الفصل الثاني
في لمس غير العورة من البدن
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس المرأة والرجل.
المبحث الثاني: في لمس المحارم والصغيرة وما اتصل بالجسم ووضوء الملموس.
المبحث الأول
في لمس المرأة والرجل
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الرجل للمرأة والمرأة للرجل.
المطلب الثاني: في لمس الأمرد.
المطلب الثالث: في لمس الرجل للرجل.
المطلب الرابع: في لمس المرأة للمرأة.
المطلب الأول
في لمس الرجل للمرأة والمرأة للرجل
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى أقوال أوصلها بعضهم إلى سبعة أقوال (1) وأشهرها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أو بغير شهوة وهو مروي عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومسروق، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ولكن إذا باشرها وليس بينهما ثوب وتماس الفرجان وانتشر استحب له الوضوء استحساناً والقياس أن لا يكون حدثاً وهو قول محمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية (2) .
__________
(1) من الأقوال في لمس المرأة:
أن لمس المرأة ينقض الوضوء إذا كان عمداً وبه قال الشافعية في وجه والظاهرية، وضعفه النووي.
ومنها إن لمس بأعضاء الوضوء انتقض الوضوء وإلا فلا ونسب هذا القول للأوزاعي.
ومنها أنه إن لمس من تحل له لم ينتقض وضوءه وإن لمس من تحرم عليه انتقض ونسب هذا القول لعطاء.
ومنها أنه إن لمس بشهوة بشرة أو شعراً انتقض وضوءه وإن كان فوق حائل رقيق ونسب هذا القول لربيعة ومالك في رواية.
انظر:عن هذه الأقوال: الاستذكار1/318–321،الأوسط1/127، الحاوي1/183، شرح السنة1/345،المجموع2/26,31،المغني 1/260و261، المحلى 1/249.
(2) انظر: مختصر الطحاوي 19، المبسوط 1/68، الاختبار 1/10، شرح فتح القدير 1/48، الأوسط 1/125و126، المغني 1/257، المبدع 1/166، الإنصاف 1/216 كشاف القناع 1/128، مجموع الفتاوى لأبن تيميه 21/236.(1/1)
القول الثاني: أن لمس المرأة ينقض الوضوء إذا كان بشهوة ولا ينقض إذا كان بغير شهوة، وهو مروي عن الحكم، وعلقمة، والنخعي والليث، وإسحاق وهو قول مالك، وأحمد في المذهب (1) .
القول الثالث: أن لمس المرأة ينقض مطلقاً بمجرد التقاء البشرتين ولو بغير شهوة أو قصد وهو مروي عن عمر وابنه، وابن مسعود ومكحول، والشعبي، والنخعي، ويحيى الأنصاري، وسعيد بن عبدالعزيز، وهو قول الشافعي وأحمد في رواية، وابن حزم إلا أنه قيده بالعمد دون الخطأ (2) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" قال عروة: قلت لها: "من هي إلا أنت" (3) .
__________
(1) انظر: التفريع 1/196، الإشراف 1/23، الاستذكار 1/320، بداية المجتهد 1/38، قوانين الأحكام الشرعية 39، الأوسط 1/125و126، الانتصار 1/313، المغني 1/256، المبدع 1/166، المحرر 1/13، الإنصاف 1/211.
(2) انظر: الأم 1/12، الأوسط 1/121، الحاوي 1/183، الغاية القصوى 1/218، نهاية المحتاج 1/102، المغني 1/257، الإنصاف 1/211، المستوعب 1/235، المحلى 1/248.
(3) أخرجه أحمد في المسند 6/210، وأبو داود 1/124 في الطهارة باب: الوضوء من القبلة واللفظ له والترمذي 1/133 في الطهارة باب: ما جاء في ترك الوضوء من القبلة، وابن ماجه 1/168 في الطهارة باب: الوضوء من القبلة، والنسائي 1/104 في الطهارة باب: ترك الوضوء من القبلة، والدارقطني 1/138، والبيهقي 1/125، وصححه ابن عبدالبر في التمهيد 21/174و175، والزيلعي في نصب الراية 1/72، والتركماني في الجوهر النقي 1/123-127، وصححه أحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي 1/134، وقال: هذا حديث صحيح لا علة له، وقد أعله بعضهم بما لا يطعن في صحته، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/82.(1/2)
وجه الدلالة من الحديث: أن القبلة إذا كانت لا تنقض الوضوء فمن باب أولى أن لا ينقض اللمس الوضوء.
2-حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتها" (1) .
وفي رواية: "فإذا أراد أن يوتر مسني برجله" (2) .
3-حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان" (3) .
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما دلا على أن اللمس لا يؤثر في الوضوء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السجود - كما ورد في الحديث - غمز عائشة، والغمز لمس بلا شك، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم قطع صلاته لذلك وهذا عام لم يفرق فيه بينما إذا كان بشهوة أو بغير شهوة.
4-حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب بنت رسول صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" (4) .
وجه الدلالة من الحديث: أن الظاهر أنه لا يسلم من مسها (5) .
4-أن اللمس ليس بحدث بنفسه ولا سبب لوجود الحدث غالباً فأشبه مس الرجل الرجل والمرأة المرأة ومس المحارم والشعر، وأن لمس الزوجين مما يكثر وجوده فلو جعل حدثاً لوقع الناس في الحرج (6) .
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
__________
(1) أخرجه البخاري 1/107 في الصلاة باب: الصلاة خلف المرأة، ومسلم 1/366 في الصلاة باب: الاعتراض بين يدي المصلي.
(2) أخرجها النسائي 1/101و102، في الطهارة باب: ترك الوضوء من مس الرجل امرأته وصححها النووي في المجموع 2/31.
(3) أخرجه مسلم1/352 في الصلاة (باب في الركوع والسجود).
(4) أخرجه البخاري 1/131 في الصلاة باب: إذا حمل جارية صغيرة، ومسلم 2/352 في الصلاة باب: ما يقال في الركوع والسجود.
(5) انظر: المغني 1/259.
(6) انظر: بدائع الصنائع 1/30، المغني 1/257.(1/3)
1-حديث حبيب بن أبي ثابت اعترض عليه من أربعة أوجه:
أ-أنه ضعيف وعروة المذكور في سنده هو عروة المزني ولم يدرك عائشة، وممن ضعفه الثوري ويحيى بن سعيد القطان وأحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي والبخاري وأبو حاتم وغيرهم (1) .
ب-ما ذكره الإمام أحمد وغيره أن حبيب بن أبي ثابت غلط فيه من الصيام إلى الوضوء (2) .
ج-أنه لو صح الحديث فهو محمول على أن القبلة كانت لغير شهوة براً بها وإكراماً لها ورحمة، أو كانت من وراء حائل جمعاً بين الأدلة (3)
د-إذا صح الحديث يكون ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يملك إربه كما ذكرت عائشة في تقبيله صائماً (4) .
