإنها مؤمنة" 1 هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم.
وقال عطاء بن يسار: حدثني صاحب الجارية نفسه قال: "كانت لي جارية ترعى"2 الحديث، وفيه: "فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها مستفهما: مَنْ في السماء؟ قالت: الله. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مسلمة ."وقال النسائي في تفسيره في قوله –تعالى-: { ثم استوى إلى السماء} 3 أنبأنا قتيبة عن مالك عن هلال بن أسامة عن عمر بن الحكم قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: إن جارية لي كانت ترعى غنما لي، فجئتها ففقدت شاة من الغنم، سألتها عنها، فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت رجلا من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها" 4 كذا سمَّاه مالك عمر بن الحكم.
وعن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال: يا رسول الله: إن علي رقبة مؤمنة، فأعتق هذه؟ فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، قال: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" 5.
ـــــــ
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" والأيمان والنذور "3282".
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537".
3 سورة البقرة آية: 29.
4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة "537" , والنسائي: السهو "1218" , وأبو داود: الصلاة "930" , وأحمد "5/448" , ومالك: العتق والولاء "1511".
5 أبو داود: الأيمان والنذور "3284" , وأحمد "2/291".(3/683)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية سوداء أعجمية، فقال: عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: مَنْ أنا؟ قلت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة".
حديث أسامة بن زيد الليثي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "جاء حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له فقال: يا رسول الله: إن عليَّ رقبة، فهل تجزئ هذه عني؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأين ربك؟ فأشارت إلى السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" وهو مرسل.
حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة: "ألا هل بلغت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وَيَنْكُبُهَا إليهم ويقول: اللهم اشهد" 1 أخرجه مسلم.
وحديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون" 2 متفق عليه.
وعن أبي رزين العقيلي قال: " قلت: يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء" 3 قال أبو عبيد: "العماء: الغمام". وقال خالد بن يزيد الرازي: "أخطأ أبو عبيد إنما العمى مقصور، ولا يدرى أين كان الرب –تعالى-"، وقيل: معناه مقصور لا شيء معه فوق هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش، ثم استوى عليه. رواه الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"4 أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن عبد الله بن مسعود: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء" 5.
ـــــــ
1 مسلم: الحج "1218" , وابن ماجه: المناسك "3074" , والدارمي: المناسك "1850".
2 البخاري: مواقيت الصلاة "555" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "632" , والنسائي: الصلاة "485" , وأحمد "2/257 ,2/312 ,2/344 ,2/396 ,2/486" , ومالك: النداء للصلاة "413".
3 الترمذي: تفسير القرآن "3109" , وابن ماجه: المقدمة "182" , وأحمد "4/11 ,4/12".
4 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941".
5 الترمذي: البر والصلة "1924" , وأبو داود: الأدب "4941".(3/684)
وعن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوَّجكن أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات" وفي لفظ: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه"أ خرجه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 متفق عليه.
وعن أبي هريرة أن ر "ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء." سول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها زوجها" 2 أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أُلْقِي إبراهيم -عليه السلام- في النار قال: "اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك" هذا حديث حسن الإسناد..
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، فأتمَّ ركوعها وسجودها والقراءة فيها، قالت: حفظك الله كما حفظتني، ثم صُعد بها إلى السماء، ولها نور وضوء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى يُنْتَهَى بها إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها".
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم تعرج بها إلى السماء التي فيها الله –تعالى-" 3 رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وهو على شرط البخاري ومسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فيرفعون رءوسهم، فإذا الرب -جلَّ جلاله- قد أشرف عليهم، فقال: السلام عليكم"
ـــــــ
1 البخاري: المغازي "4351" , ومسلم: الزكاة "1064" , والنسائي: تحريم الدم "4101" , وأبو داود: السنة "4764" , وأحمد "3/68 ,3/73".
2 مسلم: النكاح "1736".
3 أحمد "2/364".(3/685)
يا أهل الجنة. فذلك قوله: عزوجل"سلام قولا من رب رحيم" أخرجه ابن ماجه في سننه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب –ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يقبلها بيمينه، ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" 1 أخرجه البخاري.
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور –وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" 2 أخرجه الشيخان.
وقال صلى الله عليه وسلم لِحُصَيْنٍ: " كم تعد لنفسك من إله؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فأيهم تعد لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء. فقال له صلى الله عليه وسلم أما إنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين ينفعانك، فلما أسلم حصين قال له: قل: "اللهم ألهمني رشدي وعافني من شر نفسي" أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد.
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" 3 وفي رواية للبخاري: "إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش" 4.
وفي رواية لهما: "إن الله لما خلق الخلق" 5 وعند مسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده" 6 زاد البخاري "على العرش" 7 ثم اتفقا "إن رحمتي تغلب غضبي" 8.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك، أمرك في السماء والأرض،
ـــــــ
1 البخاري: التوحيد "7429".
2 مسلم: الإيمان "179" , وابن ماجه: المقدمة "195" , وأحمد "4/405".
3 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/358".
4 البخاري: التوحيد "7554" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/381 ,2/397 ,2/466".
5 البخاري: الأدب "5987".
6 البخاري: بدء الخلق "3194" والتوحيد "7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466".
7 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/433".
8 البخاري: التوحيد "7404" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: الزهد "4295" , وأحمد "2/433".(3/686)
كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع. فيبرأ" 1 أخرجه أبو داود.
وهكذا حال من يسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته، ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان:
"أحدهما": قول السائل: أين الله؟
"وثانيها": قول المسئول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قالهما، وأقرهما من غيره، والعياذ بالله من الإعراض عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله.
ولم تخبر الرسل بما تستحيله العقول، بل أخبارهم قسمان:
"أحدهما": ما يشهد به العقل والنظر.
"والثاني": ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ، واليوم الآخر، وتفاصيل العقاب والثواب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا.
وكل خبر تظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين: إما لعدم صحة في النقل أو لفساد في العقل، والعقل الصحيح لا يخالف النص الصريح.
قول الإمام مالك في الاستواء
واختلف السلف في الاستواء، فقال قوم: "استوى بمعنىاستقرَّ"، ومنهم ابن عباس -رضي الله عنهما- كما رواه البيهقي في الأسماء والصفات، وهو استقرار يليق بذاته.
وقال آخرون -منهم سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السلف-: "إقرارها وإمرارها كما جاءت بلا كيف". وقال البغوي:" أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف، يجب على الإنسان الإيمان به، ويكل العلم به إلى الله -عز وجل-".
وروى البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرحمن عفلى العرش استوى} 2 كيف استوى؟ قال:
ـــــــ
1 أبو داود: الطب "3892".
2 سورة طه آية: 5.(3/687)
فأطرق مالك، وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه، فَأُخْرِجَ الرجل.
وفي رواية يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 كيف استواؤه؟ فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا.
ما ورد في القرآن والأحاديث في صفة وجه الله الكريم
وقال –تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 3 وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 4 وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وقال: {نَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} 6 وقال: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 7 وقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَه} 8.
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك "أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: هاتان أهون وأيسر" 9.
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وأن ينظروا إلى وجه ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" 10.
وروى البخاري عن عتبان بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حرَّم الله على النار أن تأكل مَنْ قال: لا إله إلا الله. يبتغي بها وجه الله" 11.
وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، وكنت وعبد الله بن مسعود –أظنه قال: وبلال ورجل من هذيل، ورجلان قد نسيت اسمهما- فوقع
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة طه آية: 5.
3 سورة القصص آية: 88.
4 سورة الرحمن آية: 27.
5 سورة الإنسان آية: 9.
6 سورة الرعد آية: 22.
7 سورة الليل آية: 20.
8 سورة الأنعام آية: 52.
9 البخاري: تفسير القرآن "4628" , والترمذي: تفسير القرآن "3065" , وأحمد "3/309".
10 البخاري: تفسير القرآن "4878" , ومسلم: الإيمان "180" , وأحمد "4/416" , والدارمي: الرقاق "2822".
11 البخاري: الصلاة "425" , ومسلم: الإيمان "33".(3/688)
في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يحدث به نفسه، فأنزل الله عز وجل "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"الآية.
صفة اليد لله تعالى وما ورد فيها من النصوص
وقال –تعالى-: {ا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْمَعُ المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا" 3 وذكر الحديث بطوله.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم فَدُفِعَ إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟" 4 قال: فذكر حديث الشفاعة، وفيه: "فيأتون آدم فيقولون: يا آدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه –أظنه قال:- وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك" 5.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه" 6 إلخ.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا جئت، وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك في الألواح بيده" 7 إلخ.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله جنات عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلَّمي فقالت: " قد أفلح المؤمنون" .
ـــــــ
1 سورة ص آية: 75.
2 سورة المائدة آية: 64.
3 البخاري: التوحيد "7410" , ومسلم: الإيمان "193" , وابن ماجه: الزهد "4312" , وأحمد "3/116 ,3/244 ,3/247".
4 البخاري: تفسير القرآن "4712" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434".
5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3340" , ومسلم: الإيمان "194" , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2434" , وأحمد "2/435".
6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660".
7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660".(3/689)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كتب ربكم -تبارك وتعالى- على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي" 1.
وعن ابن عمر قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش وجنات عدن وآدم والقلم،واحتجب من الخلق بأربعة: بنار وظلمة ونور فظلمة".
وقد تكون اليد في غير هذه المواضع بمعنى القوة، قال الله –تعالى-: {اذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} 2 أي: ذا القوة، وقد تكون بمعنى النعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي: كم من نعمة لي قد أسديتها إليه، وقال –تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3وقال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} 4.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله -تبارك وتعالى- الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟" 5 رواه البخاري. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين" 6.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لمَّا خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك ربك يا آدم، وقال له: يا آدم: اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم. فذهب وسلَّم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك. فقال الله -تبارك وتعالى له، ويداه مقبوضتان-: أيهما شئت؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته"وذكر الحديث.
وسُئِلَ عمر بن الخطاب عن قوله –تعالى-:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ـــــــ
1 مسلم: التوبة "2751" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/259 ,2/381 ,2/397".
2سورة ص آية: 17 .
3سورة الزمر آية 67 .
4سورة الحاقة آية 44: 46 .
5 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799".
6 مسلم: الإمارة "1827" , والنسائي: آداب القضاة "5379" , وأحمد "2/159 ,2/160 ,2/203".(3/690)
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 الآية.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله: فَفِيمَ العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة؛ فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار استعمله بعمل أهل النار؛ فيدخله به النار".
وعن هشام بن حكيم أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله: أنبتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار".
صفة اليمنى والأصبع لله تعالى
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه -وإن كانت تمرة - فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ" 2 وقال صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيب، فإن الله رضي الله عنه يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد" 3 أخرجه البخاري.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص مما في يمينه –قال:- وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض" 4.
ـــــــ
1سورة الأعراف آية 172 .
2 مسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/418".
3 البخاري: الزكاة "1410" , ومسلم: الزكاة "1014" , والترمذي: الزكاة "661" , والنسائي: الزكاة "2525" , وابن ماجه: الزكاة "1842" , وأحمد "2/331" , ومالك: الجامع "1874" , والدارمي: الزكاة "1675".
4 البخاري: التوحيد "7419" , ومسلم: الزكاة "993" , والترمذي: تفسير القرآن "3045" , وابن ماجه: المقدمة "197" , وأحمد "2/242 ,2/313 ,2/500".(3/691)
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم: أَبَلَغَكَ أن الله عز وجل يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل عز وجل "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه""1.
وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: -أو يا رسول الله- إن الله جعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهنَّ، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} " 2 إلخ.
وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إن الله يضع السماء على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يقول: أنا
ـــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457".
2 البخاري: تفسير القرآن "4811" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378".(3/692)
الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :{ما قدروا الله حق قدره} 1 وفي رواية: "والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، يهزهنَّ" 2 وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ضحك حتى بدت نواجذه عجبا وتصديقا له، ثم قرأ :{ما قدروا الله حق قدره} 3 الآية.
وروى الشيخان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المستكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"4 وفي رواية يقول: "إن الله يقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"5 وفي رواية يقول: "أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، ثم يقول: أنا الملك. حتى نظرت إلى المنبر يتحرَّك من أسفله حتى إني أقول: أَسَاقِطٌ هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟" 6 هذا لفظ مسلم والبخاري: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك" 7.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟" 8 وقال صلى الله عليه وسلم "قلوب الخلائق بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقَلِّبُهَا كيف يشاء" 9.
صفة القدم لله وإتيانه في ظلل من الغمام
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ قَطْ وعزتك، وينزوي بعضها إلى بعض" 10.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله، فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" 11 وقال –تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 12 وقال –تعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 13 وقال –تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} 14.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر ابن جرير هنا حديث الصور بطوله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور، وساقه غير واحد من أصحاب الأسانيد وغيرهم، وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العَرَصَات تشفَّعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا بعد واحد، من آدم -عليه السلام- فمن بعده، فكلهم يحيدون حتى ينتهوا إلى
ـــــــ
1 البخاري: التوحيد "7451" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457".
2 البخاري: التوحيد "7513" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457".
3 البخاري: التوحيد "7415" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2786" , والترمذي: تفسير القرآن "3238" , وأحمد "1/378 ,1/429 ,1/457".
4 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/87".
5 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275".
6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2788" , وابن ماجه: المقدمة "198" والزهد "4275" , وأحمد "2/87".
7 البخاري: التوحيد "7413" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787 ,2788" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799".
8 البخاري: الرقاق "6519" , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2787" , وابن ماجه: المقدمة "192" , وأحمد "2/374" , والدارمي: الرقاق "2799".
9 الترمذي: القدر "2140" , وابن ماجه: الدعاء "3834".
10 البخاري: الأيمان والنذور "6661" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2848" , والترمذي: تفسير القرآن "3272" , وأحمد "3/134 ,3/141 ,3/229 ,3/234".
11 البخاري: تفسير القرآن "4850" والتوحيد "7449" , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها "2846" , والترمذي: صفة الجنة "2561" , وأحمد "2/276 ,2/314 ,2/507".
12 سورة البقرة آية: 210.
13 سورة الفجر آية: 22.
14 سورة الأنعام آية: 158.(3/693)
محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب ويسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله، ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تشقق السماء الدنيا، وينزل ما فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة إلى السابعة، وتنزل حملة العرش والكروبيون، وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، لهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبدا أبدا".
وعن عبد الله بن عمرو في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 1 الآية قال: "يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها: النور والظلمة والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع منه القلوب".
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي"وعن مجاهد: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال: "هو السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم".
وقال أبو العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فالملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله –تعالى- يجيء فيما شاء، وهي في بعض القراءة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} 2.
نزول الرب سبحانه وكلماته
وقال صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"3 الحديث. وقال الله –تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 4 وقال: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ
ـــــــ
1 سورة البقرة آية: 210.
2 سورة الفرقان آية: 25.
3 البخاري: الجمعة "1145" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479".
4 سورة الكهف آية: 109.(3/694)
مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 1.
وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2 ولم يقل: حتى يرى خلق الله. وقال: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} 3 وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 4 وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 5 وقال: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 6 قال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 7.
وقال: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 8 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 9 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 10 وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 11.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكفَّل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة "12.
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تكفَّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة" 13.
وعن أبي موسى الأشعري قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 14 رواه مسلم.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق" 15.
ـــــــ
1 سورة لقمان آية: 27.
2 سورة التوبة آية: 6.
3 سورة البقرة آية: 75.
4 سورة الفتح آية: 15.
5 سورة الكهف آية: 27.
6 سورة الزمر آية: 71.
7 سورة الأنفال آية: 7 ، 8 .
8 سورة يونس آية: 82.
