ما لا يسع التاجر جهله
إعداد
أ. د/ عبد الله المصلح أ. د/ صلاح الصاوي
الوحدة الأولي
الإطار الأخلاقي للمستثمر المسلم
المصطلحات.
النجش: هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.
الاحتكار: شراء السلعة في وقت الغلاء وحبسها ليغلو ثمنها في حاجة الناس إليها.
مقدمة: الإطار الأخلاقي للمستثمر المسلم
للاستثمار - في إطار الشريعة - ضوابطه الخلقية التي تكفل له النقاء والربانية، وتنأى به عن الجشع والأنانية، وتجعله أداة لبناء المجتمع والتراحم مع الآخرين.
والأصل في هذا كله ما استقر في يقين المستثمر المسلم من أن المال - في الأصل - مال الله، وأن الناس جميعا مستخلفون فيه، وأنه ليس للمستخلف أن يخرج على إرادة المالك الحق ومقصودة، فإن فعل ذلك فقدَ أهليته للاستخلاف، وتحولت عنه هذه النعمة إلى من يحسن القيام عليها ورعاية حقوقها.
ونسوق في هذه العجالة بعض هذه الضوابط لعلها تضيء شعاعا من النور في حياة المستثمر المسلم.
أولاً : النية الصالحة.
فبالنية الصالحة تتحول العادات إلى عبادات، وتصبح حياته كلها منظومة متكاملة من الطاعات والقربات، وبهذا نقف على الشمول والإحاطة في قوله تعالى: { ????? ???????? ???????? ????????? ???? ????????????? } [الذااريات: 56].
قال صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي))(1).
والمقصود بالنية في هذا المقام إرادة الخير لنفسه وللآخرين.
فهو يريد الخير لنفسه إعفافا لها عن الحرام، وصيانة لها من ذل السؤال، وتقوية لها على طاعة الله، وصلة للأرحام وذوي القربى ونحو ذلك من أوجه الخير.
__________
(1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب، البخاري كتاب بدء الوحي ، باب كيف بدء الوحي، رقم 10، ومسلم: كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية" رقم 1907.(1/1)
وهو يريد الخير للآخرين بالمشاركة في توفير الحاجات العامة التي يُعَدُّ توفيرها من فروض الكفايات، وإتاحة فرص الكسب للآخرين ليتحقق لهم ما أراده لنفسه في البند السابق، والمشاركة في تحرير أمته من ربقة الاعتماد على الآخرين وما يجلبه ذلك من أطواق العبودية والاستعمار، إلى غير ذلك من أوجه الخير التي لا مجال لتفصيل القول فيها في مثل هذا المقام.
والنيات - كما قالوا - تجارةُ العلماء، فقد يتضاعف ثواب العمل الواحد بسبب الجمع بين أكثر من نية صالحة في وقت واحد، وإنه ليسير على من يسره الله عليه!
ثانياً : الخلق الحسن.
ومنه في عالم الاستثمار: الصدق والأمانة والقناعة والوفاء بالوعد وحسن القضاء وحسن الاقتضاء وإنظار المعسر وإقالة العثرات والوفاء بالحقوق وتجنب المطل والغش والتدليس ونحوه.
والأخلاق الحسنة هي قوام الدين والدنيا، فالبر حسن الخلق، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، وأحاسن الناس أخلاقا هم أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم إليه مجلسا يوم القيامة، فقد ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة.
والمستثمر المسلم عندما يتحلى بمكارم الأخلاق لا ينطلق في ذلك من منطلقات نفعية بحتة كما يفعل الآخرون، وإنما ينطلق من موقف عَقَدِيٍّ ثابت، قوامه طاعة الله عز وجل والإقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم وابتغاء الأجر في ذلك، وما يحصل له من منافع من وراء ذلك - كرواج تجارته ونحوه - فإنما يكون بالقصد التابع وليس بالقصد الأصلي.
ولقد كان للأخلاق الحسنة لتجار المسلمين أبلغ الآثار في نشر الإسلام في كثير من ربوع آسيا وأفريقيا، وقد انتشر الإسلام بالتجار الدعاة ولم ينتشر بالدعاة التجار.(1/2)
ولا يكاد ينقضي العجب من هذه المفارقة الغريبة بين واقع المجتمعات الغربية التي تجيد صناعة الابتسامة التي تستقبل بها العملاء مع لين الجانب وخفض الجناح في التعامل معهم وبين واقع المجتمعات الإسلامية التي يجيد كثير من مؤسساتها التجارية صناعة تقريع العملاء والغلظة عليهم وكأنها تقول لكل عميل من عملائها بلسان الحال: إياك إياك أن تعود إلى التعامل معنا مرة أخرى!
والغربيون ليس لهم من دافع على ذلك إلا لعاعة من الدنيا، والمسلمون ورثة دين يقول لهم: ابتسامتك في وجه أخيك صدقة! ويقول لهم: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق!!
قال تعالى مادحا نبيه صلى الله عليه وسلم : { ???????? ???????? ?????? ??????? } [القلم: 4].
وقال تعالى: { ?????????? ???????? ??????? } [البقرة: 183] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( البيعان بالخيار ما لم يفترقا ، أو قال حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)).(1)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)).(2)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)).(3)
ثالثا : التعامل في الطيبات.
فقد أحل الله لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث، والمستثمر المسلم لا يخرج عن هذا الإطار مهما بدا له من بريق أو إغراء، فالمستثمر المسلم لا يستزله طلب الربح بحيث يخرجه عما أحله الله إلى ما حرمه، ففي الحلال بدائل طيبة مباركة، وفيما شرعه الله تعالى مندوحة مما حرمه.
__________
(1) البخاري كتاب البيوع باب إذا بين البيعان رقم 2079 باب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع رقم 2082، ومسلم كتاب البيوع، باب الصدق والبيان رقم 1532.
(2) الترمذي 1209، والدارمي 2542، والحاكم (2/6).
(3) البخاري، كتاب البيوع باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع رقم 2076.(1/3)
فالتجارة في المحرمات كالخمر والميتة ولحم الخنزير والمعاملات الربوية ونحوها لا تداعب خيال المستثمر المسلم الصادق مع ربه فضلا عن أن يتورط فيها أو أن يتخذ منها محورا لاستثماراته.
ولا يخفى أن هذا الأمر مما يتميز به المستثمر المسلم، الذي ينطلق في أعماله كلها من قاعدة الحلال والحرام، وينشد بسعيه كله مرضاة الله في نهاية المطاف، وبالمقابل فإن الاقتصاديين الوضعيين لا يفرقون في العادة بين طيب وخبيث، ويتساوى في نظرهم مشروع قمار ومشروع إعمار، لأنهم يُخرجون القيم والدين والخلق من منظومة حساباتهم بالكلية!
وإن هذا القيد ليجسد النقاء والطهر في العملية الاستثمارية عندما تقوم بها الأيدي المتوضئة، وتشرف عليها النفوس المؤمنة، التي ترجو رحمة الله وتخاف عذابه، فلا يستهويها متاع عاجل، ولا حظوظ قريبة، بل تقف حيث أوقفها الله ورسوله، ولها في الحلال متسع.
وبهذا لا يتحول المال في أيدي الأغنياء إلى وسيلة من وسائل الفتك الاجتماعي، تخرب به البيوت العامرة، وتفسد به الأجيال، بل يصبح كما أراده رب العالمين طاقة تتفجر بالتعمير والبناء، وقوة تغدق بالخير والعطاء، ونبعا يتدفق بالبركة والرخاء، فتسعد بذلك الأمة بأسرها، ويعم نفعه جميع أبنائها.
قال تعالى: { ???????? ?????? ????????????? ??????????? ?????????? ?????????????? ???????? ???????? ?????????? ????????????? ??????? ??????? ?????????? ? ??????????? ?????????? ????? ??????????? ??????????? ????????????? ???????? ???????? ??????? ???????? ? ???????????? ???? ??????????????? } [الأعراف: 157] .
وقال تعالى: { ??? ?? ????????? ??????????? ???????????? ?????? ?????????? ???????? ??????????? ? ??????????? ???? ??????????? ??????????? ?????????? ??????????? } [المائدة: 100].
وتعبير الخبائث ينتظم كل قول أو فعل أو تقرير أو امتناع حرمه الله ورسوله.(1/4)
رابعاً : أداء الحقوق.
سواء أكانت أجورًا للعاملين أم كانت ديونا للآخرين، فالأجير ينبغي أن يعطى أجره قبل أن يجف عرقه، ومَطْل الغني ظلم، و لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته.
هذا ولا يخلق الانتماءَ إلى جهة العمل أو المؤسسة التجارية مثل تعجيل الحقوق والوفاء بها في مواقيتها.
قال صلى الله عليه وسلم : (( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره)).(2)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَطْل الغني ظلم))(3).
ومِن بين هذه الحقوق - وعلى رأسها - حقوقُ الله عز وجل في أموال الأغنياء، وهي الزكوات المفروضة ثم يلي ذلك الصدقات والتبرعات، وهي تطهر الأموال مما شابها من المشتبهات، وتطهر النفوس مما قد يخامرها من أدواء الشح والأثرة والأنانية، فما نقص مال من صدقة ، وما ضاع مال في بر أو بحر إلا بسبب منع الزكاة، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وكل هذه المعاني ثابتة في الأدلة الصحيحة.
__________
(1) الحديث يروى من حديث ابن عمر، أخرجه ابن ماجة 2443، والقضاعي في مسنده 744، وإسناده واه بمرة، ومن حديث جابر أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير 34 وإسناده ضعيف، ومن حديث أبي هريرة – وهو أمثلها – أخرجه الطحاوي في المشكل 3016 وليس بمحفوظ تفرد به محمد بن عمار، وفي ترجمته أورده ابن عدي.
(2) البخاري : كتاب البيوع ، باب إثم من باع حرا، رقم 2227، وكتاب الإجارة باب إثم من منع أجر الأجير، رقم 2270.
(3) مالك في الموطأ (2/ 674)، والبخاري في الحوالة رقم 2287، ومسلم رقم 3345.(1/5)
قال تعالى: { ?????????? ??????????? ????????? ???????????? ???? ????????????? ??? ??????? ???? ???????????? ????????? ??????? ???? ?????? ???????? ????????? ??? ????? ???????? ?????????? ????? ??????????? ????????????? ????????????? ? ?????? ??? ?????????? ??????????? ?????????? ??? ??????? ??????????? } [التوبة: 34، 35].
وقال تعالى: { ??????????? ???? ????????????? ???? ????????? ???? ???????????? ??????????????? } [المعارج: 24، 25]،
وقال تعالى: { ???? ???? ????????????? ???????? ????????????? ????????????? ????? ??????? ?????????? ? ???? ?????????? ?????? ?????? ? ?????? ??????? ??????? } [التوبة: 103] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى به جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار))(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك! ثم تلا { ???? ?????????? ????????? ??????????? ?????? ?????????? ???? } الآية)).(2)
والشجاع: الحية الذكر، والأقرع: الذي تمعط شعره لكثرة سمه.
__________
(1) مسلم في الزكاة رقم (987/ 26).
(2) البخاري كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة رقم 1403.(1/6)
ومن آكد بركات الزكاة ما تخلقه في المجتمع من سكينة وسلام اجتماعي حيث تنتزع الحقد من قلوب المعوزين وتسكب الرحمة والمواساة في نفوس الأغنياء الموسرين، فينعم المجتمع كله بالتراحم والتكافل والاستقرار، وحسبنا هذه الصورة المشرقة للأشعريين يرسمها المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم في المدينة - جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) (1).
خامساً : تجنب الربا وما كان ذريعة إليه من العقود الفاسدة.
فالربا من السبع الموبقات، والذين يأكلونه لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وقد آذن القرآن أكلة الربا بحرب من الله ورسوله وهو وعيد لم يرد مثله في معصية أخرى، وإن من يتتبع مشاكل العالم قديمها وحديثها يجدها أنها ترجع في النهاية إلى هذا المنكر الغليظ، فالمستثمر المسلم أكثر الناس تحوطا من الوقوع في مستنقع الربا وأبعد الناس عن التذرع إليه بعقود فاسدة ظاهرها الحل، وحقيقتها التحيل على استباحة ما حرمه الله ورسوله، وسيأتي تفصيل القول في ذلك في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في كتاب الشركة باب 1 رقم 2486، مسلم في كتاب الفضائل رقم 2500.(1/7)
قال تعالى مشيرا إلى تحريم الربا، ومتوعدا أصحابه بسوء العذاب في الدنيا والآخرة: { ????????? ??????????? ???????????? ?? ?????????? ???? ????? ??????? ??????? ???????????? ???????????? ???? ????????? ? ??????? ?????????? ????????? ??????? ?????????? ?????? ???????????? ? ???????? ???? ?????????? ???????? ???????????? ? ????? ????????? ?????????? ???? ???????? ??????????? ??????? ??? ?????? ???????????? ????? ???? ? ?????? ????? ?????????????? ????????? ???????? ? ???? ?????? ?????????? ????? ???????? ???? ???????????? ????????? ???????????? ? ?????? ?? ?????? ???? ??????? ? } ?????? [البقرة: 275، 276]
- وأعلن الحرب على أكلة الربا، وحث على إنظار المدينين المعسرين والتصدق عليهم ببعض ديونهم، فقال تعالى: { ??????????? ????????? ?????????? ????????? ???? ????????? ??? ?????? ???? ???????????? ??? ?????? ??????????? ????? ????? ???? ??????????? ??????????? ???????? ????? ???? ???????????? ? ????? ???????? ???????? ??????? ????????????? ?? ??????????? ???? ??????????? ????? ????? ????? ??? ???????? ?????????? ?????? ?????????? ? ????? ??????????? ?????? ?????? ? ??? ??????? ??????????? ????? ??????????? ??????? ??????????? ????? ????? ???? ? ???? ???????? ???? ?????? ??? ???????? ?????? ?? ??????????? } [البقرة:278281].(1/8)
- وفي اعتبار الربا من الموبقات حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (( الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) (1).
- وفي لعن كل من شارك في العملية الربوية بوجه من الوجوه سواء أكان آكلا للربا أم مؤكلا له أم كاتبا له أم شاهدا عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: (( هم سواء))(2).
- وفيما أعده الله لأكلة الربا من العذاب في الآخرة حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلي وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمي في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا))(3).
سادساً : تجنب أكل أموال الناس بالباطل.
__________
(1) متفق عليه كتاب الوصايا ، باب قوله تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً" رقم 2766، وفي الطب رقم 5764 والحدود رقم 6857، ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها رقم 89.
(2) صحيح مسلم، كتاب البيوع والمساقاة، باب الربا رقم 1598.
(3) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب: آكل الربا وشاهده وكاتبه رقم 2085.(1/9)
فحرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: الرشوة والغش والتدليس والمقامرة والنجش والغرر والاحتكار والغبن والمطل من الموسرين.. إلخ وقد ثبت النهي عن كل ذلك في الأدلة الصحيحة الأخرى، وسيأتي تفصيل ذلك في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله.
قال تعالى: { ??????????? ????????? ?????????? ?? ???????????? ???????????? ????????? ????????????? ???? ??? ??????? ????????? ??? ??????? ???????? } [النساء: 29]،
فنهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي بأنواع المكاسب الباطلة، كالربا والقمار والرشوة وما جرى مجرى ذلك من سائر أصناف الحيل والتصرفات التي تفضي إلى العداوات وأكل أموال الناس بالباطل.
وقال تعالى: { ???? ???????????? ???????????? ????????? ????????????? ??????????? ?????? ????? ??????????? ????????????? ???????? ????? ????????? ???????? ?????????? ????????? ??????????? } [البقرة: 188] .
وفيها إشارة إلى تحريم الرشوة، وأنه لا ينبغي لأحد أن يخاصم وهو يعلم أنه ظالم.
- ومما ورد في تحريم الغش حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: (( ما هذا يا صاحب الطعام؟!)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني))(1).
- وإلى النهي عن الغرر يشير حديث أبي هريرة - في الصحيح - قال:(( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر))(2).
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان باب قوله صلى الله عليه وسلم : "من غشنا فليس منا" رقم 102.
(2) مسلم كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم 1513.(1/10)
فالنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع المعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملك البائع عليه.
وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار وكبيع الشاة الحامل فإنه يصح البيع، لأن الأساس تابع للدار، والحمل تابع للشاة، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه لا يمكن رؤيته.
- وفي تحريم النجش(1) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش))(2)، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن.
- وفي تحريم أن يبيع الرجل على بيع أخيه حتى لا يوغر بذلك صدره حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يبع بعضكم على بيع بعض))(3)، وفي رواية (( لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له))(4).
- وإلى تحريم الاحتكار يشير حديث معمر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يحتكر إلا خاطئ))(5).
والاحتكار: شراء السلعة في وقت الغلاء وحبسها ليغلو ثمنها مع حاجة الناس إليها.
والحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس.
__________
(1) النجش: هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، الحديث متفق عليه: البخاري في كتاب البيوع، باب النجش، رقم 2142 ومسلم في كتاب البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، رقم 1516.
(2) بناء على قاعدة أن كل بيع باطل فهو ربا، وهذه قاعدة يقول بها بعض أهل العلم.
(3) متفق عليه : البخاري كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه 2139، ومسلم الموضع السابق رقم 1412.
(4) متفق عليه: الموضع نفسه البخاري رقم 2140، ومسلم (7/ 1412)، والزيادة لمسلم.
(5) صحيح مسلم كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات رقم 1605.(1/11)
- وإلى سوء منقلب من يجترئ على أكل أموال الناس بالباطل وبالأيمان الفاجرة يشير حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك))(1).
وما رواه مسلم عن ابن مسعود أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان))(2).
سابعاً : الإلزام باللوائح النظامية في إطار سيادة الشريعة.
فالتاجر المسلم لا يضع نفسه تحت طائلة العقوبات الوضعية بسب مخالفته للنظم واللوائح السائدة في المجتمع، وهو عندما يفعل ذلك لا يفعله تأسيسا على حق البشر في التشريع المطلق، وإنما يفعله تأسيساً على ما فرضه الله عليه من دفع المفاسد ومنع المضار وعدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وعليه أن يجتهد ما استطاع في تجنب الدخول في التصرفات التي تلجئه إلى الوقوع تحت طائلة الأنظمة المخالفة للشريعة، فلا يتأخر في تسديد الفواتير والالتزامات مثلا حتى لا يقع تحت طائلة الغرامات التأخيرية.
ثامناً : عدم الإضرار بالآخرين.
فالتاجر المسلم منافس شريف، تحكمه في منافسته قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فلا يتلاعب بالأسعار ارتفاعا وانخفاضا ليلحق الضرر بالآخرين، ولا يغالي في الأرباح مستغلا حاجة الآخرين وتفرده بالمنتج، فإن من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقيقاً بعذاب الله يوم القيامة.
والتاجر المسلم لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سومه، ولا يغالي في مدح سلعته إذا باع، كما لا يغالي في ذم سلع الآخرين إذا اشترى، يحدوه في كل ذلك الإنصاف والعدل الذي جبل عليه بفطرته وبه قامت السماوات والأرض.
__________
(1) مسلم كتاب الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة رقم 137.
(2) مسلم، الموضع نفسه، رقم 138.(1/12)
- قال صلى الله عليه وسلم مرسيا مبدأ النهي عن الإضرار بالآخرين (( لا ضرر ولا ضرار))(1).
- وفي تحريم أن يبيع الرجل على بيع أخيه حتى لا يوغر صدره حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يبع بعضكم على بيع بعض))،(2) وفي رواية (( لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له)).(3)
- وفي تحريم الاحتكار والتلاعب بالأسعار قوله صلى الله عليه وسلم:(( لا يحتكر إلا خاطئ.))(4)
تاسعاً : موالاة المؤمنين.
فالمستثمر المسلم مهما طوف في أرجاء الأرض، مهما شرق باستثماراته أو غرب فإنه جزء من أمة الإسلام، يحمل في قلبه الولاء لهذه الأمة محبة ونصرة، فهو ناصح لأمته، محب لخيرها، لا يظاهر عليها خصومها، ولا يدخل في استثمار مع أعدائها يلحق الضرر بها، وهو في هذا كله ينطلق من موقف عَقَدِيٍّ ثابت أكبر من المال وأرسخ من الجبال تبنيه في قلبه عقيدة الولاء والبراء، وتعمق جذوره عشرات النصوص الواردة في هذا المقام.
وتأسيسا على ما سبق فليس للمستثمر المسلم أن يقيم علاقات تجارية مع جهة تعلن حربها على الإسلام وتسفر عن عداوتها لأبنائه.
وليس له أن يتعاقد على صفقة لحوم فاسدة أو أغذية قد انتهى تاريخ صلاحيتها تشوفا إلى لعاعة من الدنيا ينالها من وراء هذا المسلك الآثم فإن في ذلك من الخيانة لأمته والمظاهرة لخصومها ما لا يجتمع مثله مع الإيمان بحال.
__________
(1) مالك في الموطأ (2/ 218)، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلاً وروى موصولاً من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وأبي هريرة ولا يصح. وقال ابن عبد البر: "وأما معنى هذا الحديث فصحيح في الأصول" التمهيد (20/ 157).
(2) تقدم ص20.
(3) تقدم ص20.
(4) تقدم ص20.(1/13)
وليس له أن يشارك في صفقات تتقوى بها هذه الجهة على المسلمين كصفقات السلاح ونحوه فإن ذلك من جنس مظاهرة المشركين على المسلمين أو اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وتحريم ذلك ثابت بالأدلة القاطعة.
قال تعالى: { ?? ???? ??? ??????????????? ?????????????? ???????????? ??? ????? ??????????????? ? ????? ???????? ??????? ???????? ???? ???? ??? ?????? ???? ??? ????? ??? ???????? ??????? } [آل عمران: 28].
وقال تعالى: { ??????????? ????????? ?????????? ?? ??????? ??? ???????? ???????????? ???????????? ????????? ????????? ?????????????? ?????? ????????? ????? ????????? ????? ????????? } [الممتحنة: 1].
عاشراً : تعلم أحكام المعاملات الشرعية.
دأب المسلمون في طول تاريخهم الذي امتلأ بالدخول في صناعة الحياة أن يكون كل ذي صنعة ومهنة ملماً بأحكامها وذلك لما استقر في مسلمات عقيدتهم أن الأحكام الشرعية تستغرق الحياة كلها، فما من فعل يصدر عن إنسان إلا ولله فيه حكم داخل في إطار الأحكام الخمسة المعروفة عند العلماء.
وفي إطار هذا نجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُخْرِجُ مِن السوق من لا علم له بأحكام البيع والشراء.
الخلاصة
الإطار الأخلاقي للمستثمر المسلم:
تحكم المستثمر المسلم في قيامه بعملياته الاستثمارية جملة من الضوابط نوجز أهمها فيما يلي:
- النية الصالحة، وتتمثل في ابتغاء الخير لنفسه بإعفافها عن الحرام وصيانتها عن ذل السؤال فضلا عن اتخاذ ذلك وسيلة لصلة الأرحام وإيتاء ذوي القربى.
- كما تتمثل في ابتغاء الخير للآخرين بالمشاركة في بناء أمته حاضراً ومستقبلاً وتحريرها من ربقة الاعتماد على الآخرين.
- يتعين على المستثمر المسلم التحلي بالخلق الحسن من الصدق والأمانة والوفاء بالعقود وحسن القضاء والاقتضاء وإنظار المعسر وتجنب المطل والغش والغرر والتدليس ونحوه.(1/14)
- كما يتوجب عليه التعامل في الطيبات فلا يستوي في نظره مشروع قمار ومشروع إعمار، ولا يستوي عنده الخبيث والطيب ولو أعجبه كثرة الخبيث، بل يُحِلُّ الحلال ويُحرم الحرام ويقف حيث أوقفه الله ورسوله.
- أداء الحقوق دونما مطل أو تسويف، وعلى رأس ذلك حقوق الله في المال من الزكوات المفروضة ثم حقوق عباده من الالتزامات العَقْديَّة ونحوها.
- تجنب الربا وما كان ذريعة إليه من العقود الفاسدة.
- تجنب أكل أموال الناس بالباطل، فحرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.
- تجنب الإضرار بالآخرين، فالمستثمر المسلم منافس شريف، تحكمه في جميع أعماله الاستثمارية قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وهي إحدى قواعد الفقه الكلية، وعليها يبنى ما لا ينحصر من المسائل الفرعية.
- الالتزام باللوائح الوضعية في إطار سيادة الشريعة حتى لا يضع نفسه تحت طائلة العقوبات الوضعية بسبب هذه المخالفات.
- موالاة المؤمنين، فالمستثمر المسلم ناصح لأمته وَفِيٌّ لعهدها لا يُظاهر عليها خصومها ولا يدخل في استثمار مع أعدائها يلحق الضرر بها.
يلزم كل مستثمر وتاجر مسلم أن يتعلم من أحكام المعاملات ما يصح به بيعه وشراؤه، وأخذه وإعطاؤه.
الوحدة الثانية
أحكام عامة في العقود
المصطلحات.
العقد: هو ارتباط إرادة بأخرى على نحو يترتب عليه التزام مشروع.
العاقدان: هما من يتوليان مباشرة العقد.
المعقود عليه: هو المبيع في عقد البيع أو العين المستأجرة في عقد الإجارة.
الصيغة: وهي تعبير العاقد عن إرادته بما يشعر بوقوع العقد.
عقد مالي من الجانبين: وهو العقد على الأعيان كالبيع والسلم.
عقد غير مالي من الجانبين: وهو ما وقع على عمل معين دون مقابل مالي كعقد الهدنة.
عقد لازم من الجانبين: وهو ما يكون لأحد المتعاقدين فيه حق الفسخ دون رضا الطرف الآخر كالبيع.
عقد غير لازم من الجانبين: وهو ما يكون لأحد المتعاقدين فيه حق الفسخ كالشركة والوكالة.(1/15)
العقد الصحيح: ما كان مشروعاً بأصله ووصفه معاً.
العقد الفاسد: ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا وصفه كعقد المجنون أو ما يكون مشروعاً بأصله وليس مشروعاً بوصفه كعقد المكره.
الأهلية: صلاحية الشخص للإلزام والالتزام.
أهلية الوجوب الكاملة: ... وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له وثبوت الواجبات عليه.
أهلية الوجوب الناقصة: وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له فحسب.
أهلية الأداء الكاملة: وهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال منه على وجه يعتد به شرعاً.
أهلية الأداء الناقصة: وهي صلاحية الإنسان لصدور بعض التصرفات منه دون بعض.
الذمة: وصف يصير به الشخص أهلا للإيجاب والاستيجاب بناء على العهد الذي جرى بين الله وعباده يوم الميثاق.
العقل: وصف يصير به الشخص أهلاً لفهم الخطاب.
التكليف: إلزام ما فيه كلفة أو هو الخطاب بأمر ونهي.
غبن فاحش: وهو ما يخرج عن تقويم المقومين.
الولاية: سلطة شرعية على النفس أو على المال يترتب عليها نفاذ التصرف شرعاً.
الفضولي: هو من يتصرف تصرفاً شرعياً فيما ليست له ولاية عليه.
العوارض: ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها.
عوارض سماوية: هي التي لا دخل للإنسان في إيجادها.
عوارض مكتسبة: ما كان للإنسان دخل في تحصيلها.
العته: ضعف في العقل ينتج عنه ضعف في الإدراك والوعي.
الخيار في اللغة: الاصطفاء والانتقاء.
وفي الاصطلاح: حق العاقد في اصطفاء خير الأمرين له إمضاء العقد أو فسخه.
خيار المجلس: حق كل من المتعاقدين في فسخ العقد أو إمضائه ماداما في المجلس.
خيار الشرط: هو اشتراط أحد المتعاقدين أو كلاهما لنفسه أو غيره حق فسخ العقد خلال مدة معلومة.
خيار الرؤية: ويقصد به حق العاقد الذي عقد على شيء لم يره أن يفسخ العقد إذا رآه.
خيار العيب: حق أحد المتعاقدين في الفسخ بسبب عيب اكتشفه في المعقود عليه المعين لم يكن على علم به من قبل.(1/16)
خيار التعيين: حق المشتري أو البائع في الخيار بمقتضى شرط في العقد أن يعين واحداً من اثنين أو ثلاثة أشياء متفاوتة القيمة.
الإكراه: حمل الغير على ما يكره من الأقوال أو الأفعال بالإبعاد والتهديد.
الغلط: ويتعلق هذا العيب بمحل العقد المعين بأن يذكر موصوفاً بوصف ثم يظهر خلافه.
الغبن: لغة النقص، واصطلاحاً: هو النقص في أحد العوضين أو كون المقابلة بين البدلين غير عادلة لعدم التساوي بين ما يأخذه أحدهم ويعطيه الآخر.
غبن يسير: ما لا يخرج عن تقويم المقومين - أي تقدير أهل الخبرة في السوق- ولا تكاد تخلو عنه المعاملات في الغالب وهو مغتفر في العقود كلها ولا يترتب عليه أثر.
أحكام عامة في العقود
للعقود في عالم الاستثمار أهمية بالغة، فهي التي تحدد العلاقة بين طرفي العلاقة الاستثمارية وتضبط حاضر هذه العلاقة ومستقبلها، إذ الأصل هو إمضاء ما اتجهت إليه إرادة العاقدين وأفصحت عنه شروطهما التعاقدية إلا إذا أحلت حراما أو حرمت حلالا أو تضمنت اعتداء على حد من حدود الله عز وجل. وفي تراثنا الفقهي من التأصيل والتفصيل لهذه العقود ما حقق المراد منها وسد حاجة الأمة في حينها، وأبقى لنا في الأصول والصور ما نصوغ به حاجتنا المعاصرة، ولا حرج في أن نفيد من تجارب غيرنا فقد أحسن الغربيون صناعة هذه العقود بما يكفل لأطرافها حقوقا والتزامات واضحة المعالم.
وبقدر ما يكون في العقود من التفصيل والدقة بقدر انتفاء المنازعات وتجنب المشاحنات في المستقبل.
والمستثمر المسلم مدعو إلى الاهتمام بأمر العقود صياغة وترتيبا من البداية ووفاء وصيانة إلى النهاية! ومن غيره أولى بذلك وهو يقرأ قوله تعالى { ??????????? ????????? ??????????? ????????? ????????????? } [المائدة: 1].(1/17)
وإليك أيها المستثمر المسلم بعض الأحكام العامة المتعلقة بالعقود وما يلزمها من الأهلية وما يتعلق بها من الخيارات توطئة لدراسة مفصلة لما تمس الحاجة إليه من عقود الاستثمار في حياتنا المعاصرة.
تعريف العقد:
العقد لغة: يطلق على معان كثيرة ترجع إلى معني الشد أو الربط بين أمرين.(1)
والعقد في الاصطلاح: هو ارتباط إرادة بأخرى على نحو يترتب عليه التزام مشروع.
وقد يطلق العقد في الاصطلاح بالمعنى العام وهو ما يعقده الشخص على نفسه أو على غيره على وجه الإلزام، ومنه قوله تعالى:
??????????? { ????????? ??????????? ????????? ????????????? } [المائدة: 1].
فالبيع ونحوه عقد، وما ألزم الإنسان به نفسه بنذر أو يمين ونحوه - يسمى عقدا كذلك.
أركان العقد:
وللعقد أركان ثلاثة: العاقدان والمعقود عليه والصيغة.
أولا: العاقدان:
والعاقدان هما من يتوليان مباشرة العقد، ويشترط فيهما أهلية التصرف حتى يقع العقد صحيحا، وتتحقق هذه الأهلية بما يلي:
الرشد: ويكون بالبلوغ والعقل وعدم الحجر، فمن كان محجورا عليه لسفه أو لإفلاس لم يصح عقده.
الاختيار: فلا يصح عقد المكره إلا إذا كان الإكراه بحق، كما لو أكره مدين مماطل أو مفلس على بيع ماله لوفاء دينه.
ويشترط للزوم العقد أن يكون خاليا من الخيارات، كخيار الشرط وخيار الرؤية ونحوه، وسيأتي تفصيل القول في ذلك .
ثانيا: المعقود عليه:
وهو المبيع في عقد البيع أو العين المستأجرة في عقد الإجارة ونحوه، ويشترط فيه حتى يقع العقد عليه صحيحا ما يلي:
__________
(1) وهذا الربط قد يكون حسيا وهو الأصل كما تقول عقدت الحبل أي شددته وجمعته. وقد يكون معنوياً، كما يقال عقدت البيع، كما يستعمل فيما يلزم به الإنسان نفسه من فعل يأتيه في المستقبل كمن يعقد العزم على الحج في هذا العام.(1/18)
1- أن يكون طاهرا أو متنجسا يمكن تطهيره، فلا يصح العقد على نجس العين كالميتة، ولا على المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن وغيره من المائعات فإن أمكن جاز.
2- أن يكون منتفعا به انتفاعا مشروعا، فالانتفاع المأذون فيه شرعا أساس المالية أو التقوم، فما لا منفعة فيه كالمحقرات التي لا يؤبه بها (1) أو كانت منفعته محرمة كمنفعة الخمر ونحوه - لم يصح العقد عليه.
3- القدرة على التسليم، فلا يصح العقد على المعدوم، ولا على المعجوز عن تسليمه، لما في ذلك من الغرر المنهي عنه.
4- أن يكون مملوكا للعاقد ملكا تاما فما لا يقبل الملك لا يصح العقد عليه.
5- أن يكون معلوما للعاقد عينا في بيع الأشياء الحاضرة، وقدرًا وجنسا وصفة فيما كان في الذمة، ففي بيع الأشياء الحاضرة يشترط العلم بأعيانها كبيع سيارة معينة أو دار معينة ونحوه، أما إذا كان المبيع في الذمة كما هو الحال في عقد السلم حيث يبيع البائع شيئا موصوفا في الذمة فيشترط العلم به قدرا وجنسا وصفة لقوله صلى الله عليه وسلم(( من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
ويشترط للزوم العقد عدم وجود ما يقتضي الخيار كظهور العيب ونحوه.
ثالثا : الصيغة:
والمراد بالصيغة تعبير العاقد عن إرادته بما يشعر بوقوع العقد، وهي تتكون من الإيجاب والقبول.
- والإيجاب ما صدر أولا والقبول ما صدر ثانيا، وهذا هو مأخذ الأحناف، فالمعتبر عندهم أولية الصدور في الإيجاب وثانويته في القبول سواء أكان من المملك أم من المتملك.
__________
(1) ومما هو جدير بالذكر أن كون الشيء منتفعاً به أو لا مما يتغير بتغير الزمان والمكان فالنفايات في الماضي كانت من المحقرات التي لا يؤبه بها فلا يصح العقد عليها، والنفايات في واقعنا المعاصر قد تستخدم في صناعة الأسمدة ونحوها فلا تصبح بعد اجتماعها من المحقرات.(1/19)
- أو الإيجاب ما دل على التمليك، والقبول ما دل على التملك، وهذا هو مذهب الجمهور، فالمعتبر عندهم في الإيجاب صدوره ممن يكون منه التمليك كالبائع والمؤجر وولي الزوجة ونحوه، والمعتبر عندهم في القبول صدوره ممن يصير له الملك، كالمشتري والمستأجر والزوج ونحوه، فالمملك هو الموجب، والمتملك هو القابل، ولا اعتبار عندهم لما صدر أولا وآخرا.
هل تنعقد العقود بالمعاطاة؟
اتفق الفقهاء على انعقاد العقد بالقول، واختلفوا في انعقاده بالمعاطاة بأن يقدم البائع السلعة ويقدم المشتري الثمن من غير صدور قول من أحد منهما ومثل ذلك في واقعنا المعاصر أجهزة الحاسب الآلي التي توضع فيها السلع وفق ترتيب خاص ويأتي المشتري فيختار ما يشاء من هذه السلع ثم يضع الثمن في مكان معين فتقدم له السلعة بطريقة آلية، والصحيحُ - الذي عليه الجمهور - جوازُ ذلك لما يأتي:
- أن حقيقة البيع المشروع مبادلة مال بمال عن تراض ولم يثبت في الدلالة على ذلك لفظ معين في الشرع فوجب الرجوع إلى العرف.
- عدم ثبوت اشتراط الإيجاب والقبول القولي في النصوص الشرعية، ولو كان شرطا لنص عليه.
- تبايع الناس في أسواقهم بالمعاطاة في مختلف الأعصار والأمصار بغير نكير فكان إجماعاً.
ويشترط في الصيغة ما يأتي:
أولاً: اتحاد المجلس، لأن الإيجاب لا يكون جزءا من العقد إلا إذا التحق به قبول، مع مراعاة أن اتحاد المجلس في كل زمن بحسبه، فقد تجري العقود عبر الهاتف فيكون المجلس هو زمان المكالمة، فما دام الاتصال جاريا والخط مفتوحا فلا يزالان في المجلس، وقد ناقش المجمع الفقهي مسألة إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة وانتهى إلى هذا القرار الذي نسوق نص مقرراته فيما يلي:
قرار رقم (45/3/6)
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة.(1/20)
1- إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة - الرسول - وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي - الكمبيوتر - ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2- إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدا بين حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
3- إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابا محدد المدة يكون ملزما بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4- أن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم(1) لاشتراط تعجيل رأس المال.
5- ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.
ثانيا: بقاء الموجب على إيجابه حتى يصدر القبول من العاقد الآخر، فإن رجع الموجب عن إيجابه اعتبر القبول واردا على غير إيجاب فلا قيمة له.
ثالثاً: عدم صدور ما يدل على الإعراض أو عدم القبول من العاقد الثاني، لأن صدور مثل هذا يلغي الإيجاب، فإن تجدد قبول بعد ذلك فلا قيمة له لأنه لم يصادف إيجابا قائما يلتقي به لينعقد العقد.
تقسيمات العقد:
للعقود تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة ؛ ونشير في هذا المقام إلى بعض هذه التقسيمات:
أولا : من حيث الحكم التكليفي:
__________
(1) في استثناء الصرف والسلم نظر، لأن الوسائل التي مكنت من إجراء العقد بين غائبين على هذا النحو تمكن أيضا من تعجيل رأس المال في المجلس في عقد السلم وذلك بتحويله فوراً إلى حساب البائع عبر التحويلات الإلكترونية، كما تمكن أيضاً من التقابض الفوري في عقد الصرف.(1/21)
تتوارد على العقود أنواع الحكم التكليفي المختلفة، فتنقسم بهذا الاعتبار إلى خمسة أقسام :
1- عقود واجبة، كعقد الزواج للقادر عليه الواجد لمؤنه الذي يخشى العنت إذا لم يتزوج.
2- عقود مندوبة، كالقرض والوقف ونحوه ، وهذا هو الأصل في عقود التبرع.
3- عقود مباحة،كالبيع والإجارة ونحوه ، وهذا هو الأصل في العقود الناقلة لملكية العين أو المنفعة .
4- عقود مكروهة، كبيع العنب لمن يشك في أنه سيعصره خمرا، وهذا هو الأصل في كل عقد يشك في إفضائه إلى معصية.
5- عقود محرمة، كالبيوع الربوية وبيع المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه.
ثانيا: من حيث المالية وعدمها:
تنقسم العقود من حيث المالية وعدمها إلى ثلاثة أقسام:
1- عقد مالي من الجانبين، وهو العقد على الأعيان كالبيع والسلم ونحوه، ومثله العقد على المنافع عند الجمهور كالإجارة والإعارة، لأن المنافع أموال أو في حكم الأموال عند الجمهور خلافا للحنفية .
2- عقد غير مالي من الجانبين، وهو ما وقع على عمل معين دون مقابل مالي كعقد الهدنة بين المسلمين وأهل الحرب؛ وعقد الكفالة أو الوصية ونحوه.
3- عقد مالي من جانب وغير مالي من الجانب الآخر، كعقد الخلع وعقد الجزية والصلح عن الدم ونحوه.
وآكد هذه العقود ما كان غير مالي من الجانبين لأن ما كان ماليا يجوز فسخه لعيب في العوض كالثمن أو المثمن أما غير المالي فلا يفسخ إلا لحدوث ما يمنع الدوام.
ثالثا: من حيث اللزوم وعدمه :
تنقسم العقود من حيث اللزوم وعدمه إلى ثلاثة أقسام :
1- عقد لازم من الجانبين، وهو ما لا يكون لأحد المتعاقدين فيه حق الفسخ دون رضا الطرف الأخر كالبيع والصرف والسلم والإجارة ونحوه.
2- عقد غير لازم من الجانبين؛ وهو ما يكون لأحد العاقدين فيه حق الفسخ كالشركة والوكالة والقرض والقراض والوصية ونحوه.
3- عقد لازم من أحد الجانبين جائز من الآخر، كالرهن بعد القبض والكفالة ونحوه.(1/22)
ومن أحكام العقد اللازم أنه لا يثبت فيه خيار مؤبد، ولا ينفسخ بموت أحد العاقدين أو كليهما أو الجنون أو الإغماء بخلاف الجائز، وخالف الحنفية في عقد الاجارة فقالوا بانفساخها بالوفاة لأنها تنعقد على المنافع وهي تحدث شيئا فشيئا ، فالمنافع التي تحدث بعد الوفاة لم تكن موجودة عند العقد فتفسخ الإجارة عندهم بالوفاة .
رابعا: من حيث اشتراط القبض وعدمه:
تنقسم العقود من حيث اشتراط القبض وعدمه إلى نوعين :
- عقود لا يشترط فيها قبض المعقود عليه عند العقد كالبيع المطلق والوكالة والحوالة والنكاح .... الخ.
- عقود يشترط فيها قبض المعقود عليه عند العقد ، وتنقسم هذه العقود إلى عدة أقسام:
1- عقود يشترط فيها القبض لنقل الملكية كالهبة والقرض، فكل هذه العقود لا تنتقل الملكية فيها بمجرد العقد بل لابد لذلك من القبض عند الجمهور خلافا للمالكية.
2- عقود يشترط فيها القبض لصحتها كالصرف والسلم وبيع الأموال الربوية ، ففي الصرف وبيع الأموال الربوية لابد من تقابض العوضين في المجلس وإلا فسد العقد، وفي السلم لابد من تعجيل رأس المال في المجلس وإلا فسد ، وأجاز المالكية تأخيره إلى ثلاثة أيام لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه ، وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
3- عقود يشترط للزومها القبض كالهبة والرهن، فالجمهور على أن هذه العقود لا تلزم بالعقد بل لابد للزومها من القبض، فللواهب حق الرجوع في هبته قبل القبض عند الجمهور وخالف في ذلك المالكية ، والرهن يبطل عند الجمهور برجوع الراهن عنه قبل قبضه من المرتهن وهكذا.
خامسا :من حيث وجود العوض وعدمه :
تنقسم العقود من حيث وجود العوض وعدمه إلى قسمين :
1- عقود المعاوضات كالبيع والشركة والإجارة والنكاح ونحوه.
2- عقود التبرعات كالهبة والوديعة والكفالة ونحوه .
ومن آثار هذا التقسيم:(1/23)
اشتراط العلم بالعوض في عقود المعاوضات فالثمن والمثمن والأجرة ونحوها لابد في كل ذلك من العلم إلا في الصداق وعوض الخلع فإن الجهالة فيه لا تبطله لأن له مَرَدًّا معلوما وهو مهر المثل، أما عقود التبرعات فلأنه لا عوض فيها فيغتفر فيها الغرر والجهالة اليسيرة لأنها مبنية على اليسر والتوسعة .
- وجوب الوفاء بما يتعهده العاقدان في عقود المعاوضات لقوله تعالى: { ????????? ????????????? } [المائدة:1]
ولما يُلحقه عدم الوفاء من الضرر بالعاقد الآخر، وهو ضياع ما بذله من العوض في مقابلته، بخلاف عقود التبرعات التي يستحب فيها ذلك ولا يجب، لأن العاقد فيها محسن وما على المحسنين من سبيل .
سادسا : من حيث الصحة والفساد:
تنقسم العقود من حيث إقرار الشارع لها وعدم إقراره إلى قسمين:
1- العقد الصحيح: وهو ما كان مشروعا بأصله ووصفه معا بحيث يكون مستجمعا لأركانه وأوصافه معا فتترتب عليه آثاره كالبيع والإجارة ونحوه عند استيفاء الأركان وشرائط الصحة .
2- العقد الفاسد: وهو ما لا يعتبره الشرع ولا يرتب عليه آثاره، وضابطه ما لا يكون مشروعا بأصله ولا وصفه كعقد المجنون والصبي غير المميز ، أو العقد على الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه ، أو ما يكون مشروعا بأصله وليس مشروعا بوصفه كعقد المكره والعقد على مجهول في عقود المعاوضة.
وفرق الحنفية بين مالم يكن مشروعا أصلا ووصفا فأطلقوا عليه( الباطل )، وما كان مشروعا أصلا لا وصفا وهو الذي خصوه باسم ( الفاسد) وتنبني على هذه التفرقة بعض النتائج العملية من حيث ترتب بعض الآثار على العقد الفاسد دون الباطل، ومن هذه الآثار عند الحنفية ما يلي:
- انتقال الملك في العقد الفاسد بقبض المبيع بإذن البائع، فيجوز للمشتري التصرف فيه بالبيع أو الهبة أو الصدقة ونحوه إلا الانتفاع، وهذا الانتقال يكون بالقيمة وليس بالثمن المسمى.(1/24)
- أنه يطيب للبائع ما ربح من الثمن بالبيع الفاسد ولا يطيب ذلك للمشتري ، ووجه التفرقة عندهم أن النقود لا تتعين بالتعيين فلا يتمكن الخبث فيها بخلاف الأعيان.
- قبول البيع الفاسد للتصحيح، إذا كان الفساد ضعيفا وهو مالم يدخل في صلب العقد، كجهالة الأجل في الخيار أو الثمن ونحوه، أما إذا كان الفساد قويا وهو ما كان في صلب العقد كالبدل أو المبدل فإنه لا يقبل التصحيح عندهم اتفاقا .
- ثبوت الخيار في العقد الفاسد كثبوته في العقد الجائز سواء أكان خيار الشرط أم كان خيار العيب.
الأهلية
تعريف الأهلية:
الأهلية لغة: الصلاحية.
وفي الاصطلاح: صلاحية الشخص للإلزام والالتزام، أي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه.
أقسام الأهلية :
تنقسم الأهلية إلى قسمين: أهلية وجوب وأهلية أداء، وكل منها إما ناقص وإما كامل فالقسمة أربعة.
أهلية الوجوب الكاملة:
وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له وثبوت الواجبات عليه، وتثبت هذه الأهلية للإنسان منذ ولادته حتى يرحل عن هذه الدنيا، وعلى كل إنسان من الواجبات حسبما تؤهله له سنه وعقله، فيجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد ما يتناسب مع طبيعته وقدرته وفهمه وعقله وطبيعة تلك الحقوق، حتى إذا بلغ عاقلا كملت أهليته لمباشرة الحقوق والواجبات.
أهلية الوجوب الناقصة:
وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له فحسب، أي دون أن يصلح لأن يجب عليه شيء وهذه الأهلية تثبت للجنين فهي تبدأ من وقت العلوق في الرحم وتستمر حتى الولادة، فللجنين في هذه المرحلة ذِمَّةٌ تُصَحِّحُ ثُبوتَ الحقوق له كالعتق والإرث والوصية والنسب ولكن لا يجب عليه شيء من الحقوق.
ومناط أهلية الوجوب الكاملة والناقصة هي الذمة.
أهلية الأداء الكاملة:(1/25)
أهلية الأداء الكاملة هي أهلية المعاملة أو التصرف، وهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال منه على وجه يُعْتَدُّ به شرعا، ومناطها كمال العقل والبدن، وذلك يكون بالرشد أي بالبلوغ والعقل وعدم الحجر، وهذه الأهلية هي مناط التكليف.
أهلية الأداء الناقصة:
وهي صلاحية الإنسان لصدور بعض التصرفات منه دون بعض، ومناط هذه الأهلية هو التمييز، وتستمر حتى البلوغ، وأكثر الفقهاء على أن سن التمييز سبع سنين لقوله: صلى الله عليه وسلم : (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع))(1) فلو لم يكونوا مميزين في هذا الوقت لما كان لأمرهم بها فائدة، فيجوز للصبي أن يباشر العبادات وتصح منه ولكنها لا تجب عليه، كما يصح له مباشرة بعض التصرفات كالبيع والشراء تحت إشراف الولي.
فكل مميز عنده أهلية أداء فإن مناط هذه الأهلية هو العقل، وهذه الأهلية تكون كاملة أو ناقصة تبعا لكمال العقل أو نقصانه.
- فأهلية الأداء الكاملة تثبت للبالغ العاقل الرشيد الذي لم يحجر عليه لأي سبب من الأسباب.
- وأهلية الأداء الناقصة هي لمن عنده أصل التمييز وليس عنده كمال العقل، وهي تشمل الصبي المميز والمعتوه المميز، والسفيه الذي لا يحسن التصرف في أمواله، ويلحق به ذو الغفلة، فهؤلاء جميعا ناقصوا الأهلية، لأنه وإن وجد لديهم أصل التمييز لكن لم يوجد لديهم كمال العقل وحسن التدبير.
مصطلحات لها علاقة بالأهلية
* الذمة:
الذمة في اللغة: هي العهد.
وفي الاصطلاح: وصف يصير به الشخص أهلا للإيجاب والاستيجاب بناء على العهد الذي جرى بين الله وعباده يوم الميثاق.
والذمة هي مناط أهلية الوجوب كما سبق، وهي توجد مع الإنسان منذ كونه جنينا في بطن أمه إلى أن يلقى ربه.
* العقل:
وصف يصير به الشخص أهلا لفهم الخطاب.
__________
(1) رواه أبو داود رقم 495 والترمذي رقم 464 والطحاوي في المشكل 2565 والحاكم (1/ 201)، وغيرهم وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.(1/26)
- ويفرق بين العقل والذمة بأن الذمةَ وصف يصير به الشخص أهلا للإيجاب والاستيجاب، أما العقل فهو يؤهل من يتصف به لفهم الخطاب.
- وإذا كانت الذمة هي مناط أهلية الوجوب فإن العقل مناط أهلية الأداء، فأهلية الأداء، هي أهلية فهم الخطاب وهذا معنى كون العقل شرطا للأهلية أي شرطا لأهلية الأداء فاستقرار الوجوب مرهون بوجود العقل.
* التكليف:
التكليف في اللغة: الأمر بما يشق.
وفي الاصطلاح: إلزام ما فيه كلفة، أو هو الخطاب بأمر أو نهي.
ومناط التكليف هو البلوغ والعقل، فمتى بلغ الإنسان عاقلا صار أهلا للتكليف، ولا يشترط له إيناس الرشد كما هو الشأن في أهلية الأداء الكاملة، فمن بلغ الحلم ولديه أصل العقل الذي به يفهم الخطاب فقد بلغ حد التكليف وإن كان لديه نوع من السفه في تدبيره المالي.
* الولاية:
سلطة شرعية على النفس أو على المال يترتب عليها نفاذ التصرف فيها شرعا.
وشرطها كما لا يخفى أهلية الأداء.
والفرق بين الأهلية والولاية أن الأهلية في العقود متجهة إلى صلاحية العبارة في ذاتها لأن تنعقد بها العقود والتصرفات أو لا تنعقد، أما الولاية فهي السلطة التي تمكن العاقد من تنفيذ العقد وترتيب آثاره عليه.
وأسباب الولاية ثلاثة:
* الأصالة: وذلك إذا كان متولي العقد هو صاحب الشأن فيه، وذلك يكون لكامل الأهلية إذا عقد لنفسه.
* الولاية الشرعية على الغير: كالتي تكون للأب أو الجد على ولده أو حفيده الصغير أو السفيه، أو التي تكون لوصي الأب أو الجد، أو القاضي على هؤلاء.
* الوكالة من صاحب الشأن.
فإذا انعدمت هذه الأسباب الثلاثة انعدمت الولاية وأصبحنا أمام تصرف فضولي، فالفضولي هو من يتصرف تصرفا شرعيا ليست له عليه ولاية، كمن يبيع ما لا يملك من غير ولاية ولا وكالة، والأصل في تصرف الفضولي أنه موقوف على إجازة صاحب الشأن.
متى تتوفر للشخص أهلية الأداء الكاملة فيما يتعلق بالمعاملات المالية؟(1/27)
تتوفر له هذه الأهلية ببلوغ الحلم وإيناس الرشد لقوله تعالى: ????????????? { ????????????? ?????? ????? ????????? ??????????? ?????? ?????????? ????????? ??????? ?????????????? ?????????? ????????????? } [النساء: 6]
فما لم يتوافرا معًا لا يعطى للصبي ماله، حتى قال بعض السلف: ( إن الرجل ليؤخذ بلحيته وما بلغ رشده). فلا يدفع لليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده.
وقد اعتبرت القوانين الوضعية بلوغ الرشد هو مناط الأهلية الكاملة، وآية ذلك بلوغه إحدى وعشرين سنة، ولكن الشريعة لم تحدد سنا لإيناس الرشد لاختلاف ذلك من حالة إلى حالة.
حكم التصرفات المالية للصبي المميز:
تنقسم هذه التصرفات إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما فيه نفع محض، وهذا يصح منه، فله قبول الهبة ونحوها مما لا ضرر فيه عليه، حتى وإن كان ذلك بغير إذن الولي.
الثاني: ما فيه ضرر محض من التصرفات؛ وهذا لا يصح منه اتفاقا، حتى ولو أجازه الولي، وذلك كالهبة والقرض ونحوهما، مما فيه إخراج للمال عن عهدته.
الثالث: ما كان مترددا بين النفع والضرر، كالبيع والشراء ونحوهما، ففيهما نفع من حيث تملكه للعين في الشراء، وللثمن في البيع، وفيهما ضرر من حيث إخراج شيء عن ملكهما.
وحكم هذا التصرف أنه موقوف على رأي وليه فإن أجازه نفذ وإلا بطل.
أهلية المرأة:
المرأة والرجل في الأهلية سواء، فيثبت للمرأة من الحقوق مثل ما يثبت للرجل، ويجب عليها مثل ما يجب عليه، وهذا الأمر محكم في الجملة لا يرد عليه إلا أمران:
- الأمر الأول: صلاحية المرأة لأن تتولى عقد النكاح، فقد منع من ذلك الجمهور وهو الأرجح وأجازه أبو حنيفة، والمسألة موضع خلاف مشهور، مع اتفاق الجميع على حق المرأة في حرية الاختيار، وأنه ليس للولي إجبارها على الزواج ممن تكره.
- الأمر الثاني: صلاحية المرأة للتبرع من مالها بما زاد على الثلث بدون إذن زوجها، فقد أجازه الجمهور ومنعه مالك رضى الله عنه.(1/28)
وفيما عدا هاتين المسألتين فالمرأة والرجل في الأهلية سواء.
عوارض الأهلية:
سبق أن أهلية الأداء مناطها البلوغ والعقل، فإذا بلغ الإنسان عاقلا فقد اكتملت أهليته وأصبح مسئولا عن تصرفاته كافة، لكن هذه الأهلية قد يعرض لها ما يؤثر فيها فتمنع الأحكام التي تتعلق بها من الثبوت، فما هذه العوارض؟ وما أثرها على الأحكام.
تعريف عوارض الأهلية:
العوارض في اللغة: جمع عارض أو عارضة، والعارض من الأشياء خلاف الأصلي ومن الحوادث خلاف الثابت، يقال: عرض له كذا إذا ظهر له أمر يصده ويمنعه عن المضي فيما كان عليه.
وفي الاصطلاح: ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته، أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها.
أقسام عوارض الأهلية:
تنقسم عوارض الأهلية إلى قسمين:
- عوارض سماوية، وهي التي لا دخل للإنسان في إيجادها كالجنون والإغماء والعته والنوم ومرض الموت.
- عوارض مكتسبة وهي ما كان للإنسان دخل في تحصيلها مثل السكر والسفه والدَّين.
- فالجنون اختلال في العقل ينشأ عنه هيجان، وهو مبطل للأهلية أثناء وجوده، فتبطل به جميع التصرفات وتصبح لاغية لا أثر لها، ولا يتنافى هذا مع إيجاب الزكاة في أمواله وتضمينه ما أتلفه، وهذا ليس من قبيل التكليف وإنما هو من قبيل ربط المسببات بأسبابها، ويتوجه الخطاب بذلك إلى القَيِّمِ عليه.
- والعته ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والإدراك، وهو لا يزيل الأهلية بالكلية ولكنه ينقصها، فتطبق على تصرفات المعتوه أحكام تصرفات الصبي المميز، فيصح منها ما كان نفعا محضا، ويبطل ما كان ضررا محضا، وما وراء ذلك موقوف على إجازة وليه.
- والنوم والإغماء يزيلان أهلية الأداء لأن مناطها - كما سبق - هو العقل، والنوم مانع من العقل ومانع من الاختيار، ولكن النوم أو الإغماء لا يمنعان ضمان المتلفات، وهذا ليس من باب التكليف كما سبق، وإنما هو ربط للأسباب بمسبباتها فيجب بها مقتضاها.(1/29)
- أما السكر فقد اتفق أهل العلم على أن السكر بطريق مباح ـ كمن شرب لإزالة غصة أو شرب المسكر غير عالم بكونه مسكرا ـ مزيل للأهلية فلا تصح معه تصرفات وإن كان لا يمنع ضمان المتلفات.
أما السُّكْرُ المُحَرَّمُ فالجمهور على أن السكر المحرم لا يبطل التكليف ولا يسقط الأهلية فكل تصرفاته صحيحة ونافذة، وخالف في ذلك المالكية في المشهور عندهم وشيخ الإسلام ابن تيمية فأبطلوا تصرفاته وجعلوا السكر في كل أحواله مبطلا للتكليف ومزيلا للأهلية.
- أما السفه وهو خلاف الرشد أي تبذير المال وإنفاقه في غير وجهه، فإن تصرفات السفيه تأخذ حكم تصرفات الصبي المميز .
- وأما الدَّيْنُ فقد اختلف فيه، والجمهور على أنه يحجر على المدين الذي أحاطت به ديونه الحَالَّةُ واستغرقت ماله إذا طالب الغرماء بالحَجْرِ عليه، فإذا قضى القاضي بتفليسه والحجر عليه انتقصت أهليته وأصبحت تصرفاته كتصرفات الصبي المميز، فما تردد منها بين النفع والضرر كان موقوفا على إجازة غرمائه فإن أجازوه نفذ وإلا بطل.
العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني:
فعند حصول العقد لا ينظر إلى الألفاظ التي استعملها المتعاقدان وإنما ينظر إلى مقاصدهما الحقيقية من هذه الألفاظ لأن المقصود الحقيقي هو المعنى وليس اللفظ ؛ وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني؛ فالاعتبار للمعنى لا للألفاظ.
فلو قال له مثلا : ضارب بهذا المال والربح كله لك – كان المال قرضا في الحقيقة وإن عبر عنه بلفظ المضاربة ؛ والكفالة بشرط براءة الأصيل - حوالة في المعني وإن عبر عنها بلفظ الكفالة وهكذا.(1/30)
يقول ابن القيم رحمه الله: ( إن القصد روحُ العقد ومصححُه ومبطلُه ؛ فاعتبار المقصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ ؛ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ؛ ومقاصد العقود هي التي تُرَادُ لأجلها؛ فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها).(1)
الخيارات في العقود:
تعريف الخيار:
الخيار في اللغة: اسم مصدر من الاختيار وهو الاصطفاء والانتقاء، ومعناه في الجملة: طلب خير الأَمْرَيْنِ والاتجاه إليه.
والخيار في الاصطلاح: حق العاقد في اصطفاء خير الأمْرين له إما إمضاء العقد أو فسخه.
والحكمة من مشروعية الخيار هي الاستيثاق من الرضا والتحقق من وجوده ولهذا جعله الشارع في أحوال خاصة، أو عندما يشترطه لنفسه أحد المتعاقدين.
أنواع الخيار:
- خيار المجلس: وهو حق كل من المتعاقدين في فسخ العقد أو إمضائه ما داما في المجلس، لقوله صلى الله عليه وسلم: (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا))(2) والتفرقُ مُطْلَقٌ في الشرع يُرجع في تحديده إلى العرف.
- خيار الشرط: وهو اشتراط أحد المتعاقدين أو كلاهما لنفسه أو لغيره حق فسخ العقد خلال مدة معلومة.
والأصل في هذا الخيار حديث حبان بن منقذ، فقد كان يغبن في البياعات فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار وقال له: (( إذا بايعت فقل لا خلابة)).(3)
ومن ناحية أخرى فإن الحاجة قد تدعو إليه عند ضعف الخبرة أو الرغبة في مشاورة آخرين ونحوه.
واختلف في المدة المشروعة في هذا الخيار، فمن أهل العلم من قصرها على ثلاثة أيام ومنهم من أجاز الزيادة بحسب الحاجة.
__________
(1) أعلام الموقعين: (3/ 106).
(2) تقدم.
(3) البخاري كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع رقم 2117، كتاب الحيل رقم 4964 ، ومسلم كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع رقم 1533.(1/31)
ويجوز أن يكون هذا الخيار لغير المتعاقدين عند الجمهور تحقيقا لنفس الحكمة من اشتراطه للمتعاقدين، وخالف في ذلك زفر والشافعي في أحد قوليه، ورأي الجمهور في ذلك أولى بالصواب.
وخيار الشرط يدخل في العقود اللازمة القابلة للفسخ، فالنكاح والطلاق والخلع ونحوه لا يدخله مثل هذا الخيار لعدم قابلية هذه العقود للفسخ في الأصل.
- خيار الرؤية: ويقصد به حق العاقد الذي عقد على شيء لم يره أن يفسخ العقد إذا رآه.
ويشترط لثبوته أمران: أن يكون محل العقد شيئا معينا كدار أو سيارة ونحوه، وأن يكون غير مرئي حال العقد .
وخيار الرؤية موضع خلاف بين أهل العلم بناء على خلافهم في جواز بيع الأعيان الغائبة، فمنهم من أجازه بإطلاق، ومنهم من منعه بإطلاق، ومنهم من أجازه على الصفة ومنعه بدونها، وسيأتي تفصيل القول في ذلك في مبحث الغرر إن شاء الله.
- خيار العيب: وهو حق أحد المتعاقدين في الفسخ بسبب عيب اكتشفه في المعقود عليه المعين لم يكن على علم به من قبل.
والحكمة في تشريعه ظاهرة، فإن الرضا بالعقد قد قام على أساس السلامة من العيوب، واكتشاف العيب دليل على انهيار الأساس الذي قام عليه الرضا، فشرع هذا الخيار تداركا للخلل الذي نال الرضا.
والعيب الذي يثبت الخيار هو الذي يوجب نقصان القيمة عند التجار، ومَرَدُّ ذلك إلى أهل الخبرة، كما أنه يشترط في هذا العيب أن يكون حادثا قبل القبض، وألا يكون العاقد على علم به، وبداهةُ اشتراط ذلك ظاهرة.
وخيار العيب يثبت لصاحبه الحق في إمضاء البيع أو فسخه، هذا إذا كان الفسخ ممكنا، أما إذا امتنع الفسخ بحدوث زيادة في المبيع أو نقص قبل العلم بالعيب فإن له الحق في التعويض بأن يأخذ مقدار ما أوجبه العيب من نقصان في القيمة.
أما إذا رضي بالعيب صراحة أو دلالة فقد سقط حقه في الخيار.(1/32)
- خيار التعيين: ومعناه: حق المشتري أو البائع في الخيار بمقتضى شرط في العقد أن يعين واحدًا من اثنين أو ثلاثة أشياء متفاوتة القيمة، فالعقد يكون معقودا على واحد من شيئين أو ثلاثة على أن يكون لأحد العاقدين الحق في تعيينه.
وهذا الخيار موضع خلاف بين أهل العلم، فمنعه جمهورهم نظرا للجهالة التي تكتنف محل العقد فيكون من الغرر الذي يفسد العقود، وأجازه أبو حنيفة للحاجة والعرف، ولكون الجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة.
ويشترط لصحة هذا الخيار عند من يقول به ثلاثة شروط:
- أن يكون التخيير بين ثلاثة أشياء فأقل لأن الحاجة تندفع بذلك، فما زاد عليها لا حاجة له فلا وجه له.
- التفاوت بين الأشياء المخير فيها مع بيان الثمن لكل واحد، فالتفاوت منعا لعبثية التخيير، وبيان الثمن منعاً للجهالة المفضية إلى المنازعة.
- تعيين المدة، وقد اشترط أبو حنيفة ألا تزيد على ثلاثة أيام قياسا لها على خيار الشرط، واكتفى الصاحبان بمجرد التعيين ولو زادت المدة عن ذلك.
- واختلف القائلون بهذا الخيار كذلك: هل يجب لصحته أن يكون معه خيار الشرط بأن يشترط العاقد الذي اشترط لنفسه خيار التعيين أن يكون له حق الفسخ مدة معلومة بحيث يكون مخيرا بين الاختيار والتعيين أو الفسخ أم لا يشترط ذلك فليس له إلا الاختيار والتعيين وليس له أن يردها جميعا؟ والأكثرون في المذهب على هذا الأخير.
عيوب العقد:
قد تحيط بإنشاء العقد بعض العيوب بحيث تعدم الرضا أو تجعله قائما على غير أساس صحيح من العلم فتعطي للمتضرر الحق في الفسخ، وتتمثل هذه العيوب فيما يلي:
أولا : الإكراه:
وهو حمل الغير على ما يكره من الأقوال أو الأفعال بالإيعاد و التهديد.
ويشترط له لكي يكون معتبرا ما يلي:
- أن يكون المكرِه قادرا على تنفيذ ما هَدَّدَ به.
- وأن يغلب على ظن المكرَه تنفيذُ ما هُدِّدَ به.
فإن تخلف أحد هذين الأمرين أو كلاهما - كان الإكراه لَغْوًا لا أثر له.(1/33)
والإكراه قسمان: ملجئ وغير ملجئ.
- فالإكراه الملجئ هو الذي يفسد الرضا والاختيار ويكون معه المُكْرَهُ كالآلة في يد المكره، ويكون هذا الإكراه بالتهديد بالقتل أو إتلاف أحد الأعضاء أو الضرب المبرح الذي يخشى منه تلف النفس أو أحد الأعضاء أو إتلاف جميع المال.
- أما الإكراه غير الملجئ فهو الذي يفسد الرضا ولا يفسد الاختيار، ويكون بالتهديد بأذى دون ما ذكر في الإكراه الملجئ كالتهديد بالضرب الذي لا يؤدي إلى تلف النفس أو العضو، أو التهديد بإتلاف بعض المال.
أما إذا كان الأذى يسيراً لا يبالى بمثله فلا أثر له وليس من الإكراه في شيء.
ومرد التفريق بين الأذى الذي لا يبالي به والأذى الذي يرتفع إلى مرتبة الإكراه إنما هو القضاء، إذ ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص، ونصب المقادير بالرأي ممتنع، فيرجع في ذلك إلى القضاء لاختلافه باختلاف أحوال الناس، فمنهم من لا يتضرر إلا بالضرب الشديد والحبس المديد، ومنهم من يتضرر بمجرد التأنيب أو تقطيب الجبين!
وقد اتفق الفقهاء على أن التصرفات المالية التي تقوم على الرضا كالبيع والشراء ونحوه لا تكون صحيحة نافذة مع الإكراه، ولكن هل تقبل هذه التصرفات الإجازة بعد زوال الإكراه أم لا؟ أي إذا حصل الرضا بعد الإكراه فهل تقبل التصحيح أم لا؟ خلاف بين أهل العلم، جمهورهم على المنع وأبو حنيفة على الإجازة.
ثانيا: الغلط.
ويتعلق هذا العيب بمحل العقد المعين، بأن يذكر موصوفا بوصف ثم يظهر خلافه، كمن اشترى حلية من الماس فتبين أنها من الزجاج، أو اشترى ثوبا على أنه من الحرير فتبين أنه من القطن.
ولا شك أن الغلط على هذا النحو يؤثر في الرضا نظرا للاختلاف بين الواقع وبين الحال المقدر الذي انصب عليه الرضا، بل قد يبلغ الأمر مبلغ انعدام العقد لانعدام محله كمن تعاقد على قطعة من الذهب فوجدها من النحاس، لأن المعقود عليه وهو الذهب غير موجود فيبطل العقد لانعدام محله.
والغلط نوعان:(1/34)
- نوع يترتب عليه بطلان العقد وهو الذي يرجع الاختلاف فيه إلى الاختلاف في الجنس أو الاختلاف البين في المنافع كالاختلاف بين الذهب والنحاس أو بين المذكاة والميتة في اللحوم.
- ونوع لا يختلف فيه الجنس ولا المنافع اختلافا بينا كمن يشتري حيوانا على أنه ذكر فيتبين أنه أنثى أو العكس، وهذا لا يبطل العقد ولكن يعطي للمتضرر حق الفسخ.
ثالثا : الغبن:
والغبن في اللغة: هو النقص.
وفي الاصطلاح: هو النقص في أحد العوضين، أو كون المقابلة بين البدلين غير عادلة لعدم التساوي بين ما يأخذه أحدهما وما يعطيه، كمن يبيع دارًا بعشرة وقيمتها ثمانية، فهو من جهة الغابن تمليك مال بما يزيد عن قيمته، ومن جهة المغبون تملك مال بأكثر من قيمته.
والغبن عند الفقهاء قسمان: غبن يسير وغبن فاحش.
- غبن يسير: وهو ما لا يخرج عن تقويم المقومين - أي تقدير أهل الخبرة في السوق- ولا تكاد تخلو عنه المعاملات في الغالب، وهو مغتفر في العقود كلها ولا يترتب عليه أثر.
- غبن فاحش: وهو ما يخرج عن تقويم المقومين، وهذا النوع يبطل العقود التي يكون موضوعها أموال الأوقاف أو المحجور عليهم، أو أموال بيت المال لأن التصرف في هذه الأنواع من الأموال يجب أن يكون في دائرة المصلحة لها.
أما ما وراء ذلك من العقود فقد اختلف في أثر الغبن الفاحش عليها على ثلاثة أقوال:
- الأول: أن هذا الغبن لا أثر له رعاية لمصلحة استقرار العقود وصيانتها عن البطلان، ولأن المغبون لم يخل من قدر من التقصير أو التسرع فعليه أن يتحمل تبعة ذلك.
-الثاني: أن للمغبون حق الفسخ مطلقا رفعا للمظلمة الواقعة عليه.
- الثالث: أن هذا الغبن يعتبر إن كان مرده إلى تغرير من الغابن فيثبت للمغبون حق الفسخ، فإن لم يكن عن تغرير فلا أثر له، ولعل هذا الرأي هو أعدل هذه الآراء. والله أعلم.(1/35)
ومرد التفرقة بين اليسير والفاحش إلى العرف، إذ ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وما ورد من تقديرات لِحَدِّ الغبن في عبارات بعض الفقهاء فهو ليس شريعة لازمة وإنما كان مبناه على ما شاع من الأعراف في أزمنتهم.
نظرية الظروف الطارئة.
قد يطرأ بعد إبرام بعض العقود ذات التنفيذ المتراخي تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال تجعل تنفيذ أحد الطرفين لالتزاماته كما وردت بالعقد مما يلحق به آثارا بالغة الضرر كما لو ارتفعت العملة ارتفاعا مفاجئاً، أو ارتفعت أسعار المواد الخام في عقد استصناع ارتفاعا مفاجئا ونحو ذلك. فما موقف الفقه الإسلامي من هذه القضية.
إن أصول الشريعة تقتضي جواز تعديل الالتزامات بما يحقق العدالة ويوزع أعباء هذه الظروف المفاجئة على طرفي العقد.
ولقد عرض هذا الأمر على مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة 2041هـ وقرر بهذا الصدد ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ - كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات - إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً - بأسباب طارئة عامة لم تكون متوقعة حين التعاقد - فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع - وبناء على الطلب - تعديل الحقوق والالتزامات بصورة توزع القدر المتجاوز للتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين.
كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.(1/36)
2- ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ودفعاً للضرر الملحق لأحد المتعاقدين لسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها.
الأصل في العقود والشروط الحل.
- الأصل في العقود والشروط الحل، في أرجح قولي العلماء(1) فلا يحرم منها إلا ما دل الشرع على تحريمه نصا أو قياسا، ومن أدلتهم على ذلك:
- أن الأصل في العقود رضا المتعاقدين وموجبها ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، قال تعالى:
{ ??????????? ????????? ?????????? ?? ???????????? ???????????? ????????? ????????????? ???? ??? ??????? ????????? ??? ??????? ???????? } [النساء: 29].
فاستثني من عدم جواز الأكل ما كان عن تراض، فلم يشترط في التجارة إلا التراضي كما اشترط في التبرع طيب النفس فدل على أن كل ما حصل فيه ذلك فهو جائز إلا ما ورد الشرع بتحريمه كالتجارة في الخمر.
- أن العقود والشروط من العادات والأصل فيها عدم التحريم لأن الأصل في العادات الإباحة، قال تعالى: { ?????? ?????? ????? ??? ?????? ?????????? ???? ??? ?????????????? ???????? } [الأنعام: 119] ،
وهو عام في الأعيان والأفعال، فيستصحب ذلك حتى يأتي ما يدل على الحرمة.
- أن النصوص الشرعية المانعة من أنواع المعاملات قليلة جدا وهذا يعني أن ما عدا ذلك على أصل الحل، قال ابن العربي: هناك أربع نصوص هي قواعد المعاملات في الإسلام:
__________
(1) جمهور أهل العلم على أن الأصل في العقود الحل، أما الأصل في الشروط فمختلف فيه، فالجمهور على تقييد الشروط بالمنصوصة أو المستنبطة اجتهاداً، وخالف الحنابلة وابن شبرمة وبعض المالكية فقالوا بحرية العقود والشروط.(1/37)
1- آية التراضي. 2 - قوله تعالى: { ???????? ???? ?????????? }
3- أحاديث الغرر. 4 - اعتبار المقاصد في الشريعة.
- أن عقود المعاملات المختلفة كالبيع والإجارة والهبة ونحوه لم يحد لها الشارع حدا في الكتاب والسنة، ولا نقل عن أحد من السلف أنه عين لها صفة معينة، وكل مطلق في الشرع يرجع في تحديده إلى العرف، فما عده الناس بيعا أو إجارة فهو بيع أو إجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال.
- وخالف في ذلك الظاهرية فقالوا: لا يباح شيء من العقود والشروط إلا ما دل عليه نص من الكتاب والسنة، واستدلوا على ذلك بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))(1) وقوله صلى الله عليه وسلم (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائه شرط))(2) ، وقد نوقش الحديث الأول بأن محمله على العبادات وقد اتفق على كونها توقيفية، ونوقش الحديث الثاني بأن محمله على شرط يخالف الكتاب والسنة، وبطلان ذلك موضع اتفاق، ولكنه لا يدل بالضرورة على وجوب أن يستند كل شرط في مشروعيته إلى دليل جزئي مباشر من الكتاب والسنة.
الشرط الجزائي في العقود.
مما شاع في عقود المقاولات والتوريدات المعاصرة وجود شروط جزائية تلزم المقاول أو المتعهد بإنجاز التزامه خلال مدة معينة، وتفرض عليه غرامة عند تأخره عن الوفاء بالتزامه في الميقات المتفق عليه، فما مدى مشروعية هذه الشروط؟
إن من يتأمل في هذه الشروط يجدها من مصلحة العقد لأنها حافز على إكماله في وقته المحدد، ولهذا فإن النظر يقتضي صحة هذه الشروط ما لم يكن هناك عذر معتبر شرعا، فإن كان فيها مبالغة فيما تفرضه من غرامات وجب الرجوع فيها إلى العدل والإنصاف، ويرجع في تقدير ذلك إلى القضاء عن طريق أهل الخبرة والنظر.
__________
(1) صحيح مسلم.
(2) متفق عليه.(1/38)
وقد بحثت هيئة كبار العلماء بالسعودية قضية الشروط الجزائية وانتهت إلى صحتها والعمل بموجبها ورد المباَلِغ فيه منها إلى العدل والإنصاف، وفيما يلي نص قرار الهيئة بهذا الصدد.
قرار هيئة كبار العلماء حول الشرط الجزائي:
(بعد مداولة الرأي والمناقشة واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه، وتأمل قوله تعالى: ??????????? { ????????? ??????????? ????????? ????????????? } وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (( المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)) ولقول عمر رضي الله عنه: (( مقاطع الحقوق عند الشروط)) والاعتماد على القول الصحيح: من أن (الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياساً).
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع:
أحدها: شرط يقتضيه العقد: كاشتراط التقابض وحلول الثمن.
الثاني: شرط من مصلحة العقد: كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به، أو صفة في المثمن ككون الأمة بكراً.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافياً لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا.
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع:
أحدها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقداً آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك.
الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد: كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه، أو ألا يباع أو يوهب أو يعتق.
الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد كقوله: بعتك إن جاء فلان.
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدود له.(1/39)
والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لِكَرِيِّهِ : أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه.
وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلاً باع طعاماً وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ فقال شريح للمشتري: (أنت أخلفت) فقضى عليه.
وفضلاً عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضي والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقاً لقوله تعالى { ??????????? ????????? ??????????? ????????? ????????????? } .
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع: أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعاً فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة. ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملاً بقوله تعالى:
??????? { ????????? ?????? ???????? ??? ??????????? ???????????? } [النساء: 58]،
وقوله سبحانه: { ???? ?????????????? ????????? ?????? ?????? ???? ??????????? ? ??????????? ???? ???????? ?????? ???? [المائدة:8] وبقوله صلى الله عليه وسلم: (( لا ضرر ولا ضرار)) وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخلاصة
أحكام عامة في العقود:
العقد: ارتباط إرادة بأخرى على نحو يترتب عليه التزام مشروع .
- أركان العقد ثلاثة:(1/40)
- العاقدان: ويشترط فيهما أهلية التصرف من الرشد والاختيار، ويشترط للزوم العقد في حقهما خلوه من الخيارات كخيار الشرط ونحوه.
- المعقود عليه: ويشترط فيه أن يكون طاهرا منتفعا به مقدورا على تسليمه مملوكا للعاقد ملكا ثابتا ومعلوما له علما نافيا للجهالة وقاطعا للمنازعة.
- الصيغة: وهي تعبير العاقد عن إرادته بما يشعر بوقوع العقد، وتتكون الصيغة من الإيجاب والقبول، والإيجاب هو ما صدر أولا أو ما دل على التمليك، والقبول ما صدر ثانيا أو ما دل على التملك.
واتفق أهل العلم على انعقاد العقد بالقول، واختلفوا في انعقاده بالمعاطاة - أي بالفعل دون قول - والصحيح هو الجواز.
ويشترط في الصيغة: اتحاد المجلس، وبقاء الموجب على إيجابه حتى يصدر القبول من العاقد الآخر، وعدم صدور ما يدل على الإعراض أو عدم القبول من العاقد الثاني.
- الأهلية: هي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام، أي لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه.
والأهلية: نوعان: أهلية وجوب وأهلية أداء، وكل منهما إما كامل وإما ناقص فالقسمة أربعة:
- أهلية الوجوب الكاملة: وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له وثبوت الواجبات عليه، وتثبت للإنسان منذ ولادته حتى رحيله عن هذه الدنيا.
- أهلية الوجوب الناقصة: وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له فحسب وهي تثبت للجنين من وقت العلوق حتى الولادة.
- أهلية الأداء الكاملة: وهي أهلية التصرف، أي صدور الأفعال من الإنسان على وجه يعتد به شرعا، وهي تكون بالرشد والاختيار.
- أهلية الأداء الناقصة: وهي صلاحية الإنسان لصدور بعض التصرفات منه دون بعض، ومناطها التمييز وتستمر حتى البلوغ، فإن بلغ راشداً ثبت له أهلية الأداء الكاملة.
- وتنقسم تصرفات الصبي المميز إلى ثلاثة أقسام:
- ما يصح منه اتفاقا، وهو ما كان له فيه نفع محض كقبول الهبة.
- ما لا يصح منه اتفاقا، وهو ما فيه ضرر محض كبذل الهبة والقرض ونحوه.(1/41)
- ما يكون موقوفا على رأي وليه، وهو ما تردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء ونحوه.
المرأة والرجل في الأهلية سواء، لا يستثنى من ذلك إلا أمران:
- أهلية المرأة لتولي عقد الزواج، فقد منع ذلك الجمهور وأجازه أبو حنيفة.
أهليتها للتبرع بما زاد على الثلث من مالها بغير إذن زوجها، فقد منع من ذلك الجمهور وأجازه مالك رحمه الله.
عوارض الأهلية:
هي ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها.
وتنقسم عوارض الأهلية إلى قسمين:
- عوارض سماوية، وهي ما لا دخل للإنسان في إيجادها كالجنون والإغماء والعته والنوم، وهذه العوارض تبطل الأهلية أثناء وجودها فيبطل بها جميع التصرفات وتصبح لاغية لا أثر لها، ولا يتنافى هذا مع إيجاب الزكاة في أموالهم وتضمينهم قيم المتلفات لأن ذلك من قبيل ربط الأمور بمسبباتها، ويتوجه الخطاب بذلك إلى القيم عليهم.
- عوارض غير سماوية وهي ما كان للإنسان دخل في تحصيلها كالسكر والسفه والدَّين ومرض الموت.
والجمهور على أن السكر المحرم لا يسقط الأهلية ولا يبطل التكليف وخالف في ذلك المالكية في المشهور عندهم وابن تيمية رحمه الله.
أما السفيه والمحجور عليه لدين فإن تصرفاته تأخذ حكم تصرفات الصبي المميز.
الخيارات في العقود:
- الخيار هو حق العاقد في اصطفاء خير الأَمْرين له: إمضاء العقد أو فسخه، وقد شرع للاستيثاق من الرضا والتحقق من وجوده.
والخيارات أنواع منها:
- خيار المجلس، وهو حق كل من المتعاقدين في فسخ العقد أو إمضائه ما داما في المجلس.
- خيار الشرط، وهو اشتراط أحد المتعاقدين أو كلاهما لنفسه أو لغيره حق الفسخ خلال مدة معلومة.
- خيار الرؤية، وهو حق العاقد الذي عقد على شيء لم يره أن يفسخ العقد إذا رآه.
- خيار العيب وهو الحق في الفسخ بسبب اكتشاف عيب في المعقود عليه.
* عيوب العقد:(1/42)
قد تكتنف إنشاء العقد بعض العيوب التي تعدم الرضا أو تعيبه فتعطي للمتضرر الحق في الفسخ، ومن هذه العيوب:
_ الإكراه، وهو حمل الغير على ما يكره من الأقوال والأفعال بالإيعاد والتهديد.
وهو قسمان:
- ملجئ: وهو ما يفسد الرضى والاختيار، ويكون بالتهديد بالقتل أو إتلاف أحد الأعضاء أو إتلاف جميع المال.
- غير ملجئ: وهو الذي يفسد الرضى ولا يفسد الاختيار ويكون بالتهديد بالضرب أو إتلاف بعض المال.
وقد اتفق أهل العلم على عدم نفاذ التصرفات المالية مع الإكراه، واختلفوا في قبولها للإجازة بعد زواله.
- الغلط: وهو يتعلق بمحل العقد المعين، كمن اشترى حلية من الماس فوجدها من الزجاج.
والغلط نوعان:
- نوع يبطل العقد وهو ما اختلف فيه الجنس أو المنافع اختلافا بينا كالاختلاف بين الذهب والنحاس أو بين الميتة والمذكاة في اللحوم.
- نوع لا يبطل العقد ولكن يعطي للمتضرر حق الفسخ، وهو ما لم يختلف فيه الجنس، أو المنافع اختلافا بينا، كمن اشترى حيوانا على أنه ذكر فتبين أنه أنثى.
- الغبن، وهو النقص في أحد العوضين، أو كون المقابلة بينهما غير عادلة.
وهو قسمان: يسير وفاحش
- أما اليسير فهو ما لا يخرج عن تقويم المقومين من أهل الخبرة، وهو مغتفر في العقود ولا تكاد تخلو منه البياعات فلا يترتب عليه أثر.
- وأما الفاحش وهو ما يخرج عن تقويم المقومين، واختلف في أثره على العقود على ثلاثة أقوال: عدم اعتباره مطلقا رعاية لمصلحة استقرار العقود، أو اعتباره مطلقا رفعا للمظلمة الواقعة بسببه، أو اعتباره إذا كان بتغرير من الغابن وعدم اعتباره إذا لم يكن عن تغرير منه، ولعل هذا الأخير أولى هذه الأقوال بالصواب.
وهذا التفصيل السابق في غير أموال الأوقاف والمحجور عليهم وأموال بيت المال لأن هذه الصور يعتبر فيها الغبن مطلقا؛ لأن التصرف في هذه الأموال ينبغي أن يكون في دائرة المصلحة لها.
نظرية الظروف الطارئة:(1/43)
إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا مفاجئا كارتفاع أسعار العملة أو ارتفاع أسعار المواد الخام فأصبح تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة لم تكن في حسبانه جاز للقاضي عند التنازع تعديل الحقوق والالتزامات بما يكفل توزيع الخسارة الطارئة على الفريقين، كما يجوز له فسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح مع تعويض عادل لصاحب الحق في التنفيذ، كما يجوز له أن يمهل الملتزم إذا رأي ملاءمة ذلك لمصلحة المتعاقدين.
- الأصل في العقود والشروط الحل، ولا يحرم منها إلا ما دل الشرع على تحريمه نصا أو قياساً.
الشرط الجزائى:
الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعاً فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية - فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة.
الوحدة الثالثة
المال والعمل والربح
المصطلحات:
المال: في اللغة: ما يقتنى ويملك من كل شيء.
في الاصطلاح: يرى الأحناف أن المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة.
المال المثلي: هو ما يوجد له مثل في السوق دون تفاوت يعتد به في التعامل.
المال القيمي: ما لا يوجد له مثل في السوق أو يوجد ولكن يتفاوت في القيمة.
العقار: ما لا يمكن نقله وتحويله (كالأرض).
المنقول: كل ما أمكن نقله وتحويله.
العمل: لغة: المهنة والفعل بصفة عامة.
وفي الاصطلاح: قد يستعمل بالمعنى العام الشامل لكل أفعال الإنسان وتصرفاته وقد يستعمل بالمعنى الخاص بالحرفة والمهنة وطلب الرزق.
الربح: هو الفرق الزائد بين ثمن البيع وثمن الشراء بعد خصم المصروفات التجارية.(1/44)
الإيرادات الكلية: هي ثمن السلع المباعة، والتكاليف الكلية: هي النفقات الظاهرة والضمنية.
الاحتكار: كل ما أضر بالناس حبسه سواء أكان في القوت أو غيره.
المال والعمل والربح
عالم التجارة هو عالم المال، ويدور العمل التجاري في العالم أجمع قديمه وحديثه على طلب المال ابتداء أو استثمارا، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل في هذا المال والكدح في تثميره في أغلب الأحوال، والمقصود من العمل في المال هو الاسترباح وابتغاء الفضل، ومن ثم كان لزاما على المستثمر المسلم أن يتعرف على الإطار الفقهي للمال والعمل والربح في مواريثنا الإسلامية باعتبار ذلك مدخلا لدراسة الأحكام الشرعية التي تتعلق بالاستثمار بصفة عامة، فهلم أيها المستثمر المسلم إلى هذه الكلمة المجملة.
تعريف المال:
المال في اللغة: ما يقتنى ويملك من كل شيء.
وفي الاصطلاح: يرى الأحناف أن المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، ولكن هذا المال لا يكون متقوما إلا بإباحة الانتفاع به شرعا فهم يفرقون بين المالية وبين التقوم: فالمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم لا يثبت إلا بالإباحة الشرعية، فالخمر والميتة والخنزير والفوائد الربوية أموال ولكنها ليست متقومة.
ولا يرى غير الأحناف ثبوت المالية ابتداء إلا بالإباحة الشرعية، فالخمر والميتة وأمثالها ليست أموالا ابتداءً.
أقسام المال:
تنقسم الأموال إلى أنواع مختلفة بحسب اختلاف جهة التقسيم، ومن هذه التقسيمات:
القيمي والمثلي:
يشيع في مواريثنا الفقهية استخدام هاتين الكلمتين في أبواب المعاملات فما المراد بهما ؟
- المثلي: هو ما يوجد له مثل في السوق دون تفاوت يعتد به في التعامل ، ومنه المكيلات والموزونات والعدديات التي لا يكون بين أفرادها تفاوت في القيمة، وذلك كأنواع الحبوب والبيض والثياب التي تصنعها الآلات ونحوه.(1/45)
- والقيمي : ما لا يوجد له مثل في السوق أو يوجد ولكن يتفاوت في القيمة كالحيوانات والجواهر الكريمة ونحوه.
ويترتب على التفرقة بين المثلي والقيمي كثير من الأحكام نذكر منها:
- أن المثلي يضمن بمثله عند الاعتداء بخلاف القيمي فإنه يضمن بقيمته.
- أن المثليات تثبت دينا في الذمة إذ يمكن ثبوتها بأوصافها، أما القيميات فلا تثبت إلا بأعيانها.
العقار والمنقول:
تنقسم الأموال في الشريعة إلى عقار ومنقول:
- فالعقار ما لا يمكن نقله وتحويله كالأرض وما اتصل بها اتصالَ قرارٍ كالبناءٍ.
- والمنقول كل ما أمكن نقله وتحويله.
وعند الأحناف لا يشمل العقار إلا الأرض ، ويتسع مدلوله عند المالكية ليشمل الأرض وما اتصل بها اتصال قرار كالغراس والبناء لأنهما لا يقبلان الانتقال الا مع التغيير فيتحول البناء إلى أنقاض ويتحول الغراس إلى أحطاب .
ويترتب على هذا التقسيم عدد من الأحكام نذكر منها :
- صحة بيع العقار قبل قبضه عند بعض أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف وعدم صحة بيع المنقول قبل قبضه مع خلاف في بعض الصور .
- البدء بتصفية المنقولات قبل العقارات في حالة الإفلاس .
- عدم جواز بيع عقار المحجور عليه لصغر أو عته أو سفه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة أو حاجة دافعة وجواز بيع المنقولات بقيد المصلحة فحسب.
- تعلق حقوق الجوار والارتفاق بالعقارات دون المنقولات .
- انعقاد الإجماع على صحة وقف العقار ووقوع الخلاف في المنقولات .
- ثبوت الشفعة في العقارات وعدم ثبوتها في المنقولات إلا إذا دخلت في العقار تبعا.
وينقسم المال من حيث قابليته للتملك إلى ثلاثة أقسام:
- ما لا يجوز تمليكه ولا تملكه، ويشمل المنافع العامة كالطرق والجسور والكباري ونحوه ما دامت للنفع العام.
- ما يمتنع فيه التمليك والتملك إلا لمسوغ شرعي كالعقارات الموقوفة والأراضي التابعة لبيت المال ونحوه.
- ما يجوز فيه التمليك والتملك وهو ما عدا القسمين السابقين.
وأسباب التملك ثلاثة:(1/46)
- وضع اليد على الشيء المباح الذي لا مالك له بشروط مخصوصة.
- العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة ونحوه.
- الميراث.
والحقوق في المال ثلاثة:
1- حق الفرد: فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، والاعتداء على هذا الحق بالسرقة يوجب القطع، وبغيرها يوجب التعزير، وفي جواز العقوبة بالمال خلاف مشهور من أهل العلم، والقول بجوازها قول متوجه.
2- حق الله: فالمال في الأصل ماله، والناس جميعا مستخلفون فيه، قال تعالى: { ??????????? ???? ?????
???? ???????? ?????????? } [النور: 33]، وقال تعالى: { ???????????? ????? ????????? ??????????????? ????? } [الحديد: 7] ،
ومقتضى هذا الحق أمران: التصرف في هذا المال على وفاق الشريعة، وإخراج الزكاة الواجبة، فالفقراء شركاء في هذا المال بما يستحقون من الزكاة.
3- حق الجماعة: ومقتضى هذا الحق تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض شريطة التعويض العادل الذي تصان به الحقوق لأصحابها.
تعريف العمل:
العمل في اللغة: المهنة، والفعل بصفة عامة.
وفي الاصطلاح قد يستعمل بالمعنى العام الشامل لكل أفعال الإنسان وتصرفاته كقوله تعالى:
{ ?????? ??????????? ????????? ???? ?????????? ???????????? ????????????????? } [التوبة: 105].
وقد يستعمل بالمعنى الخاص: أي الحرفة والمهنة وطلب الرزق، كقوله صلى الله عليه وسلم: (( ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)).(1)
والحدود الإسلامية للعمل: الإخلاص والمتابعة، أي أن يقصد بعمله وجه الله، وأن يكون عمله صوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) البخاري كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده رقم 2072.(1/47)
قال تعالى { ????? ????? ????????? ???????? ???????? ???????????? ?????? ???????? ???? ???????? ??????????? ????????? ??????? } [الكهف: 110] ، وصلاح العمل إنما يكون بموافقته للشريعة، ولا يثيب الله عليه إلا إذا قصد به وجهه وحده.
حكم العمل:
والعمل فيما لا تقوم حياة الإنسان إلا به - فَرْضُ عَيْنٍ، وفيما لا تقوم حياة الجماعة إلا به - فرض على الكفاية، فالقيام على الحرف والصناعات بالنسبة لمجموع الأمة فرض على الكفاية، والتوكل على الله لا يعني القعود عن العمل وترك الأسباب فإن هذا هو التواكل المذموم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بالخروج عن رزقهم ومكاسبهم بل أقرهم على ما يرضاه الله منها، فلا سبيل إلى ذم الأسباب المشروعة، وإنما يذم منها ما شغل عن الله وصد عن معاملته، كما قال تعالى:
{ ??????? ?? ??????????? ????????? ???? ?????? ??? ?????? ???? } [النور: 37].
والعلم والعمل في الإسلام لا ينفصمان، فلابد للعامل من تعلم الأحكام الشرعية المرتبطة بمهنته حتى لا تزل به القدم فيقع في محرم شرعا، فعلي التاجر أن يأخذ من الفقه نصابا يعصمه من المعاملات المحرمة، ومن هنا كان هذا الكتاب، وقُلْ مثل ذلك في الطبيب والزارع والصانع وغيرهم من العملة.
وكما يجب على العامل تعلم ما يتعلق بمهنته من الأحكام الشرعية فإنه يجب عليه كذلك إتقان مهنته وإحسان عمله واتخاذ الأسباب التي تعينه على ذلك من التدريب والتعليم ونحوه وإلا كان غاشا للمسلمين (( من غشني فليس مني)) ومن تطبب ولم يعلم منه الطب فهو ضامن.
الربح ما يحل منه وما يحرم.
- الربح هو الفرق الزائد بين ثمن البيع وثمن الشراء بعد خصم المصروفات التجارية.
ويعرفه الاقتصاديون بأنه: الفرق بين الإيرادات الكلية والتكاليف الكلية، والإيرادات الكلية هي ثمن السلع المباعة، والتكاليف الكلية هي النفقات الظاهرة والضمنية.(1/48)
ولما كانت التجارة هي البيع والشراء بقصد الاسترباح فإن الربح أحد مقاصدها الأساسية ، بل هو المقصود الأصلي بها .
- والأصل في الاسترباح هو المشروعية إلا إذا كان ذلك من طريق محرم ، ومن الطرق المحرمة للحصول على الربح ما يلي :
الربح عن طريق الاتجار في المحرمات :
فكل ما تولد عن طريق الاتجار في الأعيان المحرمة ، فهو كسب خبيث متولد عن عقود فاسدة ، وذلك كالاتجار في المسكرات والمخدرات وبيع الميتة ولحم الخنزير وسائر ما يضر بالناس كالأغذية الفاسدة والأشربة الملوثة والمواد الضارة ونحوها، والنصوص في النهي عن بيع الأعيان المحرمة كثيرة ومستفيضة، وسوف نورد بعضها في الموضع المخصص لذلك من هذه الدراسة.
الربح عن طريق الغش والتدليس :
وذلك بإخفاء عيوب السلعة أو بإظهارها على غير حقيقتها على نحو يخدع المشتري ويُلَبِّسُ عليه .
وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي هي جماع الدين ، والتي كان يبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها ولا يرون أنفسهم متنفلين ببذلها.
- قال صلى الله عليه وسلم : (( الدين النصيحة، )) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).(1)
الربح عن طريق الغبن الفاحش :
وهو ما لا يتغابن به في العادة ، فإن أصل المغابنة مأذون فيه إذ المقصود الأصلي بالتجارة هو الربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما ، وقل أن يقع هذا الغبن الفاحش إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت ، فما كان عن تلبيس تَعَيَّنَ رفعه حَتْمًا ، وما لم يكن منه عن تلبيس كان رفعه فضلاً .
الربح عن طريق الاحتكار :
والاحتكار كل ما أضر بالناس حبسه سواء أكان في القوت أو غيره في أصح قولي العلماء، وإن كان إثمه في القوت أغلظ لمسيس الحاجة إليه.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة رقم 55.(1/49)
فقد روى مسلم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يحتكر إلا خاطئ )).(1)
الحد الأعلى للربح :
ليس في نصوص الشريعة تحديد لنسبة معينة للربح يحرم تجاوزها بحيث تصبح قاعدة عامة لجميع السلع في جميع الأزمنة والأمكنة وذلك لعدة حكم منها:
- اختلاف الأموال في سرعة دورتها وبطئها، فما كانت دورته سريعة قل ربحه في العادة وما كان بطيئا كثر ربحه .
- اختلاف البيع الحالِّ عن البيع المؤجل، إذ الأصل قلة الربح في الأول وكثرته في الثاني .
- اختلاف المبيع في ذاته بين كونه ضروريا أو حاجيا فيقل ربحه رفقا بالضعفة وذوي الحاجة، وبين ما كان كماليا فيزيد ربحه في العادة لتيسر الاستغناء عنه .
ولهذا لم يرد في السنة المطهرة كما سبق تحديد لنسبة من الربح لا يجوز تجاوزها بل ورد فيها ما يثبت جواز بلوغ الربح في بعض الأحوال إلى الضعف ، بل وزيادته عن ذلك .
- فقد روى البخاري في صحيحه(2) عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما كان من أمره، فدعا له صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعه، وكان لو اشتري التراب لربح فيه!
__________
(1) تقدم تخريجه ص 20.
(2) صحيح البخاري كتاب المناقب ، باب 28، رقم 3642.(1/50)
- وروي الإمام أحمد في مسنده عن عروة قال : عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب، فأعطاني دينارا ، وقال: (( أي عروة ، ائت الجلب فاشتر لنا شاة . )) فأتيت الجلب، فساومت صاحبه ، فاشتريت منه شاتين بدينار ، فجئت أسوقهما - أو قال : أقودهما - فلقيني رجل فساومني فبعته شاة بدينار ، فجئت بالدينار وجئت بالشاة، فقلت : يا رسول الله ، هذا ديناركم وهذه شاتكم ! قال (( وصنعت كيف ))؟! قال : فحدثته الحديث ... فقال : (( اللهم بارك له في صفقة يمينه )) فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة ، فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي.(1)
- وقد صح أن الزبير بن العوام اشترى أرض الغابة وهي أرض عظيمة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفاً فباعها ابن عبد الله بن الزبير بألف ألف أي باعها بأضعاف مضاعفة .
ومما يحسن التنبيه عليه أن هذه الوقائع لم تقترن بأي لون من ألوان الغش أو التدليس أو الاحتكار أو استغلال استرسال المشتري وجهالته أو ضيقه وحاجته لإغلاء السعر عليه.
ومن ناحية أخرى فإنها لا تمثل القاعدة العامة في تقدير الأرباح، بل التيسير والرفق والقناعة باليسير من الربح أقرب إلى هدي السلف وروح الشريعة .
ومن قنع بالقليل من الربح بورك له في سعيه، وقد كان على رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدِّرَّةِ ويقول: (( معاشر التجار خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره)).
كما أن القول بحق التجار في أن يحددوا ما يشاءون من الربح في حدود القواعد العامة للشريعة لا يمنع ولي الأمر من التسعير عليهم وإلزامهم بنسبة معينة لا يتجاوزونها متى مست الحاجة إلى ذلك ووجد ما يقتضي هذا التسعير .
قرار المجمع الفقهي بشأن تحديد أرباح التجار:
__________
(1) مسند أحمد (4/ 376)، ط: المكتب الإسلامي، وأي - في قوله صلى الله عليه وسلم أي عروة - حرف نداء.(1/51)
وقد ناقش المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولي 1409 الموافق 10 - 15 ديسمبر 1988 موضوع تحديد أرباح التجار فقرر ما يلي :
(أولا : الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم ، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها ؛ عملا بمطلق قول الله تعالى:
??????????? { ????????? ?????????? ?? ???????????? ???????????? ????????? ????????????? ???? ??? ??????? ????????? ??? ??????? ???????? } [النساء: 29].
ثانيا : ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم ، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة ، وظروف التاجر والسلع ، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من : الرفق ، والقناعة ، والسماحة ، والتيسير .
ثالثا : تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش ، والخديعة ، والتدليس ، والاستغفال ، وتزييف حقيقة الربح ، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة .
رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحا في السوق والأسعار ناشئا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادية الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش). أ. هـ.
الخلاصة
المال والعمل والربح.
المال: هو ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة.
للمال تقسيمات متعددة بحسب اختلاف جهة التقسيم:
- فمنه القيمي والمثلي، والقيمي هو ما لا يوجد له مثل في السوق أو يوجد ولكن يتفاوت في القيمة كالحيوانات والجواهر الكريمة، والمثلي هو ما يوجد له مثل في السوق دون تفاوت يعتد به في التعامل.(1/52)
- ومنه العقار والمنقول، والعقار هو ما لا يمكن نقله وتحويله كالأرض وما اتصل بها اتصال قرار كالبناء، والمنقول كل ما أمكن نقله وتحويله.
- ومنه ما لا يجوز تمليكه وتملكه كالطرق والكباري ما دامت للنفع العام، ومنه ما يمتنع فيه ذلك إلا بمسوغ شرعي كالعقارات الموقوفة والأراضي التابعة لبيت المال، ومنه ما يجوز فيه التمليك والتملك وهو ما عدا القسمين السابقين.
* وأسباب التملك ثلاثة: وضع اليد على ما لا مالك له من المباحات، والعقود الناقلة للملكية، والميراث.
- والحقوق في المال ثلاثة: حق الله، وحق الفرد، وحق الجماعة.
العمل:
هو المهنة والحرفة وطلب الرزق.
وهو فيما لا تقوم حياة الإنسان إلا به فرض عين، وفيما لا تقوم حياة الجماعة إلا به فرض كفاية، وعلي العامل أن يتعلم ما يتعلق بمهنته من الأحكام الشرعية كما يجب عليه إتقان مهنته وإحسان عمله.
الربح:
هو الفرق الزائد بين ثمن المبيع وثمن الشراء بعد خصم المصروفات التجارية.
وكل ربح تولد عن طريق الاتجار في المهن المحرمة فهو كسب خبيث تولد عن عقود فاسدة، فلا يجوز الربح عن طريق الغش والتدليس، أو الغبن الفاحش أو الاحتكار ونحوه.
وليس هناك تحديد لنسبة معينة من الربح يحرم تجاوزها ولكن ذلك متروك لقوانين العرض والطلب مع عدم الإخلال بالرفق والتيسير.
- يجوز بيع التقسيط مع زيادة الثمن المؤجل عن الزمن الحال في أصح قولي العلماء.
بيع العينة:
هو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها، وذلك ببيع السلعة إلى أجل ثم شرائها بأقل من ثمنها نقدا حالا.
وقد أتفق أهل العلم على حرمة ما كان منها عن تواطئ واتفاق، واختلفوا فيما كان عرضا بغير اتفاق.
بيع الوفاء:
هو البيع بشرط التراد، أي متى رد البائع الثمن رد إليه المشتري السلعة ولا يشرع هذا البيع في أصح قولي العلماء لأن المقصود الحقيقي منه هو الربا وذلك بإعطاء الدراهم إلى أجل وتكون منفعة المبيع هي الزيادة الربوية.
الوحدة الرابعة(1/53)
البيوع وأحكامها
المصطلحات:
البيع: لغة: مبادلة مال بمال.
اصطلاحاً: عقد معاوضة على غير منافع لا متعة.
البيع المطلق: هو مبادلة العين بالنقد أي مبادلة السلع بالنقود.
بيع المقايضة: مبادلة العين بالعين.
بيع المساومة: البيع الذي لا يظهر فيه البائع رأس ماله.
بيع الأمانة: البيوع التي يظهر فيها البائع رأس ماله وعليه يتحدد ثمن الشراء وله أقسام.
بيع المرابحة: البيع برأس المال وزيادة ربح معلوم.
بيع الوضيعة: البيع برأس المال مع نقص خسارة معلوم.
بيع التولية: البيع برأس المال بلا زيادة ولا نقصان.
بيع الإشراك: بيع بعض المبيع ببعض الثمن.
بيع المسترسل: البيع بسعر السوق.
بيع المزايدة: وهو البيع لمن يزيد كأن يتزايد المشترون على سلعة فيبعها البائع لأعلاهم سعراً.
الشراء بالمناقصة: هو أن يعرض المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة فيتنافس البائعون في تقديم العروض ثم يشتريها بأدنى سعر يعرضه المتنافسون.
منجز البدلين: ما لا يشترط فيه تأجيل الثمن ويسمى بيع النقد.
مؤجل الثمن: وهو ما يشترط فيه تأجيل الثمن وهو بيع النسيئة.
الجزاف: لغة: الجزف وهو الأخذ بكثرة.
واصطلاحاً: بيع ما يكال و يوزن أو يعد جملة بلا كيل أو وزن أو عد.
بيع الكالئ بالكالئ: هو بيع النسيئة بالنسيئة أو بيع الدين بالدين.
بيع العينة: العينة لغة: السلف.
واصطلاحاً: هو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها وذلك بيع السلعة التي أجل ثم شرائها بأقل من ثمنها نقداً حالاً.
بيع الوفاء: هو البيع بشرط التراد
العربون: لغة: ما عقد به البيع .
واصطلاحاً: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغاً من المال على أنه إن أمضى الصفقة استكمل الثمن وإن لم يمضها كان للبائع.
الاستجرار: في اللغة: الجذب والسحب.
واصطلاحاً: أخذ الحوائج من البياع شيئاً فشيئاً ودفع ثمنها بعد ذلك.
البيوع وأحكامها(1/54)
التجارة هي البيع والشراء بقصد الاسترباح، فالبيع آكد العقود في عالم التجارة وأهمها على الإطلاق، وإذا كان الأصل في البيوع أنها مشروعة فإن منها ما هو محرم ومنها ما هو مختلف فيه، ومن هنا كان لزاما على المستثمر المسلم أن يتعرف على ما يصح به هذا العقد، وعلي ما يحل ويحرم منه حتى يكون على بصيرة من أمره ونعرض في هذا المبحث لأهم المسائل المتعلقة بهذا العقد فهلم إلى هذه الدراسة.
تعريف البيع:
البيع لغة: مبادلة مال بمال.(1)
واصطلاحاً: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة، وقيد بهذه القيود حتى تخرج الهدية والإجارة والنكاح .
مشروعية البيع:
والبيع مشروع بإجماع المسلمين إذ لا قيام لحياة الناس إلا به، قال تعالى: { ???????? ???? ?????????? ???????? ???????????? } [البقرة: 275] ،
فهو مما علمت مشروعيته من الدين بالضرورة.
أقسام البيع :
للبيع تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة نذكر منها:
أ - تقسيم البيع باعتبار المبيع.
والبيع بهذا الاعتبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- البيع المطلق: وهو مبادله العين بالنقد أي مبادلة السلع بالنقود.
- بيع الصرف: وهو مبادلة النقد بالنقد.
- بيع المقايضة: وهو مبادلة العين بالعين.
ب - تقسيم البيع باعتبار أسلوب تحديد الثمن.
والبيع بهذا الاعتبار ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
- بيع المساومة: وهو البيع الذي لا يُظْهِرُ فيه البائعُ رأسَ ماله.
- بيوع الأمانة: وهي البيوع التي يظهر فيها البائع رأس ماله، وعلي أساسه يتحدد ثمن الشراء، وينقسم إلى ثلاثة أنواع:
__________
(1) والبيع - كالشراء - من الأضداد، قد يطلق أحدهما ويراد به الآخر، ولهذا يسمى كل من الطرفين في هذا العقد بائعا وبيعا، قال صلى الله عليه وسلم : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، ولكن المتبادر عند الإطلاق انصراف لفظ البائع إلى باذل السلعة، والمشتري إلى باذل الثمن، فالبائع من أخرج الشيء من ملكه، والمشتري من أدخله إلى ملكه وبذل في مقابله الثمن.(1/55)
- بيع المرابحة: وهو البيع برأس المال وزيادة ربح معلوم.
- بيع الوضيعة: وهو البيع برأس المال مع نقص (خسارة) معلوم.
- بيع التولية: وهو البيع برأس المال بلا زيادة ولا نقصان.
وزاد بعض الفقهاء بيع الإشراك وبيع المسترسل، وبيع الإشراك هو بيع بعض المبيع ببعض الثمن، وبيع المسترسل هو البيع بسعر السوق، والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المماكسة.
- بيع المزايدة: وهو البيع لمن يزيد، وذلك بأن يعرض البائع السلعة ويتزايد عليها المشترون ويبيعها بأعلى سعر يعرضه المتزايدون.
ويقابله الشراء بالمناقصة: وهو أن يعرض المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة فيتنافس البائعون في تقديم العروض ثم يشتريها بأدنى سعر يعرضه المتنافسون.
جـ تقسيم البيع باعتبار كيفية أداء الثمن.
والبيع بهذا الاعتبار ينقسم إلى أربعة أنواع:
- منجز البدلين: وهو ما لا يشترط فيه تأجيل الثمن ويسمى بيع النقد.
- مؤجل الثمن: وهو ما يشترط فيه تأجيل الثمن وهو بيع النسيئة.
- مؤجل المثمن: وهو بيع السلم.
- مؤجل البدلين: وهو بيع الدين بالدين.
شروط صحة البيع:
لكي ينعقد البيع صحيحا وتترتب عليه آثاره لابد من تحقق جملة من الشروط، منها ما يتعلق بالعاقدين ومنها ما يتعلق بالمعقود عليه:
- فالذي يتعلق بالعاقدين : أهلية التصرف، وتكون بالبلوغ والعقل والاختيار، فلا عقد لصبي غير مميز ولا لمجنون ولا لمكره.
- والذي يتعلق بالمعقود عليه مايلي:
- أن يكون المبيع مالا طاهرا، منتفعا به، مقدورا على تسليمه ، مملوكا لصاحبه وقت العقد.
فلا يصح بيع النجاسات ولا بيع المحرمات كالدم والميتة ولحم الخنزير لأنه لا ينتفع بها شرعاً، ولا يستثنى من الميتة إلا السمك والجراد، ولا يستثنى من الدم إلا الكبد والطحال لورود النص بذلك.(1/56)
ولا يصح بيع ما لا يملك لورود النهي عن ذلك، لا يستثني من هذا إلا عقد السلم وهو بيع موصوف في الذمة بثمن يدفع عاجلا، أي تعجيل الثمن وتأخير المثمن وذلك لورود النص بمشروعيته.
ولا يصح بيع المعدوم وما لا قدرة للبائع على تسليمه كبيع الملاقيح والمضامين أو بيع السمك في الماء والطير في الهواء ونحوه، والمضامين هي ما في أصلاب الفحول، والملاقيح ما في أرحام الإناث.
أما بيع الفضولي وهو من ليس بمالك ولا وكيل عن المالك ولا انعقدت له عليه ولاية فقد اختلف فيه على قولين: أصحهما أنه موقوف على إجازة المالك.
- العلم بالمبيع والثمن علما نافيا للجهالة لأن جهل ذلك من الغرر وهو منهي عنه.
- عدم التوقيت فلا يصح بيع السلعة لأجل معلوم أو غير معلوم، كمن يبيع داره لآخر ويشترط عليه أنه متى رد الثمن انفسخ البيع ويسمي(بيع الوفاء).
وسيأتي الحديث عنه مفصلا في موضعه من هذه الدراسة بإذن الله.
بيع الجزاف:
مما يشيع في عالم الاستثمارات المعاصرة بيع بعض الصفقات دفعة واحدة على سبيل الإجمال دون معرفة مقاديرها على وجه التفصيل ، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بيع الجزاف ، فما مدي مشروعية التعامل في مثل هذه الصفقات؟! ذلك ما سننتصب لبيانه في الأسطر التالية.
تعريف بيع الجزاف:
الجزاف في اللغة: من الجزف وهو الأخذ بكثرة.
وبيع الجزاف في الاصطلاح: هو بيع ما يكال أو يوزن أو يُعَدُّ جملةً بلا كيل أو وزن أو عَدٍّ.
ومن أمثلته بيع صُبرةِ طعام دون معرفة كيلها، أو بيع كومة ملابس دون معرفة عددها، أو بيع قطعة من الأرض دون معرفة مساحتها .
حكم بيع الجزاف:
سبق أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلوما، فيجب العلم بعين المبيع وقدره وصفته، وفي بيع الجزاف لا يحصل العلم بالقدر، ومع ذلك فهو مستثنى من الأصل العام لحاجة الناس واضطرارهم إليه
ومن الأدلة على مشروعيته:(1/57)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما (( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه)).(1)
وفي رواية (( رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافا يضربون في أن يبيعوه في مكانه وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم))(2) وفي هذا دلالة على أنهم كانوا يتعاملون ببيع الجزاف فيكون دليلا على جوازه.
وقد اتفق الفقهاء على جوازه في الجملة على خلاف في بعض التفاصيل.
شروط بيع الجزاف:
يشترط لجواز بيع الجزاف جملة من الشروط، ذكر منها فقهاء المالكية ما يلي:
- رؤية المبيع حال العقد ما لم يترتب عليها فساد المبيع، ومثل الرؤية حال العقد رؤيته قبله إذا استمر على حاله إلى وقت العقد دون تغيير.
- جهل المتبايعين معا بقدر المبيع، فإن علم به أحدهما لم يصح.
- أن لا يكثر المبيع جدا فيتعذر تقديره، أو يقل جدا فيسهل عده وتنتفي الحكمة من بيعه جزافا.
- استواء الأرض التي يوضع عليها حتى لا يقع غرر في التقدير.
- حزر المبيع وتخمين قدره عند إرادة العقد عليه.
والمالكية هم أكثر الناس تفصيلا لهذه الشروط ، وقد شارك المالكية غيرهم في بعضها.
بيع الربوى بجنسه جزافا:
لا يجوز بيع المال الربوي بجنسه جزافا، فلا تباع صبرة تمر بصبرة أخرى من التمر مثلا، لأن الشرط في جواز بيع الأموال الربوية بجنسها هو التماثل والتقابض، وبيع الجزاف لا تتحقق فيه المماثلة لقيامه على التخمين والتقدير، والقاعدة في الربويات أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.
أسباب النهي عن البيع.
أسباب النهي عن البيع قد ترجع إلى العقد وقد ترجع إلى غيره .
__________
(1) مسلم كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل قبضه رقم 1526.
(2) متفق عليه، البخاري كتاب البيوع، باب من رأى إذا اشترى طعاماً جزافاً.. رقم 2137، ومسلم - الموضع السابق - 1527.(1/58)
فالنهي الذي يرجع إلى العقد مرده إلى اختلال شرط من شرائط صحة البيع التي سبقت الإشارة إليها، وهذه منها ما يتعلق بمحل العقد ومنها ما يتعلق بلازمه .
فالذي يتعلق بمحل العقد ما يلي :
- تخلف شرط وجود المعقود عليه عند العقد، وهذا هو بيع المعدوم كبيع المضامين والملاقيح وبيع الجنين في بطن أمه ونحوه.
- تخلف شرط التقوم أو الانتفاع الشرعي بالمبيع كبيع الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من المحرمات أو النجاسات فإنها لا تعتبر أموالا متقومة وإن تمولها بعض الناس خلافا لأحكام الشريعة.
- تخلف شرط ملكية البائع للمبيع كأن يكون البائع فضوليا يبيع ملك غيره بغير إذنه ولا ولاية له عليه، فلا يصح بيع الأموال الموقوفة ولا المساجد ولا بيع الصدقة أو الهبة قبل القبض، ولا بيع الغنيمة قبل القسم ونحوه.
أما ما يتعلق بلازم العقد فهو نوعان :
- اشتمال العقد على الربا.
- اشتمال العقد على الغرر.
أما أسباب النهي التي لا ترجع إلى العقد ولا إلى لازمه بل تتعلق بأمر خارج عنه فهي نوعان:
- ما يكون مرد النهي فيه إلى التضييق أو الإيذاء أو الضرر كبيع المسلم على بيع أخيه أو بيع السلاح في زمن الفتنة أو الاحتكار ونحوه.
- ما يكون مرد النهي فيه إلى مخالفة شرعية بحتة كالبيع عند أذان الجمعة أو بيع المصحف إلى الكافر إذا غلب على الظن إهانة الكافر له ونحوه.
ولعل آكد هذه الأسباب وأكثرها شيوعا في واقعنا المعاصر والتي تؤدي إلى فساد العقد ما يلي:
- تحريم عين المبيع.
- الربا.
- الغرر.
? الشروط الفاسدة التي تؤول إلى الربا أو الغرر أو مجموعهما.
وسوف نتناول هذه الأسباب بالتفصيل عند بحثنا لقيود الاستثمار في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله.
بيوع محرمة
أولاً: بيع الكالئ بالكالئ:
بيع الكالئ بالكالئ هو بيع النسيئة بالنسيئة، أو بيع الدين بالدين.(1/59)
وقد ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ في السنة المطهرة، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الكالئ بالكالئ(1) ولبيع الدين بالدين صور عديدة، وقد يلتبس المشروع منها بغير المشروع، فمست الحاجة إلى تفصيل القول في هذه المسألة فنقول:
لا يخلو الدين المبيع من أن يكون ثمنا مؤجلا ، أو سلعة معينة مؤجلة التسليم ، أو سلعة موصوفة في الذمة مؤجلة التسليم، ولكل صورة من هذه الصور حكمها، وفيما يلي بيان ذلك:
الصورة الأولى: بيع ثمن مؤجل بثمن مؤجل:
ومنها إسقاط ما في ذمة المدين في ثمن يتأخر قبضه عن وقت الإسقاط، وهي صورة ( أخرني وأزيدك) وهو أصرح صور الربا وأشدها قبحا.
ومنها التصارف بين دينين من الأثمان مؤجلين في الذمة، وقد تقرر في أحكام الصرف عند أهل العلم قاطبة أنه إذا بيع النقد بجنسه فإنه يجب شرطان: التماثل والتقابض، وإذا بيع بغير جنسه فإنه يجب التقابض فقط ويحل التفاضل، فالتقابض شرط في صحة الصرف في جميع الأحوال، ونظرا لتخلفه في هذه الصورة فهي باطلة بلا نزاع.
الصورة الثانية: بيع ثمن مؤجل بسلعة معينة مؤجلة التسليم :
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (4/ 21)، و المشكل رقم 795، والدارقطني (3/ 71)، والحاكم (2/ 57)، والبيهقي (5/ 290)، وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبادة الربذي ونقل الحافظ في التلخيص (3/ 26)،/ عن الإمام أحمد: "ليس فيه حديث صحيح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين". أ هـ. وقال الطحاوي: "احتمل أهل الحديث هذا من رواية موسى بن عبيدة، وإن كان فيها ما فيها وهذا باب جليل من الفقه"، المشكل (2/ 266).(1/60)
وصورتها أن يبيع الرجل على مدينه دينه بسلعة معينة (سيارة مثلا) مؤجلة التسليم، وهذه الصورة لا حرج فيها فهي شبيهة بقصة شراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر بن عبد الله جمله واشتراط جابر أن يكون تسليم الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن في المدينة أيضا فقد كانت هذه الصفقة في إحدى أسفاره صلى الله عليه وسلم.(1)
الصورة الثالثة: بيع ثمن مؤجل بسلعة موصوفة فى الذمة مؤجلة:
وصورتها أن يكون لرجل على آخر دين مؤجل فيشتري من مدينه سلعة موصوفة في الذمة (طن من الأرز مثلا) مؤجلة إلى أجل معلوم، وهذه صورة من صور السلم، فإن رضي المدين بتعجيل ما في ذمته من دين وأن يجعله ثمنا لما أسلف فيه فلا حرج في هذه الصورة لتحقق شروط السلم والتي من آكدها تعجيل رأس المال، لأن ما في الذمة في حكم المقبوض، أما إذا لم يرض المدين بتعجيل دينه وجعله ثمنا فلا تصح
هذه الصورة لتخلف أحد شروط السلم وهو تعجيل رأس المال.
الصورة الرابعة: بيع سلعة موصوفة فى الذمة مؤجلة بسلعة موصوفة فى الذمة مؤجلة:
وذلك كأن يبيع عددا معينا من السيارات موصوفا في الذمة مؤجل التسليم بعدد معين من الثلاجات مثلا موصوفا في الذمة كذلك مؤجل التسليم.
ولهذه الصورة سبيلان:
- أن تتم على سبيل السلم وفي هذه الحالة لا تجوز لتخلف أحد شرائط عقد السلم وهو تعجيل رأس المال.
- أن تتم على سبيل الاستصناع فلا يظهر فيها حرج عند من يقولون إن الاستصناع عقد مستقل فلا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في كتاب البيوع، باب شراء الدواب رقم 2097، مسلم في المساقاة باب بيع البعير واستثناء ركوبه.(1/61)
وقريب من هذه الصورة ما ذكره أبو عبيد في تصويره لبيع الكالئ بالكالئ حيث قال : صورته أن يسلم الرجل الدراهم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يقول الذي عليه الطعام : ليس عندي طعام ولكن بعني إياه إلى أجل، فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، فلو قبض الطعام ثم باعه منه أو من غيره لم يكن كالئا بكالئ.
ثانياً: بيع وشرط.
لقد جاءت الشريعة المطهرة بالأمر بالوفاء بالعقود وبما التزم به الإنسان من الشروط، إلا ما كان من شرط غير مشروع يحل الحرام أو يحرم الحلال.
قال تعالى { ??????????? ????????? ??????????? ????????? ????????????? } .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراماً )) رواه الترمذي (1) وقال صلى الله عليه وسلم: (( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)).(2)
_ وقال عمر رضي الله عنه : مقاطع الحقوق عند الشروط
كما ورد النهي عن بيع وشرطين في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع)).(3)
وقد قسم أهل العلم الشروط في العقود إلى شروط مشروعة وأخرى غير مشروعة، وقد سبق أن رجحنا في هذه الدراسة أن الأصل في العقود والشروط الحِلُّ حتى يأتي ما يدل على التحريم ، ولهذا فإننا سنقتصر في هذا المقام على بيان ما لا يشرع من الشروط ويبقى ما وراء ذلك على أصله من الحل.
__________
(1) الترمذي 1353، وابن ماجة 2353، والدارقطني (3/ 27)، والبيهقي (6/ 79)، وإسناده ضعيف جدا، من أجل كثير بن عبد الله وصححه الترمذي ولعله لموافقته الأصول وتحسين البخاري حديثا آخر له، نقله الترمذي عنه.
(2) الحديث سيأتي في قصة بريرة وهو متفق عليه.
(3) أبو داود رقم 3504، الترمذي رقم 1234، وقال الترمذي: حسن صحيح.(1/62)
لقد حمل المالكية نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط(1)على الشرط الذي يناقض مقتضى العقد أو الذي يؤدي إلى الإخلال بالثمن.
فالذي يناقض مقتضى العقد كاشتراط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة لأحد أصلا ، أو أن لا يلبسها أو أن لا يركبها أو أن لا يسكنها أو أن لا يؤجرها، أو على أنه إن باعها لأحد فهو أحق بالثمن ، واستثنوا من ذلك بعض الصور فأفتوا فيها بالجواز كبيع الأمة بشرط عتقها نظرا لتشوف الشارع إلى العتق ، وكاشتراط البائع على المشتري وقف المبيع أو هبته أو التصدق به لأن ذلك من البر الذي تدعوا إليه الشريعة.
والشرط الذي يؤدي إلى الإخلال بالثمن كاشتراط السلف من أحد المتبايعين ، فإنه يؤدي إلى جهالة الثمن وإلى شبهة الربا باعتباره قرضا جر نفعا إذ قد يحابيه في الثمن لمكان القرض ، فإن كان شرط السلف صادرا من المشتري أخل ذلك بالثمن لأنه يؤدي إلى جهل الثمن بسبب الزيادة لأن انتفاعه بالسلف من جملة الثمن وهو مجهول ، وإن كان شرط السلف صادرا من البائع أخل ذلك بالثمن لأنه يؤدي إلى جهل في الثمن بسبب النقصان لأن انتفاعه بالسلف من جملة الثمن وهو مجهول.
وحمل الحنابلة نهيه صلى الله عليه وسلم: عن بيع وشرط على شرط يناقض مقتضى العقد أو اشتراط ينافي مقتضى الشرع ، أو اشتراط يعلق عليه البيع والشراء.
أما الشرط الذي يناقض مقتضى العقد فقد سبق التمثيل له كاشتراط البائع على المشتري عدم البيع أو الهبة أو العتق ونحوه من كل اشتراط يكف يد المشتري عن التصرف في ملكه.
وأما الشرط الذي ينافي مقتضى الشرع كأن يشترط أحدهما على الآخر عقدا آخر كبيع أو سلم أو قرض أو إجارة أو شركة وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط 4361، والحاكم في علوم الحديث 128 وهو حديث واه بمرة، وقال ابن تيمية: حديث باطل، مجموع الفتاوي (18/ 63).(1/63)
وأما الشرط الذي يعلق عليه البيع كقول البائع بعتك إن رضي فلان، أو قول المشتري: اشتريت إن جاء فلان - فلا يصح عندهم، لأن البيع يقتضي نقل الملك في الحال، ومثل هذا الاشتراط يمنعه .
وحمل الحنفية نهيه صلى الله عليه وسلم عن شرط وبيع ـ على الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا مما يلائمه ويتضمن منفعة لأحد المتعاقدين أو لأجنبي أو لمبيع من أهل الاستحقاق ولم يجر العرف به ولم يرد الشرع بجوازه .
ومثلوا لشرط المنفعة لأحد المتعاقدين كبيع دار على أن يسكنها شهرا ، أو أرض على أن يزرعها سنة أو سيارة على أن يركبها أسبوعا ونحوه.
ومثلوا لشرط المنفعة للأجنبي ببيع ساحة على أن يبني فيها مسجدا أو طعام على أن يتصدق به.
ومثلوا لشرط المنفعة للمبيع كبيع أمة على أن يعتقها - على خلاف عندهم في ذلك - وجعلوا مثل هذه المنفعة في كل ذلك من قبيل الربا لأنها زيادة مشروطة في عقد البيع لا يقابلها عوض وهذا هو الربا أو شبهته.
واستثنوا من شرط المنفعة المفسد ما جرى به العرف كمن اشترى ثوبا على أن يرقعه له أو اشتري قلنسوة على أن يجعل لها بطانة لجريان العرف بذلك ، كما استثنوا كذلك ما ورد به النص كشرط الأجل في دفع الثمن أو شرط الخيار ونحوه لورود النصوص بإباحة ذلك.
والذي يترجح لنا من خلا ل هذا الاستعراض أن الشرط الفاسد هو الذي يناقض مقتضى العقد كاشتراط عدم البيع أو الهبة ونحوه ، أو الشرط الذي يناقض مقتضي الشرع كالذي يفضي إلى إباحة محرم، أو يؤدي إلى جهالة الثمن أو تعدد الصفقة ومنه اشتراط عقد آخر كالبيع والإجارة والقرض ونحوه ، أما شرط المنفعة الذي قال به الأحناف فهو موضع نظر لحديث جابر أنه باع جمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشترط حملانه إلى المدينة.(1)
ثالثاً: بيعتان في بيعة:
البيعتان في بيعة أحد البيوع المنهي عنها، وقد ورد في النهي عنها جملة من الأحاديث نذكر منها:
__________
(1) الحديث تقدم آنفاً.(1/64)
- ما رواه أحمد والترمذي(1) من حديث أبي هريرة من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم(( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)).(2)
- ما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال(( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة))(3) وفي رواية(( لا تصلح الصفقتان في صفقة )).(4)
وقد اختلف أهل العلم في المراد بالبيعتين في بيعة على أقوال نذكر منها:
- البيع بثمنين معجل ومؤجل أعلى منه، فهو الزيادة في بيع السلعة نسيئة عن سعر يومها، وقد نقل عن على زين العابدين أنه كان يري حرمة بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء. وقد رد هذا التفسير أكثر أهل العلم، وهذه الصورة مشروعة في الصحيح من قولي العلماء.
- البيع بثمنين معجل ومؤجل أعلى منه على الإبهام ، وذلك بأن يقول له البائع : هي بكذا نقدا وبكذا نسيئة ويفترقان على الإبهام دون تحديد.
ووجه المنع من هذه الصورة أمران :
الأول: جهالة الثمن وعدم استقراره.
الثاني: شبهة الربا، ووجه ذلك أنه إذا ملك السلعة بدينار نقدا وبدينارين إلى أجل وقد وجب عليه أحدهما فهذا كأنما وجبت عليه بدينار نقدا فأخره فجعله بدينارين إلى أجل، أو فكأنما وجبت عليه بدينارين إلى أجل فعجلهما فجعلهما بدينار نقدا.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/ 432)، الترمذي 1231، وقال|: حسن صحيح، والنسائي (7/ 269).
(2) أبو داود 3461 وابن حبان في صحيحه 4974 والحاكم (2/ 45)، والبيهقي (5/ 343)، وصححه الحاكم، وابن حزم، وهو صحيح.
(3) المسند (1/ 398).
(4) المسند (1/ 393).(1/65)
بيع الشيء بثمن مؤجل على أن يشتريه منه بثمن حال أقل من ثمنه الأول، وهذا بيع العينة وهو أحد البيوع التي يتذرع بها إلى الربا، لأن المقصود في الحقيقة هو نقد بنقد مع زيادة ، وما السلعة إلا وسيط صوري يتذرع به لاستباحة هذه الزيادة. وقد قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن وهذا معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة وهو الذي لا معنى له غيره وهو مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم (( بيع الشيء بثمن مؤجل على أن يشتريه منه بثمن حال أقل من ثمنه الأول فله أوكسهما أو الربا )) فإما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وقد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله ، والذين قالوا بتحريم العينة قالوا يحرم ذلك ويفسد إذا وقع، فإن كان ذلك عن تواطؤ واتفاق فهو فاسد عند الجميع.
أن يشترط في عقد البيع عقدا آخر كأن يقول بعتك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا ، سواء حدد المبيع الثاني أو الثمن أم لا، فكل عقدين جمع بينهما في عقد واحد فهو من المنهي عنه لدخوله في عموم النهي عن الصفقتين في صفقة.
وينبغي التفريق بين هذه الصورة وبين صورة بيع سلعتين مختلفتين بثمن واحد كأن يبيع سيارة ودارا بمليون دينار مثلا أو بيع سلعة بسيارة وألف دولار فهذا ليس من البيعتين في بيعة وهو جائز بالاتفاق.
أن يُسْلِمَ في سلعة إلى أجل فإذا حل هذا الأجل باعها له إلى أجل آخر بزيادة، فهذا بيع ثان دخل على البيع الأول فيرد إلى أوكسهما وهو الأول ، وهو من المنهي عنه عند الجميع.
رابعاً: بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه:
من البيوع المنهي عنها بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه.(1/66)
ومن صور بيع الرجل على بيع أخيه أن يتراضى المتبايعان على ثمن معين فيأتي آخر ليعرض على المشتري ثمنا أقل، أو يعرض عليه سلعة أفضل بمثل هذا الثمن أو أقل منه. ولا خلاف بين أهل العلم على استحقاق الإثم في هذه الصور لما تؤدي إليه من الإيحاش والإضرار، ولما ورد من النهي الصريح عن ذلك في السنة الصحيحة.
من ذلك ما رواه ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم )) لا يبع بعضكم على بيع بعض )) متفق عليه.
وفي رواية مسلم : (( لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)).
وعند النسائي(1) (( لا يبع بعضكم على بيع بعض حتى يبتاع أو يذر)).
من أجل هذا ذهب جمهور أهل العلم إلى حرمة هذه البياعات واستحقاق الإثم فيها.
قيود التحريم في هذه البيعات:
أن يكون البيع على البيع قبل لزوم البيع، إذ لو حدث بعد لزومه وعدم تمكن المشتري من الفسخ لم يكن للمنع وجه لانتفاء الضرر في هذه الحالة.
- أن يكون البيع على البيع بغير إذن البائع الأول، فإن أذن له فلا حرج لقوله صلى الله عليه وسلم (( إلا أن يأذن له)).
ومثل البيع في التحريم بقية العقود كالإجارة والعارية والاقتراض والمساقاة والمزارعة فلا تصح إذا سبق لها الغير قياسا على البيع لما في ذلك من الإيذاء.
سوم الرجل على سوم أخيه:
أما السوم على السوم فهو أن يتساوم البيعان ويتراضيا على ثمن معين فيأتي مشتر آخر فيعرض ثمنا أعلى، أو يعرض الثمن نفسه وهو ذو وجاهة فيميل إليه البائع لوجاهته.
فإن تساوما وظهر منهما ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم، أما إذا لم يظهر منهما ما يدل على الرضا أو عدمه فيمتنع السوم كذلك عند الحنابلة لتحقق علة المنع وهي الإيحاش، ولا يمتنع عند الحنفية فلا بأس بالمزايدة لأن هذا بيع من يزيد، ولا كراهة فيه.
__________
(1) النسائي: (7/ 258).(1/67)
ومع تحقق الحرمة في هذه البيوع فإنها صحيحة عند الجمهور لرجوع النهي إلى معنى خارج عن حقيقة البيع ولوازمها إذ لم يفقد العقد ركنا من أركانه ولا شرطا من شرائط صحته، وإنما كان النهي لمعنى مقترن به خارج عن ماهية العقد ولوازمها وهو الإيذاء ومثل ذلك لا يقتضي البطلان عند الجمهور.
بيع المزايدة:
ويستثنى من النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه بيع المزايدة فإنه جائز بإجماع المسلمين، وبيع المزايدة هو المناداة على السلعة فيزيد الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها.
ومن الأدلة على جواز بيع المزايدة:
ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له (( ما في بيتك شيء ؟ )) قال بلى، حلس يلبس بعضه ويبسط بعضه، وقعب يشرب فيه الماء، قال : (( ائتني بهما )) فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : (( من يشتري هذين؟)) فقال رجل : أنا آخذهما بدرهم ، قال : (( من يزيد على درهم ؟)) مرتين أو ثلاثا ؛ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال (( اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك؛ واشتر بالآخر قدوما فأتني به. )) فأتاه به ، فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده؛ ثم قال له : اذهب فاحتطب و بع، ولا أرينك خمسة عشر يوما، فذهب الرجل يحتطب ويبيع ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ؛ فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)).(1)
__________
(1) أبو داود 1641، الترمذي 1218، والنسائي (7/ 259)، وأحمد (3/ 100، 114)، وقال الترمذي: حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. ا. هـ.(1/68)
- وأن المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة من غير نكير.
- وأن النهي إنما ورد عن السوم حال البيع، وحال المزايدة خارج عن البيع.
خامساً: بيع الحاضر للبادى:
الحاضرة ضد البادية ، والحاضر ساكن الحاضرة، وهي المدن والقرى والريف. والبادي: ساكن البادية، وهي عدا ما ذكر من المدن والقرى والريف، وتوسع الحنابلة فاعتبروا البدوي شاملا للمقيم بالبادية ولكل من يدخل البلدة من غير أهلها سواء أكان بدويا أم كان من قرية أو بلدة أخرى.
المراد ببيع الحاضر للبادى:
المراد ببيع الحاضر للبادي عند الجمهور أن يصير الحاضر سمسارا للبادي البائع، فيقول له: لا تبع أنت أنا أعلم بذلك، فيتوكل له ويبيع ويغالي، ولو تركه يبيع لنفسه لرخص على الناس.
وقيل: إن المقصود أن يبيع الحاضر سلعته إلى البدوي طمعا في الثمن الغالي فيضر ذلك بأهل الحاضرة، والأول أرجح وهو المعتمد.
حكم بيع الحاضر للبادى:
اتفق أهل العلم على المنع من هذا البيع لورود الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم لا يبع حاضر لبادي، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)).(1)
- ومنها حديث أنس (( نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه)).(2)
- وفي لفظ (( وإن كان أخاه لأبيه وأمه. )) (3)
من أجل هذا ذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم بيع الحاضر للبادي، وهو عند الحنفية من المكروه كراهة تحريمية بناء على مذهبهم في التفريق بين المحرم والمكروه كراهة تحريمية.
__________
(1) مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي رقم 1522.
(2) البخاري في كتاب البيوع باب لا يشتري حاضر لباد بالمسرة رقم (1/ 26) مسلم - الموضع السابق - رقم 1523.
(3) مسلم الموضع السابق 1523.(1/69)
وهذا التحريم لا يستلزم الفساد أو البطلان عند الجمهور لأنه لا يرجع إلى ذات البيع، لأنه لم يفقد ركنا ولا إلى لازمه لأنه لم يفقد شرطا بل هو راجع لأمر خارج غير لازم كالتضييق والإيذاء، وذهب المالكية والحنابلة إلى استلزامه الفساد والبطلان، قال أحمد عندما سئل عن هذا البيع: أكره ذلك وأرد البيع في ذلك.(1)
ومما هو جدير بالذكر ما روي عن الإمام أحمد من القول بصحة هذا البيع وعدم كراهته ، وحمل أحاديث النهي على اختصاصها بأول الإسلام لما كانوا عليه يومئذ من الضيق.
علة النهى عن بيع الحاضر للبادى:
علة هذا النهي عن هذا البيع عند الجمهور ما يؤدي إليه من الإضرار بأهل البلد والتضييق على الناس ، لأنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص، وكانوا في سعة، فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد.
وعلة النهي على التفسير الآخر ما يؤدي إليه من الإضرار بأهل المصر من جهة أخرى غير الرخص وهو ندرة السلع، إذ قد يكون أهل البلد في حال قحط وحاجة إلى الطعام والعلف، والحضري يأبى أن يبيع ذلك إلا لأهل البدو طمعا في زيادة الثمن.
شروط النهي عن بيع الحاضر للبادى:
للنهي عن بيع الحاضر للبادي شروط نوجز الإشارة إليها فيما يلي:
- عموم الحاجة إلى ما يقدم به البدوي من السلع، أما ما لا يحتاج إليه إلا نادرا فلا يدخل تحت عموم النهي.
- جهل البدوي بالسعر، وإلا لما كان للنهي معنى إذ لا فرق أن يبيع البدوي بنفسه أو أن يتولى له ذلك الحاضر.
- توجه قصد البدوي إلى البيع الحال بسعر يومه، فإن قصد البيع على التدريج فتولى ذلك الحاضر فلا بأس لانتفاء الضرر في هذه الحالة، ولا سبيل إلى منع المالك منه.
- ارتفاع ثمن البيع على التدريج من ثمن البيع الحال لأن هذه الزيادة هي التي تحمل البدوي على موافقة الحضري فيؤدي ذلك إلى التضييق.
__________
(1) المغني (4/ 280).(1/70)
- أن يكون البدوي قد جلب السلع لبيعها، فإن كان قد حضر لخزنها أو لأكلها فقصده الحاضر فحضه على البيع كان ذلك توسعة وليس تضييقا.
واختلف أهل العلم في مشورة الحاضر على البدوي من غير مباشرة البيع له: فكرهها فريق وأجازها آخرون.
سادساً: بيع الكلاب:
التجارة في الكلاب ليست تجارة إسلامية، فقد (( نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)).(1)
- وفي حديث أبي جحيفة: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة)).(2)
ومن أجل هذا ذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم صحة بيع الكلب أي كلب كان ولو كان معلما، وفرق المالكية بين الكلب المأذون باتخاذه ككلب الصيد وكلب الماشية وبين غيره فأجازوا بيع الأول واختلفوا في الثاني وذلك لحديث: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد)).(3)
سابعاً: التجارة في آلات اللهو والمعازف:
لا يخفى أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وحرم التجارة فيه ، من أجل هذا ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع آلات اللهو المحرمة والمعازف إلا ما جاز استعماله منها وصرحوا بعدم صحة بيعها.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في كتاب البيوع باب ثمن الكلب رقم 2237 ومسلم في المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب رقم 1567.
(2) البخاري - الموضع السابق - وباب موكل الربا رقم 2086.
(3) رواه النسائي.(1/71)
وإنما كان التقييد بالمحرمة لإخراج الشطرنج عند من يقول بحله كالشافعية ولإخراج الدف لجواز استخدامه في الأفراح ونحوه، فقد عنون البخاري في صحيحه فقال ( باب ضرب الدف في النكاح والوليمة)(1) وروى فيه حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن وفينا نبي يعلم ما في غد فقال (( دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين)).
من أجل هذا ذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم المحرمات من أدوات اللهو والمعازف لأن هذه الآلات أعدت للمعصية فبطل تقومها ولا ينعقد بيعها كالخمر، ولأن من شروط المعقود عليه أن يكون مما ينتفع به انتفاعا شرعيا وإن قل كالتراب، وتحريم هذه الأشياء يبطل الانتفاع بها شرعا ويمنع بيعها.
ثامناً: البيع عند أذان الجمعة:
من الظواهر التي لا تخطئها العين في المجتمعات الغربية فشو هذه الظاهرة، ظاهرة البيع والشراء عند أذان الجمعة، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى:
??????????? { ????????? ??????????? ????? ??????? ??????????? ??? ?????? ???????????? ???????????? ?????? ?????? ???? ????????? ?????????? } [الجمعة: 9] .
ولم تختلف كلمة أهل العلم في أن هذا البيع محرم لهذا النص.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ضرب الدف في النكاح والوليمة، رقم 5147.(1/72)
والأذان المقصود في هذا المقام هو الأذان الذي يكون بين يدي الخطيب فهو الأذان الذي كان في زمن النبوة وإليه ينصرف النداء عند الإطلاق، فقد روى البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: (( كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء)).(1)
ومن ناحية أخرى فإن البيع عند هذا الأذان هو الذي يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى فواتها أو فوات بعضها.
قيود تحريم البيع عند نداء الجمعة:
إن تحريم البيع وقت نداء الجمعة مقيد بقيود منها:
-أن يكون المشتغل بالبيع ممن تلزمه الجمعة، فلا يحرم البيع على المرأة والصغير والمريض لأن الله جل وعلا قد نهى عن البيع من أمرهم بالسعي، فغير المخاطبين بالسعي لا يتناولهم النهي، ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم.
- انتفاء الضرورة إلى البيع، كبيع المضطر ما يأكله وبيع كفن ميت خيف تغيره بالتأخير وإلا فلا يحل.
- أن يكون المشتغل عالما بالنهي فإن الحكم لا يثبت في حق المخاطب إلا إذا بلغه.
- أن يكون عند الشروع في أذان الخطبة ( الأذان الثاني).
قياس سائر العقود على البيع في التحريم:
جمهور أهل العلم على أن النهي عن البيع عند نداء الجمعة يشمل النهي عن غيره من العقود كالإجارة والشركة والشفعة وغيرها مما فيه تشاغل عن الجمعة، بل نصوا على المنع من كل ما يشغل عن السعي إلى الصلاة كإنشاء السفر والأكل والخياطة والصنائع بل والاشتغال بعبادة أخرى.
والمذهب عند الحنابلة أن التحريم خاص بالبيع والشراء فقط لورود النهي فيه فحسب، ولأن غيره لا يساويه لقلة وقوعه فلا تكون إباحته ذريعة لفوات الجمعة فلا يصح قياسه عليه.
حكم بيع من تلزمه الجمعة ممن تلزمه الجمعة:
__________
(1) البخاري في الصلاة، باب الأذان يوم الجمعة رقم 912.(1/73)
سبق أن من لا تلزمهم الجمعة مستثنون من حكم تحريم البيع وقت نداء الجمعة، فلو تبايع اثنان ممن لا تلزمهم الجمعة فلا حرج عليهما.
أما إذا وجبت الجمعة على أحدهما دون الآخر فإن جمهور أهل العلم على أنهما يأثمان جميعا: الذي وجبت عليه لارتكابه للنهي، والآخر الذي لم تجب عليه لأنه أعانه على الإثم.
بيوع مختلف فيها
أولا: بيع التقسيط مع زيادة الثمن:
البيع في الفقه الإسلامي قد يكون معجل البدلين - يدا بيد - وقد يكون مؤجل البدلين - الكالئ بالكالئ، وقد يعجل أحد بدليه ويؤجل الآخر: فإن عجل الثمن وأجل المبيع فذلك السَّلم، وإن عجل المبيع وأجل الثمن فذلك بيع النسيئة، وهذا الثمن المؤجل قد يؤجل بحيث يدفع كله جملة واحدة، وقد يقسط بحيث يدفع متفرقا على آجال معلومة، وذلك هو بيع التقسيط، والتقسيط هنا طريقة سداد ثمن المبيع.
فبيع التقسيط ما هو إلا صورة من صور بيع النسيئة، وقد أجازت الشريعة المطهرة بيع النسيئة الذي يؤجل فيه الثمن كما أجازت بيع السلم الذي يؤجل فيه المبيع وفق شروط ليس هذا موضع بسطها.
مشروعية بيع النسيئة:
اتفق أهل العلم على جواز بيع النسيئة لورود الأحاديث الصحيحة الصريحة بذلك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما(( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعاً من حديد)).(1)
وجواز بيع النسيئة يعني جواز بيع التقسيط لأن هذا البيع ليس إلا بيعاً مؤجل الثمن قد قسط ثمنه على آجال معلومة، ولا فرق في الحكم الشرعي بين ثمن مؤجل لأجل واحد وثمن مؤجل لآجال متعددة.
حكم بيع التقسيط مع زيادة الثمن لأجل الأجل:
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة رقم 2068، 2069، وباب شراء الطعام إلى أجل 2200 ومسلم كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه رقم 1603.(1/74)
سبق أن بيع التقسيط في الأصل مما اتفق على مشروعيته، ولكن خلافا قد وقع في هذا البيع إذا زيد فيه الثمن لمكان الأجل، بأن يكون ثمن السلعة حالة مائة جنيه مثلا فإذا بيعت على أقساط كان ثمنها مائة وخمسين؟ والصحيح من قولي العلماء مشروعية هذه الصورة وذلك للأدلة الآتية:
- عموم الأدلة التي تقضي بحل البيع، وما البيع بالتقسيط إلا صورة من صور هذه البيوع المشروعة في الأصل، ولم يأت المانعون بما ينقل هذه الصورة إلى الحرمة.
- قوله تعالى: { ??????????? ????????? ??????????? ????? ??????????? ???????? ?????? ?????? ??????? ????????????? } [ البقرة: 282]
والآية تشمل بعمومها بيع السلعة المعينة بثمن مؤجل وهو بيع النسيئة، كما تشمل بيع السلعة في الذمة إلى أجل مسمي وهو السلم، وكما ينقص في بيع السلم لأجل تعجيل الثمن يمكن أن يزاد في بيع النسيئة لأجل تأجيله.
- قوله صلى الله عليه وسلم : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد))(1)
وفي هذا الحديث دلالة على الأمور الآتية:
- إذا بيع ذهب بذهب أو بر ببر يُشْتَرَطُ التماثل والتقابض مثلا بمثل يدا بيد فتحرم الزيادة ويحرم التأجيل.
- إذا بيع ذهب بفضة أو بر بتمر أو شعير يشترط التقابض ولا يشترط التماثل، فيجوز التفاضل لاختلاف الصنفين، ويحرم التأجيل.
- إذا بيع ذهب ببر أو فضة بتمر جاز التفاضل والتأجيل، وكما يكون التفاضل لاختلاف الصنفين يكون لاختلاف الزمنين.
- أنه في بيع الذهب بالذهب مَثَلاً يمتنع ربا النساء وهو التأجيل؛ لأنه يخل بالتساوي ولكن هذا لا يشترط في بيع الذهب بالبر مَثَلاً؛ فتحل فيه الزيادة سواء أكانت لأجل فارق الجودة أو لأجل فارق الزمن.
__________
(1) مسلم كتاب البيوع والمساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً رقم 1587.(1/75)
تهافت أدلة المانعين.
فقد احتجوا لمنع هذا البيع بأن الزيادة فيه نظير الأجل، وكل زيادة نظير الأجل تعد ربا، وقد نوقش بأن هذه الزيادة لا تعد من قبيل الربا الحرام لما سبق من أنه في بيع الأموال الربوية إذا بيع الشيء بجنسه حرم الربا بنوعيه فضلا ونسيئة (ذهب بذهب أو دولار بدولار) وإذا بيع الشيء بغير جنسه مع اتحاد العلة ذهب بفضة أو دولار بجنيه حل الفضل وحرم النساء، وإذا بيع الشيء بغير جنسه مع اختلاف العلة ذهب ببر أو دولار بتمر حل الفضل والنساء جميعاً، فيجوز الفضل لاختلاف الصنفين أو لاختلاف الزمنين.
واحتجوا أيضا بعموم النصوص التي تقضي بتحريم الربا وأن هذا البيع مندرج تحتها، وقد قوبل هذا بعموم النصوص التي تقضي بحل البيع معجلا ومؤجلا وأن هذا البيع مندرج تحتها.(1/76)
وكما احتجوا أيضا بما ورد من النهي عن بيعتين في بيعة كقوله صلى الله عليه وسلم : ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا))(1) وقد نوقش هذا الحديث بأنه - على فرض صحته - محمول على بيوع الآجال (بيوع العينة)لا على بيع الأجل، وهو أن يشتري السلعة إلى أجل ثم يعيد بيعها إلى البائع بثمن أقل حالا، ولا يخفى التحيل على الربا بهذا العقد الصوري الذي لم تعد فيه السلعة أن تكون وسيطا صوريا أقحم لاستباحة قرض بزيادة.(2)
ومما هو جدير بالذكر أنه إذا تأخر المشتري في أداء بعض الأقساط فإن هذا ـ على حرمته - لا يبيح للبائع أن يفرض عليه غرامة مالية في مقابلة هذا التأخير، وإن كان من حقه أن يطالب بحلول بقية الأقساط عند حدوث المماطلة إذا كان قد اشترط ذلك عند التعاقد.
قرار المجمع الفقهي في أحكام بيع التقسيط:
والذي ذكرناه من جواز البيع المؤجل مع زيادة الثمن وعدم جواز فرض غرامة عند التأخير هو الذي اختاره المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي فقد قرر في دورة مؤتمره السادس بجدة المنعقد في شعبان عام 1410هـ ما يلي:
__________
(1) أبو داود 3461، وابن بان في صحيحه 4974 والترمذي 1231، والنسائي (7/ 296)، والحاكم (2/ 45) وصححه الترمذي والحاكم.
(2) وقيل معناه أن يحصل بيعان في سلعة واحدة وذلك بأن يسلفه ديناراً في مائة كيلو من القمح إلى ثلاثة أشهر فإذا حل الأجل قال له البائع بعني القمح الذي لك بخمسمائة كيلو إلى ستة أشهر مثلاً فهذا بيع ثاني دخل على البيع الأول، وقيل إن معناه أبيعك هذه السلعة على أن تبيعني دارك مثلاً وهو تفسير الشافعي وقيل إن معناه: أبيعك هذه السلعة بعشرة نقداً، بخمسة عشر إلى سنة فيقبل المشتري من غير أن يعين بأي الثمنين اشتري، وهو تفسير مالك وأحد قولي الشافعي، وعلة المنع هنا هي الغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الثمن.(1/77)
1- تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال ـ كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً، وثمنه بالأقساط لمدد معلومة، ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو بالتأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل، بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد، فهو غير جائز شرعاً.
2- لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحالِّ، بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتَّفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.
3- إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين، بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرَّم.
4- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
5- يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين في أداء بعضها، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
6- لا حقَّ للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده، لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
ثانياً: بيع العينة:
العينة في اللغة: السلف، يقال اعتان الرجل إذا اشترى الشيء نسيئة، وبيع السلعة بثمن إلى أجل ثم شراؤها نقدا بأقل من ذلك الثمن، وسمي هذا البيع عينة لأن صاحبه لا يقصد السلعة وإنما يقصد العين، أو لأن البائع يعود إليه عين ما باعه.
وفي الاصطلاح هي: البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها، وذلك ببيع السلعة إلى أجل ثم شراؤها بأقل من ثمنها نقداً حالا.
حكم العينة:
... اتفق أهل العلم على حرمة العينة إذا كانت عن تواطؤ واتفاق بأن اشترط في العقد الأول الدخول في العقد الثاني.
واختلفوا فيما وراء ذلك على قولين:(1/78)
القول الأول : التحريم، وهو قول جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والحنابلة، ومن أدلتهم على ذلك:
ما روى عطاء، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتَّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) رواه الإمام أحمد في المسند.(1)
ودلالة الحديث على التحريم ظاهرة فإن التبايع بالعينة من أسباب نزول البلاء، وقد نوقش الاستدلال بهذا الحديث من ناحيتين:
من حيث السند، فإن في إسناده إسحاق بن أسيد الخراساني لا يحتج بحديثه، وفيه عطاء الخراساني، وفيه مقال.
ومن حيث دلالته على التحريم، وذلك لاقتران العينة بأمور أخري غير محرمة وهي اتِّباع أذناب البقر والاشتغال بالزرع.