وأجيب عن هذه الاعتراضات:
أن تضعيف بعض الحفاظ لهذا الحديث قابله تصحيح البعض له كابن عبد البر، والزيلعي، والتركماني وغيرهم، وله طرق وشواهد متعددة يقوي بعضها بعضاً وتجعل له أصلاً فيصلح للاستدلال (5) .
أما ما ذكره الإمام أحمد وغيره ففيه نظر، وحمل القبلة على أنها كانت لغير شهوة أو كانت من وراء حائل غير مسلم ولا دليل عليه (6) .
أما القول بأنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فغير مسلم لأن التخصيص يحتاج إلى دليل ولا دليل (7) .
2-و 3- حديث عائشة رضي الله عنها أن يدها وقعت على بطن قدمي النبي صلى الله عليه وسلم اعترض عليه من ثلاثة أوجه:
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملموساً ولا وضوء عليه.
ب-أنه كان داعياً ولم يكن في صلاة وذلك يجوز للمحدث، وليس من شرط الدعاء ألا يكون إلا في الصلاة.
__________
(1) انظر: الأوسط 1/129، سنن الترمذي 1/134، الجرح والتعديل 3/107، الحاوي 1/186، المجموع 2/32، المغني 1/258.
(2) انظر: الحاوي 1/186، المجموع 2/32.
(3) انظر: الحاوي 1/186، المغني 1/258.
(4) انظر: شرح الزركشي 1/267.
(5) انظر: نصب الراية 1/272، التمهيد 21/174و175، الجوهر النقي 1/123،127.
(6) انظر: نيل الأوطار 1/195، الشرح الممتع 1/237.
(7) انظر: نيل الأوطار 1/195.(1/4)
ج-أنه يحتمل أن لمسه لها فوق حائل وهذا هو الظاهر فيمن هو نائم في فراشه (1) .
وأجيب عن هذه الاعتراضات:
بأنها احتمالات فيها نظر ولا دليل عليها، ولو قيل إن اللمس كان بغير شهوة لكان أقرب (2) .
4-حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه
اعترض عليه من ثلاثة أوجه:
أ-أظهرها أنه لا يلزم من ذلك التقاء البشرتين فحملها لا يقتضي مباشرة بدنها.
ب-أنها صغيرة لمسها لا ينقض الوضوء.
ج-أنها من ذوات المحارم (3) .
وأجيب عما ذكروه بأنه ادعاء يحتاج إلى دليل، ودعوى أنها صغيرة لم يرد دليل يدل على أن لمس الصغيرة لا ينقض الوضوء (4) .
أدلة أصحاب القول الثاني:
1-قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (5) .
وجه الدلالة من الآية: أن اللمس هو الجس باليد لكنه مقيد في الآية بقصد الشهوة دون غيره للجمع بين الآية والأحاديث، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمس زوجته في الصلاة، وتمسه، ولو كان ذلك ناقضاً لما فعله صلى الله عليه وسلم (6) .
2-حديثي عائشة وحديث أبي قتادة السابقة في أدلة أصحاب القول الأول.
وجه الدلالة من الأحاديث المذكورة (7) :
أن اللمس لا ينقض الوضوء ولو كان ناقضاً لانتقض وضوء النبي صلى الله عليه وسلم واستأنف الصلاة؛ لأن الظاهر من غمزه رجليها كان من غير حائل.
__________
(1) انظر: الحاوي 1/187، المجموع 2/33.
(2) انظر: نيل الأوطار 1/19، الشرح الممتع 1/231.
(3) انظر: الحاوي 1/187، المجموع 2/33.
(4) انظر: نيل الأوطار 1/195، الشرح الممتع 1/238.
(5) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.
(6) انظر: المغني 1/258، كشاف القناع 1/128.
(7) سبق تخريجها في ص: (257) و(258).(1/5)
وكذلك الظاهر أنه لا يسلم من لمس أمامه عند حملها في الصلاة، ولكن لم يكن ذلك ناقضاً للوضوء، لأنه كان من غير شهوة (1) .
3-أن اللمس ضربان أعلى وأدنى، والطهر نوعان أعلى وأدنى، فلما وجب بالأعلى - وهو التقاء الختانين - أعلى الطهرين، وجب أن يجب بالأدنى - وهو ما دونه - أدناهما وهو الوضوء (2) .
4-أن المس ليس بحدث في نفسه، وإنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت الحالة التي يدعو فيها إلى الحدث وهي حالة الشهوة (3) .
5-أن إيجاب الوضوء بمجرد اللمس فيه مشقة عظيمة، وما كان فيه حرج ومشقة فإنه منفي شرعاً (4) .
واعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-استدلالهم بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} اعترض عليه بأن تقييد اللمس في الآية بالشهوة غير مسلم إذ لا دليل عليه (5) .
وأجيب عن هذا: بأن الشهوة مظنة فوجب حمل الآية على ذلك (6) .
2-حديثي عائشة وحديث أبي قتادة سبق الاعتراض عليها والإجابة عليها في أدلة أصحاب القول الأول (7) .
3-ما استدلوا به من المعقول اعترض عليه بأنه في مقابل نصوص من الكتاب والسنة والاستدلال بالنصوص مقدم على الاستدلال بالمعقول.
أدلة أصحاب القول الثالث:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وقرأ حمزة الكسائي {أو لمستم} بمعنى أو لمستم أنتم أيها الرجال نساءكم وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأنه لا يكون الرجل لامساً امرأته إلا وهي لامسته (8) .
قال ابن المنذر: "فجائز أن يقال لمن قبل امرأته أو لمسها بيده قد لمس فلان زوجته" (9) .
__________
(1) انظر: المغني 1/259، الشرح الممتع 1/237.
(2) انظر: الإشراف 1/23.
(3) انظر: المغني 1/259.
(4) انظر: الشرح الممتع 1/237.
(5) انظر: الحاوي 1/187، الشرح الممتع 1/237.
(6) انظر: الشرح الممتع 1/237.
(7) تقدم في ص: (257) و (258).
(8) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 8/406، الجامع لأحكام القرآن 2/223.
(9) انظر: الأوسط 1/127.(1/6)
ويدل على أن اللمس قد يكون باليد قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت" (2) فظاهر الكتاب والسنة واللغة تدل على أن اللمس يكون باليد وغيره (3) .
والله تعالى أمر اللامس بأن يتيمم عند عدم الماء حيث قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ... } (4) .
ففي ذلك دلالة على انتقاض وضوء الرجل بملامسة المرأة (5) .
2- حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْل ... } (6) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل" قال معاذ فقلت: يا رسول الله أَلَهُ خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال: "بل للمؤمنين عامة" (7) .
__________
(1) من آية: (7) من سورة الأنعام.
(2) سبق تخريجه في ص: (216).
(3) انظر: لسان العرب 9/209، المصباح المنير 2/677.
(4) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(5) انظر: الأوسط 1/127.
(6) آية: (114) من سورة هود.