9 سورة هود آية: 119.
10 سورة يونس آية: 96 97
11 سورة الأعراف آية: 137.
12 البخاري: فرض الخمس "3123" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122 ,3123" والإيمان وشرائعه "5029 ,5030" , وابن ماجه: الجهاد "2753" , وأحمد "2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/494" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391".
13 البخاري: فرض الخمس "3123" والتوحيد "7457 ,7463" , ومسلم: الإمارة "1876" , والنسائي: الجهاد "3122" , ومالك: الجهاد "974" , والدارمي: الجهاد "2391".
14 البخاري: التوحيد "7458" , ومسلم: الإمارة "1904" , والترمذي: فضائل الجهاد "1646" , والنسائي: الجهاد "3136" , وأبو داود: الجهاد "2517" , وابن ماجه: الجهاد "2783" , وأحمد "4/392 ,4/397 ,4/401 ,4/405 ,4/417".
15 البخاري: أحاديث الأنبياء "3371" , والترمذي: الطب "2060" , وأبو داود: السنة "4737" , وابن ماجه: الطب "3525" , وأحمد "1/236 ,1/270".(3/695)
وعن خولة بنت حكيم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه" 1.
قال يعقوب بن عبد الله عن القعقاع بن حكيم عن ذكوان عن أبي هريرة أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما لقيت من عقرب لدغني البارحة، قال: أما أنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك" رواه مسلم ومالك والترمذي.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون" 2 فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ كتبها وعلقها عليه.
فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلمات الله –تعالى- كما أمره الله -جل ثناؤه- أن يستعيذ به فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 3 وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 4 ولا يصح أن يستعيذ المخلوق بالمخلوق، فدَّل أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة كما أمره الله أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوقة.
قال البيهقي: روى ميسرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: "اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، لا يُهْزَمُ جندُك، ولا يُخْلفُ وعدُك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك".
فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات الله كما استعاذ بوجهه الكريم، فكما أن وجهه الذي استعاذ به غير مخلوق، فكذلك كلماته التي استعاذ بها غير
ـــــــ
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2708" , والترمذي: الدعوات "3437" , وابن ماجه: الطب "3547" , وأحمد "6/377 ,6/378 ,6/409" , والدارمي: الاستئذان "2680".
2 الترمذي: الدعوات "3528".
3 سورة المؤمنون آية: 97 ، 98 .
4 سورة النحل آية: 98.(3/696)
مخلوقة، وكلام الله –تعالى- واحد، وإنما جاء بلفظ الجمع على معنى التفخيم والتعظيم.
وهذه الآيات والأحاديث صريحة في أن المسموع كلام الله، وأنه قديم، والقول هو الكلام، قال الله عز وجل {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} 2 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 3 وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 4 وقال: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 5 وقال: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} 6 فأثبت الله -جل ثناؤه- لنفسه صفة القول في هذه الآيات.
وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تهجَّد من الليل قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت" 7.
وقد قال –تعالى-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 8 فوصف نفسه بالتكليم، ووكده بالتكرار فقال: {تكليما}. وقال –تعالى-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 9 وذكر في غير آية من كتابه ما كلَّم به موسى -عليه السلام- فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} 10 إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 11 وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 12 فهذا كلام سمعه موسى من ربه بلا ترجمان كان بينه وبينه، فدعاه إلى وحدانيته، وأمره بعبادته، وإقامة الصلاة لذكره، وأخبر أنه اصطنعه لنفسه، واصطفاه برسالاته وبكلامه.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجَّ آدم وموسى،
ـــــــ
1 سورة يس آية: 7.
2 سورة ق آية: 29.
3 سورة النساء آية: 122.
4 سورة النساء آية: 87.
5 سورة يس آية: 58.
6 سورة ص آية: 84.
7 البخاري: الجمعة "1120" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "769" , والترمذي: الدعوات "3418" , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1619" , وأبو داود: الصلاة "771" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1355" , وأحمد "1/298 ,1/308 ,1/358" , ومالك: النداء للصلاة "500" , والدارمي: الصلاة "1486".
8 سورة النساء آية: 164.
9 سورة الأعراف آية: 143.
10 سورة البقرة آية: 253 .
11 سورة طه آية: 41.
12 سورة الأعراف آية: 144.(3/697)
فقال موسى: يا آدم: أنت أبونا خَيَّبْتَنَا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى: اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك التوراة أتلومني على أمر قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني؟! قال فحجَّ آدم موسى"1.
وفي هذا أن موسى كلَّمه الله تكليما، وسمع كلامه بلا واسطة.
وأما قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ }2 فالوحي أول ما أرى الله الأنبياء في منامهم.
قال الشافعي -رحمه الله- وغيره من العلماء: "رؤيا الأنبياء وحي لقول ابن إبراهيم لما أُمِرَ أبوه في المنام بذبحه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } 3 ".
أ نواع تكليم الله تعالى لأنبيائه
وأما الكلام من وراء حجاب: فهو كما كلَّم الله موسى من وراء حجاب، وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب: أرنا الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله عز وجل آدم -عليه السلام-، فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له أبونا آدم: نعم، فقال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلَّمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: فمن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم" 4 إلخ الحديث.
وأما الكلام بالرسالة: فهو إرسال الروح الأمين إلى من شاء من عباده، قال الله –تعالى-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 5 والأحاديث في ذلك كثيرة.
قال البيهقي: وقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم هذه الأنواع الثلاثة:
أما الرسالة: فقد كان جبريل يأتيه بها من عند الله عز وجل.
وأما الرؤيا في المنام: فقد قال الله –تعالى-: {قَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 6.
وأما التكليم: فقد قال الله عز وجل {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 7 ثم كان فيما أوحى
ـــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3409" وتفسير القرآن "4738" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660".
2 سورة الشورى آية: 51.
3 سورة الصافات آية: 102: 104 .
4 أبو داود: السنة "4702".
5 سورة الشعراء آية: 192.
6 سورة الفتح آية: 27.
7 سورة النجم آية: 10.(3/698)
إليه ليلة المعراج خمسين صلاة، فلم يزل يسأل ربه التخفيف لأمته حتى صارت إلى خمس صلوات، وقال له ربه: "ما يبدل القول لدي " وهي بخمسين صلاة" 1.
مذاهب الفرق في رؤية الله تعالى وعلوه
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قلنا يا رسول الله: هل نرى ربنا -جل ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي منادٍ: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون" 2 فذكر الحديث، قال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه؛ فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا" 3.
وقال صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس لا تُضَامُّون في رؤيتها" 4.
فأما أهل الحديث والسنة المحضة فإنهم متفقون على إثبات العلو والمباينة والرؤية، والمعتزلة ينفونها، واختلف الأشعرية في العلو واتفقوا على الرؤية بلا مقابلة.
قال ابن القيم: من أثبت أحدهما، ونفى الآخر فهو أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما؛ لأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو والرؤية أعظم من أن تنحصر، وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية، وإنما يزعمون أن عندهم أدلة عقلية.
فقول الأشعرية المتناقضين في العلو خير من قول المعتزلة النافين للرؤية والعلو، وذلك أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا هو داخل العالم، ولا هو خارجه، ولا ترفع الأيدي إليه، ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا إمام، كانت الفِطَرُ تنكر ذلك، والعقول الصحيحة؛ لأنه لو قيل لك: صف شيئا بالعدم لما قلت أكثر من ذلك كما قاله الحافظ الذهبي.
ـــــــ
1 البخاري: الصلاة "349" , والترمذي: الصلاة "213" , والنسائي: الصلاة "449 ,450" , وأحمد "3/161".
2 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/16".
3 البخاري: التوحيد "7440".
4 البخاري: التوحيد "7436" , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "633" , والترمذي: صفة الجنة "2551" , وأبو داود: السنة "4729" , وابن ماجه: المقدمة "177" , وأحمد "4/360 ,4/362 ,4/365".(3/699)
الأدلة على رؤية الله تعالى
قوله تعالى لن تراني
وقد تمسَّك مَنْ نفى الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بقوله : {لَنْ تَرَانِي} 1 وقال: "لن" تكون لتأييد النفي ودوامه، والمعتزلة لا يشهد لهم بذلك كتاب ولا سنة، وما قالوه في أن "لن" للتأبيد خطأ بيِّن، وليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة والعربية.
ويدل على ذلك قوله –تعالى- في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 2 مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة، ويدل عليه قوله –تعالى-: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } 3. وقوله {ياليتها كانت القاضية}
وقد اتفق على الرؤية الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المهوكون والفرعونيون المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، وعن حبل الله منقطعون، ولكل عدو لله ورسوله ولأمته مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال شيعة اللعين، وقد قال –تعالى-: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} 4.
فبيان الدلالة من هذه الآية على الرؤية من وجوه عديدة:
"أحدها": أنه لا يظن بكليم الرحمن أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل ذلك من أبطل الباطل، وأعظم المحال، فيالله العجب كيف صار اتباع الصابئة والمجوس والمشركين وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بما يجب لله، ويستحيل عليه، وأشد تنزيها له من رسوله وكليمه؟!
"الوجه الثاني": أن الله –سبحانه- لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالا لأنكره عليه؛ ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى لم ينكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه أن ينزل مائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولما سأل
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 143.
2 سورة البقرة آية: 95.
3 سورة الحاقة آية: 27.
4 سورة الأعراف آية: 143.(3/700)
نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1 .
"الوجه الثالث" أنه أجابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي} 2 ولم يقل: إني لا أرى، ولا: إني لست بمرئي، أو: لا تجوز رؤيتي، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، وهذا يدل على أنه –سبحانه- مرئي، ولكن موسى لا تحمل قواه رؤيته في هذا الدار، لضعف قوة البشر عن رؤيته –تعالى-. يوضحه:
{الوجه الرابع" وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 3 فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت، لتجليه له في هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف، الذي خلق من ضعف؟
"الوجه الخامس" أن الله -سبحانه- قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته.
"الوجه السادس" قوله: {لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} 4 وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته -تبارك وتعالى- فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويريهم نفسه؟ فأعلم –سبحانه- موسى –عليه السلام- أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
"الوجه السابع" أن الله -سبحانه- قد كلمه منه إليه، وخاطبه وناجاه وناداه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وسمع كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم.
وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين فأنكروا أن يكلم الله أحدا أو يراه
ـــــــ
1 سورة هود آية: 46 ، 47 .
2 سورة الأعراف آية: 143.
3 سورة الأعراف آية: 143.
4 سورة الأعراف آية: 143.(3/701)
أحد، ولهذا سأله موسى النظر إليه لما أسمعه كلامه، وعلم نبي الله جواز رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، ولم يخبر -سبحانه- باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجليه.
وأما قوله: {لَنْ تَرَانِي} 1 فإنما يدل على النفي في المستقبل، ولا يدل على دوامه، ولو قيد بالتأبيد فكيف إذا أطلق كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 2 مع قوله :{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 3.
قوله تعالى واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه
والدليل الثاني قوله -تعالى -: {اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} 4 وقوله -تعالى-: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 5 وقوله -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 6 وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} 7.
وأجمع أهل اللسان أن اللقاء متى نُسِب إلى الحي السليم من العَمى والمانع اقتضى المعاينةَ والرؤيةَ، ولا ينتقض هذا بقوله -تعالى-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} 8.
فقد دلت الأحاديث الصحيحة والصريحة على أن المنافقين يرونه في عرصات القيامة، بل والكفار أيضا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة.
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة:
"أحدها": أنه لا يراه إلا المؤمنون.
"والثاني": يراه المؤمن والمنافق.
"والثالث": يراه جميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكلمه لهم، ولشيخ الإسلام في ذلك مصنف مفرد، حكى فيه الأقوال الثلاثة، وحجج أصحابها.
وكذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} 9 إن عاد الضمير على العمل فهو رؤيته في الكتاب مسطورا، وإن عاد على الرب –تعالى- فهو لقاؤه الذي وعد به.
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 143.
2 سورة البقرة آية: 95.
3 سورة الزخرف آية: 77.
4 سورة البقرة آية: 223.
5 سورة الأحزاب آية: 44.
6 سورة الكهف آية: 110.
7 سورة البقرة آية: 46.
8 سورة التوبة آية: 77.
9 سورة النشقاق آية: 6.(3/702)
قوله تعالى والله يدعوا إلى دار السلام
"والدليل الثالث" قوله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، وكذلك فسرها الذي أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده.
كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه قال: قرأ صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2 ثم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويخرجنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة" 3.
وروى الحسن عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "{للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى} وهي: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله -تعالى-".
وروى محمد بن جرير، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الزيادة النظر إلى وجه الرحمن" وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى الله عز وجل"4 وقال أبو بكر رضي الله عنه الزيادة هي النظر إلى وجه الله. وقال حذيفة رضي الله عنه هي النظر إلى وجه ربهم.
وقال أبو موسى الأشعري: هي النظر إلى وجه الرحمن، وقال وهو يخطب الناس في جامع البصرة:إن الله عز وجل يبعث ملكا إلى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ فينظرون إلى الحلي والحلل والأنهار والأزواج
ـــــــ
1 سورة يونس آية: 25 ، 26 .
2 سورة يونس آية: 26.
3 الترمذي: صفة الجنة "2552" وتفسير القرآن "3105" , وابن ماجه: المقدمة "187" , وأحمد "4/332 ,4/333 ,6/15".
4 الترمذي: صفة الجنة "2552" , وأحمد "6/15".(3/703)
المطهرة فيقولون: نعم قد أنجز الله ما وعدنا، ثم يقول الملك: هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ ثلاث مرات، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي لكم شيء؟ إن الله يقول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
وقال ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما-: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والقتر السواد.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد: "الحسنى" الجنة، "والزيادة": النظر إلى وجه الله.
ولما عطف –سبحانه وتعالى- الزيادة على الحسنى التي هي الجنة، دل على أنها أمر آخر وراء الجنة، وقدر زائد عليها، ومن فسر الزيادة بالمغفرة والرضوان فهو من لوازم رؤية الرب -تبارك وتعالى-.
قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم
والدليل الرابع: قوله -تعالى-: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1.
ووجه الاستدلال بها أنه -سبحانه- جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ويسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه، وقد احتج بهذه الحجة الإمام الشافعي وغيره من الأئمة، فذكره الطبراني وغيره عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 2 قال: فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة .
وقال الحاكم: حدثنا الأصم، حدثنا الربيع، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
ـــــــ
1 سورة المطففين آية:14 ، 15 .
2 سورة المطففين آية: 15.(3/704)
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1
قال: لما حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضاء.
قوله تعالى { لهم ما يشاءون فيها}
"والدليل الخامس": قوله عز وجل {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 2 قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
قوله تعالى لا تدركه الأبصار
"والدليل السادس": قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 3 والاستدلال بهذه الآية عجيب فإنه من أدلة نفاة الرؤية، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية وجه الاستدلال بها أحسن تقرير، وقال: لا يحتج مبطل بآية، أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله.
فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإنه -سبحانه- ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يتمدح به.
وإنما يمدح الرب -تعالى- بالعدم إذا تضمن أمرا وجوديا، كتمدحه –سبحانه وتعالى- بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته، وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغنائه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 4 أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدحا ولا كمالا لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف الذي لا يرى، ولا
ـــــــ
1 سورة المطففين آية: 15.
2 سورة ق آية: 35.
3 سورة الأنعام آية: 103.
4 سورة الأنعام آية: 103.(3/705)
تدركه الأبصار.والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بأمر يشاركه فيه العدم المحض، فالمعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} 1 أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 2 أنه كامل القدرة. وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 3 أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 4 أنه كامل القيومية.
وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 5 يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث لا يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا} 6 فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم إنا لمدركون: لمرئيون.
فإن موسى –عليه السلام- نفى إدراكهم إياهم بقوله: "كلا" فأخبر الله -سبحانه- أنه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} 7 فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب -تعالى- يرى ولا يدرك، كما يعلم، ولا يحاط به، وهذا الذي فهمه الصحابة والأئمة.
قال ابن عباس: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 8 لا تحيط به الأبصار، فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانا، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به، وهكذا يسمع كلامه من يشاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وكذلك يعلم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه.
ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 9 وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وهكذا جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثل له، وليس له نظير ولا شبيه، أنه قد تميز عن الناس بأوصاف
ـــــــ
1 سورة يونس آية: 61.
2 سورة ق آية: 38.
3 سورة الكهف آية: 49.
4 سورة البقرة آية: 255.
5 سورة الأنعام آية: 103.
6 سورة الشعراء آية:61 ، 62 .
7 سورة طه آية: 77.
8 سورة الأنعام آية: 103.
9 سورة الشورى آية: 11.(3/706)
ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات، وبعد عن مشابهة أضرابه، فكيف بالحي القيوم الذي لا مثل له في ذاته وصفاته؟ فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته. وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 2 من أدل شيء على أنه يرى، ولا يدرك.
قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة
"والدليل السابع": قوله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 فأنت إذا أخرجت هذه الآية عن تحريفها عن موضوعها، والكذب على المتكلم بها -سبحانه- فيما أراد منها، وجدتها منادية نداء صريحا أن الله -سبحانه- يُرَى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون: تأويلا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك.
ولا يشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص، ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجد متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا.
وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلى، خلاف حقيقته وموضوعه -صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب -جل جلاله-.
فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته، وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} 4 وإن عدي ب في فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5 وإن عدي ب "إلى" فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 6 فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل النظر؟.
وكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} 7 قال "من البهاء والحسن"{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 8 قال "في وجه الله عز وجل".
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الأنعام آية: 103.
3 سورة القيامة آية:22 ، 23 .
4 سورة الحديد آية: 13.
5 سورة الأعراف آية: 185.
6 سورة الأنعام آية: 99.
7 سورة القيامة آية: 22.
8 سورة القيامة آية: 23.(3/707)
فاسمع أيها الإنسان تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث الدالة على الرؤية متواترة رواها عنه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله، وصهيب، وعبد الله بن مسعود، وعلي ابن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وحديثه موقوف، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في مظانها.
قوله تعالى وهو معكم
وقوله -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وهذه الآية من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم فاعلون، ويراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا، فهذا معنى كونه -سبحانه- معهم أينما كانوا. انتهى كلام ابن القيم.
قال الحافظ الذهبي في قوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 هو كما إذا كتبت إلى رجل: إني معك، وأنت غائب عنه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمر، وصفوان بن أمية؛ كانوا يوما يتحدثون، فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض، وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل.
والمراد من قوله -تعالى-: {مَعَكُمْ} 3 كونه -تعالى- عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وإعلانهم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه"العرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
ـــــــ
1 سورة الحديد آية: 4.
2 سورة الحديد آية: 4.
3 سورة الحديد آية: 4.(3/708)
وعن زر عن عبد الله قال: ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم".
وقال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة -رحمه الله- فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع بأن الله -تعالى- في السماء.
وبلغنا عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب الفقه الأكبر قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء، أو في الأرض فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 ولكن قال: لا يدري العرش في السماء، أو في الأرض؟ فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. رواها صاحب الفاروق بإسناد عن أبي بكر بن يحيى عن الحكم.
وسمعت الفاسي الإمام تاج الدين عبد الخالق بن علوان، قال سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن أحمد المقدسي مؤلف المقنع يقول: بلغني عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء فقد كفر، وقال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات.
وروى أبو إسحاق المفسر قال: سئل الأوزاعي عن قوله -تعالى-: {ثم اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 قال هو على العرش كما وصف نفسه، وقد سأل الوليد بن مسلم الإمام أبا عمرو الأوزاعي عن أحاديث الصفات، فقال: أمروها كما جاءت
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة طه آية: 5.
3 سورة الحديد آية: 4.(3/709)
ومن كلام هذا الإمام عليك بآثار من سلف، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول.
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن مقاتل بن حيان في قوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قال: هو على عرشه وعلمه معهم.
وروى البيهقي بإسناده عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- في قوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} 2 قبل كل شيء {وَالآخِرُ} بعد كل شيء {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} أقرب من كل شيء، وأنه قريب بعلمه، وهو فوق عرشه، وسئل سفيان الثوري عن قوله عز وجل {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 3 قال علمه.
الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية: حدثني أبي، حدثنا شريح بن النعمان عن عبد الله بن نافع، قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه" ولهذا افتتح -سبحانه وتعالى- الآية بالعلم، واختتمها بالعلم بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} 4 وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5 كما قاله الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وقال تعالى: {َيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 7 وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 8 وقال فيما أخبر به عن عيسى -عليه السلام-: {عْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 9.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهقال: لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها؛ وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه. رواه البخاري في الصحيح عن حفص بن عمر، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعد، وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك مدح نفسه، وما أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش" 10.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه، وهو مرفوع فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي" 11 رواه مسلم
ـــــــ
1 سورة المجادلة آية: 7.
2 سورة الحديد آية: 3.
3 سورة الحديد آية: 4.
4 سورة البقرة آية: 77.
5 سورة البقرة آية: 29.
6 سورة آل عمران آية: 28.
7 سورة الأنعام آية: 54.
8 سورة طه آية: 41.
9 سورة المائدة آية: 116.
10 البخاري: تفسير القرآن "4634" , ومسلم: التوبة "2760" , والترمذي: الدعوات "3530" , وأحمد "1/381 ,1/425 ,1/436" , والدارمي: النكاح "2225".
11 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" والزهد "4295" , وأحمد "2/358".(3/710)
في الصحيح. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله -سبحانه- لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي"1 .
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التقى آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال آدم لموسى: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه" 2 الحديث رواه البخاري في الصحيح.
وعن الصلت بن محمد، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" 3 أخرجاه في الصحيح من وجه عن الأعمش.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله: "ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي فإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة، أو قال: في ملأ خير منه" 4.
وعن أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" 5 رواه مسلم في الصحيح.
وعن ابن عباس عن جويرية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها حين صلى الغداة، أو بعد ما صلى الغداة، وهي تذكر الله، ثم مر بها بعد ما ارتفع النهار، أو بعد ما انتصف النهار، وهي كذلك فقال لها: لقد قلت منذ وقفت عليك كلمات ثلاث مرات هن أكثر أو أرجح، أو أوزن مما كنت فيه منذ الغداة: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته" رواه مسلم في الصحيح.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 6 فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كذا
ـــــــ
1 البخاري: بدء الخلق "3194" , ومسلم: التوبة "2751" , والترمذي: الدعوات "3543" , وابن ماجه: المقدمة "189" , وأحمد "2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433".
2 البخاري: تفسير القرآن "4736" , ومسلم: القدر "2652" , والترمذي: القدر "2134" , وأبو داود: السنة "4701" , وابن ماجه: المقدمة "80" , وأحمد "2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464" , ومالك: الجامع "1660".
3 البخاري: التوحيد "7405 ,7505" , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2675" , والترمذي: الزهد "2388" والدعوات "3603" , وابن ماجه: الأدب "3822" , وأحمد "2/251 ,2/413 ,2/435 ,2/445 ,2/480 ,2/482 ,2/515 ,2/517 ,2/524 ,2/534".
4 أحمد "3/138".
5 مسلم: البر والصلة والآداب "2577".
6 سورة الزمر آية: 67.(3/711)
يمجد نفسه -جل وعز-: أنا الجبار أنا العزيز أنا المتكبر" 1 فرجف به المنبر حتى قلنا: ليخر به إلى الأرض.
وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 2 وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 3 وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 4 عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسيح الدجال ذكر بين ظهراني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية" 5 رواه البخاري في الصحيح.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بعث نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر" 6 وعن ابن عباس: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 7 قال: بعين الله -تبارك وتعالى-.
ساق الله وذات الله وما ورد في ذلك
وقال -تعالى-: {وْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} 8 عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قلنا يا رسول الله: أنرى ربنا -تعالى ذكره-؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحو؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم مع من كانوا يعبدون" 9.
فذكر الحديث، وقال فيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا "10.
قال وذكر الحديث رواه البخاري في الصحيح عن ابن بكير، ورواه عن آدم بن إياس عن الليث مختصرا. وقال في الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه" 11 ورواه مسلم عن عيسى بن حماد الليثي، كما رواه ابن بكير.
وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال -تعالى-:
ـــــــ
1 أحمد "2/72".
2 سورة طه آية: 39.
3 سورة الطور آية: 48.
4 سورة هود آية: 37.
5 البخاري: أحاديث الأنبياء "3440" , ومسلم: الإيمان "169" , وأحمد "2/27 ,2/126".
6 البخاري: الفتن "7131" , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2933" , والترمذي: الفتن "2245" , وأبو داود: الملاحم "4316" , وأحمد "3/103".
7 سورة هود آية: 37.
8 سورة القلم آية: 42 ، 43 .
9 ابن ماجه: المقدمة "179" , وأحمد "3/16".
10 البخاري: التوحيد "7440".
11 البخاري: تفسير القرآن "4919".(3/712)
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، التقوى ههنا، وأشار إلى صدره" 3 رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 4.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 5 هذا هو الصحيح المحفوظ فيما بين الحفاظ، فأما الجاري على ألسنة جماعة من أهل العلم وغيرهم: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. فهو مخالف للحديث الصحيح، ولقوله -تعالى-: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 6.
وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله قوله: {إني سقيم } ، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} ، وواحدة في شأن سارة: إنها أختي" 7 رواه البخاري في الصحيح عن معبد بن تليد عن ابن وهب، ورواه مسلم عن أبي الطاهر.
وعن ابن عباس قال: "تفكر في كل شيء ولا تفكر في ذات الله"، وعن أبي الدرداء: لا تفقه كل التفقه حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك فتكون لها أشد مقتا منك للناس، إلى غير هذا من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة التي يجب الإيمان بها، والعمل بمقتضاها من غير تحريف وتبديل وتشبيه وتعطيل، بل نثبت ما أثبت الله لنفسه، ونكل علمه إليه، ونقول:
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 129.
2 سورة آل عمران آية: 77.
3 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143" , وأحمد "2/284".
4 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وأحمد "2/539".
5 مسلم: البر والصلة والآداب "2564" , وابن ماجه: الزهد "4143".
6سورة التوبة آية: 105 .
7 البخاري: أحاديث الأنبياء "3358" , ومسلم: الفضائل "2371" , والترمذي: تفسير القرآن "3166" , وأبو داود: الطلاق "2212" , وأحمد "2/403".(3/713)
آمنا بالله على مراد الله، كما قاله خير القرون الذين هم بالله وصفاته عارفون من الخلفاء الراشدين، والصحابة، والتابعين، ومن على سننهم من أئمة المسلمين.
كما قال أبو المعالي الجويني إمام الحرمين: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، بل هم بين مشبه ومعطل، والطريق المخلص منهما طريق القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} 1 {لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2 واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 4 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
تأويل صفات الله وأفعاله يستلزم ظن السوء به
قال ابن القيم: من ظن أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحقائق المقصودة من كلامه –سبحانه وتعالى-، ورمز إليهم رموزا بعيدة، وأشار إليهم إشارة ملغزة، وصرح بالتشبيه والتمثيل والأمور الباطلة التي لا تجوز عليه، ولا تليق به.
وأراد من خلقه أن يبعثوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله المفهوم من ظاهره، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة شرعا وعقلا، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفته، وأسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينفي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في الاعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدي والبيان- فقد ظن به ظن السوء.
فإنه إن قيل: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن العجز بقدرته، وإن قيل: إنه قادر، ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5 .
2 سورة فاطر آية: 10 .
3 سورة الشورى آية: 11 .
4سورة طه آية: 110 .(3/714)
بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، وظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعبارتهم، وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام االمتهوكين الحائرين هو الهدى والحق، هذا من سوء الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية.
أنواع المبتدعين الظانين بالله ظن السوء
ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته -تعالى- إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أسفل كما هو أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل، كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وأن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم عليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم في حاجتهم إليه –سبحانه وتعالى-، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ا هـ.
وقال الحافظ الذهبي: وما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، وشاما، ويمنا يقولون: إن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما، وهكذا يقولون في جميع الصفات القدسية.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر مثل الشافعي وأحمد وغيرهم -رحمهم الله-، ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } 1 .
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.(3/715)
القرآن كلام الله غير مخلوق
وقال محمد بن أسلم الطوسي: القرآن كلام الله غير مخلوق أينما تلي، وحيثما كان لا يتغير، ولا يتبدل، ينقل من المصحف مائة مصحف، وذاك الأول لا يتحول في نفسه، ولا يتغير، وتلقن القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته، وذاك أن المكتوب والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد، وما في صدور المؤمنين هو عين ما في صدرك، والمتلو واحد، وإن تعدد التالون له، وهو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس هو كلامنا أصلا، وتكلمنا به، وتلاوتنا له من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له، وأصواتنا به من أعمالنا {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1.
فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا كلام الله ليس بمخلوق، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين، فالتلاوة إذ ذاك والمتلو ليسا بمخلوقين.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي ما تقول في الرجل يقول التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق؟.
وكان أبي يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء، أو يقال مخلوق، أو غير مخلوق كلام حسن، وإلا فالملفوظ كلام الله، والتلفظ به فمن كسبنا.
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه مختلف الحديث: نحن نقول في قول الله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 يعلم ما هم عليه كما إذا وجهت رجلا إلى بلد، وقلت له: احذر التقصير فإني معك، تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك، ولا يسوغ لأحد أن يقول: إنه -سبحانه- بكل مكان على الحلول فيه مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 ومع قوله: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 فكيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟.
ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه ذواتهم في معرفة الخالق لعلموا أن الله عز وجل هو العلي الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها أعجميها وعربيها تقول: إن الله في السماء ما تركت على فطرها.
ـــــــ
1 سورة الصافات آية: 96.
2 سورة المجادلة آية: 7.
3 سورة طه آية: 5.
4 سورة فاطر آية: 10.(3/716)
أقوال الأئمة في أخذ الصفات بلا تأويل ولا تمثيل
وقال ابن خزيمة : من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وكان إماما في الحديث، وإماما في الفقه.
وقال ابن سريج: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الألباب أن تصفه بغير ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عند جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآيات، والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين الإيمان بكل واحد منها كما ورد، وأن السؤال عن معانيها بدعة وكفر وزندقة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 2.
وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3 ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس، واليدين والوجه، والسمع والبصر والضحك والتعجب، والنزول إلى السماء الدنيا: اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن أن نقبلها، ولا نردها، ولا نتناولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية.
وسئل أبو جعفر الترمذي عن حديث نزول الرب فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فالنزول والكلام، والسمع والبصر، والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف.
وقال الطحاوي في العقيدة التي ألفها: " ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رضي الله عنهم-" نقول: في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله يتلى، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون حقا، وأيقنوا أنه كلام
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة البقرة آية: 210.
3 سورة الفجر آية: 22.(3/717)
الله بالحقيقة ليس بمخلوق، فمن سمعه وزعم أنه كلام البشر فقد كفر، والرؤية لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية.
وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد -سبحانه وتعالى-، ولا تثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عليه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصحيح الإيمان، ومن لم يَتَوَقَّ النفي والتشبيه زل، ولم يصب التنزيه، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق كما بين في كتابه، وهو مُسْتَغْنٍ عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه.