ولا يخفى ضعف هذا الإيراد لأنه قد يجمع بين أشياء مختلفة في سياق واحد وتتفاوت أحكامها بحسب الأغراض والمقاصد كقوله صلى الله عليه وسلم: (( كسب الحجام خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، ومهر البغي خبيث))(2) مع أن أجر الحجام ليس بمُحرم فقد(( احتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره)).(3)
__________
(1) رواه أبو داود 2456، والبيهقي (5/ 316)، وفي إسناده عطاء الخراساني ضعيف الحديث، يرويه عنه إسحاق بن أسيد الخراساني وهو مجهول، قاله أبو أحمد الحاكم، ورواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش. أخرجه أحمد (4825 / ط شاكر) وابن عياش فيه ضعيف فجعله من مسند عطاء بن أبي رباح، وانظر سنن البيهقي (5/ 316) ونصب الرابة (4/ 16) والشرح الكبير على المقنع (4/ 54).
(2) مسلم كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب رقم 1568.
(3) ابن حبان في صحيحه 5151، وابن ماجة 2164 وإسناده صحيح.(1/79)
ما رواه الإمام الدارقطني، والبيهقي(1) عن أبي إسحق السبيعي عن امرأته العالية (( أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب! قالت: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ قالت عائشة { ????? ????????? ?????????? ???? ???????? ??????????? ??????? ??? ?????? ???????????? ????? ???? } [البقرة: 275]. ))
ودلالة الحديث على التحريم ظاهرة، فقد جعلته عائشة مبطلا لحجه وجهاده إلا أن يتوب.
وقد نوقش الاستدلال بهذا الأثر من ناحيتين:
من ناحية السند، فإن امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، وهي لم تسمعه من عائشة وإنما روته عن امرأة أبي السفر وهي في الجهالة أشد وأقوى .
ومن ناحية الدلالة، وذلك ببعد أن تبطل عائشة جهاد صحابي جليل بأمر قُصاراه أن يكون فيه مجتهدا مخطئا، حقه أن يؤجر مرة بدلاً من أن يحكم عليه ببطلان جهاده وحجه! كيف وهو الذي بايع تحت الشجرة وسجل الله رضاه عنهم قرآنا يتلى إلى الأبد؟!
الآثار المروية عن الصحابة في تحريم هذا البيع.
كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين نقدا، فقال: (( دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة)).
ومنها ما روي عن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال: (( إن الله لا يُخْدَعُ، هذا مما حرم الله ورسوله)) وقول الصحابي: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وأمر بكذا وأوجب كذا في حكم المرفوع(2)
__________
(1) الدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330، 331).
(2)
( ) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 101).(1/80)
وقد نوقش هذا الاستدلال بأن هذه الآثار معارضة بآثار أخرى تقضي بالجواز ويمكن أن يحمل قول المانعين على ما كان من ذلك عن مواطأة.
القول الثاني: الجواز، وهو قول الشافعي وأبي يوسف والظاهرية، ومن أدلتهم على ذلك:
عموم النصوص التي تقضي بحل البيع، وبيع العينة صورة من صور البيع لا تخرج عن هذا الأصل إلا لدليل، ولا دليل.
وقد نوقش بأن هذه العمومات مخصصة بالأدلة التي ذهب إليها المانعون.
الآثار المروية عن بعض الصحابة:
فقد روي البيهقي بسنده أن رجلاً باع من رجل سرجاً ولم ينقد ثمنه، فأراد صاحب السرج الذي اشتراه أن يبيعه، فأراد الذي باعه أن يأخذه بدون ما باعه منه، فسأل عن ذلك ابن عمر فلم ير بذلك بأساً، وقال ابن عمر: فلعله لو باع من غيره باعه بذلك الثمن أو أنقص.
وروي البيهقي أيضاً أن رجلاً باع بعيراً من رجل فقال: اقبل مني بعيرك وثلاثين درهماً ، فسألوا شريحاً فلم ير بذلك بأساً.(1)
ولو لم يكن هذا البيع صحيحاً ما أجازه ابن عمر وشريح!!
وقد نوفش بأنه معارض بالآثار الأخري التي تذهب إلى المنع، وقد سبق إيراد بعضها.
الترجيح:
الذي نخلص إليه بعد عرض هذه الأقوال، هو المنع من هذا البيع سَدًّا للذريعة إلى الربا وقطعا للطريق على المتحيلين عليه بعقود غير مقصودة.
ثالثاً: بيع الوفاء:
هو البيع بشرط التراد، أي متى رد البائع الثمن رد إليه المشتري سلعته، وسمي بيع الوفاء لأن فيه تعهدا من المشتري بالوفاء بالشرط وهو رد البيع عند رد الثمن.(2)
لمحة تاريخية:
__________
(1) السنن الكبري للبيهقي (5/ 33)، والمحلى (9/ 57).
(2) ويسمى أيضاً بيع الأمانة لأن السلعة فيه تصبح كالأمانة عند المشتري يردها للبائع متى رد عليه ماله، ويسمى في الشام بيع الإطاعة لأن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلا بالدين فيطيعه.(1/81)
لقد حدث هذا البيع ببخارى وبلخ في أوائل القرن الخامس الهجري، وكان الباعث له امتناع أكثر أصحاب المال من القرض الحسن مع تحرجهم من الربا وحاجة الناس إلى المال فالتمسوا في هذا العقد مخرجا يرون أنه يحقق مصلحة الطرفين:
- منفعة البائع في الحصول على المال الذي يريد مع عدم اضطراره إلى البيع البات لعقاره الذي قد يكون حريصا على عدم خروجه عن ملكه.
- ومنفعة المشتري في استثمار ماله بعيدا عن الإطار الربوي الصريح.
تكييف هذا العقد:
لا يخفى أن هذا العقد يتضمن مزيجا من أحكام البيع وأحكام الرهن:
ففيه من أحكام البيع حق المشتري في الانتفاع بمنافع المبيع استعمالا واستغلالا، فله أن ينتفع به بنفسه وأن يستغله بإيجاره دون إذن من البائع.
وفيه من أحكام الرهن انتفاء حق المشتري في استهلاك المبيع أو نقل ملكيته إلى الغير، وأنه لا تجري فيه الشفعة، وأن نفقة صيانته على البائع بالإضافة إلى التزام المشتري برده متى رد البائع إليه الثمن.
حكمه:
اختلف أهل العلم في حكم هذا البيع:
فمنهم من اعتبره بيعا صحيحا دعت إليه الحاجة، والحاجة قد تنزل منزلة الضرورة.
ومنهم من اعتبره رهنا صحيحا تجري عليه أحكامه.
ومنهم من اعتبره بيعاً فاسدا نظرًا لاشتراط التراد.
ومنهم من اعتبره بيعا مستحدثا، يجمع بين البيع الصحيح والبيع الفاسد والرهن، وأنه بيع مشروع للحاجة إليه.
والصحيح عدم جوازه لأن المقصود الحقيقي به هو الربا وذلك بإعطاء دراهم إلى أجل وتكون منفعة العقار أو نحوه هي الفائدة، ولا يذهب عنه هذه الوصمة أن يسمى بيع وفاء أو بيع أمانة لأن العبرة في العقود للحقائق والمعاني وليس للأشكال والمباني.(1/82)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه إذا جاءه بالثمن أعاد إليه المبيع هو باطل باتفاق الأئمة سواء شرط في العقد أو تواطآ عليه قبل العقد على أصح قولي العلماء).(1)
رابعا: بيع العربون:
تعريف بيع العربون:
العُربون في اللغة : ما عقد به البيع، وهو بضم العين، أو بفتحتين على العين والراء كحلزون، وأما الفتح مع الإسكان فلحن لم تتكلم به العرب، ويقال له العربان بالضم.
أما في الاصطلاح: فهو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أمضى الصفقة احتسب به من الثمن، وإن لم يمضها كان للبائع.
حكم بيع العربون:
وقد اختلف أهل العلم في حكم بيع العُربون:
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى عدم صحته، ومن أدلتهم على ذلك:
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (( نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان)).(2)
أن هذا من قبيل أكل أموال الناس بالباطل لأنه شُرِطَ للبائع فيه شَرْطٌ بغير عِوَضٍ.
أن فيه شرطين مفسدين: شرط الهبة للعربون وشرط رد المبيع بتقدير عدم الرضى.
أنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه إن اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة لم يصح، كما لوقال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.
وخالف في ذلك الحنابلة وبعض أهل العلم فقالوا بجواز هذه الصورة، ومن أدلتهم:
ما روي عن نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه ؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه.
ضعف حديث عمرو بن شعيب الوارد في النهي عنه.
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: (29/ 334).
(2) أبو داود رقم 3502 وابن ماجة رقم 3192 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومالك في الموطأ ص 1419 وإسناده ضعيف.(1/83)
أن هذا العربون عوض عن انتظار البائع وحبس المبيع طوال هذه المدة، وقد تفوت عليه فيها فرص مجزية للبيع، فلا يصح القول بأن العربون أمر قد شرط للبائع بغير مقابل.
عدم صحة القياس على الخيار المجهول لأن الشرط في جواز العربون أن تحدد مدة الانتظار ، ومع تحديدها يبطل هذا القياس وينتفي هذا المحذور.
قرار مجمع الفقه الإسلامى حول بيع العربون:
ومما هو جدير بالذكر أن مجمع الفقه الإسلامي قد انتهى في دورته الثامنة إلى جواز بيع العُربون وقرر في هذا الصدد ما يلي:
أولاً: المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغا من المال إلى البائع على أنه إذا أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع، ويجري في الاجارة كما يجري في البيع لأنها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد )السلم( أو قبض البدلين )مبادلة الاموال الربوية والصرف ( ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن في مرحلة البيع التالية للمواعدة .
ثانياً: يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.
خامسا: بيع الاستجرار:
تعريف بيع الاستجرار:
الاستجرار في اللغة: هو الجذب والسحب.
وفي الاصطلاح: يقصد به أخذ الحوائج من البياع شيئا فشيئا ودفع ثمنها بعد ذلك.
حكم بيع الاستجرار:
اختلف الفقهاء في هذا البيع ، ومرد الاختلاف فيه إلى ما يكون من جهالة المشتري بالثمن وقت أخذه للسلعة، وليس إلى تأخير دفع الثمن إلى وقت المحاسبة، وعلي هذا فإذا عرف الثمن فهو مجزوم بصحته عند الجميع لأنه لا يعدو في هذه الحالة أن يكون صورة من صور بيع النسيئة فيندرج تحت عمومات النصوص الدالة على مشروعية البيع، أما إذا جهل الثمن فهذا هو موضع النزاع :
فالجمهور على عدم مشروعيته لجهالة العوض .(1/84)
والحنابلة في إحدى الروايتين عندهم على الجواز ، وهو اختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فهو عندهم نظير صحة النكاح دون تسمية المهر فيرد إلى مهر المثل، وهنا يرد إلى ثمن المثل أيضا، ولعل من أظهر الأدلة على مشروعيته شيوع التعامل به في مختلف الأعصار والأمصار حتى عند من يذهبون إلى منعه، ولم يفت أحد منهم ببطلانه.
قال أبو داود في مسائله : باب في الشراء ولا يسمي الثمن. سمعت أحمد سئل عن الرجل يبعث إلى البقال فيأخذ منه الشيء بعد الشيء ثم يحاسبه بعد ذلك ؟ قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس، قيل لأحمد يكون البيع ساعتئذ ؟ قال: لا.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: اختلف الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد، وصورتها : البيع ممن يعامله من خباز أو َلَحَّامٍ أ و سَمَّانٍ أو غيرهم ، يأ خذ منه كل يوم شيئا معلوما، ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ، ويعطيه ثمنه . فمنعه الأكثرون، وجعلوا القبض فيه غير ناقل للملك ، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب ، لأنة مقبوض بعقد فاسد، هذا وكلهم إلا من شدد على نفسه - يفعل ذلك !! ولا يجد منه بدا ، وهو يفتي ببطلانه وأنه باق على ملك البائع ، ولا يمكنه التخلص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قل ثمنها أوكثر ، وإن كان ممن شرط الإيجاب والقبول لفظا فلابد مع المساومة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظا .
إلي أن قال رحمه الله :(1/85)
القول الثاني - وهو الصواب المقطوع به - وهو عمل الناس في كل عصر ومصر: جواز البيع بما ينقطع به السعر ؛ وهو منصوص الإمام أحمد ؛ واختاره شيخنا - يعني ابن تيمية وسمعته يقول : هو أطيب لقلب المشتري من المساومة ؛ يقول: لي أسوة بالناس، آخذ بما يأخذ به غيري ، قال : والذين يمنعون ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه ، وليس في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولاقياس صحيح - ما يحرمه ، وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل، وأكثرهم يجوزون عقد الإجارة بأجرة المثل، كالغسال والخباز والملاح وقيم الحمام والمكاري، فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل، فيجوز كما تجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصور وغيرها، فهذا هو القياس الصحيح؛ ولاتقوم مصالح الناس إلا به.
الخلاصة
البيوع وأحكامها.
البيع:
مبادلة مال بمال، وهو في الاصطلاح: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة.
والأصل في البيوع هو الحل إلا ما ورد الدليل بتحريمه.
وللبيع تقسيمات متنوعة باعتبارات مختلفة.
فهو باعتبار المبيع ينقسم إلى: البيع المطلق وهو مبادلة السلع بالنقود، والصرف وهو مبادلة النقد بالنقد، والمقايضة وهو مبادلة السلع بالسلع.
وباعتبار طريق تحديد الثمن ينقسم إلي: بيع المساومة وهو البيع الذي لا يُظهر فيه البائع رأس ماله، وبيوع الأمانة وهي التي يظهر فيها البائع رأس ماله وعلى أساسه يتحدد الثمن، وبيع المزايدة وهي البيع لمن يزيد.
وباعتبار كيفية أداء الثمن ينقسم إلى: منجز البدلين ويسمي بيع النقد، ومؤجل البدلين، ويسمي بيع الدين بالدين، ومؤجل الثمن وهو بيع النسيئة، ومؤجل المثمن وهو بيع السَّلَم.(1/86)
وللبيع شروط لابد من اجتماعها لانعقاده صحيحا، ومن هذه الشروط ما يتعلق بالعاقدين وهو أهلية التصرف، ومنها ما يتعلق بالمعقود عليه وهو العلم بالمبيع والثمن، وكون المبيع مالا طاهرا منتفعا به مقدورا على تسليمه مملوكا لصاحبه وقت العقد، وعدم التوقيت.
ولا بأس ببيع الجزاف وهو بيع ما يكال أو يوزن أو يعد جملةً بلا كيل أو وزن أو عد، وفق شروط فصل القول فيها فقهاء المالكية.
ولا يجوز بيع المال الربوي بجنسه جزافا لاشتراط التماثل في هذه الصورة، والقاعدة في الربويات أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.
أسباب النهي عن البيع نوعان: عقدية وغير عقدية.
فالأسباب العقدية منها ما يتعلق بمحل العقد كتخلف شرط وجود المبيع أو تقومه شرعا أو ملكية البائع له، ومنها ما يتعلق بلازم العقد، وهو اشتماله على الربا أو الغرر.
أما الأسباب غير العقدية فمنها ما يرجع النهي فيه إلى التضييق والإيذاء والغرر....
أسباب الفساد في العقود أربعة: تحريم عين المبيع، والربا، والغرر، والشروط الفاسدة التي تؤول إلى الربا أو الغرر أو مجموعهما.
البيوع المحرمة:
بيع الكالئ بالكالئ:
لا يجوز بيع الكاليء بالكاليء، وهو بيع الدين بالدين، وله عدة صور منها:
بيع ثمن مؤجل بثمن مؤجل، وهي صورة أخرني وأزيدك، وهي أصرح صور الربا وأشدها قبحا.
بيع ثمن مؤجل بسلعة معينة مؤجلة التسليم، وصورتها أن يبيع الرجل على مدينه بدينه سلعة معينة مؤجلة التسليم، وهذه لا حرج فيها لشبهها بقصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم من جابر جمله واشتراط جابر أن يكون تسليم الجمل في المدينة وكان الوفاء بالثمن في المدينة كذلك.
بيع ثمن مؤجل بسلعة موصوفة في الذمة مؤجلة، وصورتها أن يكون لرجل على آخر دين فيشتري من مدينه سلعة موصوفة في الذمة، فإن رضي المدين بتعجيل ما في ذمته من دين ليكون ثمنا فلا حرج وإلا لم يشرع لتخلف شرط تعجيل رأس المال.(1/87)
بيع سلعة موصوفة مؤجلة في الذمة بأخرى موصوفة في الذمة مؤجلة، فإن كان ذلك على سبيل السَّلم لم يشرع؛ لتخلف شرط تعجيل رأس المال، وإن كان ذلك على سبيل الاستصناع فلا حرج عند من يجعلون الاستصناع عقدا مستقلا.
بيع وشرط:
ولا يجوز بيع وشرط، وقد اختلف أهل العلم في بعض تفصيلات هذه الصورة:
فقد حملها المالكية على الشرط الذي يناقض مقتضى العقد، كأن يشترط عليه عدم البيع أو الانتفاع، أو الذي يؤدي إلى الإخلال بالثمن كاشتراط السلف من أحد المتابعين.
وحملها الحنابلة على شرط يناقض مقتضى العقد ـ وقد سبق مثاله ـ أو يناقض مقتضى الشرع كأن يشترط عليه عقدا آخر كبيع أو قرض لما ورد من النهي عن بيعتين في بيعة، أو اشتراط يعلق عليه البيع والشراء كقوله: بعتك إن رضي فلان.
وحمله الأحناف على شرط ليس من مقتضى العقد ولا مما يلائمه ويتضمن منفعة لأحد العاقدين، كبيع دار على أن يبنيها مسجدا أو منفعة للمبيع كبيع أمة على أن يعتقها.
وفي شرط المنفعة الذي قال به الأحناف نظر؛ لحديث جابر الذي باع جمله واشترط حملانه إلى المدينة.
بيعتان فى بيعة:
ولا يجوز بيعتان في بيعة، واختلف في صورتها على أقوال:
البيع بثمنين معجل ومؤجل أعلى منه، وفي المنع من ذلك نظر، بل ترده عموم الأدلة وقرارات المجامع الفقهية.
بيع العينة، وهو بيع الشيء بثمن مؤجل على أن يشتريه منه بثمن حال أقل من ثمنه الأول.
- أن يشترط في عقد البيع عقدا آخر.
- أن يسلم في سلعة إلى أجل فإذا حل الأجل باعها له إلى أجل آخر بزيادة، ويجب في هذه الحالة أن يرد إلى أوكسهما وهو الأول.
بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه:
وذلك إذا كان البيع قبل لزوم البيع الأول وبغير إذن البائع الأول، ويُستثنى من النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه بيعُ المزايدة لوجود النص على مشروعيته.
بيع الحاضر للبادى:(1/88)
ولا يجوز بيع الحاضر للبادي بحيث يصبح الحاضر سمسارا له، وذلك لما يؤدي إليه من الإضرار بأهل البلد والتضييق على الناس.
وللنهي عن بيع الحاضر للبادي شروط منها: عموم الحاجة إلى ما يقدم به البدوي من السلع، وجهل البدوي بالسعر، وتوجه قصده إلى البيع الحال بسعر يومه، وارتفاع ثمن المبيع على التدريج عن ثمن البيع الحال، وكون البدوي قد جلب هذه السلع لبيعها لا لخزنها.
بيع الكلاب:
ولا يجوز بيع الكلاب لما صح من النهي عن ذلك، واختلف في الكلب المأذون باتخاذه ككلب الماشية وكلب الصيد، فأجاز المالكية بيعه ومنع من ذلك غيرهم.
بيع المعازف وأدوات اللهو:
جمهور الفقهاء على تحريم بيع المعازف وآلات اللهو المحرمة، أما ما وردت الرخصة باستعماله كالدف فلا حرج في بيعه.
البيع عند نداء الجمعة:
يحرم البيع وقت نداء الجمعة لورود النهي الصريح عن ذلك، والأذان المقصود هو الذي يكون بين يدي الخطيب، وغير البيع مقيس عليه عند جمهور أهل العلم، ومحل هذا التحريم أن يكون المشتغل بالبيع ممن تلزمه الجمعة وأن يكون عالما بالنهي، وانتفاء الضرورة إلى البيع.
وإذا تبايع اثنان ممن لا تلزمهم الجمعة وقت النداء فلا حرج، أما إذا كان أحدهما ممن تلزمه الجمعة فإنهما يأثمان: أحدهما لارتكابه المحظور، والآخر لإعانته عليه.
بيوع مختلف فيها:
بيع التقسيط مع زيادة الثمن:
تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال في أصح قولي العلماء ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل.
بيع العينة:
وهو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها.
ولا يشرع هذا البيع عند جمهور أهل العلم سَدًّا للذريعة إلى الربا، وقد أجاز الشافعي ما كان من ذلك عرضا بغير اتفاق.
بيع الوفاء:
وهو البيع بشرط التراد أي متى رد البائع الثمن رد المشتري إليه سلعته.(1/89)
ولا يجوز هذا البيع في أصح قولي العلماء لأن المقصود الحقيقي به هو الربا وذلك بإعطاء دراهم إلى أجل وتكون منفعة المبيع هي الفائدة الربوية.
بيع العربون:
وهو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أمضى الصفقة احتسب به من الثمن وإن لم يمضها كان للبائع.
ويجوز بيع العربون في أصح قولي العلماء إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.
بيع الاستجرار:
وهو أخذ الحوائج من البياع شيئا فشيئا ودفع ثمنها بعد ذلك.
ولا بأس بهذا البيع في أصح قولي العلماء بل ربما كان أطيب لقلب المشتري من المساومة.
الوحدة الخامسة
عقود الاستثمار الشرعية
المصطلحات:
الشركة: لغة: الخلط والمزج.
اصطلاحاً: الاجتماع في استحقاق أو تصرف، فالاجتماع في الاستحقاق يشير إلى شركة الأملاك والاجتماع في التصرف يشير إلى شركة العقود.
شركة أملاك: اشتراك بين اثنين فأكثر في تملك عين من الأعيان بسبب من أسباب الملك كالشراء أو الهبة أو الميراث.
شركة عقود: عقد بين متشاركين في الأصل والربح.
شركة العنان: الاشتراك في المال والعمل والربح.
شركة الأبدان : اشتراك اثنين أو أكثر فيما يكسبون بأبدانهم.
شركة وجوه: اشتراك اثنين أو أكثر في ربح ما يشرون في ذممهم بجاههم.
شركة المفاوضة: كل شركة يتساوى فيها الشركاء في المال والتصرف والدين من ابتداء الشركة إلى انتهائها.
الوجاهة: المكانة المحمودة بين الناس.
الأرش: هو العوض المحدد شرعاً لما دون النفس بسبب الجناية على عضو مثلاً.
المضاربة: دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه.
عقود الاستثمار الشرعية(1/90)
لا يعرف الإسلام فصاما نكدا بين الدين والدنيا كما يزعم كثير من الفاتنين أو المفتونين، ولم يجعل الكون شركة بين الله وبين طواغيت البشر كما هو السائد في أغلب الديانات المحرفة، بل غطى بشريعته المطهرة الدين والدنيا معا، وشمل بأحكامه جميع مجالات الحياة على تشعب أوديتها واختلاف مشاربها، وقدم للبشرية في مجال الهداية إعجازا تشريعيا لم يبلغ عشر معشاره سدنة القوانين الوضعية.. وما ينبغي لهم وما يستطيعون، فإن الفرق بين الشريعة والقانون كالفرق بين الخالق والمخلوق!
وقضية استثمار الأموال من القضايا التي عنيت بها الشريعة المطهرة، فرسمت لها خطوطا وحدت لها حدودا وشرعت لها عقودا مختلفة تفيأ المستثمرون ظلالها على مدار القرون، فاستغنوا بها عن الدخول في شعاب المحرمات، ووجدوا فيها ما يحقق مصالحهم المشروعة وحاجاتهم العادلة في إطار ربانية المنهج وطهر الغايات والوسائل.
وفي هذه الدراسة نعرض لعدد من عقود الاستثمار مما تمس حاجة المستثمر المسلم إلى تحرير أحكامها والوقوف على ضوابطها الفقهية وتطبيقاتها العملية وكيف يمكن الاستفادة منها في مسيرة الاستثمارات الجماعية المعاصرة.
فهلم أيها المستثمر الكريم إلى هذه الإطلالات الفقهية على باقة من عقود الاستثمار الشرعية.
أولاً : الشركات وأحكامها.
الشركات في الفقه الإسلامي أنواع عديدة: منها ما يرجع إلى العقد ومنها ما يرجع إلى الملك، ومن ناحية مشروعيتها منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه، وسنتناول في هذه الدراسة ما نقدر مسيس حاجة التاجر المسلم إلى معرفته من هذه الأحكام.
تعريف الشركة:
الشركة في اللغة: الخلط والمزج، أو هي توزيع شيء بين اثنين فأكثر على جهة الشيوع.
وفي الاصطلاح: الاجتماع في استحقاق أو تصرف، فالاجتماع في الاستحقاق يشير إلى شركة الأملاك والاجتماع في التصرف يشير إلى شركة العقود.
مشروعية الشركة:(1/91)
الشركة مشروعة بإجماع المسلمين ، ومستند هذا الإجماع كثير من النصوص، منها:
قوله تعالى { ????? ????????? ???????? ??? ??????? ?????? ?????????? ??? ????????? } [النساء: 12].
فالأخوة لأم شركاء في الثلث قبل قسمته.
وقوله تعالى: { ?????????????? ??????? ????????? ???? ?????? ?????? ?? ????????? } [الأنفال: 41].
فالغنيمة ملك للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فهم شركاء فيها قبل القسمة.
وما صح من أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (( فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان بنسيئة فردوه)).(1)
أنواع الشركة:
الشركة نوعان:
1- شركة أملاك: وهي اشتراك بين اثنين فأكثر في عين من الأعيان بسبب من أسباب الملك كالشراء أو الهبة أو الميراث.
2- شركة عقود: وهي عقد بين متشاركين في الأصل والربح.
أقسام شركة العقود:
تنقسم شركة العقود عند الجمهور إلى ما يلي:
1- شركة العنان: هي الاشتراك في المال والعمل والربح، فهي اشتراك اثنين أو أكثر بأموالهم ليعملوا فيها بأنفسهم ويقتسموا الربح فيما بينهم، فالمال من الجميع، والعمل من الجميع، والناتج بين الجميع، وهي جائزة بالإجماع، على خلاف في بعض التفاصيل.
2- شركة الأبدان: وهي اشتراك اثنين أو أكثر فيما يكسبون بأبدانهم،كاشتراك الأطباء في مستوصف، واشتراك الخياطين أو الحلاقين في مشروع واحد، وهي جائزة عند الجمهور، ومنعها الشافعي رحمه الله، وتسمى شركة الصنائع أو التقبل.
3- شركة وجوه: وهى اشتراك شخصين أو أكثر في ربح ما يشترونه في ذممهم بجاههم، فليس لأحد منهم رأس مال، ولكن لكل منهم قبول عند الناس، فيشترون دَيْنًا، وما تحصل من ربح كان بينهم، وهي جائزة عند الأحناف والحنابلة، باطلة عند المالكية والشافعية.
__________
(1) البخاري كتاب الشركة، باب الاشتراك في الذهب والفضة رقم 2497.(1/92)
4- شركة المفاوضة: وهي كل شركة يتساوى فيها الشركاء في المال والتصرف والدين من ابتداء الشركة إلى انتهائها، فهي ما تضمنت وكالة وكفالة وتساوي الشركاء فيها مالا وتصرفا ودينا.
وهذه الشركة جائزة عند الجمهور ومنعها الشافعي رحمه الله، ولعل اعتراض الشافعي رحمه الله على صورة أخرى من صور شركة المفاوضة تلك التي يشترك العاقدان في كل ما يثبت لهما أو عليهما سواء بسبب المال أو غيره.(1)
وإليك أيها المستثمر الكريم بعض أحكام هذه الشركات مما يشيع التعامل به ويكثر التساؤل حوله في حياتنا المعاصرة.
أولاً: شركات العنان.
تعريف شركة العنان:
لقد سبق في تعريف هذه الشركة أنها: اشتراك بين اثنين أو أكثر بأموالهم ليعملوا فيها بأنفسهم واقتسام الربح فيما بينهم، فهي اشتراك في المال والعمل والربح.(2)
حكم شركة العنان:
__________
(1) قال الشافعي رحمه الله: "شركة المفاوضة باطلة، ولا أعرف شيئاً من الدنيا يكون باطلاً إن لم تكن شركة المفاوضة باطلاً، إلا أن يكونا شريكين يعدان المفاوضة خلط المال والعمل فيه، واقتسام الربح فهذا لا بأس به" إلى أن قال: "وإن زعما أن المفاوضة عندهما بأن يكونا شريكين في كل ما أفادا بوجه من الوجوه بسبب المال وغيره، فالشركة بينهما فاسدة" الأم للشافعي (3/ 231، 232).
(2) اختلف أهل العلم في وجه تسمية هذه الشركة شركة عنان، فمنهم من قال في ذلك إنها مأخوذة من عنان الدابة، والمعنى أن كلا من الشريكين آخذ بعنان شريكه أي بناصيته حتى لا يفعل فعلا إلا بإذنه، أو أن كلا منهما جعل للآخر عنان التصرف في بعض ماله، أو بجواز تفاوتهما في المال والربح كما يتفاوت العنان في كف الفارس طولاً وقصراً في حالتي الإرخاء وضده، وكل ذلك محتمل.(1/93)
هذه الشركة مشروعة بالإجماع، وإن وقع الخلاف في بعض التفاصيل والجزئيات، وما أوردناه سلفا من الدلالة على مشروعية الشركة عامةً دليلٌ على مشروعية شركة العنان خاصة لأنها النوع المتفق على مشروعيته من أنواع الشركات.(1)
أركان شركة العنان:
لشركة العنان أركان ثلاثة:
الركن الأول: العاقدان، ويشترط فيهما أهلية التصرف، وهي التي تكون بالرشد والاختيار، ولا بأس بمشاركة غير المسلم على ألا يخلو بالمال دون المسلم مخافة الدخول في المكاسب المحرمة، فإن كانت تصرفات غير المسلم تحت رقابة من المسلم فلا حرج(1)، وفي مشاركة المسلمين متسع ومنادح.
ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن الاشتراك في التجارات والمعاملات قد يورث شيئا غير قليل من الألفة والمودة مما قد يؤدي - في حالة مشاركة غير المسلم - إلى إضعاف مفهوم الولاء والبراء، وفي ذلك من مداخل الفتنة ما فيه.
فيجب أن يظل المسلم دائم الاستعلاء بعقيدته، وأن يعمل على أن تكون سيرته في هذه المشاركة بابا من أبواب الدعوة إلى الله بما يراه الكافر من صدق المسلم وأمانته، وحرصه على الوفاء بعهوده والتزاماته.
الركن الثاني: المعقود عليه، ويشمل المال والعمل والربح.
أولا : المال: ويشترط في المال ما يلي:
أن يكون معلوما، فإن كان مجهولا أو جزافا لم يصح، لأنه لابد من الرجوع به عند المفاصلة ولا يتأتي ذلك مع جهالته.
__________
(1) يقول الكاساني من فقهاء الحنفية: "فأما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، ولتعامل الناس بذلك في كل عصر من غير نكير". وفي بداية المجتهد: "والشركة بالجملة عند فقهاء الأمصار على أربعة أنواع شركة العنان وشركة الأبدان وشركة المفاوضة وشركة الوجوه، واحدة منها متفق عليها وهي شركة العنان، والثلاثة مختلف فيها".
وفي المغني: "وشركة العنان أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما، وهي جائزة بالإجماع".(1/94)
أن يكون حاضرا، والمراد حضوره عند الشراء، لأنه هو الذي تتم به الشركة فيعتبر الحضور عنده، فإن كان غائبا في ذلك الوقت لم تصح.
ألا يكون دينا على معسر، قطعا للذريعة إلى الربا، لأن الدائن قد يتهم في هذه الحالة بأنه أخر عنه دينه ليزيده في قيمته، أو يتهم المدين بأنه افتدى نفسه من مطالبة الدائن له بزيادة بذلها له.
ولا يعتبر خلط المالين ولا تساويهما شرطا في صحة هذه الشركة، ولكن ضمان الهالك من أموال الشركة لا يكون على الشركة إلا بالخلط الحقيقي أو الحكمي بأن ينخلع كل من الشريكين عن حيازته المستقلة لمال الشركة بحيث يخرج عن ضمانه المستقل إلى ضمان الشركة.(1)
ولا يشترط اتفاق المالين في الجنس كما هو مذهب الأحناف والحنابلة فقد يبذل أحدهما ماله من الدولارات ويبذل الآخر من الجنيهات مثلا، وعند المفاصلة نفرق بين وضعين:
الأول: إذا كانا يتعاملان في تجارتهما بالجنسين معا رجع كل منهما بجنسه ثم يقتسمان الفضل بعد ذلك.
الثاني: إذا كانوا يتعاملون بجنس واحد، وقد تم تحويل كل رأس المال إليه تمت المفاصلة على أساسه، ويكون التقويم على أساس سعر الصرف يوم العقد.
ثانياً : العمل:
__________
(1) فقد جاء في الخرشي على خليل "والمشهور أنها لازمة بالعقد حصل خلط أم لا، ولا يصح جعله شرطاً في الصحة لأنها صحيحة مطلقاً فهو شرط في الضمان المفهوم من اللزوم لأنه يشعر بالضمان، إذ لا فائدة له إلا الضمان إن وجد شرطه وهو الخلط، ولا فرق في الخلط بين كونه حساً بأن لا يتميز مال أحدهما عن الآخر، أو حكما وإليه أشار بقوله: (ولو حكما) أي ولو كان الخلط حكماً في الصحيحة بأن جعلا مجموع الماليين ببيت واحد وجعلا عليه قفلين بيد كل منهما مفتاح الآخر، أو جعل كل منهما ذهبه في صرة وجعلاها تحت يد أحدهما، أو في تابوته وخرجه الخرشي على خليل (6/ 41).(1/95)
أما العمل فإن لكل منهما التصرف في المال وفق ما اعتاده التجار وتعارفوا عليه، وما جاز للمضارب أن يعمله فالشريك أولى به لأن المضاربة شركة في الفرع دون الأصل، وهذه شركة في الفرع والأصل معا.
ويجوز للشريكين تفويض العمل إلى أحدهما واشتراط ذلك عليه من البداية في أصح قولي العلماء، لأن الحق في التصرف ثابت لكليهما، ويجوز لصاحب الحق التنازل عن حقه لغيره، وتفويضه في القيام به متى اقتضت مصلحته ذلك.
ثالثاً: الربح:
ويشترط فيه ما يلي:
- أن يكون معلوم القدر ، فإن كان مجهولا فسدت الشركة إلا إذا وجد عرف شائع يقضي بتوزيع الأرباح على وجه معين فإنه يعمل به.
- أن يكون جزءا شائعا في الجملة، فإن عينا قدرا فسدت الشركة لجواز ألا تربح الشركة إلا هذا القدر المعين فلا تتحقق الشركة في الربح.
ولا بأس بالتفاوت بين الشركاء في الربح، ولا يشترط أن يكون الربح على قدر المال، لأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل، وقد يكون أحدهما أكثر خبرة فلا يرضى بالمساواة، وهذا هو الذي اختاره الأحناف والحنابلة.
الركن الثالث: الصيغة، وتنعقد هذه الشركة بكل ما يدل عليها عرفا من قول أو عمل لما تقرر من أن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
انتهاء الشركة:(1/96)
الأصل في الشركة أنها عقد جائز، فلكل واحد من الشريكين فسخها متى شاء، وخالف في ذلك المالكية فقالوا تلزم بمجرد العقد، فلو أراد أحدهما المفاصلة فلا يجاب إلى ذلك، ولو أراد تنضيض المال.(1) فإن مرد ذلك إلى الحاكم: إن رأى وجه بيع باع، وإلا أخر إلى أن يرى وجه بيع مناسب(2)
والذي يترجح لنا أنها تلزم بالشروع في العمل ويستمر ذلك إلى خلوص المال في إبانه، أي إلى أن يأخذ المال دورته ويرجع نقودا، وذلك منعا للضرر الذي يلحق الطرف الآخر من قرار الفسخ المفاجئ بعد الشروع في العمل.
والذي لا شك فيه أن مبنى هذه الشركة عند الفقهاء جميعا على الوكالة والأمانة، فكل من الشريكين وكيل عن صاحبه وموكل له، فهو يتصرف في نصيبه بالأصالة وفي نصيب شريكه بالوكالة، والأصل أن الوكالة من العقود الجائزة بالاتفاق لايجبر أحد أطرافها على المضي فيها رغما عنه، فكذلك الشركة في الأصل لأنه لابد لها من الوكالة لكي تبدأ، ولابد لها من الوكالة لكي تبقى، فالوكالة مشروطة فيها ابتداء وبقاء، فإذا انقطعت الوكالة بالفسخ من أحد الشريكين فقد زالت الولاية التي كان يتصرف بها كل منهما في مال الآخر.
هذا هو الأصل، وذلك هو مقتضى القواعد العامة التي لا ينازع فيها المالكية أنفسهم مما يجعل قولهم بلزوم الشركة بالعقد موضع نظر وتساؤل.
__________
(1) رجوعه نقدا كما كان.
(2) جاء في الخرشي: "ولزمت بما يدل عرفا" يعني أن الشركة تلزم بمجرد القول على المشهور، وقال ابن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته في المدونة أنها تنعقد باللفظ، فقوله بما يدل عرفا من قول: كاشتركنا، أو فعل كخلط الماليين والتجر فيهما، فلو أراد أحدهما المفاصلة فلا يجاب إلى ذلك مطلقاً، ولو أراد نضوض المال بعد العمل فينظر الحاكم كالقراض ". الخرشي على خليل (6/ 39).(1/97)
إلا أننا قد نجد أنفسنا أحيانا أمام اعتبارات عملية تحملنا على إعادة النظر في الأمر وتعطي لقول المالكية وجاهة واعتبارا، فقد تبدأ الشركة، ويتجه أعضاؤها نحو الإعداد والتجهيز، وتنفق الأموال في شراء مواد التجارة ولوازمها، وهذا يكلف غالبا في البداية جهودا مضنية، وأعباء شديدة ونفقات باهظة ثم يفاجأ أحد الشريكين بأن صاحبه يعصف بذلك كله في لحظة، ويطالب بإيقاف العمل وتنضيض المال ليسترد نصيبه وينسحب من الشركة، وقد يعني هذا بالنسبة لشريكه الدمار والشلل.
فما موقف الفقه بالنسبة لهذه الحالة؟ هنا يبرز الفقه المالكي علامة مضيئة على الطريق مع شيء من التعديل والمرونة.
لقد قال المالكية بلزوم الشركة بالعقد، وبأن تنضيض المال مرده إلى الحاكم، قياساً على القراض ولكنهم لم يقولوا بلزوم القراض بالعقد بل بالشروع في العمل الذي هو مظنة الضرر في حال الفسخ، فينبغي القول بذلك أيضا في باب الشركة، والله أعلم.
وكما تنتهي الشركة بالفسخ تنهى بموت أحد الشريكين أو جنونه أو الحجر عليه لسفه ونحوه.
هل تبطل الشركة بهلاك أحد المالين؟
إذا هلكت بعض أموال الشركة قبل الخلط بنوعيه الحسي أو الحكمي بطلت الشركة، أما إذا كان الهلاك بعد ذلك فإن الهالك حينئذ يكون على الشركة، فلا تنقطع الشركة بذلك وإنما تستمر بينهما على الباقي.
كيف يمكن الإفادة من المشاركة لتكون بديلا من الاستثمارات الربوية؟
عالم المشاركات عالم متسع الآفاق، مترامي الأطراف، تتعدد صيغه وأشكاله، وتتنوع مجالاته وأنواعه، فإذا توجه إليه المستثمر المسلم فإنما يتوجه إلى أودية خصيبة، ومنابع ثرية، لا يغيض ماؤها، ولا ينضب عطاؤها، فيغترف منها ما يشاء في ظل ربانية المنهج، وشرعية الإطار، وطهر المنطلق، ونبل الهدف والغاية.
وسوف نتكلم عن بعض صيغ هذه المشاركات على سبيل التمثيل لا الحصر، ولا يزال المجال مفتوحا لكل ابتكار آخر، ما دام محكوما بإطار الشرع وقواعده الكلية.(1/98)
المشاركة الدائمة:
وذلك بتوجيه أموال المستثمرين نحو المشاركة الدائمة في مشروعات قائمة أو مشروعات تحت التأسيس، ويتم اشتراك الجميع في المغانم والمغارم على حد سواء.
المشاركة على أساس صفة معينة:
وذلك بتوجيه راغبي الاستثمار إلى المشاركة في تمويل صفقة معينة كاستيراد كمية من السلع، أو تنفيذ عملية من عمليات المقاولات، ثم يوزع العائد على الشرط ربحا كان أو خسارة.
المشاركة المتناقصة:
وهي نوع من أنواع المشاركة يعطى فيه أحد الشركاء للآخر الحق في الحلول محله في الملكية دفعة واحدة أو على دفعات، حسبما تقتضيه الشروط المتفق عليها وطبيعة العملية وذلك على أساس إجراء ترتيب منظم لتجنيب جزء من الدخل المتحصل كقسط لسداد قيمة الحصة (1).
ويميل إلى هذا النوع من المشاركة كثير من المضاربين الذين لا يرغبون في استمرار مشاركة الممول لهم، بل يودون أن تؤول إليهم في النهاية ملكية هذه المشروعات المشتركة، والتي غالبا ما تكون منتجة للدخول كالسيارات، أو بعض الوحدات الإنتاجية في المصانع والمؤسسات وغير ذلك.
فقد ترغب - مثلا - شركة من الشركات في أن تضيف إلى أعمالها وحدة كاملة لتصنيع نوع معين من السلع، فيمكن للمستثمر أن يتفق مع هذه الشركة على المشاركة في تمويل هذه الوحدة، وتنظيم الإيرادات والمصاريف الخاصة بهذه الوحدة بشكل مستقل، ثم يتفق على تقسيم الربح بينهما، مع تجنيب جزء من الدخل يحتفظ به لتسديد ثمن هذه الوحدة، فيؤول الأمر إلى أن تنفرد هذه الشركة بملكية هذه الوحدة في النهاية.
وفي مؤتمر المصارف الإسلامية(2) بدبي عام 1399هـ – 1976م بحث المؤتمرون هذه المعاملة، وانتهوا إلى أن تكون هذه الشركات المنتهية بالتمليك على إحدى الصور الآتية:
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (1/ 28).
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (1/ 28).(1/99)
الصورة الأولى: أن يتفق المصرف مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها.... ثم يكون بيع حصص المصرف إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل بحيث يكون له الحق في بيعها للمتعامل شريكه أو لغيره، وكذلك الأمر بالنسبة للمتعامل مع البنك، فتكون له الحرية أيضا في بيع حصصه للبنك شريكه أو لغيره.
الصورة الثانية: أن يتفق المصرف مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق البنك مع الشريك الآخر على حصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا، مع حقه في الاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه مخصصا ذلك الجزء لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
الصورة الثالثة: وفيها يحدد نصيب كل من المصرف وشريكه في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة، ويحصل كل من الشريكين على نصيبه من الإيراد المتحقق، وللشريك إن شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للبنك عددا معينا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة إلى أن يتم تملك شريك البنك الأسهم بكاملها وينفرد بالملكية في النهاية.
أما الصورة الأولى فهي جائزة باتفاق لأنها تتضمن عقدين منفصلين مستقلين كل منهما جائز في ذاته، وهما عقد الشركة، وعقد البيع، فلا تحريم فيها ولا شبهة، وكذلك الأمر بالنسبة للصورة الثالثة التي لا يفرقها عن الأولى إلا أن البيع فيها يكون على دفعات، بينما يتم في الصورة الأولى دفعة واحدة وكلاهما لا شبهة فيه ما دام البيع يتم بعد الشركة بعقد مستقل.
أما الصورة الثانية فتكتنفها بعض الشبهات، لأن البنك دخل من البداية على أن يعود إليه ماله الذي دفعه كاملا مضافا إليه نسبة من ربح المشروع.(1/100)
والذي أدى إلى قيام هذه الشبهة هو اجتماع الأمرين: الشركة والبيع في عقد واحد، ولم نقل إنها من الربا القطعي لأن السلع لو هلكت لهلكت على الشركة، ولم تهلك على العميل وحده، وهذا مما يباعد بينها وبين القرض الذي هو في ضمان المقترض على كل حال، كذلك الأمر في حالة الخسر فإنه يقع عليهما على السواء.
ومما يباعد بينها وبين الربا كذلك أن استرداد المصرف لأصل ما قدمه من تمويل موقوف على شرط نجاح المشروع وتحقيقه للربح، فإذا لم يتحقق ربح ما فلن يسترد المصرف شيئا، ولا أثر لهذا على عقد الشركة القائم بينه وبين البنك، ويبقي نصيب البنك في صورة حصة من المشروع ويبقي دخله في صورة نسبة من الربح.
إلا أن الشبهة لا تزال قائمة متمثلة في اندماج الأمرين معا، ودخول البنك من البداية على استرداد ماله كاملا مع ما يضاف إليه من نسبة الربح، ولهذا فإنه يحسن إبراء للذمة، واجتنابا للشبهة أن يفصل بين العقدين بحيث يكون أمر البيع موكولا إلى اختيار الطرفين.
ثانياً: شركة الأبدان
تعريف شركة الأبدان:
هي اشتراك اثنين أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم.
وذلك كاتفاق أصحاب الحرف والصناعات على تقبل الأعمال والاشتراك في الكسب، ومن أمثلتها: اتفاق مجموعة من الأطباء على إقامة دار للعلاج واستقبال المرضى كل حسب تخصصه، ثم اقتسام الكسب في النهاية، أو اتفاق مجموعة من الفنيين على عملِ مشروعٍ لإصلاح السيارات كل حسب خبرته واقتسام ما يتحصل عن ذلك من الربح.
وتسمى هذه الشركة أيضاً: شركة الصنائع، وشركة التقبل، وشركة الأعمال.
مشروعية شركة الأبدان:
اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الشركة:
فأجازها الجمهور من الحنفية(1) والمالكية(2) والحنابلة(3).
__________
(1) راجع بدائع الصنائع للكاساني (7/ 3534).
(2) راجع بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (2/ 255).
(3) راجع المغني لابن قدامة (5/ 122).(1/101)
ومنعها الشافعي(1) رحمه الله تعالى.
ووجه ما ذهب إليه الجمهور:
ما رواه أبو عبيدة ابن عبد الله عن أبيه عبد الله بن مسعود قال: (( اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر، فلم أجئ أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين))(2)
وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال أحمد: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم.(3)
ووجه ما ذهب إليه الشافعي أنها شركة على غير مال فلا تفيد مقصودها وهو الربح، لأن الشركة في الربح تبني على الشركة في المال، ولا مال هنا فلم تصح.
وقد نوقش دليل الشافعي رحمه الله بأن مقصود الشركة هو تحصيل الربح على الاشتراك، وهو لا يقتصر على المال، بل جاز بالعمل أيضا كما في المضاربة فجاز بالتوكيل بأن وكل كل منهما الآخر بقبول العمل عليه كما يقبله لنفسه فيكون كل منهما وكيلا في نصف العمل المتقبل، أصيلا في نصفه الآخر فتحققت الشركة في المال المستفاد عن ذلك العمل.
أركان شركة الأبدان:
لشركة الأبدان كغيرها من الشركات ثلاثة أركان:
العاقدان، ويشترط فيهما أهلية التصرف.
والمعقود عليه، وهو العمل والربح.
والصيغة، وهي ما يدل على الرضا بالعقد من الإيجاب والقبول.
هذا وقد سبق القول في كثير من أحكام هذه الأركان عند الحديث عن شركة العنان، لكونها أحكاما عامة للشركة فلا وجه لإعادته في هذا المقام، وسوف نفرد المعقود عليه بشيء من الدراسة لإبراز بعض الأحكام الخاصة بهذه الشركة.
أولاً : العمل:
اختلف الفقهاء في اشتراط اتحاد العمل لصحة هذه الشركة:
فذهب الحنفية والحنابلة في إحدى الروايتين إلى عدم اشتراط ذلك، لأن المقصود من هذه الشركة وهو تحصيل الربح لا يتفاوت بين كون الأعمال من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، فلا وجه لاشتراط شرط بلا دليل يوجبه.
__________
(1) راجع مغني المحتاج شرح المنهاج للشربيني الخطيب (2/ 212).
(2) أبو داود 3388 والنسائي (7/ 57، 319)، وابن ماجة 2288 والبيهقي (6/ 79).
(3) المغني (7/ 112).(1/102)
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة في الرواية الأخرى، فقالوا باشتراط اتحاد العمل لصحة هذه الشركة لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يكون ملزما للآخر، ومع اختلاف الصنائع لا يتأتى ذلك، إذ كيف يلتزم إنسان بالقيام بعمل لا يحسنه وصنعة لا يعرفها؟!
وقد نوقش هذا الدليل الأخير بأن التزام إنسان بعمل ما لا يعني ضرورة مباشرته له بنفسه، فقد يمكنه تحصيله بالأجرة، أو بمن يتبرع له به، ومما يدل على ضعف هذا الاشتراط ما اتفق عليه من أنه لو قال أحدهما أنا أتقبل وأنت تعمل صحت الشركة، مع أن عمل كل منهما غير عمل صاحبه.
ثانيا : الربح:
الربح في هذه الشركة على ما اتفق عليه الشركاء من مساواة أو تفاضل، لأن العمل يستحق به الربح، ويجوز تفاضلهم في العمل، فجاز تفاضلهم في الربح الحاصل به.
وعلي هذا فلو شرطا العمل نصفين والمال أثلاثا جاز، لأن رأس المال عمل، والربح مال، فكان بدل العمل، والعمل يتقوم بالتقويم، فيتقدر بقدر ما قوم به فلا يحرم.
أساس الاشتراك فى الربح فى هذه الشركة:
أساس اشتراك الشركاء في الربح في هذه الشركة هو الضمان، لأن ما يتقبله كل واحد منهم من العمل يصبح من ضمانهم جميعا، يطالب به كل واحد منهم ويلزمه عمله، لأن هذه الشركة لا تنعقد إلا على الضمان، ولا شيء فيها تنعقد عليه الشركة غير الضمان، فكأنها تضمنت ضمان كل واحد منهم عن الآخر ما يلزمه، وإذا اشتركوا في الضمان وجب اشتراكهم في الأجرة، فتكون لهم جميعا كما كان الضمان عليهم جميعا.
ولهذا فإن عمل أحدهما دون صاحبه كان الكسب بينهما، بشرط ألا يكون القاعد منهما ممتنعا عن العمل، فإن كان ممتنعا كان لشريكه الفسخ، ونص بعض الحنابلة على أنه متى امتنع أحد الشريكين عن العمل لغير عذر كان لشريكه الآخر أن يستأثر وحده بأجرة ما عمل، لأنه إنما شاركه ليعملا جميعا، فإذا ترك أحدهما العمل لغير عذر فما وفي بما شرط على نفسه، فلم يستحق ما جعل له في مقابلته.(1/103)
الضمان في شركة الأبدان:
الشركاء في هذه الشركة ذمة واحدة، فما يتقبله كل واحد منهما من العمل فهو في ضمانهما جميعا، فكل منهما مطالب بالعمل، ولكل منهما أن يُطالِبَ بالأجر، ويَبْرَأُ دافعُ الأجرة بالدفع إلى أي واحد منهما، وإن تلفت الأجرة في يد أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانهما تضيع عليهما، لأن كل واحد منهما وكيل الآخر في المطالبة والقبض، ولا يخفي أن يد الوكيل يد أمانة لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي.(1)
انتهاء هذه الشركة:
تنتهي شركة الأبدان بما تنتهي به الشركة بصفة عامة من فسخها من أحد الشريكين، أو موت أحدهما أو جنونه أو الحجر عليه لسفه ونحوه.
وبطبيعة الحال لا يتأتى هنا ما قاله المالكية في المضاربة من لزوم العقد بالشروع في العمل لأن العقد في شركة الأبدان يرتبط ارتباطا وثيقا بشخص المتعاقد بحيث لا يتصور استمراره بدونه.
ثالثاً: شركة الوجوه:
تعريف شركة الوجوه:
شركة الوجوه: عقد بين طرفين فأكثر على أن يشتريا بجاههما دينا فما ربحا فهو بينهما.(2)
__________
(1) جاء في المغني لابن قدامة: "ولكل واحد منهما المطالبة بالأجرة، وللمستأجر دفعها إلى كل واحد منهما، وإلى أيهما دفعا برئ منها". إلى أن قال: "وما يتقبله كل واحد منهما من الأعمال فهو من ضمانهما، يطالب به كل واحد منهما ويلزمه عمله" المغني: (5/6).
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فشركة الوجوه: هي أن يشتري أحد الشريكين بجاهه شيئاً له ولشريكه كما يتقبل الشريك العمل له ولشريكه" مجموع فتاوى شيخ الإسلام (30/ 74).
وفي المغني: شركة الوجوه: أن يشترك اثنان فيما يشتريان بجاهما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال على أن ما يشتريا بينهما نصفين أو ثلاثة أو أربعة ويبيعان ذلك فما قسم الله تعالى فهو بينهما فهي جائزة "المغني لابن قدامة (5/ 14).(1/104)
فهذه الشركة تجمع بين شريكين أو أكثر لا يملكون المال، ولكن لهما وجاهة عند الناس تتيح لهما الشراء بنسيئة فيتفقان على الشراء بالدين بقصد الاتجار، ثم يقتسمان الربح الناتج من هذه التجارة.
سبب هذه التسمية:
سميت هذه الشركة شركة وجوه لأنه لا يشتري بنسيئة إلا من له وجاهة عند الناس، فالشركاء في هذه الشركة لا يملكون مالا، ولكنهم يملكون رصيدا من الأمانة والسمعة الطيبة يتيح لهما الشراء بنسيئة، والجاه والوجه واحد، يقال فلان وجيه إذا كان ذا جاه، قال تعالى في موسى عليه السلام
??????? { ????? ???? ???????? } [الأحزاب: 69].
مشروعية هذه الشركة:
اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الشركة:
فأجازها الحنفية(1) والحنابلة(2) بإطلاق.
ومنعها الشافعية(3) والمالكية(4) في بعض الصور وأجازوها في بعضها الآخر.
فأجازوها عند الاتفاق على شراء شيء معين.
ومنعوها عند إطلاق القول بمشاركة كل واحد منهما لصاحبه فيما يشتريه بوجهه.(5)
ووجه من ذهب إلى جوازها ما يلي:
- أنها تشتمل على شراء بالنسيئة مع توكيل كل شريك لصاحبه في البيع والشراء، وكل ذلك جائز.
__________
(1) راجع بدائع الصنائع للكاساني (7/ 3534).
(2) راجع المغني لابن قدامة (5/ 122).
(3) راجع مغني المحتاج شرح المنهاج للشربيني الخطيب (2/ 212).
(4) راجع: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (2/ 255).
(5) ففي المجموع للنووي: "وأما شركة الوجوه وهو أن يعقد الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه فهى شركة باطلة، لأن ما يشتريه كل واحد منهما ملك ينفرد به فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه، وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شيء بينهما واشترى كل واحد منهما ما اذن فيه شريكه، ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه فإذا بيع قسم الثمن بينهما لأنه بدل مالهما". المجموع شرح مهذب الشيرازي للنووي تحقيق محمد نجيب المطيعي (13/ 92).(1/105)
- تعامل الناس بذلك في سائر الأمصار من غير إنكار من أحد.
ففي بدائع الصنائع ولنا: أن الناس يتعاملون بهذين النوعين في سائر الأعصار من غير إنكار عليهم من أحد.(1)
وقد ناقش الحنفية والحنابلة قول المانعين لهذه الشركة لعدم وجود أصل يستثمر بقولهم إنه إذا كانت الشركة بالأموال شرعت لتنمية المال فإن الشركة بالأعمال والوجوه قد شرعت لتحصيل أصل المال، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى تنميته.(2)
هذا بالنسبة لتعريف الشركة وأصل التسمية ومشروعيتها.
أما بقية أحكام هذه الشركة فهي وسائر أنواع الشركات في ذلك سواء، فيرجع في ذلك إلى ما سبق تقريره.
رابعاً: شركة المفاوضة:
تعريف المفاوضة:
المفاوضة في اللغة: هي الاشتراك في كل شيء.
وفي الاصطلاح: كل شركة يتساوى فيها الشركاء في المال والتصرف والدين من ابتداء الشركة إلى انتهائها، فيفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته وحضوره،(3) بحيث يستطيع أن يمارس جميع التصرفات المالية والبدنية اللازمة لجميع أنواع الشركات بشرط ألا يدخلا فيها الأكساب النادرة أو الغرامات.
شرح التعريف:
شركة المفاوضة هي الشركة الجامعة التي يتفق فيها الشركاء على الاشتراك في جميع أنواع الشركة كالعنان والأبدان والوجوه، ويفوض كل واحد منهما لصاحبه ممارسة التصرفات اللازمة لذلك كافة، كالبيع والشراء والتوكيل والارتهان والإجارة وتقبل الأعمال ونحوه.
ولكن لا يدخل في هذه الشركة ما يحصل لأحدهما من الأكساب النادرة كاللقطة والميراث ونحوه، ولا ما يجب على أحدهما من الغرامات كضمان الغصب وأروش(4) الجنايات وقِيَمِ المتلفات ونحوها.
وجه هذه التسمية:
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني (7/ 3534).
(2) المرجع السابق (7/ 3532، 3533).
(3) مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية د. صلاح الصاوي 145.
(4) الأرش هو العوض المحدد شرعاً لما دون النفس بسبب الجنابة على عضو مثلاً.(1/106)
اختلف الفقهاء في وجه تسمية هذه الشركة شركة مفاوضة:
فقيل لأنها مأخوذة من التفويض، لأن كل واحد من الشركاء يفوض إلى صاحبه التصرف في جميع أموال التجارة.
وقيل لأنها مأخوذة من الاستفاضة والانتشار، لأن هذا العقد مبني على الانتشار والظهور في جميع التصرفات.
وقال الحنفية إنها من المساواة، ولهذا اشترطوا لصحتها المساواة في رأس المال والتصرف والدين، وهو ضعيف، والراجح الأول.
مشروعية هذه الشركة:
اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الشركة:
- فأجازها الحنفية(1) والمالكية(2) والحنابلة.(3)
- ومنع منها الشافعي(4) رحمه الله.
ووجه ما ذهب إليه الجمهور ما يلي:
- أنها تجمع بين أنواع من الشركة كل منها جائز على انفراد، فكذلك ما تركب منها.
- تعامل الناس بذلك في مختلف الأمصار والأعصار من غير إنكار.
ووجه ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله:
- أنها عقد يتضمن الوكالة بمجهول الجنس، والكفالة بمجهول، وكل ذلك بانفراده فاسد، فكذلك ما تركب منهما.
وقد نوقش دليل الشافعي بأن هذه الجهالة مغتفرة لأنها ثبتت تبعا، والتصرف قد يصح تبعا ولا يصح مقصودا، كما في المضاربة والعنان، فإن كلا منهما يتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس، وهما جائزتان بالاتفاق.(5)
شروط المفاوضة:
__________
(1) راجع: البناية في شرح الهداية للعيني (6/ 87، 79).
(2) راجع بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (2/ 254).
(3) راجع: المقنع لموفق الدين ابن قدامة (2/ 184، 185).
(4) الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي (3/ 231، 232).
(5) الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي (4/ 800).(1/107)
اشترط الحنابلة لصحة هذه الشركة ألا يدخلا فيها الأكساب النادرة أو الغرامات، فإن أدخلا فيها ذلك فسدت، لما يشوبها حينئذ من الغرر، إذ يلزم كل واحد ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به، فضلا عن كونها - في هذه الحالة - عقدا لم يرد الشرع بمثله.(1)
واشترط الأحناف لجواز هذه الشركة ما يلي:
التساوي في المال والتصرف والربح والدَّين، فلابد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء في هذه الأمور، لأن المفاوضة عندهم هي المساواة، فلو فات التساوي في أحدها فسدت.
- العموم في المفاوضة، وذلك بأن تكون في جميع التجارات، فلا يختص أحدهما بتجارة دون شريكه.
- أن لا يكون لأحد المتفاوضين ما تصح فيه الشركة ولا يدخل في الشركة، لأن ذلك مما يخل بالمساواة.
- أن تكون بلفظ المفاوضة، لأنها تضمنت من الشروط ما لا يجمعه إلا هذا اللفظ أو عبارة أخرى تقوم مقامه، والعامة قلما يقفون على ذلك.
هذا وإن فقدان أحد هذه الشروط يجعل المفاوضة عنانا عند الحنفية، وذلك لأن المفاوضة تضمنت العنان وزيادة، فبطلان المفاوضة لا يوجب بطلان العنان لعدم توقف صحة العنان على هذه الشرائط.
ومما هو جدير بالذكر أن المالكية والحنابلة لا يعتبرون شرط التساوي في رأس المال أو الربح في المفاوضة، بل يجيزونها مع التفاوت في ذلك شأنها شأن شركة العنان.
الربح والوضيعة فى شركة المفاوضة:
__________
(1) ففي المغني لابن قدامة أن شركة المفاوضة الصحيحة: هي تفويض كل شريك إلى صاحبه شراء وبيعاً في الذمة ومضاربة وتوكيلاً ومسافرة بالمال وارتهانا وضمانا ما يرى من الأعمال، أو يشتركان في كل ما لهما وعليهما إن لم يدخلا كسباً نادراً أو غرامة كوجدان لقطة أو ركاز وما يحصل من ميراث أو ما يلزم أحدهما من ضمان عصب أو أرش أو جنابة وعارية ومهر "المغني لابن قدامة 5/26".(1/108)
اتفق الفقهاء على أن الوضيعة في المفاوضة وجميع أنواع الشركات الأخرى يجب أن تكون على قدر المال، بمعنى أن توزع بنسبة رؤوس الأموال المكونة للشركة، ثم اختلفوا في الربح:
فأجاز الحنابلة أن يكون على الشرط، ولم يفرقوا في ذلك بين المفاوضة وغيرها.
واشترط المالكية أن يكون على قدر المال.
وأوجب الحنفية أن يكون الربح في المفاوضة على التساوي، لما تقدم من أن المساواة في رأس المال والربح وغيره أحد المعالم الأساسية لهذه الشركة عندهم.
وقد سبق أن المختار هو جواز أن يكون الربح على الشرط، لأن العمل هو أحد الأسباب التي يستحق بها الربح، وهو يتفاوت قوة وضعفا فوجب اعتبار ذلك.
ثانياً : المضاربة وأحكامها
تعريف المضاربة :
المضاربة(1) دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه ، فهي عقد يجمع بين طرفين: أحدهما يملك المال ولا يحسن التجارة والآخر يحسن التجارة ولا يملك المال، فيتحقق التكامل بينهما من خلال هذا العقد.
مشروعية المضاربة :
اتفق أهل العلم على مشروعية المضاربة ، والأصل في هذه المشروعية إجماع الأمة على ذلك.
__________
(1) والمضاربة هي لغة العراقيين في التعبير عن هذا العقد، وسمى بذلك لاشتقاقها من الضرب في الأرض، وهو السفر فيها للتجارة غالباً، وقيل لأن كلا من طرفي هذا العقد يضرب بسهم في الربح، ويسمى هذا العقد في لغة الحجازيين (القراض) لاشتقاقه من المقارضة وهي المساواة والموازنة كما يقال: تقارض الشاعران أي وازن كل واحد منهما الآخر بشعره، وههنا من العامل العمل، ومن الآخر المال فتوازنا.
وقيل لاشتقاقه من القرض وهو القطع، يقال: قرض الفار الثوب إذا قطعه، وههنا قد اقتطع صاحب المال قطعة من ماله وسلمها إلى العامل، كما اقتطع له قطعة من الربح.(1/109)
فقد جاء في الموطأ(1) عن زيد بن أسلم عن أبيه، أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق. فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسَهَّلَ، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين ، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب، أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله، فسكت، وأما عبيد الله، فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضا، فقال عمر: قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله - ابنا عمر بن الخطاب ـ نصف ربح المال.
وجاء فيه أيضا(2) عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن جده أن عثمان بن عفان أعطاه مالا قراضاً يعمل فيه، على أن الربح بينهما.
ولا يزال الناس يتعاملون به إلى يومنا هذا في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من أحد ، وهذا إجماع متيقن لأنه نقل الناس كافة بعد كافة إلى زمن النبوة مع علمه صلى الله عليه وسلم به وإقراراه .
ومن المعقول أن تنمية المال و استثماره مقصد شرعي ، ولا ينمى المال إلا بالتقليب والتجارة ، وليس كل من يملك المال يحسن التجارة ، ولا كل من يحسن التجارة يملك المال ، فاحتيج إليها من الجانبين فشرعها الله تعالى دفعا للحاجتين .
__________
(1) كتاب الفرائض ، باب 1، صفحة 687.
(2) الموطأ ص688.(1/110)
أركان المضاربة :
المضاربة كغيرها من العقود لها ثلاثة أركان : العاقدان ، والمعقود عليه ، والصيغة .
أولاً : العاقدان :
وهما صاحب المال والعامل ، ويشترط فيهما أهلية التصرف ، وهو من لا حجر عليه ، فمن كان محجورا عليه لصغر أو لسفه أو لجنون لا تصح مباشرته لهذا العقد .
ولا يعتبر إسلام المتعاقدين أو أحدهما شرطا في هذا العقد فلا بأس بمضاربة أهل الذمة والمستأمنين من اليهود والنصارى شريطة أن تتحقق الرقابة على أعمال المضاربة من قبل المسلم حتى يضمن سلامة هذه الأعمال من الربا والريبة .
ثانيا:المعقود عليه :
المعقود عليه في المضاربة هو : المال والعمل والربح .
أ : المال:
ويشترط في المال أن يكون من الأثمان : الذهب والفضة ، أو النقود عامة .
ولا تصح المضاربة بالعروض( السلع ) إلا اذا اتفقا على تقويمها بمبلغ معين ، وصار هذا المبلغ هو رأس المال الذي يبدأ به العقد وعلي أساسه تتم المحاسبة في المستقبل .
ووجه المنع من المضاربة بالسلع ما يؤدي إليه ذلك من جهالة الربح وقت القسمة، لأن قيمة العروض تعرف غالبا بالحرز والظن وتختلف باختلاف المقومين ، والجهالة تفضي إلى الفساد والمنازعة ، ولأنه يقبض العرض وهو يساوي قيمة ما ويرده وهو يساوي قيمة غيرها فينعكس ذلك بالجهالة على كل من الربح ورأس المال .
ولا بأس بالمضاربة بالدين إن كان على مَلِيءٍ ( غير معسر ) في أصح قولي العلماء.(1)
ولا بأس بالمضاربة بالوديعة إلا إذا كان المودَع عنده قد أنفقها فتحولت إلى دين في ذمته فيؤول الأمر إلى المضاربة بالدين - وهي المسألة السابقة - فتجوز إذا كان المدين مقتدرا وتمتنع إذا كان معسرا.
__________
(1) يقول ابن القيم رحمه الله "أما إذا كان الدين على معسر فلا تشرع المضاربة به مخافة أن يكون قبول المدين لذلك لمجرد الإعسار، فكأنه يريد من الدائن أن يؤخره في الأجل مقابل أن يزيده في مقدار الدين، وهذا هو الربا المنهي عنه".(1/111)
الإضافة والسحب من رأس مال المضاربة:
ولا بأس أن يضيف رب المال إلى المضاربة مالا جديدا بشرط أن ينظر إلى المال الذي حركه العامل فعلا ببيع وشراء باعتباره وحدة مستقلة يختص وحده بربحه وخسارته
وعلى هذا فلا حرج في هذه الإضافة إذا كانت قبل التصرف في المال الأول، ويكون كما لو دفع إليه المالين دفعة واحدة، ولا حرج كذلك إذا كانت هذه الإضافة بعد التصرف إذا كان المال قد عاد نقودًا كما كان وساوى الأول بلا زيادة ولا نقصان ، وتلتحق هذه بالصورة السابقة ، أو كان المال قد حدثت فيه زيادة أو نقصان وتمت المحاسبة بينهما ، واستقر ملك كل منهما على ما أسفرت عنه هذه المضاربة من ربح أو خسران ، ثم استأنفا مضاربة جديدة فله أن يضيف إليها ما شاء .
أما إذا دفع إليه المال الجديد بعد التصرف الأول ببيع وشراء واشترط عليه خلطه بالمال الأول فإنه لا يصح لأنه يوجب جبر خسران أحدهما بربح الآخر .
ولا بأس باسترداد المالك لجزء من مال القراض وتنفسخ المضاربة فيما أخذه.
ثم إذا كان ذلك قبل ظهور الربح والخسارة كان المسترد جزءا من رأس المال فقط.
وإن كان بعد ظهور الربح كان المسترد شائعا ربحا ورأس المال على النسبة الحاصلة من مجموع الربح ورأس المال ، ويستقر ملك العامل على ما خصه من الربح فلا ينفذ تصرف المالك فيه ولا يتأثر بخسر وقع بعده.
وإن كان الاسترداد بعد ظهور الخسر وزع الخسر على المسترد وعلي الباقي، فلا تجبر خسارة الجزء المسترد ولو ربح بعد ذلك .
ب:العمل :(1/112)
الأصل في العمل في المضاربة أن يكون في مجال التجارة وتوابعها، وخرج بالتجارة استخراج العامل الربح باحتراف ، وعلى هذا ، فلا يصح أن تكون الحرف محلا للمضاربة لأنها أعمال مضبوطة يمكن الاستئجار عليها ، فإن ضاربه على ذلك فالمضاربة فاسدة كما لو ضاربه على أن يغزل غزلا فينسجه ويبيعه ، أو يشتري حنطة فيطحن ويخبز ويبيع ، وهكذا ، إلا أن الحنابلة يرون جواز أن تدفع أدوات الحرفة إلى المحترف ببعض نمائها قياسا على المساقاة والمزارعة، ووجهوا ذلك بأنها عين تنمي بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالشجر في المساقاة والأرض في المزارعة .
وليس للمضارب أن يتعامل في المحرمات باتفاق الفقهاء، كشراء الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والتعامل بالربا ونحوه .
تقييد المضاربة:
والعمل في المضاربة قد يكون مطلقاً وقد يكون مقيداً.
والمضاربة المطلقة أن يدفع إليه المال مضاربة من غير تعيين العمل نوعا أو صفة أو مكانا أو زمانا أو من يتعامل معهم.
أما المقيدة فهي التي يتعين فيها شئ من ذلك، والأصل في القيد اعتباره إذا كان مفيداً كما روي من أن العباس كان يشترط على من يضارب له ألا يركب بالمال بحرا و ألا يسلك به واديا وألا يشتري به ذات كبد رطبة ، أما إذا كان التقييد غير مفيد فإنه يلغى ويلحق بالعدم .
ومرد اعتبار التقييد مفيدا أو غير مفيد إلى العرف، ولا يخفي تغير الفتوي في ذلك بتغير الزمان والمكان تبعا لتغير هذه الأعراف .
توقيت المضاربة:
ولا حرج في توقيت المضاربة في أرجح قولي العلماء ، كما ذهب إلى ذلك الأحناف والحنابلة قياساً لها على الوكالة من ناحية وقياسا على بقية التقييدات الجائزة من ناحية أخرى .
الاستئجار على أعمال المضاربة:(1/113)
ولا بأس أن يستأجر المضارب على ما لا يلزمه فعله بنفسه من أعمال المضاربة ، كالنداء على المتاع ونقله إلى المستودعات ونحو ذلك ويرجع في تحديد هذه الأعمال إلى العرف ، أما ما عدا ذلك فالأصل أن يتولاه المضارب بنفسه بلا أجر .
وللمضارب أن يبيع نسيئة ( إلى أجل ) وأن يسافر بالمال بمطلق العقد مقيدا في ذلك بالعرف والمصلحة، فإن عادة التجارة ومصلحة المضاربة يقتضيان قدرًا من المرونة في هذا المجال .
إعادة المضاربة :
يجوز للمضارب - إذا أذن له رب المال أو فوض إليه العمل برأيه - أن يضارب عاملا آخر ، فإن كانت له مشاركة في العمل شاركه في الربح أما إذا لم يشاركه في العمل بل انسلخ بذلك من القراض ليصبح مجرد وكيل لرب المال فلا ربح له إلا إذا اتفقا على أجرة له على الوكالة بقدر معين .
وفي حالة اشتراكه معه في العمل والربح فهل يسلم لرب المال شرطه من جميع المال أم من نصيب المضارب الأول من الربح ؟ مرد ذلك إلى الاتفاق الصريح أو إلى الصيغة التي عقد بها رب المال مع المضارب الأول، فإن قال له : خذ هذا المال مضاربة وما رزقك الله من الربح فهو بيننا فإنه يسلم للمضارب الثاني شرطه وما فضل يكون بين رب المال وبين المضارب الأول ، أما إن قال : ما رزق الله من ربح فهو بيننا على كذا ـ سلم لرب المال والمضارب الثاني شرطهما من جميع المال فإن فضل بعد ذلك شىء كان للمضارب الأول وإلا فلا .
المشاركة بأموال المضاربة:
وللمضارب - إن فوض إليه العمل برأيه - أن يشارك غيره بأموال المضاربة كما ذهب إلى ذلك الأحناف والحنابلة ، كما أن له أن يخلط مال المضاربة بأمواله الخاصة متى اقتضى ذلك العرف فإن كثيراً ما يكون للمضاربين أموالهم الخاصة التي يعملون بها في ميدان التجارة من قبل ، والأصل أن رب المال عالم بذلك ومقر له إلا إذا نص على خلافه .
الاستدانة على المضاربة:(1/114)
وليس للمضارب أن يشتري للمضاربة بأكثر من رأس المال لأن في ذلك إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه، فإن فعل ـ وَقَعَ الشراء له وأصبح شريكا لرب المال بنسبة هذه الزيادة ، ولم تقع الزيادة لجهة المضاربة .
المضارب المشترك:
ولا بأس أن يضارب المضارب لصاحب مال آخر ما لم يشغله ذلك عن العمل في المضاربة الأولى ، ولم يكن فيه ضرر على صاحب المال الأول، وقد اعتمدت المصارف الإسلامية على ذلك في أغلب استثماراتها المعاصرة.
جـ : أحكام الربح .
أولاً: شروط الربح.
يشترط في الربح في المضاربة ما يلي:
- أن يكون معلوما فيجب أن ينص في العقد على النسبة المخصصة لكل من رب المال والعامل.
- كما يشترط فيه أن يكون جزءا شائعاً كالنصف والثلث والربع ونحوه ، فلو عينا لأحدهما مبلغا مقطوعا والباقي للآخر ـ فسدت المضاربة بلا نزاع ، لأن المال قد لا يربح إلا هذا القدر فيوجب ذلك قطع الشركة في الربح فلا يكون التصرف مضاربة، وأفسد من هذا أن يشترط رب المال لنفسه نسبة معينة من رأس المال لا علاقة لها بنتيجة المضاربة فإن هذا يلحق المضاربة بالعقود الربوية ... قال ابن المنذر : (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معدودة).(1)
ثانياً: قواعد توزيع الربح:
لتوزيع الربح في المضاربة جملة من القواعد نوجزها فيما يلي:
1- الربح على ما اتفق عليه الطرفان والخسارة على رب المال:
توزيع الربح بين الطرفين في المضاربة على ما اتفقا عليه ، ويختص رب المال وحده بالخسارة ، ولا يخسر العامل إلا جهده ، ووجه ذلك أن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال وهو مختص بصاحب المال لا شيء للعامل فيه فيكون نقصه من ماله دون غيره .
2- الربح في المضاربة وقاية لرأس المال:
__________
(1) الشرح الكبير لأبي الفرج ابن قدامة (5/ 116).(1/115)
فليس للمضارب ربح حتى يسلم رأس المال أولا ، لأن الربح هو الفاضل عن رأس المال ، وما لم يفضل فليس بربح ، فإذا حدث ربح وخسران أو تلف فإن الخسران أو التلف يجبر أولاً من الربح ثم يوزع الباقي بينهما على شرطهما .
3- لا يأخذ المضارب نصيبه من الربح إلا بالقسمة:
للعامل نوع ملك على حصته من الربح بمجرد ظهورها، لكنه ملك موقوف على نتيجة القسمة النهائية، وعلي هذا فلا سبيل للمضارب إلى أخذ نصيبه من الربح إلا بالقسمة، ولا قسمة إلا بإذن رب المال أو حضوره، لا يعلم في هذا خلاف بين أهل العلم.
ووجه عدم جواز أخذ المضارب نصيبه من الربح إلا بالقسمة ما يلي:
أنه قد تحدث وضيعة فيكون هذا الربح جابرا لها، لأن الربح كما سبق وقاية لرأس المال، إذ ليس بالقسمة وحدها يستقر ملك كل منهما على حصته من الربح.