(7) أخرجه أحمد في المسند 5/244، والترمذي 5/291 باب: ومن سورة هود، وقال: هذا حديث ليس بمتصل، عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر ... ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/135 في الطهارة باب: الدليل على أن اللمس ما دون الجماع وسكت عليه وتابعه الذهبي، والدارقطني 1/134 وصححه، والبيهقي 1/125 في الطهارة باب: الوضوء من الملامسة، وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1/70.(1/7)
وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر السائل بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها (1) .
3- ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: القبلة من اللمس فتوضّؤوا منها (2) .
4- ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء (3) .
1-أنه لمس يوجب الفدية على المحرم فنقض كالجماع (4) .
واعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-استدلالهم بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ... }
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم 2/277، نيل الأوطار 1/195.
(2) أخرجه البيهقي1/124 في الطهارة باب: الوضوء من الملامسة، والدارقطني 1/144 في الطهارة باب: صفة ما ينقض الوضوء وما روي في الملامسة والقبلة وصححه.
(3) أخرجه البيهقي 1/124 في الطهارة باب: الوضوء من الملامسة، والدارقطني 1/144 في الطهارة باب: صفة ما ينقض الوضوء وما روي في الملامسة والقبلة وصححه، وقال النووي في المجموع 2/31 عن إسناده: وهذا إسناد في غاية الصحة.
(4) انظر: الحاوي 1/186، المجموع 2/31.(1/8)
اعترض عليه: أنه جائز في اللغة أن يقال لمن لمس امرأته بيده قد لمسها ولكن الملامسة التي ذكرها الله في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع الموجب للجنابة دون غيره، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} يعني: وقد أحدثتم قبل ذلك {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فأوجب الله عز وجل غسل الأعضاء التي ذكرها بالماء ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} يريد الاغتسال بالماء، فأوجب الوضوء من الأحداث، والاغتسال بالماء من الجنابة، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يريد الجماع الذي يوجب الجنابة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تتوضؤن به من الغائط أو تغتسلون به من الجنابة كما أمرتم به في أول الآية {فَتَيَمَّمُوا} (1) فإنما أوجب في آخر الآية التيمم على ما كان أوجب عليه الوضوء والاغتسال بالماء في أولها وقد تأكد هذا التفسير بفعله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت في الأحاديث السابقة في أدلة أصحاب القول الأول أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويلمس زوجته ولا يتوضأ (2) .
ويؤيد هذا أن ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن والذي استجاب الله فيه دعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم قد فسر اللمس في الآية بالجماع وهو قول جمهور المفسرين وصوبه واختاره الإمام الطبري (3)
وورد عن أهل اللغة أن اللمس إذا قرن بالنساء يراد به الوطء تقول العرب: لمست المرأة أي جامعتها (4) .
2-استدلالهم بحديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ اعترض عليه من وجهين:
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.
(2) انظر: الأوسط 1/218، الحاوي 1/185.
(3) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/166، الأوسط 1/216، جامع البيان في تأويل آي القرآن 4/102.
(4) انظر: نصب الراية 1/70، الاستذكار 1/325.(1/9)
أ-أن الحديث منقطع كما تقدم في تخريجه (1) .
ب-أنه لم يثبت أن السائل كان متوضأ قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء ولا يثبت أنه كان متوضأ عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد انتقض وضوءه (2)
2-ما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما، اعترض عليه:
أنه لا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع وعلى فرض حجيته يحمل على القبلة التي تكون بشهوة (3)
واعترض على قياس اللمس على الفدية.
أنه قياس مع الفارق لأن لمس المحرم بدون شهوة لا يؤثر في الحج ولا يوجب شيئاً (4) .
الراجح:
هو أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أو لغير شهوة إلا إذا أمنى أو أمذى وذلك لما يلي:
1) أنه لم يرد دليل على أن مجرد اللمس حدث ينقض الوضوء والملامسة الواردة في الآية المراد بها الجماع فسرها بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن الذي علمه الله تأويل كتابه واستجاب فيه دعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم (5) وقد ثبت هذا التفسير بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير كما ذكره ابن حجر (6) .
2) أكد هذا التفسير فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يلمس زوجته وهو في الصلاة ولو كان ذلك ناقضاً للطهارة لما فعله وثبت أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ (7) .
__________
(1) انظر: نيل الأوطار 1/195.
(2) انظر: نيل الأوطار 1/195.
(3) انظر: نيل الأوطار1/195.
(4) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية21/233.
(5) انظر: جامع البيان في تأويل آي القرآن 4/105، نيل الأوطار 1/195.
(6) انظر: فتح الباري 8/272.
(7) تقدم ذلك في ص: (259).(1/10)
3) أن الأدلة التي استدل بها على أن اللمس ينقض الوضوء تدل على أن مجرد اللمس لا ينقض الوضوء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار وليس مع قائله نص ولا قياس فإن كان اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قال ابن عمر وغيره - فقد علم أنه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله تعالى في آية الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} (1) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة وكذلك المحرم الذي هو أشد - لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم فمن زعم أن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم ومن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي صلى الله عليه وسلم بينه لأمته وكان مشهوراً بين الصحابة ... فعلم أنه قول باطل (2) .
__________
(1) آية: (187) من سورة البقرة.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية21/233-235.(1/11)
وقد رجح هذا القول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ومما قال: "إن الأصل عدم النقض حتى يقوم دليل صحيح صريح على ذلك ولم يرد حديث صحيح صريح ولا صحيح غير صريح يوجب على من لمس امرأته الوضوء أما الاستدلال بالآية على وجوب الوضوء من لمس المرأة فهو في غير موضعه، وأن الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي ولا دليل على ذلك، وهذا الأمر مما تعم به البلوى، فلو أوجبنا الوضوء به لكان في ذلك حرج ومشقة، وما كان كذلك فإنه منفي شرعاً، ولأن تقييد النقض بالشهوة لا أعلم له دليلاً أصلاً (1) .
والمرأة كالرجل لا ينتقض وضوءها إذا لمست الرجل سواء كان اللمس بشهوة أو بغير شهوة ما لم ينزل منها شيء (2)
المطلب الثاني
في لمس الأمرد
اختلف العلماء في حكم لمس الأمرد على قولين:
القول الأول: أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة وبه قال الشافعية في الأصح، والحنابلة في المذهب (3) .
القول الثاني: أن لمس الأمرد ينقض الوضوء وبه قال المالكية والشافعية في وجه، والحنابلة في رواية (4) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (5) .
وجه الدلالة: أن الآية لا تتناوله ولا هو داخل في معناها (6) .
2-أنه من جنس لا ينتقض الوضوء بلمسه فكان ما شذ منه ملحقاً بعموم الجنس (7) .
__________
(1) انظر: الشرح الممتع 1/238.
(2) المغني 1/261، الشرح الممتع 1/241.
(3) انظر: الحاوي 1/188، المجموع 2/30، المغني 1/261، المبدع 1/167، الإنصاف 1/214.
(4) انظر: بلغة السالك1/54، جواهر الإكليل1/20، الحاوي1/188، المجموع2/30 المبدع 1/167، الإنصاف1/214.