حكاية الأشعري لعقائد أهل السنة
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه: " اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين" فذكر فِرَق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، إلى أن ذكر مقالات أهل السنة، وأصحاب الحديث.
قال: قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله -تعالى- على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له يَدَيْن بلا كيف كما قال: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2 {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} 3 وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة.
وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، كما قال -تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 4 ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويؤمنون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر" 5 الحديث.
ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله -تعالى- يقرب من خلقه كيف شاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6.
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة النساء آية: 166.
3 سورة فاطر آية: 11.
4 سورة الإنسان آية: 30.
5 البخاري: الجمعة "1145" والدعوات "6321" والتوحيد "7494" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758" , والترمذي: الصلاة "446" والدعوات "3498" , وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" , وأحمد "2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/433 ,2/487 ,2/504 ,2/521 ,3/94" , ومالك: النداء للصلاة "496" , والدارمي: الصلاة "1478 ,1479 ,1484".
6 سورة ق آية: 16.(3/718)
إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب.
كلام الأشعري في علو الله تعالى
وذكر الأشعري في كتابه المذكور في "باب هل الباري -تعالى- في مكان دون مكان، أم ليس في مكان، أم في كل مكان؟" فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة:
"منها": قول أهل السنة وأصحاب الحديث: إنه ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَ} 2 وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 3 أي بعلمنا.
وقال فيه أيضا في باب الاستواء فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5.
وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 6 أكذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق سماواته.
وقال عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 7 فالسماوات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، فلولا أن الله -تعالى- فوق عرشه ما قال في حق ملائكته: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8 ولما فطر الخلق عند سؤاله على رفع الأيدي إلى السماء.
وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرووية: إن معنى "استوى" استولى وملك وقهر، بما يفيد التجدد والحدوث في الملك، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة ص آية: 75.
3 سورة القمر آية: 14.
4 سورة فاطر آية: 10.
5 سورة النساء آية: 158.
6 سورة غافر آية: 36 ، 37 .
7 سورة الملك آية: 16.
8 سورة النحل آية: 50.(3/719)
بل هو مستو ومالك وقاهر على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين خلقهم.
وقالوا: إنه في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة؛ لأنه قادر على كل شيء، وكيف يكون في كل مكان؟ ومنه الحشوش والحانات، والمزابل، وما أشبه ذلك من الأماكن المستقذرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يكون الله في شيء من ذلك، فبطل ما يقولونه بالنقل والعقل.
وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك فلا نطيل بذكرها فلتراجع في مظانها.
قول الإمام أحمد في عقيدة أهل السنة
وقال أحمد: جملة ما نقول أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله إله واحد في ذاته وصفاته، لا إله غيره، وإن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله -تعالى- مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 2 وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له عينا بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4. وأن من زعم أن اسم الله غيره كان جاهلا، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، وأنه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، وأنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كما جاءت الأحاديث، وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 6 إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء.
وقد أخذ أبو الحسن"الأشعري" عن الجبائي، ثم نابذه، ورد عليه، وصار متكلما بالسنة،
ـــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الرحمن آية: 27.
3 سورة المائدة آية: 64.
4 سورة القمر آية: 14.
5 سورة ق آية: 16.
6 سورة النجم آية:8 ، 9 .(3/720)
ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وقد نقل إجماعهم على ذلك وموافقتهم عليه، وكان يتوقد ذكاء، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وله أربع وستون سنة -رحمه الله-.
وقال علي بن خلف شيخ الحنابلة ببغداد: الكلام في الرب محدث وبدعة وضلالة، فلا يتكلم في الله إلا بما وصف به نفسه، ولا يقال في صفاته: لم؟ ولا كيف على عرشه استوى؟ وعلمه بكل مكان، والقرآن كلام الله وتنزيله، ونوره ليس بمخلوق.
اعتقاد أهل السنة في صفات الله
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في "كتاب الشريعة في السنة" في باب التحذير من مذهب الحلولية: فالذي ذهب إليه أهل العلم أن الله -تعالى- على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، ويرفع إليه أعمال العباد، فإن قيل: ما معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 1 قيل: علمه والله على عرشه، وعلمه محيط بهم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، هذا قول المسلمين.
وقال مالك -رحمه الله-: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، وقال أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي في كتابه: "المسمى اعتقاد أهل السنة" قال: اعلموا رحمكم الله أن مذهب أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما نطق به كتاب الله، وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعدل عما وردا به، ويعتقدون أن الله -تعالى- مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان بلا كيف، واستوى على عرشه، وأحاط بكل شيء علما.
وقال الإمام محمد الهروي 2 صاحب التهذيب: الله -تعالى-على العرش، ويجوز
ـــــــ
1 سورة المجادلة آية: 7.
2 كذا في الأصل ولعله أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.(3/721)
أن يقال في المجاز: هو في السماء لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1.
وقال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب "مشكل الآثار" له في باب قوله -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2: اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب، استويت على ظهر الدابة، واستويت على سطح الدار، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي.
فالقديم -جل جلاله وتعالت عظمته- عال على عرشه بذاته، بائن من مخلوقاته؛ لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3 وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 4 وقوله : {عْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5.
الرد على من أول الاستواء بالاستيلاء
وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق إذا استولى عليها.
"فالجواب": أن الاستواء هنا ليس بمعنى الاستيلاء، لأن الله مستول على العرش، وعلى جميع مخلوقاته من حين أوجدهم كما هو المعلوم من الدين بالضرورة، فلا معنى حينئذ لتخصيص العرش بالاستيلاء عليه من دون سائر خلقه، فبان بذلك بطلان قوله، وكذلك أيضا الاستواء هنا ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى إذا تمكن من بعد أن لم يكن متمكنا، والبارىء عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار، وما عليه الصحابة والتابعون، وتابعوهم وأئمة المسلمين من المجتهدين والمقلدين، وبالله المستعان، وعليه التكلان.
وفيما ذكر كفاية لمن له أدنى دراية، وبالله التوفيق إلى سواء الطريق، وحسبنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــ
1 سورة الملك آية: 16.
2 سورة طه آية: 5.
3 سورة الملك آية: 16.
4 سورة آل عمران آية: 55.
5 سورة المعارج آية: 4.(3/722)
رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم
...
رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم
وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآية.
لم يذكر اسم مؤلفها، والأسلوب يدل على أنه من المحققي
وفيها نقول كثيرة عن العلامة المحقق ابن القيم من كتاب الروح
رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم
الأحاديث في أخذ ذرية آدم من ظهره
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه لما سيودعه من الحكم والأسرار، حيث خلقه بيده وسواه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه، وقدره عليه، ليكون مصيره ومنتهاه إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله.
أما بعد: فقد قال الله -سبحانه-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.
"اعلم"- رحمك الله تعالى- بأنه –سبحانه وتعالى- لما ذكر قصة موسى -عليه السلام- ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين.
واختلف العلماء في تفسيرها فقال بعضهم محتجا بما رواه مسلم بن يسار الجهني: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنهسئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون.فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 172: 174 .(3/724)
العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا على شرط مسلم.
وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن زيد بن أسلم، عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم قال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه: فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال الله -تعالى-: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطيء فخطئت ذريته"وهذا على شرط مسلم، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم"2 وزاد محمد بن سعد:ثم أكمل الله له ألف سنة، ولداود مائة سنة.
وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي} 3 الآية قال: جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، واستنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } 4.
قال الله -تعالى-: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}5 لم نعلم، أو تقولوا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 6 فلا تشركوا بي شيئا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم
ـــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".
2 أحمد "1/251".
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة الأعراف آية: 172.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 سورة الأعراف آية: 172.(3/725)
عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد إنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج.
وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 1 وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ}2 وذلك قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} 3 وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 4 وهو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} 5.
كان في علمه بما أقروا به من يكذب به، ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} 6 إلى قوله :?{قْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ} 7 قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى -عليه السلام-، قال أبو جعفر: فحدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: "دخل من فيها" وهذا إسناد صحيح.
الآثار في أخذ ذرية آدم من ظهره
وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: "يا رسول الله: تبتدأ الأعمال أم قضي القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة مُيَسَّرُون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار".
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه"قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له: يا آدم أيّ يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، -وكلتا يدي ربي يمين- فبسط يمينه، وإذا فيه ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء
ـــــــ
1 سورة الأحزاب آية: 7.
2 سورة الروم آية: 30.
3 سورة النجم آية: 56.
4 سورة الأعراف آية: 102.
5 سورة يونس آية: 74.
6 سورة مريم آية: 16 ، 17 .
7 سورة مريم آية:22 ، 23 .(3/726)
على هيئاتهم، فقال: ألا عافيتهم كلهم؟ فقال: أحب أن أشكر".
وروى محمد بن نصر بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال: بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يديك يمين- فبسطها فإذا فيها ذريته؟ فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك إلى يوم القيامة".
وروى أيضا ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" 1.
وحدث ابن إسحاق، عن عمرو بن زرارة بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 الآية. قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وهو ينظر بنعمان- هذا الذي بإزاء عرفة- وأخذ ميثاقهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 3.
ورواه أبو حمزة الضبعي ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو صالح، وغيرهم عن ابن عباس.
وقال ابن إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.
وحدثنا حجاج عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الله -تعالى- حين خلق آدم ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره من بني آدم كلهم، وشهدهم على أنفسهم، فآمنوا، وصدقوا، وعرفوا، وأقروا.
وعنه رضي الله عنهأنآدم أبصر في ذريته قوما لهم نور، فقال: يا رب من هم؟
ـــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن "3076".
2 سورة الأعراف آية: 172.
3 سورة الأعراف آية: 172.(3/727)
فقال الأنبياء: ورأى واحدا هو أشدهم نورا فقال: من هو؟ فقال: داود، قال: كم عمره؟ فقال: ستون سنة، فقال: هو قليل، وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست وهبته من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأهب لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها.
تفسير وإذ أخذ ربك من بني آدم بالأحاديث الواردة
وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيض كهيئة الذر، ثم جانبه الأيسر، فخرج منه ذرية سود كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}1 فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم قرأ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} 2 ثم أعادهم جميعا في صلب آدم. فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء.
وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3 وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي، وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، وأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا النار، ولا أبالي.
فذلك حيث يقول: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على جهة
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الواقعة آية:8 ، 9 .
3 سورة الأعراف آية: 102.(3/728)
التقية، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1 أو تقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فليس أحد من بني آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فذلك قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 3 وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 4 وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5.
يعني يوم أخذ عليهم الميثاق -سبحانه وتعالى- صور النسم، وقدر خلقها، وأجلها، وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له كما قال أبو محمد بن حزم.
نعم الرب -سبحانه- يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه -سبحانه وتعالى- في جميع مخلوقاته، قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات، ثم أبرزها في الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص عنه.
وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، فلا تناقض حينئذ بين الآية والأحاديث؛ لأن ما في الآية لا ينافي المسح على ظهر آدم، ولا في الأحاديث ما ينفي خروج الذرية من ظهور بني آدم، وإنما سبقت الآية ببيان ما وقع من أخذ الميثاق، وبروز الذرية من ظهور بني آدم، وهذا لا يخالف ما في الأحاديث المذكورة من أن الله -تعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فإن الذرية المستخرجة من ظهور بني آدم هي بواسطة مسح ظهر أبيهم، فخرج من ظهره ذرية بلا واسطة، وخرج من ظهور ذريته ذرياتهم بواسطة مسح ظهر أبيهم، ويصدق عليهم جميعا أنهم استخرجوا من ظهر آدم بواسطة، وبلا واسطة، وهكذا حكم كل فرع مع أصله.
فالآية الكريمة فصلت ما أجملته الأحاديث من الإخراج، وبينت كيفيته، وبينت الأحاديث أن أخذ الذرية من ظهور بني آدم بواسطة مسح ظهر أبيهم،
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 173.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة آل عمران آية: 83.
5 سورة الأنعام آية: 149.(3/729)
حتى خرج منه من علم الله بروزه إلى عالم الكون والفساد، وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، وليس فيها نفي ما تضمنته الآية من خروج الذرية من ظهور بني آدم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى-.
تفسير آية وإذ أخذ ربك من بني آدم بأنها ليست بمعنى الأحاديث الواردة
ونازع هؤلاء البعض الآخر في كون هذا معنى الآية، وقالوا: معنى قوله -تعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 أي أخرجهم، وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنع ربه ما شهد على أنه بارئه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك، ودعاهم كل ما يرون، ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع من كتابه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 2 يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقال: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد قد عرفته، وكأن جوارحي لو أشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت.
ومن هذا الباب أيضا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}3 يريد أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم، كما قاله ابن الأنباري.
وزاد الجرجاني- بيانا لهذا القول- فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق، ونفذ علمه فيهم بما هو كائن مما لم يكن بعد صار ما هو كائن كالكائن، إذ علمه بكونه واقعا غير كونه واقعا في مجاري العربية، فساغ أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} 4 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}5 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 6 قال: فيكون تأويل قوله: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وإذ يأخذ ربك.
وكذلك قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة التوبة آية: 17.
3 سورة آل عمران آية: 18.
4 سورة الأعراف آية: 50.
5 سورة الأعراف آية: 44.
6 سورة الأعراف آية: 48.(3/730)
أَنْفُسِهِمْ}
أي ويشهدون بما رُكِّبَ فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل مولود بلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله -تعالى- أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على وجوده، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1.
وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم، إلا إذا حزبه أمر فزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بأصبعه علما منه بأن خالقه فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق.
وجائز أن يقال له: قد أقر، وأذعن، واستسلم، إذ جعل فيه السبب والآلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، كما قال عز وجل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 2.
عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال من المجاز
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه"3 وقوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 4.
والأمانة ههنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب في هذا المعنى ضروب نظم فمنها قوله:
ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لا يأتلي
والقنان: جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه لهم أنهم كانوا إذا جرى بهم أمر من هزيمة، أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة:
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الرعد آية: 15.
3 أبو داود: الحدود "4403" , وأحمد "1/116 ,1/118 ,1/140 ,1/154 ,1/158".
4 سورة الأحزاب آية: 72.(3/731)
كاجارن الجولان من هلك ربه ... وحوران منها خاشع متضائل 1
وأجارن الجولان جبالها، وحوران الأرض التي إلى جانبها.
قال إن في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين َأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل علم أن هذا الأخذ للعهد عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3.
والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عن يوم القيامة، أو عن أخذه الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر -سبحانه- في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط.
أخذ ميثاق النبيين كأخذ العهد على ذرية آدم
فأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم- كما قال المخالف- فهم لم يبلغوا بعد أخذ الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه، فيجحدونه، وينكرونه. فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز، ولا يكون محالا.
وقوله: {تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 4 فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم، أو من آبائهم، فإن كان منهم، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم، فالأمة مجمعة على {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5 كما قال الله عز وجل.
وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم، وأخرج منه ذرية، وأخذ عليهم العهد" 6 ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اقتص قول الله عز وجل فجاء بمثل
ـــــــ
1 كذا في الأصل، والبيت يرثي به النابغة أبا حجر الغساني. وهو في التاج هكذا: بكى حارث الجولان من فقد ربه... إلخ، ويروى من هلك ربه. كما هنا. والحارث قلة من قلاته والجولان: جبل بالشام.
2 سورة الأعراف آية:172 ، 173 .
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة الأعراف آية: 173.
5 سورة النجم آية: 38.
6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".(3/732)
نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، وهذا شبيه قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}1 فجعل -سبحانه- ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}ثم قال للأمم: " َأقْرَرْتُمْ وأخذتم إصري؟ قالوا أقررنا قال فأشدوا وأنا معكم من الشاهدين "
فجعل -سبحانه- بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم إقرارا منهم.