أن رب المال شريكه فلم يكن له مقاسمة نفسه بغير اذن شريكه أو حضوره.
4- لا تستقر ملكية الربح لأحد من الطرفين إلا بالتصفية النهائية:
إن ملكية كل من الطرفين للربح المقسوم ملكية قلقة، لا تستقر إلا بفسخ العقد وتصفية أعمال المضاربة، أما قبل ذلك فلا يزال الربح المقسوم وقاية لرأس المال بحيث تجبر منه أي وضيعة تقع في المستقبل قبل إجراء التصفية النهائية.
وهذه التصفية النهائية التي تستقر بها ملكية الربح لها صورتان:
الأولي: التصفية الفعلية التي يسترد فيها المالك رأس المال، وتنقطع بها الصلة بين الطرفين.
الثانية: التصفية الحسابية وهي التي تكون بتنضيض المال وحضوره أو بتقويمه حسابيا بحيث إن شاء رب المال أخذه، فإن أمره باستئناف المضاربة به فهو إنشاء لمضاربة جديدة، وليس استمرارا لمضاربة سابقة.
5- لا بأس بالقسمة المبدئية للربح قبل المفاصلة مع عدم الإخلال بكونه وقاية لرأس المال:(1/116)
بالرغم من أن ملكية الطرفين للربح لا تستقر إلا بالتصفية النهائية ـ كما سبق ـ فإنه يجوز لهما أن يتراضيا على قسمة الربح قسمة مبدئية تكون خاضعة لنتيجة التصفية النهائية بحيث إذا حدثت وضيعة بعد ذلك فإنها تجبر من ذلك الربح المقسوم، وقد أجاز ذلك فقهاء الحنابلة(1) والشافعية.(2)
نفقة المضارب:
للعامل أن ينفق على نفسه من مال المضاربة في السفر على ما تقتضيه الأعراف التجارية ، فإذا سافر العامل لأغراض المضاربة فإن له أن ينفق بالمعروف جميع نفقته من مال المضاربة مدة سفره ومدة إقامته إلى أن يرجع إلى بلده ، أما إذا كان مقيما في الحضر فلا يستحق النفقة لأن إقامته فيه لم تكن لأجل المال فقد كان مقيما قبل ذلك، وهذه التفرقة بين الحضر والسفر هي التي ذهب إليها الأحناف(3) والمالكية.(4)
ضمان العامل فى المضاربة:
لا ضمان على العامل في المضاربة إلا بالتفريط أو التعدي شأنه في ذلك شأن سائر الأمناء، ولا اعتبار بالحيل التي يراد بها التحيل إلى إهدار هذا الحكم، وقد يؤدي الإخلال بهذا الشرط إلى إلحاق هذه المعاملة بالعقود الربوية .
فإذا اشترط رب المال على العامل ضمان رأس المال أو حدٍّ أدنى من الربح ـ فالشرط فاسد بلا نزاع، ولكن هل يمتد هذا الفساد إلى أصل العقد ؟ خلاف فقهي ولعل أرجح الرأيين هو القول بصحة العقد رغم فساد الشرط، فيسقط الشرط ويبقي العقد مراعاة لاستقرار المعاملات ، ولأنه رغم فساد الشرط فإنه لا يعود بجهالة الربح فلا يبطل به العقد وقد قال بذلك من أهل العلم الأحناف(5) والحنابلة.(6)
انتهاء المضاربة :
__________
(1) المغني لابن قدامة (5/ 178، 179).
(2) المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (1/ 387).
(3) بدائع الصنائع للكاساني (8/ 3647).
(4) المدونة للإمام مالك (5/ 92).
(5) بدائع الصنائع للكاساني (8/ 3602).
(122) المغني لابن قدامة (5/189).(1/117)
تنتهي المضاربة بفسخها من أحد الطرفين لأن اللزوم ليس من موجبات هذا العقد، فلكل منهما فسخه عن نفسه متى شاء ، إلا أنها تلزم بالعمل في أرجح قولي العلماء، فإذا شرع العامل في العمل فقد لزم القراض وليس للمالك فسخه ، وذلك إلى نضوض رأس المال رجوعه نقدا كما كان في إبان سوقه دفعا للضرر الذي يترتب على الفسخ المفاجئ بعد الشروع في العمل ، وقد ذهب إلى ذلك المالكية .
كما تنتهي المضاربة بموت أحد المتعاقدين أو جنونه أو الحجر عليه لسفه ، إلا إذا كان ذلك بعد الشروع في العمل فإنها بناء على ما ذهب إليه المالكية من القول بلزوم المضاربة بالشروع في العمل ، فإنها لا تنقطع ، ولوارثه أو وليه أن يكملها على حكم ما كان عليه مورثه أو من جعلت له عليه الولاية .
كيفية الاستفادة من المضاربة في المجال المصرفى:
لقد أفادت المصارف الإسلامية المعاصرة من هذا العقد وجعلته منطلقا لتطوير البرامج الاستثمارية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، فقد سبق أن ذكرنا أن المضاربة عقد يجمع بين طرفين : أحدهما يملك المال والآخر يملك العمل ، ويطلق على الأول : رب المال ، وعلي الثاني : العامل أو المضارب .
وهذه حقيقة ثابتة في صور المضاربة كافة : مطلقة كانت أو مقيدة ، قديمة كانت أو حديثة ، ثنائية كانت أو جماعية مشتركة .
فإذا طبقنا هذه القاعدة في نطاق الأعمال المصرفية لزمنا التعرف على كل من رب المال والعامل حتى نتعرف على أطراف هذه العلاقة في هذا المجال ، فذلك أول الطريق .
ولا شك أن أصحاب الودائع والمدخرات هم الذين يقومون بدور رب المال في هذه الرابطة .(1/118)
أما العامل فإنه يتمثل في المصرف الذي يقوم باستقبال هذه الأموال ودفعها في قنوات الاستثمار المختلفة ، بعد القيام بالبحوث والدراسات اللازمة لكل عرض استثماري يقدم إليه، ثم يسهر على متابعة التنفيذ ومراقبة خطواته إلى أن تتم التصفية النهائية ، فهو يقوم بدور المنظم في استثمار هذه الأموال وتوجيهها إلى مواقع التثمير والتنمية .
فإذا أضاف المصرف جزءا من أمواله الخاصة إلى أموال الودائع ، ودفع بالجميع إلى قنوات الاستثمار تعددت صفته فأصبح مضاربا وشريكا في نفس الوقت ، فهو مضارب بعمله في مال الغير وشريك لمشاركته بماله في رأس المال . وقد رجحنا جواز هذه الصورة في بحث المضاربة .
أما بالنسبة لجماعة المستثمرين الذين يفدون على المصرف الإسلامي طالبين منه تمويل مشروعاتهم أو المشاركة في ذلك فإن تكييف علاقتهم بالمصرف يختلف باختلاف العرض الاستثماري المقدم من قبلهم .
فقد يقتصر دورهم على دور العامل في المضاربة وذلك إذا ما تولي المصرف عملية التمويل الكامل للمشروع ، واقتصر دورهم على العمل والإدارة وعندئذ يكون البنك في مواجهتهم هو رب المال .
وقد يجمعون بين صفة الشريك والعامل إذا كان تمويل المصرف للمشروع تمويلاً جزئياً فهم بأموالهم شركاء وبأعمالهم مضاربون .
وقد يكونون مجرد أجراء أو موظفين إذا ما افترضنا قيام البنك بنفسه بإنشاء مشروع معين وعهد إليهم بتنفيذه لقاء أجر معين .
وقد يكونون مجرد مقترضين إذا ما قدر البنك لأمر أو لآخر أن يقرضهم قرضا حسنا وأن ذلك يتفق مع سياسته العامة .
بل قد يكون بعضهم مجرد مشتر قرر البنك أن يبيع له سلعة ما بطريق المرابحة أو مسلم إليه أسلم إليه البنك بعض أمواله في سلعة مؤجلة .(1/119)
إذن فتكييف علاقة البنك باعتباره ممولا في مواجهة المتعاملين معه تختلف باختلاف طبيعة العقد الذي يربط بينهما، فقد يكون مضاربة أو مشاركة أو مرابحة أو سلما ، أو غير ذلك ، أما علاقته بالمودعين فهي على أساس عقد المضاربة على كل حال فهذا هو العقد الرئيسي في مجال الاستثمار المصرفي، بينما تكييف علاقته بالمستثمرين بحسب الأحوال .
وقد ذهب بعض الباحثين إلى تكييف علاقة البنك بالمودعين على أساس الوكالة باعتبار أنه ينوب عنهم في استيعاب الأموال وتجميعها والبحث عن فرص الاستثمار المناسبة ليدفع إليها بهذه الأموال ، ثم يقوم بالمتابعة والمحاسبة بدلا عنهم لقاء أجرة معينة ثابتة.(1)
والحقيقة أن هذا التكييف يبدو أكثر ملاءمة في مجال الخدمات المصرفية التي لا تعدو أن تكون منفعة مقابل أجر . أما في مجال الاستثمار فالأوفق للبنك وللمودعين أن يتم التعامل بينهما على أساس المضاربة ، لأن الأجير أجره ثابت على كل حال ، وهذا مما يضعف البواعث على التفاني والإبداع ، بخلاف الشريك أو المضارب الذي يحس أن مصلحته ومصلحة رب المال كل لا يتجزء، وأنه لا سبيل له إلى الربح والكسب إلا من خلال نجاح المشروع وتحقيقه لأهدافه ، وإلا باء بالفشل سعيه، ففي هذا المسلك ما فيه من إذكاء روح الإخلاص ، وتفجير الطاقات للعمل والإبداع .
وخلاصة الأمر في ذلك أن يقوم المصرف في المضاربة المصرفية بدور العامل في مواجهة المودعين بينما تتكيف علاقته مع المستثمرين بحسب الأحوال ، فقد يقوم معهم بدور رب المال ، أو بدور الشريك ، أو بدور البائع أو بدور المقرض حسب طبيعة العقد الذي يربط بينهما .
وتحكم هذه المعاملة كما سبق القواعد الآتية :
__________
(1) البنك الربوي في الإسلام. محمد باقر الصدر.
مصرف التنمية الإسلامي. د. رفيق المصري 241.
المصارف وبيوت التمويل الإسلامية، د. غريب الجمال 198.(1/120)
لا ضمان على العامل في المضاربة إلا بتفريط أو عدوان ، ولا فرق في ذلك بين المضاربة المصرفية أو غيرها من المضاربات .
لا علاج لموضوع الضمان في المصارف الإسلامية إلا ببناء الإيمان الذي يعمل على استقامة الموازين في حياة الناس ، ثم ببذل العناية الكاملة في دراسة المشروعات الاستثمارية التي تقتحمها المصارف الإسلامية مع مراعاة التوزيع النوعي والجغرافي لهذه المشروعات وغير ذلك من الأسباب العادية التي تعارف عليها الناس كأسباب للضمان .
لا عبرة لمحاولات بعض المعاصرين تضمين المصرف في هذا العقد وذلك لضعف الأسس الفقهية التي بنيت عليها هذه المحاولات ، فضلا عن مخالفتها لما انعقد عليه إجماع الفقهاء .
لا يجوز تحديد العائد بنسبة من رأس المال في المضاربة ، فإن دخلا على ذلك فسدت .
يجوز توزيع الأرباح بصفة دورية مع الاستمرار في المضاربة ، ويمكن أن يتحقق استقرار هذا الربح المقسوم إذا ما اعتبر أن كل دورة من هذه الدورات مضاربة مستقلة تستقل بحساباتها وبأوضاعها المالية ، ثم إن شاء رب المال قبض ماله وإن شاء استأنف مضاربة أخرى .
يقسم الربح بين الودائع كافة رغم أن بعضها قد لا يكون قد اشترك فعلا في عمليات الاستثمار لأن الحق في الربح في شركة العقد يستند إلى العقد دون المال، فهو ليس مرتبطا باستعمال المال بقدر ما هو مرتبط بالاتفاق على تخصيص هذا المال للاستعمال من أجل غايات الشركة.(1)
تقسم السنة المصرفية إلى دورات مالية متتابعة ، تمثل كل واحدة منها مضاربة منفصلة تستقل بحسابات أرباحها وخسائرها ، وعلي المصرف أن يعمل على الإكثار من هذه الدورات حتى يتسنى لراغب الاستثمار أن يجد بين يديه فرصا متعاقبة لاستثمار أمواله يستطيع أن يلتحق بأيها شاء منذ بدايتها ، دون أن يضطر إلى الانضمام إلى المضاربة بعد الشروع فيها أو الانتظار فترة طويلة بدون استثمار .
__________
(1) راجع البناية في شرح الهداية (6/ 116، 117).(1/121)
توزع الأرباح بين الودائع بالطريقة المعتادة ، فإن كانت الودائع متساوية وزعت الأرباح بينها بالسوية ، وإلا فبحسب نسبها المختلفة ، دون الحاجة إلى الأخذ بنظام النمر الذي اقتبسته المصارف الإسلامية من البنوك الربوية علاجا لمشكلة الودائع المختلفة الآجال ، لأنه في نظام الدورات تكون آجال الودائع متحدة .
وأخيرا فإن المضاربة المصرفية تستطيع بشيء من البصيرة في فهم أحكامها أن تفي بحاجات العمل المصرفي على تشابك علاقاته ، وتعدد أطرافه ، وحركته الدائبة التي لا تكاد تتوقف .
كيفية الاستفادة من المضاربة في الاستثمارات الجماعية بصفة عامة:
وكما أفادت المصارف الإسلامية من هذا العقد على هذا النحو ، فيمكن لشركات الاستثمار الإسلامية أن تفيد منه بدورها، فتقوم باستقبال الأموال من مختلف المستثمرين باعتبارهم ملاكا، ثم تعمل على تشغيل هذه الأموال في شتي مجالات الاستثمار الزراعية أو الصناعية أو التجارية، باعتبارها عاملا أو مضاربا وما قسم الله من ربح يكون بينها وبين جماعة المستثمرين على الشرط، وهذا هو ما يسمى الاستثمار المباشر.
كما يمكن لهذه الشركة أن تعمل على إعادة المضاربة في هذه الأموال بأن تدفع بها إلى أصحاب الخبرات الذي يملكون القدرة على إدارة المشروعات ولكن يفتقدون الأموال اللازمة لذلك، وبذلك تتعدد صفة هذه الشركة.
فهي أمام المستثمرين الأوائل الذين دفعوا بأموالهم إليها تعتبر في مقام العامل أو المضارب.
وهي أمام الخبراء الذين تدفع إليهم بهذه الأموال لتشغيلها تعتبر في مقام المالك أو الوكيل إن وقع الاتفاق على الوكالة المأجورة.
وقد كانت هذه الفكرة هي اللبنة الأولى في بناء المصارف الإسلامية المعاصرة كما سبق.
كيفية توزيع الأرباح بين أموال تتفاوت مدد استثمارها:(1/122)
تنشأ بمناسبة الاستثمارات الجماعية مشكلة توزيع الأرباح على أموال تتفاوت مدد استثمارها، لأن هذه الاستثمارات تقوم على الخلط المتلاحق للأموال ولا تتفق جميعا في بداية واحدة، ويمكن حل هذه المشكلة بإحدى الطريقتين الآتيتين:
الأولي: نظام الدورات وقد سبقت الإشارة إليها.
الثانية: ما يسمى نظام النمر، وذلك بأن تقسم الأرباح على هذه الودائع المختلفة المدد بحسب المدة الزمنية التي رصدت خلالها لعمليات الاستثمار، فالوديعة التي بقيت طول السنة مثلا تستحق نصيبها من الربح كاملاً والتي بقيت ستة أشهر تستحق النصف، والتي بقيت ثلاثة أشهر فقط تستحق الربع وهكذا.
ومما هو جدير بالذكر أن هذا النظام الأخير لا يزال موضع نظر، لما قد يشوبه من الغرر، وذلك لاحتمال أن يشارك المال اللاحق في جبر خسارة سابقة، أو ينال نصيبا من أرباح مرحلة لم يكن موجودا في خلالها.
محاذير يجب الانتباه إليها:
عند تأسيس الاستثمارات الجماعية على أساس هذا العقد يجب الحذر مما يلي:
1- تثبيت العائد بجعله نسبة ثابتة من رأس المال أو مبلغا مقطوعا، وذلك للإجماع المنعقد على فساد هذا الشرط.
2- تضمين العامل في غير حالة التفريط أو التعدي، وذلك للإجماع المنعقد على أن يد العامل على المال يد أمين لا يضمن إلا بتفريط أو عدوان.
ومما هو جدير بالذكر أن محاولات عديدة قد جرت في هذا العصر لتبرير هذين الأمرين، وهي جميعا لا تخلو من مقال، وإن محاولة الترخص في هذين الأمرين أو أحدهما مما قد ينقل الأمر من نطاق عقد المضاربة إلى نطاق عقد القرض، وينقل العائد من نطاق الربح إلى نطاق الربا المحرم، ويذهب بمشروعية هذه المعاملة من الأساس.
الخلاصة
أحكام الشركات:
الشركة في الاصطلاح الفقهي هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف، وهي مشروعة بإجماع المسلمين.
والشركة نوعان: شركة أملاك، وشركة عقود.(1/123)
وتنقسم شركة العقود إلي: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة، وشركة المضاربة.
شركة العنان:
هي الاشتراك في المال والعمل والربح، وهي مشروعة بالإجماع، وإن وقع الخلاف في بعض التفاصيل.
وأركان هذه الشركة ثلاثة:
1- العاقدان ويشترط فيهما أهلية التصرف، ولا بأس بمشاركة غير المسلم على أن لا يخلو بالمال دون المسلم مخافة الدخول في المكاسب المحرمة.
2- والمعقود عليه ويراد به المال والعمل والربح.
ويشترط في المال أن يكون معلوما، حاضرا عند الشراء وألا يكون دينا على معسر.
وأما العمل فلكل من الشريكين التصرف وفق ما اعتاده التجار، كما يجوز لهما تفويض العمل إلى أحدهما.
وأما الربح ويشترط فيه أن يكون معلوم النسبة، وأن يكون جزءا شائعا في الجملة، فإن عَيَّنَا لأحدهما قَدْرًا فسدت.
3- والصيغة وهي إيجاب وقبول، وتنعقد بكل ما يدل على ذلك من قول أو عمل.
ولا يشترط في هذه الشركة أن يكون الربح على قدر المال، بل يجوز التفاوت في ذلك لأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل، والعمل متفاوت.
والأصل في الشركة أنها عقد جائز، فتنتهي بفسخها من أحد الشريكين، لكنها تلزم بالشروع في العمل في أرجح قولي العلماء، وتستمر إلى خلوص المال في إبانه أي إلى أن يأخذ المال دورته ويرجع نقودا كما كان، وتنتهي الشركة كذلك بموت أحد الشريكين أو جنونه أو الحجر عليه.
ولا تبطل الشركة بهلاك أحد المالين بعد الخلط بل تستمر بينهما على الباقي، أما إذا كان الهلاك قبل الخلط بطلت.
ومن صور الإفادة من عقد الشركة في الاستثمارات الجماعية المشاركة الدائمة، والمشاركة على أساس صفقة معينة، والمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك.
شركة الأبدان:
وهي اشتراك اثنين أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالاشتراك بين أصحاب الحرف والصناعات ونحوه، وقد أجاز هذه الشركة الجمهور، ومنع منها الشافعي رحمه الله.(1/124)
واختلف أهل العلم في اشتراط اتحاد العمل في هذه الشركة، فاشترط ذلك المالكية والحنابلة في إحدى الروايتين، وخالف في ذلك الحنفية والحنابلة في الرواية الأخرى.
والربح في هذه الشركة على ما اتفق عليه الشركاء من مساواة أو تفاضل، وأساس اشتراك الشركاء في الربح في هذه الشركة هو الضمان، فالشركاء فيها ذمة واحدة، وما يتقبله أحدهم من العمل فهو في ضمانهم جميعا.
وتنتهي هذه الشركة بفسخها من أحد الشركاء أو موت أحدهما أو جنونه أو الحجر عليه.
شركة الوجوه:
وهي اشتراك اثنين أو أكثر على أن يشتريا بجاههما دينا فما تحصل من ربح فهو بينهما.
وقد اختلف أهل العلم في مشروعية هذه الشركة، فأجازها الحنفية والحنابلة، ومنع منهما الشافعية والمالكية في بعض الصور.
شركة المفاوضة:
وهي الشركة التي يتساوى فيها الشركاء في المال والتصرف والدين من ابتداء الشركة إلى انتهائها، فهي الشركة الجامعة التي يتفق فيها الشركاء على الاشتراك في كل شيء، ويفوض كل شريك لصاحبه ممارسة جميع أنواع التصرفات اللازمة لذلك.
وقد اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الشركة: فأجازها الجمهور ومنع منها الشافعي رحمه الله.
ووجه ما ذهب إليه الشافعي من المنع أنها عقد يتضمن الوكالة بمجهول والكفالة بمجهول وكلاهما فاسد إذا انفرد فكيف إذا اجتمعا؟! ...
وقد نوقش بأن هذه الجهالة مغتفرة لأنها ثبتت تَتَبعًا، والتصرف قد يصح تبعا ولا يصح مقصودا.
وقد اشترط الحنابلة لجواز هذه الشركة ألا يدخلا فيها الأكساب النادرة والغرامات وإلا فسدت لما يشوبها حينئذ من الغرر.
واشترط لها الأحناف: التساوي في المال والتصرف والربح والدين، والعموم بأن تكون في جميع التجارات، وأن تكون بلفظ المفاوضة، فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها تحولت عندهم إلى شركة عنان.(1/125)
وقد اتفق أهل العلم على أن الوضيعة تكون دائماً على قدر المال في هذه الشركة أو في غيرها، واختلفوا في الربح هل يكون على قدر المال أم على ما اتفق عليه الشركاء من مساواة أو تفاضل؟
شركة المضاربة:
المضاربة دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه، وهي مشروعة بإجماع المسلمين.
وأركانها ثلاثة: العاقدان والمعقود عليه والصيغة.
ويشترط في العاقدان أهلية التصرف، ولا بأس بمضاربة غير المسلم شريطة أن تتحقق الرقابة على أعمال المضاربة من قبل المسلم ضمانا لمشروعيتها.
أما المعقود عليه وهو المال والعمل والربح:
فيشترط في المال أن يكون من الأثمان ـ الذهب أو الفضة أو النقود ـ ولا بأس بالمضاربة بالدين إن كان على مليء مُقِرٍّ به في أرجح قولي العلماء، ولا بأس بالمضاربة بالوديعة إلا إذا كان المودع عنده قد أنفقها فتأخذ حكم الدين في هذه الحالة، ولرب المال أن يضيف إلى المضاربة مالا جديدا على أن ينظر إليه باعتباره وحدة مستقلة تختص وحدها بربحها وخسرها، ولا بأس باسترداد جزء من رأس مال المضاربة وتنفسخ المضاربة فيما استرد، ويستقر ملك العامل على ربح هذا الجزء المسترد، وتوزع الخسارة على المسترد وعلى الباقي في حالة الخسارة.(1/126)
ويشترط في العمل في المضاربة أن يكون في مجال التجارة وتوابعها، وأجاز الحنابلة دفع أدوات الحرفة إلى من يعمل بها ببعض نمائها قياسا على المزارعة والمساقاة، وليس للمضارب أن يتعامل في المحرمات بلا نزاع، ولا بأس بتقييد العمل في المضاربة ما دام القيد مفيدا ويرجع في ذلك إلى العرف، ولا حرج في توقيت المضاربة في أرجح قولي العلماء كما ذهب إلى ذلك الأحناف والحنابلة، وللعامل أن يستأجر على أعمال المضاربة ما لا يلزمه فعله بنفسه عرفا، وللعامل أن يضارب عاملا آخر بأموال المضاربة إذا أُذِنَ له في ذلك أو فُوِّضَ إليه العمل برأيه، كما أن له أن يشارك بهذه الأموال آخرين، وليس للمضارب أن يستدين على المضاربة إلا إذا أذن له بذلك رب المال لما يتضمنه هذا التصرف من زيادة الضمان على رب المال بغير رضا، فإن فعل ذلك وقع الشراء له، وأصبح شريكا لرب المال بنسبة هذه الزيادة وعليه وحده ضمانها، ولا بأس أن يضارب العامل لرب مال آخر ما لم يشغله ذلك عن العمل في المضاربة الأولى.
ويشترط في ربح المضاربة أن يكون معلوما وأن يكون جزءا شائعا، فلو عينا لأحدهما مبلغا مقطوعا - فسدت بلا نزاع.
ولتوزيع الربح في المضاربة جملة من القواعد، منها:
- الربح على ما اتفق عليه الطرفان والخسارة على رب المال.
- الربح في المضاربة وقاية لرأس المال، فليس للعامل ربح حتى يَسْلَمَ رأس المال أَوَّلا.
- لا يأخذ العامل نصيبه من الربح إلا بالقسمة.
- لا تستقر ملكية الربح لأحد من الطرفين إلا بالتصفية النهائية سواء أكانت تصفية فعلية أم تصفية حسابية.
... تجوز القسمة المبدئية للربح تحت حساب التصفية النهائية.
وللعامل أن ينفق على نفسه من مال المضاربة في السفر وفق ما تعارف عليه التجار.
ولا ضمان على العامل في هذا العقد إلا بالتفريط أو التعدي، ولا اعتبار للحيل التي يراد بها التحيل إلى إبطال هذا الأصل.(1/127)
وتنتهي المضاربة بموت أحد العاقدين أو جنونه أو الحجر عليه، كما تنتهي بفسخها من أحد الطرفين، إلا أنها تلزم بالشروع في العمل في أرجح قولي العلماء إلى خلوص رأس المال في إبانه دفعا للضرر الذي يترتب على الفسخ المفاجِئ.
يمكن الاستفادة من هذا العقد في النطاق المصرفي بإعادة المضاربة أو بغير ذلك، وفي نطاق الاستثمارات الجماعية بصفة عامة.
ثالثاً : صور أخرى من عقود الاستثمار
1 - المرابحة وأحكامها.
تعريف المرابحة :
المرابحة لغة : مفاعلة (1) من الربح وهو النماء في التجارة .
وفي اصطلاح الفقهاء : هي البيع برأس المال مع زيادة ربح معلوم .
مشروعية المرابحة :
والمرابحة صورة من صور البيع ، فتحل بما تحل به البيوع وتحرم بما تحرم به البيوع ، وقد استدل أهل العلم على مشروعيتها بما يلي:
أولاً: عموم الأدلة التي تقضي بإباحة البيع بصفة عامة.
ثانياً: الإجماع: فقد تعامل الناس بها في مختلف الأعصار والأمصار بغير نكير.
__________
(1) والمفاعلة هنا ليست على بابها لأن الذي يربح إنما هو البائع فهى من المفاعلة التي استعملت في الواحد كسافر وعافاه الله.(1/128)
ثالثاً: المعقول : فإن الحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع فإن الذي لا يحسن المماكسة في البيع يمكن أن يعتمد على فعل غيره وتطيب نفسه بمثل ما اشترى به وزيادة ربح معقول يتفقان عليه.(1)
المساومة(2)أفضل من المرابحة :
يفضل كثير من الفقهاء المساومة على المرابحة؛ لأن مبنى المرابحة على الصدق والأمانة، فهي بيع يعتريه أمانة واسترسال، ويحتاج فيه إلى تعيين الحال تعيينا دقيقا ولا يؤمن هوى النفس في نوع من التأويل أو التدليس فكان تجنب ذلك أولى. .
شروط المرابحة :
لكي تقع المرابحة صحيحة لابد لها - بالإضافة إلى الشروط العامة لصحة البيع - من توافر الشروط التالية :
1- أن يكون كل من رأس المال والربح معلوما لأن العلم بالثمن شرط في صحة البياعات كلها .
__________
(1) ولا عبرة بما ذهب إليه العلامة ابن حزم من المنع من المرابحة وفسخ العقد إذا وقع بها معللاً ذلك بجهالة الثمن، أو بأنها تتضمن شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، لأن هذه الجهالة تزال بالحساب في لحظة فلو قال له: اشتري منك هذه السلعة براس المال وربح 10% فإن التوصيل إلى معرفة الثمن يمكن أن يتحقق في سرعة كلمح البصر بواسطة أبسط الآلات الحسابية المعاصرة، أما قوله إن البيع على أن تربحني كذا – شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، فيرد عليه بأن هذا الشرط ليس منافيا لمقتضى العقد ولا ينطوي في ذاته على حرمة ولم يقم دليل خاص على المنع منه.
(2) السوم عرض السلعة على البيع، والمساومة هي البيع الذي لا يظهر البائع فيه راس ماله، أي أن يتفاوض المشتري مع البائع في الثمن حتى يتفقا عليه من غير تعريف براس المال الذي قامت به السلعة على البائع.(1/129)
2- أن يكون رأس المال من ذوات الأمثال ، فإن كان مما لا مثل له من العروض فلا تصح المرابحة في الراجح من أقوال أهل العلم، لأن مبنى المرابحة على الأمانة واجتناب الريبة، وترك الأمر للبائع لتقويم العرض ولتحديد الثمن الأول يفتح الباب إلى التفريط والتجاوز أو إلى الخطأ في أحسن الأحوال .
3- صحة العقد الأول ، فإن كان فاسدا لم تجز المرابحة .
صيانة المرابحة عن الخيانة والتهمة :
يجب أن تصان المرابحة عن الخيانة والتهمة ، وذلك ببيان كل ما يؤثر بيانه في إرادة المشتري ، ورغبته في الشراء وذلك كالعيب الحادث عند البائع والزيادة الحادثة إذا كان قد حبسها لنفسه، والأجل لأن الثمن قد يزاد لمكان الأجل ، وحوالة الأسواق إن كان التغير بالرخص، كما يجب بيان شرائه ممن لا تقبل شهادتهم له كالابن والأب لشبهة المحاباة والمسامحة في الشراء من هؤلاء .
وإذا ظهرت الخيانة في المرابحة في صفة الثمن يكون للمشتري الخيار بين الإمساك وبين الرد ، أما إن كانت في قدر الثمن رفع الغبن عن المشتري وحطت عنه الزيادة .
هذا ولا يفسد عقد المرابحة بظهور الخيانة لأن التغرير لا يمنع الصحة ، وإنما تعدل الأوضاع وينصف المشتري .
وإن ادعى البائع الغلط وأنه أخبر بأقل من رأس المال فلا تقبل دعواه إلا ببينة ، فإذا أقام البينة على دعواه - خُيِّرَ المشتري بين قبول المبيع بالثمن الجديد وبين فسخ العقد إذا كان المبيع قائما ، أما إذا فات فإنه يخير بين دفع الثمن الصحيح مع ربحه ، أو دفع قيمته يوم بيعه ما لم تنقص عن الغلط وربحه .
وإذا عجز البائع عن إقامة البينة فله أن يحلف المشتري أنه ما كان يعلم غلطه وقت البيع ، كما يجوز للمشتري تحليف البائع على دعواه ، فإن نكل قضي عليه وإن حلف خير المشتري بين الثمن الجديد وبين الفسخ .
الصياغة المعاصرة لعقود المرابحة في الاستثمارات الجماعية :(1/130)
لقد سبق أن المرابحة بيعٌ برأس المال مع زيادة ربح معلوم ، وأنها جائزة في الجملة وإن كانت المساومة أحب إلى أهل العلم منها .
والسؤال الآن كيف يمكن الإفادة من هذا العقد في ترتيب بعض الاستثمارات الجماعية المعاصرة ؟
لقد كان الشائع في هذا العقد فيما مضى أن تكون السلعة في ملك البائع حاضرة كانت أو غائبة ، فيبيعها برأس المال وزيادة معلومة ، إلا أن الأمر في مجال المصارف مثلا يختلف ، فالمصرف لا يكدس السلع في مخازنه - كما يفعل التجار - ليقوم ببيعها بعد ذلك مرابحة أو مساومة ، وإنما هو مجرد وسيط في التبادل، ومن ثم فإن الفكرة المطروحة في هذا المجال أن يتلقى المصرف أمرا من العميل بشراء سلعة معينة بمواصفات محددة ، واعدا بشرائها بطريق المرابحة ، فيقوم المصرف بناء على ذلك بشراء هذه السلعة ، ثم يبيعها لهذا العميل برأس مالها وزيادة الربح المتفق عليه .
هذه هي الصورة المقترحة لهذه المعاملة ، والتي يمكن أن تكون بديلا شرعيا لعملية خصم الأوراق التجارية .
الهيكل النظري لهذه المعاملة :
نبدأ بتقديم الهيكل النظري الشائع لهذه المعاملة ، تمهيدًا للحديث عن الانتقادات التي وجهت إليها ، والانحرافات التي غشيت تطبيقها فنقول :
تتكون هذه المعاملة من وعد بالشراء ، وبيع بالمرابحة.(1)
فالمصرف يتلقى من عميله أمرا بشراء صفقة معينة ، مشفوعا بوعد منه بشراء هذه الصفقة .
فإذا ما استجاب المصرف لطلب العميل ، واشترى له ما يريد ، تم إبرام عقد المرابحة بينهما ، فيبيع
له المصرف هذه السلعة بالربح المتفق عليه بينهما بعد أن يتأكد العميل من ملاءمتها له ، ومطابقتها للمواصفات التي حددها للمصرف من قبل .
__________
(1) راجع: الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية ص29.(1/131)
فالمصرف في هذه المعاملة لم يبع ما ليس عنده ، لأن عقد البيع لا يتم إلا بعد شرائه للسلعة ودخولها في ملكه ، وما كان بينه وبين العميل قبل ذلك فهو وعد بالشراء لا غير ، وفرق بين الوعد بالعقد وبين العقد، كالفرق بين الخطبة وعقد النكاح .
والمصرف كذلك لم يربح ما لم يضمن لأن المصرف وقد اشترى السلعة فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم، فما يتلف من هذه السلعة قبل تسليمها للمشتري فإنه يتلف على المصرف ، كما يتحمل المصرف تبعة الرد بالعيب الخفي بعد التسليم، فإذا ظهر بالسلعة عيب خفي بعد التسليم كان المصرف مسئولا عن ذلك.
تبقى بعد ذلك مسألة مدى التزام الآمر بالشراء في أن يبقى على وعده للمصرف بأن يشتري منه هذه الصفقة، ويتفرع القول في هذه المسألة على القول في مدى لزوم الوفاء بالوعد ، ومدى إمكان المطالبة القضائية به؟ ولا يخفى وجوب الوفاء بالوعد ديانة إلا لعذر شرعي معتبر ، ولكن الخلاف في مدى الإلزام القضائي بالوعد، والراجح أنه لا يقضى به إلا إذا أدخل المستفيد في ورطة أو التزام بناء على هذا الوعد، حيث يقضى به في هذه الحالة دفعا للضرر المترتب ، أما فيما عدا ذلك فلا يقضى به، لإجماع أهل العلم على أن الموعود لا يُحَاصِصُ بوعده مع الغرماء.(1)
وهذا الذي قررناه في شأن الوعد هو الذي انتهى إليه قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الخامس بالكويت، وفيما يلي نص قراره في هذه الصدد:
إن مجلس مجمع الفقه المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت، من 1- 6 جمادى الأولي 1409هـ/10-15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء، واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرر:
(
__________
(1) يعني إذا أفلس المدين وجاء الغرماء ليتقاسموا ماله فليس للموعود أن يدخل معهم في هذه المقاسمة.(1/132)
أولا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب
الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع، وانتفت موانعه.
ثانيا: الوعد: - وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد - يكون ملزماً للواعد ديانةً إلا لعذر، وهو ملزم قضاءً إذا كان معلقا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد..
ثالثاً: المواعدة: وهي التي تصدر من الطرفين - تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده).(1)
تلك هي الملامح النظرية العامة لهذه المعاملة، كما يقترح أن تطبق في المصارف الإسلامية لتكون بديلاً عن كثير من الأعمال الربوية.
فمثلاً في عملية خصم الأوراق التجارية كما تجري في الإطار الربوي، يلجأ صاحب الحاجة إلى التاجر ليشتري منه حاجته إلى أجل محرراً له سنداً بذلك، فيقبل التاجر ذلك، اعتماداً على أنه سيقوم بخصم هذه الأوراق المحررة لأمره لدى البنك نظير عمولة وفائدة، ولا شك أن التاجر يضع في اعتباره هذه العمولات وتلك الفوائد عند تقديره لثمن بيع هذه السلعة إلى المشتري صاحب الحاجة.
__________
(1) أبو داود (3503)، والترمذي (1232) والنسائي (7/ 288)، وقال الترمذي: حديث حسن، والحديث صحيح.(1/133)
وهنا يبرز دور هذه المعاملة كعقد مشروع للخروج من هذا المضيق، وذلك بأن يتقدم صاحب الحاجة إلى المصرف مباشرة ليطلب منه شراء حاجته ثم يعده بشرائها منه بطريق المرابحة، فيستفيد المصرف بما يحصل عليه من ربح، ويستفيد العميل بقضاء حاجته، وينعم الجميع بتعامل شرعي طهور لا ربا فيه ولا ربية.
ومثل ذلك في عمليات الاعتمادات المستندية حيث يستطيع المصرف أن يحل محل المشتري - المستورد المحلي - في شراء الصفقة ثم يقوم بعد ذلك ببيعها له مرابحة وفق ما اتفقا عليه.
وتطبيق ذلك أن يتقدم التاجر المحلي إلى المصرف برغبته في شراء صفقة معينة وفقاً لمواصفات محددة، فيقوم المصرف بشرائها على أساس أن العميل قد وعد بشرائها منه بعد ذلك مع زيادة نسبة معلومة من الربح.
عقد السلم وأحكامه
تعريف عقد السلم:
السلم في اللغة: بمعنى السلف، فأسلم وأسلف بمعنى واحد.
وفي اصطلاح الفقهاء: عقد على موصوف في الذمة بثمن مقبوض في مجلس العقد فالسلم نوع من البيوع يتميز عن غيره بكونه بيع آجل بعاجل، أو بتعجيل الثمن وتأخير المثمن.(1)
مشروعية عقد السلم:
والسلف أو السلم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: { ??????????? ????????? ??????????? ????? ??????????? ???????? ?????? ?????? ??????? ????????????? } [البقرة: 282].
__________
(1) وسمى سلماً لتسليم رأس المال في المجلس فهو من التسليم، أو لكونه معجلاً على وقته فإن أوان البيع عند وجود المبيع في العادة، ويسمى سلفاً لما فيه من تقديم رأس المال فكأن المشتري أسلف البائع الثمن وصار إعطاء المبيع بمثابة القضاء لهذا السلف، ويطلق على هذا البيع - بيع المفاليس أو المحاويج، ويغلب عليه أن يقل ثمن المبيع فيه عن مثيله مما يباع معجلاً.(1/134)
روى الحاكم في (مستدركه)(1) عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، قال تعالى: { ??????????? ????????? ??????????? ????? ??????????? ???????? ?????? ?????? ??????? ????????????? } .
ومن السنة: ما رواه الشيخان(2) عن ابن عباس أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال صلى الله عليه وسلم : (( من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)).
والإجماع الذي نقله غير واحد من أهل العلم، قال ابن المنذر: ( أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز).
أركان عقد السلم:
للسلم أركان ثلاثة:
الركن الأول: العاقدان، وهما رب السلم ( المشتري) والمسلم إليه( البائع)، ويشترط لهما ما يشترط في البيع بصفة عامة من أهلية التصرف التي تكون بالرشد والاختيار.
الركن الثاني: المعقود عليه ويشمل: رأس المال السلم (الثمن) والمسلم فيه(المبيع).
ويشترط في المسلم فيه ما يلي:
- أن يكون معلوم القدر، وذلك بأن ينضبط بما ينضبط به عادة من كيل فيما يكال، أو وزن فيما يوزن، أو عدد فيما يعد... الخ، فإن كان مجهولاً أو ضبط بمجهول فسد.
- أن يكون منضبط الصفة، خاصة فيما تختلف به القيمة من الأوصاف مما جرت عادة الناس ألا يتغابنوا بمثله، وذلك منعاً للجهالة التي تفضي إلى المنازعة وتوجب فساد العقد فكل ما أمكن ضبطه - جاز السلم فيه.
- أن يكون دينا في الذمة، فلو أسلم في سلعة قائمة بعينها - لم يصح، لما في ذلك من الغرر، لأنه لا يدري أتسلم هذه العين إلى الأجل أم لا؟
- أن يكون معلوم الأجل، وذلك منعاً للجهالة المفضية إلى الشقاق وإلى التنازع.
__________
(1) 2/ 286) وإسناده صحيح.
(2) البخاري كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم رقم 2240 ومسلم كتاب المساقاة، باب السلم رقم 1604.(1/135)
- القدرة على التسليم، وذلك بأن يكون المبيع عام الوجود عند المحل، فإن أسلم في سلعة لا يمكن وجودها عند الوفاء لم يصح.
- أن لا يكون مما يجري بينه وبين رأس المال ربا الفضل أو ربا النساء، أي لا يكون البدلان من الأموال الربوية.
ويشترط في رأس المال ما يلي:
التعجيل: وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ،(1) أي النسيئة بالنسيئة فيجب تعجيل رأس المال في المجلس، وأجاز المالكية تأخيره إلى ثلاثة أيام فحسب.
الركن الثالث: الصيغة: وينعقد السلم بكل ما يدل عليه من الألفاظ لأن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
السلم المقسط:
وصورته أن يسلم في سلعة إلى أجلين أو إلى آجال متفاوتة كأن يسلم في سمن أو زيت على أن يأخذ بعضه في رجب وبعضه في رمضان.
والجمهور على صحة هذه الصورة قياساً على البيع بثمن مؤجل على أقساط وهو مجمع على جوازه، فإن فسخ عقد السلم بعد تسليم بعض المسلم فيه قسم الثمن بينهما بالسوية فلا يجعل للمتأخر زيادة في الثمن على ما جرى تسلمه.
ومنع منها بعض الشافعية لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول فلا يصح.
ورأي الجمهور في هذا أولى بالاعتبار، ويمكن على أساسه ترتيب كثير من الصفقات في واقعنا المعاصر كالتعاقد مع المنتجين من قبل الجهات التي تحتاج إلى تموين يومي متماثل بكميات كبيرة كالمستشفيات التي تحتاج إلى اللحوم والخضار ونحوها يومياً لتجهيز وجبات المرضى.
__________
(1) رواه الطحاوي في شرح المعاني (4/ 21)، وفي المشكل رقم 795 والدارقطني (3/ 71)، والبيهقي (5/ 290)، وقد تفرد به موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
... وقال الطحاوي: احتمل أهل الحديث هذا من روايته وإن كان فيها ما فيها وهذا باب جليل من الفقه ا. هـ.
... وقال الإمام أحمد: ليس في هذا الباب حديث صحيح لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين. ا. هـ نقلاً عن التلخيص (3/ 26).(1/136)
هل يثبت خيار الشرط في عقد السلم ؟
جمهور الفقهاء على عدم ثبوت خيار الشرط في عقد السلم ، لأن قبض رأس المال من شرائط الصحة في هذا العقد، ولا يتأتى الجمع بين اشتراط الخيار واشتراط تعجيل رأس المال ، فهما أمران متقابلان فلا محل للخيار في هذا العقد، وأجاز المالكية ذلك إلى ثلاثة أيام وهي المدة التي يجوز تأخير رأس المال فيه شريطة ألا يقدم رأس المال في زمن الخيار احترازاً من فسخ الدين في الدين.
هل يجوز أن تكون الديون رأس المال في عقد السلم؟
جمهور أهل العلم على النهي عن ذلك، ومرد النهي في هذه الصورة إلى أمرين:
أنها من قبيل بيع الدين بالدين وهو منهي عنه، فإن المسلم قد باع الدين الذي له في ذمة المدين بدين جديد عليه هو البضاعة المسلم فيها.
ما في هذا التصرف من شبه بربا الجاهلية، فقد يكون المدين عاجزا عن الدفع فيشتري منه الدائن بدينه سلما بثمن بخس، وقد يقبل المدين لمكان الحاجة والاضطرار، تماماً كما كان يقول الدائن لمدينه العاجز عن الدفع في زمن الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن تربي.
قال ابن المنذر: إذا كان له في ذمة رجل دين فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح، أجمع على هذا كل من أحفظ عنه العلم منه مالك الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز هذه الصورة، وهو منقول عن ابن تيمية وابن القيم،(1) بل وأفتت بها بعض جهات الرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية.
والذي يبدو لي هو التفريق بين دين يكون على مليء وآخر يكون على معسر، فإن كان الدين على مليء –
جاز جعله رأس المال في السلم لانتفاء أو ضعف شبهة الربا في هذه الصورة، لأن المدين لا يكون مضطراً لقبول الوكس في البيع لعدم الحاجة الملجئة إلى ذلك، أما إذا كان على معسر فلا يجوز لشبهة الربا المشار إليه والله، أعلم.
هل يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه؟
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم (2/ 9).(1/137)
تمس الحاجة إلى تحقيق القول في هذه المسألة لأن كثيراً من المضاربات المعاصرة تتعاقب فيها بيوع كثيرة على ديون في الذمة لما تقبض بعد، فما مدى مشروعية هذا الصنيع؟
ولتحقيق القول في هذه المسألة ينبغي التفريق بين صورتين:
الأولى: بيع المسلم فيه إلى ثالث قبل قبضه من المسلم.
الثانية: بيع المسلم فيه من بائعه قبل قبضه منه، أي الاعتياض عنه بشيء آخر في العلاقة بيع البائع والمشتري ( المسلم والمسلم إليه).
أما الصورة الأولى: فإن جمهور العلماء على المنع منها، وذلك لما يلي:
- ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: (( من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)).(1)
- ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، قال صلى الله عليه وسلم: (( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه))(2). وغير الطعام مقيس عليه.
- أن دين السلم دين غير مستقر لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، وبيع مثله غرر لا يجوز.
- ما يتضمنه بيع المسلم فيه قبل قبضه من ربح ما لا يضمن وهو منهي عنه، فقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لا يضمن.
- ما قد يفضي إليه ذلك من الربا، فقد ينقلب بيع ما لم يقبض إلى بيع نقد بنقد مع التفاضل وهو الربا.
أما الصورة الثانية : فإن جمهور أهل العلم على المنع منها كذلك لحديث (( من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)). ولما يترتب على ذلك من التصرف في المبيع قبل قبضه أو ربح ما لم يضمن، وكلاهما منهي عنه.
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة في إحدى الروايتين، فأجازوا ذلك بشرط التقابض إذا كان البدلان من الأموال الربوية، وبشرط أن يكون بغير ربح لئلا يربح مرتين، ومن أدلتهم على جوازها ما يأتي:
__________
(1) رواه أبو داود 3468، وابن ماجة 2283، والبيهقي (6/ 30)، تفرد به عطية العوفي وهو ضعيف، قال البيهقي عقبه: عطية العوفي لا يحتج به.
(2) مسلم في البيوع باب بطلان بيع المبيع قبل القبض رقم 1525.(1/138)
حديث ابن عمر رضى الله عنهما كنا نبيع الإبل بالنقيع: كنا نبيع بالذهب ونقضي بالورق، ونبيع بالورق ونقضي بالذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((لا بأس إذا كان بسعر يومه إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)).(1)
فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاعتياض عن الدين الذي هو الثمن بغيره وكان مضموناً على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري بشرط أن يكون بسعر يومه لئلا يربح ما لم يضمن، (إذا كان بسعر يومه) وبشرط التقابض (( إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)).
قول ابن عباس رضى الله عنهما وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه: (إذا أسلفت في شيء فحل الأجل، فإن وجدت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضاً بأنقص ولا تربح مرتين).
ليس في الاعتياض عن دين السلم - ربح ما لا يضمن؛ لأن الشر في جوازه أن يكون بغير ربح، فالاعتياض الجائز هو ما كان بسعر يومه بغير ربح.
إن النصوص التي تنهى عن بيع الطعام قبل قبضه إنما هي في الطعام المعين، أما ما كان في الذمة فالاستعاضة عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فهو إبقاء في معنى المعاوضة.
أما حديث (( من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) فليس نصاً في النهي عن هذه الصورة، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أن لا يجعل السلف سلماً في شيء آخر، فيكون معناه النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال ( فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر ومن اعتاض عنه بغيرهن قابضاً للعوض لم يكون قد جعله سلماً لغيره، هذا بالإضافة إلى ما في سند الحديث من مقال.(2)
__________
(1) رواه أبو داود (2/ 242)، والنسائي (7/ 248، 249)، وابن ماجة (2/ 760).
(2)
( ) وقد تقدم بيان ما فيه وضعفه.(1/139)
والذي يقتضيه تحقيق القول في هذه المسألة هو القول بجواز هذه الصورة إذ لا ترد عليها المحاذير التي وردت على الصورة السابقة، فضلاً عما سبق إيراده من الأدلة على مشروعيتها.
من أجل هذا ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز هذه الصورة منهم مالك وأحمد وابن تيمية وآخرون.(1)
والذي نخلص إليه من هذا العرض هو جواز الاعتياض عن دين السلم بآخر في العلاقة بين المسلم والمسلم إليه بشرط أن يكون بغير ربح، وأن لا يكون العوض مما يجري فيه الربا بينه وبين دين السلم.
وهذا الذي قررناه في هذا المقام هو الذي انتهت إليه المجامع الفقهية المعاصرة، فقد ورد في قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بدولة الإمارات ما يلي:
( يجوز للمسلم (المشتري) مبادلة المسلم فيه بشيء آخر - غير النقد - بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أو بغيره، حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحاً لأن يجعل مسلماً فيه برأس مال السلم ).
وفي فتوى صادرة عن هيئة العلماء المشاركين في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي المنعقدة بتونس في صفر 1405 طرح عليها هذا السؤال.
هل يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض؟ وإذا كان ذلك غير جائز فهل يجوز لرب السلم أن يبيع سلعاً من جنس ما أسلم فيه اعتماداً على ما سوف يتسلمه في المستقبل، ودون أن يربط في العقد بين ما أسلم فيه وبين ما سوف يتسلمه؟ وهل يجوز للمسلم أن يتخذ من ذلك العمل تجارة؟
ولقد كان جواب هيئة العلماء بالندوة ما يلي:
1- لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض.
2- ولكن يجوز للمسلم أن يبيع سلعاً من جنس ما أسلم فيه دون أن يربط في بيع السلم بين ما أسلم فيه في العقد الأول وبين ما التزم به في العقد الآخر.
__________
(1) راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 505)، الخرشي على خليل (5/ 277).(1/140)
3- ولا يجوز اتخاذ هذا العمل (الجائز في الفقرة الثانية) تجارة لأن السلم استثناء من القواعد الأصلية لحاجة المنتجين، ويسدها جواز السلم كحالات فردية دون الاتجار به.
فإذا وجدت ظروف اقتصادية في بعض البلاد الإسلامية ومصلحة كبرى تدعو إلى الاتجار به في حالات خاصة دفعاً لظلم واقع جاز ذلك لهذه المصلحة الكبرى التي تقدرها هيئات الفتوى والرقابة الشرعية.
السلم المتوازي:
وصورته أن يبيع المسلم إلى طرف ثالث سلعاً في الذمة من جنس ما أسلم فيه دون أن يربط بين العقدين على الوجه المشار إليه في العبارة السابقة لهيئة الرقابة الشرعية، وهكذا يتبادل المستثمر المواقع فهو مرة مسلم ومرة مسلم إليه، وتدور عجلة الاستثمار على هذا النحو، ولا يظهر لي وجه لمنع هيئة الرقابة الشرعية من اتخاذ هذه الصورة تجارة وربط مشروعيتها بالضرورات والحاجات الماسة فحسب.
كيف يمكن الإفادة من عقد السلم في الاستثمارات الجماعية؟
عقد السلم من الوسائل الفعالة التي تجمع بين عنصرين أساسين من عناصر الإنتاج وهما المال والعمل بطريقة مرضية تكفل تحقيق مصالح الطرفين على حد سواء:
حيث يرتفق البائع بهذا العقد من جهتين:
- الحصول على التمويل اللازم لتسيير أعماله.
- البيع المقدم لبعض منتجاته فلا يتكلف البحث عن فرص بيع لتصريف هذه المنتجات في المستقبل.
ويرتفق المشتري بهذا العقد فيحصل على هذه المنتجات بسعر مناسب حيث يغلب في بيع السلم أن يكون بسعر منخفض نسبياً حتى أطلق على هذا البيع أنه بيع المحاويج لأن ثمن السلعة المؤجلة أقل في العادة من ثمن السلعة الحاضرة.(1/141)
على أنه لا ينبغي أن تستغل حاجات الزراع أو الصناع إلى التمويل المبكر في فرض أسعار شديدة الرخص فإن هذا يؤول بنا إلى بيع المضطر الذي كرهه أهل العلم، وبيع المضطر أن يضطر إلى البيع لدين ركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يديه بالوكس من أجل الضرورة، فهذا ينبغي أن لا يبايع على هذا الوجه ديانة ومروءة، وأن لا يفتات عليه بماله بل يعان ويقرض ويستمهل إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ.
وكما يستفيد من هذا العقد أصحاب المشروعات الإنتاجية فإنه يستفيد منه كذلك المصدرون حيث يتسنى لهم التعاقد على شراء كميات من البضائع التي يقومون بتصديرها من المنتجين لها في الأسواق المحلية وفي خلال مدة الأجل يتعاقد هؤلاء المصدرون مع المستوردين لهذه المنتجات من الخارج فتنشط الأسواق في الداخل وفي الخارج.
وكما يفيد هذا العقد أصحاب المشروعات الإنتاجية فإنه يفيد كذلك عامة الناس في تغطية حاجاتهم الطارئة فيستطيع المحتاج أن يبيع في ذمته سلعة ويتعجل ثمنها ثم يتكلفها للبائع في ميقات التسليم فيكون بديلا لأمثاله من السقوط في مستنقع الربا والتزاحم على أبواب المصارف الربوية.
وهكذا يمكن الإفادة من عقد السلم في الاستثمارات الجماعية ليكون بديلاً عن عمليات الإقراض الربوي الذي تقوم به المصارف الربوية، ويستطيع المستثمر أن يوسع نطاق تعامله بهذا العقد فيتعامل به مع مختلف القطاعات وعلى جميع المستويات وفي كل سلعة معلومة القدر ويمكن ضبطها بالوصف الكاشف وأجلها محدد وأمكن تسليمها في وقت الوفاء بها.
عقد الاستصناع وأحكامه
تعريف الاستصناع:
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة.
وفي الاصطلاح: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل على الصانع، أو هو طلب عمل شيء على وجه مخصوص مادته من الصانع.(1/142)
ومثاله: أن يذهب الرجل إلى أحد من أهل الصنائع: النجارين أو الحدادين أو الحاكة، ويقول له: اصنع لي الشيء الفلاني بمبلغ كذا،والشرط في انعقاد هذه الصورة اسصناعاً أن تكون مادة الصنع من الصانع فإن كانت من الطرف الآخر انعقدت إجارة وليس استصناعاً.
حكم الاستصناع:
و الاستصناع عند الجمهور صورة من صورة عقد السلم فتثبت فيه شرائط هذا العقد وقد سبقت الإشارة إليها، ولعل من أهمها وآكدها تعجيل الثمن والعلم بالمسلم فيه نوعاً وقدراً وأجلاً.
أما عند الأحناف فهو عقد مستقل له أحكامه الخاصة، واختلفوا في كونه مواعدة أم معاقدة، والصحيح عندهم أنه معاقدة للمشتري فيها الخيار وليس مجرد مواعدة.
وعمدة أدلة الحنفية في مشروعية الاستصناع هو الاستحسان، وهو عندهم عدول المجتهد عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.
فقد كان مقتضى القياس عدم جواز الاستصناع لكونه بيعاً لمعدوم لا على وجه السلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، وإنما جاز استحساناً لتعامل الناس به بغير نكير في مختلف الأعصار والأمصار، ولكون الحاجة داعية إليه فإن الإنسان قد يحتاج إلى شيء على وجه مخصوص: حلية أو نعل أو أثاث ونحوه، وقلما يتفق وجوده مصنوعاً فيحتاج إلى استصناعه فمست الحاجة إلى إجازته.
واشترط الحنفية لجواز الاستصناع بالإضافة إلى الشروط العامة في البيع ما يلي:
- بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته.
- أن يكون الشيء المستصنع مما قد جرى العرف على التعامل في مثله استصناعاً كالأواني والخفاف والسلاح ونحوه، لأن وجه استثناء الاستصناع من بيع المعدوم هو التعارف فما لم يتعارف على استصناعه يبقى على أصل المنع، لأن التعامل دليل الحاجة.(1/143)
- ألا يكون فيه أجل، فإن ضرب للاستصناع أجل - صار سلماً عند أبي حنيفة فتعتبر فيه شرائطه كتعجيل الثمن في المجلس وعدم ثبوت الخيار لأحدهما إذا سلم الصانع المصنوع على وجهه، وعند أبي يوسف ومحمد أن هذا ليس بشرط وهو استصناع على كل حال.
صفة الاستصناع:
الاستصناع عند الجمهور حكمه حكم السلم سواء من حيث الشروط أو من حيث لزوم العقد.
أما عند الأحناف فيتلخص موقفهم في هذه المسألة فيما يلي:
الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعاً بلا خلاف فلكل واحد منها خيار الامتناع قبل العمل.
وإذا فرغ الصانع من العمل فإن خياره لا يزال ثابتاً قبل أن يراه المستصنع حتى إن له أن يبيعه لمن شاء.
أما إذا أحضره على الصفة المشروطة ورآه المستصنع فقد سقط حق الصانع في الخيار وبقى هذا الحق للمستصنع، فإن شاء أجاز وإن شاء فسخ عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه بمنزلة بيع الأعيان الغائبة، وعند أبي يوسف لا خيار له لأنه بيع في الذمة بمنزلة السلم.(1)
الخلاصة
* إنه إذا أخذ برأي الجمهور وجب تطبيق شرائط السلم، ولا يخفى ما في ذلك من الحرج لأن الشرط في السلم تعجيل رأس المال في المجلس ويندر تطبيق ذلك في واقع الاستصناع في حياتنا المعاصرة.
* كما أن الأخذ برأي الأحناف باعتباره عقداً غير لازم قبل أن يراه المستصنع لا يرفع حرجاً ولا يزيل إشكالاً في تطبيقاتنا المعاصرة لهذا العقد لا سيما في الصفقات التي تقدر بالملايين وقد تصل أحياناً إلى المليارات، إذا لا يزال الخيار ثابتاً للصانع حتى بعد فراغه من العمل ما دام المستصنع لم ير المصنوع بعد، وفي هذا ما فيه بالنسبة للمستصنع الذي يكون قد انفق الوقت ورتب أموره على أساس استلامه للمصنوع في إبانه ثم يفاجأ بقرار من الصانع بأنه قد عدل عن الصفقة لأن مشتريا آخر قد بذل له مزيداً من الثمن، أما بالنسبة للصانع فإن
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني (5/ 3، 4).(1/144)
رأي الأحناف لا يخلو من قدر من الغرر بالنسبة له، إذ قد يعد الشيء المصنوع على مواصفات خاصة ليست
نمطية ثم يفاجأ بقرار المستصنع بالعدول عن الشراء فيكبده مثل هذا القرار ما يكبده من الخسائر، ولعل إشكالات التطبيق هي التي حدت بمجلة الأحكام العدلية - وهي في الفقه الحنفي إلى اعتبار عقد الاستصناع عقداً لازما منذ البداية وهو يخالف المجمع عليه في المذهب الحنفي فضلاً عن بقية المذاهب.
* ولهذا ذهب الدكتور السالوس إلى اعتبار هذه المعاملة من قبيل الوعد وليس من قبيل البيع، فيطبق عليها في هذه الحالة أحكام الوعد كما انتهى إليها قرار المجمع الفقهي بشأن الوفاء بالوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهي أن الوعد ملزم للواعد في باب الديانة إلا لعذر، كما أنه ملزم له في باب القضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة أو ورطة نتيجة لهذا الوعد.
* ولكن هذا الرأي على وجاهته لا يحل الإشكالات التي ترد على ذلك في معترك التطبيق لا سيما في الصفقات الضخمة ذات القيمة الباهظة، حيث لا يصلح معها فتح باب الخيار للطرفين على هذا النحو، ولهذا فإن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد اعتبر الاستصناع عقداً ملزماً إذا توافرت أركانه وشرائطه، ولم يشترط في تعجيل رأس المال بل أجاز تأجيله كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة مما يعني أنه قد اعتبره عقداً قائماً بذاته وليس صورة من صور عقود السلم التي يشترط لجوازها تعجيل رأس المال، وفيما يلي نص قراره في هذا الصدد:
1- إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
2- يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
ب- أن يحدد فيه الأجل.
3- يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.(1/145)
4- يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
عقد الاستصناع بديل عن المعاملات الربوية في مجال الاستثمار الإسلامي:
لقد أصبح الاستصناع وسيلة مهمة من وسائل الاستثمار الإسلامي في حياتنا المعاصرة، حيث يمكن من خلال هذا العقد تلبية كثير من الحاجات المعاصرة التي يلجأ أصحابها إلى التعاملات الربوية، فيستطيع المستثمر المسلم أن ينشئ مدناً سكنية وأخرى صناعية فيحقق أرباحاً طيبة من ناحية وييسر للناس الحصول على المسكن المناسب وإقامة المصنع المناسب في إطار هذا العقد، ويمكن للمستثمر أن يدخل هذا المجال باعتباره مستصنعاً أو باعتباره صانعاً:
فباعتباره مستصنعاً يرتفق الصناع بتلبية حاجتهم إلى التمويل المبكر أو المجزأ فيشترون الخامات والأجهزة وقطع الغيار ويتغلبون على الصعوبات المالية التي تحول بينهم وبين مباشرة الإنتاج كما يتغلبون على مشكلة التسويق لأنهم يضمنون مشتريا قد اشترى سلفاً ما تنتجه مصانعهم ومنشآتهم الإنتاجية، ويرتفق المستثمر بالحصول على هذه المنتجات بسعر معتدل نظراً لالتزامه سلفاً بالشراء ودفع مبالغ مقدماً تحت الحساب.
وقد يدخل المستثمر باعتباره صانعاً فيتمكن من خلال هذا العقد من الدخول إلى عالم الصناعة والمقاولات بآفاقهما الرحبة، وقد ينفذ ذلك بنفسه، أو من خلال عقود أخرى من الباطن عن طريق إعادة الاستصناع أو ما يسمى بالاستصناع المتوازي.
كثيرة هي البدائل إذا صدق العزم على التغيير، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
الإجارة وأحكامها
تعريف الإجارة:
الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر وهو العوض.
أما في اصطلاح الفقهاء: فهي تمليك منفعة بعوض.(1)
مشروعية الإجارة:
لقد ثبتت مشروعية الإجارة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
* فمن الكتاب:
__________
(1) بدائع الصنائع للكساني (4/ 174)، حاشية ابن عابدين (5/1).(1/146)
قوله تعالى: { ??????? ???????????? ?????????? ?????????????? ? ???? ?????? ???? ?????????????? ?????????? ????????? ???? ????? ??????? ??????? ???? ????????? ??????? ?????????? ????????? ?????? ??? ??????????? ????????? ?????? ? ?????? ?????????? ??????? ?????? ??????? ? ?????? ??????? ???? ?????? ???????? ? ???????????? ??? ?????? ???? ???? ????????????? } [القصص: 26، 27].
ووجه الدلالة: أن موسى عليه السلام قد أجر نفسه هذه المدة على طعام بطنه وإحصان فرجه، فدل على مشروعية هذا العقد، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ في شريعتنا.(1)
وقوله تعالى: { ?????? ?????????? ?????? ???????????? ??????????? ? ????????????? ????????? ??????????? } [الطلاق: 6].
فقد دلت الآية على جواز الإجارة على الرضاع، وغير الرضاع في معناه، لأنها إذا دلت على جواز الإجارة على الرضاع وهو يختلف لكثرة المولود وقلته، وكثرة اللبن وقلته، فجوازها في غير الرضاع أولى.
* ومن السنة:
__________
(1) اختلف الأصوليون في هذه القاعدة، فمنهم من أخذ بها اعتباراً بالأصل وهو وحدة الشرائع السماوية واستناداً إلى مثل قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]، ومنهم من ذهب إلى أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا اعتباراً بقوله صلى الله عليه وسلم : "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"، فلم تكن التفصيلات الشرعية للشرائع السابقة أحكاماً عامة صالحة لكل زمان ومكان، ووجهوا ما ورد من النصوص في الأمر بالاقتداء بأنها تنصرف إلى أصل الدين من التوحيد والإيمان بالملائكة واليوم الآخر ونحوه.(1/147)
ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)). قال أصحابه: وأنت؟ قال: (( نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).(1)
قال الشوكاني: ( وفي الحديث دليل على جواز الإجارة على رعي الغنم، ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوانات ).(2)
وما رواه البخاري من حديث عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خِريتا - الخريت: الماهر بالهداية - ليدلهما على الطريق وذلك عندما أذن لهما في الهجرة.(3)
* والإجماع:
فقد أجمع أهل العلم في مختلف الأعصار والأمصار على جواز الإجارة(4) قال ابن المنذر: ( واتفق على إجازتها كل من نحفظ قوله من علماء الأمة).(5)
أنواع الإجارة.
الإجارة نوعان:
الأولى: الإجارة الواردة على منافع الأعيان، كإجارة دار للسكنى أو أرض للزراعة أو سيارة لركوبها.
الثاني: الإجارة الواردة على منافع الإنسان كاستئجار شخص للخدمة مدة معينة أو لأداء عمل معين.
ولكل واحد من هذين النوعين صورتان:
__________
(1) البخاري: كتاب الإجارة ، باب رعي الغنم على قراريط رقم 2262، والمقصود أن كل شاة بقيراط، ويقصد بالقيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم وقد بين العلماء وجه الحكمة في رعي الأنبياء للغنم بأن يحصل لهم التمرن برعيها على ما سيكلفونه من القيام بأمر أممهم، وخصت الغنم بذلك لأنها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها، راجع نيل الأوطار للشوكاني (6/ 20).
(2) نيل الأوطار للشوكاني (6/ 20).
(3) البخاري كتاب الإجارة ، باب استئجار المشركين عند الضرورة رقم 2263.
(4) وقد شذ عن ذلك عبد الرحمن ابن الأصم فقال بعدم جوازها، وهو غلط لانعقاد الإجماع من قبله على جوازها.
(5) الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر (1/ 210).(1/148)
الأولى: إجارة العين: وهي ما كان العقد فيها على عمل من شخص معين، أو منفعة عين بذاتها، كاستئجار شخص للخدمة أو دار للسكنى ونحوه.
الثانية: إجارة الذمة: وهي ما كان العقد فيها على عمل معلوم في الذمة، أو على منفعة عين موصوفة كالتعاقد على بناء دار أو توفير مسكن لمعتمرين أو حجاج بمواصفات محددة ونحو ذلك.
أركان عقد الإجارة:
لعقد الإجارة ثلاثة أركان:
العاقدان: وهما المؤجر والمستأجر.
المعقود عليه: وهو المنفعة والأجر.
الصيغة: وهي ما يدل على الإيجاب والقبول من قول أو فعل.
وفيما يلي إشارة إلى هذه الأركان وما يتعلق بها من شروط:
أولاً: العاقدان وما يتعلق بهما من شروط:
يشترط في عاقدي الإجارة أهلية التصرف، وهي التي تكون بالعقل والتمييز والرشد والاختيار، فلا يصح هذا العقد من المجنون ولا من الصبي غير المميز اتفاقاً، ولا من المكره في أصح قولي العلماء.(1)
أما الصبي المميز فقد اختلف الفقهاء في صحة عقده، والراجح أن عقده صحيح لكنه موقوف على إجازة الولي كما ذهب إلى ذلك الحنفية والمالكية،(2) وهو إحدى الروايتين في مذهب الحنابلة وقد سبق تفصيل ذلك القول في الأحكام العامة.(3)
__________
(1) لم تختلف كلمة الفقهاء أن الإكراه إذا كان بحق فإنه لا يؤثر في صحة العقد ونفاذه، أما إذا كان الإكراه بالباطل فقد اختلف الفقهاء في صحة عقد المكره فذهب الجمهور إلى عدم صحة هذا العقد أخذا بعموم النصوص التي تحرم مال المسلم إلا بطيب نفسه منه، وخالف في ذلك المالكية فقالوا بصحته ولكنه غير لازم عندهم فللمكره فسخه بعد زوال الإكراه عنه، وهو إحدى الروايات في مذهب الحنفية.
(2) الشرح الكبير لمختصر خليل لأحمد الدردير (4/3).
(3) وخالف في ذلك الشافعية فقالوا بعدم صحة العقد من الصبي المميز وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة.(1/149)
ومما استشهد به هؤلاء في صحة عقده قوله تعالى: { ????????????? ????????????? ?????? ????? ????????? ??????????? ?????? ?????????? ????????? ??????? ?????????????? ?????????? ????????????? } [النساء: 6].
ففي هذه الآية دليل على جواز تصرف المميز قبل البلوغ، لأن اختباره لا يحصل إلا بتصرفاته في البيع والشراء والإيجار والاستئجار ونحوه على أن تكون تصرفاته تحت رقابة الولي.
هل يجوز للمسلم أن يعمل أجيراً لدى الكافر؟
ولكن التساؤل الذي يرد هنا: ما الحكم إذا كان العمل الذي سيقوم المسلم به مما حرمته الشريعة؟ والجواب أنه إذا كان العمل المتفق عليه مما لا يجوز للمسلم أن يعمله لنفسه كعصر الخمر ورعي الخنزير ونحو ذلك فلا يجوز، والإجارة باطلة، فإن كان قد عمل فعلا - أخذ الأجرة من الكافر وتصدق بها، ولا يستحلها المسلم لنفسه لكونها كسباً خبيثاً تولد من عقد محرم، ولا يرده على الكافر حتى لا يجمع له بين العوضين، والقاعدة أن المال الحرام لا يلزم رده ولا يطيب أكله.
واشترط فقهاء الحنابلة لجواز إجارة المسلم لدى الذمي شرطاً آخر، وهو خلو العمل عن المهانة والمذلة بالنسبة للمسلم، فإن تضمن شيئاً من ذلك فلا يصح في أحد القولين عندهم وذلك كالعمل في مجال الخدمة الشخصية، مثل أن يستأجره لتقديم الطعام له أو الوقوف بين يديه ونحو ذلك من الأعمال المهينة لما يتضمنه ذلك من حبس المسلم عند الكافر وإذلاله في خدمته وهو لا يجوز،(1) وهذا هو أحد القولين في مذهب الشافعية.
أما الأحناف فقد صححوا ذلك مع الكراهة، وعللوا الكراهة بما علل به الفريق السابق المنع، من كون الاستخدام استذلالا، وليس للمسلم أن يذل نفسه خصوصا بخدمة كافر.
ثانياً: المعقود عليه، وهو المنفعة والأجر:
ولكل منهما شروط بيانها فيما يأتي:
* الشروط المتعلقة بالمنفعة:
__________
(1) هذا مع عدم الإخلال بقاعدة الضرورة التي تبيح من المحظور ما يكفي لدفعها.(1/150)
لكي تنعقد الإجارة صحيحة لا بد أن تتحقق في المنفعة الشروط الآتية:
1- أن تكون المنفعة مباحة:
فكل عمل حرمه الشارع لا يجوز الاستئجار عليه، ولا يجوز أخذ الأجرة في مقابلته، لأنه من جنس أكل أموال الناس بالباطل، ومن جنس التعاون على الإثم والعدوان، وكلاهما منهي عنه.
وعلى هذا فلا يجوز الاستئجار على سقي الخمر وعصره، كما لا يجوز الاستئجار على الزنا أو الرقص أو النياحة أو الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما حرمه الشارع وقطع السبيل إليه، فالقاعدة الفقهية أن ( الاستئجار على المعصية لا يجوز ).
2- أن تكون المنفعة معلومة:
وذلك لأن الرضا شرط في صحة العقود، ولا يتوجه الرضا إلا إلى معلوم، فيجب أن تكون المنفعة معلومة علماً يرفع الخلاف ويمنع المنازعة، وسبيل العلم بالمنفعة أمران: الزمن أو العمل.
ففي الإجارة على ما لا عمل له من الأشياء كاستئجار الدور والحوانيت ونحوه تحدده المنفعة على أساس الزمن، فيقال: استأجرت هذه الدار لمدة سنة مثلاً.
أما ماله عمل كالإنسان والحيوان فيجوز تحديد المنفعة على أساس العمل أو الزمن حسب الاتفاق، فيقال: استأجرتك للعمل عندي لمدة سنة، أو لخياطة هذا الثوب أو تنفيذ هذا المشروع.(1)
3- القدرة على التسليم:
فلا تجوز الإجارة على ما يعجز عن تسليمه من المنافع، سواء أكان العجز حسيا أم شرعياً.
__________
(1) وفي جواز الجمع بين الزمن والعمل في تحديد المنفعة خلاف بين الفقهاء كأن يقال استأجرتك لبناء هذه الدار في شهر مثلا - فالجمهور على المنع من ذلك لما يتضمنه من زيادة الغرر وذهب بعض الفقهاء إلى جواز ذلك ويكون ذكر الوقت للاستعجال وهو مروي عن بعض الحنفية والشافعية وإحدى الروايات في مذهب الحنابلة، ولعل هذا الرأي هو الأرجح في النظر لحاجة المعاملات المعاصرة لمثل هذا التحديد، ولجريان العرف بذلك بغير نكير.(1/151)
ومثال العجز الحسي: إجارة الأعمى للحراسة بالبصر، والأمي لتعليم القراءة، أو إجارة البعير الشارد وهذا في إجارة العين، وهي التي تقتضي قيام العامل بأداء العمل بنفسه، أما في إجارة الذمة وهي التي لا يلتزم الأجير فيها تنفيذ العمل بنفسه فلا يتحقق العجز الحسي إلا إذا كانت الاستحالة مطلقة بالنسبة للناس كافة كالإجارة على إحياء الميت مثلاً.
ومثال العجز الشرعي: إجارة الحائض لكنس المسجد أو الإجارة على قتل معصوم، أو على تعليم السحر والفحش ونحوه، فهي وإن كانت ممكنة حسا فإنها معجوز عنها شرعاً.
4- ألا يتضمن استيفاء المنفعة استهلاك العين:
فلا يجوز استئجار الشمع للاستضاءة به، ولا الصابون للغسل به، لأن استيفاء المنفعة في هذه الصور يتضمن استهلاك العين، و الإجارة عقد على المنافع دون الأعيان.
5- أن تكون متقومة:
فيجب أن تكون للمنفعة قيمة مالية ليتأتى بذل الأجرة في مقابلتها، وقد تنعدم القيمة المالية للمنفعة، إما لتفاهتها كاستئجار تفاحة لمجرد الشم مثلاً، أو لتحريم الشارع لها كالإجارة على فعل المعاصي والمنكرات.
6- أن تكون المنفعة راجعة إلى المستأجر:
لأن المستأجر هو الذي بذل الأجرة في سبيل الحصول على هذه المنفعة، فإن لم ترجع المنفعة إليه كانت الإجارة باطلة.
وعلى هذا فلا تجوز الإجارة على الأعمال التي لا تقبل النيابة كالإجارة على الصيام - مثلا، فإن الإنسان لا ينفعه صيام غيره عنه، كما لا تجوز الإجارة على الأعمال الواجبة على العامل بمقتضى الشرع كالصلاة مثلاً لأن المنفعة في ذلك كله لا ترجع إلى المستأجر.
* الشروط الخاصة بالأجرة:
تعريف الأجرة في اللغة: هي الجزاء على العمل.
وفي اصطلاح الفقهاء: هي العوض الذي يعطى مقابل المنفعة.
* شروط الأجرة:(1/152)
يشترط في الأجرة ما يشترط في محل البيع بصفة عامة من كونها مالا مباحاً طاهراً معلوما منتفعاً به مقدوراً على تسليمه مملوكاً للمستأجر، فكل ما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجراً في الإجارة.
* العلم بالأجرة:
العلم بالأجر شرط متفق على اعتباره بين الفقهاء كافة ليصح هذا العقد، قطعاً للخصومة والمنازعة واعتباراً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)).(1)
إلا أن بعض الصور قد وقع فيها خلاف بين أهل العلم كالإجارة بجزء شائع من الإنتاج أو بجزء محدد منه نظراً لاختلافهم في تحقق هذا الشرط أو عدم تحققه، وسنتناول هاتين الصورتين بكلمة موجزة فيما يأتي:
الإجارة بجزء شائع من الإنتاج:
اختلف الفقهاء في الإجارة بجزء شائع من الإنتاج كالنصف أو الثلث مثلاً.
فقال الشافعية والحنفية ببطلان هذه الإجارة لجهالة الأجرة فيها، ولما روى من نهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان،(2) وهو طحن الحب بجز منه مطحوناً، وهو أحد القولين في مذهب المالكية.