(5) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(6) انظر: الحاوي 1/188، المغني 1/261.
(7) انظر: الحاوي 1/188.(1/12)
3-أنه ليس محلاً للشهوة، والمرأة محل لشهوة الرجل شرعاً وطبعاً (1) .
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1-أنه مما يلتذ بلمسه (2) .
2-أنه محل للشهوة كالمرأة ولأن من الناس - والعياذ بالله - من قلب الله حسه وفطرته فأصبح يشتهي الذكور دون النساء.
وهذا خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد قال بعض أهل العلم إن النظر إلى الأمرد حرام كالنظر إلى المرأة مطلقاً، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تجوز الخلوة بالأمرد ولو بقصد التعليم (3) .
الراجح:
أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء إلا إذا خرج من اللامس شيء كما سبق ترجيح ذلك في مسألة لمس المرأة وهذا من باب أولى.
المطلب الثالث
في لمس الرجل للرجل
لمس الرجل للرجل لا ينقض الوضوء فيجوز للرجل أن يمس بدن رجل آخر عدا عورته وهي ما بين السرة والركبة (4) .
لحديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا" (5)
وعن ثابت البناني أن أنساً كان إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه (6) .
وجه الدلالة: أن في ذلك دلالة على جواز مصافحة الرجل لصاحبه ويلزم من ذلك المس إذ لا مصافحة بدون مس (7) .
__________
(1) انظر: الحاوي 1/188، المغني 1/261.
(2) انظر: جواهر الإكليل 1/20، المغني 1/261.
(3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيميه 21/243-253، الشرح الممتع 1/243.
(4) انظر: بدائع الصنائع51/123، مواهب الجليل1/499، الحاوي1/188، المغني 9/504.
(5) أخرجه أبو داود 5/388، في كتاب الأدب باب: في المصافحة واللفظ له، والترمذي 5/74 في كتاب الاستئذان باب:ما جاء في المصالحة وقال حديث حسن غريب، وابن ماجة 2/1220 في كتاب الأدب باب: المصافحة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/979.
(6) أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب: من دهن يده للمصافحة. انظر صحيح الأدب المفرد للألباني ص: (388).
(7) انظر: روضة الطالبين 7/28.(1/13)
ولفقد اللذة غالباً في لمسه (1) .
أما عدم جواز مس العورة فلحديث أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (2) .
وجه الدلالة: أن فيه دليلاً على تحريم لمس عورة الغير بأي موضع من بدنه كان وهذا متفق عليه (3) .
المطلب الرابع
في لمس المرأة للمرأة
حكم المرأة مع المرأة كحكم الرجل مع الرجل على حد سواء فكل ما يجوز للرجل أن يمسه من الرجل يجوز للمرأة أن تمسه من المرأة ولا ينتقض به الوضوء فالرجل لا يجوز له أن يرى عورة الرجل ولا أن يمسها وكذلك المرأة لا يجوز لها أن ترى عورة المرأة ولا أن تمسها (4) .
لحديث أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (5) .
قال النووي: "فيه دليل على تحريم لمس عورة غيره بأي موضع من بدنه كان، وهذا متفق عليه" (6) .
في لمس المحارم وما اتصل بالجسم ووضوء الملموس
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس المحارم والصغيرة.
المطلب الثاني: في لمس ما اتصل بالجسم كالشعر والظفر والسن.
المطلب الثالث: في وضوء الملموس.
المطلب الأول
في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت والخالة
وغيرهن من المحارم والصغيرة
__________
(1) انظر: الحاوي 1/188.
(2) أخرجه مسلم 1/266 في كتاب الحيض باب: تحريم النظر إلى العورات.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.
(4) انظر: بدائع الصنائع 5/124، مواهب الجليل 1/498، روضة الطالبين 7/28، المغني 9/505.
(5) سبق تخريجه في ص: (273).
(6) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.(1/14)
تقدم في المبحث الأول قبل هذا المبحث الكلام على لمس المرأة عموماً ولما كان لمس المحارم والصغيرة قد يتوهم أنه لا خلاف فيه افردته بمطلب مستقل بينت فيه خلاف العلماء وهو كما يأتي:
اختلف العلماء في لمس المحارم والصغيرة هل ينقض الوضوء أم لا ؟ على قولين:
القول الأول: أن لمس المحارم والصغيرة لا ينقض الوضوء، وبه قال الحنفية والشافعية في المذهب، والحنابلة في رواية (1) .
القول الثاني: أن لمس المحارم والصغيرة كلمس الأجنبية ينتقض به الوضوء إذا كان بشهوة، وبه قال المالكية والشافعية في قول، والحنابلة في المذهب (2) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه ثم أخذت بيده" (3) .
2- حديث أبي قتادة الأنصاري صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب - بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" (4) .
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما قد دلا على جواز لمس المحارم وأن ذلك لا يؤثر في نقض الوضوء لا سيما حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامه وهو يصلي (5)
__________
(1) انظر: المبسوط 1/68، بدائع الصنائع 1/30، 5/120، الحاوي 1/188، فتح العزيز 2/32، المجموع 2/27، الإنصاف 1/213، المبدع 1/165.
(2) انظر: الإشراف 1/24، الاستذكار 1/322، فتح العزيز 2/32، المجموع 2/2، المغني 1/260، الإنصاف1/213، المبدع 1/165.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب: قيام الرجل لأخيه. انظر صحيح الأدب المفرد ص: (352).
(4) تقدم تخريجه في ص: (258).
(5) انظر: الحاوي 1/188.(1/15)
3- أن لمس المحارم والصغيرة لا يفضي إلى خروج شيء فأشبه لمس الرجل الرجل (1)
4- أن الاعتبار في اللمس في الغالب أنه للشهوة وهذا مفقود في المحارم (2) 5) وقد سبق في مسألة لمس الرجل للمرأة ما على هذه الأدلة من اعتراضات والجواب عليها (3) .
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- عموم قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (4) .
وجه الدلالة: أن الشهوة مظنة الحدث فوجب حمل الآية عليه، وهي لم تفرق بين الأجنبية وغيرها من النساء (5) .
قال ابن قدامة: "واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع" (6) .
2- أن اللمس يؤثر في نقض الوضوء فلا فرق فيه بين المحارم والأجنبيات والصغائر والعجائز كالإيلاج (7) .
3- ولأن ما نقض الطهر من الأجانب نقضه من ذوات المحارم كلمس الفرج والتقاء الختانين (8) .
وقد سبق في مسألة لمس المرأة ما على هذه الأدلة من اعتراضات والجواب عليها.
الراجح:
هو عدم نقض الوضوء بمس المحارم والصغيرة إلا إذا خرج منه شيء لما ذكرت في عدم النقض بلمس المرأة ما لم ينزل شيء وهنا عدم النقض من باب أولى.