الآيات في أخذ العهد والميثاق على بني آدم
وشبيه به أيضا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 2 فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله -تعالى-: {لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3 وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وََأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله.
ومثله قوله -تعالى- لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 5 ومثله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظا} 7 فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم.
وهذا الميثاق الذي لعن الله -سبحانه- من نقضه، وعاقبه بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 8 فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 9.
ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سور مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق.
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية: 81.
2 سورة المائدة آية: 7.
3 سورة الرعد آية: 20.
4 سورة يس آية: 60.
5 سورة البقرة آية: 40.
6 سورة آل عمران آية: 187.
7 سورة الأحزاب آية: 7.
8 سورة المائدة آية: 13.
9 سورة البقرة آية: 63.(3/733)
فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله.
ولما كانت آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام بجميع المكلفين بالإقرار بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وتنقطع به المعذرة، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:
"أحدها" أنه قال -سبحانه وتعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 1 ولم يقل: من آدم، وبنو آدم غير آدم.
"الثاني" أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ } 2 ولم يقل من ظهره، وليس لآدم إلا ظهر، وهذا بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
"الثالث" أنه قال: {ُرِّيَّتَهُمْ }3 بصيغة الجمع، ولم يقل من ذريته، وهو مفرد 4.
"الرابع " أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 5 أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون شاهدا ذاكرا لما يشهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادته قبلها.
"الخامس" {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطر التي فطروا عليها كما قال -تعالى-: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6.
"السادس" تذكيرهم بذلك؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 172.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 في قراءة حفص المشهورة "ذريتهم" والمفرد المضاف إلى الجمع يفيد العموم.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 سورة النساء آية: 165.(3/734)
غَافِلِينَ} 1.
ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
"السابع" قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد:
"إحداهما" أن لا يدعوا الغفلة.
"والثانية" أن لا يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.
"الثامن" أنه -سبحانه وتعالى- أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير هذا الموضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 أي فكيف يعرضون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم؟ وهذا كثير في القرآن.
فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 فالله -سبحانه وتعالى- ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم بإقرار سابق على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجة.
"التاسع" قوله -تعالى-: {فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 5 أي لو عذبهم لجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما يكونون عليه، وقد أخبر -سبحانه- بأنه لم يكن {لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 6 وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.
"العاشر" أنه جعل هذا آية وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب -تعالى- فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزم للعلم به فقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} 7 أي مثل
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 173.
3 سورة الزخرف آية: 87.
4 سورة إبراهيم آية: 10.
5 سورة الأعراف آية: 173.
6 سورة هود آية: 117.
7 سورة الأعراف آية: 174.(3/735)
هذا التفصيل والتبيين، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1 من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان.
الجمع بين آية أخذ الميثاق وحديث "إن الله مسح ظهر آدم"
وهذه الآيات التي فصلها، وبينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب -تبارك وتعالى- مما يدل على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله والمعاد والقيامة، ومن أثبتها ما أشهد به كل أحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون محدثا بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة.
وهذه الآية وهي قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم مطابقة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة " 3 ولقوله -تعالى-: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.
وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه؛ لأنه عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 5 لم يذكر آدم في القصة، إنما هو ههنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولاده، وفي الحديث: "أنه مسح ظهر آدم" 6 فلا يمكن رد ما جاء في القرآن، وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.
قال الجرجاني: وأنا أقول ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وإليه أقبل، وبه آنس.
قال ابن القيم: وفيما ادعيتموه من التفاوت بين الآية والخبر لاختلاف ألفاظهما نظر لأن الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم" أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكرها الله في كتابه، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الزيادة
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 174.
2 سورة الشورى آية: 11.
3 البخاري: الجنائز "1385" , ومسلم: القدر "2658" , وأبو داود: السنة "4714" , وأحمد "2/233 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410" , ومالك: الجنائز "569".
4 سورة الروم آية: 30.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".(3/736)
التي أخبر بها فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة.
وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى شيء واحد، لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم، فذكره مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار.
فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة، فإن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت في هذه الأحوال. فقوله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته "2 فمرجعهما إلى جوهر واحد وهو آدم، ومنه تدرجت الذرية إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "مسح ظهر آدم" زيادة في الخبر عن الله عز وجل ومسح ظهر آدم مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- بذلك إلى أن قال ابن القيم رحمه الله-: وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال -تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} .
فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله "خاضعين" للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات. ومنه قول الشاعر:
ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من ادم
فالصدر مذكر. وقوله: شرقت أنث لإضافة الصدر إلى القناة 3.
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 الترمذي: تفسير القرآن "3075" , وأبو داود: السنة "4703" , وأحمد "1/44" , ومالك: الجامع "1661".
3 إلى هنا كلام ابن القيم -رحمه الله- وأوله "ونازع هؤلاء البعض الأخرون".(3/737)
وقال أصحاب النظر وأرباب المعقولات: إنه -تعالى- أخرج الذرية، وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله -تعالى- من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، حتى جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا مرضيا.ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وخزائن صنعه وقت الإشهاد حتى صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان.
ولذلك نظائر منها قوله -تعالى -:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1 ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.
وقالت العرب: امتلأ الحوض وقال قطني، فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب، فوجب حمل الكلام عليه.
هذا ما اطلعت عليه من كلام السلف والخلف في الآية والحديث، ومحصل الفائدة منهما {ثبوت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم بالمعرفة له، والإيمان به، بقوله -تعالى -:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 3
وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها لهم في أنفسهم، وفي العالم، وبإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والأمثال المنقولة إليهم أخبارها، ولا يطالب -سبحانه وتعالى- أحدا بشيء من الطاعة، إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيه من القدرة، وبين -سبحانه- ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أننا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}" 4 5.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
"تمت"
ـــــــ
1سورة فصلت آية: 11.
2سورة النحل آية: 40 .
3سورة الأعراف آية: 172 .
4سورة الأعراف آية: 54 .
5 ما بين العلامتين "" من كلام ابن القيم في الروح.(3/738)
مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين
...
مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والصلح
من تأليف الفاضل المحقق الشيخ حسن بن حسين من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
مسائل وفتاوى في فروع فقهية
تداخل الطهارة الصغرى في الكبرى
بسم الله الرحمن الر حيم
من حسن بن حسين إلى الأخ الفالح والمحب الصالح عبد الرحمن بن محمد لا زال علمه يزداد ويتجدد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط المصحوب بالصحيفة، المشتملة على سؤالاتكم اللطيفة، وصل -وصلكم الله عز وجل-، وتلقينا الأسئلة بالترحاب، ووافيناها فورا بالجواب، طلبا لمستطاب الثواب، ورجاء لدعوات نافعة في المآب.
قال السائل -كثر الله تعالى فوائده-:
"المسألة الأولى": رجل عليه موجب للغسل فنوى بطهارته رفع الحدث الأكبر فقط، هل يرتفع الأصغر، وتتداخل الأحداث بعضها في بعض أم لا؟.
"الجواب": إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي، وما كان من جنسه ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع أحد الحدثين فيرتفعان معا بنية رفع أحدهما بالغسل؛ لتداخلهما وتساويهما موجبا وحكما. وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، أو نوى الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل. ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنزلة العضو الواحد.
وأما الحدث الأصغر فلا يرتفع بنية الأكبر فقط؛ لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل. هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها:
والغسل للكبرى فقط لا يرفع ... صغرى وإن نوى فعنه يرفع(3/740)
قال في شرحه: أي وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى أي رفع الحدث الأكبر لم يرتفع حدثه الأصغر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" 1 وهذا لم ينو الوضوء،هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم ا ه.
وحكى في "الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" عن الأزجي، وأبي العباس ابن تيمية أن الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات لاندراج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه.
ومبنى الطهارات على التداخل فماهية الأصغر انعدمت بانعدام جزئها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر، أو تأخر عنه، وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج؟.
وعن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يغتسل من الجنابة. يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم.
واستأنسوا- أعني القائلين بدخوله في الأكبر- بحديث جابر بن عبد الله أن أهل الطائف قالوا: "يا رسول الله: إن أرضنا باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا" 2 وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"3 أو قال: "فإذا أنت قد طهرت" 4 رواهما مسلم.
لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة، وعلى المذهب فقد حصر مُحَشِّي "المنتهى" الشيخُ عثمان صورَ نية رفع الحدث الأكبر في ست فقال: نية رفع الحدث الأكبر. نية رفع الحدثين. نية رفع الحدث وتطلق. نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا. نية ما يسن له الغسل ناسيا للغسل الواجب. ففي هذه الصور كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، ثم ذكر أنها تأتي في الأصغر أيضا وزيادة، ولا حاجة لذكرها هنا؛ لأنها ليست من غرض السائل.
ـــــــ
1 البخاري: بدء الوحي "1" , ومسلم: الإمارة "1907" , والترمذي: فضائل الجهاد "1647" , والنسائي: الطهارة "75" والطلاق "3437" والأيمان والنذور "3794" , وأبو داود: الطلاق "2201" , وابن ماجه: الزهد "4227" , وأحمد "1/25 ,1/43".
2 البخاري: الغسل "254" , ومسلم: الحيض "327" , والنسائي: الطهارة "250" والغسل والتيمم "425" , وأبو داود: الطهارة "239" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "575" , وأحمد "4/85".
3 مسلم: الحيض "330" , والترمذي: الطهارة "105" , والنسائي: الطهارة "241" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".
4 الترمذي: الطهارة "105" , وأبو داود: الطهارة "251" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".(3/741)
غسل من عليه الحدث الأكبر يديه بنية القيام من النوم
"المسألة الثانية": إذا غسل يديه من عليه الحدث الأكبر بنية القيام من نوم الليل، هل يرتفع الحدث عنهما بتلك النية أم لا بد من التخصيص بالنية أو بالفعل أو بهما؟
"الجواب" إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات عن أحمد في هذه المسألة واشترطنا النية لغسلهما كما هو المقطوع به عندهم فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكون وجوب غسلهما منه تعبديا غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما وغسلهما لمعنى فيهما لا كما يقوله بعضهم، وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة.
"تنبيه" غمس الشمال في هذا كغمس اليمين ولا فرق لأنه مفرد مضاف فيعم كقوله -عليه السلام- "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى" 1 صرح به في قوله "فإن التراب لهما طهور" وقوله في رواية مسلم " فنفض بيده" والمراد بيديه كما في المتفق عليه.
قال أبو الحسن ابن اللحام في القواعد الأصولية: المفرد المضاف يعم، هذا مذهبنا ونص عليه إمامنا تبعا لعلي وابن عباس.
وقال بدر الدين بن عبد الهادي في كتابه: غاية السول في الأصول المفرد المضاف يعم.
قال ابن القيم في البدائع: وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 2 وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 3 والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم انتهى.
"قلت" ويستفاد أيضا من قوله -تعالى-: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 4.
ـــــــ
1 أبو داود: الطهارة "385".
2 سورة التحريم آية: 12.
3 سورة الجاثية آية: 29.
4 سورة الحاقة آية: 10.(3/742)
قال ابن كثير: وليس رسولهم واحداً، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" والمراد جميع عمارهن سوى الله -سبحانه-. ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة واللغة فلا نطول باستقصائه إذ المقام مقام اختصار. والغرض التفطن لهذه القاعدة المهمة.
غمس اليدين في الماء بعد غسلهما بنية رفع الحدث
"المسألة الثالثة" إذا غسلهما بنية رفع الحدث فهل يؤثر غمسهما في الماء بعد الغسل أم لا؟
"الجواب" إذا فرعنا على القول الذي ذكرناه أولا فإن غسلهما والحالة هذه يؤثر في الماء فسادا. قال في "شرح المفردات": ولا يكفي نية الغسل عن نية غسلهما انتهى، وكذا قال غيره من متأخري الأصحاب لما تقدم من أنها طهارة مفردة.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختارها من أصحابه الخرقي والموفق وأبو البركات ابن تيمية وابن أبي عمر في شرح المقنع وجزم به في الوجيز وفاقا لأكثر الفقهاء.
قال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وأما الحديث 1 فمحمول على التنزيه. انتهى.
تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة
"المسألة الرابعة" هل يظهر لكم دليل للأصحاب في اشتراطهم تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة أم لا؟
"الجواب" دليلهم القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل. والقياس إذا صح فهو أحد الأدلة الخمسة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب
ـــــــ
1 وهو "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا".(3/743)
فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب، وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعا انتهى، فالتحق بالأصول الأربعة.
وقد عرفوا القياس اصطلاحا بأنه حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى، قال أبو العباس ابن تيمية: لا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة انتهى.
فينظر في قياسهم الجبيرة على الخف ونحوه، هل هو صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه فيصح دليلا أم لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارات أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة، ولو ذهبنا ننقلها في هذا الموضع لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم.
إذا علمت ذلك فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط هو إحدى الروايتين عن أحمد {الثانية" لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة واختارها الخلال وابن عقيل وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص والموفق، وجزم به في الوجيز للأخبار والمشقة لكون الجراح قد تقع في حال لا يعلم وقوعها فيه، ففي اشتراط تقدم الطهارة للمسح إفضاء إلى الحرج الموضوع.
الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم
"المسألة الخامسة" هل يشترط الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم أم لا.
"الجواب" قال في "المبدع": وإن كان حدث الجريح أصغر راعى الترتيب والموالاة ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر لا ترتيب ولا موالاة. فعلى هذا لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم لاشتراط الترتيب في(3/744)
الوضوء، فلا ينقل عن عضو حتى يكمله غسلا وتيمما عملا بقضية الترتيب، فعلى هذا لا يضر نداوة التراب في يديه كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به بعض الشافعية، وحكي في الفروع عن المجد أن قياس المذهب أن الترتيب سنة.
وحكي في الإنصاف وغيره عن أبي العباس ينبغي أن لا يرتب وقال غيره لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة. وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قاله لا سيما وقد حكى هو وغيره من العلماء عن أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة وبين بعض الأدلة الشرعية رابط خفي علينا ففوق كل ذي علم عليم.
اشتراط دخول الوقت للوضوء من الحدث الدائم
"المسألة السادسة" هل يظهر لكم دليل لاشتراطهم دخول الوقت لوضوء من حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح ومن به قروح أو جروح؟
"الجواب" دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح والجروح التي لا يرقأ دمها والقروح السيالة، هو القياس على المستحاضة بجامع العذر، وقد أسلفنا لك أن القياس إذا صح دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم.
قال في شرح المفردات عند قول الناظم:
وبدخول الوقت طهر يبطل ... لمن بها استحاضة قد نقلوا
لا بالخروج منه لو تطهرت ... للفجر لم يبطل بشمس ظهرت
يعني أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة إلا لأن يخرج منه شيء، وهو قول أصحاب الرأي لحديث علي بن ثابت عن أبيه(3/745)
الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما يتعاقدون به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد، فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر، ولا نظر.
وهذه القاعدة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي يعرفها العامة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو أنه من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصا. والمنصف لا يعدل عنه.
رد اللقطة لصاحبها
"الخامسة عشرة": إذا التقط رجل لقطة فطلبها صاحبها، وكتمها الملتقط؛ ليبذل عليها صاحبه مالا، هل له أخذ المال على هذا المنوال، أم لا؟ فإن قلتم: لا يحل، فهل يملك الباذل الرجوع، أم لا؟ وهل لقوله حال الإنشاد: حلال من الله، تأثير، أم لا؟
الجواب": لا يحل له أخذ المال المبذول، والحال ما ذكر؛ لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا، متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين.