وذهب جمهور الحنابلة(3) وبعض الأحناف والمالكية إلى الجواز، وقيده المالكية بشرط عدم الاختلاف في مقدار الخارج وصفته، ووجه ما ذهب إليه هؤلاء:
__________
(1) أحمد (3/ 59، 68، 71)، والبيهقي (6/ 120)، وفي إسناده انقطاع بين إبراهيم النخعي وأبي سعيد الخدري وقال أبو زرعة في العلل رقم (1108)، الصحيح موقوف على أبي سعيد، والموقوف أخرجه النسائي.
(2) أخرجه أبو يعلى 1024، والدارقطني (3/ 47)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 339)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 147)، والطحاوي في المشكل (2/ 187)، ط: الرسالة.
(3) أساس الجواز عند الحنابلة هو القياس على المزارعة، والمساقاة، وليس على أساس الإجارة، راجع المغني (5/ 116، 119).(1/153)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر على أرضهم بشطر ما يخرج منها.(1)
أن هذه أعيان تنمى بالعمل فصح العقد عليها ببعض نمائها، قياساً على الشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة.
ولا شك أن القول بالجواز هو الراجح، لا سيما وأن أدلة المانعين لا تخلو من مقال:
فنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان لا يثبت، تفرد به هشام أبو كليب واستنكره الذهبي وعده شيخ الإسلام ابن تيمية باطلاً ومكذوباً.
والجهالة المدعاة يسيرة يغتفر مثلها في العادة فلا تؤدي إلى منازعة.
وقد أجاز الفقهاء الإجارة على الإطعام وتجاوزوا عن الجهالة فيها.
الإجارة على جزء محدد من الإنتاج:
اختلف الفقهاء في الإجارة على جزء محدد من الإنتاج كالاتفاق على عصر كمية من الزيتون بجزء من الزيت المستخرج ونحوه.
فذهب الشافعية والحنفية إلى بطلان هذه الإجارة، وهو القول الراجح عند الحنابلة، وذلك للجهالة بمقدار الزيت المستخرج من ناحية، وعدم القدرة على دفع الأجرة حال العقد من ناحية أخرى.
وخالف في ذلك المالكية(2) وابن حزم فقالوا بالجواز وهو قول عند الحنابلة، لأن الأجرة ليست مجهولة، فهي معلومة في الجزء المعين المحدد، وهي ليست معدومة لوجود ما تستخرج منه.
ويبدو لنا أن الراجح هو القول بالجواز تحقيقاً لليسر في المعاملات ولضعف الجهالة أو الغرر في هذه الصورة.
شروط استحقاق الإجارة :
الأجراء قسمان:
الأول: الأجير المشترك: وهو الذي يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب، أو بناء حائط ونحوه، وسمى مشتركاً لأنه يتقبل أعمالاً لأكثر من واحد في وقت واحد، كالحائك والنجار ونحوه.
__________
(1) البخاري كتاب المزارعة ، باب المزارعة بالشطر ونحوه رقم 2328، ومسلم في المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 1551.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (2/ 222)، وما بعدها.(1/154)
وقد اتفق الفقهاء أن الشرط في استحقاق الأجير المشترك لأجره كاملاً هو إنجاز العمل وتسليمه لصاحبه.
الثاني: الأجير الخاص: وهو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة، يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كمن استؤجر لخدمة أو عمل يوماً أو شهراً ونحوه، وسمى خاصاً لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس.
والشرط في استحقاق الأجرة تسليم نفسه وتمكين المستأجر من استيفاء المنافع في هذه المدة من الإجارة ، فإن فعل ذلك، وقصر المستأجر في استيفاء هذه المنافع فقد استحق العامل أجره كاملاً.
وفي إجارة الأعيان يستحق الأجر بمجرد تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، فإذا خلى بينه وبين الانتفاع، فلم يستوف المنفعة لتراخ منه، أو بدا له العدول عن ذلك فإن الأجرة تلزمه كاملة، ولا تؤثر هذه العوارض في لزومها عليه واستحقاق صاحب العين لها إلا إذا تراضى الطرفان على غير ذلك.
والأصل في ذلك أن الإجارة عقد لازم، يقتضي تمليك المؤجر الأجر، والمستأجر المنافع، فإذا فسخ المستأجر الإجارة قبل انقضاء مدتها وترك الانتفاع اختياراً منه - لم تفسخ الإجارة، والأجر لازم له، ولا يزول ملكه عن المنافع، وذلك كما لو اشترى شيئاً وقبضه ثم تركه.
ثالثاً: الصيغة:
الصيغة: هي ما يدل على الرضا بالعقد من الإيجاب والقبول.
أقسامها: الصيغة قسمان:
النوع الأول: الصيغة القولية:
وهي القول الدال على إنشاء العقد والرضا فتنعقد الإجارة بلفظها الصريح كأجرت واستأجرت وبكل ما يدل عليها من الألفاظ الأخرى كما تنعقد بإشارة الأخرس المفهمة وكتابته لقيامها مقام لفظه للضرورة.
والأصل في ذلك أن العبرة بالعقود للقصود والمعاني، وليس لمجرد الألفاظ والمباني.
النوع الثاني: الصيغة الفعلية (المعاطاة):(1/155)
والمعاطاة: هي فعل الشيء دون تلفظ من الجانبين أو من أحدهما، وجمهور الفقهاء على صحة انعقاد العقد بها في القليل والكثير، لأن المقصود هو الدلالة على الرضا، فكل ما دل على الرضا من قول أو فعل أو صح اعتباره في انعقاد العقد، ويرجع في ذلك إلى ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه.
انعقاد العقد بالكتابة:
قد تتطلب المعاملات التجارية المعاصرة إنشاء عقد بين طرفين، يقطن كل منهما في بلد، وتفصل بينهما مسافات نائية، فهل يمكن القول بانعقاد العقد عن طريق الكتابة رغم وجود الفاصل الزمني بين الإيجاب والقبول، وهو الزمان الذي يستغرقه وصول الرسالة؟
إن الذي عليه جمهور الفقهاء هو صحة انعقاد العقد بالكتابة، وقيامها مقام الخطاب، وأنه لا يقدح في ذلك وجود زمن فاصل بين خروج الرسالة من أحد المتعاقدين ووصولها إلى الآخر، لأن التراخي - مع غيبة المتعاقد الآخر - لا يعتبر إعراضاً عن العقد، ولكنهم اشترطوا لذلك أن يصدر القبول في مجلس قراءة الكتاب، ليتحقق اتصال القبول بالإيجاب من خلال الاتحاد الحكمي لمجلس العقد، فمتى صدر القبول من الطرف الآخر عند بلوغ الخبر إليه فقد أبرم العقد.
أثار عقد الإجارة:
إذا انعقدت الإجارة صحيحة ترتب عليها حقوق والتزامات بين أطرافها، وسوف نوجز بيان هذه الآثار فيما يلي:
التزامات المؤجر:
تتركز التزامات المؤجر في تمكين المستأجر من استيفاء المنافع محل الإجارة.
ففي إجارة الأعيان يلتزم المؤجر بإخلاء العين المؤجرة مما يعوق المستأجر عن استيفاء منافعها، والتخلية بينه وبين استيفاء هذه المنافع.(1/156)
وفي إجارة الأشخاص يلتزم الأجير بالقيام بالعمل الذي انعقدت عليه الإجارة، وأن يتقنه ما استطاع لقوله صلى الله عليه وسلم :(( إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)).(1) وأن يقوم بالعمل بنفسه إلا لعادة أو شرط يقضي بخلاف ذلك، وألا يتشاغل بما يؤدي إلى الإخلال بالعمل أو يعوقه عن حسن أدائه، أو الوفاء بمواعيده، وأن يطيع رب العمل في حدود طاعة الله ، وفي إطار ما اتفقا عليه في العقد، وإن كان أجيراً خاصاً التزم بالعمل في جميع المدة المتفق عليها لا يستثنى من ذلك إلا ما لا مندوحة منه كقضاء الحاجة وأداء الصلوات ونحوه.
ومما يؤكد حرص الفقهاء على هذه النقطة ما ذكره بعضهم من أن الأجير لو أدى صلاته ثم ادعى أنه كان محدثاً فإنه يمكن من الإعادة، ثم يسقط من أجره بمقدار الزمن الذي استغرقه إعادة الصلاة.
هل يلزم العامل بضمان ما تلف بيده من الأدوات والمصنوعات؟
اتفق الفقهاء على أن يد الأجير الخاص على ما عنده يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتفريط أو التعدي، فإذا فرط العامل في حفظ ما بيده من أدوات المهنة أو تعدى في استعمالها فقد لزمه ضمان ما يتلف منها، وذلك كأن يترك الآلة بدون صيانة حتى تتلف، أو يستخدمها في غير ما خصصت له، ونحو ذلك.
أما بالنسبة للأجير المشترك فقد اختلف الفقهاء في تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم بعد اتفاقهم على تضمينهم في حالة التفريط أو التعدي وعدم تضمينهم إذا ثبت عكس ذلك.(2)
__________
(1) أخرجه أبو يعلى 4386 والبيهقي في الشعب 4929، 4931، وفي إسناده مصعب بن ثابت وهو ضعيف، ورواه الطبراني 19: رقم 488، والبيهقي 4932 من طريق أخرى وإسناده ضعيف، وهو مرسل، ولفظه ".. ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن" وفي الصحيحين: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء..".
(2) خالف في ذلك أشهب من فقهاء المالكية فقال بتضمينهم ولو قامت البينة على عدم تعديهم وتفريطهم.(1/157)
فمنهم من قضى بتضمينهم اعتباراً بالمصلحة، واستناداً إلى قضاء الخلفاء الراشدين بذلك، وهو قول المالكية.
ومنهم من ذهب إلى عدم الضمان اعتباراً بالأجير الخاص، وهو قول أبي حنيفة، والصحيح عند الشافعية والحنابلة في الرواية المنصوص عليها.
وفرق بعضهم بين ما إذا كان الهلاك بقوة قاهرة كالغرق العام أو الحريق الغالب فإنه لا يضمن أما إذا كان الهلاك بما يستطيع دفعه فإنه يضمن حتى يثبت عدم التفريط أو التعدي، وهو قول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد من الأحناف، ويبدو أن هذا الرأي الأخير هو أرجح ما طرح في هذه المسألة من آراء.
التزامات المستأجر:
تتركز التزامات المستأجر فيما يلي:
1- دفع الأجر المتفق عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطيه أجره)).(1)
2- حسن معاملة الأجير وعدم تكليفه ما لا يطيق لقوله صلى الله عليه وسلم: (( ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم)).(2) وإذا كان هذا في شأن الرقيق فإن الأجراء أولى بذلك، ومن ذلك المحافظة على سلامة العامل وتوفير وسائل الوقاية له فيما يتطلب ذلك من الأعمال.
3- منح ما تقضي به العادة من الإجازات، فإن قضت العادة بمنح الأجراء يوماً في الأسبوع للراحة مثلاً فينبغي اعتبار ذلك.
واختلف في استحقاق العامل للأجر في مدة إجازته:
فالجمهور على عدم استحقاقه لذلك بناء على أن الأجر مقابل المنفعة، فإذا لم تستوف المنفعة فلا أجر.
__________
(1) تقدم أول الكتاب وهو متفق عليه.
(2) متفق عليه، البخاري ، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية وكتاب العتق باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "العبيد إخوانكم"، ومسلم (5/ 92، 93)، كتاب الإيمان باب إطعام المملوك مما يأكل.(1/158)
وأجاز بعضهم احتساب الأجر في مدة الإجازة بناء على أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ولا بأس باعتبار هذا الرأي الأخير نظراً لاستقرار عرف التعامل على الإجازات المأجورة.
نفقات الصيانة في عقد الإجارة:
تنقسم نفقات الصيانة إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بذات العين المؤجرة وما تعود منفعته إلى ربها فهذه على المؤجر، لأنه يلزمه ما يمكن به المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، وذلك كتطيين الدار وإصلاح ميزابها وما هي من بنائها، وبناء الحائط إذا سقط، وبدل خشبه إذا انكسر وتبليط الحمام وعمل الأبواب ومجرى الماء لأنه بذلك يمكن المكتري من الانتفاع بالعين المؤجرة.
الثاني: ما يتعلق باستيفاء المنافع ويكون أثراً له فهذه على المستأجر، فيلزمه إزالة آثار ما كان من فعله أو من سكنه كرفع التراب والكناسة وإخراج ما امتلأ من المجاري بفعله كما يجب عليه فعل ذلك في نهاية المدة قبيل تسليم العين المؤجرة لصاحبها.
هذا هو الأصل الذي يحكم هذه المسألة وقد يقع الخلاف في بعض التطبيقات بفعل تفاوت البيئات والأعراف.
هل يضمن المستأجر ما أصاب الأجير من تلف بسبب العمل أو في أثنائه؟
فرق الفقهاء في هذه المسألة بين الصغير والكبير من الأجراء:
فالأجير الصغير الذي لم يبلغ الحلم إذا استأجره صاحب العمل بدون إذن وليه فإنه يكون ضامناً لما أصابه بسبب العمل أو في أثنائه لأنه متعد باستعماله، متسبب في إتلاف حق غيره بغير إذن وليه فصار غاصباً، وقيد المالكية ذلك بكون العمل مما يُعْطَبُ في مثله.
أما الكبير البالغ من الأجراء فلا ضمان على المستأجر عما يصيبهم بسبب العمل إلا إذا كان بسبب تعدي صاحب العمل أو تقصيره، فإذا لم يكن منه تعد ولا تقصير - لم يضمن.(1/159)
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار))(1) وعلى هذا فمن استأجر إنساناً لحفر بئر أو العمل في معدن فهلك فلا ضمان، ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل.
ولا شك أن هذا هو الحق الذي لا معدل عنه، لأنه إذا انعدم التفريط أو التعدي من جهة المستأجر فلا وجه للقول بتضمينه، فالعقد صحيح، والهلاك قد حصل من غير صنعه، فمن أين يتأتى القول بلزوم الضمان عليه؟
فإن اعترض على ذلك بأن العامل ضعيف، فتنبغي حمايته، وتقرير حقه في التعويض في حالة العجز الكلي أو الجزئي بسبب العمل رعاية له ولأسرته التي قد تتعرض للضياع بسبب ذلك، قلنا هذا حق، ولكن المسئول عنه هو بيت المال وليس رب العمل، فكفالة الضعفاء ورعاية الفقراء هي مسؤولية الدول التي انعقدت لها الولاية على العباد، ووجب عليها بمقتضى ذلك أن ترعى ضعيفهم وأن تواسي مصابهم، وأن تكفل محتاجهم من أموالها العامة كمال الزكاة ونحوه، وإذا كانت النظم الوضعية قد ألزمت أصحاب الأعمال بالتعويض عن إصابات العمل وتوسعت في ذلك فإن ذلك لعدم وجود بيت المال الذي يعترف فيه بحقوق للفقراء والمساكين كما هو الحال في هذه الشريعة المطهرة.
هل يجوز للمستأجر أن يستثمر العين المؤجرة؟
اختلف في استثمار المستأجر للعين المؤجرة في غير انتفاعه بها ككرائه لها بأكثر مما استأجرها به.(2)
فذهب قوم إلى جواز ذلك منهم الحسن البصري، والزهري، وهو قول الشافعية، والحنابلة، والمالكية.
ومنع من ذلك آخرون منهم ابن سيرين، وسعيد بن المسيب.
وفرق فريق ثالث بين تأجيره العين على حالها فمنع ذلك، وأجازوه إذا كان أدخل عليها إصلاحاً أو إضافة.
__________
(1) متفق عليه، البخاري كتاب الديات، باب المعدن يجبر، ومسلم كتاب الحدود، باب جرح العجماء، والعجماء هي البهيمة، وجبار أي هدر لا شيء فيه.
(2) راجع المغني (8/ 56)، حاشية ابن عابدين، (5/ 56)، حلية العلماء (5/ 401).(1/160)
ويروى هذا عن الثوري، وهو قول أبي حنيفة، ورواية أخرى عن أحمد.
والقول بالجواز متوجه لعدم وجود دليل على منع ذلك، وهو الذي رجحه ابن المنذر بعد ذكره للآراء كلها، اللهم إلا إذا وجد اتفاق صريح أو ضمني على خلاف ذلك.
انتهاء عقد الإجارة.
ينتهي عقد الإجارة بالأسباب الآتية:
1- الإقالة:
وهي التراضي على الفسخ، ذلك أن الأصل في الإجارة اللزوم، فلا يحق لأحد طرفيها أن يفسخ عقدها بإرادته المنفردة، كما كان لا يصح له من البداية أن ينشئه بإرادته المنفردة، ولكن إذا تراضيا على الفسخ واتفقت كلمتهما على ذلك فلا بأس بل ربما دخل ذلك في دائرة المستحبات في بعض الأحيان لقوله صلى الله عليه وسلم: (( من أقال مسلماً عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة)).(1)
2- انتهاء الغاية المحدودة للعقد:
فإذا حددت الإجارة بغاية فإنها تنتهي بانتهاء هذا الغاية، سواء أكانت هذه الغاية زمانا ينقضي أم عملاً ينجز، فإذا انتهى الأمد المحدد للعقد، أو أنجز العمل المتفق عليه انتهى العقد من تلقاء نفسه.
3- انتهاء المدة المحددة لتقدير الأجرة في العقود التي لم تحدد لها مدة:
العقد غير محدد المدة هو العقد الذي لم يحدد الطرفان وقتاً لانتهائه، كما لو قال له: أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار، أو استأجرتك للعمل كل شهر بمائة دينار مثلاً، وينتهي هذا العقد بانتهاء المدة الزمنية المقدرة لدفع الأجرة، فلكل من الطرفين - بعد انتهائها - أن يفسخ العقد بإرادته المنفردة متى شاء، ويتجدد العقد تلقائياً لمدة أخرى إذا لم يستخدم أحد الطرفين حقه في الفسخ.
هل تنتهي الإجارة بالأعذار الطارئة؟
__________
(1) أبو داود (3460)، وأحمد (2/ 252)، وابن حبان في "صحيحه" (5030)، والحاكم (2/ 45) ، والبيهقي (6/ 27)، وصححه الحاكم على شرطهما.(1/161)
ويقصد بالعذر عجز العاقد عن المضي في موجب العقد إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق بالعقد، ومن أمثلته موت العروس في الاستئجار على ترتيب وليمة، أو إلغاء عقد الأجير الوافد في استئجار دار للسكنى ونحوه.
وقد اختلف الفقهاء في انتهاء عقد الإجارة بالأعذار الطارئة؟
فالجمهور على وجوب الوفاء بالعقد عملاً بمقتضى النصوص العامة التي تلزم بالوفاء العقود، فالأصل في الإجارة أنها من العقود اللازمة، فلا يملك أحد الطرفين أن ينفرد بفسخها دون الآخر، إلا لحدوث مقتض تنفسخ به العقود اللازمة كظهور عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة ونحوه.
والحنفية وابن حزم على اعتبار هذه الأعذار في حق المستأجر دفعاً للضرر المترتب على الوفاء، وقياسا على الفسخ بالعيب، فشرط اللزوم عندهم هو عدم طرو مثل هذه الأعذار.
وذهب الكرخي من الحنفية إلى اعتبار هذه الأعذار في حق المستأجر والأجير على حد سواء.
ومن أدلتهم على ذلك:
أن لزوم العقد في هذه الحالة يلزم صاحب العذر ضرراً لم يلتزمه بالعقد، فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر، وله ولاية ذلك.
أن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن الشرع والعقل، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه فاستأجر رجلاً ليقلعها فسكن الوجع يجبر على القلع، ومثل ذلك قبيح في الشرع والعقل.
وهل ينفسخ العقد تلقائيا في مثل هذه الحالات أم يتوقف على التراضي أو القضاء؟ خلاف بين أهل العلم ولا شك أن مرد الأمر عند التنازع إلى القضاء.
والذي يتبين لنا أن إلزام صاحب العذر بالمضي في تنفيذ العقد رغم العذر الطارئ والضرر المفاجئ مما لا يتسق مع كليات الشريعة مبادئها الأساسية، فلصاحب العذر أن يفسخ العقد، ولكن بشرط أن يعوض الطرف الآخر تعويضا عادلاً عما لحقه من ضرر بسبب هذا الفسخ المفاجئ، والله أعلم.
كيفية الإفادة من عقد الإجارة في ترتيب الاستثمارات الجماعية:(1/162)
تحدثنا في المباحث السابقة عن الإجارة في إطارها الفقهي كما قدمتها كتب التراث، ونتناول في هذا المبحث صوراً أخرى لهذا العقد ابتكرتها المصارف المعاصرة سواء منها المصارف الإسلامية أو المصارف الربوية لنتعرف على مدى التقائها أو تعارضها مع الأحكام الشريعة لعقد الإجارة .
وقبل أن نشرع في استعراض هذه الصور نود أن نذكر في عجالة بأحد المعالم الرئيسة في إجارة الأعيان (إجارة الأشياء) وهو التزام المؤجر بتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة طوال مدة الإجارة، وهذا يقتضي تحمله للنفقات اللازمة لبقاء هذه العين صالحة للانتفاع، فإذا انتقلنا بهذا المعلم إلى معترك التطبيقات المعاصرة وجدنا أنفسنا أمام طرفين وواسطة:
إذا التزم المؤجر بنفقات الصيانة بالكامل فمشروعية هذا العقد موضع اتفاق.
إذا تخلى المؤجر عن نفقات الصيانة وغيرها من بقية وجوه الإنفاق بالكامل فبطلان هذا العقد موضع اتفاق.
إذا جعلت بعض هذه الأعباء على عاتق المؤجر وبعضها على عاتق المستأجر فهذا موضع النظر بين الفقهاء نظراً لاختلاف الأعراف وتباين البيئات.
بعض الأساليب المعاصرة للإجارة التمويلية.
1- البيع مع الاستئجار:
هذا الأسلوب يمكن أن يكون بديلاً للاقتراض بفائدة ((مع رهن الأصل)) وذلك كأن يكون لدى المنشأة أصل ثابت (بناء أو أرض أو سيارة أو معدة) تحتاج إليه ولكنها تحتاج إلى مال فتبيع هذا الأصل نقداً إلى منشأة أخرى ثم تعود فتستأجره منها على الفور، فتنتفع بالمال الذي باعت به هذا الأصل ويعود إليها هذا الأصل من جديد باعتباره مستأجراً بدلاً من كونه مملوكاً.
وإذا تم البيع والإيجار بعقدين منفصلين فلا حرج في هذه الصورة لتحقيقها لمصلحة الطرفين وعدم تعارضها مع أصل من الأصول المقررة في عقد البيع أو في عقد الإجارة .(1/163)
بيد أن الإجارة يجب أن تكون إجارة حقيقية، أما إذا تحيل بها إلى الإقراض بفائدة فذلك الذي ينقل العقد من نطاق الإجارة المشروع إلى نطاق الربا المحظور.
ذلك أن الجهة البائعة قد تتفق مع الجهة المشترية على أن يعود إليها هذا الأصل بعقد أو تواعد ملزم بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد أقساطها فيتمحض الأمر في النهاية إقراضا ربويا تكون في الأقساط معادلة لأصل القرض وفائدته، ولا تعدو السلعة أن تكون وسيطاً صورياً أقحم للتحيل على هذا العمل المنكور.
2- الاستئجار التشغيلي:
ومن أمثلته عقود إجارة أجهزة التصوير والحاسبات الآلية ونحوه، وفي هذه الصورة يقع على عاتق المؤجر صيانة الأصل المؤجر، ويكون للمستأجر الحق في إلغاء هذا العقد قبل نهاية مدته وإعادة الأصل إلى المؤجر إما لاستغنائه عنه أو لظهور أصل آخر أحدث وأكثر تطوراً من الأصل الأول.
3- الاستئجار المالي:
وهذه الصورة على النقيض من الصور السابقة، إذ يتحمل فيها المستأجر تكاليف الصيانة ولا يملك فسخ الإجارة قبل نهاية أمدها، وأمد الإجارة هنا يمتد بامتداد العمر الإنتاجي للأصل، ولا يكون الأصل عند التعاقد موجوداً عند المؤجر.
وتتم هذه الصورة في الغالب وفق الخطوات التالية:
اتصال المنشأة المحتاجة إلى الأصل بالمنشأة المنتجة له وإجراء الاتفاقات المتعلقة بالمواصفات والثمن وسائر الشروط.
اتصال هذه المنشأة المحتاجة بمصرف من المصارف ليتولى شراء هذا الأصل وتقوم هذه المنشأة باستئجاره فور شرائه.
ثم ينتهي الأمر ببيع المصرف هذا الأصل إلى المنشأة المستأجرة في نهاية المدة بمبلغ رمزي أو يملكه لها دون مقابل.
وهذه الصورة تحتمل الجواز وتحتمل التحريم.(1/164)
فإذا تخلى المصرف المؤجر عن التزاماته باعتباره مؤجراً فحمل المستأجر تكاليف الإصلاح والصيانة والتأمين (التعاوني إن وجدا) وأعفى نفسه من المسئولية عن العيوب الخفية التي تكون بالعين المستأجرة ومن تحمل مخاطر هلاكها أو تلفها فهذا إقراض بفائدة:
فأقساط الأجرة هي أقساط قرض في الحقيقة.
والمنشأة المستأجرة في الظاهر مقترضة بفائدة في الواقع.
والمصرف مشتر مؤجر في الظاهر مقترض بفائدة في الواقع، ويريد أن يحتفظ بملكية الأصل على سبيل الضمان حتى إذا ما تخلف المقترض عن السداد كان الأصل لا يزال في ملكه فيستوفي منه حقه، وهو ضمان أقوى من ضمان الرهن لأن العين المؤجرة لا تدخل في أموال التفليس، والضمان العام للدائنين، ولأن الرهن يتطلب في العادة إجراءات قانونية معقدة ولا يخفى أن الأمور عندما تمضي على هذا النحو فإن هذه المعاملة تفقد مشروعيتها من الأساس.
أما إذا لم يتخل المصرف عن التزامات المؤجر فتحمل تبعة العيوب الخفية التي تكون بالعين المؤجرة، وتحمل تبعة هلاكه وتلفه ( إذا كان بغير تفريط أو تعد من المستأجر) وتحمل التأمين، وشارك في نفقات الإصلاح والصيانة بوجه أو بآخر، بحيث نصبح أمام إجارة حقيقية فإنه لا يبعد القول بمشروعيتها، إذا لا يشوش على هذه المشروعية إلا وجود عقد آخر مرتبط بعقد الإجارة وهو عقد البيع أو الهبة لهذا الأصل المستأجر في نهاية المدة، وهو أمر موضع نظر بين أهل العلم: منهم من أجازة ومنهم من منعه، والقول بإجازة ذلك قول متوجه، فإذا فصل بين العقدين فقد زال الحرج والله أعلم.
ومنعاً للشبهة وتحقيقاً لمزيد من المشروعية ينبغي تحويل عقد البيع إلى وعد بالبيع وبهذا تصبح المعاملة موضع قبول من الجميع.
4- البيع الإيجاري أو الإيجار المنتهي بالوعد بالتمليك:(1/165)
هذه الصورة هي الصورة السابقة إلا أن العلاقة فيها ثنائية بين المؤجر والمستأجر فليس ثمة مصرف يمول هذه العملية وإنما تنشأ العلاقة مباشرة بين المؤجر والمستأجر أو بين البائع والمشتري في حقيقة الحال.
وتتمثل هذه الصورة في اتفاق بين طرفين على أن يبيع أحدهما للآخر سلعة معينة وتحدد قيمتها إلا أن هذا البيع لا يحدث آثاره في نقل الملكية حتى يسدد الأقساط جميعاً خلال مدة معينة تنتقل بعدها ملكية السلع نهائيا إلى المشتري ويصبح له كامل الحقوق عليها، وتظل العلاقة بين الطرفين محكومة بعقد إجارة خلال هذه المدة.
ويلجأ البائع في العادة إلى هذا الأسلوب بدلاً من أسلوب البيع بالتقسيط رغبة منه في الاحتفاظ بالملكية خلال هذه الفترة حتى إذا أفلس المشتري لم تدخل هذه السلعة في أموال التفليسة أو الضمان العام للدائنين.
ولم يجزم المجمع الفقهي ببطلان هذه الصورة كما لم يجزم بصحتها، بل رأي أن الأولى أن يكتفى عنها ببدائل أخرى، فقد جاء في قراره ما يلي:
( الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى، منها البديلان التاليان:
الأول: البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
الثاني: عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر، بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
- مد مدة الإجارة .
- شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
- إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
ومن الأمثلة التطبيقية على هذا العقد عقود الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائل النقل كناقلات البترول والبواخر أو لتمويل شراء وإيجار معدات لصالح الدول الأعضاء، وتبنى هذه العقود على الأسس الآتية:(1/166)
أ- بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلى تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تصنيعها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية)، ويقوم البنك وفقاً لما يتم إبرامه من عقود من الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود.
ب- تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها - متى كان التركيب لازما - للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين.
جـ- بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها، وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها.
د- أثناء مدة الإيجار يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك.
هـ- يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليه وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية.
التخريج الفقهي لعقد الشراء الاستئجاري:(1/167)
إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل صح هذا العقد إذا روعى فيه ما يأتي:(1)
1- ضبط مدة الإجارة وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة.
2- تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.
3- نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة عقد منفصل بالبيع أو الهبة تنفيذاً لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر.
وقد أقرت لجنة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي هذه المعاملة وهي لجنة شكلها المجمع الفقهي ونص قرارها ما يلي:(2)
* المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
* المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل هو توكيل مقبول شرعاً ، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
* المبدأ الثالث: أن عقد الإجارة يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.
* المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل، كما أن تعليقها على وفاء المستأجر بالتزاماته مقبول شرعاً.
__________
(1) انظر توصيات الندوة الفقهية التي نظمها بيت التمويل الكويتي من السابع إلى الحادي والعشرين من رجب عام 1407هـ وهي منشورة في مجلة النور العدد 43 شعبان 1047هـ ،ص 14.
(2) تقرير اللجنة التي شكلها المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي للإجابة على استفسارات البنك الإسلامي للتنمية وكان اجتماعها في مقر البنك بجدة يوم 11 صفر 1407هـ(1/168)
* المبدأ الخامس : أن تبعة الهلاك والعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه.
* المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية يتحملها البنك.
أما عن شبهة اجتماع الإجارة والبيع فإن المخرج منها أن يكون أمر البيع وعداً وليس عقداً من البداية.
صورة أخرى من صور الإيجار المنتهي بالتمليك:
وتتمثل هذه الصورة فيما يلي:
يستطيع صاحب المال أن يشتري أداة من أدوات الإنتاج - ولتكن سيارة مثلاً - ثم يقوم بتأجيرها إلى من يعمل عليها لقاء مبلغ شهري، ثم يتيح له الفرصة في تملك هذه السيارة، وذلك بتقسيمها إلى عدة أسهم قيمة كل سهم كذا - يراعى تناقص قيمة الأسهم حسب تناقص قيمة الأصل المؤجر - وكلما سدد المستأجر قيمة سهم من هذه الأسهم ملكه له، وحط عنه من الأجرة ما يقابله، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر بتملك المستأجر للسيارة بالكلية.
وتحقق هذه الصورة تمام العدالة بين الطرفين، كما تحفز على العمل الجاد وتعين على حسن أدائه.
فبالنسبة لصاحب المال لم يبدأ بنقل ملكية السيارة إلى الطرف الثاني، بل لا يزال محتفظاً بملكية السيارة أو بملكية نصيبه فيها، إذا أفلس العامل مثلا كان لصاحب المال حق عيني على السيارة يستوفي منه حقه قبل بقية الغرماء، ومن ناحية أخرى فإنه يحصل على عائد مجز لأمواله يتمثل في الأجرة التي تدفع له بصفة دورية.
أما بالنسبة لمستأجر السيارة فقد أتيحت له فرصة التكسب بعمله على السيارة المؤجرة له، ثم أتيحت له فرصة التملك لهذه السيارة، وببيع أسهمها له على التوالي كلما اجتهد في العمل وسدد قيمة هذه الأسهم لينتقل بذلك من دائرة الأجراء إلى دائرة الملاك.
ومن ناحية أخرى فإن في التلويح بتمليك السيارة له، وإنقاص الأجرة بنسبة ما اشترى من الأسهم ما يحفزه على الجد في العمل والتفاني في أدائه.(1/169)
ولا يزال الفكر الاقتصادي الإسلامي قادراً على اكتشاف المزيد وتقديم الجديد من هذه الصور.
الوحدة السادسة
عقود تابعة للعقود الاستثمارية
المصطلحات:
القرض: لغة: القطع.
واصطلاحاً: دفع المال لمن ينتفع به ويرد بدله.
الصلح: لغة: خلاف الفساد وهو قطع النزاع أو المسالمة بعد النزاع.
واصطلاحاً: معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم ويتوصل بها إلى الموافقة بين المختلفين.
المدعى عليه: المتهم.
المنازعة: الشقاق والخلاف.
التحكيم: تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين.
أولاً : عقد القرض
تمهيد:
لا يعد عقد القرض من عقود الاستثمار بطبيعة الحال، لكن العلاقات التجارية تحت مظلة الشريعة لا تحكمها اعتبارات المصالح وحدها وإنما تتخللها ومضات من نور التراحم والإرفاق.
فقد يقع بعض التجار في أزمة طارئة فيسارع إخوانه إلى إقالة عثرته وتنفيس كربته بقرض حسن يقدمونه له.
ومن ناحية أخرى فإن الحاجة ماسة إلى التأكيد على أن عقود القرض ليست عقودًا استثمارية، وأن ما يشترطه المقرضون من الزيادات سواء أكانوا أفرادًا أم مصارف -لَهُوَ الربا الحرام الذي تنزل القرآن بتحريمه وتوعد أكلته بحرب من الله ورسوله.
فما أحكام هذا العقد؟ وما ضوابطه المقررة في الشريعة؟ ذلك ما سننتصب لبيانه في هذه العجالة.
تعريف القرض:
القرض في اللغة: القطع، يقال قرضت الشيء بالمقراض، والقرض ما تعطيه لإنسان من مالك لتقضاه، وكأنه شيء قطعته من مالك، والقرض قد يكون من المال وقد يكون من العرض، فقد روي عن ابن عمر قوله: أقرض من عرضك ليوم فقرك، يعني من سَبَّكَ فلا تأخذ منه حقا، ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر.
والقرض في الاصطلاح: دفع المال لمن ينتفع به ويرد بدله.
مشروعية القرض:
وقد ثبتت مشروعية القرض بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب : قوله تعالى:
{(1/170)
??? ??? ??????? ???????? ???? ??????? ??????? ?????????????? ?????? ?????????? ????????? } [البقرة: 245].
- ومن السنة: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال: يا رسول الله لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال: (( أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء)).(1)
- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة))(2)
- وقد أجمع المسلمون على مشروعية القرض.
توثيق القرض بالكتابة والشهادة:
جمهور أهل العلم على أن توثيق الدين بالكتابة والإشهاد مندوب إليه خلافا لابن حزم والطبري وبعض التابعين الذين ذهبوا إلى وجوب ذلك في الدين المؤجل.
قال تعالى: { ??????????? ????????? ??????????? ????? ??????????? ???????? ?????? ?????? ??????? ????????????? } [البقرة: 282] .
قال الشافعي: فلما أمر إذا لم يجدوا كاتبا بالرهن ثم أباح ترك الرهن وقال
{ ?????? ?????? ????????? ??????? ??????????? ??????? ?????????? ???????????? } [البقرة: 283] .
فدل على أن الأمر فيه دلالة على الحظ لا فرض فيه يَعْصِي من تركه.(3)
هل القرض أفضل أم الصدقة؟
* تحقيق القول في هذه المسألة أن أفضلهما ما يقع في يد محتاج.
- فالصدقة للمحتاج أفضل من القرض لغير المحتاج، والقرض للمحتاج أفضل من الصدقة لغير المحتاج.
__________
(1) البخاري كتاب الاستقراض باب استقراض الإبل، رقم 2390 باب: هل يعطى أكبر من سنه رقم 2392 وباب حسن القضاء 2393 ومسلم في المساقاة باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه رقم 1600.
(2) ابن حبان في صحيحه وابن ماجة 2430 والبيهقي (5/ 353)، وفي إسناده ضعف.
(3) أحكام القرآن للشافعي (2/ 127).(1/171)
- أما إذا تساويا بأن وقع كل منهما في يد محتاج أو في يد غير محتاج فالصدقة أفضل لأن الصدقة لا بدل لها فقد خرج صاحبها عنها لله تعالى بخلاف القرض الذي ينتظر صاحبه رده.
وبهذا يتحقق الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض.
* والأصل في القرض بالنسبة للمقرض هو الندب لما يتضمنه من كشف الكربات والإعانة على قضاء الحاجات، قال صلى الله عليه وسلم: (( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة(1) ))، وقد تعرض له حالات يرتفع فيها إلى الوجوب كما إذا كان المقترض في حالة اضطرار وتَعَيَّنَ المقرض لدفع هذه الضرورة، أو ينحط فيها إلى مرتبة الحرمة أو الكراهة إذا غلب على ظنه أن القرض يتضمن إعانة على محرم أو مكروه.
والأصل في القرض بالنسبة للمقترض هو الإباحة وذلك لمن آنس في نفسه القدرة على الوفاء، وقد تعرض له حالات يرتفع فيها إلى مستوي الوجوب إذا كان في حالة اضطرار وتعين القرض سبيلا لدفعها، أو ينحط معها إلى مرتبة الحرمة أو الكراهة لمن لم يكن في حالة اضطرار وآنس في نفسه عدم القدرة على الوفاء أو أخذ المال عازماً على عدم الوفاء.
الوفاء بالقرض:
والواجب في القرض أن يرد مثله ولا اعتبار للغلاء والرخص، فإن تعذر رد المثل لانقطاعه من السوق وجبت القيمة يوم الانقطاع لأنه يوم ثبوت القيمة في الذمة.
ويجوز للمقترض أن يرد أفضل من المثل إذا لم يكن ذلك عن شرط سابق، ويكون من باب حسن القضاء، وقَدْ رد النبي صلى الله عليه وسلم في بكر من الإبل رباعيا وقال (( إن خير الناس أحسنهم قضاء)).(2)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.. رقم 2699 من حديث أبي هريرة ورواه من وجه آخر من حديث ابن عمر كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم، رقم 2580.
(2) تقدم تخريجه.(1/172)
والأصل أن يرد القرض في البلد الذي وقع فيه، فيلزم المقترض الوفاء به حيث قبضه إذ هو المكان الذي يجب التسليم فيه، وإذا بذله المقترض في غير بلد القرض ـ وجب على المقرض قبوله إذا كان الطريق آمنا ولم يكن لحمله مؤنة أو كانت له مؤنة وتحملها المقترض، وإلا لم يلزمه القبول.
وإذا طالب به المقرِض في غير بلد القرض - لم تجب على المقترض إجابته إلا إذا لم يكن لحمله مؤنة ولم تكن قيمته ببلد القرض أنقص من قيمته ببلد الطلب، وإلا لم تلزمه إلا قيمته ببلد القرض لأنه المكان الذي يجب فيه التسليم .
الأجل فى القرض:
جمهور العلماء على أن الآجال في القروض باطلة، وأنه لا يلزم تأجيل القرض وإن اشترط في العقد، وللمقرض أن يسترده متي شاء.
وذهب المالكية والظاهرية إلى صحة الأجل في القرض، وأنه إذا اشترط الأجل في العقد فليس للمقرِض أن يسترده قبله لقوله صلى الله عليه وسلم (( المؤمنون عند شروطهم؟ ))(1) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه(2) وتلميذه ابن القيم(3)، وتابعهم على ذلك الشوكاني رحمه الله.(4)
اشتراط الزيادة في القرض:
أجمع المسلمون على حرمة اشتراط الزيادة في بدل القرض، سواء أكانت الزيادة في القدر أم في الصفة وأن ذلك من الربا الحرام.
قال ابن عبد البر: ( وكلُّ زيادة في سلف أو منفعةٍ ينتفع بها المسلف فهي ربا، ولو كانت قَبْضَةً من عَلَفٍ، وذلك حرام إنْ كان بشرط).(5)
وقال ابن المنذر: ( أجمعوا على أنَّ المسلِّفَ إذا شرط على المستسلف زيادةً أو هدية، فأَسْلَفَ على ذلك، أنَّ أَخْذَ الزيادة على ذلك ربا ).(6)
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) الاختيارات الفقهية لابن تيمية 132.
(3) أعلام الموقعين لابن القيم (3/ 375).
(4) السيل الجرار للشوكاني (3/ 144).
(5) الكافي في فقه أهل المدينة (ط: بيروت) ص 359.
(6) المغني لابن قدامة (ط: هجر) (6/ 436).(1/173)
بل ذهب كثير من أهل العلم إلى المنع من الهدية التي يقدمها المقترض إلى المقرض قبل الوفاء قطعا للذريعة إلى الربا، إذ قد يقصد بها التأجيل مقابل هذه الهدية إلا إذا جرت عادتهما بالتهادي من قبل.
ولا شك أن توجه النية إلى ذلك من أحد الطرفين أخذا أو إعطاء يلحقه بالمحرمات، فإن لم تتجه النية إلى ذلك فالأمر في محل الاجتهاد، وكل ذلك كما يقول ابن القيم سَدًّا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل.
هل يجوز سلف وبيع؟
جمهور أهل العلم على عدم جواز ذلك، فلا يجوز أن يشترط في عقد القرض أن يبيعه شيئا أو يشتريه منه أو يؤجره له أو يستأجره منه لقوله صلى الله عليه وسلم: (( لا يحل سلف وبيع ))(1) وحتى لا يتذرع بهذه العقود إلى أخذ الزيادة المحرمة.
اشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه:
إذا قال أحد لآخر: اقترض لي مبلغا من المال ولك على كل مائة عشرة،
فما مدى مشروعية هذه الصورة؟
أجاز ذلك الحنابلة إذا كانت هذه الجعالة على الاقتراض، وليس على الكفالة.. قال ابن قدامة: ( لو قال: اقترضْ لي من فلان مائةً، ولك عشرة، فلا بأس، وقول قائل: اكفُل عني، ولك ألف، لم يجز، وذلك لأنَّ قوله: )اقترضْ لي، ولك عشرة ( جُعَالةٌ على فِعْلٍ مباحٍ، فجازت، كما لو قال: ابْنِ لي هذا الحائط ولك عشرة، وأمَّا الكفالةُ، فإنَّ الكفيل يلزمُهُ الدَّينُ، فإذا أدّاه وَجَبَ له على المكفول مثله، فصار كالقرض، فإذا أَخَذَ عوضا، صارَ القرضُ جارّا للمنفعة، فلم يجز ).(2)
واختلف القول في ذلك عند المالكية ما بين قائل بالتحريم بإطلاق، أو بالكراهية بإطلاق، أو مفصل بين ذي جاه يحتاج إلى نفقة وتعب سفر وآخر لا يحتاج إلى ذلك فأجاز في الأول ومنع في الثاني.(3)
ثانياً : عقد الصلح
تمهيد:
__________
(1) أبو داود 3504، والترمذي 1234، والنسائي (7/ 288)، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
(2) المغني (6/ 441).
(3) راجع : البهجة على شرح التحفة (2/ 288).(1/174)
قد تعرض للعلاقات التجارية بعض المنازعات التي تشوب صفاءها وقد تزلزل ثوابتها، وقد يتحرج كثير من التجار المسلمين من اللجوء إلى القضاء الوضعي لا سيما في المجتمعات الغربية فرارا من التحاكم إلى الطاغوت فيلجئون إلى الصلح الذي به ترتفع المنازعات وتعود به الأمور سيرتها الأولي.
بل إن هذا اللجوء مندوب إليه حتى في المجتمع الإسلامي الذي يتحاكم أبناؤه إلى الشريعة، فإن الصلح أدوم للألفة وأبقى للمودة من القضاء، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن!).
فما أحكام الصلح في الشريعة؟ وما معالمه الرئيسة؟ ذلك ما سننتصب لبيانه في الأسطر التالية.
تعريف الصلح:
الصلح في اللغة: خلاف الفساد، وهو قطع النزاع أو المسالمة بعد المنازعة.
وفي الاصطلاح: معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويتوصل بها إلى الموافقة بين المختلفين.
وكما يكون الصلح لرفع نزاع واقع فإنه يكون لدفعه قبل وقوعه، ولهذا عرفه المالكية بقولهم: انتقال عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه .
الفرق بينه وبين التحكيم:
التحكيم عند الفقهاء: تولية حَكَمٍ لفصل خصومة بين مختلفين، وهذه التولية قد تكون من قبل القاضي وقد تكون من قبل أطراف الخصومة، ويفرق بينه وبين التحكيم من وجهين:
1- أن التحكيم ينتج عنه حكم قضائي والصلح ينتج عنه حكم رضائي.
2- أن الصلح يتضمن تنازلا عن حق من كلا الطرفين أو من أحدهما، أما التحكيم فلا يتضمن شيئا من ذلك.
مشروعية الصلح:
وقد ثبتت مشروعية الصلح بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب:
قوله تعالى: { ?? ?????? ??? ??????? ???? ??????????? ???? ???? ?????? ?????????? ???? ????????? ???? ????????? ?????? ???????? } [النساء: 114].
وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين.(1/175)
وقوله تعالى: { ?????? ?????????? ??????? ???? ????????? ???????? ???? ?????????? ???? ??????? ???????????? ??? ????????? ??????????? ??????? ? ??????????? ?????? } [النساء: 128].
ومن السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم (( الصلح جائز بين المسلمين)).(1)
وما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنه لما تنازع مع ابن أبي حَدْرَد في دَيْن على ابن أبي حَدْرَد أن النبي صلى الله عليه وسلم أَصْلَح بينهما بأن استوضَعَ من دينِ كعبِ الشطر، وأمر غريمه بأداء الشطر.(2)
وأما الإجماع:
فقد أجمع الفقهاء على مشروعيته في الجملة على خلاف في بعض التفاصيل.
والأصل في الصلح من حيث ذاته هو الندب، وقد يعرض له ما يرفعه إلى مرتبة الوجوب عندما تتعين المصلحة المترتبة عليه، أو ينحط به إلى مرتبة الحرمة عندما يستلزم مفسدة واجبة الدرء، أو إلى مرتبة الكراهة عندما يستلزم مفسدة راجحة الدرء، وقد يكون مباحاً عندما يستوي الطرفان.
فضل الصلح:
فضل الصلح مما استفاض العلم به في دين المسلمين، فبه تقطع المنازعات وتزول الخصومات وتشيع المودة في جماعة المسلمين: قال صلى الله عليه وسلم (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؟! )) قلنا: بلى، قال: (( إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة)).(3)
__________
(1) أبو داود 3594 أحمد، (2/ 366)، الدراقطني (3/ 27)، ابن حبان (1/ 5091)، والبيهقي (6/ 64)، والحاكم (2/ 49)، وفي إسناده كثير بن زيد الأسلمي اختلف فيه رأي علماء الحديث من الناس من يحسن حديثه هذا.
(2) البخاري كتاب الخصومات، باب في الملازمة رقم 2424، وفي الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح رقم 2706، مسلم كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 1558.
(3) أحمد (6/ 445)، و أبو داود 4919 والترمذي 2509، وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 5092 وإسناده صحيح.(1/176)
* وقال عمر رضي الله عنه: ( ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن).
والصلح ليس عقدا مستقلا بذاته بل هو متفرع عن غيره، فتسري عليه أحكام أشبه العقود به بحسب مضمونه.
يقول القرافي رحمه الله: ( اعلم أنَّ الصُّلْح في الأموال دائرٌ بين خمسة أمور: البيع إنْ كانت المعاوضةُ عن أعيان، والصَّرْف: إنْ كان فيه أحدُ النقدين عن الآخر، والإجارة: إنْ كان عن منافع، ورفع الخصومة: إنْ لم يتعيَّن شيءٌ من ذلك، والإحسان: وهو ما يُعطاه المصالح من غير الجاني، فمتى تعيَّنَ أحد هذه الأبواب روعيت فيه شروطُ ذلك الباب ).(1)
لا مدخل للصلح في حقوق الله عز وجل.
الحقوق نوعان: حقوق الله وحقوق العباد.
ولا مدخل للصلح في حقوق الله عز وجل كالحدود والكفارات والزكوات، وإنما يكون الصلح فيها بين العبد وبين ربه، وذلك بإقامتها لا بإهمالها، وعلي هذا فلا يصح الصلح عن حد الزنا أو السرقة أو شرب الخمر، وإذا بلغت السلطان فَلَعَنَ الله الشافع والمشفع، أما حقوق الآدميين فهي التي تقبل المصالحة.
شروط المصالحة في حقوق العباد:
يشترط في حقوق العباد المصالح عنها ما يلي:
- أن تكون حقا للمصالح ثابتا في المحل، فلا يجوز أن تصالح امرأة مطلقها على نسب صبي بيده تدعي أنه ابنه منها لأن النسب حق للصبي وليس حقا لها.
- أن يكون مما يجوز أخذ العوض عنه، فلا يجوز أن يصالح امرأة لتقر له بالزوجية، ولا أن يصالح حرا ليقر له بالعبودية، لأن بذل المال مقابل ذلك لا يجوز.
- أن يكون معلوما، فلا تجوز المصالحة عن مال مجهول القدر، وفي هذا الشرط خلاف فقهي(2)
__________
(1) الفروق للقرافي (4/ 2).
(2) فرق الأحناف بين ما كان محتاجا إلى التسليم فيجب العلم به قطعاً للمنازعة وما لم يكن محتاجاً إلى تسليم فلا يشترط علمه، وفرق المالكية والحنابلة بين ما يتعذر علمه فلم يشترطوا فيه العلم وبين ما لا يتعذر علمه فاشترطوا فيه ذلك.(1/177)
ويشترط في المصالح به وهو العوض أو بدل الصلح ما يلي:
- أن يكون مالا متقوما، فلا تصح المصالحة بالمحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير لأنها وإن تمولها بعض الناس فليست بمتقومة شرعا.
أن يكون مملوكا للمصالح، فلو صالح على مال ثم ظهر كونه مستحقا للغير فقيل ببطلان الصلح وقيل بلزوم البدل فيلزمه مثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا.
أن يكون معلوما فإن وقع الصلح بمجهول لم يصح؛ لأن تسليمه واجب والجهل يمنعه، وفرق الأحناف بين ما يحتاج إلى القبض والتسليم فاشترطوا العلم به وما لا يحتاج إلى ذلك فلم يشترطوا العلم به، فلو ادعى رجل على آخر حقا في داره فادعي عليه الآخر حقا في أرضه فاصطلحا على ترك الدعوى جاز لعدم الحاجة إلى التسليم في هذه الصورة.
أقسام الصلح:
لا يخلو الصلح من أن يكون بين المدعي والمدعى عليه أو أن يكون بين المدعي وبين أجنبي عن الخصومة توسط لقطع المنازعة.
أولا: الصلح بين المدعى والمدعى عليه:
والصلح بين المدعِي والمدعَي عليه إما أن يكون مع إقرار المدعي عليه أو إنكاره أو سكوته.
1- الصلح مع إقرار المدعى عليه.
وهو جائز بالاتفاق، وقد يكون عن عين أو عن دين.
الصلح على الأعيان:
ومثال الصلح على الأعيان: أن يدعي عليه دارا بيده فيقر له بها ثم يصالحه منها على بعضها أو يصالح على عين أخرى كدار أخرى أو سيارة أو قطعة أرض ونحوه أو يصالح على منفعة عين أخرى.
والصلح على الأعيان قد يكون حطيطة كما لو صالحه على العقار ببعضه فكأنه قد وهب له الباقي فتثبت فيه أحكام الهبة، واشترط الحنابلة لصحته ألا يقع بلفظ الصلح أو بشرط أن يعطيه الباقي حتى لا يصالح عن بعض ماله ببعضه فيكون هضما للحقوق، أو أن يعاوض عن بعض حقه ببعضه وهو محظور.(1/178)
وكما يكون الصلح على الأعيان حطيطة يكون معاوضة كما لو صالحه على الدار بدار أخرى أو سيارة ونحوه، وهو مشروع، ويعد من جنس البيع لأنه مبادلة مال بمال فيصح بما تصح به البيوع ويفسد بما تفسد به البيوع.
وإن صالحه على العين المدعاة بمنفعة عين أخرى صح ذلك، ويعد من جنس الإجارة فتعتبر فيه أحكامها.
الصلح على الديون:
والصلح عن الديون مثل أن يدعي شخص على آخر دينا فيقر له به ثم يصالحه على بعضه أو على مال غيره وهو مشروع في الجملة على خلاف في بعض التفاصيل.
والصلح عن الديون قسمان: صلح إسقاط وإبراء، وصلح معاوضة.
وصلح الإسقاط أو الحطيطة هو الذي يجري على بعض الدين، كأن يقول له: صالحتك على الألف الحال الذي لي على خمسمائة وهو مشروع عند الجمهور لأنه من جنس الإبراء فتثبت فيه أحكامه، واشترط الحنابلة لجوازه أن يقع ذلك طواعية وعن طيب نفس.
أما إن صالحه عن دين مؤجل ببعضه حالا فهذه الصورة موضع نظر بين الفقهاء، وهي مسألة (ضع وتعجل) المشهورة والراجح جوازها إذا لم تكن بناء على اتفاق سبق وما دامت العلاقة ثنائية بين الدائن والمدين.
2- الصلح مع إنكار المدعي عليه.
وجمهور الفقهاء على جوازه قطعا للمنازعة ما دام كل منهما يعتقد أنه مُحِقٌّ فيما يدعيه، أما من كان منهما عالما بكذب نفسه فالصلح باطل في حقه، ويدل على ذلك عموم الأدلة التي تقضي بمشروعية الصلح.
وخالف في ذلك الشافعية لأن مشروعية الصلح تقتضي حقا ثابتا وهو منتف في حالة الإنكار فيكون بذل المال دفعا لخصومة باطلة فيصبح في معنى الرشوة، وهم محجوجون بعموم الأدلة من ناحية، وبأن الحق ثابت في زعم المدعِي من ناحية أخرى.
3- الصلح مع سكوت المدعى عليه.
ويلتحق عند الجمهور بالصلح مع الإنكار لأن الساكت منكر حكما نظرا لكون الأصل براءة الذمة، فيجري فيه الخلاف السابق.
ثانيا: الصلح بين المدعى والأجنبي:
إذا توسط أجنبي لإنهاء خصومة بين متنازعين فصالح المدعِي على بعض المال:(1/179)
فإن كان ذلك بإذن المدعَى عليه، لزم الصلح وانصرفت آثاره إلى المدعى عليه واعتبر الأجنبي وكيلا عنه في ذلك.
أما إذا لم يكن بإذنه والتزم بالمال المصالح به في خالص ماله، لزم الصلح، وإلا كان موقوفا على إجازة المدعَى عليه، وأطلق المالكية لزوم الصلح وتعلق تبعاته بالأجنبي في جميع الأحوال.
آثار الصلح:
الصلح من العقود اللازمة، فلا يملك أحد من الطرفين فسخه أو الرجوع عنه بعد انعقاده، فإذا وقع الصلح ترتب عليه أمران:
1- سقوط الدعوي فلا يبقى للمدعِي حق في الدعوي بعد ذلك.
2- دخول بدل الصلح في ملك المدعِي فليس للمدعَى عليه استرداده.
انتهاء الصلح:
والصلح قد ينتهي بالفسخ بفعل من العاقدين أو أحدهما وقد ينتهي بالانفساخ بسبب خارج عن إرادتها، وموجبات انفساخ الصلح أربعة:
1- موت أحد العاقدين قبل انتهاء المدة المضروبة.
إذا وقع الصلح على المنافع لأنه يكون حينئذ في حكم الإجارة، والإجارة تبطل بموت أحد العاقدين فكذلك ما كان في حكمها، وهذا موقف الحنفية، وجمهور الفقهاء على خلاف ذلك وقولهم أولى بالصواب.
2- هلاك بدل الصلح إذا كان منفعة قبل استيفائها.
كما لو صالحه على منفعة شيء فهلك ذلك الشيء، فإن كان التلف قبل استيفاء شيء من المنفعة انفسخ الصلح ورجع بما صالح عنه، وإن كان بعد استيفاء بعضها ينفسخ فيما بقي منها ويرجع بقسط ما بقي، وهذا هو ما نص عليه الشافعية والحنابلة.
وفصل الأحناف في حالة الهلاك الكلي قبل استيفاء شيء من المنفعة: ففرقوا بين ما إذا كان محل المنفعة المصالح بها حيوانا فقالوا ببطلان الصلح لأن إجارة الحيوان تبطل بموته، أما إذا كان غير حيوان فلا يبطل الصلح، ويكون المدعي بالخيار بين الفسخ أو محل بديل للمنفعة لأن إجارة الدار لا تبطل بانهدامها.(1/180)
أما إذا كان بدل الصلح عينا فهلكت قبل التسليم بطل الصلح، فإن هلك بعضها - بطل بقدره من الصلح، أما إذا كان بدل الصلح دينا فلا يؤدي هلاكه إلى بطلان الصلح ويلزم المدعى عليه بدله.
3- الاستحقاق.
فإذا وقع الصلح عن إقرار معين واسْتُحِقَّ المصالح عنه كله أو بعضه بالبينة استرد من بدل الصلح ما أخذ بالاستحقاق من المدعى عليه إن كُلاًّ فكُلاًّ وإن بعضًا فبعضًا.
وكذلك إذا استحق بدل الصلح كله أو بعضه رجع المدعي على المدعَى عليه بما اسْتُحِقَّ إن كُلاًّ فَكُلاًّ وإن بعضًا فبعضًا، ولا يتأثر الصلح في الحالتين إلا إذا كان بدل الصلح مما لا يتعين بالتعيين كالنقود وكان الاستحقاق بعد التفرق فإن الصلح يبطل.
أما إذا وقع الصلح عن إنكار على شيء معين من دعوى عين معينة ثم استحق المدعى به كلا أو بعضا - رجع المدعى عليه بمقابله من العوض على المدعى ورجع المدعي بالخصومة فيه والدعوي على المستحق، وإن استحق بدل الصلح كلا أو بعضا رجع المدعي بالدعوي كلا أو بعضا على حسب القدر المستحق إلا إذا كان بدل الصلح مما لا يتعين بالتعيين كالنقود وكان الاستحقاق بعد الافتراق عن المجلس فإن الصلح يبطل.
4- حدوث تغير في المصالح عنه تختل معه المعاوضة في الصلح.
كما لو جرح رجل عمدا فصالحه عن الجرح ثم برئ الجرح ولم يترك أثرا أو مات بسبب هذا الجرح فإن الصلح ينفسخ في الحالتين.
ثالثاً : عقد التأمين
تعريف التأمين:
التأمين: عقد يتعهد بمقتضاه أحد الأطراف أن يعوض الطرف الآخر عن خسارة احتمالية يتعرض لها مقابل أداء من هذا الأخير يسمى قسط التأمين .
فهو تحويل الآثار المالية للأخطار التي يتعرض لها الأفراد أو المنشآت إلى جهات متخصصة نظير مقابل.
أنواع التأمين:
ينقسم التأمين من حيث شكله إلى ما يلي:
التأمين التجاري:(1/181)
و التأمين التجاري هو الذي ينفصل فيه المؤمن عن المستأمنين فيتعاقد مع كل واحد منهم على حدة نظير أقساط ثابتة، ويلتزم بدفع مبلغ التأمين عند تحقق الخطر دون تضامن ولا تنسيق مع بقية المستأمنين ، ثم إن بقيت فضلة من المبالغ استأثر بها وإن كان خسر تحمله وحده.
التأمين التعاوني:
التأمين التبادلي أو التعاوني، وهو التأمين الذي لا ينفصل فيه المؤمن عن المستأمنين، وذلك بأن يكتب بعض الأشخاص الذين يتعرضون لنوع من الخطر بمبالغ نقدية ليؤدى منها التعويض لأي مكتتب منهم عندما يقع عليه الخطر المؤمن منه، فالمؤمن والمستأمن في هذا النوع جهة واحدة، فإن زادت الأقساط المدفوعة عن مبالغ التأمين المستحقة كانت هذه الزيادة لجماعة المستأمنين، وإن نقصت طولبوا بتغطية العجز، وهم لا يسعون لتحقيق ربح من وراء هذا التأمين بل لتخفيف الخسائر التي قد تلحق ببعضهم، وتدار الشركة بواسطة أعضائها.
التأمين الاجتماعي:
وقد يكون التأمين اجتماعياً، وهو ما تقوم به الدولة بقصد تأمين مستقبل مواطنيها، وذلك بأن تستقطع جزءاً من مرتب الموظف أو العامل وعند نهاية الخدمة تعطيه معاشاً شهرياً ثابتاً، وعند إصابته بسبب العمل تصرف له نفقات العلاج بالإضافة إلى التعويض المناسب.
وينقسم التأمين من حيث طبيعة الأخطار المؤمن عليها إلى عدة أقسام.
أ- التأمين من الأضرار: أو التأمين على الممتلكات، وهو ما تعلق الخطر فيه بمال المؤمن لا بشخصه، كالتأمين ضد الحريق أو السرقة والتأمين البحري.
ب- التأمين على الأشخاص : وهو ما تعلق فيه بالخطر بشخص المؤمن كالتأمين على الحياة والتأمين ضد الإصابات الجسدية، والتأمين ضد المرض، ونحوه.
جـ- التأمين على المسئولية: وهو التأمين ضد التعويضات التي يقضى بها على المستأمن.
حكم التأمين:
أولا: حكم التأمين التجاري:(1/182)
لا يكاد الباحث يجد ذكراً للتأمين في عبارات المتقدمين إذ لم يعرف التأمين على هذا النحو في العالم الإسلامي إلا في القرن الثالث عشر الهجري، وأول من تكلم فيه من الفقهاء هو ابن عابدين صاحب الحاشية حيث فرق بين عقد التأمين الذي جرى في بلاد الإسلام وبين عقد التأمين البحري الذي جرى في بلاد الحرب، فالأول عقد معاوضة فاسد لا يلزم به الضمان لأنه التزام ما لا يلزم والثاني عقد لا حكم له.
ولقد تصدت المحافل العلمية المعاصرة لبحث التأمين حيث انتهت إلى حرمة عقود التأمين التجارية لما يكتنفها من الغرر الفاحش والقمار والربا بنوعيه فضلاً ونسيئة وأخذ مال الغير بالباطل والإلزام بما لا يلزم شرعاً، وجواز كل من التأمين التعاوني والتأمين الاجتماعي لقيامها على التبرع، ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعاوضات، ثم برز إلى الوجود شركات تأمين إسلامية تقوم على فكرة المعاونة والتبرع بدلاً من فكرة المعاوضة التي تقوم عليها شركات التأمين التجارية.
ونسوق في هذا المقام نص قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي حول موضوع التأمين .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد ما اطلع على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في ذلك، وبعد ما أطلع على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/97هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.(1/183)
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
* الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئاً، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.
* الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطاً من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قماراً ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:
{ ??????????? ????????? ??????????? ??????? ?????????? ?????????????? ???????????? ????????????? ?????? ????? ?????? ???????????? ??????????????? ?????????? ??????????? } [المائدة: 90].
* الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنساء، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع.(1/184)
* الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم، لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصر للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)).(1)
* الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، والأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى:
{ ??????????? ????????? ?????????? ?? ???????????? ???????????? ????????? ????????????? ???? ??? ??????? ????????? ??? ??????? ???????? } [ النساء: 29].
* السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعاً، فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حراماً.
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقاً أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
أ- الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا
فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
ب- الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاً هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة ، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد فبطل الاستدلال بها.
__________
(1) أبو داود (2574)، والترمذي (2464)، والنسائي (6/ 226)، أحمد (2/ 474)، ورجاله ثقات. إسناده صحيح.(1/185)
جـ- الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافاً مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعاً تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
د- لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبني عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاجون إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دلت دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.
هـ- الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناها غير صحيح:
فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين.
وإن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاماً مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطاً واحداً، وقد لا يستحقون شيئاً إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته.
... وإن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسباً مئوية مثلاً بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدود.
و- قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.(1/186)
ز- قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلاً من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجباً أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.
حـ- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضاً، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض، بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولاً الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعاً غير مقصود إليه.
ط- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.
ى- قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضاً، لأن ما يعطي عند التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظاماً راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة، لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقاً التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة مكافأة لمعروفه وتعاوناً معه - جزاء تعاونه ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.(1/187)
ك- قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينها وبين القاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
ل- قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضاً، ومن الفروق أن الأمان ليس محلاً للعقد في المسألتين، إنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
م- قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضاً، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه، بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة ، وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.
ن- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/ 4/ 1397هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفاً للأدلة الآتية:(1/188)
* الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
* الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النساء، فليست عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
* الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
* الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين.
ورأي المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
* أولاً: الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدولة إلا عنصراً مكملاً لما عجز الأفراد عن القيام به، وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
* ثانياً: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسئولية إدارة المشروع.(1/189)
* ثالثاً: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية، فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصاً ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها، مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني، إذ أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل كما أن وقوعها قد يحملهما أقساطاً أكبر في المستقبل.
* رابعاً: أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية، وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية.
ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية:
* الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فرع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة.. الخ.
أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين.. الخ.
* الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة.
* الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.
* الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.(1/190)
* الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
ثانياً: نص قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة(1)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 2 بشأن التأمين وإعادة التأمين
أما بعد:
إن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 إلى 16 ربيع الثاني 1406هـ / 22-28 ديسمبر 1985 م بعد أن تابعت العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين .
وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة.
وبعد أن تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن، قرر:
1- أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد ولذا فهو حرام شرعاً.
2- أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
3- دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات للتأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي لا يرضاه الله لهذه الأمة، والله أعلم.
الخلاصة
__________
(1) انظر: نص هذا القرار في مجلة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، الجزء الثاني صحيفة 731.(1/191)
عقود تابعة للعقود الاستثمارية.
القرض:
تمليك للشيء على أن يرد بدله، وهو مشروع بالإجماع، وجمهور العلماء على أن توثيقه بالكتابة والإشهاد مندوب إليه.
*وفي المفاضلة بين القرض والصدقة يقال: إن أفضلهما ما وقع في يد المحتاج فإن استويا في ذلك كانت الصدقة أفضل من القرض.
* وقد أجمع المسلمون على حرمة اشتراط الزيادة في بدل القرض وأن ذلك من الربا الحرام، أما الزيادة بغير اشتراط فهي من جنس حسن القضاء وهو مندوب إليه.
* وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز سلف وبيع حتى لا يتذرع بذلك إلى الربا.
* ولا بأس باشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه ولا يجوز أن يكون الجعل على الكفالة.
الصلح:
معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، فهو انتقال عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
* ولا يدخل الصلح في حقوق الله عز وجل، وإنما يكون الصلح في حقوق العباد.
* ويشترط في حقوق العباد المصالح عنها: أن تكون حقاً للمصالح ثابتاً في المحل، وأن تكون مما يجوز أخذ العوض عنه، وأن تكون معلومة.
ويشترط في المصالح به أن يكون مالاً متقوماً معلوماً وأن يكون مملوكاً للمصالح.
* والصلح قد يكون بين المدعي والمدعى عليه، أو يكون بين المدعى عليه وبين أجنبي تدخل لفض النزاع.
* والصلح بين المدعي والمدعى عليه قد يكون مع إقرار المدعى عليه أو إنكاره أو سكوته.
* والصلح مع إقرار المدعى عليه قد يكون على الأعيان أو على الديون والصلح على الديون قد يكون صلح إسقاط أو صلح معاوضة.
* والصلح مع إنكار المدعى عليه أو سكوته - مشروع عند الجمهور ما دام كل منهما يعتقد أنه محق فيما يدعيه.
* والصلح بين المدعى عليه والأجنبي إن كان بإذن المدعى عليه - صح وانصرفت آثاره إلى المدعى عليه واعتبر الأجنبي وكيلا عنه في ذلك، وإن لم يكن بإذنه كان موقوفاً على إجازته.
* وللصلح أثران: سقوط الدعوى، ودخول بدل الصلح في ملك المدعي.(1/192)
* وينتهي الصلح بموت أحد العاقدين قبل انتهاء المدة المضروبة، أو هلاك بدل الصلح إذا كان منفعة قبل استيفائها، أو الاستحقاق، أو حدوث تغير في المصالح عنه تختل معه المعاوضة في الصلح.
التأمين :
* عقد يتعهد بمقتضاه أحد الأطراف أن يعوض الطرف الآخر عن خسارة احتمالية يتعرض لها مقابل أداء من هذا الأخير يسمى قسط التأمين .
* وينقسم التأمين من حيث شكله إلى: التأمين التجاري والتأمين التعاوني والتأمين الاجتماعي، ومن حيث طبيعة الأخطار المؤمن عليها إلى: التأمين من الأضرار والتأمين على الأشخاص.
حكم التأمين:
أولاً: التأمين التجاري وهو الذي ينفصل فيه المؤمن عن المستأمنين، وهو عقد فاسد لاشتماله على الغرر الفاحش، والربا بنوعيه فضلاً ونسيئة، وأخذ مال الغير بغير مقابل والإلزام بما لا يلزم شرعاً، وباعتباره ضرباً من ضروب المقامرة ولونا من ألوان الرهان المحرمة، ولا وجه لما استدل به المبيحون لتهافته وضعف مأخذه.
ثانياً: التأمين التعاوني وهو الذي لا ينفصل فيه المؤمن عن المستأمنين، وهو مشروع لقيامه على التبرع ويغتفر في التبرعات ما لا يفتقر في المعاوضات، ومثله التأمين الاجتماعي الذي تقوم به الدولة على مواطنيها.
الوحدة السابعة
قضايا معاصرة
المصطلحات:
البورصة: سوق منظمة يجري فيها التعامل بشراء الأوراق المالية وفي الحاصلات الزراعية تضم سماسرة يعملون وسطاء بين البائعين والمشترين.
عقود عاجلة: هي التي يلتزم فيها المتعاقدان بتسليم العوضين في الحال أو خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة.
عقود آجلة: هي التي تسوي بين أجل معين يتفق عليه عند العقد وتصفى عادة في أيام التصفية التي تقررها لجنة البورصة وتحدد مواعيدها مقدماً.
التأمين: عقد يتعهد بمقتضاه أحد الأطراف أن يعوض الطرف الآخر عن خسارة احتمالية يتعرض لها مقابل أداء من هذا الأجير يسمى قسط التأمين.
حقوق التأليف: مجموع الامتيازات التي يحصل عليها المؤلف.(1/193)
بطاقة الائتمان: البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجيات من السلع أو الخدمات ديناً.
أولاً : أعمال البورصة
البورصة: سوق منظمة يجري فيها التعامل بشراء الأوراق المالية وفي الحاصلات الزراعية - تضم سماسرة يعملون وسطاء بين البائعين والمشترين.
سبب التسمية: وقيل في سبب تسميتها أنها من النسبة إلى فندق في بلجيكا كان يتجمع فيه رجال المال والسماسرة لتصريف أعمالهم، أو من النسبة إلى شخص بلجيكي يدعي: (ديير بورسيه) كانوا يجتمعون في قصره لنفس الغرض.
وغاية البورصة إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعا وشراء فتؤدي إلى تحقيق بعض الفوائد التي سنشير إلى بعضها بعد قليل.
ولكنها من ناحية أخرى تحتوي على كثير من المظالم والشنائع كالمقامرة والاستغلال والاحتكار وأكل أموال الناس بالباطل والتلاعب بمقدرات الأمم والشعوب، إذ تذهب بسببها ثروات وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية وفي وقت قصير تماما كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية!
أقسام العقود في البورصة.
أولاً: من حيث الزمن:
وتنقسم العقود في البورصة من حيث الزمن إلى قسمين:
عقود عاجلة: وهي التي يلتزم فيها المتعاقدان بتسليم العوضين في الحال أو خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة.
وأخرى آجلة: وهي التي تسوي بعد أجل معين يتفق عليه عند العقد، وتصفى عادة في أيام التصفية التي تقررها لجنة البورصة وتحدد مواعيدها مقدما.
وكل من العقود العاجلة أو الآجلة قد تكون في الأوراق المالية وقد تكون في السلع والبضائع.
ويقصد بالعقود العاجلة تسليم المبيع حقيقة وليس مجرد عقود تباع وتشترى دون وجود سلعة أو رغبة حقيقية في التسليم .
أما العقود الآجلة فلا يقصد بها في الغالب إلا مجرد المضاربة على فروق الأسعار دون رغبة حقيقية في التسليم أو التسلم حيث يقتصر التسليم والتسلم في أغلب هذه الصفقات على فروق الأسعار فحسب.(1/194)
ومن العقود الآجلة ما يكون باتا لازما للمتعاقدين، ومنها ما يكون مشتملا على خيارات متعددة حسب نوع كل عقد، ويميز هذه العقود المشتملة على الخيار أنها تلزم من له الخيار بدفع تعويض للطرف الآخر إذا استفاد من هذا الشرط.
ولتعبير المضاربة في عالم البورصة معنى يختلف عن معناه في محيط الفقه الإسلامي.
فالمضاربة في الفقه الإسلامي: دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه، فهي عقد يحقق التكامل بين من يملك المال ولا يحسن التجارة وبين من يحسن التجارة ولا يملك المال.
والمضاربة في عالم البورصة هي المخاطرة بالبيع والشراء بناء على التوقع ـ توقع تقلبات الأسعار - بغية الحصول على فارق الأسعار.
ثانياً: من حيث الموضوع:
تنقسم العقود في البورصة من حيث الموضوع إلى قسمين:
عقود تقع على السلع والبضائع.
وأخرى تقع على الأوراق المالية.
وفي بورصة البضائع - التي تكون غالبا من المنتجات الطبيعية لا تكون البضائع حاضرة وإنما تجري المبادلات وفقا لنماذج معينة أو بناء على تسمية صنف متفق عليه سلفا.
وبورصة الأوراق المالية يقصد بها الأسهم والسندات، ومعظم عقود البورصة يكون محلها هذه الأوراق.
والسند صك يتضمن تعهدا من مُصْدِره ـ مصرفا كان أو شركة ـ لحامله بسداد مبلغ مقرر في تاريخ معين نظير فائدة ثابتة لا علاقة لها بتقلبات الأسعار.
أما الأسهم فهي حصص في رأس المال الشركة متساوية القيمة قابلة للتداول بالطرق التجارية تختلف قيمتها من وقت لآخر حسب أرباح الشركة أو خسارتها.
الآثار الإيجابية للبورصة:
تتمثل الجوانب الإيجابية للبورصة فيما يلي:
أولاً: أنها تقيم سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسندات والبضائع.
ثانياً: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية والحكومية عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع.(1/195)
ثالثاً: أنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض للغير والانتفاع بقيمتها لأن الشركات المصدرة لها لا تصفي قيمتها لأصحابها.
رابعاً: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب.
الآثار السلبية للبورصة:
أما الجوانب السلبية للبورصة فإنها تتمثل فيما يلي:
أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معظمها بيعا حقيقيا، ولا شراء حقيقيا، لأنها لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعا.
ثانياً: أن البائع فيها غالبا يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد كما هو الشرط في السلم.
ثالثاً: أن المشتري فيها غالبا يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضا لآخر قبل قبضه، وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تماما.
رابعاً: ما يقوم به الممولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج.(1/196)
خامساً: إن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة، لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها، وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعا، لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً.
وعلي سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضا في سوق البضائع.
ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلا كبيرا بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة من تاريخ العالم الاقتصادي ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد، حتى إنه في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، وبوقت سريع، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.
الأحكام الشرعية لعقود البورصة:
سبق أن عقود البورصة منها ما هو عاجل قطعي بات ومنها ما هو آجل بشرط التعويض، كما أنها من حيث محلها منها ما يكون محله السلع والبضائع ومنها ما يكون محله الأوراق المالية من الأسهم والسندات.(1/197)
ولما كانت العقود متنوعة على هذا النحو فإنه لا يمكن إعطاء حكم شرعي واحد عام بشأنها بل لابد من التفصيل وبيان أحكام كل عقد على حدة.
ولقد كان تفصيل الأمر وإعطاء كل نوع حكمه هو الذي انتهي إليه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة عام 1404هـ بمكة المكرمة فقد نص في هذا الصدد على ما يلي:
أولا: أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعا وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو محتاج إلى الشراء.
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعا، والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة.
ثانيا: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعا هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودا على محرم شرعا، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثا: أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعا، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعا كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعا وشراء.
رابعا: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة بمختلف أنواعها غير جائزة شرعا، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم.(1/198)
خامسا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعا لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمادا على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد، وهذا منهي عنه شرعا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبع ما ليس عندك))(1)، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود(2) بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)).