المطلب الثاني
في لمس ما اتصل بالجسم
كالشعر والظفر والسن
تقدم الكلام على لمس العورة وغيرها من البدن، وهنا أبين حكم ما اتصل بالبدن هل له حكم البدن في نقض الطهارة وعدم النقض أم لا؟
اختلف العلماء في نقض الوضوء بلمس ما اتصل بالبدن كالشعر والظفر والسن على قولين:
__________
(1) انظر: المغني 1/260.
(2) انظر: المجموع 2/28.
(3) انظر: ص: (255) فما بعدها.
(4) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.
(5) انظر: الإشراف 1/24، الشرح الممتع 1/237.
(6) انظر: المغني 1/260.
(7) انظر: الإشراف 1/24.
(8) انظر: الحاوي 1/188.(1/16)
القول الأول: أن لمس ما اتصل بالبدن كالشعر والظفر والسن لا ينقض الوضوء وهو قول الحنفية والشافعية في المذهب والحنابلة (1) .
القول الثاني: أن لمس ما اتصل بالبدن ينقض الوضوء وهو قول المالكية وبعض الشافعية (2) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- أنه لا يلتذ بلمس هذه الأشياء وإنما يلتذ بالنظر إليها (3) .
2- أن هذه الأشياء لا يقصد لمسها للشهوة غالباً وإنما تحصل اللذة وتثور الشهوة عند التقاء البشرتين للإحساس (4) .
3- أن هذه الأشياء في حكم المنفصل ولا حياة فيها ولا شعور وهي إنما تحدث بعد كمال الخلقة فهي باللباس أشبه (5) .
4- أن ذلك مما لا يقع الطلاق على المرأة بتطليقه ولا الظهار، ولا ينجس الشعر بموت الحيوان، ولا بقطعه منه في حياته (6) .
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- عموم قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (7) .
وجه الدلالة: أن له حكم البدن لاتصاله بالبدن (8) .
2- ولأن الشعر له حكم البدن في الحل بالنكاح ووقوع الطلاق بإيقاعه عليه ووجوب غسل الجنابة وغير ذلك من الأحكام فأُلحق به (9) .
3- أنه جزء من البدن متصل به اتصال خلقه فأشبه اللحم (10) .
وقد سبق الاعتراض على بعض هذه الأدلة والإجابة عليها في مسألة لمس المرأة (11) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1/30 - 5/124، مجمع الأنهر 1/21، الأم 1/13، الحاوي 1/187، المغني 1/260، المبدع 1/166، الإنصاف 1/213.
(2) الإشراف1/23، الاستذكار1/326، بلغة السالك1/54، الحاوي1/188، المنهاج 1/35، مغني المحتاج 1/35.
(3) انظر: الحاوي 1/188.
(4) انظر: الحاوي 1/188، المجموع 2/27.
(5) انظر: الحاوي 1/188، الشرح الممتع 1/242.
(6) انظر: المغني 1/260، المبدع 1/166.
(7) من آية: (43) من سورة النساء، و آية: (6) من سورة المائدة.
(8) انظر: الحاوي 1/188.
(9) انظر: الإشراف 1/23، المجموع 2/27.
(10) انظر: الإشراف 1/23، الحاوي 1/188.
(11) انظر: ص: (255) فما بعدها.(1/17)
والراجح في المسألة:
هو عدم انتقاض الوضوء بلمس هذه الأشياء فقد سبق في مسألة لمس المرأة عدم انتقاض الوضوء ما لم ينزل منه شيء فعدم النقض بلمس هذه الأشياء من باب أولى.
المطلب الثالث
حكم وضوء الملموس
تبين فيما سبق حكم وضوء اللامس وفي هذا المطلب أبين حكم وضوء الملموس ولا شك أن أثر اللمس على الملموس بالنسبة لنقض الطهارة أقل منه على اللامس.
وقد اختلف العلماء في انتقاض وضوء الملموس باللمس على قولين:
القول الأول: أن وضوء الملموس لا ينتقض سواء كان رجلاً أو امرأة، وهو قول الحنفية والشافعية في وجه، والحنابلة في المذهب (1) .
القول الثاني: أن وضوء الملموس ينتقض وهو قول المالكية والشافعية في الأصح، والحنابلة في رواية (2) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3) .
وجه الدلالة: أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء فيتناول اللامس من الرجال فيختص به النقض كلمس الفرج (4) .
2- أن عائشة رضي الله عنها لمست قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي (5) ، فما أنكر ذلك (6) .
3- ولأن اللمس الموجب للوضوء يختص باللامس دون الملموس (7) .
4- ولأن الشهوة من اللامس أشد منها في الملموس وأدعى إلى الخروج، فلا يصح القياس عليه، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل (8) .
5- ولأن الملموس لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص (9)
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1/30، الحاوي 1/189، المجموع 2/26، المغني 1/26، المبدع 1/165، الإنصاف 1/213.
(2) انظر: الإشراف 1/23، الاستذكار 1/326، الأم 1/13، الحاوي 1/189، المجموع 2/26، المغني 1/261، المبدع 1/166.
(3) من آية: (43) من سورة النساء، و آية: (6) من سورة المائدة.
(4) انظر: المغني 1/261.
(5) تقدم تخريجه في ص: (257-258).
(6) انظر: الحاوي 1/189، المبدع 1/166.
(7) انظر: الحاوي 1/189.
(8) انظر: المغني 1/261.
(9) انظر: المغني 1/261.(1/18)
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة: من الآية: أن الله أوجب الوضوء على اللامس والملموس لاشتقاقه من المفاعلة (2) .
2- أنه لمس بين رجل وامرأة ينقض طهر اللامس فنقض طهر الملموس كالجماع (3) .
3- ولأنهما قد اشتركا في الالتذاذ به فوجب أن يشتركا في انتقاض الوضوء به كالتقاء الختانين (4) .
4- ولأن الملموس مظنة لنزول الحدث وهو المذي كاللامس (5) .
الراجح:
هو عدم انتقاض وضوء الملموس ما لم ينزل منه شيء كما سبق في مسألة لمس المرأة وعدم انتقاض الوضوء في الملموس من باب أولى.
الفصل الثالث
في لمس الميت والمصحف
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس الميت.
المبحث الثاني: في لمس المصحف.
المبحث الأول
في لمس الميت
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس الميت أثناء تغسيله.
المطلب الثاني: في لمس الميت أثناء حمله أو غيره.
المطلب الأول
في لمس الميت أثناء تغسيله
من المسائل المتعلقة باللمس لمس الميت أثناء الغسل يجب به الغسل أو لا؟.
اختلف العلماء في لمس الميت أثناء تغسيله على قولين:
القول الأول: أن الغسل لمن غسل الميت سنة وليس بواجب، وبه قال أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، والحسن، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر وهو قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وأحمد (6)
__________
(1) من آية (43) من سورة النساء، و آية (6) من سورة المائدة.
(2) انظر: المنتقى 1/92، الحاوي 1/189.
(3) انظر: المهذب 1/24، المبدع 1/166.
(4) انظر: الإشراف 1/23، المغني 1/189.
(5) انظر الإشراف 1/23.