قال أبو بكر في التنبيه: ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الضالة المكتومة غرامتها، ومثلها معها" 1 وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد. اه.
وصرح الفقهاء بأن أجرة المنادي عليه، وبكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب به نفس باذله بعد علمه بالحال،
ـــــــ
1 أبو داود: اللقطة "1718".(3/746)
قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقا كإزالة شعر اه وعنى بشيخه أبا العباس، قال العكبري: فلو خلع الجبيرة على طهارة لم ينتقض وضوءه بمجرد خلعها.
وقال في الإقناع والمنتهى وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف اه وكذا عبر غيرهم بلفظ زالت وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل، فعلى هذا إن كان سقوطها على طهارة لم تنتقض الطهارة به وإن كان بعد حدث انتقضت وعلى الثانية هي باقية مطلقا ما لم يبرأ.
صور من جمع المسافر بين الصلاتين
"المسألة الثامنة" إذا تحقق المسافر وصول الماء قبل خروج وقت الثانية من المجموعتين هل له أن يصليهما جميعا في هذه الحال أم لا؟
"الجواب" له أن يؤخر الأولى جمعا مع الثانية لجواز الجمع للمسافر مطلقا، تحقق وجود الماء أو ظنه وقت الثانية أم لا على المشهور في مذهب أحمد، بل حكي في الفروع عن بعضهم أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل وأنه مذهب الشافعي، وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم نص عليه اهـ.
وقال أبو العباس في المسألة المسماة "بتيسير العبادات" الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت وقال في موضع: آخر الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره.
ما يستحب وما يكره للجمعة وحكم السفر قبل صلاتها
"المسألة التاسعة" ما ورد في يوم الجمعة كقراءة سورة الكهف والغسل والتفريق بين الاثنين وغيرها هل هو مختص بما قبل الزوال أو باليوم كله؟
"الجواب" أما قراءة سورة الكهف فظاهر الخبر الآتي وصريح كلام(3/747)
فقهاء الحنابلة والشافعية أنها في مطلق اليوم، والأصل فيه ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وفي رواية للبيهقي "ما بينه وبين البيت العتيق" قال في "شرح الجامع الصغير": وفي رواية " ليلة الجمعة" بدل "يوم الجمعة" وجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها اه. وقاله في "شرح المنهاج"، وفي "الفتاوى المصرية": هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة ببعد العصر اه.
قال في "شرح المنهاج": ويستحب الإكثار من قراءتها كما نقل عن الشافعي وقراءتها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير اه.
فلم يقيدها بغير الأولوية وعليها يحمل ما حكاه في "المغني" وغيره عن خالد بن معدان من أنها قبل الصلاة.
لكن هل الليلة ما قبل اليوم أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وغيرها فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة اه ملخصا.
وقد جاء الحديث أيضا بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعا "اقرءوا سورة هود يوم الجمعة" 2 ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب وهو في مراسيل أبي داود. قال الحافظ مرسل صحيح الإسناد، وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله وملائكته عليه حتى تجب الشمس" 3.
ومما ورد من الخصائص مطلقا أيضا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه
ـــــــ
1 مسلم: الصيام "1144".
2 الدارمي: فضائل القرآن "3403".
3 أي تغيب من "وجب" بمعنى سقط كقوله -تعالى- "وجبت جنوبها" أي سقطت.(3/748)
رواه أبو داود والترمذي من حديث أوس بن أوس قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ومن ذلك أوكدية السواك والتفرغ للعبادة ومزية الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم وتوافيها فيه.
وأما الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق والتحلق، والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد لأنه قال في يومها الحاضر: إن صلاها، إلا لامرأة، وقيل: ولها اهـ.
ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "من أتى الجمعة فليغتسل" 1 وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح –فذكره إلى أن قال-: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" 2 وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ومس من الطيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا خرج إمامه"الحديث.
وفي البخاري عن سلمان مرفوعا "ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت" 3 الحديث، وفي الطبراني عن أبي هريرة: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم - يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة" وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"4 .
وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها فمنعه الأصحاب بعد الزوال إن لم يخف فوت رفقته إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه، قال ابن المنذر: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء لوجوب السعي حينئذ، وقال المجد في "شرح الهداية" روى ابن أبي ذئب قال: "رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له تسافر يوم الجمعة؟ فقال إن رسول
ـــــــ
1 البخاري: الجمعة "877 ,894 ,919" , ومسلم: الجمعة "844" , والترمذي: الجمعة "492" , والنسائي: الجمعة "1376 ,1405 ,1407" , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1088" , وأحمد "2/3 ,2/9 ,2/35 ,2/37 ,2/41 ,2/42 ,2/48 ,2/53 ,2/55 ,2/57 ,2/64 ,2/75 ,2/77 ,2/78 ,2/101 ,2/105 ,2/115 ,2/120 ,2/141 ,2/145 ,2/149" , ومالك: النداء للصلاة "231" , والدارمي: الصلاة "1536".
2 البخاري: الجمعة "881" , ومسلم: الجمعة "850" , والترمذي: الجمعة "499" , والنسائي: الجمعة "1388" , وأبو داود: الطهارة "351" , وأحمد "2/460" , ومالك: النداء للصلاة "227".
3 البخاري: الجمعة "910" , وأحمد "5/438 ,5/440".
4 الترمذي: الجمعة "514" , وأبو داود: الصلاة "1110" , وأحمد "3/439".(3/749)
الله –صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة"رواه أبو بكر النجاد وهو من أقوى وجوه المُرْسل لاحتجاج من أرسله به اهـ.
وفي مسند الشافعي عن عمر أنه رأى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر، وفيه عن علي نحوه، وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن كيسان أن أبا عبيدة بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة.
وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه "من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره"ففيه ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ.
وأما ساعة الإجابة فاختلف العلماء فيها وفي موضعها على أكثر من ثلاثين قولا ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" و"لوامع الأنوار" وغيرهما، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتا، وأقرب الأقوال فيها قولان -وأحدهما أرجح من الآخر، كما قاله ابن القيم في الهدي وغيره-: "الأول" ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. {والثاني" أنها بعد العصر، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس. قال الترمذي هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم.
"خاتمة" ذكر في "التوشيح" وغيره أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين.
الاشتراك في الأضحية وإجزاء الشاة عن الرجل وعياله
"المسالة العاشرة" ما معنى قوله -عليه السلام- في الأضحية "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" وقوله لما ذبح "أضحية محمد، وآل محمد، وأمة محمد" وهل يشترك في البدنة والبقرة أكثر من سبعة؟ وهل المراد سبعة من الغنم أو سبعة أشخاص إلخ؟
" الجواب" قوله: الجزور عن سبعة يعني تضحية الإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح.(3/750)
وقال عن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والنسائي: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة" 1 إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم وهو "الجزور عن سبعة" 2 انتهى.
وقال في "المغنى" عن حديث رافع: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم فعَدَل عشرةً من الغنم ببعير، هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى.
وقد أخذ كثير من العلماء، أو أكثرهم بمفهوم الناسخ، فقالوا: لا تجزئ البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة، أو بقرة فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم.
قال في "الإنصاف" على الصحيح من المذهب، نقله ابن القاسم وعليه أكثر الأصحاب. ونقل منها تجزي عن سبعة، ويرضون الثامن ويضحي، وهو قول في الرعاية. انتهى ملخصا.
وقال في حاشية "التنقيح": قوله عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: وتعتبر أن تشترك الجماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، أو قالوا: من جاء يريد الأضحية شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن الثلاثة. انتهى.
وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته 3.
وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن في قوله -عليه السلام-: "تقبل من محمد، وآل محمد" 4 دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروى عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة.انتهى.
قال ابن تيمية في الفتاوى المصرية: أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما؛ فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، وقال- فذكر الحديث-، وترجم جده المجد في المنتقى "باب الاجتزاء
ـــــــ
1 الترمذي: الأضاحي "1501" , والنسائي: الضحايا "4392" , وابن ماجه: الأضاحي "3131".
2 مسلم: الحج "1318" , والترمذي: الحج "904" والأضاحي "1502" , وأبو داود: الضحايا "2807" , وابن ماجه: الأضاحي "3132" , وأحمد "3/293 ,3/363" , ومالك: الضحايا "1049".
3 كذا في الأصل والوجه في الإعراب أن يقال "مضحيا" في الموضعين؛ لأنه خبر لكون.
4 مسلم: الأضاحي "1967" , وأبو داود: الضحايا "2792" , وأحمد "6/78".(3/751)
بالشاة لأهل البيت الواحد" ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي أيوب، وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاق، وكان يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده: البدنة، والبقرة، والشاة.
وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزئ عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: لا تجزئ، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب، لا في الإجزاء. انتهى.
والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد، قال في المنهاج وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم يجز، والأحاديث المخالفة لذلك كحديث: "اللهم هذا عن محمد، وآل محمد" 1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى.
وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة أن الشاة الواحدة لا يُضحَّى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم. وعلى هذا حمل ما روي أنه -عليه السلام- ضحى بكبش وقال: "اللهم تقبل عن محمد، وآل محمد" 2 وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن التضحية كذلك، وأنها مسنونة لأهل كل بيت، وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب؛ لأنه قال: "وعن أمة محمد" انتهى.
إخراج الزكاة المستحقة على المورث
"المسألة الحادية عشرة": رجل غني مات، لكن غالب ماله؛ إما في ذمة صاحب عقار معسر، لا يحصل منه وفاء إلا من غلته، أو عند مماطل، أو جاحد ونحوه، فحصل من ذلك المال كل نوع بحسبه، فهل زكاته -لما مضى- واجبة من موت المورث إلى الحصول؟ وهل وقته الذي كان في حياة المورث واجبة على الوارث؟.
ـــــــ
1 أحمد "6/391".
2 أحمد "6/391".(3/752)
فإن قلتم: نعم، وكان بعض الورثة لا يملك نصابا، فهل تكون الزكاة من رأس المال، أو على حصة من ملك نصابا؟
"الجواب": إذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون من وجوب الزكاة في الدَّين الذي على غير المليء كعلى المليء، لصحة الحوالة به عليه والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل، فإن كان قد مضى على الدَّين المذكور حَولٌ فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا.
قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة أخذت من تركته؛ نص عليه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فدين الله أحق بالقضاء" 1 وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولا من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث.
ثم إن كان قد مضى من موته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصابا، زكاه صاحبه كذلك.
وإن لم يحل عليه الحول أو حال ولم يبلغ نصابا، فإنه لا زكاة فيه، هذا على المقطوع به عند المتأخرين من الروايات عن أحمد في المسألة.
وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقا، صححها في التلخيص ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابن عمر؛ لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى.
وعنه رواية ثالثة: إنما يؤمل رجوعه كالدَّين على الغائب المنقطع خبره والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه، قال أبو العباس: وهذا أقرب -إن شاء الله-، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.
ـــــــ
1 البخاري: الصوم "1953" , ومسلم: الصيام "1148" , وأبو داود: الأيمان والنذور "3310" , وأحمد "1/227 ,1/258 ,1/362".(3/753)
وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة
"المسألة الثانية عشرة": إذا وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة، وكان المبيع جمع عددا أكثر بين عشرة إلى مائة، فهل إذا وجد بعضها يأخذه بقسطه، ويضرب فيما بقي مع الغرماء، أم يكون أسوة الغرماء، ولا يملك أخذ باقي سلعته؟
الجواب": هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: "إحداهما": أنه يرجع في العين الباقية؛ جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف: أنه الصحيح من المذهب؛ لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه.
والرواية الثانية": أن المتعدد كغيره إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء؛ لتعذر كل العين. قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة. انتهى. وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين.
التزام شروط الواقف ومن جوز تغييرها إلى الأصلح
"المسألة الثالثة عشرة": إذا وقَّف إنسان وقفا على جهة معينة كعلى صوام المسجد الفلاني،ثم أراد الواقف 1 أو غيره صرفه إلى جهة أخرى؛ إما في تلك البلد، أو في بلد أخرى، هل له ذلك، أم لا؟
"الجواب": يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة على الصحيح من المذهب؛ نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب.
وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صُرِف إلى الجند. انتهى من الإنصاف.
فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه. ووجه الأول وقوع الوقف لازما، وانتقال الملك
ـــــــ
1 كذا في الأصل؛ وهو من أوقف لغة تميم، وأنكرها بعضهم.(3/754)
فيه بمجرد عقده إلى الله -سبحانه-، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين.
قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والموقف وغيره في هذا سواء؛ لزوال الملك عنه في الموقوف.
ما تصح به العقود من قول وفعل
"المسألة الرابعة عشر": إذا وقف إنسان وقفا، وأشهد عليه، وكتب به، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعُرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظنا منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهما عالمان منه إرادة التعقيب دون التشريك، إلخ.
"الجواب": يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغاتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء؛ لكون العقود بالمقصود.
قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال:
"أحدها" أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والنكاح، والوقف، والعتق، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكون الأصل عندهم هو اللفظ.
"والقول الثاني" أنها تصح بالأفعال كالوقف؛ كمن بنى مسجدا، أو أذن للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة. فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها لفسدت أكثر أحوال الناس، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف.
"والقول الثالث" أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا، أو إجارة فهو بيع، أو إجارة. وإن اختلف اصطلاح(3/755)
عن جده في المستحاضة "تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة" 1 رواه أبو داود والترمذي.
وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فذكرت خبرها - ثم قالت قال "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" 2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت ثم بعد أن دخل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه.
والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت، وإن توضأ بعد الوقت صح وضوءه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى من الخمس، فمن تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوءها بطلوع الشمس لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى.
قال المجد – في شرح الهداية – ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه. وقال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما ثم قال: والأول أولى انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية أنها تبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم تبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه.
وقال أبو العباس: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضئون لوقت كل صلاة أو لكل صلاة.
نقض الوضوء بسقوط الجبيرة
"المسألة السابعة" إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء هل تنتقض الطهارة بذلك أم لا؟
"الجواب" قال في الفروع: وإن زالت الجبيرة فكالخف وقيل طهارتها باقية
ـــــــ
1 الترمذي: الطهارة "126" , وأبو داود: الطهارة "297" , وابن ماجه: الطهارة وسننها "625" , والدارمي: الطهارة "793".
2 البخاري: الوضوء "228" , وأبو داود: الطهارة "298".(3/756)
وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله، لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة قبل بلوغه بذل مالكها للجعل أنه يحرم عليه أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة له، لكنه لم يسمعه، وهو في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه محرما عمدا، أو يمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم.
التحكيم ونفوذ حكم الحكم بالتراضي أو مطلقا
"السادسة عشرة": إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله، أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين غيره، أم لا؟ وهل هو محسن، أم لا؟
"الجواب": إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما، جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعي قولان: "أحدهما": لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم فلِمَ تكنى أبا الحكم؟، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمَن أكبر ولدك؟، قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح"1 أخرجه النسائي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيَّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. اه من شرح المقنع.
وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح، واللعان في ظاهر كلامه، وهو المذهب، وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَود وحدّ، وقذف ولعان ونكاح، وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطأ على عاقلة من رضي بحكمه، وما قاله في الإنصاف أولا هو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده، قال في
ـــــــ
1 النسائي: آداب القضاة "5387" , وأبو داود: الأدب "4955".(3/757)
التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقا، قال في حاشيته: أي سواء وجد حاكم أم لا. ا ه. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض.
وقال في الاختيارات : إذا حكّم أحد الخصمين خصمه، جاز لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكّما مفتيا في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه أنه لا يفتقر،بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزم، فإن أراد أحدهما الامتناع؛ فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. اه. فقد ظهر -مما قلناه- لزوم ما حكم به.