سادسا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
أ - في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
ب - في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول، وقبل أن يحوزها المشتري الأول، عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.
(2) المسند (5/ 191)، أبو داود 3493.(1/199)
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسئولين في البلاد الإسلامية أن لا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أم محرمة، وأن لا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعا ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين، لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالى:
{ ?????? ?????? ???????? ???????????? ????????????? ? ???? ??????? ??? ????????? ?????????? ?????? ??? ?????????? ? ????????? ???????? ????? ?????????? ????? ??? } [الأنعام: 153].
والله سبحانه وهو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلي الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثانياً : بطاقات الائتمان
تعريف بطاقات الائتمان.
التعريف اللغوي :
تطلق كلمة بطاقة في اللغة على الرقعة الصغيرة من الورق وغيره يكتب عليها بيان ما تعلق عليه، وتطلق كلمة ائتمان في اللغة على حالة الطمأنينة والثقة المتبادلة(1) وفي العرف الاقتصادي على معنى الإقراض وهو من قبيل افتراض ثقة المقرض في أمانة المقترض وصدقه ولذلك منحه أجلا للوفاء بدينه.
التعريف الاصطلاحي :
__________
(1) وفي فقه المعاملات تشيع كلمة استئمان ( وليس ائتمان ) ويراد بها : جعل يد الغير على ماله يد أمانة فلا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي ، وعقد الاستئمان عند الفقهاء هو عقد الاسترسال والاستسلام وهو أن يقول الرجل : اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس فإني لا أعلم القيمة ، فيشتري منه بما يعطيه من الثمن .(1/200)
بطاقة الائتمان هي: البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من السلع أو الخدمات ديناً(1).
فإذا أردنا ترجمة مباشرة لهذه الكلمة [بطاقات الائتمان] فهي [بطاقات الإقراض] أو البطاقات التي تتيح لحاملها الحصول على قرض.
أنواع بطاقات الائتمان:
بطاقات الائتمان جزء من بطاقات المعاملات المالية، وتنقسم بطاقات
الائتمان إلى قسمين :
- بطاقات ائتمان قرضية غير متجددة CHARGE CARD(2)
__________
(1) هذا هو تعريف معجم أكسفورد مع إضافة يسيرة فقد عرفها بأنها : البطاقة الصادرة من البنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من البضائع دينا .
وعرفها المعجم الاقتصادي العربي بأنها : " بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من أماكن ومحلات معينة عند تقديمه لهذه البطاقة ، ويقوم بائع السلع أو الخدمات بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف – مصدر الائتمان – فيسدد قيمتها له ، ويقدم المصرف للعميل كشفا شهريا بإجمالي القيمة لتسديدها ، أو لخصمها من حسابه الجاري لطرفه " أحمد زكي بدوي ، معجم المصطلحات التجارية والتعاونية : عربي – إنجليزي –فرنسي، بيروت : دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، 1984 م ، ص 62 .
كما عرفها مجمع الفقه الإسلامي بأنها : " مستند يعطيه مصدره ، لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع ، أو الخدمات ممن يعتمد المستند ، دون دفع المستند حالا ، لتضمنه التزام المصدر بالدفع ، ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقوده من المصارف " مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، ع 7 ، ج 1 ، 1412 هـ _ 1992 م ، ص 717.
(2) * وكلمة CHARGE في المعجم الإنجليزي تعني الشراء بالدين أو على الحساب(1/201)
وأهم ما يميز هذه البطاقات وجوب سداد مسحوبات حاملها عليها بالكامل خلال فترة سماح معينة لا تتعدى في الغالب ثلاثين يوما وقد تصل إلى شهرين، فإذا تأخر حاملها عن الوفاء في هذه الفترة لزمته غرامة تأخير فإذا ماطل ألغيت عضويته وسحبت منه البطاقة واتخذت ضده إجراءات المطالبة القضائية.
... - بطاقات ائتمان قرضيه متجددة REVOLVING CREDIT
وهي الأكثر انتشارا في الدول المتقدمة وهذه يخير صاحبها بين سداد مسحوباته عليها بالكامل خلال فترة السماح أو سداد جزء منها وتأجيل الباقي إلى الفاتورة المقبلة، وعند التأخير تفرض عليه فائدتان : إحداهما على التأخير والأخرى على المبلغ غير المسدد، أما إذا سدد جزءا من الفاتورة في الميقات المحدد لزمته فائدة التأجيل فحسب، وليس للمسحوبات عليها حد أعلى ما دام صاحبها مستمرا في السداد الجزئي للديون والفوائد.
- بطاقات غير ائتمانية : [ غير قرضية ] DEBIT CARD
وهي بطاقات لا تنطوي على تقديم قروض لحاملها، وأهم هذه البطاقات نوعان:
أ – بطاقات الخصم الفوري أو البطاقة المدينة :
وهي بطاقات تصدرها البنوك مع المنظمات العالمية الراعية لبطاقات الائتمان وهي التي تقتطع من الحساب مباشرة ليتم تحويل قيمة مسحوباتها من حساب حاملها إلى التاجر مباشرة، ويكون إصدارها مشروطا بوجود حساب للعميل لدى البنك المصدر، فإن كانت البطاقة على الخط ONE LINE DEBIT تم التحويل في نفس اليوم، وإن كانت خارج الخط OF LINE DEBIT استغرق التحويل عدة أيام، وهذه البطاقة لا تقدم لحاملها ولا تتيح له أن يتعامل خارج إمكاناته المتوافرة فعلا في حسابه.
فالبنك المصدر لها لا يدفع قيمة المبالغ من عنده إلى التجار ليحصلها من حاملي البطاقات كما هو الشأن في بطاقات الائتمان وإنما يقتصر عمله على خصمها من رصيد حاملها إلى حساب التاجر، فهي أشبه بالشيكات المصرفية وهي شائعة الاستعمال في الدول النامية التي تحرص على ضبط الاستهلاك وتشجيع الادخار.(1/202)
ب – بطاقة الحساب الجاري :
وهي بطاقة يمنحها البنك لعملائه مجانا بمجرد فتح حساب جار لديه ليتمكن بها العميل من التصرف في رصيده الدائن في أي وقت عبر أجهزة الصرف الآلي ونقاط البيع، فتتيح له السحب النقدي وتحويل الأموال بين الحسابات المختلفة والاستفسار عن الرصيد وتسديد قيمة مشترياته ... الخ وهي تجدد تلقائيا طالما استمر حساب العميل مفتوحا لدى البنك.
التخريجات الفقهية لبطاقات الائتمان :
لا يخفى أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وعلى قدر دقة فهمنا للعلاقات التي تنشئها بطاقات الائتمان تكون دقتنا في تخريجها على العقود المعروفة في الفقه الإسلامي، وبيان أحكامها الشرعية حلا وحرمة، وتحديد البدائل الشرعية فيما ينتهي النظر إلى تحريمه منها.
وبطاقات الائتمان تنشئ ثلاث علاقات نتحدث عنها على التوالي فيما يلي:
أولا : العلاقات بين مصدر البطاقة وحاملها ( عقد إصدار البطاقة ):
وقد كثرت التخريجات الفقهية لهذه العلاقة وتشعب النظر فيها داخل أروقة المجامع الفقهية من كونها قرضاً من المصدر لحاملها أو وكالة عنه في أداء التزاماته قبل الغير أو كفالة له قبل الآخرين.
ولعل الجمع بين الكفالة والإقراض والوكالة هو الأقرب إلى النظر في تخريج هذا العقد لأن هذا هو المقصود الأصلي لهذه البطاقة فهي قبل الاستخدام كفالة ووعد بالقرض والوكالة فإذا ما استخدمت فعلا وقام المصدر بالسداد نيابة عن العميل فقد تحقق هذا الوعد وأصبح القرض والوكالة حقيقة واقعة.
ثانيا: العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر :(1/203)
لقد كثرت التخريجات الفقهية لهذه العلاقة بين كونها شبيهة بخصم الأوراق التجارية، إلى كونها علاقة كفالة، أي: أن الجهة المصدرة قد كفلت للتاجر أن تدفع له قيمة مبيعات بهذه البطاقة، إلى كونها وكالة بأجر، إلى كونها علاقة سمسرة، بل إن من الناس من خرجها على أنها علاقة بيع فجعل مصدر البطاقة هو المشتري الحقيقي لهذه البضائع ثم يعيد بيعها للعميل فتكون قريبة الشبه ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
ولعل أظهر هذه التخريجات هو تخريجها على أساس الكفالة والوكالة وهو تخريج يفتح الباب لمشروعية العمولة أو نسبة الخصم التي يتقاضاها البنك في هذه الحالة لأن الأجرة الممنوعة في الكفالة هي التي تكون من المكفول عنه إلى الكفيل، وهي هنا من المكفول له وهو التاجر إلى الكفيل، أما الأجرة في الوكالة فهي جائزة في جميع الأحوال.
ثالثا : العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر :
ترددت التخريجات الفقهية لهذا العلاقة بين كونها علاقة حوالة حيث أحال حاملها التاجر على ملئ وهو الجهة المصدرة. وتتحقق هذه الحوالة بتوقيعه على فاتورة الشراء، أو كونها علاقة بيع أو إجارة عادية بحيث تصنف العقود بحسبها بيعا أو إجارة بحسب المعقود عليه ثم تنتقل مسؤولية المطالبة بالقيمة إلى مصدر البطاقة الذي ضمن تسديد ما يسحب عليها من أثمان أو أجور.
التكييف الإجمالي لبطاقات الائتمان :
لعل أقرب تخريج إجمالي لبطاقات الائتمان أنها عقد مركب من جملة عقود.
العلاقة الأولى :
فهي في العلاقة بين مصدرها وحاملها تتكون من ثلاثة عقود : الكفالة، والإقراض والوكالة : فالجهة المصدرة قد كفلت حامل البطاقة أمام التجار وأقرضته قيمة مسحوباته على البطاقة، وحامل البطاقة وكلها في الوفاء بهذه القيمة إلى التاجر
العلاقة الثانية :(1/204)
وفي العلاقة بين مصدرها والتاجر تتكون من عقدين أيضا : الضمان والوكالة، فالجهة المصدرة قد ضمنت للتاجر الوفاء بمستحقاته قبل حامل البطاقة، كما أنها قامت بتحصيل هذه المستحقات للتاجر من قبل حاملي هذه البطاقات ووضعها في حسابه بعد خصم نسبة العمولة المتفق عليها.
العلاقة الثالثة:
وفي العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر يحكمها البيع أو الإجارة بحسب طبيعة المعقود عليه بينهما بالإضافة إلى الحوالة حيث أحال حاملها التاجر على جهة إصدار البطاقة.
الأحكام الشرعية لبطاقات الائتمان.
تثير بطاقات الائتمان العديد من المشكلات الشرعية نذكر منها :
أ- الشرط الربوي
فعقود إصدار هذه البطاقات تتضمن في الغالب نصوصا ربوية تقضي بوجوب دفع فوائد ربوية أو غرامات مالية عند التأخر عن السداد، فما أثر هذه العقود على صحة ومشروعية بطاقات الائتمان ؟
انقسم الفقه المعاصر عند نظره في هذه البطاقات إلى قسمين :
... القسم الأول : قسم يرى الجواز- صحة العقد وبطلان الشرط - متى غلب على ظن المتعامل قدرته على التحوط من الوقوع تحت طائلة هذا الشرط، لأن هذا الشرط الفاسد في معرض الإلغاء شرعا، وهو مستنكر ومعمول على استبعاد مفعوله ومستند هؤلاء ما يلي :
من السنة: ...
... - قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عندما أرادت أن تشتري بريرة فأبى أصحابها بيعها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم – وهو شرط على خلاف الشرع لأن الولاء شرعا لمن أعتق فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : (( خذيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق))(1) ومعنى الحديث لا تبالي لأن اشتراطهم مخالف للحق، فلا يكون ذلك للإباحة، بل المقصود الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط لأن وجوده كعدمه.
__________
(1)
( ) البخاري كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل رقم 2168 وباب الشراء والبيع مع النساء رقم 2155، وانظر رقم 2536، 2562، 6752، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق رقم 1504.(1/205)
ويفهم من هذا إذا تعنت أحد بفرض شرط مخالف للشرع فيما تعم الحاجة إليه من العقود وأبى إبرام العقد إلا على هذا الشرط الفاسد فلا تتعطل هذه العقود بسبب هذا التعنت، ولا يفتى بعدم مشروعيتها بل تجرى رغم ذلك ويجتهد على إبطال هذا الشرط الفاسد إما من خلال السلطان أو التحوط في عدم الوقوع تحت طائلته عند خلو الزمان من السلطان القائم على أمر الله.
... - ما عمت به البلوى في كثير من البلاد من تضمن عقود الكهرباء والهاتف وغيرها نصوصا مماثلة، بحيث إذا تخلف المشترك عن السداد تعرض لتطبيق هذه الغرامات عليه، ولم يقل أحد بحرمة الاشتراك في هذه المرافق نظرا لوجود هذه الشروط.
... - إن القرض لا يفسد بفساد الشروط، بل تبطل الشروط ويصح عقد القرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( ما بال أقوامٍ يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط))(1)
القسم الثاني : يرى المنع - بطلان العقد- وهو صريح مذهب المالكية والشافعية.
... - ويناقشون استدلال الفريق الأول بحادثة بريرة بأن القياس فيه مع الفارق لوجود القدرة على إبطال هذا الشرط في واقعة بريرة لمخالفته للشريعة في واقع قام على سيادة الشريعة وتتولى دولته حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فأين هذا من واقع الشرط الربوي في بطاقات الائتمان وهو اشتراط يعتمد على مرجعية علمانية قامت ابتداء على فصل الدين عن الدولة والكفر بمرجعية الشريعة المطهرة في علاقة الدين بالحياة؟ !
... كما ناقشوا القياس على عقود الكهرباء والهاتف بشدة الحاجة إلى هذه المرافق وتعلق مرافق الأمة الحيوية بها.
والأمر في بطاقات الائتمان أدنى من ذلك، فقد يستطيع الإنسان أن يحيا حياته بصورة طبيعية أو شبه طبيعية بدون بطاقات الائتمان، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بدون هاتف وكهرباء.
__________
(1) هو حديث بريرة المتقدم آنفاً صفحة 248.(1/206)
والذي يترجح لدينا انتفاء الحرج عمن غلب على ظنه قدرته على الوفاء في مدة السماح وبالتالي عدم الوقوع تحت طائلة هذا الشرط وبذل من الأسباب ما يمكنه من ذلك.
ثانياً: النسبة التي يقتطعها مصدر البطاقة من التاجر:
فمن المعلوم من هذه البطاقات أن الجهة المصدرة لها لا تدفع للتاجر نفس القيمة المثبتة في فواتيرهم، وإنما تقتطع منها نسبة يكون متفقاً عليها في العقد المبرم بينها وبين التاجر، فما التخريج الشرعي المناسب لهذه النسبة المقتطعة ؟
لقد اختلف الفقه المعاصر في تخريجه لهذه النسبة :
... فمنهم من خرجها على أنها عمولة مقابل تحصيل الثمن من العميل، ولا بأس بأخذ أجر على تحصيل الدين أو توصيله.
... ومنهم من خرجها على أنها أجرة مقابل الخدمات التي يقوم بها البنك للتاجر كالدعاية والإعلان والتحصيل ونحوه، أو باعتبارها أمور سمسرة فالبنك قد جلب الزبائن للتاجر وأخذ أجرة مقابل ذلك.
... ومنهم من اعتبرها من قبيل المصالحة مع الدائن بأقل من المبلغ الذي التزم به المكفول باعتبار أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها علاقة كفالة، ومثل ذلك منصوص على جوازه عند الأحناف.
... ومنهم من رأى أنه لا ترد على هذه النسبة شبهة بالربا ابتداء لأننا أمام خصم ولسنا أمام زيادة فليس فيها ما يلحقها بالربا.
وأيا كان التخريج المختار فإن الفقه المعاصر مستقر على رفع الحرج عن هذه النسبة على أن تحدد هذه النسبة لتكون مقابل الخدمات المقدمة للتاجر، والمتمثلة في تحصيل فواتير الشراء، وجذب العملاء إليه، وتسهيل تعامله معهم، ويمكن لمصدر البطاقة وبنك التاجر أن يتقاسما هذه العمولة، لاشتراكهما في تقديم الخدمة للتاجر(1).
__________
(1) عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان ، بطاقات المعاملات المالية ، مرجع سابق ، ص 97 .(1/207)
وقد أجازت هذه العمولة الهيئة الشرعية لشركة الراجحي في فتواها رقم (4) فقد قررت أنها ( لا ترى مانعا من الحصول على نسبة من قيمة ما يشتريه حامل البطاقة، مادامت هذه النسبة تستقطع من ثمن خدمة أو سلعة، وقد تم التعارف على استقطاعها من البائع لصالح البنك الذي أصدر البطاقة وشركة الفيزا العالمية ).
كما ذهب إلى الجواز أيضا الفتوى الصادرة عن الهيئة الشرعية لكل من بيت التمويل الكويتي والبنك الإسلامي الأردني، حيث عدت ( العمولة التي يأخذها البنك من التاجر المتعامل بالبطاقة أجر وكالة على الوساطة بين التاجر وحامل البطاقة وما ينتج بسببها من ترويج التعامل معه، وتامين الزبائن وتحصيل الديون كما أنه لا يوجد أثر للضمان الذي يوجد في بعض الحالات، لأن العمولة لا تزداد مقابله، ولا ينظر للمبلغ المضمون ).
ثالثاً: الغرامات التأخيرية والفوائد الربوية
يفرض مصدرو بطاقات الائتمان غرامات مالية على التأخير في السداد أو تأجيل أو تقسيط المسحوبات المستحقة على البطاقة، وهذه الغرامات من الربا الصريح الذي لا يختلف فيه ولا يختلف عليه، فهو ربا النسيئة الذي تنزل القرآن لتحريمه وآذن أصحابه بحرب من الله ورسوله.
كيف تعالج مشكلة التأخر عن السداد ؟
لقد سبق أن الفوائد والغرامات التأخيرية على القروض هي صريح الربا الجاهلي المحرم وأنه لا سبيل للمصارف الإسلامية إليها بحال من الأحوال، فكيف يمكن أن تعالج مشكلة التأخر عن السداد في الإطار الإسلامي ؟
توجد بعض الحلول البديلة من الفوائد الربوية والغرامات التأخيرية نذكر منها:
إنظار المدين إذا كان معسرا، أو إلغاء العضوية وسحب البطاقة ثم اللجوء إلى القضاء وتحميله مصروفات الخصومة، أو نشر اسم العميل في قائمة سوداء تعمم على المصارف ردعا له وزجرا لأمثاله ... الخ.
هل يجوز شراء الذهب والفضة ببطاقات الائتمان ؟(1/208)
الذهب والفضة لا يباعان إلا مناجزة (( يد بيد)) فالتقابض الفوري شرط في صحة هذه المعاملة لقوله صلى الله عليه وسلم : ))الذهب بالذهب والفضة بالفضة سواء بسواء يدا بيد ... فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) فهل يجوز شراء الذهب والفضة ببطاقات الائتمان ؟
لقد سبق أن القبض هو إثبات اليد، وأنه مطلق في الشرع يرجع في تحديده إلى العرف، وقد أجمع مجمع الفقه الإسلامي بجواز شراء الذهب والفضة بالشيكات المصدقة على أن يتم التقابض في المجلس، واعتبر تسليم الشيك المصدق بمثابة التسليم الفوري للمبلغ، ولما كانت قسيمة الدفع تخول للتاجر الحصول الفوري على المبلغ عند تقديمها للبنك الذي يتعامل به التاجر فإن قبض القسيمة يحقق التقابض المنشود في بيع الذهب والفضة.
وعلى هذا فالبطاقة التي يتحقق فيها القبض الفوري يمكن استخدامها في شراء الذهب والفضة والتي لا يتحقق فيها ذلك لا يشرع استخدامها(1).
الصرف في بطاقات الائتمان :
الأصل في بطاقات الائتمان أنها بطاقات عالمية وأن حاملها يستطيع استخدامها في أي دولة من الدول، فإذا قام بالسحب بعملة أجنبية تختلف عن العملة التي نص العقد على التحاسب بها فإن مصدر البطاقة يسدد بالعملة الأجنبية ثم يرجع على عمليه بالعملة المحلية باستخدام سعر صرف ينص عليه في الاتفاقية، فهل يجوز استيفاء الدين بعملة خلاف العملة التي حدث بها ؟
__________
(1) لبائع الذهب طريقان لتحصيل قيمة الذهب من العميل صاحب البطاقة :
(أ) استخدام الجهاز الآلي " الدفع السريع " وذلك بتمرير البطاقة في هذا الجهاز الذي يقوم على الفور بسلسلة من العمليات الفورية الآلية التي تنتهي بتحويل قيمة هذه المبيعات إلى حساب التاجر .
(ب) استعمال الجهاز اليدوي ويستغرق قيامه بهذه العمليات وقتا لا يقل عن ثلاثة أيام ، كما أن تحويل المبلغ إلى حساب التاجر مرهون بتقديمه لفواتير البيع إلى الجهة المصدرة للبطاقة .(1/209)
لا يخفى أن التقابض الفوري شرط في صحة الصرف لقوله صلى الله عليه وسلم: (( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )).
وتجوز المصارفة على ما في الذمة إذا كان بالسعر الحاضر إذا تفرق الطرفان وليس بينهما شئ، أي بشرط ألا يبقى شيء في الذمة لأحدهما.
والمصارفة على ما في الذمة قد تكون بين بدل في الذمة وبين حاضر، أو بين بديلين في الذمة وتسمى في هذه الحالة ( مقاصة أو تطارح الدينين) فتكون المقاصة في حدود البدل الأصغر ويسدد الباقي بالعملة الأخرى على أن يتفرقا وليس بينهما شيء.
والأصل في هذا حديث ابن عمر : كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالذهب وأقضي بالورق أو أبيع بالورق وأقضي بالذهب، فسألت في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( لا بأس إذا كان بسعر يومكما إذا تفرقتما وليس بينكما شيء )).
وعلى هذا فلا بأس بهذه العملية على أن تتم المحاسبة على أساس سعر الصرف يوم التسوية أو المقاصة، أي: يوم الخصم من الحساب الجاري لحامل البطاقة.
عمولات السحب النقدي :
من البطاقات ما يمكن العميل من السحب النقدي من حسابه لدى البنك، وقد جرت عادة البنوك على احتساب عمولة لها من هذه العمليات،
فما مدى شرعية هذه العمولات ؟
لقد اختلف الفقه المعاصر في حكمه على هذه العمولات بناء على اختلافه في كونها مجرد سحب من حساب العميل أم إقراض له.(1/210)
... فمنهم من يرى جواز هذه العمولات لأنها لا تعدو أن تكون أجراً مقابل توصيل أموال العميل من حسابه إلى المناطق التي يستخدم فيها البطاقة وما يقتضيه ذلك من نفقات ومصروفات، فهي أجر تحويل العمولات من بلد إلى بلد إلا أنه تحويل معكوس حيث تقوم البنوك الوكيلة لشركة البطاقة بدفع النقود أولا ثم تسترد من العميل ثانيا تحقيقا للفورية المطلوبة في هذه العملية، والأجل المتخلل بين القبض والتسديد ليس مقصودا في هذه العملية ولا هو من صميمها، وهذا الذي أخذ به بنك التمويل الكويتي والبنك الإسلامي الأردني.
... ومنهم من يرى حرمة هذه العمولات لأن عملية السحب تعد إقراضا من قبل جهة البطاقة أو البنك الوكيل لحامل البطاقة فما يؤخذ مقابلها يكون من الربا المحرم، وهذا الذي أخذت به الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية.
... والذي يترجح لي هو التفرقة بين وضعين :
عندما تكون العملية سحبا من حساب العميل فما يؤخذ مقابلها يكون عمولة مشروعة.
وعندما تكون إقراضا له فما يؤخذ مقابلها يكون ربا محرما، والله اعلم.
ولا يخفى أن الحرمة في هذه الحالة إنما تتعلق بالجهة المصدرة للبطاقة وبين البنك الوكيل، أما العميل فهو في كل حالاته يسحب من أمواله المودعة لدى جهة البطاقة، والعمولة التي يتحملها إنما تكون مقابل ما تتجشمه هذه الجهة من جهد وما تتكلفه من نفقة بمناسبة قيامها بهذا العمل، ولا علاقة له بما يدور بين الجهة المصدرة وبين البنك الوكيل.
ثالثاً : حقوق التأليف
ويقصد بها مجموع الامتيازات التي يحصل عليه المؤلف والتي تقوم بالمال، ويطلق عليها أحياناً، الحقوق المعنوية أو الأدبية، أو الملكية الأدبية أو الفنية، أو الحقوق الذهنية.
والحق المالي للمؤلف هي القيمة المادية لمؤلفاته، وتتحدد بالمنافع والأرباح التجارية التي تتحقق من نشر المصنفات واستثمارها.(1/211)
ولم تبرز قضية حقوق التأليف في المجتمع الإسلامي في العصور المتقدمة رغم ازدهار التأليف وتشعب مجالاته لأن المؤلفين في العادة كانوا يحتسبون الأجر على الله عز وجل فيما يؤلفونه، وكان همهم إشاعة الانتفاع بمؤلفاتهم في كل مكان تقرباً إلى الله تعالى، وما كان يحصل لهم بسببها في بعض الأحيان من تقلد بعض المناصب أو نيل بعض الجوائز فهو إنما يحصل عرضا دون أن تتشوف له نفوسهم أو تتعلق به أفئدتهم.
وقد عرف التاريخ الإسلامي في عهوده الأولى وخلال ازدهار حركة التأليف في مختلف العلوم نظاماً لتسجيل المصنفات بأسماء أصحابها وسموه (التخليد) وكان أكبر مركز لتخليد المصنفات خلال هذه الفترة دار العلم ببغداد التي ذاع صيتها وسمعتها حتى قصدها الناس من كل مكان للتعرف على محتوياتها.
وقد أجاز العلماء المعاصرون الاعتياض عن حقوق التأليف انطلاقاً من أن للمؤلف حقاً متقرراً في محله، وأن القواعد الشرعية تقتضي حفظ الحقوق لأصحابها ومن ثم يمكن أن تنتقل إلى غيره بالوسائل الناقلة للملكية كالبيع والإرث ونحوه.
بيع حقوق التأليف :
اتفق المعاصرون من أهل العلم على أن حقوق التأليف مصونة شرعاً، وأن لأصحابها حق التصرف فيها، وأن ليس لأحد أن يعتدي عليها شريطة ألا يكون في هذه المؤلفات ما يخالف الشرع الحنيف وهذا هو ما انتهى إليه قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت عام 1409هـ الموافق 1988.
فالمؤلف هو الذي يمنح ويمنع حق الطبع، وهو الذي يحدد عدد النسخ المراد طبعها، ودار النشر التي تقوم على طباعة الكتاب وتوزيعه تكون بمثابة الوكيل عن المؤلف في استيفاء حقوقه من قبل المستفيدين.
الأدلة الشرعية على صحة بيع الحقوق المعنوية:(1/212)
أولاً: دليل الاستصلاح، فالقول بمالية حقوق التأليف وقابليتها للتداول يحقق مصلحة عامة وهو استمرار مسيرة البحث العلمي وتشجيع العلماء والباحثين وصيانة مؤلفاتهم وحقوقهم فيها من العبث، وقد جاءت الشريعة بتحقيق المصالح ودفع المفاسد وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.
ثانياً: دليل العرف، فوقوع هذا الأمر وتواطؤ الناس عليه دليل على تعارف الناس على جوازه، ولا يخفى أن للعرف أثراً في الحكم الشرعي إذا لم يصادم نصاً، فالإنتاج العلمي له مالية في نفسه منفصلة عن عقل منتجه، فهو حق متقرر وليس حقاً مجرداً، وهذا يعني قابليته للانتقال والمعاوضة وإلزام متلفه بالضمان والتعويض.
ثالثاً: ما نقل عن بعض المحدثين من القول بجواز أخذ الأجر على التحديث، فقد كان المحدثون يأذنون لمن شاءوا برواية أحاديثهم ويمنعون ذلك من شاءوا إذا لم يروهم أهلا للرواية، ونقل عن بعضهم جواز أخذ الأجر على التحديث قياساً على جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن.
قال ابن الصلاح: ( من أخذ على التحديث أجراً منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث... وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلى بن عبد العزيز المكي وآخرون في أخذ العوض على التحديث وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه، غير أن في هذا من حيث العرف خرماً للمروءة، والظن يساء بفاعله إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه كمثل ما ذكر أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك لأن أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز الأجرة على التحديث).(1)
وإذا كان العرف في ذلك الزمن يرى هذا الأمر من خوارم المروءة فقد يتغير العرف بتغير الزمان أو المكان فيترتب على ذلك تغير ما بني عليه من الأحكام.
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص235.(1/213)
رابعاً: القياس، فكما يتمتع الصانع والمنتج بحق التملك لما صنعه أو أنتجه والخيار في إتاحة الفرصة للاستفادة بإنتاجه أو منع ذلك فكذلك المؤلف بجامع أن كلا منهما قد حبس نفسه على هذا الأمر مبذل في إعداده الجهد والوقت والمال.
خامساً: قاعدة الذرائع، فإن القول بمشروعية بيع حقوق التأليف يتضمن تشجيع المفكرين والعلماء على زيادة الإنتاج والبحث العلمي، ويشحذ هممهم على الإبداع والتجديد لا سيما وقد لا يكون لبعضهم أو لأكثرهم مصدر للمعاش سواه، كما أن إبطال الصفة المالية لحق التأليف يؤدي إلى انصرافهم عن هذا العمل إلى تحصيل المعاش الأمر الذي يؤدي إلى حرمان الأمة من ثمرات إبداعهم وإماتة الباعث على التأليف لدى كثير من الباحثين وفي هذا فساد ظاهر.
سادساً: أن مناط إثبات المالية هو المنفعة المباحة شرعاً، ومنافع الإنتاج العلمي بالنسبة لحاضر الأمة ومستقبلها ظاهرة، وإذا كان أهل العلم قد نصوا على مالية المنافع الناشئة عن بعض الحيوانات كالديدان مثلاً أو
تغريد العصافير أو صوت الببغاوات فأولى أن تكون المنفعة الناشئة عن التأليف عائدة إلى أصحابها وهي المنفعة الأولى بالرعاية لمردودها الأوفر وفائدتها الأعظم.
انتقال حقوق التأليف بالإرث:
إذا ثبتت الصفة المالية لحق التأليف وجواز انتقاله بالبيع فإنه يجوز انتقاله كذلك بالإرث، فيورث عن المؤلف حقه في أخذ العوض على ما ألفه، فحق التأليف من الحقوق المتقررة في محلها ومحلها هو الكتاب، وهذا النوع من الحقوق ينتقل بالإرث.(1/214)
ويرى بعض أهل العلم أن أقصى مدة لاستغلال الورثة للحق الناشئ عن الإنتاج الفكري هي ستون عاماً من تاريخ وفاة مورثهم، وذلك قياساً على أقصى مدة للانتفاع عرفها الفقه، وهي الانتفاع بحق الحكر، وهو حق القرار على الأرض الموقوفة للغرس أو البناء بطريق الإجارة الطويلة، باعتبار أن أصل هذا القياس هو كون الإنتاج الفكري نسبي الابتكار ، لاعتماده على تراث السلف وهو حق عام للأمة بمثابة الموقوف على جهة عامة فيكون الإنتاج الفكري حقاً عاماً وعنصراً من تراثها على مر العصور.
صور استغلال المؤلف لحق التأليف:
حق التأليف حق ذو طبيعة خاصة، وقد تعارف الناس على تحديد مقدار المنفعة التي يحصل عليها الطابع أو الناشر بعدد النسخ التي يقع عليها التعاقد وتكون حيازته لها حيازة ملك لا حيازة أمانة، وليس في الشرع ما يمنع من اعتبار هذه الوسيلة فإن كل ما يعده الناس بيعاً فهو بيع، وما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى عن بيعه على ذلك الوجه.
وعلى هذا فإن المشتري للكتاب لا يملك من المنفعة إلا عدد هذه النسخ فيتحدد حقه في حدود ذلك المقدار فله أن يبيعه أو أن يتصرف فيه على أي وجه يشاء.
وليس للمؤلف أن يعطي حق نشر الكتاب لآخر خلال المدة المتفق عليها إلا إذا تنازل الناشر عن هذا الحق.
الخلاصة
قضايا معاصرة
البورصة:
سوق منظمة يجري فيها التعامل بشراء الأوراق المالية وفي الحاصلات الزراعية تضم سماسرة يعملون وسطاء بين البائعين والمشترين.
وتنقسم العقود في البورصة من حيث الزمن إلى: عقود عاجلة وأخرى آجلة، ومن حيث الموضوع إلى : عقود تقع على السلع والبضائع، وأخرى على الأوراق المالية.
الأحكام الشرعية لعقود البورصة:
العقود العاجلة على الأسهم حين تكون في ملك البائع عقود جائزة ما لم يكن موضوعها محرماً.
العقود العاجلة والآجلة على السندات بمختلف أنواعها غير جائزة لأنها معاملات ربوية.(1/215)
العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف على النحو الذي يجري في البورصة غير جائزة لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك ولا يصح تخريجها على عقد السلم لعدم تعجيل رأس المال.
بطاقات الائتمان:
وهي البطاقات الصادرة من البنك أو غيره وتخول لحاملها الحصول على حاجياته من السلع أو الخدمات دينا.
وبطاقات الائتمان نوعان: بطاقات ائتمان قرضية غير متجددة وأخرى متجددة، وإذا تأخر العميل عن الوفاء في الأولى ألغيت عضويته وسحبت منه البطاقة وتعرض للمساءلة القضائية، أما إذا تأخر عن السداد في الثانية فرضت عليه فائدتان: إحداها على التأخير والأخرى على التأجيل ويستمر سريان البطاقة.
تخريج بطاقات الائتمان:
تنشئ بطاقات الائتمان ثلاث علاقات:
- العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها، وأقرب تخريج لهذه العلاقة أنها كفالة وإقراض ووكالة.
- العلاقة بين مُصدر البطاقة والتاجر وأظهر تخريج لها على أساس الوكالة والكفالة.
- العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر ويحكمها البيع أو الإجارة بحسب طبيعة المعقود عليه بينهما بالإضافة إلى الحوالة.
الحكم الشرعي لبطاقات الائتمان:
اختلف أهل العلم في الحكم الشرعي لبطاقات الائتمان بناء على اختلافهم في اثر ما تتضمنه من شرط ربوي فاسد على صحة العقد بها، ذلك أن عقود إصدار هذه البطاقات تتضمن في الغالب نصوصاً ربوية تقضي بوجوب دفع فوائد ربوية أو غرامات مالية عند التأخر في السداد.
فمنهم من يرى مشروعية هذه البطاقات وعدم اعتبار هذه الشروط لمن غلب على ظنه الأمن من الوقوع تحت طائلتها لأنها شروط في معرض الإلغاء شرعاً.
ومنهم من يرى عدم مشروعية هذه البطاقات نظراً لهذه الشروط.
أما النسبة التي يقتطعها مصدر البطاقة من التاجر فيمكن تخريجها على أنها عمولة مقابل تحصيل الثمن من العميل وقد أفتت بجوازها عدد من الهيئات الشرعية بالمعاصرة.
- يجوز شراء الذهب والفضة ببطاقات الائتمان التي يتحقق فيها القبض الفوري.(1/216)
- ولا باس بتسوية مسحوبات البطاقة بعملة أخرى على أن تتم المحاسبة على أساس سعر الصرف يوم التسوية أن يوم الخصم من الحساب الجاري لحامل البطاقة.
العمولات التي تحسبها البنوك على عمليات السحب النقدي بالبطاقة يختلف حكمها بحسب نوع البطاقة، فإن كانت البطاقة تسحب من حساب العميل مباشرة فهي عمولة لا حرج فيها، أما إن كان الحساب مكشوفاً أو كان نظام البطاقة يقوم على إقراض العميل خلال مدة معينة فهي زيادة ربوية محرمة.
حقوق التأليف :
ويقصد بها مجموع الامتيازات التي يحصل عليها المؤلف والتي تقوم بالمال، وقد اتفق المعاصرون من أهل العلم على أن حقوق التأليف مصونة شرعاً وأن لأصحابها حق التصرف فيها، وليس لأحد أن يعتدي عليها شريطة ألا يكون في هذه المؤلفات ما يخالف الشرع الحنيف.
- وتنتقل حقوق التأليف بالإرث، ويرى بعض أهل العلم أن أقصى مدة لاستغلال الورثة لحق التأليف ستون عاماً من تاريخ وفاة مورثهم قياساً على أقصى مدة للانتفاع عرفها الفقه الإسلامي.
الوحدة الثامنة
قيود الاستثمار
المصطلحات:
اللباس: كل ما علق بالبدن مما يلبس أو تعلق بالملبوس لنفسه بحيث يكون ظاهراً.
التمويه والطلاء: بمعنى واحد فتمويه الشيء طلاؤه بالذهب والفضة.
الربا: لغة: الزيادة والنمو.
واصطلاحاً: فضل مخصوص مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من العوض.
الفضل: الزيادة في الكمية في بيع الأموال التي حرم الله فيها التفاضل.
الزيادة: الأموال الربوية وما ألحق بها.
ربا البيوع: هو الذي يكون في بيع الأموال الربوية.
ربا الفضل: زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع الأموال الربوية.
ربا النسيئة: هو تأخر قبض أحد العوضين عن الآخر في بيع الأموال الربوية.
ربا الديون: هو الربا فيما تقرر في الذمة من بيع أو قرض أو نحو الزيادة في الدين نظير الزيادة في الأجل.
الكساد: هو عدم رواج العملة أي عدم تداولها وسقوط رواجها في البلاد كافة.(1/217)
الانقطاع: هو عدم وجود العملة في التعامل ولو كانت موجودة عند الصيارفة.
المطل: لغة: المدافعة والتسويف في قضاء الدين.
اصطلاحاً: هو تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.
الغرر: لغة: المجهل والخطر
واصطلاحاً: يدور حول جهل بالعاقبة أو التردد بين السلامة والعطب.
النجش: أن يزيد في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ليغر المشتري بذلك.
قيود الاستثمار
تمهيد:
للاستثمار - في إطار الشريعة - ضوابطه وقيوده الشرعية، فقد تعبد الله عباده بالسعي في الأرض والمشي في مناكبها طلبا لرزقه وابتغاء لفضله، وقد شرع لهم في سعيهم هذا من المحددات والضوابط ما يكفل لهم سعيا نظيفا مباركا لا تسيطر عليه الأنانية، ولا تقود زمامه الأهواء الجامحة، وإنما يعرف كل إنسان فيه حقه وواجبه، فيبذل واجبه عن طيب نفس، ويلتمس حقه بنبل وخُلُقٍ.
فإذا كان المستثمر الغربي مثلا يلهث وراء الربح، ويستهويه بريقه -أنى عرض له ـ ضاربا عرض الحائط بكل القيم والموازين بحيث يستجيز أن يغلق مشروعا يقوم على إنتاج الخبز مستعيضا عنه بمرقص ليلي تدار فيه الكئوس وتلعب الخمر فيه بالرءوس، ويكون مرتعا لأهل الفجور والخنا، لما ينتظره من ذلك المشروع الأخير من عائد عريض يشبع نهمته ويطفئ سعاره، وسحقا لطلاب الخبز بعد ذلك.!
إذا كان هذا هو حال المستثمر الغربي فقد حمى الله المستثمر المسلم من التردي إلى مثل هذه المخازي والمهالك، فهو لا يطل على عالم الاقتصاد إلا من خلال منظوره الإسلامي الذي يقول له: هذا حلال وهذا حرام، هذا يرضي الله وهذا يسخطه، فهو يدين بألوهية الله في الأرض وفي السماء، في المتجر والمعبد، في المصنع والمزرع، في بيعه وشرائه، في حله وترحاله، لا يعرف فِصَامًا نَكِدًا بين الدين والدنيا، ولا يري في دِينِهِ خطا مهملا في هامش حياته كما يراه كذلك أغلب من كفر بالله!(1/218)
فليس للمستثمر المسلم إذن أن يتجر في المحرمات، وليس له أن يتعامل بالربا، وليس له أن يتعامل بالعقود الفاسدة كالعقود المشتملة على الربا والغرر ونحوه، وليس له أن يغش ولا أن يغدر ولا أن يحتكر احتكارا يضر بالآخرين، وليس له التورط في عقود تتضمن إعانة على معصية الله عز وجل.
وقد عقدنا هذا الفصل للحديث عن بعض هذه المعالم التي تمثل قيودا على حركة المستثمر المسلم تكفل لاستثماره النقاء والطهر، وتنأى به عن أن يكون أداة لتخريب العلائق وإشاعة العداوة والبغضاء في أوساط المجتمع المسلم.
وسوف نتناول في هذا الفصل المباحث الآتية:
المبحث الأول: النهي عن الاتجار في المحرمات.
المبحث الثاني: النهي عن الربا وقطع الذريعة إليه.
المبحث الثالث: النهي عن الغرر.
المبحث الرابع: الاحتكار.
المبحث الخامس: النهي عن حرمة الغش والتدليس والغبن الفاحش.
المبحث السادس: تحريم كل بيع أعان على معصية.
المبحث الأول : النهي عن الاتجار في المحرمات
سبق أن الأصل في البيوع الحل إلا ما ورد الدليل بتحريمه، لقوله تعالى { ???????? ???? ?????????? ???????? ???????????? } [البقرة: 275] وقد وردت النصوص بتحريم كثير من البيوعات كالخمر والميتة والخنزير ونحوه، ولا يخفى أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وحرم ما يتولد عنه من ربح باعتباره كسبا خبيثا تولد عن عقود فاسدة، ومن النصوص الواردة في ذلك:
- ما رواه جابر : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الله حرم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير، والأصنام)) ... وفيه : قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه وأكلوا ثمنه.(1)
__________
(1) البخاري في البيوع، باب بيع الميتة والأصنام رقم 2236،ومسلم في المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام رقم 1581.(1/219)
- وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه.))(1)
- وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( هل علمت أن الله قد حرمها؟ )) قال: لا، فَسَارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بم سَارَرْتَهُ؟ )) فقال: أمرته ببيعها، فقال: (( إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) قال: ففتح المزَادَةَ حتى ذهب ما فيها .(2)
- وعن عائشة رضي الله عنها: لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( حرمت التجارة في الخمر)).(3)
- وروى الشيخان عن ابن عباس قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا، فقال: قاتل الله فلانا! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) ومعنى جملوها أي أذابوها.
والأعيان المحرمة ليست بمتقومة شرعا، لأن التقويم إنما يثبت بإباحة الشارع لا بحيازة الناس أو تمولهم.
ولا يخفى أن هذا الأمر مما تميز به الاقتصاد الإسلامي، فإن الاقتصاد الوضعي لا يفرق بين طيب وخبيث، ويتساوى في نظره مشروع قمار ومشروع إعمار لأنه يُخْرِجُ القيمَ من منظومة حساباته بالكلية.
التجارة في لباس الذهب والفضة:
__________
(1) أبو داود (3482)، وأحمد (1/ 247، 293، 322).
(2) مسلم في المساقاة، باب تحريم بيع الخمر (1579).
(3) البخاري في البيوع: باب تحريم التجارة في الخمر رقم (2226).(1/220)
ومما يتصل بالحديث عن التجارة في المحرمات أو في المشتبهات وتمس الحاجة إلى معرفته وتحقيق القول في متشابهة - ما شاع في واقعنا المعاصر من لبس الرجال للذهب سواء أكان ذهبا خالصا أو مموها وتحول ذلك إلى تجارة رائجة تجلب لأصحابها كثيرا من المال ، فما مدى مشروعية هذا الأمر ؟ وهل هو من المحكم القطعي الذي لا ينبغي أن يختلف عليه أو يختلف فيه، أم أنه من المشتبهات وموارد الاجتهاد؟ ذلك ما سننتصب لبيانه في الأسطر التالية.
المقصود باللباس :
يقصد باللباس في هذا المقام كل ما تعلق بالبدن مما يلبس، أو تعلق بالملبوس نفسه بحيث يكون ظاهرا. قال تعالى: { ????????? ??????? ???? ?????????? ?????????? ???????? ???????? ????????????? ???????? ? ????????? ?????? ???? ??????? ?????? } [الأعراف: 26].
وقال تعالى: { ????????????? ???????? ??????? ?????? ????????????? ????? ?????????? ? ?????? ??????? ?????????? } [الأنبياء:80].
واللبوس كل ما يلبس من ثياب أو درع.
تحريم الذهب الخالص على الرجال:
اتفق أهل العلم على تحريم الذهب الخالص على الرجال سواء أكان خاتما أم سوارا أم تاجا ونحوه، وذلك لورود الأدلة الصحيحة الصريحة التي تحرم ذلك وتتوعد فاعله، ومن هذه الأدلة:
- نهيه صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب ، فقد روى الشيخان(1) بسندهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب، وروى الشيخان - أيضا - عن البراء بن عازب قال: ((نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهي عن خاتم الذهب أو قال حلقة الذهب وعن الحرير والإستبرق والديباج والميثرة الحمراء والقَسِّيِّ وآنية الفضة)).(2)
__________
(1) البخاري في اللباس باب خواتيم الذهب (5864)، ومسلم في اللباس والزينة باب تحريم خاتم الذهب (2089).
(2) البخاري – الموضع نفسه – (5863)، ومسلم في اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2066).(1/221)
- قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي(1) وغيره عن أبي موسى الأشعري : ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم)).
- وما رواه النسائي وغيره(2) عن على بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال : (( إن هذين حرام على ذكور أُمَّتِي)).
وقد عَنْوَنَ المحدِّثون لهذا التحريم في كتبهم.
- ففي صحيح مسلم : باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام.
- وقي سنن النسائي : باب تحريم لبس الذهب ، وباب تحريم الذهب على الرجال.
- وفي سنن ابن ماجة : باب النهي عن خاتم الذهب.
تحلية اللباس بالذهب والفضة:
اختلف أهل العلم في تحلية اللباس بالذهب والفضة على عدة أقوال:
- فمنهم من أجازه إذا كان يسيرا وتابعا غيرَ مقصود وهو قول للحنفية.
- ومنهم من حدَّد هذا اليسير التابع بأن يكون أربع أصابع فما دونها.
- ومنهم من حرمه مطلقا وهو قول المالكية والشافعية.
- ومنهم من حرم التحلية بالذهب مطلقا وأجاز ذلك في يسير الفضة.
- ومنهم من حرم التحلية بالذهب مطلقا وأباح الفضة بلا حَدٍّ، وهو قول ابن حزم والغزالي وبعض الشافعية.
- ومنهم من أجاز يسير الذهب التابع لغيره إذا كان أربع أصابع فما دونها، وأطلق الإباحة في الفضة بلا حدود، وهو اختيار ابن تيمية ومن تابعه.
والذي يقتضيه النظر هو رجحان هذا القول الأخير وذلك لما يأتي:
أما إباحة يسير الذهب فللأدلة الآتية:
__________
(1) الترمذي (1720)، وقال: حسن صحيح، والنسائي (8/ 190)، وأعله الدارقطني في العلل (7/ 241).
(2) النسائي (8/ 160)، وأبو داود (4054)، وابن ماجة (3595)، وفي إسناده أبو أفلح الهمداني قال الذهبي صدوق وجهله ابن القطان.(1/222)
- ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي(1) من حديث معاوية رضي الله عنه (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مُقَطَّعًا)).
وقد اختلف في تفسير المقطع: هل هو الشيء اليسير نحو الخاتم للنساء والحلقة والقرط؟ أم هو اليسير التابع غيرُ المُفْرِدِ للرجال كالعلم والكفاف ونحوها؟
والذي يؤيد أن المقصود به اليسير التابع غير المفرد للرجال ما يلي:
- أن الذهب مباح للنساء مطلقا مقطعا كان أم غير مقطع.
- أن الروايات الأخرى للحديث ترجح أن المقصود به الرجال دون النساء لأنها جمعت بين الذهب والحرير، ومعلوم إباحتهما للنساء مطلقا فبقي النهي والاستثناء منه في حق الرجال، فقد روى النسائي عن معاوية رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير والذهب إلا مقطعا)) فقوله صلى الله عليه وسلم(( إلا مقطعا )) يعود على كل من الذهب والفضة ، وتوجيه النهي عن لبس الحرير للرجال وعن لبس الذهب للنساء تَحَكُّمٌ يرفضه السياق وترده العمومات القاضية بإباحة ذلك للنساء.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حكم الذهب والحرير واحدا في قوله صلى الله عليه وسلم(( حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم))(2) فجاز من الذهب التابع ما جاز من الحرير التابع، فالذهب أحد النوعين اللذَيْنِ قرن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهما على الذكور دون الإناث، فيكون الترخيص في اليسير من أحدهما ترخيصا في الآخر بدلالة المساواة.
- ما رواه الشيخان(3) من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (( نهي عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع)).
__________
(1) المسند (4/ 98)، أبو داود (4236)، النسائي (8/ 161)، وفي إسناده اختلاف.
(2) سبق آنفاً.
(3) البخاري في اللباس، باب لبس الحرير للرجال وما يجوز منه رقم (5828، 5829)، مسلم في اللباس باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة رقم (2069/ 12).(1/223)
- وما رواه مسلم(1) عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس جبة لها فرجان مكفوفان بالديباج.
ووجه الدلالة في هذين الحديثين أن كلا من العلم - الطراز - والكفاف قد أبيح في الثوب لكونه قليلا وتابعا غير مقصود ، وقد استو ى كل من الذهب والحرير في الحرمة، فالترخيص في العلم والكفاف من الحرير - ترخيصٌ في الذهب أيضا بدلالة المساواة .
- أن الشارع قد رخص في الكفاف،(2) والكفاف كما يكون من الحرير يكون من الذهب أيضا.
- أن العمومات السابقة التي استدل بها المانعون مخصصة بأحاديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعا كما خصصت عمومات النهي عن لبس الحرير بما جاء من الترخيص في موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع.
- أما الاستدلال بنهيه صلي الله عليه وسلم عن التختم بالذهب فمحمول على الذهب المفرد وليس على اليسير التابع توفيقا بين النصوص وإعمالا لدلالتها جميعا.
- وأما الاحتجاج بما يحمله التحلي بيسير الذهب من السرف والخيلاء فهو معقول في مقابلة نص فلا يستقيم ، ويمكن أن يقال إن ما بلغ من ذلك حد الزهو والخيلاء فإنه يمنع بدلالة النصوص العامة ويبقى ما عداه على أصل الجواز .
أما إباحة التحلي بالفضة وأنه لاحد للمباح فيها فذلك للأدلة الآتية:
- ما رواه أحمد وأبو داود(3) من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره بسوار من ذهب، ومن أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ، ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعبا، العبوا بها لعبا )) والمراد: اصنعوا بها ما شئتم.
والحبيب المراد في الحديث إنما هو الصبي وليست المرأة لأن الصغير هو الذي يُلْبَسُ غالبا والكبير يَلْبَسُ بنفسه.
__________
(1) الموضع السابق آنفاً (2069).
(2) الكفاف من كل شيء حرفه وما استدار به.
(3) المسند (4/ 414)، أبو داود (4233).(1/224)
ومن ناحية اللغة: فإن لفظ ((حبيبه)) الوارد في الحديث على وزن فعيل بمعنى مفعول، وهذه الصيغة إذا استعملت استعمال الأسماء بأن حذف موصوفها فإنه يلزمها لحوق التاء في حال التأنيث منعا من
اللبس، فلما لم تلحق بها التاء - دَلَّ على أنها لموصوف مذكر وليس لموصوف مؤنث .
- استصحاب البراءة الأصلية التي تقرر أن الأصل فيما خلقه الله تعالى هو الحل حتى يأتي ناقل عن هذا الحل إلى التحريم.
- ضعف قياس الفضة على الذهب في التحريم لأنه قياس ترده النصوص ، فقد جاءت السنة بإباحة الفضة للزينة مفردا كالخاتم وتابعا كحلية السيف، فكيف يصح القياس مع وجود مثل هذا الفرق؟
- ضعف إلحاق ثياب الفضة بالذهب بجامع تحريمهما في الآنية، لأن القياس هنا أيضا مع الفارق، فباب اللباس أوسع من باب الآنية، فإن لباس الذهب والفضة يباح للنساء بلا نزاع، ويباح للرجال ما يحتاج إليه من ذلك، ويباح يسير الذهب التابع لغيره، ويباح من الفضة كل من المفرد والتابع، ولم ترد مثل هذه التوسعة في باب الآنية.
أما حديث (( اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا))(1) فهو حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة فضلا عن معارضته للعمومات.
الألبسة المطلية بالذهب والفضة:
معنى التمويه والطلاء والفرق بينهما:
الجمهور على أن التمويه والطلاء بمعنى واحد، فتمويه الشيء طلاؤه بالذهب أو الفضة.
وفرق بينهما الحنابلة فقالوا : التمويه إلقاء الشيء في الفضة المذابة أو الذهب المذاب ليكتسب لونه ، أما الطلاء فهو جعل الذهب أو الفضة كالورق وتطلى أو تغلف به الأشياء .
حكم اللباس المموه بالذهب والفضة:
للفقهاء في ذلك قولان:
__________
(1) أبو داود (4220)، والترمذي (1786)، والنسائي (8/ 172)، وابن حبان (5488)، وضعفه الترمذي فقال: حديث غريب أ هـ. وتفرد به عبد الله بن مسلم أبو طيبة قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال البغوي إسناده غريب، شرح السنة (9/ 121).(1/225)
- القول الأول : هو الحرمة إلا إذا استحال لونه ولم يخلص منه شيء بعرضه على النار لزوال علة التحريم في هذه الحالة من السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهو القول المعتمد عند الحنابلة.
- القول الثاني: هو الجواز إذا لم يخلص منه شيء، وذلك لأن الطلاء تابع مُسْتَهْلَكٌ لا يخلص منه شيء، والمستهلَكُ كالعدم فلا عبرة لبقاء لونه، وهو مذهب الحنفية والمالكية والظاهر من قول الشافعية.
والذي يترجح لنا هو هذا القول الأخير بناء على ما سبق ترجيحه من إباحة اليسير التابع من الذهب وإباحة الفضة بلا حَدٍّ ، والله أعلم.
وعلي هذا:
- فإن ما كان من الذهب الخالص كالساعة مثلا فإنه يحرم على الرجال بلا نزاع، فإن كان من حلي النساء كالقلادة والأسورة ولبسه الرجال اجتمعت فيه علة أخرى للتحريم وهي التشبه بالنساء وأصحابها ملعونون على لسان رسول صلى الله عليه وسلم.
- وإن كان من الفضة الخالصة فلا حرج فيه في أرجح أقوال أهل العلم، وأولي منه بالحل ما كان مطليا بالفضة فحسب.
وما كان مطليا بالذهب أو فيه قطع يسيرة منه فإنه يباح في أرجح أقوال أهل العلم، فإن كثر دخل في نطاق التحريم والله أعلم .
تحلية لباس الصبيان:
ويراد بالصبي من لم يبلغ الحلم من الذكور، وقد اختلف أهل العلم في تحلية لباسهم بالذهب والفضة على قولين:
الأول: التحريم وهو المعتمد عند أبي حنيفة وأحمد.
ومن أدلتهم على ذلك:
- عموم الأدلة التي تقضي بحرمة الذهب والحرير على ذكور هذه الأمة ، ولم تخص بالتحريم سنا دون سن، ويكون الإثم على من ألبسهم لأنا أمرنا بحفظهم.
- وما رواه الشيخان(1)
__________
(1)
(
) البخاري في الزكاة، باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم رقم 1491، مسلم كتاب الزكاة باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 1069.(1/226)
من قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن على عندما أخذ تمرة من تمر الصدقة (( كخ كخ )) ليطرحها وقوله له بعد ذلك (( أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة )).
- ما رواه أبو داود(1) عن جابر من قوله : ((كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري)).
- ما روي من شق عمر وابن مسعود وحذيفة قميص الحرير على الصبيان، وما كان لهم أن يقدموا على الشق وإتلاف المال لو كان ذلك مباحا.
- أن ما حرم لبسه حرم إلباسه كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها للصبي.
- ما يتضمنه ذلك من تعويد الصبي على التقيد بأحكام الشريعة ليعتاد ذلك ويألفه.
الثاني : الجواز ماداموا صبيانا حتى يبلغوا، وهو قول المالكية والشافعية.
ومن أدلتهم على ذلك :
- أن الصبي لم يبلغ مبلغ التكليف وقد رفع القلم عنه، وقد نوقش ذلك بأن الصبي ولو لم يكن مكلفا فإن وليه مأمور بإقامته على حكم الله ورسوله، وقد قال تعالى { ??????????? ????????? ????????? ??????? ???????????
????????????? ?????? } [التحريم: 6] ، وقد رأينا كيف منع النبي صلى الله عليه وسلم الحسن من أكل تمرة من تمر الصدقة وحمله على إخراجها من فمه.
- أن القياس على الخمر والخنزير قياس مع الفارق ، لأن الخمر والخنزير لا يحل تملكهما بحال، بخلاف الذهب والحرير. وقد نوقش بأن هذا الفرق غير مؤثر، لورود السنة الصحيحة التي تبين بأن ولي الصغير مطالب بحمله على ترك المحرمات وفعل ما يطيقه من الواجبات، وقد جاء فعل الصحابة تحقيقا عمليا لهذا الهدي النبوي الكريم.
والذي يتبين لنا من خلال هذا العرض رجحان ما ذهب إليه الأحناف والحنابلة من القول بتحريم تحلية الصبي الصغير بلباس الذهب والحرير، وأن شأنه في ذلك شأن البالغين، وأن المسؤولية والمؤاخذة تقع على عاتق وليه والله أعلم.
المبحث الثاني : الربا
تعريف الربا:
__________
(1) سنن أبي داود رقم 4056.(1/227)
الربا لغة : الزيادة والنمو ، قال تعالى { ???????????? ???????? ????????? } [الحاقة: 10] أي زائدة ، وقال تعالى :
{ ???????? ?????????? ????????? ?????????? ?????????? ???????? } [فصلت: 39] أي زادت وعلت.
وفي الاصطلاح الفقهي : فضل مخصوص مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من العوض.
والمقصود بالفضل في التعريف :
- الزيادة في الكمية في بيع الأموال التي حرم فيها التفاضل - الزيادة - وهي الأموال الربوية - الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح - وما أُلْحِقَ بهذه الأموال.
فإذا بيع ذهب بذهب أو تمر بتمر - مَثَلاً - فيجب التماثل كما يجب التقابض، وكل زيادة في أحد العوضين أو تأخر في قبضه فهو من الربا الحرام.
- الزيادة في الدين نظير الأجل كما في ربا الديون .
- الزيادة المقدرة بفرق الحلول عن الأجل في بيع الأموال التي وجب فيها التقابض، فإذا بيع ذهب بفضة أو جنيه بدولار مثلا فيجب فيه التقابض الفوري، وأي تأخير في قبض أحد البدلين فهو من الربا الحرام.
تحريم الربا :
تحريم الربا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، بل هو مما عُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة .
ومن أدلة تحريمه من الكتاب :(1/228)
قوله تعالى: { ????????? ??????????? ???????????? ?? ?????????? ???? ????? ??????? ??????? ???????????? ???????????? ???? ????????? ? ??????? ?????????? ????????? ??????? ?????????? ?????? ???????????? ? ???????? ???? ?????????? ???????? ???????????? ? ????? ????????? ?????????? ???? ???????? ??????????? ??????? ??? ?????? ???????????? ????? ???? ? ?????? ????? ?????????????? ????????? ???????? ? ???? ?????? ?????????? ????? ???????? ???? ???????????? ????????? ???????????? ? ?????? ?? ?????? ???? ??????? ??????? ????? ???? ????????? ?????????? ??????????? ????????????? ???????????? ??????????? ??????????? ??????????? ?????? ?????????? ????? ????????? ???? ?????? ?????????? ???? ???? ??????????? ????? ??????????? ????????? ?????????? ????????? ???? ????????? ??? ?????? ???? ???????????? ??? ?????? ??????????? ????? ????? ???? ??????????? ??????????? ???????? ????? ???? ???????????? ? ????? ???????? ???????? ??????? ????????????? ?? ??????????? ???? ??????????? } [البقرة: 275- 279]
وهذه الآيات هي آخر ما نزل في الربا من القرآن الكريم.
وقد تحدث القرآن الكريم عن الربا في أربعة مواضع : أحدها مكي ، وبقيتها مدني
- في سورة الروم، في قوله تعالى: { ?????? ?????????? ???? ?????? ????????????? ???? ????????? ???????? ???? ????????? ????? ???? ? ?????? ?????????? ???? ???????? ?????????? ?????? ???? ?????????????? ???? ??????????????? } [الروم: 39]
والآية لا تتضمن حكما قاطعا بتحريم الربا، فالربا لم يحرم إلا في العهد المدني، ولكنها تهيئ النفوس لتلقي حكم التحريم .(1/229)
- وفي سورة النساء ، في قوله تعالى : { ?????????? ????? ????????? ???????? ????????? ?????????? ?????????? ???????? ?????? ????????????? ??? ??????? ???? ???????? ????? ???????????? ???????????? ?????? ??????? ?????? ???????????? ????????? ???????? ????????????? ? ????????????? ?????????????? ???????? ???????? ???????? } [النساء: 160، 161].
والآية تبين تحريم الربا على اليهود، وفيها تمهيد واضح لتحريمه على المسلمين، وقد نزلت في المدينة المنورة قبل إجلاء اليهود عنها.
- في سورة آل عمران ، في قوله تعالى: { ??????????? ????????? ?????????? ?? ??????????? ???????????? ?????????? ??????????? ? ??????????? ???? ?????????? ??????????? } [آل عمران: 130].
- ثم كان آخرها آيات سورة البقرة التي سبقت الإشارة إليها .
ومن أدلة تحريمه من السنة المطهرة:
- ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله : ما هي ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).(1)
- وما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال : ((لعن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال هم سواء )).(2)
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.
(2) الحديث تقدم تخريجه.(1/230)
- وما رواه البخاري عن سمرة بن جندب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم(( رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم ، وعلي شط النهر رجل بين يديه حجارة . فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمي فيه بحجر فيرجع كما كان ، فقلت : ما هذا ؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا )).(1)
الإجماع :
فقد اتَّفَقَ على أصل تحريم الربا المسلمون كافة - لا سيما - ربا القروض ، وانعقد على ذلك إجماعهم في سائر الأعمار والأمصار، وقد نقل هذا الإجماع فقهاء المذاهب جميعاً، ووقوع النزاع في إلحاق بعض الصور بالربا من الناحية العملية لا علاقة له بأصل الإجماع المنعقد في هذا الباب.
صور الربا في الجاهلية:
كان الربا في الجاهلية على عدة صور:
الصورة الأولى: ربا الديون، وهو الذي تترجمه القاعدة الجاهلية: ((أخرني وأزيدك))، يكون للرجل على الرجل الدين فإذا حل الأجل ولم يجد المدين قضاء يقول: أخرني وأزيدك، أي أمهلني وأخرني في الأجل أزدك في مقدار الدين، وقد كان هذا الربا في التضعيف وفي السن، فإذا كان الدين في النعم أي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم يحوله إلى السن الأعلى، وإذا كان في العين يضاعف له المبلغ وهكذا.
قال قتادة: إن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه.
وقال عطاء: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون فنزلت: ??????????? { ????????? ?????????? ?? ??????????? ???????????? ?????????? ??????????? } .
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.(1/231)
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: ( فأما الربا الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزده في المال وكلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة).(1)
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده في الأجل.
الصورة الثانية: القرض المؤجل بزيادة مشروطة تدفع مرة واحدة عند انتهاء المدة.
قال الجصاص:( الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض، على ما يتراضون به )،(2) وقال في موضع آخر: ( معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه )(3).
الصورة الثالثة: القرض المؤجل بزيادة مشروطة تدفع مشاهرة.
فال الفخر الرازي:((ربا النسيئة هو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به)).(4)
وقال ابن حجر الهيثمي: ((ربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية. لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق لحاله، فإذا حل طالبه برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء - زاد في الحق والأجل)).(5)
تحريم الربا في جميع الشرائع السماوية:
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم (2/ 135).
(2) أحكام القرآن (1/ 465).
(3) أحكام القرآن (1/ 67).
(4)
( ) تفسير الرازي: (4/ 92).
(5) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 222).(1/232)
لم يقتصر تحريم الربا على الشريعة الإسلامية بل هو من الحقائق المسلمة في جميع الشرائع السماوية.
جاء في العهد القديم: ((إذا أقرضت مالاً لأحد من أبناء شعبي فلا تقف منه موقف الدائن، ولا تطلب منه ربحاً لمالك))، وجاء فيه أيضاً: ((إذا افتقر أخوك فاحمله.. لا تطلب منه ربحاً ولا منفعة)).(1)
إلا أن اليهود لا يرون مانعاً من أخذ الربا من غير اليهودي وفقاً لقاعدتهم التي حكاها عنهم القرآن الكريم بقوله: { ??????? ?????????? ???????? ?????? ????????? ??? ????????????? ??????? ???????????? ????? ???? ?????????? ?????? ??????????? }
[آل عمران: 75] .
فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح الثالث والعشرين المنسوب إلى موسى عليه السلام ((لا تقرض أخاك ربا: ربا فضة أو ربا طعام أو ربا مما يقرض برا)) وفيه أيضاً: ((للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك)).
بل قد استحلوا فيما بينهم ذلك بأنواع من الحيل، وقد بكتهم القرآن الكريم في قوله تعالى:
{ ???????????? ???????????? ?????? ??????? ?????? ???????????? ????????? ???????? ????????????? } [النساء: 161].
أي أن الله قد نهاهم عن الربا(2) فتناولوه وأخذوه، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل.
وفي العهد الجديد: ((إذا أقرضتم لمن تنتظرون منه المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات واقرضوا غير منتظرين عائداتها وإذن يكون ثوابكم جزيلاً)).(3)
وقد اتفقت كلمة الكنيسة(4) على تحريم الربا تحريماً قاطعاً استناداً إلى هذه النصوص.
يقول سكوبار: ((إن من يقول إن الربا ليس بمعصية يعد ملحداً خارجاً عن الدين)).
__________
(1) سفر اللاويين : 25- 35.
(2) مختصر تفسير ابن كثير (1/ 461).
(3) إنجيل لوقا: 34، 35، 36.(1/233)
ويقول الأب بوني: ((إن المرابيين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا، وليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم)).
أنواع الربا:
الربا نوعان: ربا الديون وهو الذي نزل القرآن نصاً في تحريمه، وربا البيوع وهو الربا الذي جاءت به السنة المطهرة.
ربا البيوع:
وهو الذي يكون في بيع الأموال الربوية، والأموال الربوية المنصوص عليها ستة: الذهب والفضة والبر والتمر والملح والشعير.
وجمهور الفقهاء على أنه يلحق بهذه الأصناف ما اتفق معها في العلة، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذه العلة.
وبعيداً عن الدخول في تفصيل هذا الاختلاف فإن المؤكد أن العلة في النقدين هي الثمنية، فحيثما وجدت الثمنية تحققت علة الربا، ولهذا تلحق جميع أنواع النقود المعاصرة بالذهب والفضة وتسري عليها جميع أحكامها، أما العلة في بقية الأصناف فيبدو أن ما ذهب إليه المالكية هو أرجح ما قيل في هذا الباب وهو الاقتيات والادخار،فكل ما تحقق فيه هذا الوصف - كان من الأموال الربوية وسرت عليه أحكامها، ووجه ترجح هذا القول ما يلي:
أولاً: إن المتأمل في الأصناف الأربعة المذكورة يجدها مشمولة بهذين الوصفين.
ثانياً: إن الغاية في تحريم الربا هي حفظ أموال الناس ورفع الغبن فيما بينهم فوجب أن يتقيد ذلك بما تمس الحاجة إليه من الأقوات المدخرة التي هي أصول المعايش وبها قوام الحياة.
هذا وينقسم ربا البيوع إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النسيئة.
أولاً: ربا الفضل:(1/234)
وهو زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع الأموال الربوية، فإذا بيع ذهب بذهب فقد وجب التماثل والتقابض، وأي زيادة تُلحِقُ البيع بالبيوع الربوية، ففي حديث عبادة بن الصامت يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)).(1)
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في هذا الباب، ذكر منها السبكي في تكملة المجموع اثنين وعشرين حديثاً في الفصل الخاص بربا الفضل وحده، ومنها ما هو في الصحيحين، ومنها ما تفرد به مسلم، ومنها ما هو خارج الصحيحين، وفيها ما هو صحيح وما هو محل نظر.
ولسنا بصدد استقراء لهذه النصوص لأن ثبوت أصل ما اشتملت عليه لم يكن موضع جدل بين العلماء في يوم من الأيام.
حكمة تحريم ربا الفضل:
لقد خفيت حكمة تحريم ربا الفضل على كثير من الناس لأن ظاهره يخلوا من الغبن، غذ من المعقول والمقرر أن لا يستوي الخبيث والطيب ولا الجيد والرديء.
فإذا بيع صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء فقد لا يرى العقل بذلك بأسا،
فأين موقع الحكمة في هذا التحريم؟
وقبل أن نحاول تلمس هذه الحكمة من خلال ما كتبه أهل العلم في هذا المقام لا يفوتنا إن نذكر بأصل محكم لا يحوز أن ينسى في الزحام، وهو وجوب امتثال المسلم لأمر الله سواء أظهرت له حكمة الأمر أم خفيت عليه، وحسبه في هذا المقام صدور هذا التكليف من الحكيم الخبير الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً وتمت كلمته صدقاً وعدلاً.
__________
(1) راجع في هذه النصوص: فقه السنة لسيد سابق: (3/ 131، 132).
( ) صحيح مسلم كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، رقم 1587 سنن أبي داود رقم 3348، والنسائي رقم 4562، وابن ماجة رقم 2253، 2254.(1/235)
قال تعالى: { ???? ????????? ?? ??????????? ?????? ???????????? ?????? ?????? ?????????? ???? ?? ????????? ???? ??????????? ??????? ?????? ???????? ?????????????? ?????????? } [النساء: 65] .
وبعد هذه التوطئة نقول: لعل أظهر ما قيل في بيان الحكمة في هذا التحريم أنه من قبيل سد الذرائع، لأن ربا الفضل قد يجر إلى ربا النسيئة، وينشئ فيهم نفسية من لوازمها شيوع المراباة في المجتمع، فإن من باع شيئاً بجنسه حالاً مع الزيادة قد يجره الطمع إلى أن يبيعه مؤجلاً مع الزيادة.
وهذا هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق إلا مثلاُ بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئاً غائباً منها بناجز، فإني أخاف عليكم الرما))،(1) والرما أي الربا ذلك أنه إذا منعهم من الزيادة في البيع الحال مع كون هذه الزيادة مقابل جودة أو صفة أو سكة ونحوها، فإن منعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل - أولى وأجلى.
ثانياً: ربا النسيئة:
وهو تأخر قبض أحد العوضين في بيع الأموال الربوية، فإذا بيع مال ربوي بغير جنسه كأن يباع ذهب بفضة والعكس أو تباع عملة بعملة أخرى فإنه يجوز فيها التفاضل ويحرم فيها التأخير لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)).(2)
وعلى هذا فتصبح القواعد التي تحكم بيع الأموال الربوية ما يلي:
1- وجوب التماثل والتقابض عند اتحاد الجنس والعلة كالذهب بالذهب أو الفضة بالفضة.
2- وجوب التقابض فقط وجواز التفاضل عند اختلاف الجنس واتحاد العلة كالذهب بالفضة أو البر بالتمر ونحوه.
3- عدم وجوب التماثل أو التقابض عند اختلاف الجنس واختلاف العلة كبيع الذهب بالبر أو الفضة بالتمر ونحوه، إذ يحل حينئذ التفاضل والنساء جميعاً.
__________
(1)
( ) مسند أحمد (3/4)، وإسناده صحيح.
(2) الحديث تقدم.(1/236)
جاء في الهداية في الفقه الحنفي: (وإذا عدم الوصفان: الجنس والمعنى المضموم إليه – حل التفاضل والنساء لوجود العلة، وإذا وجد أحدهما وعُدم الآخر – حل التفاضل وحرم النساء).(1)
وفي كفاية الأخيار:(2) إذا اشتمل عقد البيع على شيئين نظر: فإن اتحدا في الجنس والعلة كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر – اشترط لصحة العقد وخروجه عن كونه عقد ربا ثلاثة أمور: (التماثل والحلول والتقابض الحقيقي في المجلس، فلو اختل واحد منها بطل العقد).
ربا الديون:
وهو الربا فيما تقرر في الذمة من بيع أو قرض أو نحوه، وهو الزيادة في الدين نظير الزيادة في الأجل، وهو الربا الجلي الذي شاع بين الناس في زمان الجاهلية وعادت إليه البنوك في واقعنا المعاصر، وهو أظهر صور الربا وأشدها قبحاً، وفيه نزلت النصوص وعليه انعقد الإجماع، فقد كان جوهر الربا يومئذ: الزيادة في الدين نظير الأجل أيا كان مصدر هذا الدين سلفاً أو بيعاً أو غير ذلك.
الربا الجلي الجاهلي المحرم نصاً في القرآن:
إذا كان قد وقع خلاف في إلحاق بعض الأموال بالأصناف الستة المذكورة في الحديث فإن الإجماع منعقد على تحريم ربا القروض وتحريم كل زيادة في الدين نظير الأجل، فإن هذا هو الربا الجلي الجاهلي الذي جاءت النصوص في تحريمه نصاً.
قال ابن قدامة: ( كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية – فأسلف على ذلك – أن أخذ الزيادة على ذلك ربا).(3)
وقال القرطبي: (أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا – ولو كان قبضة من علف – كما قال ابن مسعود، أو حبة واحدة).(4)
__________
(1) شرح فتح القدير على الهداية (7/ 10، 11).
(2) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (1/ 153).
(3) المغني (4/ 360).
(4) تفسير القرطبي (3/ 241).(1/237)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء).(1)
ولقد كانت صور الربا في الجاهلية تدور حول هذا المعنى قروض مؤجلة بزيادة مشروطة، وهذا هو المعنى الذي شنت عليه النصوص الغارة وانعقد الإجماع على تحريمه، وهي صورة ما تفعله البنوك في واقعنا المعاصر.
هل يجوز تعجيل الديون المؤجلة مقابل إسقاط بعضها؟
هذه الصورة موضع نظر بين أهل العلم، وهي مسألة (ضع وتعجل) المشهورة.
فمن أهل العلم من منع منها وذلك لما يلي:
إن المحطوط عوض عن التأجيل وهو لا يجوز، فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادة الأجل مقابلة زيادة العوض.
ما رواه البيهقي عن المقداد بن الأسود قال: أسلفت رجلاً مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: عجل تسعين ديناراً، وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أكلت ربا يا مقداد، وأطعمته)).(2)
وما صح عن ابن عمر رضى الله عنهما أن سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحبه، ويعجل له الآخر، فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه، ومثل ذلك روى عن عمر وزيد بن ثابت رضى الله عنهما.
ومنهم من أجازها في دين الكتابة فقط أي بين السيد ومكاتبه لأن معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة وهو للحنابلة والحنفية.
- ومنهم من أجازها مطلقاً، وذلك لما يلي:
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/ 535).
(2) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 28)، وقال البيهقي في إسناده ضعف أ هـ ويحيى الأسلمي ضعفه أبو حاتم، وقال البخاري: مضطرب الحديث، والحديث ضعفه ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/ 12).(1/238)
ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله، إنك أمرت بإخراجهم، ولهم على الناس ديون لم تحل. فقال عليه الصلاة والسلام: ضعوا وتعجلوا.(1)
ما رواه البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضى الله عنه قال (( إنه تقاضى ابن أبي حَدْرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما، فنادى: يا كعب، قال: قلت لبيك يا رسول الله ، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فَعَلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه. )) (2)
أن هذا عكس الربا، فإن الربا يتضمن زيادة في الأجل والدين وهو إضرار محض بالغريم، وفي هذه المسألة براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع الدائن بالتعجيل فكان ضد الربا صورة ومعنى.
وهذا الرأي رواية عن الإمام أحمد: واختاره ابن تيمية وابن القيم ورجحه الشوكاني، وقد أخذ به مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة، فقد نص في ذلك على ما يلي:
(الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها حينئذ تأخذ حكم حسم الأوراق التجارية).(3)
النقود المعاصرة وجريان الربا فيها:
__________
(1) المستدرك للحاكم (2/ 52)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 28)، تفرد به مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف.
(2) الحديث تقدم تخريجه.