(6) انظر: المبسوط 1/82، شرح فتح القدير 1/58، المعونة 1/343، بداية المجتهد 1/229، بلغة السالك 1/195، المهذب 1/129، المجموع 51/185، المغني 1/278 الإنصاف 1/248، شرح الزركشي 1/291.(1/19)
القول الثاني: أن الغسل لمن غسل الميت واجب وهو مروي عن علي، وأبي هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهري وهو قول الشافعي في القديم، وأحمد في رواية، وابن حزم (1) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- حديث صفوان بن عسال قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (2) .
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنزع الخفاف من الجنابة لوجوب الغسل الذي لا يتحقق إلا بالنزع ولم يأمر بنزع الخفاف من غسل الميت فدل على عدم وجوب الغسل من غسله.
2- حديث عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رضي الله عنهما غسلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: "إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل عليَّ من غسل؟ قالوا: لا" (3) .
قال الإمام الشوكاني في كلامه على هذا الحديث: "وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضاً من القرائن الصارفة من الوجوب، فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية (4) .
__________
(1) انظر: المهذب 1/129، المجموع 51/185، المغني 1/278، المبدع 1/191، المحلى 2/23.
(2) أخرجه الترمذي واللفظ له 1/159،160، في أبواب الطهارة باب: المسح على الخفين للمسافر والمقيم وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي 1/83و84، في كتاب الطهارة باب: التوقيت في المسح على الخفين، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي 1/29.
(3) أخرجه مالك في الموطأ 1/223 في كتاب الطهارة باب: غسل الميت.
(4) انظر: نيل الأوطار 1/258.(1/20)
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (1) .
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل" (2) .
5- أن الميت آدمي فلم يجب الغسل من غسله كغسل الحي (3) .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (4) .
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال من غسل الميت والأصل في الأمر الوجوب.
وقد اعترض على الاستدلال بحديث أبي هريرة بما يأتي:
أ-أنه موقوف على أبي هريرة (5) .
__________
(1) أخرجه البيهقي 3/398 في كتاب الجنائز باب: من لم ير الغسل من غسل الميت، والحاكم في المستدرك 1/386 في كتاب الجنائز وقال: هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرجاه، وحسن الحافظ بن حجر إسناده في التلخيص الحبير 1/138.
(2) أخرجه الدارقطني في سننه 2/72 في كتاب الجنائز باب: التسليم في الجنازة، وصحح الحافظ بن حجر إسناده في التلخيص الحبير 1/138.
(3) انظر: المغني 1/211، المحلى 2/23.
(4) أخرجه أبو داود واللفظ له 3/511و512 في كتاب الجنائز باب: في الغسل من غسل الميت وقال: وهذا منسوخ وسمعت أحمد بن حنبل وسئل عن غسل الميت فقال: يجزيه الوضوء، والترمذي 3/318 في كتاب الجنائز باب: في غسل الميت وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً، وقد أنكر النووي في المجموع5/185على الترمذي تحسينه لهذا الحديث فقال:قد ينكر عليه قوله أنه حسن بل هو ضعيف،ونقل ابن قدامه في المغني1/279عن ابن المنذرأنه قال: ليس في هذا الباب حديث يثبت. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/137 حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/609.
(5) انظر: المغني 1/279.(1/21)
ب-على فرض صحته ورفعه يحمل الأمر فيه على الندب (1) .
الراجح:
عدم وجوب الغسل على من غسل ميتاً ويؤيد حمل الأمر في الحديث على الندب ما سبق من الأدلة على عدم الوجوب، ولأنه يستبعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية (2) ، ولأن الحديث فيه شيء من الضعف فلا يكون دليلاً على الوجوب وهذا مبني على قاعدة وهي أن النهي إذا كان في حديث ضعيف لا يكون للتحريم، والأمر لا يكون للوجوب، لأن الإلزام بالمنع أو الفعل يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة لإلزام العباد (3) .
المطلب الثاني
في لمس الميت أثناء الحمل أو غيره
تقدم في المطلب السابق حكم الغسل بالنسبة لمن غسل ميتاً وفي هذا المطلب أبين حكم الوضوء لمن لمس الميت:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن لمس الميت لا ينتقض به الوضوء وهو قول أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية (4) .
القول الثاني: أن لمس الميت ينقض الوضوء وهو قول إسحاق، والنخعي، وأحمد في المذهب (5)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- أن الوضوء ثبت بدليل شرعي والنقض يحتاج إلى دليل شرعي يرتفع به الوضوء ولا دليل على ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من الإجماع فيبقى على الأصل (6) .
2- أن الميت المسلم طاهر، ومس الطاهر ليس بحدث ولو كان نجساً فمس النجس ليس بحدث أيضاً (7) .
__________
(1) انظر: المجموع 5/185.
(2) انظر: نيل الأوطار 1/258.
(3) انظر: الشرح الممتع 1/295.
(4) انظر: الأصل1/62و63، عمدة القاري 8/48،اللباب1/140الاستذكار1/220، المنتقى1/65،قوانين الأحكام الشرعية 27،المجموع2/203، 5/138، 185،مغني المحتاج1/35، المغني 1/256، الكافي 1/58، الإنصاف 1/215و216.
(5) انظر:شرح السنة2/170، المغني1/256، المبدع1/167،الإنصاف1/215و216.
(6) انظر: المغني 1/256، الشرح الممتع 1/246.
(7) انظر: المبسوط 1/82.(1/22)
3- أنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي (1) .
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (2) .
وجه الدلالة من الحديث: أنه قد دل على أن لمس الميت ناقض للوضوء.
2- أن الغالب في الغاسل أن لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت - ومس الفرج من نواقض الوضوء - فكان مظنة ذلك قائماً مقام حقيقته كما أقيم النوم مقام الحدث (3) .
وقد اعترض على هذين الدليلين بما يأتي:
حديث أبي هريرة اعترض عليه بأنه ضعيف (4) ولو ثبت فالمراد من قوله "من غسل ميتاً فليغتسل" أي إذا أصابته الغسالات النجسة. وقوله: "ومن حمله فليتوضأ" إذا كان محدثاً ليتمكن من أداء الصلاة عليه (5) .
واعترض على دليلهم الثاني: بأنه قياس غير صحيح فإنه لا يسلم أن مس الفرج ينقض الوضوء (6) .
والراجح:
أن لمس الميت لا ينقض الوضوء، وهو اختيار كثير من العلماء فقد نقل الإمام النووي عن المزني قوله: وقد اجمعوا على أن من مس حريراً أو ميتة ليس عليه وضوء ولا غسل فالمؤمن أولى (7) ثم قال وهو قوي. وقال ابن قدامة عن هذا القول: وهو الصحيح إن شاء الله، وحمل ما نقل عن الإمام أحمد على الاستحباب دون الإيجاب حيث قال: وما روي عن الإمام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب، فإن كلامه
__________
(1) انظر: المغني 1/256.
(2) سبق تخريجه في ص: (289).
(3) انظر: المغني 1/256.
(4) انظر: المجموع 51/185، المغني 1/279.