وأما اشتراط الأهلية فكتب الأصحاب طافحة بها لصحة حكمه ولزومه، وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق، وأما اتصافه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن.
وليكن هذا ختام ما نقلناه، وختام ما قلناه، في هذه الألفاظ اللائحة، والأحرف الواضحة، جعله الله -تعالى- في مقام الإخلاص والتقوى السبب الأقوى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم.
"انتهت"(3/758)
الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد
...
الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الاتحادية والمشركين
استواء الله على عرشه وعلوه على خلقه وبدع المبتدعة
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المتقين -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما.
أما بعد: فإني وقفت على ورقتين لرجل جاءنا، يزعم أنه من أهل بخارى، ويقول: إن اسمه عبد المحمود، فرأيت ورقتيه تضمنتا عبارات تنبئ أنه يقول بقول أهل وحدة الوجود، وربما خلط ذلك بعبارات الفلاسفة، فتعين عليَّ أن أبين ما في ورقتيه من الإلحاد والدسائس التي موَّه بها على بعض الجهال، فأوقع بعضهم في لبس وضلال، فلما حصل الجواب رجع من رجع.
فأول ما ابتدأ به الورقتين قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات"؛ فاعلموا -وفقكم الله- أن هذه الكلمة ليس لها استعمال في الكتاب، ولا في السنة، ولا عند علماء السنة، ولا عند غيرهم من الطوائف، بل هي من عبارات أهل الاتحاد، ومعناها: أنه المتوحد بجميع الجهات، فهو فيها وحده، ليس فيها غيره، ومصدره توحّد يتوحد توحدا، إذا توحد بالمكان، فليس فيه غيره، كقول القائل: توحّد فلان بمكان كذا وكذا، إذا كان هو الذي فيه وحده.
وأرادت هذه الطائفة بمثل هذه العبادة أن كل ما في الجهات فهو الله، يبين ذلك أنك لا تجد أحدا من أهل السنة، ولا من المتكلمين يصف الله -تعالى- بأنه توحد بجميع الجهات.
فالسلف -أهل السنة- يقولون: إنه -تعالى- فوق العرش الذي هو أعظم المخلوقات، وهو فوق السموات، والله -تعالى- فوق عرشه، كما قال -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 في سبعة مواضع،
ـــــــ
1 سورة النحل آية: 50.
2 سورة طه آية: 5.(3/760)
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 1 {يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2.
وأمثال هذه الأدلة في الكتاب والسنة كثير تدل على أن الله -تعالى- فوق عرشه، وأنه ليس في الجهات، وأدلة علو الرب -تبارك وتعالى- على عرشه كثيرة في الكتاب والسنة.
وأما أهل البدع من الجهمية، ومن سلك سبيلهم، فيقولون: إنه -تعالى- حال في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، لكنهم لم يقولوا بقول أهل الاتحاد: إن الذي هو حال فيه هو عينه،بل يقولون: إنه غيره، وأما أهل الوحدة فيقولون: إنه الوجود بعينه، وهو قول هذا الرجل، كما يدل عليه بقية كلامه.
وأما الأشاعرة فأخلوه -تعالى- من جميع الجهات، ولم يثبتوا علوه على خلقه، واستواءه على عرشه 3 فخالفوا السلف، وأهل السنة، ولم يؤمنوا بما في كتاب الله، ولا
ـــــــ
1 سورة المعارج آية: 4.
2 سورة آل عمران آية: 55.
3 لم يثبتوه كما أثبته السلف بمعناه العربي من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل،بل أولوه بما ينافي ما أرادوه من التنزيه، فقالوا: استولى على العرش. فيقال لهم: إن كان استيلاؤه عليه كاستيلاء بشر على العراق ونحوه، فهذا عين التشبيه الذي تفرون منه، وان كان استيلاء يليق به لا كاستيلاء الملوك وغيرهم على البلاد، فلم لا تقولون هذا في اللفظ الوارد في كتاب الله، كما قال السلف، والحال أن لفظكم يرد عليه من الاعتراض ما لا يرد على لفظ كتاب الله، وذلك من وجهين: "أحدهما": أنه لا يقال: إن فلانا الملك، أو القائد استولى على بلد كذا إلا إذا انتزعه من خصم له كان مستولياً عليه قلبه، "ثانيهما": أن عطف الاستواء على خلق السموات والأرض بثُمّ يفيد أن الاستيلاء على العرش حصل بعد خلق السموات والأرض، والحق أنه كان مستولياً عليه ومالكا له قبل ذلك، أي منذ خلقه، وهذا لا يرد على نص التنزيل على طريقة السلف كما هو ظاهر، ولا على طريقتكم في التأويل؛ لأن الاستواء في اللغة يدل على معنيين: العلو والتدبير الذي ورد في آية: {استوى على العرش يدبر الأمر } ، فإنه لا محذور في العطف بثم على هذين المعنيين. إذ حاصلة أنه -تعالى- لما خلق السموات والأرض، وتحقق بذلك متعلق صفة الملك، تحقق بعده كل من علوه -سبحانه- على مجموع هذا الملك وتدبيره له، وهو معنى استوائه على العرش، فإن رتبة العلو على الملك وتدبيره مرتبة على خلقه وإيجاده، وإنما التراخي بثم هنا في الرتبة لا في الزمن. وكتبه محمد رشيد رضا.(3/761)
في سنة رسوله من أدلة العلو، ويلزمهم على هذا لوازم ليس هذا محل ذكرها.
وإنما أردنا بيان طريقة هذا الرجل، وما دل عليه كلامه لقول أهل الاتحاد، وليس في الكتاب والسنة، ولا في كلام سلف الأمة أن الله -تعالى- متوحد بجميع الجهات،بل الذي في القرآن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.
ومعناه: أنه -تعالى- اختص بالإلهية دون كل ما سواه؛ فهو الذي تؤلهه القلوب محبة وذلا وعبودية، وتعظيما، ودعاء ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا له، وكل إله سواه فهو باطل، فالإلهية صفته التي لا يصح أن يوصف بها غيره إلا على وجه الإنكار لها ونفيها، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وفي سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 أي لا شبه له، ولا مثل له، ولا ند له، ولا كفو له، بل هو الكامل في ذاته وصفاته، لا إله غيره ولا رب سواه، فهذا هو التوحيد العلمي الذي يجب اعتقاده.
بيان القرآن لتوحيد الألهية والربوبية وإلحاد المبتدعة
والقرآن يقرر هذا التوحيد، ويبين أنه الإله الحق، كما قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 وهذا هو التوحيد في الإلهية، ويبين توحيده في ربوبيته بقوله -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} 4 وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} 5 إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وهذا التوحيد الثاني قد أقر به مشركو العرب وغيرهم، لكنهم جحدوا التوحيد العملي؛ توحيد العبادة، فصار إقرارهم بهذا النوع حجة عليهم فيما جحدوا، كما قال -تعالى-: {مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 6.
قال علماء الصحابة والسلف والمفسرون: تسألهم مَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، فذلك إيمانهم، وهم مع ذلك يعبدون غيره، فذلك شركهم.
وأما توحيده -تعالى- في أسمائه التي هي أوصافه -تعالى-، فالسلف وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله في سنته، على ما يليق بجلال الرب
ـــــــ
1 سورة البقرة آية: 163.
2 سورة الإخلاص آية: 1.
3 سورة الحج آية: 62.
4 سورة يونس آية: 3.
5 سورة يونس آية: 31.
6 سورة يوسف آية: 106.(3/762)
-تعالى- وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
وأما أهل البدع فألحدوا في هذا التوحيد؛ فمنهم من نفى ما دلت عليه الصفات من كمال الرب، ومنهم من تأولها تأويلات بعيدة تخالف ما دلت عليه من المعاني المعروفة في اللغة، ولسان الشرع، والفطر والعقول الصحيحة.
فتدبر -أيها الطالب للعلم والهدى- والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، إذا عرفت ذلك، وتميز الحق من الباطل عند من طالع في هذا الجواب، فليعلم أن أهل السنة والجماعة لا يطلقون على الله -تعالى- لفظ الجهة؛ لعدم وروده في الكتاب والسنة، وإنما يطلقون على الله -تعالى- ما ورد، فيقولون: إنه -تعالى- استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: إنه فوق العرش، وأنه على عرشه -تعالى- وتقدس، ويثبتون له العلو من جميع الجهات، علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات، ولا يبخسونه واحداً منها، كما قال -تعالى-: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهذا في عدة مواضع من القرآن.
فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.
الزعم بأن الإله في كلمة التوحيد كلي مطلق
وأما قوله: "إن لا إله إلا الله إنما نفت كليا في الذهن، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو المستثنى" فهذا تحريف فاسد لمعنى كلمة الإخلاص، لم يسبقه إليه أحد من مشركي الأمم، ولا يقدر أحد على هذا التحريف الذي لا أفسد منه، فإن "لا" إنما وضعت لنفي أفراد الجنس الموجودة في الخارج، ولم توضع لمقدرات الذهن التي لا يوجد لها أفراد، وهذا أمر معروف بالضرورة. واليهود الذين وصفهم الله -تعالى- بكونهم يحرفون الكلم عن مواضعه لا يقدر أحد منهم على مثل هذا التحريف، الذي هو من أعظم التحريف وأبعده عن الإسلام والإيمان، والرسل والكتب،
ـــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة البقرة آية: 255.(3/763)
وهذا الكلي الذي قدره هؤلاء في الذهن لا حقيقة له، بل هو كذب محض، وجناية على أصل دين الإسلام، وإبطال لمعنى هذه الكلمة العظيمة التي هي أساس الدين، وهذا من عظيم كفر هذه الطائفة الاتحادية.
ومن المعلوم عند كل طائفة أن "لا" النافية للجنس لم توضع لما يقدر في الأذهان، بل وضعت لغة لنفي أفراد الجنس الموجود في الأعيان، والخيالات الذهنية، لم يوضع لها شيء من الأدوات أصلا؛ لأنها خيال ذهني كاذب.
وقد مثل ما ذهب إليه بقوله "لا شمس إلا الشمس" يعني أنه قدر في ذهنه أن هناك شموساً انتفت بلا، واستثنى منها الفرد الموجود، وهذا كذب محض، فما ليس في الوجود لا يصح تقديره موجوداً ينتفي بلا، بل هو منتف في نفسه أصلا، فكيف يدعي أن "لا" نفت ما لا وجود له من تخيلات الأذهان التي هي كذب محض.
وهذه الطائفة حاولوا إبطال معنى لا إله إلا الله الذي جاءت به الكتب والرسل من نفي عبادة الأصنام والأنداد، التي دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة، والرسل والكتب على نفيها وإبطالها، وعلى ما حرفته هذه الطائفة لم يبق من الإسلام والإيمان حبة خردل، بل هو كفر؛ لأنه لم ينف وثنا ولا صنما، والرسل والكتاب تنفي ذلك كله بكلمة الإخلاص، وقد أراد بذلك أن يفتن الجهال، فوقى الله شره، فلله الحمد على ذلك.
وأيضاً فقد تناقض بدعواه أن هذا الفرد الموجود قد انتفى بلا، ثم أثبت بلا، وهذا تناقض ظاهر لا يصدر إلا ممن لا يدري ما يقول، وكل صاحب باطل فلا بد أن يأتي بكلام يناقض بعضه بعضاً.
كلمة التوحيد تنفي آلهة الباطل المتخذة وتثبت الإله الحق
وأما قول هذا الأعجمي: الإله هو المعبود غير مقيد بقيد الحقيقة أو البطلان "فالجواب": لا يخفى أن هذا قول في غاية الفساد والمغالطة، فالعناد لا يؤخذ(3/764)
منه معنى ويستفاد، ولا صدر عن دراية ولا عن رواية، بل ولا تقليد، بل هو عن الصواب بمكان بعيد، بل هو زعم كاذب، لا أصل له في كلام أحد من طوائف الأمة، قد خالف اللغة والمنقول والمعقول.
بيان ذلك: أن أسماء المسميات موجودة في سابق علم الله -تعالى- قبل وجود مسمياتها، كاسم الجنس، وعلم الجنس، والمتواطئ، والمشترك، والأعلام ونحو ذلك، ثم إن الله -تعالى- علم آدم الأسماء كلها، كما قال -تعالى-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.
وجميع اللغات إنما وجدت بإلهام من الله -تعالى- ولم يحدث لها بعد ذلك تغيير ولا تقييد بعد الوضع الأول، وكل اسم وضع على مسماه، فمنها ما هو مشترك بين الحق والباطل، كاسم الإله فإنه يقع على كل معبود. إذا ألهه العبد بالعبادة صار مألوها، فإن كان الذي ألهه العبد بالعبادة هو الله وحده فهو الإله الحق، وهذا وصفه تعالى فيما لم يزل ولا يزال كما قال -تعالى-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3 الآية، ولها نظائر في القرآن. فإن اتخذ العبد معبودا سوى الله فقد ألهه بالعبادة وصار باطلا كما في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وهذا هو الأصل في وضع هذا الوصف لم يتغير إطلاقه عن الأصل على الإله الحق سبحانه.
وأما إطلاقه على غيره فمن جهة فعل العبد إذا ألَّه غير الله بالمحبة والإجلال، والخضوع والذل، والتوجه ودعائه، وغير ذلك من أنواع العبادة، فيكون قد ألهه بذلك، وشبهه بالإله الحق بعبادته له، فأطلق عليه بهذا الاعتبار، كما قال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} 4 الآية.
فبين -تعالى- أن إلهيتها ليست بحق، والحق ما قام عليه البرهان. وقال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
ـــــــ
1 سورة البقرة آية: 31.
2 سورة البقرة آية: 163.
3 سورة الحج آية: 62.
4 سورة الأنبياء آية: 24.(3/765)
عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1.
ففي هذه الآية بيان: أن الإلهية هي العبادة، قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 2 فسماهم -تعالى- آلهة، وأخبر عن عجزهم عن نصرة أنفسهم، فضلا عن غيرهم.
وقد فسر الله هذه الكلمة العظيمة في مواضع من كتابه بأوضح بيان، وأظهر برهان، يعرف ذلك من طلبه، وبالله التوفيق.
وهذا الذي ذكرناه هو العلم الذي يستفاد منه التوحيد، وهذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي المنفية بلا إله إلا الله، فلا بد من نفيها بالقول والفعل والاعتقاد، وأما ما ذكره هذا الأعجمي فلا يفيد إلا التخبيط والتخليط، وإدخال الشك على من لا بصيرة له، ولا مقاربة في الفهم ولا تسدد، فالحمد لله الذي دفع عن المسلمين فتنته وبليته، وأظهر لأهل العلم طويته.
وأنت -أيها المغرم بحبه- فتش كلامه هذا الذي ذكرناه وانظر إلى ما تأخذه منه، فإنك لا تجد فيه ما ينفعك، وما إخالك تسلم، فإنك عرفت أنه إنما يتكلم بجهل محض لا يعرف عن أحد من طوائف الأمة،بل هو من تخاليط الجهال، وأرباب الضلال، وإلى الله -تعالى- نرغب في هداية قلوبنا، ومغفرة ذنوبنا، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وأما قوله: إذ اشتقاقه من ألّهه إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى.
"فالجواب": هذا لا يصلح تعليلا لقوله: غير مقيد بقيد، بل هو إلى كونه مقيداً أقرب، فإن المشتق والمشتق منه
لا بد أن يكون متضمنا لمعناه الذي وضع له على ما كان هو عليه في أصل الوضع، وهذا أمر بين لمن له أدنى معرفة بما ذكره العلماء -رحمهم الله تعالى- في أصل وضع اللغة، وهذا لا يلتبس إلا على جاهل؛ لا معرفة عنده، ولا بصيرة له.