(3) قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة في الفترة من 7- 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9- 14 سنة 1992 بخصوص موضوع البيع بالتقسيط.(1/239)
لعل من ناقلة القول أن نؤكد على جريان الربا في النقود المعاصرة وسريان أحكام الذهب والفضة عليها، وقد أكدت هذا المعنى المجامع الفقهية المعاصرة، من ذلك ما قرره المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة عام 1402هـ، فقد ناقش هذه القضية وقرر ما يلي:
أولاً: بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل.
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمناً، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوم الأشياء في هذا العصر – لاختفاء التعامل بالذهب والفضة – وتطمئن النفوس بتمويلها وإدخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية
وحيث إن التحقق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر أن العلمة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلا ونسيئة، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماماً، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياساً عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانياً: يعتبر الورق النقدي نقدا قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناساً مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وبذلك يجرى فيها الربا بنوعيه فضلا ونسيئة، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان.
وهذا كله يقتضي ما يلي:(1/240)
أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلاُ بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة ريالات سعودية ورقاً بأحد عشر ريالاً سعودياً، نسيئة أو يداً بيد.
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً، إذا كان يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية، بريال سعودي ورقا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة، بثلاثة ريالات سعودية ورق – أو أقل من ذلك، أو أكثر – يدا بيد، لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثالثاً: وجوب زكاة الأوراق النقدية إن بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.
رابعاً: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم، والشركات.
الربا في دار الحرب:
إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان كما هو الشأن في الجاليات الإسلامية المقيمة في المجتمعات الغربية في هذه الأيام، فهل يباح له أن يعاملهم بالربا ويأخذ الفضل من أموالهم؟ أم أن الأحكام لا تتغير بتغير الأماكن؟
جمهور أهل العلم على أن حرمة الربا لا تتغير بتغير الأماكن، فالربا حرام فوق كل أرض وتحت كل سماء، فلا يحل للمسلم أن يعامل الحربيين بالربا أخذا أو إعطاء.
وقد استدلوا على ذلك بما يلي:
إطلاقات النصوص الواردة في تحريم الربا ، والتي لم تقيده بمكان دون مكان ولا بفريق من الناس دون فريق.(1/241)
- أن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين – ثابتة في حق الكفار على الصحيح من أقوال أهل العلم في مخاطبة الكفار بالحرمات، وقد قال تعالى:
{ ???????????? ???????????? ?????? ??????? ?????? ???????????? ????????? ???????? ????????????? } [النساء: 161].
ومتى كانت المحرمات أمراً خاصاً بالمسلمين في دار الإسلام فإذا خرجوا أو أخرجوا منها استحلوا محارمهم؟ ألا يشبه هذا الموقف في هذا الحالة مسلك اليهود الذين قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، فاستحلوا في معاملاتهم مع الأميين ما حرموه في معاملاتهم بعضهم لبعض؟
قياس الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب على المستأمن من الحربيين في دار الإسلام فإن الربا يجري بينه وبين المسلم إجماعاً فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان.
وخالف أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن فيما سبق، وقالوا: إنه لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، لأن أموالهم في دارهم على أصل الحل، فبأي طريق أخذها المسلم فقد أخذ مالاً مباحاً ما لم يتضمن ذلك غدراً بهم، فلو دخل المسلم إلى دار الحرب فباع لهم درهما بدرهمين فلا حرج عليه في ذلك لأن أحكام المسلمين لا تجري عليهم، فبأي وجه اخذ أموالهم برضى منهم فهو جائز.
وقد استدل أبو حنيفة ومن معه على ذلك بما يلي:
ما رواه مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب)).(1)
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أن الحديث مرسل ضعيف فلا حجة فيه، قال الشافعي: حديث مكحول ليس بثابت فلا حجة فيه.
__________
(1) حديث: لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، قال الزيلعي: غريب ، أي لا أصل له، وأسند البيهقي في "المعرفة" للشافعي – وهو في الأم (7/ 359)، قول أبي يوسف لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول "لا ربا بين أهل الحرب" وأظنه قال: "وأهل الإسلام" ونقل عن الشافعي قوله: ليس بثابت فلا حجة فيه أ هـ. والحديث ضعيف بلا ريب بله منكر.(1/242)
أن الحديث على فرض ثبوته يحتمل النهي كقوله تعالى:
{ ???? ?????? ???? ??????? ???? ??????? ??? ????????? } [البقرة: 197].
وإذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة بتحريم الربا ، إذ لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب صحيح من كتب السنة.
قال النووي رحمه الله : لو صح حديث مكحول لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة.(1)
وما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((كل ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب)).(2)
ووجه الدلالة أن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس مسلماً – إما من قبل بدر أو من قبل خيبر – وقد كان تحريم الربا يوم فتح خيبر ولم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منه من ربا بعد إسلامه إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، ولم تكن تخفى مراباة العباس على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل فتحها ولما لم ينهه دل على أن ذلك جائز.
وقد نوقش هذا الدليل بأنه ليس هناك ما يدل على أن العباس رضى الله عنه استمر على الربا بعد إسلامه، فقد يكون الحديث عما كان له من ربا في الجاهلية قبل إسلامه، ولو سلم استمراره عليه فقد لا يكون عالماً بتحريمه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها يومئذ، ولو فهم الصحابة جواز التعامل بالربا بين المسلم والحربي لعملوا به فيما بينهم وبين أهل الحرب ولكن ذلك لم ينقل قط، فدل على أن حديث العباس لا دليل فيه على الجواز.
- أن أموال أهل الحرب على أصل الحل مباحة للمسلم بلا عقد فأولى أن تباح بالعقد الفاسد لأن هذا على رضى منهم ولا يتضمن غدراً بهم.
وقد نوقش ذلك بما يأتي:
__________
(1) المجموع للنووي (9/ 443).
(2) مسلم كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1218.(1/243)
- عدم التسليم بهذه الدعوى، لأن الحربي إذا دخل دارنا بأمان لا يجوز للمسلم أن يعامله بالربا اتفاقاً.
- أنه لا يلزم من إباحة أموالهم بالاغتنام إباحتها بالعقد الفاسد، فإن أبضاع نسائهم تباح بالاغتنام ولا تباح بالعقود الفاسدة.
- أن هذا التعليل قاصر على حالة أخذ المسلم الفضل من الحربي ولا يصلح إذا عكس الأمر وكان الحربي هو الذي يأخذ الفضل من المسلم.
- ولا يخفى من خلال العرض السابق تهافت هذه الأدلة وعدم نهوضها لرد الأدلة القاضية بتحريم الربا بإطلاق.
شراء البيوت عن طريق التمويل البنكي:
تشيع في المجتمعات الغربية ظاهرة شراء البيوت عن طريق التمويل البنكي وذلك بأن يتقدم طالب الشراء إلى أحد البنوك ليقرضه قيمة البيت فيسددها إلى المشتري ويتقاضى منه هذا القرض أقساطاً شهرية يتقاضى عنها فوائد ربوية بحيث يتضاعف المبلغ في نهاية المدة إلى ثلاثة أضعاف أو أكثر بحسب مدة القرض.
وقد ظل أهل الفتوى على تحريم هذه المعاملة أزمنة متطاولة باعتبار أنها قرض ربوي ظاهر.
وقد أجمع أهل العلم على حرمة ربا القروض، ولكن ضغوط الواقع وأثقال الإلف قد زحزحت بعض حراس الدين عن مواقعهم، وأخذوا يرخصون للناس في هذه المعاملة اعتماداً على ما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز أخذ الربا من الحربي في دار الحرب.
ولنا على هذا التحول الخطير عدة وقفات نوجزها فيما يلي:
الوقفة الأولى: أن ما ذهب إليه أبو حنيفة من القول بجواز أخذ الربا من الحربي في دار الحرب تأسيساً على أن أموالهم على أصل الحل لا يلتقي مع هذه المسألة التي يدفع فيها المسلمون أموالهم إلى الحربيين، فالحربي هنا هو الذي يأخذ الزيادة وليس المسلم، فهي عكس ما ذهب إليه أبو حنيفة في هذا المقام، فالاستشهاد به يعد قراءة متعجلة لما ذهب إليه الإمام.(1/244)
الوقفة الثانية: أن من تبنى هذه المقولة من المعاصرين يعسر عليه أن يتبنى القول بأن المجتمعات الغربية التي تعيش فيها الجاليات الإسلامية هي ديار حرب ، وإن اعتقد ذلك في نفسه فلا يستطيع أن يرفع به صوته في واقع تشن فيه الغارة على الإسلام في مشارق العالم ومغاربه، ويتهم أهله ودعاته بأبشع التهم والمناكر.
فهل يستطيع هؤلاء الفضلاء المترخصون أن يلتزموا بأن المجتمعات الغربية تعد من قبيل دار الحرب، وأن أموال أهلها مباحة للمسلمين، وتأسيساً على ذلك فللمسلم أن ينال من أموالهم ما شاء بالعقود الفاسدة ما دام ذلك عن رضى واختيار،وأن للمسلم أن يعاملهم بالربا فيما كان الفضل له ولا يعاملهم بالربا فيما كان الفضل عليه.
الوقفة الثالثة: ما الذي يؤمن هؤلاء المترخصين ألا يتدرج الناس من استباحة الأموال بالعقود الفاسدة إلى استباحة الأبضاع بالعقود الفاسدة، وتوقان النفوس إلى النساء أشد من توقانها إلى الأموال؟
الوقفة الرابعة: أنه إذا ساغ القول بجواز هذه المعاملة في أحوال الضرورة والاقتهار عندما يجد المسلم نفسه ملجأ إلى ذلك لكثرة عياله وضيق ذات يده وامتناع الإجارة عليه وتعذر حصوله على القرض الحسن للشراء الحال، فإن الاقتراض بالربا تحله الضرورات، فينبغي أن نفرق بين هذا القول وبين القول بمشروعية هذه المعاملة ابتداء بناء على مشروعية الربا في دار الحرب ليدخل الأمر في نسيج المشروعية الأصلية لا فرق بين حال السعة والاختيار وبين حال الضرورة والاقتهار.(1/245)
الوقفة الخامسة: أن شيوع الحاجة إلى تملك البيوت في المجتمعات الغربية لا يبرر إباحة المحرمات، وإنما يوجب تكاتف المسلمين فيما بينهم لإنشاء المؤسسات القادرة على تلبية هذه الحاجة في إطار المشروعية الإسلامية، أو على الأقل لإقناع البنوك الربوية بتعديل عقودها الربوية بما يتفق مع مقررات الشريعة، وليس ذلك ببعيد فإن هذه المؤسسات تركض خلف الكسب أنى لاح لها بريقه، وإذا استشعرت أن خلف هذه المطالبة جاليات إسلامية كثيرة العدد فلا يضرها قط أن تغير في عقودها بما تستجلب به أموال هؤلاء.
لقد ظهرت في نهاية النصف الأول من هذا القرن محاولات لتبرير فوائد البنوك بتخريجات فقهيه متهافتة، ولو استجابت الأمة لهذه التبريرات ما عرفت أرضها البدائل الإسلامية في عالم المال والمصارف، لكن الحراس ثبتوا يومئذ في مواقع الحراسة للدين وردوا هذه التبريرات ففتقت الحاجةُ الحيلةَ، وعرفت بلاد الإسلام المؤسسات المصرفية التي تعمل في إطار الشريعة لتكون بديلا من المصارف الربوية التي تعربد في ديار الإسلام بأنظمتها المحرمة، وكل يوم يمضي يتكشف للعالم كله مدى الوهم في هذه الخرافة القديمة التي تقول: لا اقتصاد بلا بنوك، ولا بنوك بلا فوائد!
هل يجوز تعويض فرق التضخم فى الالتزامات المؤجلة؟
إذا أصاب النقود كساد أو انقطاع اعتبرت القيمة في أرجح أقوال أهل العلم.(1)
والكساد: هو عدم رواج العملة، أي تداولها وسقوط رواجها في البلاد كافة.
والانقطاع: هو عدم وجود العملة في التعامل - في أيدي الناس أو الأسواق - ولو كانت موجودة عند الصيارفة.
__________
(1) ومنهم من يرى التخيير بين الفسخ أو القيمة وهذا هو الذي ذهب إليه محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ومنهم من يرى رد المثل حتى مع الكساد، ومن أهل العلم كأبي حنيفة من يرى انفساخ العقد بذلك ولا يصار إلى القيمة إلا إذا عدم المثل بالكلية وهو رأي المالكية.(1/246)
فمن اقترض مبلغا من المال ثم كسدت هذه العملة لإلغائها في التعامل، أو انقطعت من الأسواق ولم يعد لها وجود في أيدي الناس فالواجب هو القيمة.
ذلك أن تسليم عملة ملغاة ظلم للدائن، وإيجاب عملة منقطعة ظلم للمدين وإعنات له، وشريعة الله لا تقر هذا ولا ذاك.
وهل تلزم القيمة يوم القرض أو يوم الانقطاع أو الكساد؟ خلاف فقهي، ولعل الأرجح لزومها يوم الانقطاع أو الكساد لأنه يوم الانتقال إلى القيمة وثبوتها في الذمة .
أما إذا تغيرت النقود بنقص أو زيادة - وأغلب ما يكون الحديث عن النقص لأنه آفة الاقتصاد في هذا الزمان وهو الذي يسميه أهل الاقتصاد(التضخم) - فما مدي مشروعية اعتبار القيمة في هذه الحالة؟
الذي عليه جماهير أهل العلم من القدامى ومن المعاصرين - أن الديون تُرَدُّ بأمثالها، ولا عبرة لما يصيب القوة الشرائية للنقود من النقص إلا إذا كان النقص فاحشا وبلغ مبلغَ سقوط الانتفاع بالعملة أو كاد فإنه يرد عند بعضهم إلى القيمة العادلة رفعًا للضرر من ناحية وقياسا على وضع الجوائح من ناحية أخرى.
والحكمة في عدم تحميل المدين فرق التضخم أو قيمة النقص في العملة ظاهرة.
- فهو لم يتسبب في هذا النقص تسببا ذاتيا مباشرا،
فكيف نحمله مسئولية أمر لا يد له فيه ولا علاقة له بإحداثه؟
- وما أصاب النقود من نقص في يد المدين كان سيصيبها كذلك ولو بقيت في يد الدائن.
- أن كلا من الطرفين عند عقد القرض قد دخلا على مبلغ معين، فإذا تغيرت الظروف وغلا هذا المبلغ أو رخص فهو غُنْمٌ وغُرْمٌ وكل واحد من الطرفين مُعَرَّضٌ لذلك.
- ما يؤدي إليه هذا المسلك من فتح الذريعة إلى الربا، وسد الذرائع إلى المحرمات من الواجبات.
- أن ما يصدق على القروض يصدق على سائر الالتزامات المؤجلة كثمن المبيع المؤجل والإيجارات ومؤخر الصداق ونحوه، فلماذا يلتقط القرض وحده من بين هذه الالتزامات جميعاً لنحمل المقترض غوائل هذه الجائحة؟!(1/247)
- أن الأسعار لم تزل تعلو وتهبط على مدار التاريخ ولم يقل أحد بهذه الزيادة التعويضية في القروض أو الالتزامات المؤجلة بصفة عامة.
وهذا هو الفرق بين بطلان العملة الذي يوجب القيمة وبين نقص قيمتها الذي لا يُخْرِجُ من المثل إلى القيمة إلا إذا تفاحش النقص وبلغ مبلغ سقوط الانتفاع بالعملة أو كاد.
يقول الناظم:
والنص بالقيمة في بطلانها ... ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى ... ... كدانق عشرين صار عشرا
وقد ناقش المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه المسألة في دورة مؤتمره الخامس عام 1409هـ - 1988، وانتهى فيها إلى أن الديون ترد بأمثالها ولا عبرة للتذبذبات التي تصيب الأسعار ارتفاعا وانخفاضا، وفيما يلي نص هذا القرار:
(العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملةٍ ما، هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة - أيًّا كان مصدرها - بمستوى الأسعار. والله أعلم).
أما إذا تفاحش النقص وبلغ مبلغ سقوط الانتفاع بالعملة أو كاد ـ فإن الأمور ترد عندئذ إلى القيمة لأن الدائن قد أعطي شيئا منتفعا به ليسترد بدله شيئا منتفعا به كذلك، فإذا تفاحش النقص وصار قبض المثل قبضا لما لا ينتفع به - رد إلى القيمة حتى لا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به.
يقول الرهوني بعد أن ذكر اختلاف المالكية في الانقطاع بتحريم السلطان أو الكساد ما نصه: ( ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين منهم - أن الخلاف السابق محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب).
قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف .(1)
__________
(1) حاشية الرهوني: (5/121).(1/248)
والعلة التي علل بها المخالف هي: (لأنه أعطى شيئاً منتفعاً به لأخذه منتفعا به فلا يُظلم بأن يعطى ما لا ينتفع به).(1)
لكن ما مقدار هذا التفاحش في النقص الذي ترد الأمور به إلى القيمة؟ إن مَرَدَّ ذلك إلى العرف، إذ ليس في ذلك حد في الشرع لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ونَصْبُ المقادير بالرأي ممتنعٌ، ويرجع عند التنازع إلى القضاء.
هل يجوز الاتفاق المسبق على تعويض التضخم الفاحش؟
لا يجوز الشرط المسبق بمراعاة القيمة عند الأداء، لما يفضي إليه ذلك عندما يكون في صلب العقد والقيمة مجهولة إلى جهالة الثمن والغرر في عقد البيع، وإلى شبهة الربا في عقد القرض، الأمر الذي ينعكس على العقد بالبطلان.
هل يجوز إلزام الغني المماطل بتعويض الدائن؟
المطل في اللغة: هو المدافعة والتسويف في قضاء الدين.
وفي الاصطلاح: هو تأخير ما استُحِقَّ أداؤه بغير عذر.
ويعد المدين غنيا إذا كان له مال زائد عن حاجته الأصلية يفي بدينه نقدا أو عينا، فلا يعد معسرا من كانت أمواله النقدية قاصرة عن وفاء ديونه، وله أموال أخرى يستطيع بيعها لوفاء ديونه.
- والغني المماطل ظالم مستحق للعقوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم :((مَطْل الغني ظلم))(2) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((لَيُّ الواجد يُحِلُّ عِرضَه وعقوبته)).(3)
وقد عد أهل العلم مطل الغني كبيرة يفسق بها فاعلها، واختلفوا هل يفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لابد من التكرار؟
ومعني إحلال عرض المدين المماطل، ذَمُّهُ والطعن فيه، بأن يقول: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ونحو ذلك مما ليس بقذف ولا فحش، إذ المظلوم لا يجوز أن يذكر ظالمه إلا بالنوع الذي ظلمه به دون غيره، وقد يكون ذلك بالإعلان في الصحف أو بإدراج اسم العميل في قائمة سوداء فيحرم بذلك من التسهيلات المصرفية في المستقبل ونحو ذلك.
__________
(1) حاشية الرهوني: (5/120).
(2) صحيح البخاري.
(3) أخرجه أبو داود.(1/249)
ومعني عقوبته الواردة في الحديث حبسه، قال الجصاص: (واتفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب، فوجب أن يكون حبسًا لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا)(1) ثم قال: (والظالم لا محالة مستحق العقوبة، وهي الحبس، لاتّفاقهم على أنه لم يرد غيره) (2)، وقد كان عليّ وشريح والشعبي يحبسون في الدين.(3)
ولكن السؤال الوارد في هذا المقام:
هل يجوز أن تمتد عقوبة الغني المماطل لتشمل عقوبة أخرى كفرض غرامة مالية تعوض الدائن عما لحقه من ضرر أو فاته من نفع بسبب هذه المماطلة؟
اختلف أهل الفتوى في الإجابة على السؤال:
فمنهم من أجاز هذه العقوبة استناداً إلى ما يلي:
أن المماطلة من المدين الغني ظلم موجب للعقوبة – بنص الحديث – ولم يرد إجماع بالمنع من العقوبة بالمال – كما زعم المانعون – بل ذلك مما اختلف فيه أهل العلم ما بين مجيز ومانع، ولعل الصواب في ذلك ما ذكره ابن القيم من أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة.
قال ابن القيم رحمه الله : (اختلف الفقهاء فيه هل حكمه منسوخ أو ثابت، والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة ، إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة).(4)
ومن الأمثلة الواردة في السنة على العقوبة بالمال: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر، وإضعاف الغرم على كاتم الضالة، وأخذ شطر مال مانع الزكاة ونحوه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية خلاف أهل العلم في العقوبة بالمال ورد على من قال بنسخها، وذكر أنها كالعقوبة البدنية تنقسم إلى اتلاف، وتغيير،وتمليك للغيرن ونص فيما يتعلق بهذا الأخير على ما يلي:
(
__________
(1) أحكام القرطبي للجصاص : (1/474).
(2) أحكام القرآن للجصاص: (1/ 474).
(3) مصنف عبد الرزاق (8/ 305، 306).
(4) أعلام الموقعين (2/ 98).(1/250)
وأما التمليك فمثل ما روى أبو داود وغيره،(1) من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في من سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤوه إلى الجرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين، وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوى إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين.
وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أنه يضعف غرمها، وبذلك كله قال طائقة من العلماء مثل أحمد، وغيره، واضعف عمر وغره العرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع، فأضعف الغرم على سيدهم ودرء عنهم القطع، وقضى عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمداً أنه يضعف عليه الدية لأن دية الذمي نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل)(2) أ. هـ.
أن مطل الغني صورة من صور العصب لما يترتب عليه من حرمان الدائن من الانتفع بماله المحبوس ظلماً عند المدين استهلاكاً أو استثماراًنتماماً كما يقع للمغصوب منه،ولما كان الغاصب ضامناً لما غصبه فإنه يقاس عليه الغني المماطل في ضمان ما فات من منافع المال نتيجة مماطلته.
أن هذه العقوبة مقابل اللي والمطل بغير حق تعويضاً عن منفعة محققة أو محتملة فاتت على الدائن بسبب هذه المماطلة ، فهى تختلف عن الزيادة الربوية التي تفرض لمحض التأخير بالتراضي من الطرفين دون تفريق بين غني ومعسر.
وجل القائلين بهذه العقوبة يشترطون لجوازها ما يلي:
أن لا تحدد سلفاً باتفاق بين الدائن والمدين تفريقاً بينها وبين ربا الجاهلية.
أن يكون هذا خاصاً بمن يثبت يسارهم، أما المعسرون فلا سبيل عليهم لقوله تعالى:
{ ????? ????? ??? ???????? ?????????? ?????? ?????????? } [البقرة: 280].
__________
(1) أبو داود رقم 1707، 4390 ت: عوامة، النسائي (8/ 85، 86) والإمام أحمد (2/ 180) وإسناده صحيح.
(2) الجزء الثامن والعشرين ص118، 119.(1/251)
واختلف القائلون بجواز هذه الزيادة التعويضية للدائن في طريقة تقديرها: فمنهم من ذهب إلى تقديرها على أساس ما فات الدائن من ربح محتمل خلال مدة المطل في حدوده الدنيا ويرجع في ذلك إلى القضاء.
ومنهم من ذهب إلى تقديره على أساس الضرر الفعلي الذي لحق بالدائن خلال هذه الفترة أو على أساس الضرر غير المألوف، ويرجع في تقدير ذلك كله إلى القضاء.
وممن أخذ بالعقوبة المالية على الغني المماطل هيئة الرقابة والفتوى بدار المال الإسلامي.
ومنهم من منع من هذه العقوبة استنادا إلى ما يلي:
شبه هذه الصورة بالربا الجاهلي الذي تنزل القرآن لتحريمه، فقد سبق أن الربا الجاهلي هو أن يكون للرجل على الآخر دين فإذا حل الأجل قال له: تقضيني أو تزيدني، فالزيادة في الدين نظير الأجل هي من ربا الجاهلية مهما اختلفت أسماؤها، وسواء أكان المدين غنيا أم كان فقيرا.
ما قد يؤدي إليه القول بجواز هذه الغرامة التأخيرية إلى القول بجواز الزيادة في القرض ابتداء تعويضًا للمُقْرِضِ عما فاته من ربح، فكما يجوز الربا التأخيري مع الغنيِّ المماطل يجوز الربا التعويضي مع الغني المقترض، فإن المقرض - بلا فائدة - تفوته منافعُ وتلحق به مضار من جراء قرضه المجاني،
فهل يسوغ له أن يطالب بالتعويض عن هذه المنافع الفائتة أو المضار التي لحقت به؟ وهل هذا إلا نفس ما احتج به الغربيون لإباحة الربا؟!
أن هذا القول ليس له سلف، فلم يقض به قاض ولم يفت به عالم على كثرة قضايا المطل في مختلف الأعصار والأمصار.
من أجل هذا وغيره انتهت المجامع الفقهية المعاصرة إلى المنع من هذه الغرامة.
ففي قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي(يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء). (1)
__________
(1) مجلة المجمع، العدد 6 (1/ 448).(1/252)
وفي جواب للمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي على سؤال يتعلق بالمماطلة هذا نصه:
(إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل له - أي البنك - الحق بأن يفرض على المدين غرامة مالية جزائية، بنسبة معينة، بسبب التأخير عن السداد في الموعد المحدد بينهما)؟
فقرر المجمع بالإجماع(أن هذا شرط أو قرض باطل، ولا يجب الوفاء به، بل ولا يحل، سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه).(1)
بعض الحلول المشروعة لقضية المماطلة:
إن القول بالمنع من الغرامة التأخيرية في حال المماطلة لا يعني أن يقف الفكر الإسلامي مكتوف الأيدي أمام المماطلين الظالمين الذين يضارون بمماطلتهم ويُلحقون العنت بالآخرين، وثمة جملة من الحلول التي يمكن اللجوء إليها أو إلى بعضها لحمل هؤلاء على الوفاء بالتزاماتهم، والوقوف عند ما شرعه الله ورسوله من وجوب الوفاء، من هذه الحلول ما يلي:
1- حلول الدين بالمماطلة:
فلا حرج في اتفاق الدائن مع المدين على حلول جميع الأقساط إذا أخل المدين في الوفاء ببعضها.
ففي حاشية ابن عابدين: (عليه ألف ثمن، جعله ربه نجوماً أي أقساطاً، إن أخلَّ بنجمٍ حلَّ الباقي، فالأمر كما شرط، وهي كثيرة الوقوع).(2)
وفي قرار مجمع الفقه الإسلامي بجده: (يجوز اتّفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه، ما لم يكن معسرا).(3)
2- تحميل الغني المماطل هبوط القوة الشرائية للنقود:
قال السيوطي رحمه الله: (إن غصب فلوسًا أو فضة أو ذهبًا، ثم تغير سعرها، فإن تغير إلى نقص لزمه رد مثل يساوي المغصوب في القيمة)(4)
__________
(1) ابن منيع، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 12، لعام 1412هـ ص29.
(2) حاشية ابن عابدين (4/ 533).
(3) مجلة المجمع، العدد 7، (2/ 218).
(4) قطع المجادلة، ضمن الحاوي للفتاوى للسيوطي (1/ 131).(1/253)
3- التعزير المالي الذي لا يعود للدائن بل لصالح المصارف العامة:
قال الحطاب: (أما إذا التزم المدعي عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه، لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء أكان الشيء عيناً أو منفعة وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف المعقود له هذا الباب، فالمشهور أنه لا يقضى به، كما تقدم، وقال ابن دينار: يقضى به).(1)
إلي أن قال: ( فاعلم أن هذا ما لم يَحْكُمْ بصحة الالتزام المذكور حاكمٌ، وأما إذا حَكَمَ حَاكِمٌ بصحته أو بلزومه، فقد تَعَيَّنَ الحكم به، لأن الحاكم إذا حكم بقولٍ لَزِمَ العمل به، وارتفع الخلاف).(2)
4- دخول الدائن في شركة مع الغني المماطل بمقدار قيمة الدين، إذا كان المدين يعمل في مجال التجارة.
والذي نراه بعد هذا العرض ومن خلال التأمل في النصوص أنه يجوز أخذ غرامة على الغني المماطل ولكن بالضوابط الآتية:
1- أن لا يكون ذلك شرطا في العقد بأي حال من الأحوال.
2- أن يحكم بها حاكم فهي تعزير ينبغي أن يصدر به حكم حاكم.
3- أن تصرف في أوجه البر والإحسان ولا يستفيد منها الدائن الممطول.
ولا يخفي أن مصاريف الخصومة إذا رفع الأمر إلى القضاء تكون على الغنيِّ المماطل بلا نزاع.
المبحث الثالث : الغرر
تعريف الغرر:
الغرر لغة: الجهل والخطر.
وفي الاصطلاح: تدور عبارات الفقهاء في تعريف الغرر حول الجهل بالعاقبة، أو التردد بين السلامة والعطب.
حكمه:
النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول الشرع فقد ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وبيع الغرر)) رواه مسلم. (3)
حكمة تحريمه:
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب: ص176.
(2) المرجع السابق ص185.
(3) صحيح مسلم كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع إلذى فيه غرر رقم 1513.(1/254)
وحكمة النهي عن بيع الغرر ما قد يؤدي إليه من أكل أموال الناس بالباطل، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله في بيع الثمار قبل بدو صلاحها أو قبل أن توجد: ((أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأكل أحدكم مال أخيه؟)).(1)
وقيل ما يؤدي إليه من التنازع بين الناس، أو العجز عن التسليم، مع ما يترتب على ذلك كله من الإيحاش وإغراء العداوة والبغضاء بين الناس.
أقسامه:
والغرر ينقسم من حيث حله وحرمته إلى ثلاثة أقسام:
- كثير ممتنع إجماعًا، كبيع السمك في الماء والطير في الهواء.
- قليل جائز إجماعًا، كأساس الدار وحشو الثياب.
- متوسط اختلف فيه، والضابط في القلة والكثرة هو العرف.
أنواعه:
والغرر من حيث مضمونه ثلاثة أنواع:
الأول: المعدوم الذي لا يوثق بحصوله.
كبيع السنين أي بيع الثمار لعدة سنوات فهي معدومة لما توجد بعد، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه.
فقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين (2) أي بيع الشجر أعواما كثيرة، ونهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها كؤمن العاهة (3)وذلك لأن المبيع قد يكون معدوما أو معجوزا عن تسليمه فضلا عن الخطر الذي تحمله هذه البيوع وهو إصابتها بالآفة.
ووجه الغرر في بيع الثمار قبل بدو صلاحها أنها لا يؤمن أن تصيبها عاهة فتتلف، وذلك غرر من غير حاجة، فإذا حدث هذا فقد ذهب مال المشتري بدون مقابل، أو أخذه البائع بغير وجه حق، وهذا مما يوقع العداوة والبغضاء.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في البيوع ، باب إذا باع الثمار قبل بدو صلاحها 2198 ، وباب بيع المحاضرة (2208) مسلم في المساقاة باب وضع الجوائح (1554، 1555).
(2) مسلم في البيوع باب النهي عن المحاقلة وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين رقم 1536/ 85، 86.
(3) متفق عليه، البخاري في البيوع، باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها رقم 2194 ومسلم في البيوع، باب النهي عن بيع لثمار قبل بدو صلاحها، رقم 1534.(1/255)
أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس(1) وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان(2)، أصابه مرض، أصابه قُشام(3) ، عاهاتٌ يحتجون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فإما لا (4) فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمرة)). (5)
ومنه بيع حبل الحبلة وبيع الملاقيح وبيع المضامين ونحوه. (6)وحبل الحبلة هو نتاج النتاج، وهو أحد البيوع التي شاعت في الجاهلية، حيث كانوا يبيعون حمل الحمل، أو يؤجلون البيوع إليه فنهاهم الإسلام عن ذلك.
أما وجه الغرر في بيع حبل الحبلة فواضح:
ذلك أنه إن قصد به بيع ولد الجنين الذي في بطن الناقة فهو معدوم، ومشتريه على خطر، لأنه قد يحصل وقد لا يحصل.
وإن قصد به البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها، فالغرر واضح لأنه بيع بأجل إلى زمن مجهول، إذ لا يدري متى يقع ذلك.
__________
(1) جذ الناس: أي دخلوا في زمن الجذاذ وهو قطع الثمار وأخذها من الشجر.
(2) الدمان: بفتح الدال وضمها فساد الطلع وتعفنه وسواده.
(3) القشام: شيء يصيب ثمر النخل حتى لا يرطب وقال الأصمعي: هو أن ينتقض البسر قبل أن يصير بلحاً.
(4) فإما لا: أصلها أن الشرطية وما زائدة فأدغمت ، قال ابن الأنباري: هي مثل قوله تعالى: { فإما ترين من الشر أحدا } فاكتفى بلفظه عن الفعل، وهي نظير قولهم من أكرمني أكرمته ومن لا – أي ومن لم يكرمني – لم أكرمه، والمعنى إن لا تفعل كذا فافعل كذا (فتح الباري (4/ 395).
(5) البخاري – الموضع السابق (2193).
(6) الشرح الكبير لأبي الفرج ابن قدامة (4/ 27).(1/256)
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نهي عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها)).(1)
وهكذا حسم الإسلام بالنهي عن هذه البيوع مادةَ الفساد والنزاع، وقطع بذلك الأسباب التي توقع بين الأمة العداوة والبغضاء في هذا المجال.
الثاني: المعجوز عن تسليمه. كالبعير الشارد والسمك في الماء والطير في الهواء.
وهذا النوع منه ما هو متفق عليه ومنه ما هو مختلف فيه، ومن جنس المختلف فيه بيع المبيع قبل قبضه.
ونظرا لمسيس الحاجة إلى معرفة حكم هذا الأخير، وذلك لارتباطه الوثيق بعمليات التطوير المصرفي نفرده بدراسة مستقلة للتعرف على خلاف الفقهاء في هذه المسألة، وأدلة كل فريق، ثم تقدير هذه الأدلة لنصل من خلال ذلك إلى الرأي المختار لنا في هذه المسألة التي شابت كثيرا من هذه الاستثمارات.
هل يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه قبل أن يقبضه؟
اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا السؤال:
- فذهب المالكية(2) إلى جواز ذلك في غير الطعام.
وعمدتهم في ذلك ما روي من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه))(3)
فقد خص الطعام بالذكر. وهذا يدل على تخصيصه بالحكم، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة.
وروي عن مالك أنه رخص فيما يباع من الطعام جزافا أن يباع قبل قبضه لأن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد. (4)
__________
(1) متفق عليه: البخاري في البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة رقم 2143 مسلم في البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة رقم (1514/ 6) واللفظ للبخاري.
(2) بداية المجتهد لابن رشد (2/ 144، 145).
(3) الحديث سبق تخريجه ص174.
(4) بداية المجتهد (2/ 144، 145).(1/257)
وذهب أبو حنيفة (1) وأبو يوسف إلى عدم جواز ذلك إلا في العقار.
واستدلوا على ذلك بما روي عن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله إني رجل أبتاع هذه البيوع وأبيعها فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: ((لا تبيعن شَيْئًا حتى تقبضه)).(2)
قالوا: والحديث مختص بالمنقول، لأن العلة فيه هي غرر انفساخ العقد فيما قبل القبض بهلاك المعقود عليه، ولما كان الهلاك في العقار نادرا كان الحديث مختصا بالمنقول، ويبقي بيع العقار – قبل قبضه – جائزاً، عملا بدلائل الجواز العامة التي دلت على جواز البيع من الكتاب والسنة والإجماع.
أما الشافعي(3)رحمه الله فقد أطلق المنع كذلك عملا بعموم النص وقد وافقه على ذلك ابن حزم رحمه الله (4) ومن أدلته على ذلك:
- حديث حكيم بن حزام السابق.
- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل بيع وسلف، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)).(5)
وهذا من باب بيع ما لم يضمن، لأن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، وهو أيضا يدخل في باب: (( بيع ما ليس عندك)).
وقد نقل عن أحمد(6) قول يوافق قول المالكية في هذه المسألة، وهو أن المطعوم فقط هو الذي لا يجوز بيعه قبل قبضه، سواء أكان مكيلا أو موزونا أم لم يكن.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن قوله (( نهي عن ربح ما لم يضمن)).
قال: هذا في الطعام، وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه.
والذي يتبين لنا في هذه المسألة ما يأتي:
__________
(1) البناية في شرح الهداية (6/ 507- 509).
(2) أخرجه أحمد (3/ 402)، والنسائي في الكبرى وابن حبان في صحيحه (4983)، والبيهقي (5/ 313)، وقد رواه أبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي في الصغرى (7/ 289)، وقد سبق لفظه
(3) الأم للشافعي (7/ 69، 71).
(4) المحلى لابن حزم (9/ 592).
(5) الحديث سبق بلفظ "لا تبع ما ليس عندك" وهو في أبي داود 3498 والترمذي 1234.
(6) راجع المغني لابن قدامة (4/ 115، 116).(1/258)
- حرمة بيع الطعام قبل قبضه كما ورد بذلك النص، وكما اتفقت على ذلك كلمة الفقهاء.
- لا فرق في حرمة بيع الطعام قبل قبضه بين المعين وغير المعين،(1) لما رواه مسلم عن ابن عمر، قال: (( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً، فنهاناً رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه)).(2)
ولما روى عن ابن عمر أيضاً أنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم. ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : (( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)).(3)
كان هذا هو الحكم بالنسبة للطعام، ولكن ماذا عن بقية المبيعات؟
لقد جاءت في هذه المسألة نصوص عامة تحرم بيع الأشياء قبل قبضها، ونصوص خاصة تتعلق بالطعام، فقول المالكية: إن تخصيص الطعام بالذكر يدل على تخصيص الحرمة به وإلا لم يكن للتخصيص فائدة - محل نظر؛ لأن النص على شيء لا يدل بالضرورة على نفي الحكم فيما عداه، هذا على فرض الاقتصار على هذا النص وحده، فكيف وقد جاءت نصوص أخرى عامة تطلق المنع ولا تخصه بشيء؟ ولما كان لا يوجد بين الخاص والعام في هذا المقام تعارض، فالأصل هو إطلاق المنع مطلقاً من كل قيد.
أما تخصيص أبي حنيفة وأبي يوسف المنع الوارد في الحديث بالمنع فيما سوى العقار فمحل نظر أيضاً، لأن قوله: إن علة المنع غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك محض اجتهاد مه لا يعتمد على نص واضح، ولو قلنا إن العلة هي النهي عن ربح ما لم يضمن لما بعدنا عن دلالات النصوص، بل ربما كان ذلك أقرب.
__________
(1) راجع نيل الأوطار للشوكاني (9/ 158، 159).
(2) الحديث تقدم، وهو في مسلم برقم 1526.
(3) تقدم، مسلم (1527/37، 38).(1/259)
أما استدلاله بثبوت حق الشفعة قبل القبض، وأن الشفيع يتملك - فهو محل نظر كذلك، لأن هذا ليس بقاطع، ففي الأخذ بالشفعة قبل القبض خلاف بين العلماء فمنهم من صححه ومنهم من لم يصححه، ولا تقيد إطلاقات النصوص بأمور محتملة.
وعلى هذا فالذي يترجح - والله أعلم - هو إطلاق القول بالمنع من بيع الأشياء قبل قبضها كما ذهب إلى ذلك الشافعي وابن حزم،(1) ومحمد وزفر من الحنفية.
الثالث: المجهول:
سواء أكان مجهولاً مطلقاً كما تقول بعتك سيارة، أو المعين المجهول جنسه أو قدره كما تقول بعتك ما في بيتي أو بعتك مكتبتي ونحوه، أو المعين المجهول نوعه أو صفته المعلوم جنسه أو قدره كما تقول بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه.
ومن غير المعين: كبيع المشاع، سواء كان مشاعاً في جملة معلومة أو مجهولة.
ويفرق بعض أهل العلم بين الجهالة والغرر: فيرون أن المجهول ما علم حصوله وجهلت صفته، والغرر ما لا يدرى أيحصل أم لا؟
ويهمنا في هذا المقام أن نتحدث بشيء من التفصيل عن بيع الأعيان الغائبة نظراً لارتباطه المباشر بموضوع البحث، لأن الاستثمارات المعاصرة كثيراً ما تقتضي بيع الأعيان الغائبة.
بيع الأعيان الغائبة:
المبيع على نوعين:
مبيع حاضر مرئي، وهذا لا خلاف في بيعه.
مبيع غائب أو متعذر الرؤية، وفيه اختلاف بين الفقهاء:
فقال قوم: بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال، لا ما وصف ولا ما لم يوصف، وهذا هو قول الشافعي(2) في الجديد وهو المنصوص عند أصحابه وهو رواية عن أحمد(3) رحمه الله .
وقال أبو حنيفة:(4) يجوز بيع الغائب وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده، وهي رواية عن أحمد كذلك.
__________
(1) المحلى لابن حزم (9/ 592).
(2) الأم للشافعي (3/ 20).
(3) المغني لابن قدامة (4/ 25)، مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 25).
(4) المحلى لابن حزم: (9/ 280).(1/260)
وقال مالك(1): ( وأكثر أهل المدينة يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبص صفته) أما بدون الصفة فلا يصح - وهي الرواية الثالثة المشهورة عن أحمد رحمه الله - فإذا وجده على الصفة التي وصفت له لزم البيع، وإلا كان فيه بالخيار.
وذهب بعض المالكية(2) إلى جواز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار - خيار الرؤية - ولكن المذهب عندهم هو ما سبق.
وسبب الخلاف في هذه المسألة:
هل نقصان العلم المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشيء فيكون من الغرر الكثير، أم ليس بمؤثر فيكون من الغرر اليسير المعفو عنه.
فالشافعي رآه من الغرر الكثير.
ومالك وابن حزم على أن ذلك من الغرر اليسير.
ورأي أبو حنيفة أنه لا غرر مع ثبوت خيار الرؤية، وقد ترددت الروايات عند الحنابلة بين هذه الأقوال.
والذي نختاره من هذه الأقوال: هو صحة هذا البيع بالصفة، وعدم صحته بدونها وهو مذهب المالكية وابن حزم(3) والمشهور عند الحنابلة.
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد (2/ 155)، المدونة للإمام مالك (4/ 207، 208).
(2) بداية المجتهد لابن رشد (2/ 155، 156).
(3) المحلى لابن حزم (8/ 337- 334).(1/261)
أما صحته بالصفة فلتحقق العلم بالمبيع علماً نافياً للجهالة ومانعاً من الغرر. وكثير من المبيعات الحديثة اليوم يتعذر فيها إحضار المبيع عند البيع، إما لضخامته وما يتكلفه نقله وإحضاره من مشقة ومؤنة باهظة، فيكتفى بالأوصاف التي غالباً ما تكون دقيقة وجامعة، وإما لأنه يفسد بكثرة نشره وطيه واختلاف الأيدي عليه. وهذه اعتبارات لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها حتى قال ابن حزم: (وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفاً) فلم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة وهي في البلاد البعيدة، وقد بايع عثمان ابن عمر رضى الله عنهم مالا لعثمان بخيبر بمال لابن عمر بوادي القرى، وهذا أمر مشهور.(1)
أما عدم صحته بدون الصفة فلما تقدم من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولأنه بيع فلم يصح مع الجهل بالصفة كالسلم.
ولا يصح قياس ذلك على النكاح، لأن النكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا يفسد بفساد العوض، ولا بترك ذكره، ولا يدخله شيء من الخيارات، ولأن كثيراً من الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع.
المبحث الرابع : حرمة الغش والتدليس والغبن الفاحش
وهذا أحد القيود التي تعكس النقاء والطهر في العملية الاستثمارية عندما تمارس تحت مظلة الشريعة وتشتغل به الأيدي المتوضئة، فالغش والتدليس بإخفاء عيوب السلعة أو إظهارها على غير حقيقتها على نحو يخدع المشتري ويلبس عليه من المحرمات القطعية في الشريعة.
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ألا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غش فليس مني)).(2)
__________
(1) المرجع السابق (8/ 340).
(2) الحديث تقدم تخريجه.(1/262)
وعن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال حتى يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)).(1)
وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي هي جماع الدين، والتي كان يبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها ولا يرون أنفسهم متنفلين ببذلها.
وقد روى مسلم في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم : ((الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).(2)
وعن عتبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه له)).(3)
ومن التدليس إخفاء سعر الوقت، وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن النجش.
وتلقي الركبان: أن يستقبل الرفقة ويتلقى المتاع ويكذب في سعر البلد، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار)).(4)
والنجش هو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها ليغر المشتري بذلك، وقد ثبت النهي عن النجش في الأحاديث الصحيحة، ومنها:
ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش)) متفق عليه.
__________
(1) متفق عليه وقد تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه ابن ماجة 2246، والحاكم (2/ 8)، وصححه على شرطهما.
(4) مسلم في البيوع، باب تحريم تلقي الجلب رقم 1519/ 17، ورواه أبو داود 3429، والترمذي 1221.(1/263)
وما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يبتع المرء على بيع أخيه ولا تناجشوا، ولا بيع حاضر لباد)).(1)
وقد نقل ابن بطال إجماع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، وللمشتري في حالة النجش الخيار بين الإمساك والرد إذا كان في البيع غبن فاحش لم تجر العادة بمثله.
الربح عن طريق الغبن الفاحش:
أما الغبن الفاحش فهو ما لا يتغابن به في العادة، فإن أصل المغابنة مأذون فيه إذ المقصود الأصلي بالتجارة هو الربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، وقل أن يقع هذا الغبن الفاحش إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت، فما كان عن تلبيس تعين رفعه حتما، وما لم يكن منه عن تلبيس كان رفعه فضلاً.
تحريم الاحتكار:
فقد روى مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحتكر إلا خاطئ)).(2)
والاحتكار كل ما أضر بالناس حبسه سواء أكان في القوت أو غيره في أصح قولي العلماء، وإن كان إثمه في القوت أغلظ لمسيس الحاجة إليه، ولا يكون الاحتكار محرماً، إلا إذا توافرت فيه الشروط التالية:
1- أن يحصل المحتكر على السلع بطريق الشراء من الأسواق المحلية، أما من جَلَبَ شيئاً أو ادخَرَ غلة أرضه فليس بمحتكر ولأن الجالب لا يضيق على أحد، ولا يضر بل ينفع، فإن الناس إذا علموا أن عنده طعاماً معداً للبيع كان أطيب لقلوبهم.
قال الأوزاعي: ((الجالب ليس بمحتكر)). (3)
2- أن يضيق على الناس بشرائها، فمن اشترى في حال الرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحتكر لانعدام الضرر.(4)
ولا يكون ذلك عادة إلا إذا كان الحبس في وقت ضيق.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في البيوع، باب لا يشتري حاضر لباد رقم 2160 واللفظ له، مسلم في البيوع الباب السابق، رقم 1515/12 مع اختلاف يسير.
(2) رواه مسلم.
(3)
( ) الشرح الكبير (4/ 47).
(4) الشرح الكبير (4: 74)، المدونة (4/ 91)، ونهاية المحتاج (3/ 472).(1/264)
المبحث الخامس: تحريم كل بيع أعان على معصية
وهذا قيد آخر يرد على عملية الاستثمار، وهو المنع من كل بيع فيه إعانة على معصية الله عز وجل، كبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع الأقداح لمن يشرب فيها الخمر، وبيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب، وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال، أو بيع الثياب القصيرة لمن يخرج بها متبرجة من النساء.
والجمهور على أن هذه البيوع محرمة عند التحقق من إفضائها إلى المعصية، وممن نص على ذلك المالكية(1) والحنابلة(2) وهو أحد الوجهين(3) في مذهب الشافعية، وذهب الأحناف إلى القول بالكراهة، وهو الوجه الآخر عند الشافعية.
ووجه ما ذهب إليه الجمهور:
- قول الله عز وجل: { ???? ???????????? ????? ???????? ??????????????? } [المائدة: 2] ، وهذا نهي يقتضي التحريم.
- وما روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد: إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها ومستقيها.(4)
وما روى عن محمد بن سيرين أن قيما كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له وأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً، ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره، فأمره بقلعه، وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر.
أن ذلك عقد لمن يعلم أنه يريد هذه السلع للمعصية، فأشبه من يؤجر أمته لمن يعلم أنه يستأجرها للزنا.
ووجه ما ذهب إليه القائلون بالكراهة:
__________
(1) بلغة السالك لأقرب المسالك لأحمد بن محمد الصاوي (2/5).
(2) الشرح الكبير لأي الفرج بن قدامة (4/ 40، 41).
(3) المجموع للنووي (9/ 391).
(4) أحمد، (1/ 316)، والحاكم (4/ 145)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.(1/265)
أن البيع في ذاته مشروع، لكنه كره هنا لاتصاله بغير مشروع وهو الإعانة على المعصية، فهو ليس منهيا عنه لذاته، وإنما لما اتصل به من المقاصد المحرمة، ومثل ذلك يفيد الكراهة، وهذا هو تخريج الأحناف(1).
- عدم التحقق من وقوع القصد المحرم إذ قد يتحقق هذا القصد وقد لا يتحقق، وهو تخريج الشافعية.(2)
والذي يتبين لي بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ما يلي:
أولاً: حرمة هذه البيوع عند تحقق إفضائها إلى معصية، لما فيها من التعاون على الإثم والعدوان، ويلتحق باليقين في هذا الباب الظن الغالب، لأن مبنى الأحكام على غلبة الظن، ومن الفساد بمكان بناء الحكم على المرجوح وترك بنائه على الراجح.
ثانياً: إذا لم يصل الأمر إلى درجة اليقين أو الظن الغالب، وإنما هو الشك والاحتمال فإن هذا البيع لا يخلو من الشبهة، فتركه أولى لمن قدر على ذلك، ويبقى في الأمة أهل العزائم وأهل الرخص.
وهذا الذي قلنا به هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو الذي حمل عليه محققو الشافعية ما ينسب إلى الأكثرين من أصحابهم من القول بالحل.
جاء في نهاية المحتاج بعد أن ذكر حرمة بيع الرطب والعنب لعاصر الخمر: (ومن نسب للأكثرين الحل هنا أي مع الكراهة محمول على ما لو شك في عصره له).(3)
الخلاصة
قيود الاستثمار
الاتجار في المحرمات:
- يحرم الاتجار في المواد المحرمة فإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ومن صور ذلك التجارة في الميتة والدم ولحم الخنزير والتجارة في لباس الذهب والفضة.
- وقد اتفق أهل العلم على تحريم الذهب الخالص على الرجال لورود النصوص الصحيحة الدالة على ذلك.
واختلفوا في تحلية اللباس بالذهب والفضة على أقوال كثيرة، أظهرها إباحة يسير الذهب التابع لغيره إذا كان أربع أصابع فما دونه، وإباحة الفضة بلا حدود.
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني (7/ 3221، 3222).
(2) المجموع للنووي (9/ 390).
(3) نهاية المحتاج للرملي (3/ 471).(1/266)
- أما الآنية المطلية بالذهب والفضة فقد اختلف فيها على قولين أظهرهما الجواز إذا لم يخلص منه شيء لأن الطلاء تابع مستهلك ولا عبرة ببقاء لونه.
واختلف في تحلية لباس الصبيان بالذهب والفضة على قولين أظهرهما تحريم ذلك وتقع المسئولية على عاتق وليه.
تحريم الربا:
- الربا فضل مخصوص مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من العوض.
- وتحريمه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مما علم تحريمه من الدين بالضرورة.
- والربا نوعان: ربا الديون وهو الذي نزل القرآن نصا في تحريمه، وربا البيوع وهو الذي جاءت به السنة المطهرة.
- وربا الديون هو الربا فيما تقرر في الذمة من بيع أو قرض، وهو الزيادة في الدين نظير الزيادة في الأجل.
وصور الربا في الجاهلية ثلاث:
- أخرني وأزيدك، أي أمهلني في الأجل وأزيدك في مقدار الدين.
- القرض المؤجل، بزيادة مشروطة تدفع مرة واحدة عند انتهاء المدة.
- القرض المؤجل بزيادة مشروطة تدفع مشاهرة.
وينقسم ربا البيوع إلى قسمين: ربا الفضل وربا النسيئة.
- وربا الفضل هو زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع الأموال الربوية، فإذا بيع ذهب بذهب - مثلا- وَجَب التماثل والتقابض.
والحكمة في تحريم ربا الفضل أنه من قبيل سد الذرائع، لأن ربا الفضل قد يجر إلى ربا النسيئة فإن من باع شيئاً بجنسه حالا مع الزيادة قد يجره الطمع إلى أن يبيعه مؤجلا مع الزيادة.
- وربا النسيئة هي تأخر قبض أحد العوضين في بيع الأموال الربوية فإذا بيع ذهب بفضة وجب التقابض ولا يجب التماثل، بل يحل التفاضل.
- تعتبر الأوراق النقدية نقداً قائماً بذاته، ويعتبر كل نقد جنسا مستقلاً بذاته، فالنقد المصري جنس، والنقد السعودي جنس وهكذا، وعلى هذا فإن بيع نقد بجنسه وجب التماثل والتقابض وإذا بيع نقد بغير جنسه وجب التقابض فقط وحل التفاضل.
- والربا حرام في دار الحرب كحرمته في دار الإسلام سواء بسواء، ولا عبرة بمن ذهب إلى خلاف ذلك لضعف أدلتهم وتهافتها.(1/267)
- شراء البيوت عن طريق التمويل البنكي الذي يتضمن إقراضاً بزيادة - لا يجوز، ولا يصلح الاحتجاج بمذهب أبي حنيفة في هذا المقام لأن مذهب أبي حنيفة في جواز أخذ الفضل من الحربي لا في جواز دفعه إليه فضلاً عن عدم التزام القائلين به باعتبار ديار الكفار في هذه الأيام ديار حرب.
- العبرة في الوفاء بالديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، ولا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة بمستوى الأسعار.
أما إذا تفاحش النقص وبلغ مبلغ الضرر البالغ - ردت الأمور إلى القيمة، ويرجع عند التنازع إلى القضاء.
- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما عليه من الديون، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حال التأخر عن الأداء، ويمكن معاقبة المدين المماطل بعقوبات تعزيرية أخرى، أو بعقوبة مالية تصرف في المصارف العامة ولا يستفيد منها الدائن.
حرمة الغرر:
- وتدور عبارات الفقهاء في تعريف الغرر بين الجهل بالعاقبة أو التردد بين السلامة والعطب.
- والنهي عن الغرر أصل عظيم من أصول الشرع، وحكمة تحريمه ما يؤدي إليه من أكل أموال الناس بالباطل وما يترتب على ذلك من التنازع والبغضاء.
وأقسام الغرر ثلاثة:
- كثير ممتنع إجماعاً كبيع السمك في الماء والطير في الهواء.
- قليل مغتفر إجماعاً كأساس الدار وحشو الثياب.
- ومتوسط قد اختلف فيه، وضابط القلة والكثرة هو العرف.
والغرر من حيث مضمونه ثلاثة أنوع:
- المعدوم الذي لا يوثق في حصوله كبيع السنين أو بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
- المعجوز عن تسليمه كالبعير الشارد.
- المجهول.
لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه ولا يجوز بيع غير الطعام قبل قبضه كذلك في أرجح قولي العلماء.
يجوز بيع الأعيان الغائبة على الصفة ولا يجوز بيع بدونها في أرجح قولي العلماء وهو مذهب المالكية وابن حزم والمشهور عند الحنابلة.
حرمة الغش والتدليس والغبن الفاحش:(1/268)
- يحرم الغش والتدليس والغبن الفاحش وكل هذه سبل معوجة للاسترباح لا يتورط فيها المستثمر المسلم.
حرمة الاحتكار:
- والاحتكار كل ما أضر بالناس حبسه سواء أكان في القوت أو غيره في أرجح قولي العلماء.
وشروط الاحتكار المحرم ما يلي:
- الحصول على السلع بطريق الشراء من الأسواق المحلية.
- التضييق على الناس بشرائها.
حرمة كل بيع أعان على معصية:
نهت الشريعة عن كل بيع أعان على معصية الله عز وجل، فإن تحقق إفضاؤه إلى معصية كان محرماً، أما إذا لم يبلغ ذلك مبلغ اليقين - كان شبهة.
الوحدة التاسعة
أعمال المصارف
المصطلحات:
المصارف: مؤسسات تخصصت في الأصل في التجارة والائتمان.
الاعتماد المستندي: تعهد كتابي يصدر من العملاء بناء على طلب مستورد لصالح مورد يتعهد فيه البنك بدفع أو قبول كمبيالات مستندية مرفقاً بها مستندات الشحن إذا قدمت مطابقة لشروط الاعتماد.
الكفالة: عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن بأن يفي بهذا الالتزام إذا لم يف المدين بنفسه.
الأوراق المالية: هي كل صك أو مستند له قيمة مالية كالأسهم والسندات .
السندات: قروض بفوائد ثابتة.
الأسهم: حصص شائعة متساوية يصبح بها حملتها شركاء في الأصل ويتحملون مغارمه ومغانمه بنسبة حصصهم.
أعمال المصارف
المصارف مؤسسات تخصصت في الأصل في التجارة في الائتمان، فالمصرف - على الجملة - تاجر نقود، يقترض النقود بفائدة ربوية ويقرضها بفائدة أعلى ويستحل الفرق ما بين النسبتين.
وبالإضافة إلى التجارة في الائتمان توجد بعض الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف لعملائها وتتقاضى عنها أجرا أو عمولة، ولا بديل للمستثمرين في عالمنا المعاصر من التعامل مع المصارف الوطنية أو الأجنبية لذا كان لابد من أن نعقد هذا الفصل لنلقي الضوء على أهم أعمال المصارف وأحكامها الشرعية حتى يكون المستثمر المسلم على بصيرة من أمره.
أولاً ـ الودائع المصرفية:(1/269)
تعريف: يقصد بالودائع المصرفية النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى المصارف على أن تتعهد بردها عند الطلب أو بالشروط المتفق عليها، وما يرد منها عند الطلب يسمي الودائع الجارية، وما لا يلتزم المصرف بردها إلا عند أجل معين يسمى الودائع الادخارية أو الاستثمارية.
وتنقسم الودائع من حيث حرية المصرف في التصرف فيها إلى قسمين:
الودائع النقدية العادية وهي التي جرى العرف المصرفي على استغلالها والتصرف فيها من قبل المصرف على أن يرد قيمتها عند اللزوم.
الودائع المستندية أو النقدية المخصصة لغرض معين، وهذه لا يجوز للمصرف أن يتصرف فيها، بل يلتزم بحفظها لخدمة الغرض المخصصة له، فيحفظ الودائع المستندية في خزائنه، ويوجه الأخرى إلى الغرض الذي خصصت له وحده.
تكييف الودائع المصرفية:
لا يصدق على الودائع المصرفية العادية حقيقية الإيداع بالمعني الفقهي، لأن حقيقة الإيداع : توكيل في حفظ المال على أن ترد عينه، وتتمثل التزامات المودع في حفظ الشيء ورده بعينه عند الاقتضاء، وهذا لا يصدق على الودائع النقدية العادية التي جرت عادة المصارف على خلطها بأموالها واستخدامها في أعمالها ورد بدلها عند الاقتضاء.
إذن فالتكييف الفقهي الصحيح لهذه الودائع أنها قروض إلى المصارف، لأن حقيقة القرض : تمليك للمال على أن يرد بدله، وهذا الذي يجري عليه عمل المصرف في هذه الودائع، فهو يخلطها بأمواله ويتصرف فيها تصرف الملاك ثم يرد بدلها عند الاقتضاء، ولما كانت العبرة في العقود للحقائق والمعاني وليس للألفاظ والمباني فإن الودائع المصرفية هي قروض في الحقيقة وإن أطلق عليها غير ذلك، وتكييف الودائع على هذا النحو متفق عليه بين الشريعة والقانون.
ففي الشريعة:
جاء في المغني لابن قدامة: (ويجوز استعارة الدراهم والدنانير ليزن بها، فان استعارها لينفقها فهذا قرض).(1)
__________
(1) المغني لابن قدامة (5/ 225).(1/270)
وفي المبسوط للسرخسي: (عارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض، لأن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتي الانتفاع بالنقود إلا باستهلاكها عينا فيصير مأذونا في ذلك).(1)
وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي: (كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه فهو قرض حقيقة، ولكن يسمي عارية مجازا).
وفي القانون:
نصت المادة 627 من القانون المدني المصري على ما يلي: (إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا في استعماله اعتبِر العقد قرضا).
هل المصرف فقير حتى نقرضه؟
لقد جرت العادة في القروض أن تكون من الأغنياء إلى الفقراء فهل المصرف فقير حتى يصح تخريج ودائع الناس عنده على أنها من قبيل القروض؟
ويجاب عن ذلك بأن حقيقة الإقراض – كما سبق – تمليك للمال على أن يرد بدله، وهي تصدق على الإقراض من الغني للفقير كما تصدق على العكس، وكون الأصل في القروض أنها من الأغنياء إلى الفقراء لا ينفي وجود صور أخرى تتضمن العكس، وأظهر مثال على ذلك في تاريخنا الإسلامي الزبير بن العوام، فقد كان رضي الله عنه ذا مال وفير وقد حسبوا تركته بعد موته فوجدوها كما يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قد بلغت تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف (أي تسعة وخمسين مليونا وثمانمائة ألف ) منها ألفا ألف ومائتي ألف ديونا كانت عليه، معنى هذا أن صافي تركه الزبير رحمه الله بلغت سبعة وخمسين مليونا وستمائة ألف درهم، فكيف نفسر ملكيته لهذا المبلغ مع وجود ديون بلغت مليونين ومائتي ألف؟
إن الجواب على هذا نجده فيما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال( إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة).
__________
(1) المبسوط للسرخسي (11/ 145).(1/271)
فالذين جاءوا بالمال أرادوا أن يكون وديعة ولكن الزبير أراده أن يكون قرضا، والفرق بينهما واضح: فالوديعة لا يضمنها المودَع لأن يده يد أمانة لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي، ولكن القرض يقع ضمانه على المقترض، ويقابل ذلك حقه في الاستفادة من هذا المال المقترض.
وقد يلي الرجل أموالا ليتامى فيرى أن مصلحتهم إقراضها لغني حفظا لها كما لو أراد أن ينقلها من بلد إلى آخر، ورأى أن إقراضها لغني ليقضيه في هذا البلد الآخر يجنبها مخاطر النقل فيشرع له ذلك.
فالأصل في القرض أنه عقد إرفاق وأن النفع فيه للمقترض، ولكنه قد يخرج عن هذا الأصل فتأمل.
ثانياً: الفوائد المصرفية:
وإذا تقرر أن الودائع المصرفية قروض في واقع الأمر فإن ما يدفع عليها من فوائد لهو الربا الحرام الذي تنزلت النصوص لتحريمه وتوعدت أكلته بحرب من الله ورسوله، وهذا هو الذي انتهى إليه إجماع المؤتمرات الإسلامية والمجامع الفقهية المعاصرة.
انعقاد الإجماع على حرمة فوائد البنوك :
لقد أجمع أهل العلم بالشريعة على أن الزيادة في الدين نظير الأجل هي الربا الجلي القطعي الذي نزل القرآن ابتداء في تحريمه، وأنه صورة الربا الذي شاع في الجاهلية وجددته البنوك الربوية المعاصرة .
وإذا كنا قد نقلنا إجماع أهل العلم فيما مضى على ذلك فقد بقي أن ننقل إجماع المجامع الفقهية والمؤتمرات الإسلامية المعاصرة على ذلك قطعا للجدل وحسما للذريعة إلى هذا المنكر الغليظ .
قرار المجمع الفقهي بمنظمة المؤتمر الإسلامي :
لقد قرر مجلس المجمع في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 الموافق 22 - 28 سبتمبر 1985 ما يلي :
أولا : أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله ، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد ـ هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا .(1/272)
ثانيا : أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام هو التعامل وفقا للأحكام الشرعية ، ولا سيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي .
ثالثا : قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة ، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته .
قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي:
إن مجلس المجمع في دورته التاسعة المنعقدة بمبني رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة 21 - 19 رجب 1406 هـ قد نظر في موضوع تفشي المصارف الربوية، وتعامل الناس معها ، وعدم توافر البدائل عنها ، وهو الذي أحاله إلى المجلس معالي الدكتور الأمين العام نائب رئيس المجلس .
وقد استمع المجلس إلى كلام السادة الأعضاء حول هذه القضية الخطيرة التي يقترف فيها محرم بَيِّنٌ ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع ، وأصبح من المعلوم بالدين بالضرورة، واتفق المسلمون كافة على أنه من كبائر الإثم والموبقات السبع ، وقد آذن القرآن الكريم مرتكبيه بحرب من الله ورسوله ، قال تعالى:
{ ??????????? ????????? ?????????? ????????? ???? ????????? ??? ?????? ???? ???????????? ??? ?????? ??????????? ????? ????? ???? ??????????? ??????????? ???????? ????? ???? ???????????? ? ????? ???????? ???????? ??????? ????????????? ?? ??????????? ???? ??????????? } [البقرة: 278، 279] .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : ((هم سواء)).(1)
__________
(1) الحديث سبق تخريجه، وهو في مسلم برقم 1598.(1/273)
كما روى ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم (( إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل )).(1)
وقد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا خطر على اقتصاد العالم وسياسته، وأخلاقياته وسلامته ، وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وأنه لا نجاة من ذلك إلا باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم ، وهو ما سبق به الإسلام منذ أربعة عشر قرنا .
ومن نعمة الله تعالى أن المسلمين بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم ووعيهم لهويتهم نتيجة وعيهم لدينهم ، فتراجعت الأفكار التي كانت تمثل مرحلة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية ، ونظامها الرأسمالي ، والتي وجدت لها يوماً من ضعاف الأنفس من يريد أن يقسر النصوص الصريحة الثابتة قسراً لتحليل ما حرم الله ورسوله.
وقد رأينا المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في أكثر من بلد إسلامي - وخارج العالم الإسلامي أيضاً - تقرر بالإجماع حرمة الفوائد الربوية وتثبت للناس إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا .
ثم كانت الخطوة العملية المباركة ، وهي إقامة مصارف إسلامية خالية من الربا والمعاملات المحظورة شرعا ، بدأت صغيرة ثم سرعان ما كبرت ، قليلة ثم سرعان ما تكاثرت، حتى بلغ عددها الآن في البلاد الإسلامية وخارجها أكثر من تسعين مصرفاً.
وبهذا كذبت دعوى العلمانيين وضحايا الغزو الثقافي الذين زعموا يومًا أن تطبيق الشريعة في المجال الاقتصادي مستحيل ، لأنه لا اقتصاد بغير بنوك ، ولا بنوك بغير فوائد .
__________
(1) أخرجه الطبراني (1/ 460)، والحاكم (2/ 37)، من حديث ابن عباس، ورواه أبو يعلى 4981 والبيهقي في الشعب 5416، 5531 من حديث ابن مسعود، وقال أبو حاتم منهم من يرفعه، ومنهم من يوقفه، العلل، ولعل الصواب – والله أعلم – الوقف.(1/274)
وقد وفق الله بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان لتحويل بنوكها الوطنية إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا أخذًا ولا إعطاءً ، كما طلبت من البنوك الأجنبية أن تغير نظامها بما يتفق مع اتجاه الدولة ، وإلا فلا مكان لها ، وهي سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها إن شاء الله .
ومن هنا يقرر المجلس ما يلي :
أولاً : يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالي عنه من التعامل بالربا أخذًا أو إعطاءً ، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور ، حتى لا يحل بهم عذاب الله ، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله .
ثانياً : ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية ، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعني بالمصارف الإسلامية كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية مُلْزِمة، ويدعو المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها ، وعدم الاستماع إلى الشائعات المغرضة التي تحاول التشويش عليها ، وتشويه صورتها بغير حق .
ويرى المجلس ضرورة التوسع في إنشاء هذه المصارف في كل أقطار الإسلام ، وحيثما وجد للمسلمين تجمع خارج أقطاره ، حتى تتكون من هذه المصارف شبكة قوية تهيئ لاقتصاد إسلامي متكامل .
ثالثاً : يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج ، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي ، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب ، ويستغني بالحلال عن الحرام .
رابعاً: كل ما جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعًا، لا يجوز أن ينتفع به المسلم - مودع المال - لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامّة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة وإنّما من باب التطهّر من الحرام.(1/275)
ولا يجوز بحال ترك هذه الفوائد للبنوك الربوية، للتقوّي بها، ويزداد الإثم في ذلك بالنسبة للبنوك في الخارج، فإنها في العادة تصرفها إلى المؤسسات التنصيرية واليهودية، وبهذا تغدو أموال المسلمين أسلحة لحرب المسلمين وإضلال أبنائهم عن عقيدتهم، علمًا بأنه لا يجوز أن يستمر في التعامل مع هذه البنوك الربوية بفائدة أو بغير فائدة، كما يطالب المجلس القائمين على المصارف الإسلامية أن ينتقوا لها العناصر المسلمة الصالحة، وأن يوالوها بالتوعية والتفقيه بأحكام الإسلام وآدابه حتى تكون معاملاتهم وتصرّفاتهم موافقة لها.
والله ولي التوفيق وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلي آله وصحبه وسلم.
قرار مجمع البحوث الإسلامية :
فقد قرر مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في القاهرة 1385هـ والذي حضره ممثلون ومندوبون عن خمس وثلاثين دولة إسلامية ما يلي :
1- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرّم ، لا فرق في ذلك بين ما يسمّي بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي . لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
2- أن كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى:
{ ??????????? ????????? ?????????? ?? ??????????? ???????????? ?????????? ??????????? } .
3- الإقراض بالربا محرّم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرّم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة. وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.
4- أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
5- الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلّها من المعاملات الربوية وهي محرّمة.
كيفية التصرف في الفوائد المصرفية:(1/276)
إن القاعدة العامة أن المال الحرام لا يلزم رده ولا يطيب أكله.
فالمال الحرام إذا كان مقبوضا برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فلا يجب رده على الدافع حتى لا يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، كما أنه لا يطيب للقابض أكله لأنه خبيث، لم يبق إلا التخلص منه بتوجيهه إلى المصارف العامة ويثاب على ذلك ثواب العفة عن الحرام، والتخلص منه ابتغاء وجه الله وليس ثواب الصدقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
فالفوائد المصرفية لا تُتْرَك للمصارف الربوية حتى لا تتقوي بها على أعمالها المحرمة أو توجهها في حرب الإسلام والمسلمين، ولا ينتفع بها قابضها لأنها كسب خبيث، فلم يبق إلا التخلص منها بتوجيهها إلى المصارف العامة، وقد قضت بذلك جميع المؤتمرات الإسلامية والمجامع الفقهية في عالمنا المعاصر.
ففي قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في رجب عام 1406هـ نص على ما يلي:
خامساً: كل ما جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعًا، لا يجوز أن ينتفع به المسلم - مودع المال - لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامّة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة وإنّما هو من باب التطهّر من الحرام.(1/277)
ولا يجوز بحال ترك هذه الفوائد للبنوك الربوية، للتقوّي بها، ويزداد الإثم في ذلك بالنسبة للبنوك في الخارج، فإنها في العادة تصرفها إلى المؤسسات التنصيرية واليهودية، وبهذا تغدو أموال المسلمين أسلحة لحرب المسلمين وإضلال أبنائهم عن عقيدتهم، علماً بأنه لا يجوز أن يستمر في التعامل مع هذه البنوك الربوية بفائدة أو بغير فائدة، كما يطالب المجلس القائمين على المصارف الإسلامية أن ينتقوا لها العناصر المسلمة الصالحة، وأن يوالوها بالتوعية والتفقيه بأحكام الإسلام وآدابه حتى تكون معاملاتهم وتصرّفاتهم موافقة لها.
والله ولي التوفيق وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلي آله وصحبه وسلم.
وفي فتاوى وتوصيات لجنة العلماء بالمؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت في جمادى الآخرة عام 1403هـ نص على ما يلي:
يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولا إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية، ثم في خارجها، وإلي أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسبا خبيثا، وعليهم استيفاؤها والتخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة، ويعد الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك عملاً محرّمًا شرعا.
وفي الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في البحرين في شوال 1414هـ نص على ما يلي:
ج ـ لا يرد المال الحرام إلى من أخذ منه إن كان مصرًّا على التعامل غير المشروع الذي أدّى إلى حرمة المال كالفوائد الربوية بل يصرف في وجوه الخير أيضاً.
بعض الاتجاهات المعاصرة في تسويغ الفوائد والرد عليها:
لقد شغب بعض الباحثين حول تحريم الفوائد المصرفية وحاولوا تسويغها بجملة من التخريجات المتهافتة، نذكر منها ما يلي:
دعوى التفريق بين الربا في القروض الاستهلاكية والربا في القروض الإنتاجية:(1/278)
ويعتمد هذا التخريج على أن الربا المحرم هو ما كان على القروض الاستهلاكية التي يستغل فيها الغني حاجة الفقير، وهذا هو الربا الذي كان شائعا في الجاهلية، أما إذا كان القرض إنتاجيا يقصد به الاسترباح والمزيد من الثراء كما هو الحال في أغلب القروض المصرفية في واقعنا المعاصر فيتعين القول بإباحتها بناء على تغير الظروف ونظرا لانتفاء عنصر الجشع والاستغلال.
ويجاب على ذلك بما يلي:
عموم النصوص الواردة في تحريم الربا فلم تفرق بين ربا في قرض استهلاكي وربا في قرض إنتاجي.
الواقع التاريخي للقروض الجاهلية فقد كان أغلبها قروضا استثمارية، وقد كان للعرب في الجاهلية طريقان لاستثمار أموالهم: القراض بأن يدفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه، أو القرض بأن يدفع المال بزيادة ربوية ثابتة محددة ابتداء، فجاء الإسلام فأقر الأولى وأبطل الثانية.
أن حديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه))(1) يرد على هذه التفرقة،وعلي من زعم على أن الربا الذي شاع في الجاهلية هو الربا الاستهلاكي إذ لو صحت هذه المقولة لما لعن مؤكل الربا ما دام يؤكله وهو مضطر بل كان يقتصر اللعن الربا على آكله وكاتبه وشاهديه فحسب.
قصر التحريم على الربا الفاحش:
ويعتمد هذا التخريج على فهم مغلوط في قوله تعالي
{ ??????????? ????????? ?????????? ?? ??????????? ???????????? ?????????? ??????????? } [آل عمران: 130] .
حيث زعم أصحاب هذا التخريج أن الربا المحرم هو ما كان أضعافا مضاعفة، أما الربا اليسير فلا حرج فيه.
ويجاب على ذلك بما يلي:
أن الأضعاف المضاعفة الواردة في الآية وصف للربا الذي كان قائما وليس شرطا له، كقوله تعالي في بيان المحرمات من النساء:
{ ???????????????? ???????? ??? ?????????? ???? ????????????? ???????? ????????? ?????? } [النساء: 23] .
__________
(1) تقدم آنفاً.(1/279)
ولا يخفي أن قوله تعالى { ??? ?????????? } وصف لما كان قائما وليس شرطا في التحريم، إذ الربيبة محرمة ولو كان ما بينها وبين زوج أمها كما بين المشرق والمغرب.
والدليل على ذلك ما صرحت به النصوص من تحريم قليل الربا وكثيره كقوله تعالى
{ ??????????? ????????? ?????????? ????????? ???? ????????? ??? ?????? ???? ???????????? ??? ?????? ??????????? ????? ????? ???? ??????????? ??????????? ???????? ????? ???? ???????????? ? ????? ???????? ???????? ??????? ????????????? ?? ??????????? ???? ??????????? } [البقرة: 278، 279] ، وهي من أواخر ما نزل من القرآن.
دعوى اعتبار الفائدة مقابل النفقة والمؤنة:
فالبنوك تستأجر الأبنية، وتدفع أجور الموظفين، وتعد الملفات والسجلات، فلا بأس بناء على هذا التخريج أن تأخذ فائدة على عمليات الإقراض لتغطية هذه النفقات.
ويجاب على ذلك بما يلي:
أن الفائدة تتكرر كل عام طوال مدة القرض ولو صح أنها مقابل المؤنة لم تكن إلا في العام الأول فقط ولا تتكرر إلا بتكرر الخدمة.
أن الفائدة تختلف باختلاف مركز المقترض ومدة القرض والضمان المقدم، ولو صح أنها مقابل الجهد والنفقة لتوحدت قيمتها في جميع الحالات.
أنه لو صح جدلا تخريج الفائدة التي يتقاضاها البنك على أساس النفقة والأجر، فكيف يمكن تخريج الفائدة التي يدفعها لعملائه من أصحاب الودائع؟ ولقد كان المنطق يقتضي أن يأخذ على حفظه لها وقيامه عليه أجرا بدلا من أن يبذل الفوائد لأصحابها!