(5) انظر: المبسوط 1/82و83.
(6) انظر: الشرح الممتع 1/246و247.
(7) انظر: المجموع 5/185.(1/23)
يقتضي نفي الوجوب، فإنه ترك العمل بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من غسل ميتاً فليغتسل" وعلل ذلك بأن الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة فإذا كان لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة رضي الله عنه مع احتمال أن يكون من قول رسول صلى الله عليه وسلم فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أولى وأحرى (1) .
المبحث الثاني
في لمس المصحف
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس المصحف باليد مباشرة.
المطلب الثاني: في حمل المصحف بدون ملامسته باليد مباشرة.
المطلب الأول
في لمس المصحف باليد مباشرة
من المسائل المتعلقة باللمس لمس المصحف؟
اختلف العلماء في لمس المصحف باليد مباشرة بدون طهارة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز لمس المصحف باليد مباشرة بدون طهارة وهذا قول جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة (2) .
القول الثاني: أنه يجوز لمس المصحف بدون طهارة وهو مروي عن أنس، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وحماد، والحكم وهو قول الظاهرية (3) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) .
__________
(1) انظر المغني 1/256.
(2) انظر: تحفة الفقهاء1/32، بدائع الصنائع1/33، أحكام القرآن للجصاص3/419، التفريع1/212،المعونة1/156،الشرح الصغير1/57،الأوسط 2/101،الوسيط1/419 المجموع2/72، نهاية المحتاج1/109، المغني1/202، المبدع 1/173، مطالب أولى النهى 1/153.
(3) انظر: الأوسط 2/103، المجموع 2/72، المغني 1/202، المحلى 1/77.
(4) آية: (77-79) من سورة الواقعة.(1/24)
وجه الدلالة من الآية: أن الخبر في قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} بمعنى النهي ولا يمكن أن يقال إن المقصود الإخبار فقط لأنه يحدث أن يمسه غير طاهر فقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. دليل على أن المقصود هو القرآن والمطهر هو الذي أتى بالوضوء والغسل من الجنابة بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (1) ولا يحمل على غير ذلك إلاَّ بدليل صحيح صريح. (2) .
2- حديث عبدالله بن عمررضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" (3) .
__________
(1) آية: (6) من سورة المائدة.
(2) انظر: المجموع 2/72، الشرح الممتع 1/261.
(3) أخرجه الدارقطني واللفظ له 1/121 في كتاب الطهارة باب: في نهي المحدث عن مس القرآن، والبيهقي 1/88 في كتاب الطهارة في باب: نهي المحدث عن مس المصحف، والطبراني في المعجم الصغير 2/408 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/276: ((رجاله موثقون)) وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/140: إسناده لا بأس به.(1/25)
3- ماجاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: "ألا يمس القرآن إلا طاهر" (1) .
وجه الدلالة من الحديث: أن الطاهر: هو المتطهر طهارة حسية من الحدث بالوضوء أو الغسل، لأن المؤمن طهارته معنوية كاملة، والمصحف لا يقرأه غالباً إلا المؤمنون، فلما قال: "إلاَّ طاهر" علم أنها طهارة غير الطهارة المعنوية، بل المراد الطهارة من الحدث ويدل لهذا قوله تعالى: {ما مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (2) أي طهارة حسية لأنه قال ذلك في آية الوضوء والغسل (3) .
4- أن تعظيم القرآن واجب وليس من التعظيم مس المصحف بيد حلها الحدث (4) .
5- أنه ليس في الوجود كلام أشرف من كلام الله، فإذا أوجب الله الطهارة للطواف في بيته، فالطهارة لتلاوة كتابه الذي تكلم به من باب أولى (5) .
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 1/199 في كتاب القرآن باب: الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، والدارقطني1/121 في الطهارة باب:في نهي المحدث عن مس القرآن، والبيهقي1/87 في الطهارة باب نهي المحدث عن مس المصحف، والحاكم 1/395 في كتاب الزكاة باب: زكاة الذهب وصححه وقال هو على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/18 بعد أن أطال الكلام على الحديث، وقد صحح الحديث جماعة من الأئمة من حيث الشهرة. وقال الشافعي: ثبت عندهم أنه كتاب رسول صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبدالبر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، وذكر الزيلعي في نصب الراية 1/196 له طرقاً وشواهد.
(2) آية: (6) من سورة المائدة.
(3) انظر: الشرح الممتع 1/262.
(4) انظر: بدائع الصنائع 1/33.
(5) انظر: الشرح الممتع 1/262.(1/26)
1) استدلالهم بالآية {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ... }. (1) اعترض عليه أنه لا حجة فيه لأنه ليس أمراً وإنما هو خبر والله تعالى لا يقول إلاَّ حقاً، ولا يحوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلاَّ بنص جلي أو إجماع متيقن، فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه لم يعن المصحف وإنما عنى كتاباً آخر، والمطهرون هم الملائكة (2) .
1) اعترض على حديث عمرو بن حزم بأنه ضعيف لأنه مرسل والمرسل من أقسام الضعيف (3) .
2) اعترض على استدلالهم بالقياس لا يقر به الظاهرية أصلاً (4)
وقد أجيب على هذه الاعتراضات بما يأتي:
1) اعتراضهم على الاستدلال بالآية: أجيب عنه بأنه قد يأتي الخبر بمعنى النهي، بل إن الخبر المراد به النهي أقوى من النهي المجرد، لأنه يصور الشيء كأنه مفروغ منه، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} (5) .
وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه" (6) بلفظ الخبر والمراد النهي (7) .
__________
(1) آية: (79) سورة الواقعة.
(2) انظر: المحلى 1/98، الشرح الممتع 1/264.
(3) انظر: المحلى 1/97، الشرح الممتع 1/264.
(4) انظر: الشرح الممتع 1/265.
(5) آية: (234) من سورة البقرة.
(6) أخرجه البخاري 3/24 من حديث أبي هريرة في كتاب البيوع باب: لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه.
(7) انظر: الشرح الممتع 1/261.(1/27)
2) اعتراضهم على حديث عمرو بن حزم، أجيب عنه بأن من العلماء من صححه كما تقدم في تخريجه، وقبول الناس له واستنادهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزكاة، والديات وغيرها، وتلقيهم له بالقبول يدل على أن له أصلاً، وكثيراً ما يكون قبول الناس للحديث سواء كان علمياً أو عملياً يكون قائماً مقام السند أو أكثر، والحديث يستدل به من زمن التابعين إلى الوقت الحاضر ثم يقال لا أصل له هذا بعيد جداً (1) .
3) أما اعتراضهم على الاستدلال بالقياس فغير مسلم ؛ لأن القياس دليل من الأدلة الشرعية المعتبرة.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" (2) .
وجه الدلالة من الحديث: أن القرآن ذكر ففي ذلك دلالة على أنه يجوز الذكر دون فرق بين متطهر وغير متطهر (3) .
2. حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى هرقل عظيم الروم كتاباً فيه آية من القرآن الكريم" (4) .