وقوله يوجب اتحاده معه في المعنى، هذا لا يفيد معنى الاشتقاق، فلو كان له
ـــــــ
1 سورة مريم آية: 81 ، 82 .
2 سورة يس آية: 74.(3/766)
معرفة لبين معنى اتحاد المشتق مع المشتق منه، وذلك لعدم معرفته بحقيقة ما تكلم به.
إذا عرفت ذلك فقد ذكر العلماء- منهم ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما يبين حقيقة الاشتقاق فقال: ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ لا أنها متولدة منه، تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر، والمشتق منه أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. اه.
نفي أعيان المعبودات وإبطالها وإزالتها وجعل الله هو المعبود وحده
ثم إن هذا الرجل لما سمع بما كتبته من الرد عليه، أجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج.
"فالجواب": أن من تأمل كلام هذا علم أن هذا الكلام مع تناقضه يصرح بما ذهب إليه من الاتحاد، وذلك أنه قال: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام، فصرح بأن المراد من المستثنى منه المفهوم العام، وهذا هو معنى قوله الأول: إن لا إله إلا الله إنما نفت مفهوما، ولم تنف ما نفاه الخليل -عليه السلام- وإخوانه من الرسل، وجميع ما في القرآن والسنة، فإن المنفي في ذلك أشخاص موجودة عند عابديها، كأصنام قوم نوح، وكاللات، والعزى، ومناة، ونحو ذلك مما كان يعبده الأمم.
وهذا هو الذي نفته كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، نفت أن يكون لله شريك في الإلهية من جميع ما كان يعبده أهل الشرك كما قال -تعالى- عن قوم إبراهيم: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 وقال -تعالى-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 2 إلى قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} 3 الآية.
ـــــــ
1 سورة الشعراء آية: 71.
2 سورة الأعراف آية: 138.
3 سورة الأعراف آية: 140.(3/767)
فليس المراد بالنفي في كلمة الإخلاص مفهوما، وإنما المنفي بها أعيان المعبودات، وإبطال عبادتها وإزالتها، وجهاد الخلق على أن يكون الله وحده معبودهم، دون كل معبود.
وقد حصل ذلك لما فتح الله على رسوله مكة، فأزال كل صنم حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى مرتين، فقطع الشجرة، وهدم البناء.
ولما أسلم أهل الطائف بعث المغيرة بن شعبة فهدم اللات، فلم يبق في جزيرة العرب من الأصنام والأوثان شيء إلا أزاله صلى الله عليه وسلم وقد بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة فهدمه، فصارت كلمة الله هي العليا.
فلله الحمد على ما أكمل للأمة من دينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1 كما صرح به القرآن في هذه الآيات ونحوها. وهذه الأصنام ونحوها هي التي تجب البراءة منها، ومن عابديها؛ لقول الخليل -عليه السلام- {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 2 الآية، فتبرأ مما كانوا يعبدون بالقول والفعل، ولم يكونوا يعبدون مفهوما محله الذهن، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3 إلى قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 4.
فمن قال: إن المستثنى منه مفهوم عام فقد خالف الكتب والرسل، ولم يدر ما معنى هذه الكلمة العظيمة، ثم إن هذا القول منه يقتضي أن هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها المشركون ليست منتفية بكلمة الإخلاص، فيلزمه أن تكون تلك الأوثان والأصنام ثابتة غير منتفية، إذا كان النفي مفهوما عاما فغيره على قوله، ولم ينف هذا -لم يقل به- إلا أهل الاتحاد خاصة.
وأما طوائف أهل الشرك فهم يعتقدون أن الرسل إنما نهتهم عن عبادة
ـــــــ
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة الزخرف آية: 26 ، 27 .
3 سورة العنكبوت آية: 25.
4 سورة العنكبوت آية: 25.(3/768)
ما كانوا يعبدونه من تلك الأشخاص التي تألهتها قلوبهم، هذا القول مبني على ما تقدم من كلام أهل الوحدة القائلين: بأن مسمى الله هو الوجود بعينه، فكل شيء يوجد في الخارج فهو الله، وبهذا وسمهم العلماء بأنهم أكفر أهل الأرض.
ثم إنه قال: وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فجعل المستثنى منه يتناول أفراد المعبود بحق، فجعل للمعبود بحق أفرادا، ولهذا قال سواء كانت في الذهن أو في الخارج، فانظر كيف جعل للمعبود بحق أفرادا، وهذا كفر صريح؛ فإن المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له في ذلك، كائنا ما كان.
التوحيد الذي دعا إليه جميع الرسل
ثم يقال: كيف يكون معبوداً بحق، وهو منفي بلا النافية للجنس؟ فإذا انتفت إلهيته بطل أن تكون حقا، وتعين أن المستثنى هو الحق خرج من المنفي بأداة الاستثناء، كما قال -تعالى-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 فهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهم أهل الشرك من دعوة الرسل إلا هذا التوحيد، وهو إفراد الرب -تعالى- بالإلهية كما أخبر -تعالى- عن المشركين أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا: { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 3.
ولم يقل أحد من الأمم أن المستثنى له أفراد كلها حق، وهذا القول ينافي ما تقدم له في ورقته من قوله: إن المنفي بلا كلي منوي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى، وهو يناقض كلامه هنا، مع أنه باطل في نفسه.
فإن قال لنا قائل: المشركون كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها حق. قلنا: هذا هو الذي أنكرته الرسل على الأمم؛ فإن الله لم يبعثهم لإبطال ما كان يفعله أهل الشرك مع آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، ولم يجحدوا معنى ما دعتهم الرسل إليه، لكن هم لم يتركوا عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها مع الله، وهؤلاء جحدوا المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله كما قد عرفت، فخالفوا الرسل والأمم في معنى ما دعت إليه
ـــــــ
1 سورة آل عمران آية: 62.
2 سورة ص آية: 5.
3 سورة الأعراف آية: 70.(3/769)
الرسل من نفي الإلهية عما سوى الله بأداة النفي في كلمة الإخلاص، وخالفوهم في إثبات الإلهية لله وحده، وقالوا: كل شيء هو الله، كما تقدمت الإشارة إليه عن إمامهم ابن عربي من قوله:
وعبَّاد عجل السامري على هدًى ... ولائمهم في اللوم ليس على رشد
بناء منه على مذهبه الخبيث الذي تقدم بيانه، وقالوا: إن لا إله إلا الله لم تنف شيئاً موجوداً في الخارج، بل كل ما في الخارج من الأصنام وغيرها فهو الله، فلهذا صاروا أكفر الطوائف؛ لأنهم جعلوا المخلوقات هي عين الخالق، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من طوائف أهل الشرك، إلا ما كان من الفلاسفة، فإن قولهم يضاهي قول هؤلاء، قاتلهم الله، ولا حاجة بنا إلى ذكر مذهبهم.
ولولا أنا قد ابتلينا بهذا الملحد في بلدنا، لما تجاسرنا على أن نحكي ما كانوا عليه من الضلال، وقد قال -تعالى- عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 1 فدل على أنهم يعبدونه -تعالى- لكنهم أبوا أن يفردوه بالعبادة، وعرفوا أنه غير معبوداتهم.
وكذلك مشركو العرب أقروا لله -تعالى- بربوبيته، وأن الخلق خلقه، وهو الذي خلقهم وحده، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2 ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أريد منكم كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله" 3 فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4 فأنكروا ما دعاهم إليه من أن لا يجعلوا لله شريكا في الإلهية التي هي العبادة.
فبهذا وأمثاله مما في القرآن يتبين أن أهل الاتحاد، والفلاسفة قد أربوا في كفرهم على كل كافر.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هاتين الطائفتين -أعني الفلاسفة، وأهل الوحدة- أنهم أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم
ـــــــ
1 سورة الأعراف آية: 70.
2 سورة الزخرف آية: 87.
3 الترمذي: تفسير القرآن "3232" , وأحمد "1/227".
4 سورة ص آية: 5.(3/770)
قصدوا ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت، واللوح المحفوظ، والشيطان، والحدث والقدم، وغير ذلك، وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي، وما يوجد في كلام بعض الناس من أصول هؤلاء الفلاسفة والملاحدة الذين حرفوا كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. اه.
المراد بالجنس المنفي بكلمة التوحيد
قلت: وقد ذكر إبراهيم بن سعد الكوراني تحريفهم لمعنى لا إله إلا الله، ذكر أنهم اشترطوا في {لا" النافية للجنس في هذه الكلمة شرط الوحدة؛ فجعلوا الجنس المنفي واحداً، لا يوجد إلا ذهنا.
وردّ -رحمه الله- هذا القول بأن قال:
"أما أولا": فالمراد بالجنس المأخوذ بلا شرط، وهو الصالح للصدق على الأفراد، يعني المنفية بلا إله إلا الله فهي صادقة بنفي كل فرد مما كان يعبد من دون الله.
قال: "وأما ثانيا": فإن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية؛ لأن حاصله حينئذ: هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله -تعالى- منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه.
"ويقال: ثالثا": إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضر لمعناه، وقد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة؛ لأن المراد من لا إله إلا الله هو الدلالة على توحيد الإلهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينهم وبين الدلالة على التوحيد بُعْد المشرقين. اهـ.
فذكر رحمه الله تعالى حقيقة قول هؤلاء الملاحدة، وأنهم حملوا معنى كلمة الإخلاص على معنى بعيد من معناها الذي وضعت له شرعاً ولغة، وفطرة وعقلا، وأنهم أبطلوا دلالتها على التوحيد الذي يفهمه منها كل أحد من علماء المنقول والمعقول.
وهذا القول الذي أبطله -رحمه الله- وبيّن بُعْده عن التوحيد، هو بعينه قول هذا الرجل الذي يقول: إنه من بخارى، فموّه على الجهلة بما يوقعهم في الإلحاد، ويبعدهم(3/771)
عن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، فهذه بلية عظيمة، وقى الله المسلمين شرها.
تفسير ابن القيم والرازي لكلمة التوحيد
وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله، فنذكر من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- ما يدل عليه؛ لأنه هو وشيخه من أحسن من عبر عن معنى هذه الكلمة على مقتضى ما دل عليه القرآن والسنة، قال -رحمه الله-:
نظير هذا اشتمال كلمة الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله على النفي والإثبات، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق -تبارك وتعالى-، فتجريد هذا التوحيد من القلب واللسان بتصور إثبات الإلهية لغير الله، كما قال أعداؤه المشركون، ونفيه وإبطاله من القلب واللسان، من تمام التوحيد وكماله وتقريره، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه.
وقال الفخر الرازي في معنى لا إله إلا الله: التحقيق أن المضمر المرفوع بلا راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة، من حيث إنها آلهة لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج، بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد إله من تلك الحيثية غير الله، راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى.
{قلت": وحقيقتها إبطال إلهية كل ما يؤله من الأعيان بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ كأصنام قوم نوح، والأمم بعدهم، ولما فتح الله مكة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أزال كل ما فيها من صنم، وهي ثلاثمائة وستون صنما، وبعث علي بن أبي طالب إلى مناة فهدمها، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فهدمها، وقطع الشجرة، ولما أسلمت ثقيف بعث المغيرة فهدم اللات -كما تقدم-.
فأبطلت هذه الكلمة عبادة كل ما عبد من دون الله، أو يعبد من جميع الأعيان، ولو تتبعنا ما في القرآن من بيان معنى هذه الكلمة، وما قاله العلماء في معناها لاحتمل جزءاً، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية لمن رغب في معرفة التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات، وقد غلط في مسماه طوائف لا يحصيهم إلا الله -تعالى-، والحمد لله على تمييز الحق من الباطل، لا نحصي ثناء عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(3/772)
رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد
...
رسالة في العهد والأمان هل يشترط في احترامهما أن يكون من يعقدهما مؤمناً عدلاً، أم لا؟ وفي العهد والأمان الذي يكون من البدو والإعراب لبعضهم ولغيرهم
تأليف بعض علماء نجد لم يذكر اسمه
رسالة في العهد والأمان وما يشترط في احترامهما وممن يكونان
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
"وبعد": فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟ فنقول، وبالله التوفيق:
يصح أمان الكفار بعضهم بعضا، ولغيرهم بالكتاب، والسنة، والاعتبار.
أما الكتاب : فقوله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1 الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2 قال المفسرون: على ملة واحدة وهي الإسلام، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 فدل على أن هذا الخطاب شامل للمهديين وغيرهم.
وقال -تعالى- في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 4 إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 5 قال أهل التفسير: يقول -تعالى- منكراً على اليهود ما كانوا يأتونه مع الأوس، فإن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.
فبنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا شبت بينهم قاتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي غير اليهودي من أعدائه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب،
ـــــــ
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة النحل آية: 93.
3 سورة النحل آية: 93.
4 سورة البقرة آية: 84.
5 سورة البقرة آية: 85.(3/774)
ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 1.
فهذه الآية تدل على أن الله -تعالى- حرم قتال بعضهم بعضا، وإن كان الكل كفارا وقت النزول؛ لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان.
وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عنبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يخلف عهده، ولا يشدنه حتى يمضي أمرها، وينبذ إليهم على سواء" 2 وهذا الحديث عام.
وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم، عن عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام" 3.
قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان يفعله أهل الجاهلية، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه، وما كان منه على نصرة الإسلام وصلة الأرحام، كحلف المطيبين وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" 4.
وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء؛ فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" 5 وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام في المسلم وغيره.
وروى البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا" 6 قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها على الفاعل والمفعول. والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: " قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ" 7 وهي من مسلمة الفتح.
ـــــــ
1 سورة البقرة آية: 85.
2 الترمذي: السير "1580" , وأبو داود: الجهاد "2759" , وأحمد "4/111 ,4/113 ,4/385".
3 أحمد "2/207".
4 مسلم: فضائل الصحابة "2530" , وأبو داود: الفرائض "2925" , وأحمد "4/83".
5 البخاري: الأدب "6177" , ومسلم: الجهاد والسير "1735" , والترمذي: السير "1581" , وأبو داود: الجهاد "2756" , وأحمد "2/16 ,2/29 ,2/56 ,2/69 ,2/75 ,2/96 ,2/103 ,2/112 ,2/116 ,2/123 ,2/142 ,2/156".
6 البخاري: الجزية "3166" , والنسائي: القسامة "4750" , وابن ماجه: الديات "2686" , وأحمد "2/186".
7 البخاري: الصلاة "357" , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "336" , وأحمد "6/423" , ومالك: النداء للصلاة "359" , والدارمي: الصلاة "1453".(3/775)
مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع والشهادات والعينة وشروط الصلاة وغيرها لأحد علماء نجد
...
مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرها
لأحد علماء نجد غير معروف اسمه
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
المسألة الأولى": فيمن طلق امرأته ثلاثا بلفظة واحدة، أو ثلاث متتابعات كقوله: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: على عوض عوضته المرأة الزوج، هل يصح لهما أن يتراجعا إذا تراضيا بملاك، أم لا؟ فنقول:
"الجواب": هذا السؤال مشتمل على ثلاث مسائل من مسائل الطلاق:"الأولى": إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بكلمة واحدة، أو أكثر من الثلاث بلفظة واحدة "والثانية": إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مكررات في مجلس واحد. "والثالثة": إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا على عوض، هل يجوز أن يراجعها بملاك جديد، أم لا؟
فالجواب عن المسألة الأولى أن نقول: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء من السلف والخلف، قديما وحديثا، وفيها قولان مشهوران للعلماء:
"القول الأول": قول أكثر العلماء من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية من المتأخرين والمتقدمين: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة؛ بانت منه -صارت لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره-، واستدلوا على ذلك بدلائل: منها قوله -تعالى-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}1 قالوا: وهذا لا يكون إلا في المبتوتة؛ لأن غير
ـــــــ
1 سورة الطلاق آية: 6.(3/778)