الودائع غير الربوية في المصارف الربوية:
قد يعمد بعض أهل الدين والصلاح ممن يتعاملون مع المصارف إلى إيداع أموالهم في الحسابات الجارية إيداعا غير ربوي فرارا من أخذ الفوائد الربوية، ويرون في ذلك حلا وسطا يمكنهم من الإفادة من خدمات المصارف ويجنبهم شرورها وآثامها.(1/280)
ولكن هذه الصورة ما لم تلجئ إليها ضرورة أو تحمل عليها حاجة ماسة لا تبرأ بها الذمة ولا يخرج بها أصحابها من العهدة، وذلك لما يلي:
أنهم إن نجحوا بهذا الوضع من الفرار من أكل الربا فلم ينجحوا في الفرار من إعانة مؤكلي الربا وإقدارهم على تثبيت أنشطتهم الربوية، لأن البنوك لا تحتفظ بهذه الودائع في خزائن حديدية لتردها على أصحابها عند الاقتضاء، بل تخلطها بأموالها وتنشئ بها القروض الربوية وتستقل وحدها بفوائدها الربوية خالصة لها من دون الآثمين!
أن البنوك لا تكتفي بعقد قروض في حدود ما يودع لديها من أموال فحسب، بل تلجأ إلى ما يسمى بخلق النقود وهي آلية ربوية يتمكن بها البنك من أن يعقد قروضا ربوية يفوق حجمها حجم الودائع الأصلية المودعة عنده عدة مرات، ولقد ضبط أحد الاقتصاديين العلاقة التي تحكم الحجم الكلي للودائع بالنسبة للوديعة الأصلية في هذا القانون
الحجم الكلي للودائع = الوديعة الأصلية مقلوب نسبة الاحتياطي
وهذا يعني أن البنك إذا كان يحتفظ بنسبة 20% مما يودع لديه من أموال لمواجهة طلبات الصرف الطارئة، فإن معني ذلك أنه يستطيع أن يعقد من القروض الربوية ما يساوي خمسة أضعاف الودائع الربوية الموجدة فعلا في خزائنه، فالودائع النقدية التي يدفع بها إلى المصارف تمثل بالنسبة لأنشطتها الإقراضية الربوية شريان الحياة الذي بدونه تلفظ أنفاسها وتغلق أبوابها أو تكاد.
الاعتمادات المصرفية:
الاعتماد المصرفي عملية يقوم فيها المصرف بوضع مبلغ من المال تحت تصرف عميله مقابل تعهده بإعادة هذا المبلغ مع فوائده في الميعاد المقرر.
صور الاعتمادات المصرفية:
يمكن تقسيم الاعتمادات المصرفية إلى قسمين تندرج تحت كل منهما صور عديدة:
أ - الاعتماد المصرفى بالوفاء.
وفيه يقدم المصرف لعميله أو لشخص آخر مبلغا من النقود مقابل تعهده برده مع فوائده، ومن صوره: الإقراض، وخصم الأوراق التجارية، والاعتماد المستندي.(1/281)
ب - الاعتماد المصرفي بالضمان.
وفيه يَقْنَعُ العميل بتدخل المصرف لضمانه أمام جهة يريد أن يتعاقد معها فتعطيه التسهيلات المطلوبة، ومن صوره الكفالة وخطابات الضمان.
وفيما يلي محاولة للتعرف على الأحكام الشرعية لعمليات الاعتمادات المصرفية.
أولا: الإقراض:
الإقراض في عالم المصارف قد يكون بطريقة القرض العادي البسيط، وقد يكون بطريقة فتح الاعتماد.
والقرض العادي عقد يلتزم به البنك أن ينقل إلى عميله ملكية مبلغ من المال على أن يرد له بدله في الميعاد المقرر، ولا شك أن كل زيادة يفرضها البنك على عميله فهي من الربا الجلي المحرم وقد سبق تفصيل القول في ذلك.
أما القرض بطريق فتح الاعتماد فهو عقد يتعهد فيه البنك بوضع مبلغ معين تحت تصرف عميله خلال مدة معينة، فهو وعد بالقرض فإن ألزمه بزيادة على مقدار القرض فهي ربا محرم كما سبق.
والوفاء بالوعد واجب في باب الديانة، ولا يقضى به إلا إذا أدخله بالوعد في ورطة كما هو مذهب المالكية، وقد ذكر ابن العربي الإجماع على ذلك.(1)
ثانيا : خصم الأوراق التجارية:
خصم الأوراق التجارية اتفاق يعجل به البنك لعميله قيمة سند تجاري قبل حلول ميعاد استحقاقه بعد خصم ما يتفق عليه بينهما من الفوائد والعمولات مقابل تنازل العميل عن الحق الثابت في هذا الصك إلى البنك.
وهذه العملية إن اعتبرت من قبيل بيع الدين على غير المدين فهي فاسدة حتى عند من يقولون بجواز ذلك، لأن البدلين هنا من النقود، ويشرط في بيعها بجنسها التماثل والتقابض، وفي بيعها بغير جنسها التقابض.
__________
(1) قال ابن العربي "فإن كان المقول فيه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء" أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1800).(1/282)
وخلاف أهل العلم في مسألة ضَعْ وتَعَجَّلْ إنما يرد عندما تكون العلاقة ثنائية بين الدائن والمدين، فهذا يتنازل عن جزء من حقه وهذا يعجله له فينتفع الطرفان، أما إذا تدخل بينهما ثالث يحترف هذه المسألة فلا وجه للقول بالجواز اتفاقا.
وان اعتبرت قرضا من المصرف وتوكيلا من المظهر للورقة في استيفاء بدل القرض من المدين فهو قرض ربوي لأن المصرف يتقاضى فائدة مقابل انتظاره زمن حلول هذا الدين، فلو كانت قيمة الورقة ألفا وميعاد استحقاقها بعد شهر فإن المصرف يعطيه تسعمائة وخمسين مثلا فكأنه أقرضه إياها على أن يستردها ألفا بعد شهر.
وإن اعتبرت حوالة من المظهر للمصرف على المسحوب عليه فهي فاسدة كذلك لفوات شرط التساوي بين الدينين: الدين المحال به والدين المحال عليه.
الاعتماد المستندي:
الاعتماد المستندي تعهد كتابي يصدر من البنك بناء على طلب مستورد لصالح مورد يتعهد فيه البنك بدفع أو قبول كمبيالات مستندية مرفقا بها مستندات الشحن إذا قدمت مطابقة لشروط الاعتماد.
أو هو تعهد يلتزم فيه المصرف بالوفاء أو القبول بالنسبة للسحوبات التي يقدمها المستفيد في الاعتماد المستندي طبقا للشروط الواردة فيه.
حكم الاعتماد المستندي:
إذا كان فاتح الاعتماد قد قدم للبنك غطاء كاملا للاعتماد فلا يعدو الأمر أن يكون وكالة قام فيها البنك بدفع مبلغ الاعتماد للمستفيد، ولا حرج فيما يأخذه على ذلك من عمولات لأنه أجر مقابل خدمة.
أما إذا لم يكن للاعتماد غطاء كاف وقام البنك بدفع مبلغ الاعتماد إلى المستفيد مقابل زيادة، فإن هذه الزيادة تكون من الربا الجلي المحرم تحريما باتا بنصوص الكتاب والسنة.
والخلاصة أن العمولة التي تكون في مقابل عمل فهي أجر مشروع، أما الفائدة التي تكون مقابل إقراض فهي ربا ممنوع.
الكفالة وخطاب الضمان:(1/283)
الكفالة وخطاب الضمان يمثلان نوعا من إقراض الثقة يتيح للمستفيد تقوية مركزه الائتماني تجاه من يتعاملون معه حتى يتسنى له إبرام عقوده معهم في جو من الثقة والطمأنينة.
والكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام، بأن يتعهد للدائن بأن يفي بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين نفسه.
أما خطاب الضمان فهو تعهد نهائي يصدر من المصرف - بناء على طلب عميل – بدفع مبلغ نقدي معين أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من المصرف خلال مدة محددة.
حكم خطاب الضمان:
إذا كان لخطاب الضمان غطاء كامل لدى البنك من قِبَل العميل فإنه يُخرج في هذه الحالة على أساس الوكالة.
وتعتبر عملة إصدار الخطاب في هذه الحالة من قبيل الخدمات المصرفية لا غير ويكون ما يتقاضاه المصرف من عميله من قبيل الأجر الحلال على ما بذله من جهد أو قام به من عمل.
أما الخطاب الذي ليس له غطاء أو له غطاء ناقص فإنه يخرج على أساس القرض والوكالة والكفالة، فالبنك بإصداره للخطاب يكون قد كفل عميله أمام المستفيد، وعندما يسلم المستفيد قيمة الخطاب فإنه يكون قد قام بدوري المقرض والوكيل، ولا شك أن ما يأخذه البنك من فوائد لقاء عملية الإقراض يعد من الربا الجلي الحرام.
وليس للمصرف أن يتقاضى أجراً على مجرد الضمان أو الكفالة، أما ما يبذله من الخدمات التي يقوم بها نيابة عن عميله تجاه الجهة المستفيدة فله أن يتقاضى عليها أجر المثل.
ومما هو جدير بالذكر أن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر قراره بشأن خطابات الضمان وهذا نصه :
(( فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10- 16 ربيع الثاني 1406هـ ، الموافق 22- 28 ديسمبر 1985م، بحث مسألة خطاب الضمان ، وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات، وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي:(1/284)
أن خطاب الضمان بنوعيه: الابتدائي والانتهائي، لا يخلو أن يكون بغطاء أو بدونه.
فإن كان بدون غطاء فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلا، وهذه هي حقيقة ما يعرف في الفقه الإسلامي باسم الضمان أو الكفالة.
وإن كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي الوكالة، والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد - المكفول له.
2- أن الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعاً على المقرض، وذلك ممنوع شرعاً.
ولذلك فإن المجمع قرر ما يلي:
أولاً: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عنه لقاء عملية الضمان - والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته - سواء أكان بغطاء أم بدونه.
ثانياً: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعاً، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.
كما صدر في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي هذا القرار بشأن خطاب الضمان هذا نصه:
( وخطاب الضمان يتضمن أمرين وكالة وكفالة، ولا يجوز أخذ الأجر على الكفالة، ويجوز أخذ الأجر على الوكالة، ويكون أجر الوكالة مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف حسب العرف المصرفي، وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية متعلقة بهذا المشروع مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع. وتقدير ذلك الأجر متروك للمصرف بما ييسر على الناس شئون معاملاتهم وفقاً لما جرى عليه العرف التجاري).(1/285)
وقريب من ذلك ما أقرته هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي السوداني حيث ذهبت إلى (جواز أخذ أجر على إصدار خطابات الضمان، شريطة أن يكون هذا الأجر نظير ما يقوم به البنك من خدمة لعملائه بسبب إصدار هذه الخطابات، ولا يجوز أن يأخذ البنك أجراً لمجرد كونه ضامناً للعميل)).
تحصيل الأوراق المالية:
من الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف لعملائها تحصيل الأوراق التجارية - الكمبيالات، الشيكات، والسندات الإذنية - نيابة عن عملائها الدائنين، وتتقاضى في نظير ذلك عمولة، ولا يخفى جواز هذه العملية لأن ما يأخذه المصرف في هذه الحالة يعد أجرة أو جعالة له على هذا التحصيل وما بذله فيه من جهد أو أنفقه فيه من مصروفات.
التحويلات المصرفية:
من الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف لعملائها الحوالات المصرفية، وهي أشبه بالسفتجة التي تحدث عنها أهل العلم وأفتوا بجوازها، ولا يخلو الحال في هذه التحويلات من أحد أمرين:
الأول: أن تكون النقود المراد تحويلها من جنس النقد المدفوع فلا حرج في هذه العملية وتكون وكالة بأجر، وما جرى عليه العرف من ضمان المصرف لهذه الأموال حتى تصل إلى المستفيد يمكن تخريجه على ما ذهب إليه بعض أهل العلم من تضمين الصناع والأجراء ممن يكون التفريط من قبلهم خفية، فقد روى عن علي رضى الله عنه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ ويقول: لا يصلح الناس إلا ذلك.
الثاني: أن تكون النقود المراد تحويلها ليست من جنس النقد المدفوع فتخرج المسألة على أنها صرف وحوالة في مجلس العقد، ولا تقابض في هذا الصرف في المجلس ومعلوم أنه يشترط في الصرف التقابض،
فهل تجوز هذه الصورة رغم عدم القبض الفعلي للنقود في المجلس؟(1/286)
الذي انتهى إليه الفقه المصرفي المعاصر أنه لا حرج في هذه الصورة كذلك ويعتبر قبض الشيك قبضاً للنقود في المعنى لأنه في العرف بمثابة النقود الورقية نظراً للحماية القانونية التي تكفلها القوانين للشيكات حتى تشيع الثقة فيها بين الناس، ومن أجل هذا صح القول بأن قبض ورقة الشيك بمثابة قبض مضمونه فيتحقق التقابض بناء على هذا التوجيه.
الأوراق المالية:
الأوراق المالية هي كل صك أو مستند له قيمة مالية كالأسهم والسندات.
أما السندات فهي قروض بفوائد ثابتة وهي غير مشروعة بلا نزاع.
وأما الأسهم فهي حصص شائعة متساوية يصبح بها حملتها شركاء في الأصل ويتحملون مغارمه ومغانمه بنسبة أسهمهم.
فإن كانت الشركة مشروعة لا تتعامل في المحرمات وكانت تدير أموالها بطريقة مشروعة خالية من الربا والغرر ونحوه فالمشاركة فيها مشروعة.
أما إن كانت تقوم بأنشطة محرمة كالتجارة في الخمر ونحوه أو تدير أموالها بعقود فاسدة محرمة فالإسهام فيها غير مشروع.
أما إن كانت أنشطتها تخلط بين الحلال والحرام فذلك هو موضع النظر والتأمل: هل يترجح القول بالمنع نظراً إلى الجزء المحرم؟ أم القول بالجواز نظراً إلى الجزء المشروع؟ أم تكون العبرة لما غلب، فإن غلب عليها الحلال أمكن الترخص بالمشاركة ويجنب المسلم من دخله ما يغلب على ظنه أنه يقابل النسبة المحرمة فيتخلص منه بتوجيهه إلى المصارف العامة ويطيب له الباقي.
شهادات الاستثمار:
تعريف شهادات الاستثمار:
شهادة الاستثمار هي الورقة التي تثبت الحق في المبلغ المودع لدى المصرف وديعة خاضعة لنظام القرض وللنظم الخاصة بها، وغالباً ما تصدر المصارف هذه الشهادات بتوجيه من الدولة لاستخدام حصيلتها في تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية.
وتتنوع هذه الشهادات إلى عدة أنواع:
- فمنها الشهادة ذات القيمة المتزايدة وهي التي تضاف فوائدها إلى أصل قيمة الشهادة فلا يحصل حامل هذه الشهادة على الفوائد أولاً بأول.(1/287)
- ومنها الشهادة ذات العائد الجاري وهي التي يتقاضى حاملها الفوائد المستحقة عليها كل ستة أشهر أولاً بأول.
- ومنها الشهادة ذات الجوائز وهي التي يحسب فيها الفائدة على مجموع قيمة الشهادات ثم يجرى سحب علني بالقرعة على أرقام الشهادات، ويوزع على الفائزين جوائز سخية.
تكييف شهادات الاستثمار:
لا يصدق على شهادات الاستثمار أنها ودائع لما سبق من أن الإيداع توكيل في حفظ المال على أن يرد عينه، وليس هذا هو واقع الحال في هذه الشهادات، وإنما يصدق عليها أنها قروض لانطباق حقيقة الإقراض عليها، فالقرض تمليك للمال على أن يرد بدله، وهذا هو الذي يجري عليه الحال في هذه الشهادات حيث يتملكها البنك ويرد بدلها مع فوائدها عند الاقتضاء.
حكم شهادات الاستثمار:
إذا صح تكييف هذه الشهادات على أنها قروض فكل زيادة عليها تعد من الربا الحرام الذي تنزل القرآن لتحريمه وآذن أهله بحرب من الله ورسوله.
وهذا الحكم بين وقاطع في الشهادة ذات القيمة المتزايدة التي تضاف فيها الفوائد إلى أصل المال، والشهادة ذات العائد الجاري التي يتقاضى صاحبها فوائدها أولاً بأول ورأس المال باق بحاله، وقد سبق أن ربا الجاهلية تضمن كلتا الصورتين، لكن الحكم قد يدق قليلاً بالنسبة للمجموعة الثالثة لشهادات الاستثمار ذات الجوائز نظراً لعدم احتساب فوائد على كل شهادة وإنما يتاح لأصحابها فرصة الحصول على الجوائز.
والحقيقة أن هذا النوع قد جمع بين الربا والميسر ، فالبنك يحسب الفائدة الربوية على مجموع قيمة هذه الشهادات ثم لا يوزعها على أصحابها نظراً لضآلة المدخرات في هذا النوع، الأمر الذي قد لا تمثل الفائدة بالنسبة لهم إغراء يذكر ولكنه يقامر بها فيما يسمى بالسحب العلني بحيث يعطى الفائزين ما يخصهم من الربا وما يخص الآخرين، فالبنك في هذا النوع يقامر بالربا ليجمع للمتعاملين بهذه الشهادات بين الربا والميسر.(1/288)
ومما هو جدير بالذكر أن مجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر فتواه بشأن شهادات الاستثمار في دورة مؤتمره السادس 1410هـ فقرر تحريم السندات ذات الفوائد، وقرر في السندات ذات الجوائز ما يلي:
(كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار).
البديل الشرعي لشهادات الاستثمار والسندات:
يتمثل البديل الشرعي لشهادات الاستثمار في أن تكون فعلاً شهادة استثمار يشارك أصحابها في المغارم كما يشاركون في المغانم، وذلك بتحويل العلاقة بين أصحاب هذه الشهادات وبين المصارف إلى علاقة استثمار حقيقية يحكمها عقد المضاربة وتوزع الأرباح الناتجة عن الاستثمار على هذه الشهادات بدلاً من توزيع الفوائد الربوية الثابتة، فإن خسر المشروع تحمله أصحاب هذه الشهادات نتيجة هذه الخسارة ويخسر البنك جهده، فالغنم بالغرم، وبالعدل قامت السماوات والأرض.
فالبديل الشرعي إذن للسندات وشهادات الاستثمار هو نقل العملية من إطار القرض إلى إطار القراض ومن عالم الديون المضمونة إلى عالم الاستثمار الذي يشارك جميع الأطراف في مغارمه ومغانمه.
ولعل في سندات المقارضة التي أقرها مجمع الفقه الإسلامي عام 1408 هـ 1988م ما يمثل بديلاً مناسباً يخرج بالأمة من مستنقع الربا إلى جادة الحلال والمشروعية.
وسندات المقارضة تقوم على تجزئة رأس المال المشروع إلى وحدات متساوية القيمة تسجل بأسماء أصحابها ويملكون بها حصصا شائعة في رأس المال ثم تطبق أحكام عقد المضاربة على هذه العلاقة فيشارك رأس المال في الربح بالنسبة المتفق عليها ويتحمل الخسارة لقاء خسران العامل جهده.
ونسوق فيما يلي ما قرره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بشأن سندات المقارضة لتكون تحت تصرف المستثمرين من المسلمين، فقد قرر المجمع في هذا الصدد ما يلي:(1/289)
أولاً: من حيث الصيغة المقبولة شرعاً لصكوك المقارضة:
1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض – المضاربة – بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها، باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه.
ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة).
2- الصورة المقبولة شرعاً لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية:
العنصر الأول:
أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته، وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه – من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها – مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة.
العنصر الثاني:
يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها نشرة الإصدار وأن الإيجاب يعبر عنه الاكتتاب في هذه الصكوك، وأن القبول تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة.
ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعاً في عقد القراض ((المضاربة)) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار، على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية.
العنصر الثالث:
أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذوناً فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية:
أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل ما يزال نقوداً فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد، وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب- إذا كان مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون.(1/290)
جـ- إذا كان القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقاً للسعر المتراض عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع.
أما إذا كان الغالب ديوناً أو نقوداً فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة.
وفي جميع الأحوال يتعين تسجيل التداول أصولياً في سجلات الجهة المصدرة.
العنصر الرابع:
أن من يتلقى حصة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب - أي عامل المضاربة - ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك، فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار، وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس.
وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة فلا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية.
3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول:
يجوز تداول المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقاً لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة المتعاقدين، كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة، بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين، ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقاً لظروف السوق والمركز المالي للمشروع، كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه.
4- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال، أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل.(1/291)
5- لا يجوز أن تشمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقاً أو مضافاً للمستقبل وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعداً بالبيع، وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء وبرضى الطرفين.
6- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصاً يؤدي إلى احتمال قطع نصيب الشركة في الربح، فإن وقع كان العقد باطلاً.
ويترتب على ذلك:
أ- عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة بناء عليها.
ب- أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة، ويعرف مقدار الربح: إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقاً لشروط العقد.
جـ- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع، وأن يكون معلناً، وتحت تصرف حملة الصكوك.
7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم، ولا يلزم إلا بالقسمة وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيراداً أو غلة يجب أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض - التصفية - يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب.
8- ليس هناك مايمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح - في حالة وجود تنضيض دوري - وأما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال.(1/292)
9- ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاما مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة، أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد.
الصرف:
من الخدمات المصرفية التي تقوم بها المصارف بيع وشراء العملات الأجنبية ومسائل الصرف من المسائل الدقيقة التي تحتاج إلى بيان لا سيما في ضوء التطور الذي شهدته المعاملات الاقتصادية المعاصرة.
ولما كانت النقود من الأموال الربوية، وقد انتهى النظر الفقهي إلى اعتبار نقد كل دولة من الدول جنساً قائماً بذاته فإن القواعد التي تحكم صرف العملات بعضها ببعض تتمثل فيما يلي:
إذا صرف نقد بجنسه – دولار بدولار أو جنيه بجنيه مثلا- فيشترط لجواز ذلك شرطان: التماثل والتقابض، فلا يجوز التفاوت ولا يجوز التأخير، أي يحرم الفضل والنساء جميعاً.
وإذا صرف نقد بغير جنسه - دولار بجنيه أو جنيه بريال مثلا - فيشترط لجواز ذلك شرط واحد وهو التقابض، فيحرم تأخير قبض أحد العوضين، ولا تحرم الزيادة بأن يصرف الدولار بثلاثة حنيهات مثلا أو أقل أو أكثر ما دام ذلك في المجلس.
فالتقابض شرط في صحة الصرف في جميع الأحوال بلا نزاع.
قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد).(1)
__________
(1) الإجماع لابن المنذر58.(1/293)
والأصل في ذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)).(1)
والمراد بالقبض في هذا المقام إثبات اليد، وهو مطلق في الشرع، فكل ما اصطلح الناس على أنه قبض فإنه يعتبر وتصحح على أساسه المعاملة.
فالقيد في الحساب الجاري بعد من قبيل القبض، فإذا جاء العميل إلى المصرف وأعطاه عملة أجنبية لتحويلها فقام المصرف بتحويلها ثم أودعها له في حسابه الجاري صحت هذه المعاملة ولا يشترط أن يمسكها بيده أولاً قبل إيداعها في حسابه.
وقبض الشيك الحال القابل للاستيفاء الفوري - يعد قبضا يقوم مقام قبض المبلغ المحرر في هذا الشيك، وبناء على ذلك صحح أهل الفتوى التحويلات الخارجية ولم يروا ذلك من قبيل الصرف الآجل.
وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة 1410هـ -1990م مسألة القبض وما استجد منه من صور، وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: القبض: صوره - وبخاصة المستجدة منها - وأحكامها واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: قبض الأموال - ما يكون حسيا في حالة الأخذ باليد ، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف، ولو لم يوجد القبض حساً.
وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها، واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها.
ثانياً: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً.
1- القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
أ- إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري في البيوع، باب بيع الفضة بالفضة رقم 2177، ومسلم في المساقاة باب الربا رقم 1584.(1/294)
ب- إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
جـ- إذا اقتطع المصرف - بأمر العميل - مبلغا من حساب له إلى حساب آخر، بعملة أخرى، في المصرف نفسه، أو غيره، لصالح العميل أو المستفيد الآخر.
وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية.
ويغتفر تأخير القيد المصرفي بصورته التي يتمكن المستفيد بها من التسليم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسليم الفعلي.
2- تسليم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف.
المصارفة على ما في الذمة:
ولا بأس بالمصارفة على ما في الذمة في أصح قولي العلماء لحديث ابن عمر: (( كنت أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فوقع في نفسي من ذلك فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)).(1)
فهذا تصارف على ما في الذمة ليس فيه تقابض بمعنى إبراز العوضين وتبادل تسليمهما من كل طرف إلى الآخر، ولكنه سداد للحق الذي في الذمة بما يساويه بسعر ذلك اليوم.
ولا تعارض بين هذا وبين حديث:(( لا تبيعوا منها غائباً بناجز)) لكون هذا الحديث مجملاً وحديث ابن عمر مفسراً فيصبح المعنى: ولا تبيعوا منها غائباً ليس في الذمة بناجز.
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.(1/295)
قال ابن عبد البر: ( وليس الحديثان متعارضين عند أكثر الفقهاء، لأنه يمكن استعمال كل واحد منهما، فحديث ابن عمر مفسر وحديث أبي سعيد الخدري(1) مجمل فصار المعنى: فلا تبيعوا منها غائباً - ليس في ذمة - بناجز، وإذا حملا على هذا لم يتعارضا).(2)
والشرط لحل المصارفة على ما في الذمة كما هو بين من الحديث:
أن يكون بغير ربح( إذا كان بسعر يومكما).
وأن تكون المصارفة على جميع ما في الذمة قطعا للذريعة إلى الربا ( إذا تفرقتما وليس بينكما شيء).
الصرف على أساس من السعر الآجل:
هل يجوز الصرف على أساس السعر الآجل؟ وذلك بالاتفاق على شراء عملة أجنبية في المستقبل مع تحديد سعرها وميقات تسليمها سلفاً، ومثال ذلك أن يطلب العميل من المصرف الاتفاق على تحديد سعر الصرف الذي سيتم على أساسه تسديد قيمة بوالص الاعتماد المستندي المفتوح، رغبة منه في تحديد سعر الصرف سلفاً حتى يتجنب مخاطر الارتفاع المفاجئ في أسعار العملات على أن يتم التقابض عند التنفيذ؟
تكييف هذه المعاملة:
تعد هذه المعاملة من قبيل المواعدة على الصرف لأنها اتفاق على الشراء في المستقبل المعين بسعر محدد سلفاً.
ولا يخفى أن المواعدة لا يشملها شرط التقابض (يداً بيد) لأن هذا خاص بالتسليم الذي يكون من الطرفين، والمواعدة ليس فيها تسليم من طرف إلى آخر ولكن فيها اتفاق على تنفيذ الصرف في المستقبل حيث يجري التسليم في الميقات المعلوم.
وقد اختلف أهل العلم في المواعدة على الصرف.
فمنعها المالكية لتنافي ذلك مع المناجزة اللازمة لصحة الصرف.(3)
__________
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر - الجزء السادس عشر صحيفة 12.
(2) المصدر السابق ص320.
(3) المقدمات لابن رشد (2/ 181).(1/296)
وأجازها الشافعي والظاهرية لعدم ورود النهي عن ذلك، ولأن المناجزة شرط في الصرف، والمواعدة ليست بصرف ولكنها اتفاق على الصرف في المستقبل.(1)
وربما كان القول بالحل أقرب في النظر وأقوم بمصالح المتعاقدين، والله أعلم.
الخلاصة
أعمال المصارف
الودائع المصرفية:
- الودائع المصرفية قروض في حقيقة الأمر،وكل زيادة فيها فهي الربا الجلي الذي تنزل القرآن بتحريمه.
- فوائد البنوك هي الربا الحرام وقد أجمع أهل العلم بالشريعة على ذلك.
- المال الحرام لا يطيب أكله ولا يلزم رده، فلا يجوز للمسلم أن ينتفع بالفوائد الربوية، ولا ينبغي أن تترك للمصارف بحيث تتقوى بها على المعصية لا سيما إذا كانت مصارف أجنبية، وإنما تؤخذ وتنفق في المصارف العامة، ولا يثاب صاحبها ثواب الصدقة وإنما يثاب ثواب العفة عن الحرام.
الاعتمادات المصرفية:
- الاعتماد المصرفي عملية يقوم فيها المصرف بوضع مبلغ من المال تحت تصرف عميله مقابل تعهده بإعادة هذا المبلغ مع فوائده في الميعاد المقرر.
- والاعتمادات المصرفية نوعان: الاعتماد المصرفي بالوفاء والاعتماد المصرفي بالضمان.
- الاعتماد المصرفي بالوفاء عملية يقدم فيها المصرف لعميله أو لشخص ثالث مبلغاً مع المال مقابل تعهده برده مع فوائده.
- ومن صور الاعتماد المصرفي بالوفاء: الإقراض، وخصم الأوراق التجارية، والاعتماد المستندي.
- وكل قرض بزيادة فهو ربا حرام.
- وخصم الأوراق التجارية اتفاق يعجل به البنك لعميله قيمة سند تجاري قبل حلول ميعاد استحقاقه بعد خصم ما يتفق عليه بينهما من الفوائد والعمولات مقابل تنازل العميل عن الحق الثابت في هذا السند إلى البنك.
وعملية الخصم على النحو الذي تجريه المصارف الربوية من العمليات المحرمة لاشتمالها على الربا.
__________
(1) الأم الشافعي (3/ 32)، المحلى لابن حزم (8/ 513).(1/297)
- والاعتماد المستندي تعهد كتابي يصدر من البنك بناء على طلب مستورد لصالح مورد ويتعهد فيه البنك بدفع أو قبول كمبيالات مستندية مرفقاً بها مستندات الشحن إذا قدمت مطابقة لشروط الاعتماد.
وإذا كان الاعتماد المستندي له غطاء كامل كان وكالة مأجورة فلا حرج فيه، أما إذا لم يكن له غطاء كاف ودفع البنك المبلغ مقابل زيادة كان عقداً ربويا غير مشروع.
- الاعتماد المصرفي بالضمان عملية يتدخل فيها المصرف لضمان عميله أمام جهة يريد أن يتعاقد معها فتعطيه التسهيلات المطلوبة، ومن صوره الكفالة وخطابات الضمان.
- وخطاب الضمان هو تعهد نهائي يصدر من المصرف بناء على طلب عميل بدفع مبلغ نقدي معين أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من المصرف خلال مدة محددة.
- ولا يجوز أخذ أجر لقاء عملية الضمان سواء أكان الخطاب بغطاء أم بدونه لأن الكفالة من عقود التبرع.
- ويجوز أخذ المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه على أن لا تزيد على أجر المثل.
تحصيل الأوراق المالية:
- ومن الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف تحصيل الأوراق المالية - الكمبيالات والشيكات والسندات الإذنية - نيابة عن عملائها مقابل عمولة، وكل ذلك مشروع لا حرج فيه.
التحويلات المصرفية:
- ومن الخدمات التي تقدمها المصارف لعملائها التحويلات المصرفية مقابل عمولة وذلك مشروع لا حرج فيه.
الأوراق المالية:
- وهي كل صك أو مستند له قيمة مالية كالأسهم والسندات.
- والسندات قروض بفوائد ربوية فهي محرمة بلا نزاع.
- وأما الأسهم وهي حصص شائعة متساوية يصبح بها حملتها شركاء في الأصل ويتحملون مغارمه ومغانمه بنسبة أسهمهم، فإن كانت الشركة مشروعة لا تتعامل في المحرمات، وتدير أموالها بطريقة مشروعة لا ربا فيها ولا غرر فالمشاركة فيها مشروعة، وإن كانت على خلاف ذلك لم تشرع المشاركة.(1/298)
- وفي الإسهام في الشركات التي يختلط فيها الحلال والحرام نظر، وأرجح الأقوال في ذلك هو المنع من الإسهام في مثل هذه الشركات.
شهادات الاستثمار:
- شهادة الاستثمار هي الورقة التي تثبت الحق في المبلغ المودع لدى المصرف وديعة خاضعة لنظام القرض وللنظم الخاصة بها.
وأنواعها ثلاثة:
- الشهادة ذات القيمة المتزايدة وهي التي تضاف فوائدها إلى أصل قيمة الشهادة.
- الشهادة ذات العائد الجاري وهي التي يتقاضى حاملها الفوائد المستحقة عليها أولاً بأول.
- الشهادة ذات الجوائز وهي التي تحسب فيها الفائدة على مجموعة قيمة الشهادات ثم يجري سحب علني بالقرعة على أرقام الشهادات ويوزع على الفائزين جوائز سخية.
لا منازعة في حرمة النوع الأول والثاني من هذه الأنواع نظراً للفوائد الربوية، وقد اختلف في النوع الثالث على قولين أظهرهما المنع لأنها قد جمعت بين الربا والميسر.
البديل الشرعي لشهادات الاستثمار شهادات المضاربة، وهي التي يشارك حملتها بنسبة من الأرباح الفعلية المتحصلة ويتحملون التبعة كاملة في حالة الوضيعة.
الصرف:
إذا صرف نقد بجنسه - وجب التماثل والتقابض، وإن صرف بغير جنسه - وجب التقابض فقط.
والقبض هو إثبات اليد، وهو مطلق في الشرع، فكل ما اصطلح الناس على اعتباره قبضاً قبل وصححت على أساسه المعاملة.
ولا بأس بالمصارفة على ما في الذمة في أصح قولي العلماء بشرط أن يكون ذلك بغير ربح وأن تكون المصارفة على جميع ما في الذمة قطعاً للذريعة إلى الربا.
واختلف في الصرف على أساس السعر العاجل وذلك بالاتفاق على شراء عملة أجنبية في المستقبل مع تحديد سعرها وميقات تسليمها سلفاً وذلك بناء على اختلافهم في المواعدة في الصرف، ولعل الأرجح هو القول بالجواز والله أعلم.
الوحدة العاشرة
التطبيقات المعاصرة للزكاة
المصطلحات:
المستغلات: يقصد بها كل ما هو معد للإيجار وليس معداً للتجارة في أعيانه، كالعقارات والسيارات والمصانع الإنتاجية ونحوه.(1/299)
المال الحرام: هو كل ما حظر الشارع اقتناءه أو الانتفاع به.
عروض التجارة : ... كل ما أعد للبيع و الشراء بقصد الربح .
مكافأة نهاية الخدمة: مبلغ مالي مقطوع يستحقه العامل على رب العمل في نهاية الخدمة بمقتضى القوانين إذا توافرت الشروط المحددة فيها.
مكافأة التقاعد: مبلغ مالي مقطوع تؤديه الدولة أو المؤسسات المختصة إلى الموظف أو العامل المشمول بقانون التأمينات الاجتماعية إذا لم تتوافر الشروط المطلوبة لاستحقاق الراتب التقاعدي.
الراتب التقاعدي: مبلغ مالي يستحقه شهرياً الموظف أو العامل على الدولة أو المؤسسة المختصة بعد انتهاء خدمته بمقتضى القوانين إذا توافرت الشروط المحددة فيها.
التطبيقات المعاصرة للزكاة
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين وإقام الصلاة، وقد جَيَّشَ أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لقتال من فرق بين الصلاة والزكاة، وقال كلمته المشهورة:( والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه).
وقد حددت السنة المطهرة الأموال الزكوية وأنصبتها ومقادير الزكاة الواجبة فيها، كما تولى الله بنفسه بيان مصارفها ولم يترك ذلك إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل.
وقد جدت في واقعنا المعاصر بعض الصور التي تمس الحاجة إلى بيان كيفية إخراج الزكاة فيها مما لم يكن موجودًا في زمن النبوة، ومنها ما لم يكن موجودا في عصور الإسلام السالفة ، ومن هذه الصور ما يلي:
أولاً: زكاة النقود الورقية :
لم تكن النقود الورقية موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانت النقود يومئذ من الذهب أو الفضة ، وكان نصاب الذهب عشرين دينارا ، ونصاب الفضة مائتي درهم- والقدر الواجب إخراجه هو ربع العشر كما هو معلوم - ثم تطورت النقود بعد ذلك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في واقعنا المعاصر، فكيف يحسب النصاب من النقود المعاصرة؟
لقد اختلف أهل العلم في كيفية حساب النصاب في النقود:(1/300)
- فمنهم من قال: يحسب على أساس أقل النصابين: الذهب أو الفضة، لأن هذا هو الأَحَظُّ للفقراء، فإذا بلغ المال نِصابا على أيٍّ من النصابين فقد وجبت فيه الزكاة.
- ومنهم من قال: يحسب على أساس الذهب لأنه أكثر استقرارا، ولأنه الأصل في غطاء النقود.
وقد اختار مجمع البحوث الإسلامية تحديد النصاب على أساس الذهب لأنه أكثر استقرارًا، فإذا بلغ ما يملكه الإنسان من النقود ما قيمته عشرون دينارا من الذهب فقد بلغ النصاب وملك القدر الذي يتعين عليه إخراج زكاته إذا حال عليه الحول .
ولما كان الدينار الذهبي يساوي 4.25جم .
فإن النصاب = 20 × 4.25 = 85 جم من الذهب .
وعلى هذا فإذا بلغت النقود قيمة هذا المقدار فقد بلغت النصاب ووجب فيها إذا حال عليها الحول الزكاة ، ولا يخفى تغير مقدار النصاب بتغير قيمة الذهب فقد يقل أو يكثر تبعا لارتفاع أو انخفاض قيمة الذهب .
وعلي سبيل المثال إذا بلغ سعر جرام الذهب الخالص عشرين دولارًا فإن النصاب يحسب على النحو التالي :
85 × 20 $ = 1700 $
ونصاب الفضة مائتا درهم (595جم).
فمن ملك هذا المقدار وحال عليه الحول فقد وجبت فيه الزكاة .
ثانياً ـ زكاة مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي:
1- مكافأة نهاية الخدمة(1) هي مبلغ مالي مقطوع يستحقه العامل على رب العمل في نهاية خدمته بمقتضى القوانين والأنظمة إذا توافرت الشروط المحددة فيها.
2- مكافأة التقاعد هي مبلغ مالي مقطوع تؤديه الدولة أو المؤسسات المختصة إلى الموظف أو العامل المشمول بقانون التأمينات الاجتماعية إذا لم تتوافر جميع الشروط المطلوبة لاستحقاق الراتب التقاعدي.
3- الراتب التقاعدي مبلغ مالي، يستحقه شهريا الموظف أو العامل على الدولة أو المؤسسة المختصة بعد انتهاء خدمته بمقتضى القوانين والأنظمة إذا توافرت الشروط المحددة فيها.
__________
(1) راجع توصيات ومقررات الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة 1415هـ – 1995م.(1/301)
4- لا تجب الزكاة على العامل أو الموظف في هذه الاستحقاقات طيلة مدة الخدمة لعدم تحقق الملك التام الذي يُشترط لوجوب الزكاة.
5- هذه الاستحقاقات إذا صدر القرار بتحديدها وتسليمها للموظف أو العامل دفعة واحدة أو على فترات دورية أصبح ملكُه لها تامًّا ويزكي ما قبضه منها زكاة المال المستفاد وقد سبق في مؤتمر الزكاة الأول أن المال المستفاد يزكي بضمه إلى ما عند المزكي من الأموال من حيث النصاب والحول.
ثالثاً : زكاة عروض التجارة:
ويقصد بعروض التجارة كل ما أعد للبيع والشراء بقصد الاسترباح، والقول بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو قول السواد الأعظم من أهل العلم ولا عبرة بمن خالف في ذلك.
- تقوَّم عروض التجارة وتخرج عنها الزكاة، ويقصد بتقويم عروض التجارة تقديرها بقيمتها النقدية، وذلك لمعرفة بلوغ النصاب، وتحديد الوعاء الزكوي من أجل معرفة القدر الواجب إخراجه.
- محل التقويم ما توافرت فيه الشروط الخاصة بالاتجار، دون عروض القنية - الأصول الثابتة – وهذه الشروط هي:
1- أن تتوافر نية التجارة عند تملك العروض.
2- أن لا تتحول نية المالك من التجارة إلى الاقتناء قبل تمام الحول دون قصد التحايل.
- يكون التقويم لكل تاجر بحسبه سواء أكان تاجر جملة أم تاجر تجزئة بالسعر الذي يمكنه الشراء به عادة عند نهاية الحول - القيمة الاستبدالية - وهو يختلف عن سعر البيع - القيمة السوقية - وعن التكلفة التاريخية أو الدفترية.(1)
- إذا تغيرت الأسعار بين يوم وجوب الزكاة ويوم أدائها فالعبرة بأسعار يوم الوجوب سواء زادت القيمة أو نقصت.
__________
(1) راجع توصيات ومقررات الندوة السابعة لقضايا الزكاة المعاصرة 1417هـ – 1997م.(1/302)
- زكاة البضائع المنقولة قبل قبضها على مالكها ويحصل المِلْكُ في البضاعة المشتراة على الوصف بالقبض، فالبضاعة المشتراة على الوصف التي في الطريق فإن كانت مشتراة - مثلا - على أساس التسليم في ميناء البائع تدخل في الملك بمجرد التسليم إلى الشاحن، وإن كانت مشتراة على أساس التسليم في ميناء المشتري تدخل في الملك عند بلوغها ميناء الوصول.
- إذا اشتملت أموال التجارة على عملات مختلفة، أو ذهب أو فضة، فتقوم لمعرفة المقدار الواجب إخراجه بالعملة التي يتخذها التاجر لتقويم عروض تجارته، وذلك بالسعر السائد يوم وجوب الزكاة.
- المعادلة الميسرة لحساب الزكاة ومنها عروض التجارة حسب مقولة ميمون بن مهران التي نصها:
( إذا حلت عليك الزكاة فناظر ما عندك من نقد أو عرض للبيع فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحسبه ثم اطرح منه ما كان عليك من دين ثم زك ما بقي)(1)، والمعادلة هي:
الزكاة الواجبة = (عروض التجارة + النقود + الديون المرجوة على الغير ـ الديون التي على التاجر) × نسبة الزكاة حسب الحول القمري 2.5%، أو حسب الحول الشمسي 2.775%.
- لحساب زكاة التجارة ينظر إلى الموجودات الزكوية بجردها وتقويمها يوم وجوب الزكاة وذلك بالاستعانة بقائمة المركز المالي - الميزانية - بصرف النظر عن وجود ربح أو خسارة في حساب الأرباح والخسائر.
- المواد المعدة للتغليف والتعبئة لا تقوم على حدة إذا لم تشتر بقصد البيع مفردة، أما إذا كانت تستخدم في بيع عروض التجارة فتقوم إن كانت تزيد في قيمة تلك العروض كالأكياس الخاصة، وإن كانت لا تزيد كورق التغليف فلا تدخل في التقويم.
زكاة الأراضي:
__________
(1) الأموال لأبي عبيد رقم 1184، 1219، 1249.(1/303)
الأرض إما أن تكون زراعية فيزكي نتاجها زكاة الزروع والثمار، أو تكون معدة للتجارة فتزكي زكاة عروض التجارة، وإن كانت للإيجار فالزكاة فيما يحول عليه الحول من إيرادها مع توافر شروط الزكاة فيها، وإن كانت للانتفاع الشخصي فلا زكاة فيها.
زكاة المواد الخام الداخلة فى الصناعة والمواد المساعدة:
1- المواد الخام - الأولية - المعدة للدخول في تركيب المادة المصنوعة كالحديد في صناعة السيارات، والزيوت في صناعة الصابون - تجب الزكاة فيها بحسب قيمتها التي يمكن الشراء بها في نهاية الحول، وينطبق هذا أيضا على الحيوانات ونحوها والحبوب والنباتات المعدة للتصنيع.
2- المواد المساعدة التي لا تدخل في تركيب المادة المصنوعة، كالوقود في الصناعات - لا زكاة فيها كالأصول الثابتة.
زكاة السلع غير المصنعة والسلع غير المنتهية الصنع:
تجب الزكاة في السلع المصنعة وفي السلع غير المنتهية الصنع زكاة عروض التجارة بحسب قيمتها في حالتها الراهنة في نهاية الحول.
اجتماع سبب آخر للزكاة مع عروض التجارة:
إذا اجتمع مع عروض التجارة سبب آخر للزكاة كالسوائم أو الزروع تزكى زكاة عروض التجارة.
زكاة السلم:
زكاة الثمن في السلم على البائع - المُسْلَمِ إليه - ويعد الحول من تاريخ قبضه الثمن، وأما المبيع - المسلم فيه - فزكاته قبل قبضه زكاة الديون، وبعد القبض يزكي زكاة عروض تجارة إذا اتخذ للتجارة.
رابعاً : زكاة المستغلات :
يقصد بالمستغلات كل ما هو معد للإيجار وليس معدا للتجارة في أعيانه كالعقارات والسيارات والمصانع الإنتاجية ونحوه .
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا زكاة في أعيانها و إنما تزكى غلتها .
و قد اختلف في كيفية زكاة هذه الغلة :
- فالجمهور على أنها تضم في النصاب والحول إلى ما لدى مالكها من نقود وعروض تجارة ويخرج عنها ربع العشر شأنها شأن زكاة النقود.(1/304)
- ويرى آخرون أن الزكاة تجب في صافي غلتها الزائدة عن الحاجات الأصلية لمالكها بعد طرح التكاليف ومقابل نسبة الاستهلاك وتقاس على زكاة الزروع والثمار فيخرج عنها العشر .
وقد رجح المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في القاهرة عام 1385هـ – 1965هـ ما ذهب إليه الجمهور في هذه القضية فبعد مناقشات موسعة ومستفيضة انتهي إلى ما يلي:
(الأموال النامية التي لم يرد نص ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها - حكمُها كالآتي:
1- لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها، بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
2- وإذا لم يتحقق فيها النصاب، وكان لصاحبها أموال أخرى، تضم إليها، وتجب الزكاة في المجموع إذا توافر شرطا النصاب وحولان الحول.
3- مقدار النسبة الوارد إخراجها: هو ربع عشر صافي الغلة في نهاية الحول).
كما ناقش هذا الأمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني عام 1406 هـ ، 1985 وقرر ما يلي :
))أولاً : أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة .
ثانياً : أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
ولعل مما يدعم ما انتهى إليه مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية والمجمع الفقهي ما يلي:
1- أن المستغلات في عصرنا لها أصل في تاريخ أمتنا، حيث كان المسلمون يؤجرون البيوت، والحوانيت، والحمامات، والدواب، وغيرها، ورأي الأئمة الأعلام أن الغلة تزكى زكاة نقود، وما قال أحد بقياسها على الزرع.
2- أن القياس هنا على الأرض الزراعية وغلتها - قياسٌ مع الفارق:
- فالمستغل ليس كالأرض، فقد يهلك في لحظة فتحترق الطائرة، وتغرق السفنية، وتنهدم العمارة، والأرض باقية إلى أن يأذن الله عز وجل في زلزلتها.(1/305)
- والغلة ليست كالزرع لأنها تزكى كل حول، أما الزرع فبعد أن يزكى إذا ادخر سنوات فلا يزكى مرة ثانية؛ إلا إذا أصبح عروض تجارة، ولذلك بين الإمام الشافعي الفرق بين النقدين والزرع بقوله في رسالته ....( ولأني لم أعلم منهم مخالفًا في أني لو علمت معدنا فأديت الحق فيما خرج منه، ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهري، كان عليَّ في كل سنة أداء زكاتها، ولو حصدت طعام أرضي فأخرجت عشرة، ثم أقام عندي دهره لم يكن عليَّ فيه زكاة).(1)
زكاة الحقوق المعنوية:
1- الحقوق المعنوية(2) - كالاسم التجاري، والترخيص التجاري، والتأليف، والاختراع - أصبح لها في العرف قيمة مالية معتبرة شرعا، فيجوز التصرف فيها حسب الضوابط الشرعية، وهي مصونة لا يجوز الاعتداء عليها وقد سبق تفصيل القول في ذلك.
2- لا تجب الزكاة في حقوق التأليف والابتكار في ذاتها لعدم توافر شروط الزكاة فيها، ولكنها إذا استغلت يطبق على غلتها حكم المال المستفاد.
خامساً : زكاة الأسهم :
- يعد السهم حصة شائعة في رأس المال ، وتجب زكاة الأسهم على أصحابها ، وتتولى إدارة الشركة إخراجها نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك أو فوضها صاحب السهم في إخراجها .
- وإذا تولت الشركة إخراج الزكاة فقد تبنى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن الزكاة تربط عليها باعتبارها شخصا اعتباريا أخذا بمبدأ الخلطة الذي ورد في السنة المطهرة بشأن زكاة الأنعام وعممه بعض الفقهاء في جميع الأموال ، أي تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث النصاب ومقدار الزكاة ونحوه.
__________
(1) الرسالة للشافعي 527، 528.
(2) راجع توصيات ومقررات الندوة السابعة لقضايا الزكاة المعاصرة 1417هـ – 1997م.(1/306)
- ومما هو جدير بالذكر أن المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية قد سار على رأي الجمهور في هذه القضية فلم يأخذ بمبدأ الخلطة بل نظر إلى كل مال على حدة ولذلك قرر ما يلي :
( في الشركات التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق هذه الأحكام إلى مجموع أرباح الشركات ، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة) .
- وعلى إدارة الشركة في هذه الحالة أن تطرح من رأس مالها الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة كأسهم الوقف الخيري وأسهم الجهات الخيرية وأصول أموالها الثابتة التي لا زكاة فيها كالمباني والمكاتب والأثاثات والسيارات الخاصة بالاستعمال ونحوه من الموجودات غير الزكوية .
- أما إذا لم تقم إدارة الشركة بإخراج الزكاة فإنه يتعين على حملة الأسهم إخراجها بأنفسهم ، ويتخذ ذلك إحدى صورتين :
الأولى : أن يكون قد ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ربح السهم السنوي وليس بقصد التجارة في أعيان الأسهم فهذا يزكي أسهمه زكاة المستغلات، فلا تجب الزكاة عليه في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في ريعه، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع
الثانية : أن يكون قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة في أعيانها بيعًا وشراء فهذا يزكى زكاة عروض التجارة فيقوم الأسهم بعد مضي الحول ويخرج عنها ربع العشر وفقا للقواعد المبينة في تزكية عروض التجارة .
وفيما يلي نص قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي فيما يتعلق بزكاة الأسهم:
( إن مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ الموافق 6 – 11 فبراير 1998. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زكاة أسهم الشركات ).
قرر ما يلي:(1/307)
أولا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال.
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهم زكاة أسهمه كما لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
- فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات ـ وتمشيا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية ـ فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
- وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة - زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه - زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق – زكي قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر – 2.5% ـ من تلك القيمة، ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.(1/308)
رابعا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
سادساً : زكاة الديون:
اختلف أهل العلم في زكاة الديون خلافا كبير نظرا لعدم وجود نص من الكتاب أو السنة يحكم القول في هذه المسألة، ونظرا لتعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين والأئمة عموما في هذا الباب:
فمنهم من ذهب إلى وجوب إخراج زكاته في كل عام.
ومنهم من ذهب إلى زكاته إذا قبضه عما مضى من الأعوام.
ومنهم من ذهب إلى تزكيته بعد قبضه لعام واحد.
ومنهم من ذهب إلى أن يستأنف عاما جديدا من تاريخ قبضه.
ومنهم من فرق بين الدين المرجو وغيره فأوجب زكاة الأول في كل عام وأخر الزكاة في الثاني إلى القبض.
وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي هذه القضية في دورة انعقاد مؤتمره الثاني عام 1985 وانتهى إلى التفريق بين الدين الذي يكون على مليء باذل فتجب زكاته عن كل عام وبين الدين الذي يكون على معسر أو مماطل فتجب زكاته بعد مضى عام من تاريخ قبضه، وفيما يلي نص قرار المجمع الفقهي المتعلق بزكاة الديون:
...فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول زكاة الديون، وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين:
1- أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يفصل زكاة الديون.
2- أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون.
3- أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناء على ذلك اختلافا بينا.
4- أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يعطى المال الممكن الحصول عليه صفة الحاصل؟
وبناء على ذلك قرر:(1/309)
1- أنه تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة، إذا كان المدين مليئا باذلا.
2- أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلا والله أعلم.
سابعاً: الديون الاستثمارية:
كانت المسألة الماضية تتعلق بالديون المستحقة للمزكي على الغير، أما إذا كان المزكي هو المدين، وكانت الديون واجبة عليه للغير فلا يخفى أن الأصل في الديون أنها تسقط مقابلها من الموجودات الزكوية، فكما يضيف المزكي ما له من ديون مرجوة لدى الآخرين فإنه يخصم ما عليه من ديون للغير كذلك حتى يخرج الزكاة عن خالص ماله.
يقول ميمون بن مهران: ( إذا حلت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض للبيع فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحسبه، ثم اطرح ما كان عليك من الدين ثم زك ما تبقي).
إلا أن الديون قد لا تتعلق بالتجارة كما لو اشترى بيتا بالتقسيط على بضع سنين، أو استخدم الدين في تملك آلات لمشروع ضخم تقدر بالملايين ، فقد يقرر أحد التجار توسعة عمله فيشتري ببضعة ملايين خط إنتاج جديد يضيفه لخط إنتاج عنده، فهل تؤدي هذه الديون الاستثمارية إلى إسقاط مقابلها من الموجودات الزكوية كذلك؟
إن القول بهذا معناه ضياع أموال طائلة من حصيلة الزكاة على الفقراء، وقد ينتهى إلى القول بأن كثيرا من تجار العصر لا زكاة عليهم، وقد ناقش المؤتمر الأول للزكاة هذا المسألة ورأى أن يأخذ بصورة مؤقتة بالقول الذي يقضي بأن الديون المؤجلة لا تسقط مقابلها من الموجودات الزكوية، وأن الذي يسقط مقابله هو ما كان منها حالا فحسب، وفيما يلي نص الفتوى المتعلقة بهذه المسألة:
((1/310)
الدين إذا استعمله المستدين في التجارة يسقط مقابله من الموجودات الزكوية، أما إذا استخدم في تملك المستغل من عقار أو آليات أو غير ذلك، فنظرًا إلى أنه على الرأي المعمول به من أن الدين يمنع من الزكاة بقدره من الموجودات الزكوية، وأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزكاة في أموال كثير من الأفراد والشركات والمؤسسات مع ضخامة ما تحصله من أرباح.
لذلك فإن اللجنة تلفت النظر إلى وجوب دراسة هذا الموضوع، وتركيز البحث عنه.
وترى اللجنة مبدئيا الأخذ في هذا بخصوصه بمذهب من قال من الفقهاء إنه إذا كان الدين مؤجلا فلا يمنع من وجوب الزكاة).
وتنفيذا للتوصية العاشرة لمؤتمر الزكاة الأول، والتوصية التاسعة للندوة الأولى لقضايا الزكاة المعاصرة المتضمنة حسم القروض الممولة لرأس المال المتداول، وعدم حسم الديون الإسكانية أو الديون الممولة لأصول ثابتة باستثناء القسط السنوي المطلوب دفعه فقط، والتي ختمت ببيان الحاجة إلى دراسة جوانب تفاصيل هذا الموضوع، فقد انتهت الندوة الثانية لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة بالكويت في ذي القعدة 1409- يونيو 1989 إلى ما يلي:
أولا: يحسم من الموجودات الزكوية جميع الديون التي تمول عملا تجاريا إذا لم يكن عند المدين عروض قنية أصول ثابتة زائدة عن حاجاته الأساسية.
ثانيا: يحسم من الموجودات الزكوية الديون الاستثمارية التي تمول مشروعات صناعية - مستغلات - إذا لم توجد لدى المدين عروض قنية - أصول ثابتة ـ زائدة عن حاجاته الأصلية بحيث يمكن جعلها في مقابل تلك الديون، وفي حالة كون هذه الديون الاستثمارية مؤجلة يحسم من الموجودات الزكوية القسط السنوي المطالب به – الحال – فإذا وجدت تلك العروض تجعل في مقابل الدين إذا كانت تفي به وحينئذ لا تحسم الديون من الموجودات الزكوية، فإن لم تف تلك القروض بالدين يحسم من الموجودات الزكوية ما تبقى منه.(1/311)
ثالثا: القروض الاسكانية المؤجلة والتي تسدد عادة على أقساط طويل أجلها يزكي المدين ما تبقى مما بيده من أموال بعد حسم القسط السنوي المطلوب منه إذا كان الباقي نصابا فأكثر.
ثامناً : زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة:
هذه الأموال تعتبر ريعًا للقوى البشرية للإنسان كأجور العمال ورواتب الموظفين ودخول الأطباء والمحامين ونحوه مما لم ينشأ عن مستغل بعينه.
- والذي عليه الجمهور في زكاة هذه الأموال أنها لا تزكى حين قبضها، بل تضم إلى سائر ما عند أصحابها من الأموال الزكوية الأخرى في النصاب والحول، فيزكي الجميع عند تمام الحول منذ تمام النصاب، وما استفيد منها أثناء الحول فإنه يزكى آخر الحول ولو لم يمض حول كامل على كل جزء من أجزائها ما دام قد مضي حول على ملكية المزكي لنصاب في الجملة، والقدر الواجب إخراجه هو ربع العشر 2.5% شأنه شأن الزكاة الواجبة في النقود بصفة عامة.
- ويرى آخرون أن هذه الأموال تزكي حين قبضها باعتبارها مالا مستفادًا، وتقاس على زكاة الزروع والثمار في النصاب والمقدار باعتبارها إيرادًا متكاملا في نمائه يوم قبضه، وقد قال تعالى:
??????????? { ????????? ??????????? ?????????? ??? ?????????? ??? ?????????? ???????? ??????????? ????? ????? ???????? } [البقرة:267] .
فقرن تعالى بين ما كسبه الإنسان وبين ما أخرجه الله له من الأرض.
- فلا يشترط لها مضي الحول أخذًا بأحد القولين في المال المستفاد، وقياسا على زكاة الزروع والثمار التي تجب يوم الحصاد.
- ونصابها كنصاب زكاة الزروع والثمار خمسة أوسق، أي خمسون كيلة مصرية، فإذا بلغت هذه الأموال قيمة خمسة أوسق فقد وجبت فيها الزكاة.(1/312)
- والقدر الواجب إخراجه يتراوح بين العشر ونصف العشر بحسب الكدح في هذه الأعمال، فأصحاب الأعمال البدنية الشاقة يخرجون نصف العشر، وأصحاب الأعمال الأخرى يخرجون العشر، وقد تقسم الأعمال إلى ثلاثة مستويات: بحيث يجب 5%، 5ر7%، 10% قياساً على أن الواجب إخراجه في زكاة الزروع والثمار يدور في نفس النسبة بحسب طريقة ريِّه، هل يروى بماء السماء فيجب فيه العشر؟ أم يروى بالآلة فيجب فيه نصف العشر؟ أم يروى نصف العام بالآلة والنصف الآخر بماء السماء فيجب فيه ثلاثة أرباع العشر؟ وأيا ما كان القول الفصل في هذا الخلاف فإن من أراد الاحتياط عمل بهذا الرأي الأخير، ومن عمل بالرأي الأول فقد عمل بما عليه الجمهور في هذا الباب، والله تعالى أعلى وأعلم.
زكاة المال الحرام:
1- المال الحرام هو كل مال حظر الشرع اقتناءه أو الانتفاع به سواء كانت حرمته لما فيه من ضرر أو خبث كالميتة والخمر، أم حرمته لغيره، لوقوع خلل في طريق اكتسابه، لأخذه من مالكه بغير إذنه، كالغصب، أو لأخذه منه بأسلوب لا يقرّه الشرع ـ ولو بالرّضا ـ كالربا والرشوة.
2- أ - حائز المال الحرام لخلل في طريقة اكتسابه لا يملكه مهما طال الزمن، ويجب عليه ردّه إلى مالكه أو وارثه إن عرفه، فإن يئس من معرفته وجب عليه صرفه في وجوه الخير للتخلّص منه وبقصد الصدقة عن صاحبه.
ب - إذا أخذ المال أجرة عن عمل محرّم فإن الآخذ يصرفه في وجوه الخير ولا يردّه إلى من أخذه منه.
ج - لا يرد المال الحرام إلى من أخذ منه إن كان مصرًّا على التعامل غير المشروع الذي أدّى إلى حرمة المال كالفوائد الربوية بل يصرف في وجوه الخير أيضاً.
د - إذا تعذّر رد المال الحرام بعينه وجب على حائزه رد مثله أو قيمته إلى صاحبه إن عرفه، وإلاّ صرف المثل أو القيمة في وجوه الخير وبقصد الصدقة عن صاحبه.(1/313)
3- المال الحرام لذاته ليس محلاًّ للزكاة لأنه ليس مالا متقوّما في نظر الشرع، ويجب التخلّص منه بالطريقة المقرّرة شرعاً بالنسبة لذلك المال.
4- المال الحرام لغيره الذي وقع خلل شرعي في كسبه ـ لا تجب الزكاة فيه على حائزه، لانتفاء تمام الملك المشترط لوجوب الزكاة، فإذا عاد إلى مالكه وجب عليه أن يزكّيه لعام واحد ولو مضى عليه سنين على الرأي المختار.
5- حائز المال الحرام إذا لم يردّه إلى صاحبه وأخرج قدر الزكاة منه بقي الإثم بالنسبة لما بيده منه، ويكون ذلك إخراجًا لجزء من الواجب عليه شرعًا، ولا يعتبر ما أخرجه زكاة، ولا تبرأ ذمته إلا بردّه كله لصاحبه إن عرفه أو التصدّق به عنه إن يئس من معرفته.
هل تدخل أعمال الدعوة إلى الله وما يعين عليها في مصارف الزكاة؟
اختلف أهل الفتوى في الإجابة على هذا السؤال بناء على اختلافهم في تحديد المراد بمصرف (في سبيل الله):
فمنهم من قصره على الغزاة المتطوعين وهؤلاء هم الجمهور.
ومنهم من أضاف إلى ذلك الحج.
ومنهم من وسع دائرته بحيث تشمل أعمال الدعوة، بل وأعمال البر بصفة عامة.
والذي يظهر لنا أن أعمال الدعوة إلى الله في هذا الزمان في ظل هيمنة التغريب والعلمانية تعد من جنس الجهاد بمفهومه الواسع، لأن الجهاد كما يكون بقوة الساعد والسنان يكون أيضا باللسان والبيان وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)).(1)
وأولى من ذلك بالجواز أعمال الدعوة إلى الله في بلاد الكفر حيث الدفاع عن أصل الدين، وحيث تكون مراهنة أهل الكفر على مسخ الأجيال المسلمة واستئصال هويتها!.
__________
(1) أبو داود 2054، والنسائي (6/7)، وأحمد (3/ 124، 250)، وابن حبان 4708 وإسناده صحيح.(1/314)
وهذا الذي قررناه في هذا المقام هو الذي انتهى إليه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورة انعقاده الثانية بمكة المكرمة عام 1405هـ عندما ورد إليه استفتاء بشأن تقسيم الزكاة والعشر في باكستان وفيما يلي نص هذا القرار.
... بعد اطلاع المجلس على ترجمة الاستفتاء الذي يطلب فيه الإفادة:
هل أحد مصارف الزكاة الثمانية المذكورة في الآية الكريمة وهو: { ????? ??????? ???? } يقصر معناه على الغزاة في سبيل الله ، أم إن سبيل الله عام لكل وجه من وجوه البر من المرافق، والمصالح العامة: من بناء المساجد والربط والقناطر وتعليم العلم وبث الدعاة.. الخ؟
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه ظهر أن للعلماء في المسألة قولين:
أحدهما: قصر معنى { ????? ??????? ???? } في الآية على الغزاة في سبيل الله وهذا رأي جمهور العلماء، وأصحاب هذا القول يريدون قصر نصيب { ????? ??????? ???? } على المجاهدين الغزاة في سبيل الله.
القول الثاني: إن سبيل الله شامل عام لكل طرق الخير والمرافق العامة للمسلمين من بناء المساجد وصيانتها وبناء المدارس والربط، وفتح الطرق وبناء الجسور، وإعداد المؤن الحربية، وبث الدعاة، وغير ذلك من المرافق العامة مما ينفع الدين وينفع المسلمين.
وهذا قول قلة من المتقدمين، وقد ارتضاه واختاره كثير من المتأخرين.
وبعد تداول الرأي ومناقشة أدلة الفريقين قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
1- نظراً إلى أن القول الثاني قد قال به طائفة من علماء المسلمين ، وأن له حظاً من النظر في بعض الآيات الكريمة؛ مثل قوله تعالى: { ????????? ?????????? ????????????? ??? ??????? ???? ???? ?? ??????????? ???? ?????????? ????? ????
????? } [البقرة: 262].(1/315)
ومن الأحاديث الشريفة مثل ما جاء في سنن أبي داود:(1) ))أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :(( اركبيها فإن الحج في سبيل الله)).
2- ونظراً إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، وأن إعلاء كلمة الله تعالى كما يكون بالقتال يكون - أيضا - بالدعوة إلى الله ونشر دينه؛ بإعداد الدعاة، ودعمهم، ومساعدتهم على أداء مهمتهم فيكون كلا الأمرين جهاداً؛ لما روى أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)).(2)
3- ونظراً إلى أن الإسلام محارب - بالغزو الفكري والعقَدي - من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأن لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام، وبما هو أنكى منه.
4- ونظراً إلى أن الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة، بخلاف الجهاد بالدعوة، فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون.
لذلك كله فإن المجلس يقرر - بالأكثرية المطلقة - دخول الدعوة إلى الله تعالى وما يعين عليها في معنى { ????? ??????? ???? } في الآية الكريمة.
ومما هو جدير بالذكر أن هذه المسألة قد عرضت على هيئة كبار العلماء بالسعودية عام 1394هـ وانتهت فيها إلى قصر هذا المصرف على الغزاة المتطوعين، وأنه إذا لم يوجدوا صرفت للأصناف الأخرى ولا تصرف في شيء من المرافق العامة.
وفيما يلي نص هذا القرار.
قرار رقم 24 بتاريخ 21/ 8/ 1394هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وبعد:
__________
(1) برقم 1990، وأخرجه الحاكم (1/ 183)، والبيهقي (6/ 164)، وفي إسناده ضعف، وله شواهد انظرها في الإرواء 869.
(2) تقدم وهو صحيح.(1/316)
قد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5/8/1394هـ ويوم 22/8/ 1394هـ على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة { ????? ??????? ???? } هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم، أم عام في كل وجه من وجوه الخير؟ وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد - ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية بأنهم الغزاة وما يلزم لهم، وأدلة من توسع في المراد بالآية ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر - رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى:
{ ????? ??????? ???? } الغزاة المتطوعون بغزوهم ما يلزم لهم من استعداد، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هل يجوز توظيف أموال الزكاة في إقامة مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق؟
لقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي المنبثق هذه القضية وانتهى إلى جوازها على أن يكون ذلك بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
وفيما يلي نص قراره في هذا الشأن:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13صفر 1407هـ / 11-16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه، قرر أنه:(1/317)
يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
وفي الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة بالكويت 1413هـ –1992م نوقش هذا الأمر وانتهت فيه الندوة إلى المقررات التالية:
يجوز استثمار أموال الزكاة بالضوابط التالية:
1- أن لا تتوافر وجوه صرف عاجلة تقتضي التوزيع الفوري لأموال الزكاة.
2- أن يتم استثمار أموال الزكاة - كغيرها - بالطرق المشروعة.
3- أن تتخذ الإجراءات الكفيلة ببقاء الأصول المستثمرة على أصل حكم الزكاة وكذل ريع تلك الأصول
4- المبادرة إلى تنضيض تسييل الأصول المستثمرة إذا اقتضت حاجة مستحقي الزكاة صرفها عليهم.
5- بذل الجهد للتحقق من كون الاستثمارات التي ستوضع فيها أموال الزكاة مجدية ومأمونة وقابلة للتحقيق عند الحاجة.
6- أن يتخذ قرار استثمار أموال الزكاة ممن عهد إليهم ولي الأمر بجمع الزكاة وتوزيعها لمراعاة مبدأ النيابة الشرعية، وأن يسند الإشراف على الاستثمار إلى ذوي الكفاية والخبرة والأمانة.
الخلاصة
التطبيقات المعاصرة للزكاة
زكاة النقود الورقية:
تجب الزكاة في النقود الورقية إذا بلغت نصاباً وحال عليها الحول ومقدار الزكاة ربع العشر 2.5%.
يحسب النصاب على أساس الذهب أو الفضة تبعاً لمصلحة الفقراء، وقيل بحسب النصاب على أساس الذهب فقط لأنه أكثر استقراراً.
نصاب الذهب عشرون ديناراً (85 جم).
نصاب الفضة مائتا درهم (595 جم).
فإذا بلغت النقود نصاباً وفقاً لأحد النصابيين فقد وجبت فيها الزكاة.
زكاة مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي:(1/318)
لا تجب الزكاة في هذه الاستحقاقات طيلة مدة الخدمة لعدم تحقق الملك التام الذي يشترط لوجوب الزكاة ، فإن صدر قرار بتحديدها وتسليمها للموظف دفعة واحدة أو على فترات دورية أصبح ملكه لها تاما ويزكي ما قبضه منها زكاة المال المستفاد.
زكاة عروض التجارة:
عروض التجارة هي ما أعد للبيع والشراء بقصد الاسترباح، ووجوب إخراج الزكاة عنها هو الذي عليه جمهور أهل العلم، ومقدار الواجب فيها ربع العشر 2.5%.
ويكون تقويم عروض من التجارة بالسعر الذي يمكن الشراء به عادة في نهاية الحول.
المعادلة الميسرة لحساب الزكاة في عروض التجارة هي:
الزكاة الواجبة = عروض التجارة + النقود + الديون المرجوة على الغير - الديون التي على التاجر × نسبة الزكاة حسب الحول القمري 2.5% أو حسب الحول الشمسي 2.577%.
زكاة المستغلات:
والمستغلات كل ما هو معد للإيجار وليس معدا للاتجار في أعيانه كالعقارات والسيارات، والجمهور على أنه تضم في النصاب والحول إلى ما لدى مالكها من نقود وعروض ويخرج عنها ربع العشر.
وذهب بعض أهل العلم إلى قياسها على زكاة الزروع والثمار وفي هذا التخريج نظر.
زكاة الحقوق المعنوية:
الحقوق المعنوية كحقوق التأليف والاختراع حقوق مصونة شرعاً لا يجوز الاعتداء عليها ولا تجب الزكاة في هذه الحقوق في ذاتها لعدم توافر شروط الزكاة فيها ولكنها إذا استغلت يطبق على غلتها حكم المال المستفاد.
زكاة الأسهم:
إذا ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ربح الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة في أعيان الأسهم زكيت الأسهم زكاة المستغلات، فيجب ربع العشر في ريع هذه الأسهم.
أما إذا ساهم بقصد الاتجار في عين الأسهم زكيت الأسهم زكاة عروض التجارة، فتقوم الأسهم ويخرج عنها ربع العشر.
زكاة الديون:
يزكى الدين سنويا إذا كان المدين غنيا باذلاً.
ويزكى الدين بعد دوران حول من يوم القبض إن كان المدين معسراً أو مماطلاً.
الديون الاستثمارية:(1/319)
إذا استخدم الدين في التجارة فإنه يسقط مقابله من الموجودات الزكوية، أما إذا استخدم في تملك المستغل من عقاراً أو آليات لم يسقط مقابله من الموجودات الزكوية إلا القسط الحال فقط.
زكاة الأجور والرواتب والمهن الحرة:
تضم هذه الأموال إلى سائر ما لدى أصحابها من الأموال الزكوية في النصاب والحول ويزكى الجميع زكاة النقود - ربع العشر - في أرجح قولي أهل العلم.
المال الحرام إذا لم يعرف له مالك معين - يصرف جميعه في وجوه الخير ولا تطيبه الزكاة، فإن تعذر إخراجه بعينه - أخرج مثله أو قيمته.
استثمار أموال الزكاة لصالح المستحقين:
يجوز استثمار أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع يعود نفعها إلى المستحقين إذا لم توجد وجوه صرف عاجلة تقتضي التوزيع الفوري لأموال الزكاة.
دخول أعمال الدعوة إلى الله تعالى في مصارف الزكاة:
اختلف أهل العلم في دخول أعمال الدعوة في مصارف الزكاة ، وما إذا كان يشملها مصرف في سبيل الله، أم لا؟ ولعل أقرب القولين تحقيقاً للمصالح العامة في هذا الزمان هو القول بجواز ذلك ودخول أعمال الدعوة في مصارف الزكاة .
لا بأس بتوظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية لمصلحة الفقراء، على أن يكون ذلك بعد تلبية الحاجة الماسة للمستحقين ويوفر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
الوحدة الأولى ... 4
الإطار الأخلاقي للمستثمر المسلم
النية الصالحة ... 5
الخلق الحسن ... 6
التعامل في الطيبات ... 7
أداء الحقوق ... 8
تجنب الربا وما كان ذريعة إليه من العقود الفاسدة. ... 10
تجنب أكل أموال الناس بالباطل ... 12
الالتزام باللوائح النظامية في إطار سيادة الشريعة ... 14
عدم الإضرار بالآخرين ... 14
موالاة المؤمنين ... 15
تعلم أحكام المعاملات الشرعية ... 16
الخلاصة ... 17
الوحدة الثانية ... 18
أحكام عامة في العقود
أحكام عامة في العقود ... 22
تقسيمات العقود ... 27
الأهلية ... 32
مصطلحات لها علاقة بالأهلية ... 34
عوارض الأهلية ... 37
الخيارات في العقود ... 40(1/320)
نظرية الظروف الطارئة ... 46
الأصل في الشروط والعقود الحل ... 48
الشرط الجزائي في العقود ... 49
الخلاصة ... 53
الوحدة الثالثة ... 59
المال والعمل والربح
المصطلحات ... 60
تعريف المال ... 60
العمل ... 63
الربح: ما يحل منه وما يحرم ... 66
قرار المجمع الفقهي بشأن تحديد أرباح التجار ... 69
الخلاصة ... 71
الوحدة الرابعة ... 73
البيوع وأحكامها
تعريف ومشروعية البيع ... 75
أقسام البيع ... 75
بيوع محرمة ... 82
بيع الكالئ بالكالئ ... 82
بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه ... 89
بيع المزايدة ... 95
بيع الحاضر للبادي ... 91
بيع الكلاب ... 94
التجارة في آلات اللهو والمعازف ... 94
البيع عند آذان الجمعة ... 95
بيوع مختلف فيها ... 98
بيع التقسيط مع زيادة الثمن ... 98
بيع العينة ... 102
بيع الوفاء ... 105
بيع العربون ... 107
بيع الاستجرار ... 109
الخلاصة ... 112
الوحدة الخامسة ... 118
عقود الاستثمار الشرعية
المصطلحات ... 118
أولاً: الشركات وأحكامها. ... 120
أولاً: شركة العنان ... 122
ثانياً: شركة الأبدان ... 131
ثالثاً: شركة الوجوه ... 135
رابعاً: شركة المفاوضة ... 137
ثانياً: المضاربة وأحكامها ... 141
ثالثا: صور أخرى من عقود الاستثمار المرابحة وأحكامها ... 163
عقد السلم وأحكامه ... 169
عقد الاستصناع وأحكامه ... 178
الإجارة وأحكامها ... 183
أسئلة التقويم الذاتي ... 207
الوحدة السادسة ... 207
عقود تابعة للعقود الاستثمارية
المصطلحات ... 207
أولاً: عقد القرض ... 208
ثانياً: عقد الصلح ... 214
ثالثاً: عقد التأمين ... 223
نص قرار المجمع الفقهي بشأن التأمين ... 231
الخلاصة ... 233
الوحدة السابعة ... 236
قضايا معاصرة
المصطلحات ... 236
أعمال البورصة ... 237
بطاقات الائتمان ... 245
حقوق التأليف ... 256
الخلاصة ... 260
الوحدة الثامنة ... 263
قيود الاستثمار
المصطلحات ... 263
تحريم الاتجار في المحرمات ... 267
تحريم الربا ... 278
تحريم الغرر ... 306
حرمة الغش والتدليس والغبن الفاحش ... 315
تحريم كل بيع أعان على معصية ... 318
الخلاصة ... 320
الوحدة التاسعة ... 324
أعمال المصارف
المصطلحات ... 324
الودائع المصرفية ... 325
الاعتمادات المصرفية ... 338(1/321)
الإقراض وأنواعه ... 338
شهادات الاستثمار ... 345
الصرف وأحكامه ... 351
الخلاصة ... 355
الوحدة العاشرة ... 359
التطبيقات المعاصرة للزكاة
المصطلحات ... 359
زكاة النقود ... 360
زكاة مكافأة نهاية الخدمة ... 361
زكاة عروض التجارة ... 362
زكاة الأراضي ... 364
زكاة المستغلات ... 365
زكاة الحقوق المعنوية ... 367
زكاة الأسهم ... 367
زكاة الديون ... 370
الديون الاستثمارية ... 372
زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة ... 373
زكاة المال الحرام ... 375
الخلاصة ... 381(1/322)