وجه الدلالة من الحديث: أنه يعلم أنهم سيمسونه على غير طهارة فلو كان ذلك غير جائز لما بعثه إليهم، وإذا جاز مس الآية جاز مس ما هو أكثر منها قياساً عليها (5) .
3. حديث أبي هريرة وحذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن لا ينجس" (6) .
__________
(1) انظر: الشرح الممتع 1/265.
(2) أخرجه مسلم 1/282 في كتاب الحيض باب: ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها.
(3) انظر: عمدة القاري 3/274، المجموع 2/158.
(4) أخرجه البخاري 1 / 4-7 في كتاب بدء الوحي باب: كيف كان بدء الوحي، ومسلم 2/1393 في كتاب الجهاد باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
(5) انظر: المحلى 1/83، المجموع 2/72.
(6) أخرجه مسلم 1/282 في كتاب الحيض باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس.(1/28)
4. ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، كما أنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى (1) .
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه.
اعترض عليه: أن المقصود بالذكر فيه غير القرآن، لأنه هو المفهوم من الذكر عند الإطلاق (2) .
2) استدلالهم بحديث ابن عباس في قصة هرقل:اعترض عليه بأن الذي أرسل إليه هو كتاب فيه آية قصد به المراسلة،والآية في الرسالة أو كتاب فقه ونحوه لا يسمى بها الكتاب مصحفاً ولا تثبت له بها حرمة فهو خارج عن محل النزاع (3) .
3) استدلالهم بقوله:"إن المؤمن لا ينجس" اعترض عليه أنه ليس فيه ما يدل على جواز القراءة بدون طهارة، لأن الحديث دل على طهارة المسلم وأنه لا يصير نجساً إذا أجنب أما إباحة الأفعال التي تشترط لها الطهارة فلم يتعرض لها بدليل أنه لم يحتج به أحد على صحة الصلاة بدون طهارة (4) .
4) استدلالهم بحمل الصبيان للألواح: اعترض عليه بأن إباحته كانت للضرورة (5) .
والراجح:
__________
(1) انظر: المجموع 2/72.
(2) انظر: المجموع 2/159.
(3) انظر: المجموع 2/172، المغني 1/203.
(4) انظر: الإشراف 1/12.
(5) انظر: المجموع 2/172، الشرح الممتع 1/266.(1/29)
هو عدم جواز مس المصحف بغير طهارة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلاَّ طاهر" والطاهر يطلق على الطاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (1) ولم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر لأن وصفه بالإيمان أبلغ، فتبين من ذلك أنه لا يجوز أن يمس القرآن من كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر ولأن القرآن كلام الله وهو أشرف الكلام وأعظمه فكان جديراً بمن يريد مسه أن يكون على طهارة (2) ولأن أدلة من أجاز مسه بدون طهارة ليست صريحة في الدلالة على ذلك ولم تسلم من الاعتراض.
المطلب الثاني
في حمل المصحف بدون ملامسته باليد مباشرة
كحمله بعلاقة أو مسه بحائل كثوب ونحوه
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم جواز ذلك إلا بطهارة وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية (3) .
القول الثاني: جواز ذلك وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في المشهور (4) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
1-عموم الأدلة في منع مس المصحف لغير الطاهر (5)
2-أن الحمل أبلغ من المس (6) .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1-أن من حمل المصحف بعلاقة ونحوها غير ماس له، فلم يمنع منه كما لو حمله في رحله (7) .
__________
(1) آية: (6) من سورة المائدة.
(2) انظر: الشرح الممتع 1/265-266.
(3) انظر: الإشراف 1/12، التفريع 1/212، بلغة السالك 1/12، المجموع 2/67، نهاية المحتاج 1/123، المغني 1/203، الإنصاف 1/224، المبدع 1/174.
(4) انظر: بدائع الصنائع 1/33، مجمع الأنهر 1/25، المغني 1/203، الإنصاف 1/224، المبدع 1/174.
(5) سبق ذكرها في المسألة السابقة مسألة لمس المصحف مباشرة في ص: (295-299).
(6) انظر: مغني المحتاج 1/37.
(7) انظر: المغني 1/203.(1/30)
2-أن الأدلة التي ورد فيها المنع إنما تتناول المس والحمل ليس بمس فلا يتناوله المنع (1) .
والراجح:
هو جواز ذلك لوجاهة ما استدل به من قال به ولأن الحاجة قد تستدعي ذلك وقد أفتى بهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث أجاب وقد سئل عن ذلك ؟ فقال: "ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشة وفي خرجه وحمله ولا بأس أن يحمله بكمه ولكن لا يمسه بيديه" (2) ورجح هذا القول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (3) رحمه الله.
الخاتمة
في ختام هذا البحث أحمد الله وأشكره أولاً وآخراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ومنها ما منَّ به عليَّ من إتمام هذا البحث الذي أحب أن أختمه بذكر أهم ما توصلت إليه من نتائج وتتلخص فيما يأتي:
1-أن من لمس فرجه بغير يده من أعضائه لا ينتقض وضوؤه.
2-أن من مس ذكره استحب له الوضوء مطلقاً سواء مسه بشهوة أو بغير شهوة، وإذا مسه بشهوة فالأحوط وجوب الوضوء. وهذا فيمن مس ذكره ومن مس ذكر غيره من باب أولى.
3-أن المرأة إذا مست فرجها استحب لها الوضوء مطلقاً سواء مست بشهوة أو بغير شهوة وإذا مست بشهوة فالقول بالوجوب أحوط.
4-أن لمس الأنثيين والألية والعانة لا ينقض الوضوء.
5-أن لمس فرج البهيمة لا ينقض الوضوء.
6-أنه لا فرق في اللمس بين بطن الكف وظهره وأنه لا ينتقض وضوؤه ما لم ينزل منه شيء.
7-أنه لا فرق في اللمس بين القصد وغير القصد إذ كل معنى نقض الطهر مع القصد نقضه مع غير القصد أصله الحدث.
8-أن اللمس من وراء حائل لا ينقض الوضوء ما لم ينزل منه شيء.
9-أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أو لغير شهوة إلاَّ إذا أمنى أو أمذى.
10-أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء إلاَّ إذا خرج منه شيء.
11-جواز مس الرجل للرجل عدا عورته وكذلك مس المرأة للمرأة عدا عورتها.
__________
(1) انظر: المغني 1/204.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 21/260.
(3) انظر: فتاوى وتنبيهات ونصائح ص: (25).(1/31)
12-أن لمس المحارم والصغيرة لا ينقض الوضوء ما لم ينزل منه شيء.
13-أن لمس ما اتصل بالجسم كالشعر والسن والظفر لا ينقض الوضوء.
14-عدم انتقاض وضوء الملموس ما لم ينزل منه شيء.
15-عدم وجوب الغسل على من غسل ميتاً.
16-أن لمس الميت لا ينقض الوضوء.
17-عدم جواز مس المصحف بدون طهارة.
18-جواز حمل المصحف بدون ملامسته باليد كحمله بعلاقة ونحوه.(1/32)